دلائل الإعجاز ت هنداوي فصل في نكتة تتّصل بالكلام الذي تضعه «بما»
و «إلّا»
اعلم أن الذي ذكرناه من أنك تقول: «ما ضرب إلا عمرو زيدا»،
فتوقع الفاعل والمفعول جميعا بعد «إلّا»، ليس بأكثر الكلام،
وإنما الأكثر إن تقدّم المفعول على «إلا»، نحو: «ما ضرب زيدا
إلّا عمرو»، حتّى أنهم ذهبوا فيه أعني في قولك: «ما ضرب إلّا
عمرو زيدا» إلى أنّه على كلامين، وأنّ «زيدا» منصوب بفعل مضمر،
حتى كأنّ المتكلّم بذلك أبهم في أوّل أمره فقال: «ما ضرب إلّا
عمرو» ثم قيل له: «من ضرب؟» فقال: «ضرب زيدا».
وهاهنا، إذا تأملت، معنى لطيف يوجب ذلك، وهو أنّك إذا قلت: «ما
ضرب زيدا إلّا عمرو»، كان غرضك أن تختصّ «عمرا» «بضرب» «زيد»،
لا بالضرب على الإطلاق. وإذا كان كذلك، وجب أن تعدّي الفعل إلى
المفعول من قبل أن تذكر «عمرا» الذي هو الفاعل، لأن السامع لا
يعقل عنك أنك اختصصته بالفعل معدّى حتى تكون قد بدأت فعدّيته
أعني لا يفهم عنك أنك أردت أن تختصّ «عمرا» بضرب «زيد»، حتى
تذكره له معدّى إلى «زيد»، فأمّا إذا ذكرته غير معدّى فقلت:
«ما ضرب إلّا عمرو»، فإنّ الذي يقع في نفسه أنك أردت أن تزعم
أنّه لم يكن من أحد غير «عمرو» ضرب، وأنه ليس هاهنا مضروب إلّا
وضاربه عمرو، فاعرفه أصلا في شأن التقديم والتأخير.
فصل [من إنّما]
إن قيل: قد مضيت في كلامك كلّه على أنه «إنّما» للخبر لا يجهله
المخاطب، ولا يكون ذكرك له لأن تفيده إياه، وإنّا لنراها في
كثير من الكلام، والقصد بالخبر بعدها أن تعلم السامع أمرا قد
غلط فيه بالحقيقة، واحتاج إلى معرفته، كمثل ما ذكرت في أوّل
الفصل الثاني من قولك: «إنّما جاءني زيد لا عمرو»، وتراها كذلك
تدور في الكتب للكشف عن معان غير معلومة، ودلالة المتعلّم منها
على ما لا يعلم.
قيل: أمّا ما يجيء في الكلام من نحو: «إنما جاء زيد لا عمرو»،
فإنه وإن كان يكون إعلاما لأمر لا يعلمه السامع، فإنه لا بدّ
مع ذلك من أن يدّعى هناك فضل
(1/228)
انكشاف وظهور في أن الأمر كالذي ذكر. وقد
قسّمت في أول ما افتتحت القول فيها فقلت: «إنّها تجيء للخبر لا
يجهله السامع ولا ينكر صحّته، أو لما ينزّل هذه المنزلة».
وأمّا ما ذكرت من أنها تجيء في الكتب لدلالة المتعلم على ما لم
يعلمه، فإنك إذا تأملت مواقعها وجدتها في الأمر الأكثر قد جاءت
لأمر قد وقع العلم بموجبه وبشيء يدلّ عليه.
مثال ذلك: أن صاحب الكتاب قال في باب «كان»:
«إذا قلت: كان زيد، فقد ابتدأت بما هو معروف عنده مثله عندك،
وإنّما ينتظر الخبر. فإذا قلت: «حليما»، فقد أعلمته مثل ما
علمت. وإذا قلت: «كان حليما»، فإنما ينتظر أن تعرّفه صاحب
الصفة» «1».
وذاك أنّه إذا كان معلوما أنه لا يكون مبتدأ من غير خبر، ولا
خبر من غير مبتدأ، كان معلوما أنك إذا قلت: «كان زيد» فالمخاطب
ينتظر الخبر، وإذا قلت:
«كان حليما»، أنه ينتظر الاسم، فلم يقع إذن بعد «إنّما» إلّا
شيء كان معلوما للسامع من قبل أن ينتهي إليه.
وممّا الأمر فيه بيّن، قوله في باب «ظننت»:
«وإنما تحكي بعد «قلت» ما كان كلاما لا قولا» «2».
وذلك أنه معلوم أنّك لا تحكي بعد «قلت»، إذا كنت تنحو نحو
المعنى، إلّا ما كان جملة مفيدة، فلا تقول: «قال فلان زيد»
وتسكت، اللهمّ إلا أن تريد أنّه نطق بالاسم على هذه الهيئة،
كأنك تريد أنه ذكره مرفوعا.
ومثل ذلك قولهم: «إنّما يحذف الشيء إذا كان في الكلام دليل
عليه»، إلى أشباه ذلك مما لا يحصى، فإن رأيتها قد دخلت على
كلام هو ابتداء إعلام بشيء لم يعلمه السامع، فلأنّ الدليل عليه
حاضر معه، والشيء بحيث يقع العلم به عن كثب.
واعلم أنّه ليس يكاد ينتهي ما يعرض بسبب هذا الحرف «3» من
الدقائق.
وممّا يجب أن يعلم: أنه إذا كان الفعل بعدها فعلا لا يصحّ إلّا
من المذكور ولا يكون من غيره، كالتذكّر الذي يعلم أنه لا يكون
إلّا من أولي الألباب لم يحسن العطف «بلا» فيه، كما يحسن فيما
لا يختصّ بالمذكور ويصحّ من غيره.
__________
(1) انظر الكتاب لسيبويه (1/ 47).
(2) انظر الكتاب لسيبويه (1/ 62).
(3) الحرف: هو «إنما».
(1/229)
تفسير هذا: أنّه لا يحسن أن تقول: «إنّما
يتذكّر أولو الألباب لا الجهال»، كما يحسن أن تقول: «إنّما
يجيء زيد لا عمرو».
ثم إنّ النّفي فيما نحن فيه، النّفي يتقدّم تارة ويتأخّر أخرى،
فمثال التأخير ما تراه في قولك: «إنما جاءني زيد لا عمرو»،
وكقوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 21، 22]، وكقول لبيد: [من الرمل] إنّما
يجزي الفتى ليس الجمل «1» ومثال التّقديم قولك: «ما جاءني زيد،
وإنّما جاءني عمرو»، وهذا ممّا أنت تعلم به مكان الفائدة فيها،
وذلك أنّك تعلم ضرورة أنك لو لم تدخلها وقلت: «ما جاءني زيد
وجاءني عمرو»، لكان الكلام مع من ظنّ أنهما جاءاك جميعا، وأن
المعنى الآن مع دخولها، أنّ الكلام مع من غلط في عين الجائي،
فظنّ أنه كان زيدا لا عمرا.
وأمر آخر، وهو ليس ببعيد: أن يظنّ الظانّ أنّه ليس في انضمام
«ما» إلى «إنّ» فائدة أكثر من أنّها تبطل عملها، حتى ترى
النحويين لا يزيدون في أكثر كلامهم على أنها «كافّة»، ومكانها
هاهنا يزيد هذا الظّن ويبطله. وذلك أنك ترى أنك لو قلت:
«ما جاءني زيد، وإنّ عمرا جاءني»، لم يعقل منه أنك أردت أن
الجائي «عمرو» لا «زيد»، بل يكون دخول «إنّ» كالشيء الذي لا
يحتاج إليه، ووجدت المعنى ينبو عنه.
ثم اعلم إذا استقريت وجدتها أقوى ما تكون وأعلق ما ترى بالقلب،
إذا كان لا يراد بالكلام بعدها نفس معناه، ولكن التعريض بأمر
هو مقتضاه، نحو أنّا نعلم أن ليس الغرض من قوله تعالى: إِنَّما
يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الرعد: 19] [الزمر: 9]، أن
يعلم السامعون ظاهر معناه، ولكن أن يذمّ الكفّار، وأن يقال
إنهم من فرط العناد ومن غلبة الهوى عليهم، في حكم من ليس بذي
عقل، وإنكم إن طمعتم منهم في أن ينظروا ويتذكّروا، كنتم كمن
طمع في ذلك من غير أولي الألباب. وكذلك قوله:
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 45]، وقوله
عز اسمه:
__________
(1) البيت للبيد بن أبي ربيعة العامري في ديوانه (145) من
طويلته اللامية الساكنة في رثاء أخيه وصدره:
فإذا جوزيت قرضا فاجزه ومطلع القصيدة:
إن تقوى ربنا خير نفل* وبإذن الله ريثي وعجل أحمد الله فلا ندّ
له* بيديه الخير ما شاء فعل الجمل: عنى به الجاهل.
(1/230)
إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [فاطر: 18]، المعنى على أنّ من لم تكن
له هذه الخشية، فهو كأنه ليس له إذن تسمع وقلب يعقل، فالإنذار
معه كلا إنذار.
ومثال ذلك من الشعر قوله: [من مجزوء الرمل]
أنا لم أرزق محبّتها، ... إنّما للعبد ما رزقا «1»
الغرض أن يفهمك من طريق التعريض أنه قد صار ينصح نفسه، ويعلم
أنه ينبغي له أن يقطع الطّمع من وصلها، وييأس من أن يكون منها
إسعاف.
ومن ذلك قوله: [من البسيط] وإنّما يعذر العشّاق من عشقا «2»
يقول: إنه ليس ينبغي للعاشق أن يلوم من يلومه في عشقه، وأنه
ينبغي أن لا ينكر ذلك منه، فإنه لا يعلم كنه البلوى في العشق،
ولو كان ابتلي به لعرف ما هو فيه فعذره.
وقوله: [من الكامل]
ما أنت بالسّبب الضّعيف، وإنّما ... نجح الأمور بقوّة الأسباب
فاليوم حاجتنا إليك، وإنّما ... يدعى الطّيب لساعة الأوصاب «3»
يقول في البيت الأول: إنه ينبغي أن أنجح في أمري حين جعلتك
السّبب إليه.
ويقول في الثاني: إنّا قد وضعنا الشيء في موضعه، وطلبنا الأمر
من جهته، حين استعنّا بك فيما عرض من الحاجة، وعوّلنا على
فضلك، كما أنّ من عوّل على الطبيب فيما يعرض له من السّقم، كان
قد أصاب بالتعويل موضعه، وطلب الشيء من معدنه.
ثم إنّ العجب في أنّ هذا التعريض الذي ذكرت لك، لا يحصل من دون
«إنما». فلو قلت: «يتذكر أولو الألباب»، لم يدلّ ما دلّ عليه
في الآية، وإن كان الكلام لم يتغيّر في نفسه، وليس إلّا أنه
ليس فيه «إنما».
__________
(1) البيت بلا نسبة في الإيضاح (130)، وشرح المرشدي على عقود
الجمان (1/ 145)، والمعنى:
أنه قد علم أن لا مطمع له في رحلها فيئس من أن يكون منها إسعاف
به.
(2) البيت في الإيضاح (130) بلا نسبة.
(3) البيتان في الإيضاح بلا نسبة (130)، ويقول في البيت الأول:
إنه ينبغي أن أنجح في أمري حين جعلتك السبب إليه، وفي الثاني:
إنا قد طلبنا الأمر من جهته حيث استعنا بك فيما عرض لنا من
الحاجة، وعولنا على فضلك، كما أن من عول على الطبيب فيما يعرض
له من السقم كان قد أصاب في فعله.
(1/231)
والسبب في ذلك أن هذا التعريض، إنّما وقع
بأن كان من شأن «إنّما» أن تضمّن الكلام معنى النفي من بعد
الإثبات، والتصريح بامتناع التذكّر ممن لا يعقل. وإذا أسقطت من
الكلام فقيل: «يتذكّر أولو الألباب»، كان مجرّد وصف لأولي
الألباب بأنهم يتذكّرون، ولم يكن فيه معنى نفي للتذكّر عمّن
ليس منهم. ومحال أن يقع تعريض لشيء ليس له في الكلام ذكر، ولا
فيه دليل عليه. فالتعريض بمثل هذا أعني بأن تقول: «يتذكّر أولو
الألباب» بإسقاط «إنما»، يقع إذن إن وقع، بمدح إنسان بالتيقّظ،
وبأنه فعل ما فعل، وتنبّه لما تنبّه له، لعقله ولحسن تمييزه،
كما يقال:
«كذلك يفعل العاقل»، و «هكذا يفعل الكريم».
وهذا موضع فيه دقّة وغموض، وهو مما لا يكاد يقع في نفس أحد
أنّه ينبغي أن يتعرّف سببه، ويبحث عن حقيقة الأمر فيه.
وممّا يجب لك أن تجعله على ذكر منك من معاني «إنما»، ما عرفتك
أوّلا من أنها قد تدخل في الشيء على أن يخيّل فيه المتكلم أنه
معلوم، ويدّعي أنه من الصحة بحيث لا يدفعه دافع، كقوله: [من
الخفيف] إنما مصعب شهاب من الله «1» ومن اللطيف في ذلك قول قتب
بن حصن: [من الطويل]
ألا أيّها النّاهي فزارة بعد ما ... أجدّت لغزو، إنّما أنت
حالم «2»
ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن اليهود: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا
تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ
[البقرة: 11]، دخلت «إنّما» لتدلّ على أنهم حين ادّعوا لأنفسهم
أنهم مصلحون، أظهروا أنهم يدّعون من ذلك أمرا ظاهرا معلوما،
ولذلك أكّد الأمر في تكذيبهم والردّ عليه، فجمع بين «ألا» الذي
هو للتنبيه، وبين «إنّ» الذي هو التأكيد، فقيل: أَلا إِنَّهُمْ
هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة: 12].
__________
(1) راجع ص (219) هامش (1).
(2) البيت لعويف بن معاوية بن عقبة بن حصن الفزاري، ويسمى عويف
القوافي لبيت قال فيه:
سأكذب من قد كان يزعم أنني ... إذا قلت قولا لا أجيد القوافيا
انظر الأغاني ترجمة عويف القوافي (19/ 205)، والبيت في معجم
الشعراء ص (339)، في ترجمة قتب بن حصن الفزاري.
(1/232)
|