دلائل الإعجاز ت هنداوي فصل «هذا كلام في النّكرة إذا قدّمت على
الفعل، أو قدّم الفعل عليها»
إذا قلت: «أجاءك رجل؟»، فأنت تريد أن تسأله هل كان مجيء من
واحد من الرجال إليه، فإن قدمت الاسم فقلت: «أرجل جاءك؟»، فأنت
تسأله عن جنس من جاءه، أرجل هو أم امرأة؟ ويكون هذا منك إذا
كنت علمت أنه قد أتاه آت، ولكنك لم تعلم جنس ذلك الآتي، فسبيلك
في ذلك سبيلك إذا أردت أن تعرف عين الآتي فقلت: «أزيد جاءك أم
عمرو؟».
ولا يجوز تقديم الاسم في المسألة الأولى، لأن تقديم الاسم يكون
إذا كان السؤال عن الفاعل، والسؤال عن الفاعل يكون إمّا عن
عينه أو عن جنسه، ولا ثالث.
وإذا كان كذلك، كان محالا أن تقدّم الاسم النكرة وأنت لا تريد
السؤال عن الجنس، لأنه لا يكون لسؤالك حينئذ متعلّق، من حيث لا
يبقى بعد الجنس إلّا العين.
والنّكرة لا تدلّ على عين شيء فيسأل بها عنه.
فإن قلت: «أرجل طويل جاءك أم قصير؟»، كان السؤال عن أن الجائي
كان، من جنس طوال الرجال أم قصارهم؟ فإن وصفت النكرة بالجملة
فقلت: «أرجل كنت عرفته من قبل أعطاك هذا أم رجل لم تعرفه»، كان
السؤال عن المعطي، أكان ممّن عرفه قبل، أم كان إنسانا لم
تتقدّم منه معرفة [له].
وإذ قد عرفت الحكم في الابتداء بالنكرة في «الاستفهام»، فابن
«الخبر» عليه.
فإذا قلت: «رجل جاءني»: لم يصلح حتى تريد أن تعلمه أن الذي
جاءك رجل لا امرأة، ويكون كلامك مع من قد عرف أن قد أتاك آت.
فإن لم ترد ذاك، كان الواجب أن تقول: «جاءني رجل»، فتقدّم
الفعل.
وكذلك إن قلت: «رجل طويل جاءني»، لم يستقم حتّى يكون السامع قد
ظنّ أنه قد أتاك قصير، أو نزّلته منزلة من ظنّ ذلك.
وقولهم: «شرّ أهرّ ذا ناب» «1»، إنما قدّم فيه «شرّ»، لأن
المراد أن يعلم أن الذي أهرّ ذا الناب هو من جنس الشّرّ لا جنس
الخير، فجرى مجرى أن تقول: «رجل
__________
(1) ورد في مجمع الأمثال للميداني (1/ 326)، وهو يضرب عند ظهور
علامات الشر.
(1/98)
جاءني»، تريد أن رجل لا امرأة، وقول
العلماء إنه إنما يصلح «1»، لأنه بمعنى «ما أهرّ ذا ناب إلّا
شرّ».
بيان لذلك: ألا ترى أنك لا تقول: «ما أتاني إلّا رجل»، إلا حيث
يتوهّم السامع أنه قد أتتك امرأة، وذاك لأنّ الخبر ينقض النّفي
يكون حيث يراد أن يقصر الفعل على شيء، وينفى عمّا عداه. فإذا
قلت: «ما جاءني إلّا زيد»، كان المعنى أنك قد قصرت المجيء على
زيد، ونفيته عن كل من عداه. وإنّما يتصوّر قصر الفعل على
معلوم، ومتى لم يرد بالنكرة الجنس، لم يقف منها السامع على
معلوم، حتى تزعم أني أقصر له الفعل عليه، وأخبره أنه كان منه
دون غيره.
واعلم أنّا لم نرد بما قلناه، من أنه إنما حسن الابتداء
بالنكرة في قولهم: «شرّ أهرّ ذا ناب»، لأنه أريد به الجنس، أنّ
معنى «شرّ» و «الشرّ» سواء، وإنما أردنا أن الغرض من الكلام أن
نبيّن أنّ الذي أهرّ ذا الناب هو من جنس الشر لا جنس الخير،
كما أنا إذا قلنا في قولهم: «أرجل أتاك أم امرأة؟»، أن السؤال
عن الجنس، لم نرد بذلك أنه بمنزلة أن يقال: «الرّجل أم المرأة
أتاك»، ولكنّا نعني أن المعنى على أنك سألت عن الآتي أهو من
جنس الرجال أم جنس النساء؟ فالنكرة إذن على أصلها من كونها
لواحد من الجنس، إلا أنّ القصد منك لم يقع إلى كونه واحدا،
وإنما وقع إلى كونه من جنس الرجال.
وعكس هذا أنك إذا قلت: «أرجل أتاك أم رجلان؟»، كان القصد منك
إلى كونه واحدا، دون كونه رجلا، فاعرف ذلك أصلا، وهو أنّه قد
يكون في اللفظ دليل على أمرين، ثم يقع القصد إلى أحدهما دون
الآخر، فيصير ذلك الآخر- بأن لم يدخل في القصد- كأنه لم يدخل
في دلالة اللفظ.
وإذا اعتبرت ما قدّمته من قول صاحب الكتاب: «إنّما قلت: «عبد
الله» فنبهته له، ثم بنيت عليه الفعل» «2»، وجدته يطابق هذا.
وذاك أنّ التنبيه لا يكون إلّا على معلوم، كما أن قصر الفعل لا
يكون إلا على معلوم، فإذا بدأت بالنكرة فقلت:
«رجل»، وأنت لا تقصد بها الجنس، وأن تعلم السامع أنّ الذي أردت
بالحديث رجل لا امرأة، كان محالا أن تقول: «إني قدّمته لأنبّه
المخاطب له»، لأنه يخرج بك إلى أن تقول: إنّي أردت أن أنبه
السّامع لشيء لا يعلمه في جملة ولا تفصيل. وذلك ما لا يشكّ في
استحالته، فاعرفه.
__________
(1) أي الابتداء بالنكرة.
(2) القول لسيبويه في كتابه (1/ 41).
(1/99)
القول في الحذف
هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسّحر،
فإنك ترى به ترك الذّكر، أفصح من الذكر، والصّمت عن الإفادة،
أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتمّ ما تكون
بيانا إذا لم تبن.
وهذه جملة قد تنكرها حتى تخبر، وتدفعها حتى تنظر، وأنا أكتب لك
بديئا أمثلة مما عرض فيه الحذف، ثم أنبهك على صحّة ما أشرت
إليه، وأقيم الحجّة من ذلك عليه. أنشد صاحب الكتاب: [من
البسيط]
اعتاد قلبك من ليلى عوائده ... وهاج أهواءك المكنونة الطلل
ربع قواء أذاع المعصرات به ... وكلّ حيران سار ماؤه خضل «1»
قال: أراد، «ذاك ربع قواء أو هو ربع». قال: ومثله قول الآخر:
[من البسيط]
هل تعرف اليوم رسم الدّار والطّللا ... كما عرفت بجفن الصّيقل
الخللا
دار لمروة إذ أهلي وأهلهم ... بالكانسيّة نرعى اللهو والغزلا
«2»
كأنه قال: تلك دار. قال شيخنا «3» رحمه الله: ولم يحمل البيت
الأول على أن «الرّبع» بدل من «الطّلل»، لأن الرّبع أكثر من
الطّلل، والشيء يبدل مما هو مثله أو أكثر منه، فأما الشيء من
أقلّ منه ففاسد لا يتصوّر. وهذه طريقة مستمرّة لهم إذا ذكروا
الديار والمنازل.
وكما يضمرون المبتدأ فيرفعون، فقد يضمرون الفعل فينصبون، كبيت
الكتاب أيضا: [من البسيط]
__________
(1) هو سيبويه، ونسبهما البغدادي في شرح المغني لعمر بن أبي
ربيعة، وليسا في ديوانه، والقواء:
المكان القفر. أذاع المعصرات به: وهي الرياح العاصفات ذوات
الغبار. والرهج، وأذاع به، ذهبت به وطمست معالمه، وحيران: صفة
لمحذوف، وهو السحاب المتردد، وسار: يسير ليلا، وماؤه خضل: يحمل
ماء غزيرا.
(2) البيتان في الكتاب لسيبويه: (1/ 282)، وينسبان لعمر بن أبي
ربيعة، وهما في ملحقات ديوانه (497)، والبيت الثاني في اللسان
(كنس) بدون نسبة. الخلل: جمع خلة بالكسر، وهي بطانة يغشى بها
تنقش بالذهب، والصيقل: شحاذ السيوف وجلاؤها. مروة: اسم صاحبته،
الكانسية:
موضع. نرعى اللهو والغزل: نلتزمهما ونحافظ عليهما وشبه رسوم
الدار في اختلافها أو حسنها في عينه بخلل جفون السيوف التي
صنعها الصيقل.
(3) شيخنا: المقصود به أبو الحسن الفارسي.
(1/100)
ديار ميّة إذ ميّ تساعفنا ... ولا يرى
مثلها عجم ولا عرب «1»
أنشده بنصب «ديار»، على إضمار فعل، كأنه قال: اذكر ديار ميّة.
ومن المواضع التي يطّرد فيها حذف المبتدأ، «القطع والاستئناف»،
ويبدءون بذكر الرجل، ويقدّمون بعض أمره، ثم يدعون الكلام
الأول، ويستأنفون كلاما آخر.
وإذا فعلوا ذلك، أتوا في أكثر الأمر بخبر من غير مبتدأ مثال
ذلك قوله: [من مجزوء الكامل]
وعلمت أني يوم ذا ... ك منازل كعبا ونهدا
قوم إذا لبسوا الحدي ... د تنمّروا حلقا وقدّا «2»
وقوله: [من الوافر]
هم حلّوا من الشّرف المعلّى ... ومن حسب العشيرة حيث شاءوا
بناة مكارم وأساة كلم ... دماؤهم من الكلب الشّفاء «3»
وقوله: [من الطويل]
رآني على ما بي عميلة فاشتكى ... إلى ماله حالي أسرّ كما جهر
غلام رماه الله بالخير مقبلا ... له سيمياء لا تشقّ على البصر
«4»
وقوله: [من الطويل]
__________
(1) البيت لذي الرمة في ديوانه (11)، والكتاب لسيبويه (1/
280)، والكامل للمبرد (2/ 347)، وخزانة الأدب (2/ 365، 239،
340)، والدرر (3/ 7)، وشرح أبيات سيبويه، ولسان العرب (عجم)،
ونوادر أبي زيد (32)، وهمع الهوامع (1/ 168). ميّة وميّ: اسم
على مؤنث، وهي المرأة التي تغزل بها ذو الرمة كثيرا. تساعفنا:
تواتينا في مصافاة معاونة. العجم: خلاف العرب.
(2) البيتان لعمرو بن معد يكرب في ديوانه المجموع. الحديد:
يعني الدروع، تنمّروا: كأنهم كالنمور في الحرب. القدّ: السير
الذي يقدّ من الجلد، والقدّ: سير يقدّ من جلد غير مدبوغ،
والجمع:
أقدّ، والقدّ: الجلد أيضا تخصف به النعال.
(3) البيتان لأبي البرج القاسم بن جبل الذبياني، شاعر إسلامي،
في مدح زفر بن أبي هاشم بن مسعود وهما في الإيضاح (41)، ومفتاح
العلوم (271)، وشرح الحماسة (1658)، وشرح المرشدي على عقود
الجمان (1/ 55)، والإشارات والتنبيهات (37).
(4) البيتان لابن عنقاء الفزاري، يمدح عميلة حين قاسمه ماله،
والبيت الثاني في لسان العرب (سوم).
السّيمياء: تأنيث سيما غير مجرى. الجوهري: السيمى مقصور من
الواو، قال تعالى: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ وقد يجيء السّيما
والسيميا ممدودين، وجيده الشّعرى، وفي وجهه: القمر له سيمياء
لا تشقّ على البصر أي: يفرح به من ينظر إليه.
(1/101)
إذا ذكر ابنا العنبريّة لم تضق ... ذراعي،
وألقى باسته من أفاخر
هلالان، حمّالان في كلّ شتوة ... من الثقل ما لا تستطيع
الأباعر «1»
«حمّالان»، خبر ثان، وليس بصفة، كما يكون لو قلت مثلا: «رجلان
حمّالان».
وممّا اعتيد فيه أن يجيء خبرا قد بني على مبتدأ محذوف، قولهم
بعد أن يذكروا الرجل: «فتى من صفته كذا»، و «أغرّ من صفته كيت
وكيت».
كقوله: [من الطويل]
ألا لا فتى بعد ابن ناشرة الفتى ... ولا عرف إلا قد تولّى
وأدبرا
فتى حنظليّ ما تزال ركابه ... تجرد بمعروف وتنكر منكرا «2»
وقوله: [من الطويل]
سأشكر عمرا إن تراخت منيّتي ... أيادي لم تمنن، وإن هي جلّت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه، ... ولا مظهر الشّكوى إذا
النّعل زلّت «3»
ومن ذلك قول جميل: [من البسيط]
وهل بثينة، يا للناس، قاضيتي ... ديني؟ وفاعلة خيرا فأجزيها؟
ترنو بعيني مهاة أقصدت بهما ... قلبي عشيّة ترميني وأرميها
هيفاء مقبلة، عجزاء مدبرة، ... ريّا العظام، بلا عيب يرى فيها
من الأوانس مكسال، مبتّلة ... خود، غذاها بلين العيش غاذيها
«4»
__________
(1) البيتان لموسى بن جابر الحنفي، شرح الحماسة للتبريزي (1/
191)، و «ألقى باسته من أفاخر» سقط على عجيزته من العجز، وما
يجد من الذلة والقلة، وهلالان كالهلال في الشهرة والارتفاع.
الشتوة: زمن الجدب في الشتاء.
(2) البيتان لأبي حزابة الوليد بن حنيفة في رثاء عبد الله بن
ناشرة، أحد بني عامر بن زيد بن مناة بن تميم.
(3) البيتان أوردهما محمد بن علي الجرجاني في الإشارات (303)،
وهما لعبد الله بن الزبير الأسدي في مدح عثمان بن عفان،
وينسبان لأبي الأسود الدؤلي في مدح عمرو بن سعيد بن العاص،
وهما في ديوان إبراهيم بن العباس الصولي في الطرائف الأدبية
(130)، والإيضاح (38، 345)، والتبيان للطيبي (1/ 147)، ومفتاح
العلوم (266)، وشرح المرشدي على عقود الجمان (1/ 52)،
والإشارات والتنبيهات (34، 303). وأيادي بدل اشتمال من عمرو،
والتقدير: أيادي له، وقوله: «إذا النعل زلت» كناية عن نزول
الشر، والشاهد في قوله «فتى» لأن التقدير: هو فتى، والحذف فيه
للاختصار.
(4) الأبيات لجميل بثينة وردت في الديوان ما عدا البيت الأول.
ديوان جميل (218).
(1/102)
وقوله أيضا: [من الكامل]
إنّي عشيّة رحت وهي حزينة ... تشكو إليّ صبابة لصبور
وتقول: بت عندي، فديتك، ليلة ... أشكو إليك، فإنّ ذاك يسير
غرّاء مبسام، كأنّ حديثها ... درّ تحدّر نظمه منثور
محطوطة المتنين، مضمرة الحشا، ... ريّا الرّوادف، خلقها ممكور
«1»
وقول الأقيشر «2» في ابن عمّ له موسر، سأله فمنعه وقال: كم
أعطيك ما لي وأنت تنفقه فيما لا يغنيك؟ والله لا أعطيتك. فتركه
حتى اجتمع القوم في ناديهم وهو فيهم، فشكاه إلى القوم وذمّه،
فوثب إليه ابن عمه فلطمه، فأنشأ يقول: [من الطويل]
سريع إلى ابن العمّ يلطم وجهه، ... وليس إلى داعي النّدى بسريع
حريص على الدّنيا، مضيع لدينه، ... وليس لما في بيته بمضيع «3»
فتأمّل الآن هذه الأبيات كلّها، واستقرها واحدا واحدا، وانظر
إلى موقعها في نفسك، وإلى ما تجده من اللّطف والظّرف إذا أنت
مررت بموضع الحذف منها، ثم فليت النّفس عمّا تجد، وألطفت النظر
فيما تحسّ به. ثم تكلّف أن تردّ ما حذف الشاعر، وأن تخرجه إلى
لفظك، وتوقعه في سمعك، فإنك تعلم أن الذي قلت كما قلت، وأن ربّ
حذف هو قلادة الجيد، وقاعدة التّجويد، وإن أردت ما هو أصدق في
ذلك شهادة، وأدلّ دلالة، فانظر إلى قول عبد الله بن الزّبير
يذكر غريما له قد ألحّ عليه: [من الطويل]
عرضت على زيد ليأخذ بعض ما ... يحاوله قبل اعتراض الشّواغل
فدبّ دبيب البغل يألم ظهره ... وقال: تعلّم، إنّني غير فاعل
تثاءب حتّى قلت: داسع نفسه ... وأخرج أنيابا له كالمعاول «4»
__________
(1) الأبيات لجميل بثينة، وهي في الأغاني (8/ 156)، وقالها عند
ما شكا زوج بثينة إلى أبيها وأخيها إلمام جميل بها، فوجهوا إلى
جميل فأعذروا إليه وشكوه إلى عشيرته وتوعدوه وإياهم فلامه أهله
وعنّفوه وقالوا: استخلص إليهم ونبرأ منك ومن جريرتك فأقام مدة
لا يلم بها فلقي ابني عمه وقا ومسعدة فشكا إليهما ما به
وأنشدهما هذه الأبيات.
(2) الأقيشر: هو المغيرة بن عبد الله بن معرض الأسدي عاصر
الإسلام وتوفي في خلافة عبد الملك عام 80 هـ. انظر الأغاني (1/
251).
(3) البيتان في الإيضاح (39)، والمفتاح (266)، ولطائف التبيان
(45)، والإشارات والتنبيهات:
(34)، والخزانة (2/ 281)، ومعاهد التنصيص (3/ 242).
(4) من مجموع شعره (115)، عن الأغاني (14/ 240، 241)، وغريم
عبد الله يقال له: «ذئب» كما ذكر صاحب الأغاني.
(1/103)
الأصل: حتى قلت: «هو داسع نفسه»، أي حسبته
من شدة التثاؤب، ومما به من الجهد، يقذف نفسه من جوفه، ويخرجها
من صدره، كما يدسع البعير جرّته «1».
ثم إنّك ترى نصبة الكلام وهيئته تروم منك أن تنسى هذا المبتدأ،
وتباعده عن وهمك، وتجتهد أن لا يدور في خلدك، ولا يعرض لخاطرك،
وتراك كأنك تتوقّاه توقّي الشيء تكره مكانه، والثقيل تخشى
هجومه.
ومن لطيف الحذف قول بكر بن النّطّاح: [من السريع]
العين تبدي الحبّ والبغضا ... وتظهر الإبرام والنّقضا
درّة، ما أنصفتني في الهوى، ... ولا رحمت الجسد المنضى
غضبى، ولا والله يا أهلها، ... لا أطعم البارد أو ترضى «2»
يقوله في جارية كان يحبّها، وسعي به إلى أهلها فمنعوها منه.
والمقصود قوله «غضبى»، وذلك أن التقدير «هي غضبى» أو «غضبى هي»
لا محالة، ألا ترى أنّك ترى النّفس كيف تتفادى من إظهار هذا
المحذوف، وكيف تأنس إلى إضماره؟ وترى الملاحة كيف تذهب إن أنت
رمت التكلم به؟
ومن جيد الأمثلة في هذا الباب قول الآخر، يخاطب امرأته وقد
لامته على الجود: [من الكامل]
قالت سميّة: قد غويت، بأن رأت ... حقّا تناوب ما لنا ووفود
غيّ لعمرك لا أزال أعوده ... ما دام مال عندنا «موجود»
المعنى: «ذاك غيّ لا أزال أعود إليه، فدعي عنك لومي».
وإذ عرفت هذه الجملة من حال الحذف في المبتدأ، فاعلم أن ذلك
سبيله في كل شيء، فما من اسم أو فعل تجده قد حذف، ثمّ أصيب به
موضعه، وحذف في الحال ينبغي أن يحذف فيها، إلّا وأنت تجد حذفه
هناك أحسن من ذكره، وترى إضماره في النفس أولى وآنس من النّطق
به.
__________
(1) جرّته: الجرة بالكسرة هيئة الجر وما يفيض به البعير فيأكله
ثانية «القاموس: جرر» (464). يدسع البعير بجرته: أي يعيد طعامه
من جوفه ويمضغه مرة أخرى.
(2) هذه الأبيات في الأغاني قالها بكر بن النطاح عند ما كان
يهوى جارية من جواري القيان وتهواه، وكانت لبعض الهاشميين يقال
لها درة، وهو يذكرها في شعره كثيرا، وكان يجتمع معها في منزل
رجل من الجند من أصحاب أبي دلف يقال له: الفرز، فسعى به إلى
مولاها وأعلمه أنه قد أفسدها وواطأها على أن تهرب معه إلى
الجبل فمنعه من لقائها وحجبه عنها إلى أن خرج الكرج مع أبي دلف
فقال بكر بن النطاح في ذلك هذه الأبيات. راجع الأغاني (19/
125). المنضى:
من النضو: المهزول.
(1/104)
وإذ قد بدأنا في الحذف بذكر المبتدأ، وهو
حذف اسم، إذ لا يكون المبتدأ إلّا اسما، فإني أتبع ذلك ذكر
المفعول به إذا حذف خصوصا، فإنّ الحاجة إليه أمسّ، وهو بما نحن
بصدده أخصّ، واللطائف كأنها فيه أكثر، وممّا يظهر بسببه من
الحسن والرونق أعجب وأظهر.
وهاهنا أصل يجب ضبطه، وهو أن حال الفعل مع المفعول الذي يتعدّى
إليه، حاله مع الفاعل. فكما أنك إذا قلت: «ضرب زيد»، فأسندت
الفعل إلى الفاعل، كان غرضك من ذلك أن تثبت الضرب فعلا له، لا
أن تفيد وجوب الضرب في نفسه وعلى الإطلاق. كذلك، إذا عدّيت
الفعل إلى المفعول فقلت: «ضرب زيد عمرا»، كان غرضك أن تفيد
التباس الضّرب الواقع من الأول بالثاني ووقوعه عليه، فقد اجتمع
الفاعل والمفعول في أنّ عمل الفعل فيهما إنما كان من أجل أن
يعلم التباس المعنى الذي اشتقّ منه بهما، فعمل الرفع في
الفاعل، ليعلم التباس الضرب به من جهة وقوعه منه، والنّصب في
المفعول، ليعلم التباسه به من جهة وقوعه عليه. ولم يكن ذلك
ليعلم وقوع الضرب في نفسه، بل إذا أريد الإخبار بوقوع الضّرب
ووجوده في الجملة من غير أن ينسب إلى فاعل أو مفعول، أو يتعرّض
لبيان ذلك، فالعبارة فيه أن يقال:
«كان ضرب» أو «وقع ضرب» أو «وجد ضرب» وما شاكل ذلك من ألفاظ
تفيد الوجود المجرّد في الشيء.
وإذ قد عرفت هذه الجملة، فاعلم أنّ أغراض الناس تختلف في ذكر
الأفعال المتعدّية، فهم يذكرونها تارة ومرادهم أن يقتصروا على
إثبات المعاني التي اشتقّت منها للفاعلين، من غير أن يتعرّضوا
لذكر المفعولين. فإذا كان الأمر كذلك، كان الفعل المتعدّي كغير
المتعدّي مثلا، في أنك لا ترى له مفعولا لا لفظا ولا تقديرا.
ومثال ذلك قول الناس: «فلان يحلّ ويعقد، ويأمر وينهى، ويضرّ
وينفع»، وكقولهم: «هو يعطي ويجزل، ويقري ويضيف»، المعنى في
جميع ذلك على إثبات المعنى في نفسه للشيء على الإطلاق وعلى
الجملة، من غير أن يتعرّض لحديث المفعول، حتى كأنك قلت: «صار
إليه الحل والعقد، وصار بحيث يكون منه حل وعقد، وأمر ونهي،
وضرّ ونفع»، وعلى هذا القياس.
وعلى ذلك قوله تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9]، المعنى:
هل يستوي من له علم ومن لا علم له؟ من غير أن يقصد النصّ على
معلوم. وكذلك قوله تعالى هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ
[غافر: 68]، وقوله
(1/105)
تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى.
وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا [القمر: 43 - 44]، وقوله
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى [القمر: 48]، المعنى هو الذي
منه الإحياء والإماتة والإغناء والإقناء. وهكذا كلّ موضع كان
القصد فيه أن تثبت المعنى في نفسه فعلا للشيء، وأن تخبر بأنّ
من شأنه أن يكون منه، أو لا يكون إلّا منه، أو لا يكون منه،
فإن الفعل لا يعدّى هناك، لأن تعديته تنقض الغرض وتغيّر
المعنى. ألا ترى أنك إذا قلت: «هو يعطي الدنانير»، كان المعنى
على أنك قصدت أن تعلم السّامع أن الدنانير تدخل في عطائه، أو
أنه يعطيها خصوصا دون غيرها، وكان غرضك على الجملة بيان جنس ما
تناوله الإعطاء، لا الإعطاء في نفسه، ولم يكن كلامك مع من نفى
أن يكون كان منه إعطاء بوجه من الوجوه بل مع من أثبت له إعطاء،
إلا أنه لم يثبت إعطاء الدّنانير. فاعرف ذلك، فإنّه أصل كبير
عظيم النفع.
فهذا قسم من خلوّ الفعل عن المفعول، وهو أن لا يكون له مفعول
يمكن النّصّ عليه.
وقسم ثان: وهو أن يكون له مفعول مقصود قصده معلوم، إلّا أنه
يحذف من اللفظ لدليل الحال عليه. وينقسم إلى جليّ لا صنعة فيه،
وخفيّ تدخله الصنعة.
فمثال الجليّ قولهم: «أصغيت إليه»، وهم يريدون «أذني»، و
«أغضيت عليه»، والمعنى «جفني».
وأما الخفيّ الذى تدخله الصّنعة فيتفنّن ويتنوّع.
فنوع منه، أن تذكر الفعل وفي نفسك له مفعول مخصوص قد علم
مكانه، إما لجري ذكر، أو دليل حال، إلا أنك تنسيه نفسك وتخفيه،
وتوهم أنك لم تذكر ذلك الفعل إلا لأن تثبت نفس معناه، من غير
إن تعدّيه إلى شيء أو تعرّض فيه لمفعول.
ومثاله قول البحتري: [من الخفيف]
شجو حسّاده وغيظ عداه ... أن يرى مبصر ويسمع واع «1»
المعني، لا محالة: أن يرى مبصر محاسنه، ويسمع واع أخباره
وأوصافه، ولكنّك تعلم على ذلك أنه كأنّه يسرق علم ذلك من نفسه،
ويدفع صورته عن وهمه،
__________
(1) البيت في ديوانه، وهو يمدح المعتز بالله بن المتوكل على
الله، ويعرض بالمستعين بالله بن المعتصم بالله من بني العباس.
والبيت في التبيان (191)، والإيضاح (110)، وأورده محمد بن علي
الجرجاني في الإشارات (81).
(1/106)
ليحصل له معنى شريف وغرض خاصّ. وذاك أنه
يمدح خليفة، وهو المعتزّ، ويعرّض بخليفة وهو المستعين، فأراد
أن يقول: إن محاسن المعتز وفضائله، المحاسن والفضائل يكفي فيها
أن يقع عليها بصر ويعيها سمع حتّى يعلم أنه المستحق للخلافة،
والفرد الوحيد الذي ليس لأحد أن ينازعه مرتبتها، فأنت ترى
حسّاده وليس شيء
أشجى لهم وأغيظ، من علمهم بأن هاهنا مبصرا يرى وسامعا يعي، حتى
ليتمنّون أن لا يكون في الدنيا من له عين يبصر بها، وأذن يعي
معها، كي يخفى مكان استحقاقه لشرف الإمامة، فيجدوا بذلك سبيلا
إلى منازعته إيّاها.
وهذا نوع آخر منه، وهو أن يكون معك مفعول معلوم مقصود قصده، قد
علم أنه ليس للفعل الذي ذكرت مفعول سواه، بدليل الحال أو ما
سبق من الكلام، إلا أنك تطرحه وتتناساه وتدعه يلزم ضمير النفس،
لغرض غير الذي مضى. وذلك الغرض أن تتوفّر العناية على إثبات
الفعل للفاعل، وتخلص له، وتنصرف بجملتها وكما هي إليه.
ومثاله قول عمرو بن معد يكرب: [من الطويل]
فلو أنّ قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكنّ الرّماح أجرّت «1»
«أجرّت» فعل متعدّ، ومعلوم أنه لو عدّاه لما عدّاه إلّا إلى
ضمير المتكلم نحو:
«ولكن الرّماح أجرّتني»، وأنه لا يتصوّر أن يكون هاهنا شيء آخر
يتعدّى إليه، لاستحالة أن يقول: «فلو أن قومي أنطقتني رماحهم»،
ثم يقول: «ولكن الرماح أجرّت غيري»، إلا أنك تجد المعنى يلزمك
أن لا تنطق بهذا المفعول ولا تخرجه إلى لفظك. والسبب في ذلك أن
تعديتك له توهم ما هو خلاف الغرض، وذلك أن الغرض هو أن يثبت
أنه كان من الرماح إجرار وحبس للألسن عن النطق، وأن يصحّح وجود
ذلك. ولو قال: «أجرّتني»، وجاز أن يتوهم أنه لم يعن بأن يثبت
للرماح إجرارا، بل الذي عناه أن يبيّن أنها أجرته. فقد يذكر
الفعل كثيرا والغرض منه ذكر المفعول، مثاله أنك تقول: «أضربت
زيدا؟» وأنت لا تنكر أن يكون كان من المخاطب ضرب، وإنّما تنكر
أن يكون وقع الضرب منه على زيد، وأن يستجيز ذلك أو يستطيعه.
فلما كان في تعدية «أجرّت» ما يوهم ذلك، وقف فلم يعدّ البتة،
ولم ينطق بالمفعول، لتخلص العناية لإثبات الإجرار للرّماح
وتصحيح أنه كان منها، وتسلم بكليتها لذلك.
__________
(1) عمر بن معد يكرب الزبيدي اليمني شاعر مخضرم، والبيت أورده
القزويني في الإيضاح (110).
(1/107)
ومثله قول جرير: [من الطويل]
أمنّيت المنى وخلبت حتّى ... تركت ضمير قلبي مستهاما «1»
الغرض أن يثبت أنه كان منها تمنية وخلابة، وأن يقول لها: أهكذا
تصنعين؟
وهذه حيلتك في فتنة الناس؟
ومن بارع ذلك ونادره، ما تجده في هذه الأبيات. روى المرزبانيّ
في «كتاب الشعر» بإسناد، قال: لما تشاغل أبو بكر الصديق رضي
الله عنه بأهل الرّدة، استبطأته الأنصار فكلّموه، فقال: إمّا
كلّفتموني أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فو الله ما
ذاك عندي ولا عند أحد من الناس، ولكنّي والله ما أوتى من مودّة
لكم ولا حسن رأي فيكم، وكيف لا نحبّكم؟ فو الله ما وجدت مثلا
لنا ولكم إلّا ما قال طفيل الغنويّ لبني جعفر ابن كلاب: [من
الطويل]
جزى الله عنّا جعفرا حين أزلقت ... بنا نعلنا في الواطئين
فزلّت
أبوا أن يملّونا، ولو أنّ أمّنا ... تلاقي الّذي لاقوه منّا
لملّت
هم خلطونا بالنّفوس وألجئوا ... إلى حجرات أدفأت وأظلّت «2»
فيها حذف مفعول مقصود قصده في أربعة مواضع قوله: «لملّت»، و
«ألجئوا» و «أدفأت» و «أظلّت»، لأن الأصل: «لملّتنا» و
«ألجئونا إلى حجرات أدفأتنا وأظلّتنا»، إلّا أنّ الحال على ما
ذكرت لك، من أنه في حدّ المتناسى، حتى كأن لا قصد إلى مفعول،
وكأن الفعل قد أبهم أمره فلم يقصد به قصد شيء يقع عليه، كما
يكون إذا قلت: «قد ملّ فلان»، تريد أن تقول: قد دخله الملال،
من غير أن تخصّ شيئا، بل لا تزيد على أن تجعل الملال من صفته،
وكما تقول: «هذا بيت يدفئ ويظلّ»، تريد أنه بهذه الصفة.
واعلم أن لك في قوله: «أجرّت»، و «لملّت»، فائدة أخرى زائدة
على ما ذكرت من توفير العناية على إثبات الفعل، وهي أن تقول:
كان من سوء بلاء القوم ومن تكذيبهم عن القتال «3» ما يجرّ
مثله، وما القضية فيه أنه لا يتّفق على قوم إلّا خرس شاعرهم
فلم يستطع نطقا، وتعديتك الفعل تمنع من هذا المعنى، لأنك إذا
قلت:
__________
(1) البيت في ديوانه (379)، وقبله:
ترى صديان مشرعة شفاء ... فحام وليس واردها وحاما
(2) الأبيات في الأغاني (15/ 356)، لطفيل الغنوي، والإيضاح
(110، 111).
(3) تكذيبهم عن القتال كذب عن أمر أراده أحجم عنه. القاموس:/
كذب/ (166).
(1/108)
«ولكن الرماح أجرتني»، لم يمكن أن يتأوّل
على معنى أنه كان منها ما شأن مثله أن يجرّ، قضية مستمرة في كل
شاعر قوم، بل قد يجوز أن يوجد مثله في قوم آخرين فلا يجرّ
شاعرهم. ونظيره أنك تقول: «قد كان منك ما يؤلم»، تريد ما
الشّرط في مثله أن يؤلم كل أحد وكلّ إنسان. ولو قلت: «ما
يؤلمني» لم يفد ذلك، لأنه قد يجوز أن يؤلمك الشيء لا يؤلم
غيرك.
وهكذا قوله: «ولو أنّ أمّنا تلاقي الذي لاقوه منا لملّت»،
يتضمن أنّ من حكم مثله في كل أمّ أن تملّ وتسأم، وأن المشقة في
ذلك إلى حدّ يعلم أن الأمّ تملّ له الابن وتتبرّم به،
مع ما في طباع الأمّهات من الصبر على المكاره في مصالح
الأولاد.
وذلك أنه وإن قال: «أمّنا»، فإن المعنى على أن ذلك حكم كلّ أمّ
مع أولادها. ولو قلت: «لملّتنا»، لم يحتمل ذلك، لأنه يجري مجرى
أن تقول: «لو لقيت أمّنا ذلك لدخلها ما يملّها منا»، وإذا قلت
«ما يملها منا» فقيّدت، لم يصلح لأن يراد به معنى العموم وأنّه
بحيث يملّ كلّ أمّ من كل ابن.
وكذلك قوله: «إلى حجرات أدفأت وأظلّت»، لأن فيه معنى قولك:
«حجرات من شأن مثلها أن تدفئ وتظلّ»، أي: هي بالصفة التي إذا
كان البيت عليها أدفأ وأظلّ. ولا يجيء هذا المعنى مع إظهار
المفعول؛ إذ لا تقول: «حجرات من شأن مثلها أن تدفئنا وتظلنا»،
هذا لغو من الكلام.
فاعرف هذه النّكتة، فإنك تجدها في كثير من هذا الفنّ مضمومة
إلى المعنى الآخر، الذي هو توفير العناية على إثبات الفعل،
والدلالة على أنّ القصد من ذكر الفعل أن تثبته لفاعله، لا أن
تعلم التباسه بمفعوله.
وإن أردت أن تزداد تبيّنا لهذا الأصل، أعني وجوب أن تسقط
المفعول لتتوفّر العناية على إثبات الفعل لفاعله ولا يدخلها
شوب، فانظر إلى قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ
وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ
مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما
قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ
كَبِيرٌ. فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ [القصص:
23 - 24]، ففيها حذف مفعول في أربعة مواضع، إذ المعنى:
«وجد عليه أمة من الناس يسقون» أغنامهم أو مواشيهم، و «امرأتين
تذودان» غنمهما و «قالتا لا نسقي» غنمنا، «فسقى لهما» غنمهما.
ثمّ إنه لا يخفى على ذي بصر أنه ليس في ذلك كلّه إلا أن يترك
ذكره ويؤتى
(1/109)
بالفعل مطلقا، وما ذاك إلّا أن الغرض في أن
يعلم أنه كان من الناس في تلك الحال سقي، ومن المرأتين ذود،
وأنهما قالتا: لا يكون منّا سقي حتى يصدر الرعاء، وأنه كان من
موسى عليه السلام من بعد ذلك سقي. فأمّا ما كان المسقيّ؟ أغنما
أم إبلا أم غير ذلك، فخارج عن الغرض، وموهم خلافه. وذاك أنه لو
قيل: «وجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما»، جاز أن يكون لم
ينكر الذّود من حيث هو ذود، بل من حيث هو ذود غنم، حتى لو كان
مكان الغنم إبل لم ينكر الذّود، كما أنك إذا قلت:
«مالك تمنع أخاك؟»، كنت منكرا المنع، لا من حيث هو منع، بل من
حيث هو منع أخ، فاعرفه تعلم أنك لم تجد لحذف المفعول في هذا
النحو من الرّوعة والحسن ما وجدت، إلّا لأن في حذفه وترك ذكره
فائدة جليلة، وأن الغرض لا يصحّ إلّا على تركه.
وممّا هو كأنه نوع آخر غير ما مضى، قول البحتري: [من الطويل]
إذا بعدت أبلت، وإن قربت شفت، ... فهجرانها يبلي، ولقيانها
يشفي «1»
قد علم أن المعنى: إذا بعدت عني أبلتني، وإن قربت مني شفتني
إلا أنك تجد الشعر يأبى ذكر ذلك، ويوجب اطّراحه. وذاك لأنه أرد
أن يجعل البلى كأنه واجب في بعادها أن يوجبه ويجلبه، كأنه
كالطبيعة فيه، وكذلك حال الشّفاء مع القرب، حتى كأنّه قال:
أتدري ما بعادها؟ هو الداء المضني، وما قربها؟ هو الشفاء
والبرء من كل داء. ولا سبيل لك إلى هذه اللطيفة وهذه النكتة،
إلا بحذف المفعول البتّة، فاعرفه.
وليس لنتائج هذا الحذف، أعني حذف المفعول، نهاية، فإنه طريق
إلى ضروب من الصنعة، وإلى لطائف لا تحصى.
وهذا نوع منه آخر: اعلم أن هاهنا بابا من الإضمار والحذف يسمى
«الإضمار على شريطة التفسير»، وذلك مثل قولهم: «أكرمني وأكرمت
عبد الله»، أردت:
«أكرمني عبد الله وأكرمت عبد الله»، ثم تركت ذكره في الأول
استغناء بذكره في الثاني. فهذا طريق معروف ومذهب ظاهر، وشيء لا
يعبأ به، ويظنّ أنه ليس فيه أكثر مما تريك الأمثلة المذكورة
منه. وفيه- إذا أنت طلبت الشيء من معدنه- من دقيق الصّنعة ومن
جليل الفائدة، ما لا تجده إلا في كلام الفحول.
__________
(1) البيت في ديوانه، وأمام البيت حاشية أخرى، كأنها أيضا
منقولة من حواشي نسخة عبد القاهر التي نسخ عنها كاتب «ج» وهذا
نص الحاشية: هذا مبنيّ على أن هذه المرأة من الحسن والجمال
بحيث لا يراها أحد إلا عشيقها، وكان حاله معها هذه الحالة.
وهذا المعنى هو ما افتتح به المتنبي:
أتراها لكثرة العشاق ... تحسب الدمع خلقة في المآقي
[شاكر].
(1/110)
فمن لطيف ذلك ونادره قول البحتري: [من
الكامل]
لو شئت لم تفسد سماحة حاتم ... كرما، ولم تهدم مآثر خالد «1»
الأصل لا محالة: لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها، ثم
حذف ذلك من الأوّل استغناء بدلالته في الثاني عليه، ثمّ هو على
ما تراه وتعلمه من الحسن والغرابة، وهو على ما ذكرت لك من أن
الواجب في حكم البلاغة أن لا ينطق بالمحذوف ولا يظهر إلى
اللفظ. فليس يخفى أنك لو رجعت فيه إلى ما هو أصله فقلت: «لو
شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها»، صرت إلى كلام غثّ، وإلى
شيء يمجّه السمع، وتعافه النفس. وذلك أن في البيان، إذا ورد
بعد الإبهام وبعد التحريك له، أبدا لطفا ونبلا لا يكون إذا لم
يتقدّم ما يحرّك.
وأنت إذا قلت: «لو شئت»، علم السّامع أنك قد علّقت هذه المشيئة
في المعنى بشيء، فهو يضع في نفسه أنّ هاهنا شيئا تقتضي مشيئته
له أن يكون أو أن لا يكون. فإذا قلت: «لم
تفسد سماحة حاتم»، عرف ذلك الشيء، ومجيء «المشيئة» بعد «لو»
وبعد حروف الجزاء هكذا موقوفة غير معدّاة إلى شيء، كثير شائع،
كقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى
[الأنعام: 35]، ووَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل:
9]، والتقدير في ذلك كله على ما ذكرت. فالأصل: لو شاء الله أن
يجمعهم على الهدى لجمعهم، ولو شاء أن يهديكم أجمعين لهداكم،
إلا أن البلاغة في أن يجاء به كذلك محذوفا.
وقد يتفق في بعضه أن يكون إظهار المفعول هو الأحسن، وذلك نحو
قول الشاعر: [من الطويل]
ولو شئت أن أبكي دما لبكيته ... عليه، ولكن ساحة البصر أوسع
«2»
فقياس هذا لو كان على حدّ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ
عَلَى الْهُدى [الأنعام:
35] أن يقول: «لو شئت بكيت دما»، ولكنه كأنه ترك تلك الطريقة
وعدل إلى
__________
(1) البيت في ديوانه. السماحة: الكرم. حاتم: هو الطائي
المعروف. خالد: هو ابن أصمع النبهاني الذي نزل عليه امرؤ
القيس. والبيت في الإيضاح (112).
(2) البيت للخريمي، أبو يعقوب إسحاق بن حسان شاعر عباسي من
الموالي، والبيت من قصيدة يرثي بها أبا الهيذام عامر بن عمارة
بن خريم أمير عرب الشام، وقائد المضرية في الفتنة بين القيسية
واليمنية أيام الرشيد، وهو في الإيضاح (112)، وأورده محمد بن
علي الجرجاني في الإشارات والتنبيهات (82)، وذكر تمام البيت:
عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
(1/111)
هذه، لأنها أحسن في هذا الكلام خصوصا. وسبب
حسنه أنه كأنه بدع عجيب أن يشاء الإنسان أن يبكي دما. فلما كان
كذلك، كان الأولى أن يصرّح بذكره ليقرّره في نفس السامع ويؤنسه
به.
وإذا استقريت وجدت الأمر كذلك أبدا متى كان مفعول «المشيئة»
أمرا عظيما، أو بديعا غريبا، كان الأحسن أن يذكر ولا يذكر ولا
يضمر. يقول الرجل بخبر عن عزّة: «لو شئت أن أردّ على الأمير
رددت» و «لو شئت أن ألقى الخليفة كلّ يوم لقيت». فإذا لم يكن
مما يكبره السامع، فالحذف كقولك: «لو شئت خرجت»، و «لو شئت
قمت»، و «لو شئت أنصفت»، و «لو شئت لقلت»، وفي التنزيل: لَوْ
نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال: 31]، وكذا تقول: «لو شئت
كنت كزيد»، قال:
[من البسيط]
لو شئت كنت ككرز في عبادته ... أو كابن طارق حول البيت والحرم
«1»
وكذلك الحكم في غيره من حروف المجازاة أن تقول: «إن شئت قلت» و
«إن أردت دفعت»، قال الله تعالى فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ
يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ [الشورى: 24]، وقال عزّ اسمه: مَنْ
يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام: 39]، ونظائر ذلك من الآي، ترى
الحذف فيها المستمرّ.
ومما يعلم أن ليس فيه لغير الحذف وجه قول طرفه: [من الطويل]
وإن شئت لم ترقل، وإن شئت أرقلت ... مخافة ملويّ من القّدّ
محصد «2»
وقول حميد: [من الطويل]
__________
(1) من شعر عبد الله بن شبرمة القاضي الفقيه، يقوله لابن هبيرة
ويذكر فيه: «كرز بن وبرة الحارثي الجرجاني العابد، ومحمد بن
طارق» قال ابن شبرمة لما سمع ابن هبيرة الشعر قال له: من كرز؟
ومن ابن طارق؟ قال: فقلت له: أما كرز فكان إذا كان في سفر
واتخذ الناس منزلا اتخذ هو منزلا للصلاة، وأما ابن طارق: فلو
اكتفى أحد بالتراب كفاه كف من تراب، وكان كرز يختم القرآن في
كل يوم وليلة ثلاث ختمات، وكان محمد بن طارق يطوف في كل يوم
وليلة سبعين أسبوعا كان يقدّر طوافه في اليوم عشرة فراسخ.
والبيت في حلية الأولياء (5/ 81 - 82)، وفي ترجمة كرز بن وبرة
الحارثي، وبعده:
قد حال دون لذيذ العيش حدهما ... وشمّرا في طلاب الفوز والكرم
(2) البيت في ديوانه (31)، وفي شرح المعلقات العشر (73)، وهو
من معلقته. الإرقال: دون العدو وفوق السير.
(1/112)
إذا شئت غنّتني بأجزاع بيشة ... أو الزّرق
من تثليث أو بيلملما
مطوّقة ورقاء تسجع كلّما ... دنا الصّيف وانجاب الرّبيع فأنجما
«1»
وقول البحتريّ: [من الطويل]
إذا شاء غادى صرمة، أو غدا على ... عقائل سرب، أو تقنّص ربربا
«2»
وقوله: [من الكامل]
لو شئت عدت بلاد نجد عودة، ... فحللت بين عقيقه وزروده «3»
معلوم أنك لو قلت: «وإن شئت أن لا ترقل لم ترقل»، أو قلت: «إذا
شئت أن تغنّيني بأجزاع بيشة غنّتني»، و «إذا شاء أن يغادي صرمة
غادى»، و «لو شئت أن تعود بلاد نجد
عودة عدتها» أذهبت الماء والرّونق، وخرجت إلى كلام غثّ، ولفظ
رثّ.
- وأمّا قول الجوهريّ: [من الطويل]
فلم يبق منّي الشّوق غير تفكّري، ... فلو شئت أن أبكي بكيت
تفكّرا «4»
فقد نحا به نحو قوله: «ولو شئت أن أبكي دما لبكيته»، فأظهر
مفعول «شئت»، ولم يقل: «فلو شئت بكيت تفكرا»، لأجل أن له غرضا
لا يتمّ إلّا بذكر المفعول. وذلك أنه لم يرد أن يقول: «ولو شئت
أن أبكى تفكّرا بكيت كذلك»، ولكنه أراد أن يقول: قد أفناني
النحول، فلم يبق منّي وفيّ غير خواطر تجول، حتى لو شئت بكاء
فمريت «5» شئوني، وعصر عيني ليسيل منها دمع لم أجده، ولخرج بدل
الدمع التّفكّر. فالبكاء الذي أراد إيقاع المشيئة عليه مطلق
مبهم غير معدّى إلى «التفكر» البتة، و «البكاء» الثاني مقيّد
معدّى إلى التفكر. وإذا كان الأمر كذلك،
__________
(1) البيتان في ديوانه، وهما في الأغاني (4/ 349)، ويروى البيت
الأول في الأغاني: «من يلملما» بدل «أو بيلملما». الأجزاع: جمع
جزعة، وهي الرملة الطيبة المنبت لا وعوثة فيها. بيشة: اسم قرية
غناء في واد كثير الأهل من بلاد اليمن. التثليث: موضع بالحجاز
قرب مكة.
(2) البيت في ديوانه. الصّرمة: القطعة من الإبل قيل: هي ما بين
العشرين إلى الثلاثين، وقيل: هي ما بين الثلاثين إلى الخمسين
والأربعين، فإذا بلغت الستين فهي الصّدعة، وقيل: هي ما بين
عشرة إلى بضع عشرة. وعقائل السرب: كرائمه، الربرب: قطيع البقر
الوحشي.
(3) البيت للبحتري في ديوانه، وهو في مفتاح العلوم (334)،
والإيضاح (111). العقيق وزرود:
موضعان، والمخاطب في البيت السحاب.
(4) الجوهري: هو أبو الحسن علي بن أحمد الجوهري الجرجاني من
شعراء الصاحب بن عباد.
(5) مريت: مرى الناقة يمريها مسح ضرعها فأمرت هي در لبنها
«القاموس: مرى» (1719).
(1/113)
صار الثاني كأنّه شيء غير الأوّل، وجرى
مجرى أن تقول: «لو شئت أن تعطي درهما أعطيت درهمين»، في أن
الثاني لا يصلح أن يكون تفسيرا للأوّل.
واعلم أن هذا الذي ذكرنا ليس بصريح: «أكرمت وأكرمني عبد الله»،
ولكنه شبيه به في أنه إنّما حذف الذي حذف من مفعول «المشيئة» و
«الإرادة»، لأنه الذي يأتي في جواب «لو» وأخواتها يدلّ عليه.
وإذا أردت ما هو صريح في ذلك، ثمّ هو نادر لطيف ينطوي على معنى
دقيق وفائدة جليلة، فانظر إلى بيت البحتري: [من الخفيف]
قد طلبنا فلم نجد لك في السّؤ ... دد والمجد والمكارم مثلا «1»
المعنى: قد طلبنا لك مثلا؛ ثم حذف، لأن ذكره في الثاني يدلّ
عليه، ثمّ إنّ للمجيء به كذلك من الحسن والمزيّة والرّوعة ما
لا يخفى. ولو أنه قال: «قد طلبنا لك في السؤدد والمجد والمكارم
مثلا فلم نجده»، لم تر من هذا الحسن الذي تراه شيئا. وسبب ذلك
أن الذي هو الأصل في المدح والغرض بالحقيقة، هو نفي الوجود عن
«المثل»، فأما «الطّلب»، فكالشيء يذكر ليبنى عليه الغرض ويؤكّد
به أمره. وإذا كان هذا كذلك، فلو أنه قال: «قد طلبنا لك في
السؤدد والمجد والمكارم مثلا فلم نجده»، لكان يكون قد ترك أن
يوقع نفي الوجود على صريح لفظ «المثل»، وأوقعه على ضميره. ولن
تبلغ الكناية مبلغ التّصريح أبدا.
ويبيّن هذا، كلام ذكره أبو عثمان الجاحظ في كتاب البيان
والتبيين «2»، وأنا أكتب لك الفصل حتى تستبين الذي هو المراد،
قال:
«والسّنة في خطبة النكاح أن يطيل الخاطب ويقصّر المجيب، ألا
ترى أن قيس ابن خارجة بن سنان لمّا ضرب بسيفه مؤخرة راحلة
الحاملين في شأن حمالة داحس والغبراء وقال: ما لي فيها أيّها
العشمتان «3»؟ قالا: بل ما عندك؟ قال: عندي قرى كلّ نازل، ورضى
كلّ ساخط، وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب، آمر فيها
بالتواصل، وأنهى فيها عن التقاطع قالوا: فخطب يوما إلى الليل،
فما أعاد كلمة ولا معنى. فقيل لأبي يعقوب «4»: هلّا اكتفى
بالأمر بالتواصل، عن النهي عن التقاطع؟ أو
__________
(1) قاله البحتري في مدح المعتز. اه الديوان (1/ 156).
(2) انظر النص في البيان والتبيين 1/ 116.
(3) العشمة الشيخ الفاني ا. هـ القاموس:/ عشم/ (1469).
(4) وهو الشاعر الخريم الذي تقدم ذكره.
(1/114)
ليس الأمر بالصّلة هو النّهي عن القطيعة؟
قل: أو ما علمت أن الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل
الإفصاح والتكشيف» «1».
انتهى الفصل الذي أردت أن أكتبه. فقد بصّرك هذا أن لن يكون
إيقاع نفي الوجود على صريح لفظ المثل، كإيقاعه على ضميره.
وإذ قد عرفت هذا، فإنّ هذا المعنى بعينه قد أوجب في بيت ذي
الرّمة أن يضع اللفظ على عكس ما وضعه البحتري «2»، فيعمل الأول
من الفعلين، وذلك قوله: [من الوافر]
ولم أمدح لأرضيه بشعري ... لئيما، أن يكون أصاب مالا «3»
أعمل «لم أمدح»، الذي هو الأول، في صريح لفظ «اللئيم»، و
«أرضى»، الذي هو الثاني، في ضميره. وذلك لأن إيقاع نفي المدح
على اللّئيم صريحا، والمجيء به مكشوفا ظاهرا، هو الواجب من حيث
كان أصل الغرض، وكان الإرضاء تعليلا له. ولو أنه قال: «ولم
أمدح لأرضي بشعري لئيما»، لكان يكون قد أبهم الأمر فيما هو
الأصل، وأبانه فيما ليس بالأصل، فاعرفه.
ولهذا الذي ذكرنا من أن للتّصريح عملا لا يكون مثل ذلك العمل
للكناية، كان لإعادة اللفظ في مثل قوله تعالى: وَبِالْحَقِّ
أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [الإسراء:
105]، وقوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ
الصَّمَدُ [الإخلاص: 1 - 2]، من الحسن والبهجة، ومن الفخامة
والنّبل، ما لا يخفى موضعه على بصير. وكان لو ترك فيه الإظهار
إلى الإضمار فقيل: «وبالحق أنزلناه وبه نزل»: و «قل هو الله
أحد هو الصمد» لعدمت الذي أنت واجده الآن.
__________
(1) في البيان والتبيين الكشف.
(2) المقصود به البيت السابق.
(3) البيت لذي الرمة في ديوانه (200)، ورواية الديوان هي:
ولست بمادح أبدا لئيما ... بشعري أن يكون أفاد مالا
والبيت من قصيدة يمدح فيها بلال بن أبي بردة، وهو في الإيضاح
(113)، والمراد أنه لا يمدح اللئام من الناس ولو كانوا أثرياء.
(1/115)
|