دلائل الإعجاز ت هنداوي [فصل: الاستفهام له
التقديم والصدارة وتقديم ما يقارنه من اسم وفعل]
- واعلم أنّ الذي بان لك في «الاستفهام» و «النفي» من المعنى
في التقديم، قائم مثله في «الخبر المثبت».
فإذا عمدت إلى الذي أردت أن تحدّث عنه بفعل فقدّمت ذكره، ثم
بنيت الفعل عليه فقلت: «زيد قد فعل» و «أنا فعلت»، و «أنت
فعلت»،: اقتضى ذلك أن يكون القصد إلى الفاعل، إلا أنّ المعنى
في هذا القصد ينقسم قسمين:
أحدهما: جليّ لا يشكل: وهو أن يكون الفعل فعلا قد أردت أن تنصّ
فيه على واحد فتجعله له، وتزعم أنه فاعله دون واحد آخر، أو دون
كل أحد. ومثال ذلك أن تقول: «أنا كتبت في معنى فلان «1»، وأنا
شفعت في بابه»، تريد أن تدّعي الانفراد بذلك والاستبداد به،
وتزيل الاشتباه فيه، وتردّ على من زعم أن ذلك كان من غيرك، أو
أن غيرك قد كتب فيه كما كتبت. ومن البيّن في ذلك قولهم في
المثل: «أتعلّمني بضبّ أنا حرشته» «2».
__________
(1) باب فلان: الباب والبابة: الغاية. القاموس/ بوب/ (77).
(2) ذكره الميداني في مجمع الأمثال (1/ 173). بلفظ «تعلمني بضب
أنا حرشته». وحرش الضب:
(صيده) يضرب لمن يخبرك بشيء أنت به منه أعلم. ورد أيضا في
اللسان/ حرش/ (6/ 280).
(1/89)
والقسم الثاني: أن لا يكون القصد إلى
الفاعل على هذا المعنى، ولكن على أنك أردت أن تحقّق على السامع
أنه قد فعل، وتمنعه من الشك، فأنت لذلك تبدأ بذكره، وتوقعه
أوّلا- ومن قبل أن تذكر الفعل «1» - في نفسه، لكي تباعده بذلك
عن الشّبهة، وتمنعه من الإنكار، أو من أن يظنّ بك الغلط أو
التزيّد. ومثاله قولك:
«هو يعطي الجزيل»، و «هو يحبّ الثناء»، لا تريد أن تزعم أنه
ليس هنا من يعطي الجزيل ويحبّ الثناء غيره، ولا أن تعرّض
بإنسان وتحطّه عنه، وتجعله لا يعطي كما يعطى، ولا يرغب كما
يرغب، ولكنك تريد أن تحقّق على السامع أن إعطاء الجزيل وحبّ
الثناء دأبه، وأن تمكّن ذلك في نفسه.
ومثاله في الشعر: [من الطويل]
هم يفرشون اللّبد كلّ طمرّة ... وأجرد سبّاح يبذّ المغالبا «2»
لم يرد أن يدّعي لهم هذه الصفة دعوى من يفردهم بها، وينصّ
عليهم فيها، حتى كأنه يعرّض بقوم آخرين، فينفي أن يكونوا
أصحابها. هذا محال. وإنما أراد أن يصفهم بأنّهم فرسان يمتهدون
صهوات الخيل، وأنّهم يقتعدون الجياد منها، وأن ذلك دأبهم، من
غير أن يعرّض لنفيه عن غيرهم، إلّا أنه بدأ بذكرهم لينبه
السامع لهم، ويعلم بديّا «3» قصده إليهم بما في نفسه من الصفة،
ليمنعه بذلك من الشكّ، ومن توهّم أن يكون قد وصفهم بصفة ليست
هي لهم، أو أن يكون قد أراد غيرهم فغلط إليه.
وعلى ذلك قول الآخر: [من الطويل]
هم يضربون الكبش يبرق بيضه، ... على وجهه من الدّماء سبائب «4»
__________
(1) قوله: (ومن قبل أن تذكر الفعل) جملة اعتراضية وسياق الكلام
وتوقعه أولا .... في نفسه.
(2) البيت للمعذل بن عبد الله الليثي الشاعر الإسلامي. الحماسة
بشرح المرزوقي (4/ 1763).
اللبد: الصوف. القاموس مادة/ لبد/ (404). الطمرة: الطمر بتشديد
الراء الفرس الجواد المستفز للعدو، اللسان مادة/ طمر/ (4/
503). الأجرد: فرس أجرد أي قصير الشعر، القاموس/ جرد/ (347).
السوابح: هي الخيل لسبحها بيديها في سيرها. القاموس/ سبح/
(284).
البذّ: أي الغلبة. القاموس/ بذّ/ (422).
(3) بديا: بداوة الشيء أول ما يبدأ منه. القاموس/ بدا/ (1629).
(4) البيت للأخنس بن شهاب بن شريق بن ثمامة بن تغلب بن وائل،
وهو في المفضليات رقم (41 ص 207)، والإيضاح (64). الكبش: رئيس
القوم وحاميهم. البيض: جمع بيضة، وهي قلنسوة الحديد. السبائب:
الطرائق الواحدة سبيبة وإنما خصّ الوجه لأنه أشجع للمضروب،
إنما يضرب في رأسه مقبلا، فالدم في وجهه.
(1/90)
لم يرد أن يدّعي لهم الانفراد، ويجعل هذا
الضرب لا يكون إلا منهم، ولكن أراد الذي ذكرت لك، من تنبيه
السامع لقصدهم بالحديث من قبل ذكر الحديث، ليحقق الأمر
ويؤكّده.
ومن البين فيه قول عروة بن أذينة: [من الهزج]
سليمى أزمعت بينا ... فأين تقولها أينا «1»
وذلك أنه ظاهر معلوم أنه لم يرد أن يجعل هذا الإزماع لها خاصة،
ويجعلها من جماعة لم يزمع البين منهم أحد سواها. هذا محال،
ولكنه أراد أن يحقق الأمر ويؤكده، فأوقع ذكرها في سمع الذي
كلّم ابتداء ومن أوّل الأمر. ليعلم قبل هذا الحديث أنه أرادها
بالحديث، فيكون ذلك أبعد له من الشك.
ومثله في الوضوح قوله: [من الطويل]
هما يلبسان المجد أحسن لبسة ... شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما
«2»
لا شبهة في أنه لم يرد أن يقصر هذه الصّفة عليهما، ولكن نبّه
لهما قبل الحديث عنهما.
وأبين من الجميع قوله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الفرقان:
3]، وقوله عز وجل: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ
دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ [المائدة:
61].
وهذا الذي قد ذكرت من أن تقديم ذكر المحدّث عنه يفيد التنبيه
له، قد ذكره صاحب الكتاب في المفعول إذا قدّم فرفع بالابتداء،
وبني الفعل الناصب كان له عليه «3»، وعدّي إلى ضميره فشغل به.
كقولنا في «ضربت عبد الله»: «عبد الله ضربته»، فقال: و «إنما»
قلت: «عبد الله»، فنبّهته له، ثم بنيت عليه الفعل، ورفعته
بالابتداء.
فإن قلت: فمن أين وجب أن يكون تقديم ذكر المحدّث عنه بالفعل،
آكد لإثبات ذلك الفعل له، وأن يكون قوله: «هما يلبسان المجد»،
أبلغ في جعلهما يلبسانه من أن يقال: «يلبسان المجد»؟
__________
(1) البيت في ديوانه (397 - 400). وتقولها: بمعنى تظنها.
(2) الشعر لعمرة الخثعمية، ترثي ابنها، وقال أبو رياش: هو
لدرماء بنت سيار بن عبعبة الخثعمية.
شرح الحماسة للتبريزي (3/ 60 - 64).
(3) أي: ومبنى الفعل الذي كان له ناصبا عليه.
(1/91)
فإنّ ذلك «1» من أجل أنه لا يؤتى بالاسم
معرّى من العوامل إلّا لحديث قد نوي إسناده إليه. وإذا كان
كذلك، فإذا قلت: «عبد الله»، فقد أشعرت قلبه بذلك أنك قد أردت
الحديث عنه، فإذا جئت بالحديث فقلت مثلا: «قام» أو قلت: «خرج»،
أو قلت: «قدم» فقد علم ما جئت به وقد وطّأت له وقدّمت الإعلام
فيه، فدخل على القلب دخول المأنوس به، وقبله قبول المهيّئ له
المطمئنّ إليه، وذلك لا محالة أشدّ لثبوته، وأنفى للشبهة،
وأمنع للشك، وأدخل في التحقيق.
وجملة الأمر أنّه ليس إعلامك الشيء بغتة غفلا، مثل إعلامك له
بعد التنبيه عليه والتقدمة له، لأنّ ذلك يجري مجرى تكرير
الإعلام في التأكيد والإحكام. ومن هاهنا قالوا: إنّ الشيء إذا
أضمر ثم فسّر، كان ذلك أفخم له من أن يذكر من غير تقدمة إضمار.
ويدلّ على صحة ما قالوه أنّا نعلم ضرورة في قوله تعالى:
فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الحج: 46]، فخامة وشرفا
وروعة، لا نجد منها شيئا في قولنا: «فإن الأبصار لا تعمى»،
وكذلك السبيل أبدا في كل كلام كان فيه ضمير قصّة. فقوله تعالى:
إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [المؤمنون: 117]، يفيد من
القوة في نفي الفلاح عن الكافرين، ما لو قيل: «إن الكافرين لا
يفلحون»، لم يستفد ذلك. ولم يكن ذلك كذلك إلّا لأنك تعلمه
إيّاه من بعد تقدمة وتنبيه، أنت به في حكم من بدأ وأعاد ووطّد،
ثم بنى ولوّح ثم صرّح. ولا يخفى مكان المزيّة فيما طريقه هذا
الطريق.
ويشهد لما قلنا من أنّ تقديم المحدّث عنه يقتضي تأكيد الخبر
وتحقيقه له، أنّا إذا تأمّلنا وجدنا هذا الضرب من الكلام يجيء
فيما سبق فيه إنكار من منكر، نحو أن يقول الرجل: «ليس لي علم
بالذي تقول»، فتقول له: «أنت تعلم أن الأمر على ما أقول،
ولكنّك تميل إلى خصمي»، وكقول الناس: «هو يعلم ذاك وإن أنكر،
وهو يعلم الكذب فيما قال وإن حلف عليه»، وكقوله تعالى:
وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل
عمران: 75]، فهذا من أبين شيء. وذاك أن الكاذب، لا سيما في
الدين، لا يعترف بأنه كاذب، وإذا لم يعترف بأنه كاذب، كان أبعد
من ذلك أن يعترف بالعلم بأنّه كاذب.
أو يجيء «2» فيما اعترض فيه شكّ، نحو أن يقول الرجل: «كأنك لا
تعلم ما صنع فلان ولم يبلغك»، فيقول: «أنا أعلم، ولكنّي
أداريه».
__________
(1) قوله: (فإن ذلك) جواب لقوله: (فمن أين وجب).
(2) قوله: (أو يجيء) جملة معطوفة على قوله: (يجيء فيما سبق).
(1/92)
أو في تكذيب مدّع كقوله عز وجل: وَإِذا
جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ
قَدْ خَرَجُوا بِهِ [المائدة: 61]، وذلك أن قولهم: «آمنا»،
دعوى منهم أنهم لم يخرجوا بالكفر كما دخلوا به، فالموضع موضع
تكذيب.
أو فيما القياس في مثله أن لا يكون، كقوله تعالى: وَاتَّخَذُوا
مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ
يُخْلَقُونَ [الفرقان: 3]، وذلك أن عبادتهم لها تقتضي أن لا
تكون مخلوقة.
وكذلك في كل شيء كان خبرا على خلاف العادة، وعمّا يستغرب من
الأمر نحو أن تقول: «ألا تعجب من فلان؟ يدّعي العظيم، وهو يعيا
باليسير، ويزعم أنه شجاع، وهو يفزع من أدنى شيء».
ومما يحسن ذلك فيه ويكثر، الوعد والضّمان، كقول الرجل: «أنا
أعطيك، أنا أكفيك، أنا أقوم بهذا الأمر»، وذلك أنّ من شأن من
تعده وتضمن له، أن يعترضه الشكّ في تمام الوعد وفي الوفاء به،
فهو من أحوج شيء إلى التأكيد.
وكذلك يكثر في المدح، كقولك: «أنت تعطي الجزيل، أنت تقري في
المحل، أنت تجود حين لا يجود أحد»، وكما قال: [من الكامل]
ولأنت تفري ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثمّ لا يفري «1»
وكقول الآخر: [من الرمل] نحن في المشتاة ندعو الجفلى «2» وذلك
أنّ من شأن المادح أن يمنع السامعين من الشكّ فيما يمدح به،
ويباعدهم من الشبهة، وكذلك المفتخر.
__________
(1) البيت لزهير بن أبي سلمى، وهو في ديوانه (31) من قصيدة
قالها في مدح هرم بن سنان، وهو في مفتاح العلوم (123). فرى
الشيء يفريه: قطعه، وفرى المزادة صنعها، والخلق التقدير والذي
يصنع شيئا من الجلد ونحوه على مثال سابق كالمزادة والنعل بقدر
ثم يقطع ويفصل.
(2) البيت لطرفة بن العبد، وهو في ديوانه (55) من قصيدة طويلة
قالها مخاطبا نفسه، ثم راح يصف ملاهيه وجوانب من مفاخره
الجماعية. ومطلعها:
أصحوت اليوم أم شاقتك هر ... ومن الحب جنون مستعر
لا يكن حبك داء قاتلا ... ليس هذا منك ماوي بحر
المشتاة: وقت الشتاء البارد. الجفلى: الدعوة العامة إلى الطعام
دونما تخصيص. الانتقار: دعوة النقرى، وهي دعوة خاصة بخلاف
الجفلى فهي عامة.
(1/93)
ويزيدك بيانا أنه إذا كان الفعل مما لا
يشكّ فيه ولا ينكر بحال، لم يكد يجيء على هذا الوجه، ولكن يؤتى
به غير مبنيّ على اسم، فإذا أخبرت بالخروج مثلا عن رجل من
عادته أن يخرج في كل غداة قلت: «قد خرج»، ولم تحتج إلى أن
تقول: «هو قد خرج»، وذاك لأنه ليس بشيء يشكّ فيه السامع،
فتحتاج أن تحقّقه، وإلى أن تقدّم فيه ذكر المحدّث عنه. وكذلك
إذا علم السامع من حال رجل أنه على نيّة الركوب والمضيّ إلى
موضع، ولم يكن شكّ وتردّد أنه يركب أو لا يركب، كان خبرك فيه
أن تقول: «قد ركب»، ولا تقول: «هو قد ركب». فإن جئت بمثل هذا
في صلة كلام، ووضعته بعد واو الحال، حسن حينئذ، وذلك قولك:
«جئته وهو قد ركب»، وذاك أن الحكم يتغيّر إذا صارت الجملة في
مثل هذا الموضع، ويصير الأمر بمعرض الشّك، وذاك أنه إنما يقول
هذا من ظنّ أنّه يصادفه في منزله، وأنّه يصل إليه من قبل أن
يركب.
فإن قلت «1»: فإنك قد تقول: «جئته وقد ركب» بهذا المعنى، ومع
هذا الشكّ.
فإن الشكّ لا يقوى حينئذ قوته في الوجه الأول، أفلا ترى أنك
إذا استبطأت إنسانا فقلت: «أتانا والشمس قد طلعت»، كان ذلك
أبلغ في استبطائك له من أن تقول: «أتانا وقد طلعت الشمس»؟ وعكس
هذا أنك إذا قلت: «أتى والشمس لم تطلع»، وكان أقوى في وصفك له
بالعجلة والمجيء قبل الوقت الذي ظنّ أنه يجيء فيه، من أن تقول:
«أتى ولم تطلع الشمس بعد».
هذا، وهو كلام لا يكاد يجيء إلّا نابيا، وإنما الكلام البليغ
هو أن تبدأ بالاسم وتبني الفعل عليه كقوله: [من الكامل] قد
أغتدي والطّير لم تكلّم فإذا كان الفعل فيما بعد هذه الواو
التي يراد بها الحال، مضارعا، لم يصلح إلا مبنيّا على اسم
كقولك: «رأيته وهو يكتب»، و «دخلت عليه وهو يملي الحديث»،
وكقوله: [من الطويل]
تمزّزتها والدّيك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعش دنوا فتصوّبوا
ليس يصلح شيء من ذلك إلا على ما تراه، لو قلت: «رأيته ويكتب» و
«دخلت عليه ويملي الحديث»، و «تمززتها ويدعو الديك صباحه»، لم
يكن شيئا.
وممّا هو بهذه المنزلة في أنك تجد المعنى لا يستقيم إلا على ما
جاء عليه من بناء الفعل على الاسم قوله تعالى: إِنَّ وَلِيِّيَ
اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى
__________
(1) قوله: (فإن قلت) جوابه: (فإن الشك).
(1/94)
الصَّالِحِينَ [الأعراف: 196]، وقوله
تعالى: وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ
تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 5]، وقوله
تعالى: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [النمل: 17]، فإنه
لا يخفى على من له ذوق أنه لو جيء في ذلك بالفعل غير مبنيّ على
الاسم فقيل: «إن وليّي الله الذي نزل الكتاب ويتولّى
الصالحين»، و «اكتتبها فتملى عليه»، و «حشر لسليمان جنوده من
الجن والإنس والطير فيوزعون»، لوجد اللفظ قد نبا عن المعنى،
والمعنى قد زال عن صورته والحال التي ينبغي أن
يكون عليها.
واعلم أنّ هذا الصنيع يقتضي في الفعل المنفيّ ما اقتضاه في
المثبت، فإذا قلت: «أنت لا تحسن هذا»، كان أشدّ لنفي إحسان ذلك
عنه من أن تقول: «لا تحسن هذا، ويكون الكلام في الأول مع من هو
أشدّ إعجابا بنفسه، وأعرض دعوى في أنه يحسن حتى إنّك لو أتيت ب
«أنت» فيما بعد «تحسن» فقلت: «لا تحسن أنت»، لم يكن له تلك
القوة.
وكذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا
يُشْرِكُونَ [المؤمنون: 59]، يفيد من التأكيد في نفي الاشتراك
عنهم، ما لو قيل: «والذين لا يشركون بربهم، أو:
بربهم لا يشركون» لم يفد ذلك. وكذا قوله تعالى: لَقَدْ حَقَّ
الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس: 7]،
وقوله تعالى: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ
فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ [القصص: 66]، وإِنَّ شَرَّ
الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ [الأنفال: 55].
ومما يرى تقديم الاسم فيه كاللازم: «مثل»، و «غير»، في نحو
قوله: [من السريع]
مثلك يثني الحزن عن صوبه ... ويستردّ الدّمع عن غربه «1»
وقول الناس: «مثلك رعى الحقّ والحرمة»، وكقول الذي قال له
الحجاج:
__________
(1) البيت للمتنبي في ديوانه (2/ 327) من قصيدة قالها في رثاء
عمة عضد الدولة ببغداد، ورواية الديوان: «يثني الحزن» وهي
الأصح، إذ قوله: «يثني المزن» لا يناسب مقام الرثاء. والبيت في
شرح التبيان للعكبري: (1/ 153)، والإيضاح (70)، والإشارات
والتنبيهات (50)، ونهاية الإيجاز (311). والغروب: مجاري الدمع،
للعين غربان مقدمها ومؤخرها. قال الأصمعي: يقال بعينه غرب إذا
كان يسيل ولا ينقطع دموعها والغروب الدمع. والصوب: القصد
والإصابة والصوت. المعنى: يريد أنك تقدر على دفع الحزن عن قصده
وتغلبه بالصبر وترد الدمع إلى قراره ومجراه بأن تصرفه عن
المجرى، وكيف لا تفعل هذا وأنت لا شبه لك.
(1/95)
«لأحملنك على الأدهم» «1»، يريد القيد،
فقال على سبيل المغالطة: «ومثل الأمير يحمل على الأدهم
والأشهب» «2»، وما أشبه ذلك مما لا يقصد فيه ب «مثل» إلى إنسان
سوى الذي أضيف إليه، ولكنهم يعنون أن كلّ من كان مثله في الحال
والصفة، كان من مقتضى القياس وموجب العرف والعادة أن يفعل ما
ذكر، أو أن لا يفعل. ومن أجل أن كان المعنى كذلك قال: [من
السريع]
ولم أقل مثلك، أعني به ... سواك، يا فردا بلا مشبه «3»
وكذلك حكم «غير» إذا سلك به هذا المسلك فقيل: «غيري يفعل ذاك»،
على معنى أني لا أفعله، لا أن يومئ ب «غير» إلى إنسان فيخبر
عنه بأن يفعل، كما قال: [من البسيط] غيري بأكثر هذا النّاس
ينخدع «4» وذاك أنه معلوم أنه لم يرد أن يعرّض بواحد كان هناك
فيستنقصه ويصفه بأنه مضعوف يغرّ ويخدع، بل لم يرد إلا أن يقول:
إني لست ممن ينخدع ويغترّ. وكذلك لم يرد أبو تمام بقوله: [من
الوافر]
وغيري يأكل المعروف سحتا ... وتشحب عنده بيض الأيادي «5»
__________
(1) وهو الأسود من الخيل، اللسان/ دهم/ (12/ 209).
(2) البياض الذي غلب عليه السواد، وهو من الخيل، اللسان/ شهب/
(1/ 508).
(3) البيت للمتنبي، وهو آخر بيت من القصيدة سالفة الذكر،
والمعنى: يريد لم أقل مثلك وهو قولي مثلك يثني الحزن أعني به
سواك، وكيف أقول هذا وأنت الذي لا مثل له في زمانه، وإنما أردت
نفسك لا غيرك. والبيت في شرح التبيان للعكبري (1/ 153)،
والإيضاح (69).
(4) البيت للمتنبي في ديوانه (62)، وهو مطلع قصيدة يمدح بها
سيف الدولة الحمداني، وتمامه:
إن قاتلوا جنوا أو حدثوا شجعوا والبيت في شرح التبيان للعكبري
(1/ 416)، والإيضاح (70)، وشرح المرشدي على عقود الجمان (1/
86)، ونهاية الإيجاز. والشطر الثاني تعليل للحكم الذي في الشطر
الأول. والمعنى:
لا أعتقد في هؤلاء الناس الخير ولكن غيري ممن يجهل أمرهم يغتر
بقولهم فينخدع به لأنهم إذا قاتلوا جبنوا. وانهزموا، وإذا
حدثوا أظهروا الشجاعة، أي: أن شجاعتهم بالقول لا بالفعل، وإذا
كانوا كذلك فالجاهل يغتر بهم.
(5) البيت في ديوانه (81) من قصيدة في مدح أبي عبد الله أحمد
بن أبي دؤاد ويعتذر إليه، وقبله:
وكان الشكر للكرماء خصلا ... وميدانا كميدان الجياد
عليه عقدت عقديّ ولاحت ... مواسمه على شيمي وعادي
وهو في الإيضاح (71)، وشرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 86)،
والإشارات والتنبيهات (51)، والمعروف: الإحسان، السحت: الحرام،
يشحب: من الشحوب وهو تغير اللون.
والأيادي: النعم.
(1/96)
أن يعرّض مثلا بشاعر سواه، فيزعم أنّ الذي
قرف به عند الممدوح من أنه هجاه، كان من ذلك الشاعر لا منه.
هذا محال، بل ليس إلّا أنّه نفى عن نفسه أن يكون ممن يكفر
النّعمة ويلؤم.
واستعمال «مثل» و «غير» على هذا السبيل شيء مركوز في الطباع،
وهو جار في عادة كل قوم. فأنت الآن إذا تصفّحت الكلام وجدت
هذين الاسمين يقدّمان أبدا على الفعل إذا نحي بهما هذا النّحو
الذي ذكرت لك، وترى هذا المعنى لا يستقيم فيهما إذا لم يقدّما.
أفلا ترى أنك لو قلت: «يثني الحزن عن صوبه مثلك»، و «رعى الحق
والحرمة مثلك»، و «يحمل على الأدهم والأشهب مثل الأمير»، و
«ينخدع غيري بأكثر هذا الناس»، و «يأكل غيري المعروف سحتا»،
رأيت كلاما مقلوبا عن جهته، ومغيّرا عن صورته، ورأيت اللّفظ قد
نبا عن معناه، ورأيت الطبع يأبى أن يرضاه.
واعلم أنّ معك دستورا لك فيه، إن تأمّلت، غنى عن كل سواه، وهو
أنه لا يجوز أن يكون لنظم الكلام وترتيب أجزائه في «الاستفهام»
معنى لا يكون له ذلك المعنى في «الخبر». وذاك أن «الاستفهام»،
استخبار، والاستخبار هو طلب من المخاطب أن يخبرك. فإذا كان
كذلك، كان محالا أن يفترق الحال بين تقديم الاسم وتأخيره في
«الاستفهام»، فيكون المعنى إذا قلت: «أزيد قام؟» غيره إذا قلت:
«أقام زيد؟»، ثم لا يكون هذا الافتراق في الخبر، ويكون قولك:
«زيد قام» و «قام زيد» سواء، ذاك لأنه يؤدي إلى أن تستعلمه
أمرا لا سبيل فيه إلى جواب، وأن تستثبته المعنى على وجه ليس
عنده عبارة يثبته لك بها على ذلك الوجه.
وجملة الأمر، أن المعنى في إدخالك «حرف الاستفهام» على الجملة
من الكلام، هو أنك تطلب أن يقفك في معنى تلك الجملة ومؤدّاها
على إثبات أو نفي.
فإذا قلت: «أزيد منطلق؟»، فأنت تطلب أن يقول لك: «نعم، هو
منطلق» أو يقول:
«لا، ما هو منطلق». وإذا كان ذلك كذلك، كان محالا أن تكون
الجملة إذا دخلتها همزة الاستفهام استخبارا عن المعنى على وجه،
لا تكون هي- إذا نزعت منها الهمزة «1» - إخبارا به على ذلك
الوجه، فاعرفه.
__________
(1) اعتراض بين لا تكون هي ... إخبارا به.
(1/97)
|