دلائل الإعجاز ت هنداوي فصل «القول في
التقديم والتأخير»
هو باب كثير الفوائد، جمّ المحاسن، واسع التصرّف، بعيد الغاية،
لا يزال يفترّ لك عن بديعة، ويفضي بك إلى لطيفة، ولا تزال ترى
شعرا يروقك مسمعه، ويلطف
__________
(1) الخالدي: هو أبو عثمان سعيد بن هاشم الخالدي من شعراء
اليتيمة، وكان في حاشية سيف الدولة الأدبية، وقيم دار كتبه مع
أخيه أبي بكر محمد. والبيتان في الإيضاح (ص 10)، والشاهد في
قوله: «وزان دينار المعاني».
(2) البيت في ديوانه (ص 29) من قصيدة قالها في مدح مالك بن طوق
التغلبي وقبله:
يا مالك استودعتني لك منة ... تبقى ذخائرها على الأحقاب
يا خاطبا مدحي إليه بجوده ... ولقد خطبت قليلة الخطاب
والبيت في المصباح (211). قوله في الدجى: تتميم، ويسميه البعض
حشوا، وهم يعيبونه، ولكن من الدارسين من يرى غير ذلك.
(3) البيت في ديوانه، وهو البيت قبل الأخير من قصيدة قالها في
مدح سيف الدولة يمدحه ويهنئه بعيد الأضحى سنة اثنتين وأربعين
وثلاث مائة أنشده إياها في ميدانه بحلب وهما على فرسيهما،
وقبله:
تركت السّرى خلفي لمن قلّ ماله ... وأنعلت أفراسي بنعماك عسجدا
(1/76)
لديك موقعه، ثم تنظر فتجد سبب أن راقك ولطف
عندك، أن قدّم فيه شيء، وحوّل اللّفظ عن مكان إلى مكان.
واعلم أن تقديم الشيء على وجهين:
تقديم يقال إنه على نيّة التأخير، وذلك في كل شيء أقررته مع
التقديم على حكمه الذي كان عليه، وفي جنسه الذي كان فيه، كخبر
المبتدأ إذا قدمته على المبتدأ، والمفعول إذا قدّمته على
الفاعل كقولك: «منطلق زيد» و «ضرب عمرا زيد»، معلوم أنّ
«منطلق» و «عمرا» لم يخرجا بالتقديم عمّا كانا عليه، من كون
هذا خبر مبتدأ ومرفوعا بذلك، وكون ذلك مفعولا ومنصوبا من أجله
«1»، كما يكون إذا أخّرت.
وتقديم لا على نية التأخير، ولكن على أن تنقل الشيء عن حكم إلى
حكم، وتجعل له بابا غير بابه، وإعرابا غير إعرابه، وذلك أن
تجيء إلى اسمين يحتمل كلّ واحد منهما أن يكون مبتدأ ويكون
الآخر خبرا له، فتقدّم تارة هذا على ذاك، وأخرى ذاك على هذا.
ومثاله ما تصنعه بزيد والمنطلق، حيث تقول مرة: «زيد المنطلق»،
وأخرى، «المنطلق زيد»، فأنت في هذا لم تقدم «المنطلق» على أن
يكون متروكا على حكمه الذي كان عليه مع التأخير، فيكون خبر
مبتدأ كما كان، بل على أن تنقله عن كونه خبرا إلى كونه مبتدأ،
وكذلك لم تؤخر «زيدا» على أن يكون مبتدأ كما كان، بل على أن
تخرجه عن كونه مبتدأ إلى كونه خبرا.
وأظهر من هذا قولنا: «ضربت زيدا» و «زيد ضربته»، لم تقدم
«زيدا» على أن يكون مفعولا منصوبا بالفعل كما كان، ولكن على أن
ترفعه بالابتداء، وتشغل الفعل بضميره، وتجعله في موضع الخبر
له؛ وإذ قد عرفت هذا التقسيم، فإني أتبعه بجملة من الشّرح.
واعلم أنّا لم نجدهم اعتمدوا فيه شيئا يجري مجرى الأصل، غير
العناية والاهتمام. قال صاحب الكتاب «2»، وهو يذكر الفاعل
والمفعول: «كأنهم يقدّمون الذي بيانه أهمّ لهم، وهم ببيانه
أعنى، وإن كانا جميعا يهمّانهم ويعنيانهم»، ولم يذكر في ذلك
مثالا.
وقال النحويون: إن معنى ذلك أن قد يكون من أغراض الناس في فعل
ما أن يقع
__________
(1) أي من أجل الفاعل.
(2) المقصود به (سيبويه) وكتابه «الكتاب».
(1/77)
بإنسان بعينه، ولا يبالون من أوقعه، كمثل
ما يعلم من حالهم في حال الخارجيّ يخرج فيعيث ويفسد، ويكثر به
الأذى، أنّهم يريدون قتله، ولا يبالون من كان القتل منه، ولا
يعنيهم منه شيء. فإذا قتل، وأراد مريد الإخبار بذلك، فإنه
يقدّم ذكر الخارجيّ فيقول: «قتل الخارجيّ زيد»، ولا يقول: «قتل
زيد الخارجيّ»، لأنه يعلم أن ليس للناس في أن يعلموا أن القاتل
له «زيد» جدوى وفائدة، فيعنيهم ذكره ويهمّهم ويتّصل بمسرّتهم،
ويعلم من حالهم أن الذي هم متوقّعون له ومتطلّعون إليه متى
يكون، وقوع القتل بالخارجي المفسد، وأنّهم قد كفوا شرّه
وتخلّصوا منه.
ثم قالوا: فإن كان رجل ليس له بأس ولا يقدّر فيه أنّه يقتل،
فقتل رجلا، وأراد المخبر أن يخبر بذلك، فإنه يقدم ذكر القاتل
فيقول: «قتل زيد رجلا»، ذاك لأن الذي يعنيه ويعني الناس من شأن
هذا القتل، طرافته وموضع النّدرة فيه، وبعده كان من الظنّ.
ومعلوم أنه لم يكن نادرا وبعيدا من حيث كان واقعا بالذي وقع
به، ولكن من حيث كان واقعا من الذي وقع منه.
فهذا جيد بالغ، إلا أنّ الشأن في أنه ينبغي أن يعرف في كل شيء
قدّم في موضع من الكلام مثل هذا المعنى، ويفسّر وجه العناية
فيه هذا التفسير.
وقد وقع في ظنون النّاس أنّه يكفي أن يقال: «إنه قدم للعناية،
ولأن ذكره أهم»، من غير أن يذكر، من أين كانت تلك العناية؟ وبم
كان أهمّ؟، ولتخيّلهم ذلك، قد صغر أمر «التقديم والتأخير» في
نفوسهم، وهوّنوا الخطب فيه، حتى إنك لترى أكثرهم يرى تتبّعه
والنظر فيه ضربا من التكلّف. ولم تر ظنّا أزرى على صاحبه من
هذا وشبهه.
وكذلك صنعوا في سائر الأبواب، فجعلوا لا ينظرون في «الحذف
والتكرار»، و «الإظهار والإضمار»، «الفصل والوصل»، ولا في نوع
من أنواع الفروق والوجوه إلا نظرك فيما غيره أهمّ لك، بل فيما
إن لم تعلمه لم يضرك.
لا جرم أنّ ذلك قد ذهب بهم عن معرفة البلاغة، ومنعهم أن يعرفوا
مقاديرها، وصدّ بأوجههم عن الجهة التي هي فيها، والشّقّ الذي
يحويها. والمداخل التي تدخل منها الآفة على الناس في شأن
العلم، ويبلغ الشيطان مراده منهم في الصّد عن طلبه وإحراز
فضيلته- كثيرة، وهذه من أعجبها، إن وجدت متعجّبا.
وليت شعري، إن كانت هذه أمورا هيّنة، وكان المدى فيها قريبا،
والجدا «1»
__________
(1) الجدا: القطيعة. اه القاموس مادة/ جدا/ (1638).
(1/78)
يسيرا، من أين كان نظم أشرف من نظم؟ وبم
عظم التفاوت، واشتد التباين، وترقّى الأمر إلى الإعجاز، وإلى
أن يقهر أعناق الجبابرة؟ أو هاهنا أمور أخر نحيل في المزيّة
عليها، ونجعل الإعجاز كان بها، فتكون تلك الحوالة لنا عذرا في
ترك النظر في هذه التي معنا، والإعراض عنها، وقلة المبالاة
بها؟ أو ليس هذا التهاون، إن نظر العاقل، خيانة منه لعقله
ودينه، ودخولا فيما يزرى بذي الخطر، ويغضّ من قدر ذوي القدر؟
وهل يكون أضعف رأيا، وأبعد من حسن التدبّر، منك إذ همّك أن
تعرف الوجوه في:
«أأنذرتهم»، والإمالة في «رأى القمر» وتعرف «الصّراط» و
«الزّراط»، وأشباه ذلك مما لا يعدو علمك فيه اللفظ وجرس الصوت،
ولا يمنعك إن لم تعلمه بلاغة، ولا يدفعك عن بيان، ولا يدخل
عليك شكّا، ولا يغلق دونك باب معرفة، ولا يفضي بك إلى تحريف
وتبديل، وإلى الخطأ في تأويل، وإلى ما يعظم فيه المعاب عليك،
ويطيل لسان القادح فيك، ولا يعنيك «1» ولا يهمّك أن تعرف ما
إذا جهلته عرّضت نفسك لكل ذلك، وحصلت فيما هنالك، وكان أكثر
كلامك في التفسير، وحيث تخوض في التأويل، كلام من لا يبني
الشيء على أصله، ولا يأخذه من مأخذه، ومن ربّما وقع في الفاحش
من الخطأ الذي يبقى عاره، وتشنع آثاره. ونسأل الله العصمة من
الزّلل، والتوفيق لما هو أقرب إلى رضاه من القول والعمل.
واعلم أنّ من الخطأ أن يقسّم الأمر في تقديم الشيء وتأخيره
قسمين: فيجعل مفيدا في بعض الكلام، وغير مفيد في بعض، وأن
يعلّل تارة بالعناية، وأخرى بأنه توسعة على الشاعر والكاتب،
حتى تطّرد لهذا قوافيه ولذاك سجعه. ذاك لأنّ من البعيد أن يكون
في جملة النظم ما يدل تارة ولا يدل أخرى. فمتى ثبت في تقديم
المفعول مثلا على الفعل في كثير من الكلام، أنه قد اختصّ
بفائدة لا تكون تلك الفائدة مع التأخير، فقد وجب أن تكون تلك
قضية في كل شيء وكلّ حال. ومن سبيل من يجعل التقديم وترك
التقديم سواء، أن يدّعي أنه كذلك في عموم الأحوال، فأمّا أن
يجعله شريجين، فيزعم أنه للفائدة في بعضها، وللتصرف في اللفظ
من غير معنى في بعض، فمما ينبغي أن يرغب عن القول به.
وهذه مسائل لا يستطيع أحد أن يمتنع من التّفرقة بين تقديم ما
قدّم فيها وترك تقديمه.
ومن أبين شيء في ذلك «الاستفهام بالهمزة»، فإن موضع الكلام على
أنك إذا
__________
(1) قوله (ولا يعنيك) معطوف على قوله: (إذا همك).
(1/79)
قلت: «أفعلت؟»، فبدأت بالفعل، كان الشكّ في
الفعل نفسه، وكان غرضك من استفهامك أن تعلم وجوده.
وإذا قلت: «أأنت فعلت؟»، فبدأت بالاسم، كان الشكّ في الفاعل من
هو، وكان التردّد فيه. ومثال ذلك أنك تقول: «أبنيت الدار التي
كنت على أن تبنيها؟»، «أقلت الشعر الذي كان في نفسك أن
تقوله؟»، و «أفرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه؟»، تبدأ في هذه
ونحوه بالفعل، لأن السؤال عن الفعل نفسه والشكّ فيه، لأنك في
جميع ذلك متردّد في وجود الفعل وانتفائه، مجوّز أن يكون قد
كان، وأن يكون لم يكن.
وتقول: «أأنت بنيت هذه الدار؟»، «أأنت قلت هذا الشعر؟»، «أأنت
كتبت هذا الكتاب؟»، فتبدأ في ذلك كله بالاسم، ذاك لأنّك لم
تشكّ في الفعل أنه كان.
كيف؟ وقد أشرت إلى الدار مبنية، والشعر مقولا، والكتاب مكتوبا،
وإنما شككت في الفاعل من هو؟.
فهذا من الفرق لا يدفعه دافع، ولا يشكّ فيه شاك، ولا يخفى فساد
أحدهما في موضع الآخر.
فلو قلت: «أأنت بنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟»، «أأنت
قلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله؟»، «أأنت فرغت من الكتاب
الذي كنت تكتبه؟»، خرجت من كلام الناس. وكذلك لو قلت: «أبنيت
هذه الدار؟»، «أقلت هذا الشعر؟»، «أكتبت هذا الكتاب؟»، قلت ما
ليس بقول. ذاك لفساد أن تقول في الشيء المشاهد الذي هو نصب
عينيك أموجود أم لا؟
وممّا يعلم به ضرورة أنه لا تكون البداية بالفعل كالبداية
بالاسم أنّك تقول:
«أقلت شعرا قطّ؟»، «أرأيت اليوم إنسانا؟»، فيكون كلاما
مستقيما. ولو قلت:
«أأنت قلت شعرا قط؟»، «أأنت رأيت إنسانا»، أحلت، وذاك أنه لا
معنى للسؤال عن الفاعل من هو في مثل هذا، لأن ذلك إنما يتصوّر
إذا كانت الإشارة إلى فعل مخصوص نحو أن تقول: «من قال هذا
الشعر؟»، و «من بنى هذه الدار؟» و «من أتاك اليوم؟»، و «من أذن
لك في الذي فعلت؟»، وما أشبه ذلك ممّا يمكن أن ينصّ فيه على
معيّن. فأمّا قيل شعر على الجملة، ورؤية إنسان على الإطلاق،
فمحال ذلك فيه، لأنه ليس مما يختص بهذا دون ذاك حتى يسأل عن
عين فاعله.
ولو كان تقديم الاسم لا يوجب ما ذكرنا، من أن يكون السؤال عن
الفاعل من
(1/80)
هو؟ وكان يصح أن يكون سؤالا عن الفعل أكان
أم لم يكن؟ لكان ينبغي أن يستقيم ذلك.
واعلم أن هذا الذي ذكرت لك في «الهمزة وهي للاستفهام» قائم
فيها إذا هي كانت للتقرير. فإذا قلت: «أأنت فعلت ذاك؟»، كان
غرضك أن تقرره بأنه الفاعل.
يبيّن ذلك قوله تعالى، حكاية عن قول نمرود: أَأَنْتَ فَعَلْتَ
هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ [سورة الأنبياء: 62]، لا شبهة
في أنهم لم يقولوا ذلك له عليه السلام وهم يريدون أن يقرّ لهم
بأنّ كسر الأصنام قد كان، ولكن أن يقرّ بأنه منه كان، وكيف؟
وقد أشاروا له إلى الفعل في قولهم: «أأنت فعلت هذا؟»، وقال هو
عليه السلام في الجواب: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا
[الأنبياء: 63]، ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب: «فعلت،
أو: لم أفعل».
فإن قلت: أو ليس إذ قال «أفعلت؟»، فهو يريد أيضا أن يقرّره
بأنّ الفعل كان منه، لا بأنّه كان على الجملة، فأيّ فرق بين
الحالين؟.
فإنه إذا قال «1»: «أفعلت؟» فهو يقرّره بالفعل من غير أن
يردّده بينه وبين غيره، وكان كلامه كلام من يوهم أنه لا يدري
أن ذلك الفعل كان على الحقيقة وإذا قال:
«أأنت فعلت؟»، كان قد ردّد الفعل بينه وبين غيره، ولم يكن منه
في نفس الفعل تردّد، ولم يكن كلامه كلام من يوهم أنه لا يدري
أكان الفعل أم لم يكن، بدلالة أنك تقول ذلك والفعل ظاهر موجود
مشار إليه، كما رأيت في الآية.
واعلم أن «الهمزة» فيما ذكرنا تقرير بفعل قد كان، وإنكار له لم
كان، وتوبيخ لفاعله عليه.
ولها مذهب آخر، وهو أن يكون الإنكار أن يكون الفعل قد كان من
أصله.
ومثاله قوله تعالى: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ
وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ
قَوْلًا عَظِيماً [الإسراء: 40]، وقوله عز وجل: أَصْطَفَى
الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ
[الصافات: 153 - 154]، فهذا ردّ على المشركين وتكذيب لهم في
قولهم ما يؤدّي إلى هذا الجهل العظيم. وإذا قدّم الاسم في هذا
صار الإنكار في الفاعل. ومثاله قولك للرجل قد انتحل شعرا:
«أأنت قلت هذا الشعر؟ كذبت، لست ممّن يحسن مثله»، أنكرت أن
يكون القائل ولم تنكر الشعر.
__________
(1) قوله (فإنه إذا قال) جواب لقوله: (فإن قلت).
(1/81)
وقد يكون أن يراد إنكار الفعل من أصله، ثم
يخرج اللفظ مخرجه إذا كان الإنكار في الفاعل. مثال ذلك قوله
تعالى: قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ [يونس: 59]، «الإذن» راجع
إلى قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ
رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا [يونس: 59]،
ومعلوم أن المعنى على إنكار أن يكون قد كان من الله تعالى إذن
فيما قالوه، من غير أن يكون هذا الإذن قد كان من غير الله،
فأضافوه إلى الله، إلّا أنّ اللفظ أخرج مخرجه إذا كان الأمر
كذلك، لأن يجعلوا في صورة في غلط فأضاف إلى الله تعالى إذنا
كان من غير الله، فإذا حقّق عليه ارتدع.
ومثال ذلك قولك للرجل يدّعي أن قولا كان ممّن تعلم أنه لا
يقوله: «أهو قال ذاك بالحقيقة أم أنت تغلط؟»، تضع الكلام وضعه
إذا كنت علمت أن ذلك القول قد كان من قائل،
لينصرف الإنكار إلى الفاعل، فيكون أشدّ لنفي ذلك وإبطاله.
ونظير هذا قوله تعالى: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ
الْأُنْثَيَيْنِ، أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ
الْأُنْثَيَيْنِ [الأنعام: 143]، أخرج اللفظ مخرجه إذا كان قد
ثبت تحريم في أحد أشياء، ثم أريد معرفة عين المحرّم، مع أن
المراد إنكار التحريم من أصله، ونفي أن يكون قد حرّم شيء مما
ذكروا أنه محرّم. وذلك أنّ الكلام وضع على أن يجعل التحريم
كأنّه قد كان، ثم يقال لهم: «أخبرونا عن هذا التحريم الذي
زعمتم، فيم هو؟ أفي هذا أم ذاك أم في الثالث؟»، ليتبيّن بطلان
قولهم، ويظهر مكان الفرية منهم على الله تعالى.
ومثل ذلك قولك للرجل يدّعي أمرا وأنت تنكره: «متى كان هذا؟ أفي
ليل أم نهار؟»، تضع الكلام وضع من سلّم أن ذلك قد كان، ثم
تطالبه ببيان وقته، لكي يتبيّن كذبه إذا لم يقدر أن يذكر له
وقتا ويفتضح. ومثله قولك: «من أمرك بهذا منّا؟
وأيّنا أذن لك فيه؟»، وأنت لا تعني أن أمرا قد كان بذلك من
واحد منكم، إلا أنّك تضع الكلام هذا الوضع لكي تضيّق عليه،
وليظهر كذبه حين لا يستطيع أن يقول:
«فلان»، وأن يحيل على واحد.
وإذ قد بيّنّا الفرق بين تقديم الفعل وتقديم الاسم، والفعل
ماض، فينبغي أن ننظر فيه والفعل مضارع.
والقول في ذلك أنك إذا قلت: «أتفعل؟» و «أأنت تفعل؟» لم يخل من
أن تريد الحال أو الاستقبال. فإن أردت الحال كان المعنى شبيها
بما مضى في الماضي، فإذا قلت: «أتفعل؟» كان المعنى على أنك
أردت أن تقرّره بفعل هو يفعله، وكنت
(1/82)
كمن يوهم أنّه لا يعلم بالحقيقة أن الفعل
كائن، وإذا قلت: «أأنت تفعل؟»، كان المعنى على أنك تريد أن
تقرّره بأنه الفاعل، وكان أمر الفعل في وجوده ظاهرا، وبحيث لا
يحتاج إلى الإقرار بأنه كائن، وإن أردت ب «تفعل» المستقبل، كان
المعنى إذا بدأت بالفعل على أنك تعمد بالإنكار إلى الفعل نفسه،
وتزعم أنه لا يكون، أو أنه لا ينبغي أن يكون، فمثال الأول: [من
الطويل]
أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال «1»؟
فهذا تكذيب منه لإنسان تهدّده بالقتل، وإنكار أن يقدر على ذلك
ويستطيعه.
ومثله أن يطمع طامع في أمر لا يكون مثله، فتجهّله في طمعه
فتقول: «أيرضى عنك فلان وأنت مقيم على ما يكره؟ أتجد عنده ما
تحبّ وقد فعلت وصنعت؟»، وعلى ذلك قوله تعالى:
أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ [هود: 28].
ومثال الثاني، قولك لرجل يركب الخطر: «أتخرج في هذا الوقت؟
أتذهب في غير الطريق؟ أتغرّر بنفسك؟»، وقولك للرجل يضيع الحقّ:
«أتنسى قديم إحسان فلان؟ أتترك صحبته وتتغير عن حالك معه لأن
تغيّر الزمان؟» كما قال: [من الطويل]
أأترك أن قلّت دراهم خالد ... زيارته؟ إنّي إذا للئيم «2»
وجملة الأمر أنّك تنحو بالإنكار نحو الفعل، فإن بدأت بالاسم
فقلت: «أأنت تفعل؟» أو قلت: «أهو يفعل؟»، كنت وجهت الإنكار إلى
نفس المذكور، وأبيت أن تكون بموضع أن يجيء منه الفعل وممّن
يجيء منه، وأن يكون بتلك المثابة.
تفسير ذلك: أنك إذا قلت: «أأنت تمنعني؟»، «أأنت تأخذ على يدي؟»
__________
(1) البيت لامرئ القيس في ديوانه (125)، وهو من قصيدة قرينة
معلقته في الجودة، وقبله:
يغطّ غطيط البكر شد خناقه ... ليقتلني والمرء ليس بقتال
والبيت في مفتاح العلوم (461) تحقيق د. عبد الحميد هنداوي.
وأورده القزويني في الإيضاح (169، 208)، والطيبي في شرحه على
مشكاة المصابيح (1/ 110) تحقيق د. هنداوي، والمشرفي: السيد
المنسوب إلى مشارف الشام، وهو قرى للعرب تدنو من بلاد الروم.
ومسنونة زرق: مشاقص محدودة بالسن، أو هي نصال الرماح، قال أبو
عبيد البكري، ومسنونة يعني سهاما محددة الأزجة. وزرق: صافية
مجلوة. أغوال: همرجة (التباس واختلاف) من همرجة الجن، وإنما
أراد التهويل قال المبرد: لم يخبر صادق أنه رأى الغول.
(2) البيت في الإيضاح (141)، والأغاني لعمارة بن عقيل بن بلال
بن جرير (24/ 212)، وبعده:
فليت بثوبيه لنا كان خالد ... وكان لبكر بالثراء تميم
فيصبح فينا سابق متمهل ... ويصبح في بكر أغم بهيم
(1/83)
صرت كأنك قلت: إن غيرك الذي يستطيع منعي
والأخذ على يدي، ولست بذاك، ولقد وضعت نفسك في غير موضعك، هذا،
إذا جعلته لا يكون منه الفعل للعجز، ولأنّه ليس في وسعه.
وقد يكون أن تجعله لا يجيء منه، لأنه لا يختاره ولا يرتضيه،
وأنّ نفسه نفس تأبى مثله وتكرهه. ومثاله أن تقول: «أهو يسأل
فلانا؟ هو أرفع همة من ذلك»، «أهو يمنع الناس حقوقهم؟ هو أكرم
من ذاك».
وقد يكون أن تجعله لا يفعله لصغر قدره وقصر همته، وأن نفسه نفس
لا تسمو. وذلك قولك: «أهو يسمح بمثل هذا؟ أهو يرتاح للجميل؟ هو
أقصر همّة من ذلك، وأقل رغبة في الخير مما تظنّ».
وجملة الأمر أن تقديم الاسم يقتضي أنك عمدت بالإنكار إلى ذات
من قيل «إنه يفعل» أو قال هو «إني أفعل»، وأردت ما تريده إذا
قلت: «ليس هو بالذي يفعل، وليس مثله يفعل»، ولا يكون هذا
المعنى إذا بدأت بالفعل فقلت: «أتفعل؟». ألا ترى أن من المحال
أن تزعم أن المعنى في قول الرجل لصاحبه: «أتخرج في هذا الوقت؟
أتغرّر بنفسك؟ أتمضي في غير الطريق؟»، أنه أنكر أن يكون بمثابة
من يفعل ذلك، وبموضع من يجيء منه ذاك، لأن العلم محيط بأن
الناس لا يريدونه، وأنه لا يليق بالحال التي يستعمل فيها هذا
الكلام. وكذلك محال أن يكون المعنى في قوله جل وعلا:
أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ [هود: 28]، أنّا
لسنا بمثابة من يجيء منه هذا الإلزام، وأن غيرنا من يفعله، جلّ
الله تعالى.
وقد يتوهّم المتوهّم في الشيء من ذلك أنّه يحتمل، فإذا نظر لم
يحتمل، فمن ذلك قوله:
أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي وقد يظنّ الظانّ أنه يجوز أن يكون في
معنى أنّه ليس بالذي يجيء منه أن يقتل مثلي، ويتعلّق بأنه قال
قبل: [من الطويل]
يغطّ غطيط البكر شدّ خناقه ... ليقتلني والمرء ليس بقتّال
ولكنه إذا نظر علم أنّه لا يجوز، وذاك لأنه قال: «والمشرفيّ
مضاجعي» فذكر ما يكون منعا من الفعل، ومحال أن يقول: «هو ممن
لا يجيء منه الفعل»، ثم يقول:
«إنّي أمنعه»، لأن المنع يتصوّر فيمن يجيء منه الفعل، ومع من
يصحّ منه، لا من هو منه محال، ومن هو نفسه عنه عاجز، فاعرفه.
(1/84)
واعلم أنا وإن كنا نفسّر «الاستفهام» في
مثل هذا بالإنكار، فإن الذي هو محض المعنى: أنه ليتنبه السامع
حتى يرجع إلى نفسه فيخجل ويرتدع ويعيا بالجواب، إمّا لأنه قد
ادعى القدرة على فعل لا يقدر عليه، فإذا ثبت على دعواه قيل له:
«فافعل»، فيفضحه ذلك، وإمّا لأنه همّ بأن يفعل ما لا يستصوب
فعله، فإذا روجع فيه تنبّه وعرف الخطأ، وإمّا لأنه جوّز وجود
أمر لا يوجد مثله، فإذا ثبت على تجويزه قبّح على نفسه، وقيل
له: «فأرناه في موضع وفي حال، وأقيم شاهدا على أنه كان في
وقت».
ولو كان يكون للإنكار، وكان المعنى فيه من بدء الأمر، لكان
ينبغي أن لا يجيء فيما لا يقول عاقل إنه يكون، حتى ينكر عليه،
كقولهم: «أتصعد إلى السماء؟»، «أتستطيع أن تنقل الجبال؟»،
«أإلى ردّ ما مضى سبيل؟».
وإذ قد عرفت ذلك، فإنه لا يقرّر بالمحال، وبما لا يقول أحد إنه
يكون، إلا على سبيل التمثيل، وعلى أن يقال له: «إنك في دعواك
ما ادّعيت بمنزلة من يدّعي هذا المحال، وإنك في طمعك في الذي
طمعت فيه بمنزلة من يطمع في الممتنع».
وإذ قد عرفت هذا، فممّا هو من هذا الضرب قوله تعالى:
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ [الزخرف:
40]، ليس إسماع الصّم مما يدّعيه أحد فيكون ذلك للإنكار،
وإنّما المعنى فيه التمثيل والتشبيه، وأن ينزّل الذي يظنّ بهم
أنهم يسمعون، أو أنه يستطيع إسماعهم، منزلة من يرى أنه يسمع
الصم ويهدى العمي ثم المعنى في تقديم الاسم وأن لم يقل: «أتسمع
الصمّ»، هو أن يقال للنبي صلى الله عليه وسلّم:
«أأنت خصوصا قد أوتيت أن تسمع الصمّ؟»، وأن يجعل في ظنّه أنه
يستطيع إسماعهم، بمثابة من يظنّ أنه قد أوتي قدرة على إسماع
الصّمّ.
ومن لطيف ذلك قول ابن أبي عيينة: [من الكامل]
فدع الوعيد فما وعيدك ضائري، ... أطنين أجنحة الذّباب يضير
«1»؟
جعله كأنه قد ظنّ أنّ طنين أجنحة الذباب بمثابة ما يضير، حتى
ظنّ أن وعيده يضير.
__________
(1) البيت في الكامل (2/ 60) للمبرد تحقيق د. عبد الحميد
هنداوي، وعبد الله بن محمد بن أبي عيينة قال لعلي بن محمد بن
جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب- رضي الله
عنه- وكان دعاه إلى نصرة أبيه محمد بن جعفر حين ظهرت المبيضة
فلم يجبه، فتوعده علي، فقال عبد الله:
أعليّ إنك جاهل مغرور ... لا ظلمة لك لا ولا لك نور
أكتبت توعدني أن استبطأتني ... إني بحربك ما حييت حديد
(1/85)
واعلم أن حال المفعول فيما ذكرنا كحال
الفاعل، أعني أنّ تقديم اسم المفعول يقتضي أن يكون الإنكار في
طريق الإحالة والمنع من أن يكون، بمثابة أن يوقع به مثل ذلك
الفعل، فإذا قلت: «أزيدا تضرب؟»، كنت قد أنكرت أن يكون «زيد»
بمثابة أن يضرب، أو بموضع أن يجترأ عليه ويستجاز ذلك فيه، ومن
أجل ذلك قدّم «غير» في قوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ
أَتَّخِذُ وَلِيًّا [الأنعام: 14]، وقوله عز وجل: قُلْ
أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ
السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ [الأنعام: 40]، وكان له
من الحسن والمزيّة والفخامة، ما تعلم أنه لا يكون لو أخّر
فقيل: «قل أأتّخذ غير الله وليّا» و «أتدعون غير الله؟» وذلك
لأنّه قد حصل بالتقديم معنى قولك: «أيكون غير الله بمثابة أن
يتّخذ وليّا؟ وأ يرضى عاقل من نفسه أن يفعل ذلك؟ وأ يكون جهل
أجهل وعمى أعمى من ذلك؟»، ولا يكون شيء من ذلك إذا قيل: «أأتخذ
غير الله وليا»، وذلك لأنه حينئذ يتناول الفعل أن يكون فقط،
ولا يزيد على ذلك، فاعرفه.
وكذلك الحكم في قوله تعالى: فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً
نَتَّبِعُهُ [القمر:
24]، وذلك لأنهم بنوا كفرهم على أنّ من كان مثلهم بشرا، لم يكن
بمثابة أن يتّبع ويطاع، وينتهى إلى ما يأمر، ويصدّق أنه مبعوث
من الله تعالى، وأنهم مأمورون بطاعته، كما جاء في الأخرى: إِنْ
أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا
[إبراهيم: 10]، وكقوله عز وجل: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ
اللَّهُ لَأَنْزَلَ
مَلائِكَةً
[المؤمنون: 24].
فهذا هو القول في الضرب الأول، وهو أن يكون «يفعل» بعد الهمزة
لفعل لم يكن.
وأما الضرب الثاني، وهو أن يكون «يفعل» لفعل موجود، فإن تقديم
الاسم يقتضي شبيها بما اقتضاه في «الماضي»، من الأخذ بأن يقرّ
أنه الفاعل، أو الإنكار أن يكون الفاعل.
فمثال الأول قولك للرجل يبغي ويظلم: «أأنت تجيء إلى الضعيف
فتغصب ماله؟»، «أأنت تزعم أن الأمر كيت وكيت؟» وعلى ذلك قوله
تعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا
مُؤْمِنِينَ [يونس: 99].
ومثال الثاني: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف:
32].
(1/86)
|