دلائل الإعجاز ت هنداوي فصل هذا فنّ من المجاز لم نذكره فيما تقدّم
اعلم أن طريق المجاز والاتساع في الذي ذكرناه قبل، أنك ذكرت
الكلمة وأنت لا تريد معناها، ولكن تريد معنى ما هو ردف له أو
شبيه، فتجوّزت بذلك في ذات الكلمة وفي اللفظ نفسه. وإذا قد
عرفت ذلك فاعلم أن في الكلام مجازا على غير هذا السبيل، وهو أن
يكون التجوّز في حكم يجرى على الكلمة فقط، وتكون الكلمة
__________
(1) الوقر: الحمل الثقيل. القاموس/ وقر/ (635).
(2) التبر: الذهب والفضة قبل أن يصاغا. القاموس/ تبر/ (454).
(3) التومة: اللؤلؤة. اللسان/ توم/ (12/ 74).
(1/191)
متروكة على ظاهرها، ويكون معناها مقصودا في
نفسه ومرادا من غير تورية ولا تعريض.
والمثال فيه قولهم: «نهارك صائم وليلك قائم» و «نام ليلي
وتجلّى همي»، وقوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ
[البقرة: 16]، وقول الفرزدق: [من الطويل]
سقتها خروق في المسامع، لم تكن ... علاطا، ولا مخبوطة في
الملاغم «1»
أنت ترى مجازا في هذا كلّه، ولكن لا في ذوات الكم وأنفس
الألفاظ، ولكن في أحكام أجريت عليها. أفلا ترى أنّك لم تتجوّز
في قولك: «نهارك صائم، وليلك قائم» في نفس «صائم» و «قائم»،
ولكن في أن أجريتهما خبرين على النهار والليل.
وكذلك ليس المجاز في الآية في لفظة «ربحت» نفسها، ولكن في
إسنادها إلى التجارة.
وهكذا الحكم في قوله: «سقتها خروق» ليس التجوز في نفس «سقتها»،
ولكن في أن أسندها إلى الخروق. أفلا ترى أنك لا ترى شيئا منها
إلا وقد أريد به معناه الذي وضع له على وجهه وحقيقته، فلم يرد
بصائم غير الصوم، ولا بقائم غير القيام، ولا بربحت غير الرّبح،
ولا بسقت غير السقي، كما أريد «بسالت» في قوله: [من الطويل]
وسالت بأعناق المطيّ الأباطح «2» غير السّيل.
واعلم أن الذي ذكرت لك في المجاز هناك، من أن من شأنه أن يفخم
عليه المعنى وتحدث فيه النباهة، قائم لك مثله هاهنا، فليس
يشتبه على عاقل أن ليس حال المعنى وموقعه في قوله: [من الرجز]
فنام ليلي وتجلّى همّي «3» كحاله وموقعه إذا أنت تركت المجاز
وقلت: «فنمت في ليلي وتجلّى همي»، كما لم يكن الحال في قولك:
«رأيت أسدا»، كالحال في «رأيت رجلا كالأسد».
ومن الذي يخفى عليه مكان العلوّ وموضع المزية وصورة الفرقان
بين قوله تعالى:
فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ، وبين أن يقال: «فما ربحوا في
تجارتهم؟».
__________
(1) البيت ليس في ديوانه، لكنه في الكامل للمبرد (؟ / 128).
الملاغم: ما حول الفم مما يبلغه اللسان ويصل إليه، من اللغام
وهو زبد أفواه الإبل.
(2) البيت في اللسان مادة/ طرق/ (9/ 218) من غير نسبة.
(3) البيت لرؤبة في ديوانه (142)، من قصيدة في مدح الحارث بن
سليم من آل عمرو، وتمامه، والبيت قبله:
ورقاء دمى ذئبها المدمي ... حارث قد فرجت عني غمي
................ .. ... وقد تجلى كرب المحتم
(1/192)
وإن أردت أن تزداد للأمر تبيّنا، فانظر إلى
بيت الفرزدق: [من الكامل]
يحمي إذا اخترط السّيوف نساءنا ... ضرب تطير له السّواعد أرعل
«1»
وإلى رونقه ومائه، وإلى ما عليه من الطّلاوة. ثم ارجع إلى الذي
هو الحقيقة وقل: «نحمي إذا اخترط السيوف نساءنا بضرب تطير له
السواعد أرعل»، ثم اسبر حالك؟ هل ترى مما كنت تراه شيئا؟
وهذا الضرب من المجاز على حدته كنز من كنوز البلاغة، ومادّة
الشاعر المفلق والكاتب البليغ في الإبداع والإحسان، والاتساع
في طرق البيان، وأن يجيء بالكلام مطبوعا مصنوعا، وأن يضعه بعيد
المرام، قريبا من الأفهام. ولا يغرّنّك من أمره أنك ترى الرجل
يقول: «أتى بي الشوق إلى لقائك، وسار بي الحنين إلى رؤيتك،
وأقدمني بلدك حقّ لي على إنسان»، وأشباه ذلك مما تجده لسعته
وشهرته يجري مجرى الحقيقة التي لا يشكل أمرها، فليس هو كذلك
أبدا، بل يدقّ ويلطف حتى يمتنع مثله إلا على الشاعر المفلق،
والكاتب البليغ، وحتى يأتيك بالبدعة لم تعرفها، والنادر تأنق
لها.
وجملة الأمر أن سبيله سبيل الضّرب الأول الذي هو مجاز في نفس
اللفظ وذات الكلمة، فكما أنّ من الاستعارة والتمثيل عاميّا
مثل: «رأيت أسدا» و «وردت بحرا»، و «شاهدت بدرا»، و «سلّ من
رأيه سيفا ماضيا»، وخاصيّا لا يكمل له كلّ أحد، مثل قوله:
وسالت بأعناق المطيّ الأباطح كذلك الأمر في هذا المجاز
الحكميّ.
واعلم أنه ليس بواجب في هذا أن يكون للفعل فاعل في التقدير إذا
أنت نقلت الفعل إليه عدت به إلى الحقيقة، مثل أنك تقول في:
رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة:
16]، «ربحوا في تجارتهم»، وفي «يحمي نساءنا ضرب»، «نحمي نساءنا
بضرب» فإن ذلك لا يتأتى في كل شيء. ألا ترى أنّه لا يمكنك أن
تثبت للفعل في قولك:
«أقدمني بلدك حقّ لي على إنسان»، فاعلا سوى الحق، وكذلك لا
تستطيع في قوله:
[من مجزوء الوافر]
__________
(1) البيت في ديوانه (155) (ط) دار صادر، بيروت، وقبله:
والمانعون إذا النساء ترادفت ... حذر السباء جمالها لا ترحل
أرعل: مسترخ مائل.
(1/193)
وصيّرني هواك وبي ... لحيني يضرب المثل «1»
وقوله: [من مجزوء الوافر]
يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا «2»
أن تزعم أنّ «لصيّرني» فاعلا قد نقل عنه الفعل، فجعل «للهوى»
كما فعل ذلك في «ربحت تجارتهم» و «يحمي نساءنا ضرب»، ولا
تستطيع كذلك أن تقدر «ليزيد» في قوله: «يزيدك وجهه» فاعلا غير
«الوجه»، فالاعتبار إذن بأن يكون المعنى الذي يرجع إليه الفعل
موجودا في الكلام على حقيقته.
معنى ذلك أن «القدوم» في قولك» «أقدمني بلدك حقّ لي على
إنسان»، موجود على الحقيقة، وكذلك «الصيرورة» في قوله:
«وصيّرني هواك»، و «الزيادة» في قوله:
«يزيدك وجهه» موجودا على الحقيقة، وإذا كان معنى اللفظ موجودا
على الحقيقة، لم يكن المجاز فيه نفسه، وإذا لم يكن المجاز في
نفس اللفظ، كان لا محالة في الحكم. فاعرف هذه الجملة، وأحسن
ضبطها، حتى تكون على بصيرة من الأمر.
ومن اللطيف في ذلك قول حاجز بن عوف: [من الوافر]
أبي عبر الفوارس يوم داج ... وعمّي مالك وضع السّهاما
فلو صاحبتنا لرضيت منّا ... إذا لم تغبق المائة الغلاما «3»
يريد إذا كان العام عام جدب وجفّت ضروع الإبل، وانقطع الدّر،
حتى إن حلب منها مائة لم يحصل من لبنها ما يكون غبوق غلام
واحد. فالفعل الذي هو «غبق» مستعمل في نفسه على حقيقته، غير
مخرج عن معناه وأصله إلى معنى شيء آخر، فيكون قد دخله مجاز في
نفسه، وإنّما المجاز في أن أسند إلى الإبل وجعل فعلا لها،
وإسناد الفعل إلى الشّيء حكم في الفعل، وليس هو نفس معنى
الفعل، فاعرفه.
واعلم أن من سبب اللّطف في ذلك أنه ليس كلّ شيء يصلح لأن
يتعاطى فيه
__________
(1) البيت سبق في عدة أبيات لابن البواب.
(2) البيت لأبي نواس في ديوانه (235) (ط) بيروت، والإيضاح
(36)، ونهاية الإيجاز (177) بلا عزو، والمفتاح (805)، والطيبي
في التبيان (1/ 322)، وأورده صاحب الأغاني (25/ 41).
(3) حاجز بن عوف بن الحارث الأزدي، جاهلي، صعلوك، عدّاء،
والرواية في الأغاني (13/ 235)، «أبي ربع الفوارس ... » أي:
أخذ ربع الغنائم، وأما عبر الفوارس كما هنا فهي بمعنى، استدل
لهم حتى يعرف من أمرهم ما يعنيه.
(1/194)
هذا المجاز الحكميّ بسهولة، بل تجدك في
كثير من الأمر، وأنت تحتاج إلى أن تهيّئ الشيء وتصلحه لذلك،
بشيء تتوخّاه في النظم. وإن أردت مثالا في ذلك فانظر إلى قوله:
[من الطويل]
تناس طلاب العامريّة إذ نأت ... بأسجح «1» مرقال «2» الضّحى
قلق الضّفر «3»
إذا ما أحسّته الأفاعي تحيّزت ... شواة «4» الأفاعي من مثلّمة
سمر «5»
تجوب له الظّلماء عين كأنّها ... زجاجة شرب «6» غير ملأى ولا
صفر
يصف جملا، ويريد أنّه يهتدي بنور عينه في الظلماء، ويمكنه بها
أن يخرقها ويمضي فيها، ولولاها لكانت الظلماء كالسّد والحاجز
الذي لا يجد شيئا يفرجه به، ويجعل لنفسه فيه سبيلا. فأنت الآن
تعلم أنه لولا أن قال: «تجوب له»: فعلّق «له» تجوب، ولما صلحت
«العين» لأن يسند «تجوب» إليها، ولكان لا تتبيّن جهة التجوّز
في جعل «تجوب» فعلا للعين كما ينبغي. وكذلك تعلم أنه لو قال
مثلا:
«تجوب له الظلماء عينه»، لم يكن له هذا الموقع، ولاضطرب عليه
معناه، وانقطع السّلك من حيث كان يعييه حينئذ أن يصف العين بما
وصفها به الآن. فتأمل هذا واعتبره. فهذه التهيئة وهذا
الاستعداد في هذا المجاز الحكمي، نظير أنك تراك في الاستعارة
التي هي مجاز في نفس الكلمة وأنت تحتاج في الأمر الأكثر إلى أن
تمهّد لها وتقدّم أو تؤخّر ما يعلم به أنك مستعير ومشبّه،
ويفتح طريق المجاز إلى الكلمة.
ألا ترى إلى قوله: [من الطويل]
وصاعقة من نصله ينكفي بها ... على أرؤس الأقران خمس سحائب «7»
__________
(1) الأسجح: ليّن الخد والحسن المعتدل. اللسان/ سجح/ (2/ 475).
(2) المرقال: تقول ناقة مرقال: مسرعة. اه القاموس/ رقل/
(1302).
(3) الضفر: ما يشربه البعير من مضفور (الحبل). اه القاموس/
ضفر/ (551).
(4) الشواة: قحف الرأس. اه القاموس/ شوى/ (1678).
(5) المثلمة السمر: هي الأخفاف المقطعة من كثرة المشي.
(6) شرب: القوم الشاربون.
(7) البيت للبحتري في ديوانه (1/ 179)، والإيضاح (261)،
والمفتاح (484)، وأورده الطيبي في التبيان (1/ 300)، وعزاه
للبحتري، وفي شرحه على مشكاة المصابيح (1/ 117)، والعلوي في
الطراز (1/ 231)، ورواية الديوان:
وصاعقة من كفه ينكفي بها ... على أرؤس الأعداء خمسة سحائب
ويريد بخمس سحائب: الأنامل.
(1/195)
عنى بخمس السحائب، أنامله، ولكنه لم يأت
بهذه الاستعارة دفعة، ولم يرمها إليك بغتة، بل ذكر ما ينبئ
عنها، ويستدلّ بها عليه، فذكر أن هناك صاعقة، وقال:
«من نصله»، فبيّن أن تلك الصاعقة من نصل سيفه ثم قال: «أرؤس
الأقران»، ثم قال: «خمس»، فذكر «الخمس» التي هي عدد أنامل
اليد، فبان من مجموع هذه الأمور غرضه.
وأنشدوا لبعض العرب: [من الرجز]
فإن تعافوا العدل والإيمانا ... فإنّ في أيماننا نيرانا «1»
يريد أن في أيماننا سيوفا نضربكم بها، ولولا قوله أولا: «فإن
تعافوا العدل والإيمان»، وأن في ذلك دلالة على أنّ جوابه أنهم
يحاربون ويقسرون على الطاعة بالسيف، ثم قوله: «فإن في
أيماننا»، لما عقل مراده، ولما جاز له أن يستعير النيران
للسيوف، لأنه كان لا يعقل الذي يريد، لأنّا وإن كنا نقول: «في
أيديهم سيوف تلمع كأنها شعل نار» كما قال: [من الكامل]
ناهضتهم والبارقات كأنّها ... شعل على أيديهم تتلهب «2»
فإن هذا التشبيه لا يبلغ مبلغ ما يعرف مع الإطلاق، كمعرفتنا
إذا قال: «رأيت أسدا»، أنه يريد الشجاعة، وإذا قال: «لقيت شمسا
وبدرا»، أنه يريد الحسن ولا يقوي تلك
القوة، فاعرفه.
ومما طريق المجاز فيه الحكم، قول الخنساء: [من البسيط]
ترتع ما رتعت، حتّى إذا ادّكرت ... فإنّما هي إقبال وإدبار «3»
وذاك أنها لم ترد بالإقبال والإدبار غير معناهما، فتكون قد
تجوّزت في نفس الكلمة، وإنما تجوّزت في أن جعلتها لكثرة ما
تقبل وتدبر، ولغلبة ذاك عليها واتّصاله منها، وأنه لم يكن لها
حال غيرهما، كأنها قد تجسّمت من الإقبال والإدبار. وإنّما
__________
(1) البيت في الإيضاح (260) ط، دار الكتب العلمية، بيروت، بلا
نسبة، والمعنى: أن سيوفا تلمع كأنها شعل نيران.
(2) البيت للبحتري في الإيضاح (261)، والخطاب: للممدوح.
(3) البيت في ديوانها (39) ط، دار الكتب العلمية، بيروت،
وقبله:
وما عجول على بقر تطيف به ... لها حنينان: إعلان وإسرار
إقبال وإدبار: أي لا تنفك كقبل وتدبر كأنها خلقت منها.
(1/196)
كان يكون المجاز في نفس الكلمة، لو أنها
كانت قد استعارت «الإقبال والإدبار» لمعنى غير معناهما الذي
وضعا له في اللّغة. ومعلوم أن ليس الاستعارة مما أرادته في
شيء.
واعلم أن ليس بالوجه أن يعدّ هذا على الإطلاق معدّ ما حذف منه
المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، مثل قوله عز وجل: وَسْئَلِ
الْقَرْيَةَ [يوسف: 82]، ومثل قوله النابغة الجعدي: [من
المتقارب]
وكيف تواصل من أصبحت ... خلالته كأبي مرحب «1»
وقول الأعرابيّ: [من الوافر]
حسبت بغام راحلتي عناقا ... وما هي ويب غيرك بالعناق «2»
وإن كنا نراهم يذكرونه حيث يذكرون حذف المضاف، ويقولون إنه في
تقدير: «فإنما هي ذات إقبال وإدبار»، ذاك لأن المضاف المحذوف
من نحو الآية والبيتين، في سبيل ما يحذف من اللفظ ويراد في
المعنى، كمثل أن يحذف خبر المبتدأ والمبتدأ، إذا دلّ الدليل
عليه إلى سائر ما إذا حذف كان في حكم المنطوق به.
وليس الأمر كذلك في بيت الخنساء، لأنا إذا جعلنا المعنى فيه
الآن كالمعنى إذا نحن قلنا: «فإنما هي ذات إقبال وإدبار»،
أفسدنا الشعر على أنفسنا، وخرجنا إلى شيء مغسول، وإلى كلام
عاميّ مرذول، وكان سبيلنا سبيل من يزعم مثلا في بيت المتنبي:
[من الوافر]
بدت قمرا، ومالت خوط بان، ... وفاحت عنبرا، ورنت غزالا «3»
__________
(1) البيت: للنابغة الجعدي (الديوان 26)، وفي اللسان مادة/
خلل/ (11). الخلالة: الصداقة- أبو مرحب: كنية الذئب.
(2) الشعر لذي الخرق الطهوي يخاطب الذئب. في نوادر أبي زيد
(116)، ومجالس ثعلب (76، 185)، يقولها لذئب تبعه في طريقه وقبل
البيت:
ألم تعجب لذئب بات يسري ... ليؤذن صاحبا له باللحاق
والبغام: صوت الظبية والناقة وحنينها، والعناق: أنثى المعز،
قال الأستاذ محمود شاكر في هامش نسخته: ومن هامش المطبوعة بخط
الناسخ ما نصه: «يخاطب ذئبا أي: حسبت ناقتي عناقا وبغامها بغام
عناق».
(3) البيت في ديوانه (1/ 184)، من قصيدة قالها في مدح أبي
الحسين بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني وبعده:
وجارت في الحكومة ثم أبدت ... لنا من حسن قامتها اعتدالا
بدت: ظهرت. الخوط: الغصن الناعم. رنت: نظرت. والبيت في الإيضاح
(229) ط، دار الكتب العلمية، بيروت.
(1/197)
أنّه في تقدير محذوف، وأن معناه الآن
كالمعنى إذا قلت: «بدت مثل قمر، ومالت مثل خوط بان، وفاحت مثل
عنبر، ورنت مثل غزال»، في أنّا نخرج إلى الغثاثة، وإلى شيء
يعزّل البلاغة عن سلطانها ويخفض من شأنها، ويصدّ أوجهنا عن
محاسنها، ويسدّ باب المعرفة بها وبلطائفها علينا.
فالوجه أن يكون تقدير المضاف في هذا على معنى أنّه لو كان
الكلام قد جيء به على ظاهره ولم يقصد إلى الذي ذكرنا من
المبالغة والاتساع، وأن تجعل الناقة كأنها قد صارت بجملتها
إقبالا وإدبارا، حتى كأنها قد تجسّمت منهما، لكان حقّه حينئذ
أن يجاء فيه بلفظ «الذات» فيقال: «إنما هي ذات إقبال وإدبار».
فأمّا أن يكون الشعر الآن موضوعا على إرادة ذلك وعلى تنزيله
منزلة المنطوق به حتّى يكون الحال فيه كالحال في:
حسبت بغام راحلتي عناقا حين كان المعنى والقصد أن يقول: «حسبت
بغام راحلتي بغام عناق»، فمما لا مساغ له عند من كان صحيح
الذوق صحيح المعرفة، نسّابة للمعاني.
فصل
هذه مسألة قد كنت عملتها قديما، وقد كتبتها هاهنا لأن لها
اتصالا بهذا الذي صار بنا القول إليه. قوله تعالى: إِنَّ فِي
ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق:
37]، أي لمن أعمل قلبه فيما خلق القلب له من التدبّر والتفكّر
والنّظر فيما ينبغي أن ينظر فيه. فهذا على أن يجعل الذي لا يعي
ولا يسمع ولا ينظر ولا يتفكّر، كأنه قد عدم القلب من حيث عدم
الانتفاع به، وفاته الذي هو فائدة القلب والمطلوب منه، كما
يجعل الذي لا ينتفع ببصره وسمعه ولا يفكر فيما يؤدّيان إليه،
ولا يحصل من رؤية ما يرى وسماع ما يسمع على فائدة، بمنزلة من
لا سمع له ولا بصر.
فأما تفسير من يفسّره على أنه بمعنى «من كان له عقل»، فإنه
إنما يصحّ على أن يكون قد أراد الدّلالة على الغرض على الجملة.
فأما أن يؤخذ به على هذا الظاهر حتى كأن «القلب» اسم «للعقل»،
كما يتوهمه الحشو ومن لا يعرف مخارج الكلام، فمحال باطل، لأنه
يؤدي إلى إبطال الغرض من الآية، وإلى تحريف الكلام عن صورته،
وإزالة المعنى عن جهته. وذاك أنّ المراد به الحثّ على النّظر،
والتقريع على تركه، وذمّ من يخل به ويعقل عنه. ولا يحصل ذلك
إلا بالطّريق الذي قدّمته، وإلّا بأن يكون
(1/198)
قد جعل من لا يفقه بقلبه ولا ينظر ولا يتفكّر، كأنه ليس بذي
قلب، كما يجعل كأنه جماد، وكأنه ميّت لا يشعر ولا يحسّ وليس
سبيل من فسّر «القلب» هاهنا على «العقل»، إلّا سبيل من فسّر
عليه «العين» و «السمع» في قول الناس: «هذا بيّن لمن كانت له
عين، ولمن كان له سمع»، وفسّر «العمى» و «الصّمم» و «الموت» في
صفة من يوصف بالجهالة، على مجرّد الجهل، وأجرى جميع ذلك على
الظّاهر، فاعرفه.
ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم، أن يوهموا أبدا في
الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل، أنها على ظواهرها،
فيفسدوا المعنى بذلك، ويبطلوا الغرض، ويمنعوا أنفسهم والسامع
منهم العلم بموضع البلاغة، وبمكان الشّرف. وناهيك بهم إذا هم
أخذوا في ذكر الوجوه، وجعلوا يكثرون في غير طائل، هناك ترى ما
شئت من باب جهل قد فتحوه، وزند ضلالة قد قدحوا به، ونسأل الله
تعالى العصمة والتوفيق. |