دلائل الإعجاز ت هنداوي

فصل [في علاقة الفكر بمعاني النحو]
ومما ينبغي أن يعلمه الإنسان ويجعله على ذكر، أنّه لا يتصوّر أن يتعلّق الفكر بمعاني الكلم أفرادا ومجرّدة من معاني النّحو، فلا يقوم في وهم ولا يصحّ في عقل، أن يتفكّر متفكّر في معنى «فعل» من غير أن يريد إعماله في «اسم»، ولا أن يتفكّر في معنى «اسم» من غير أن يريد إعمال «فعل» فيه، وجعله فاعلا له أو مفعولا، أو يريد فيه حكما سوى ذلك من الأحكام، مثل أن يريد جعله مبتدأ، أو خبرا، أو صفة أو حالا، أو ما شاكل ذلك.
وإن أردت أن ترى ذلك عيانا فاعمد إلى أيّ كلام شئت، وأزل أجزاءه عن مواضعها، وضعها وضعا يمتنع معه دخول شيء من معاني النحو فيها، فقل في: [من الطويل]
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل «1»
«من نبك قفا حبيب ذكرى منزل»، ثم انظر هل يتعلّق منك فكر بمعنى كلمة منها؟
واعلم أني لست أقول إن الفكر لا يتعلق بمعاني الكلم المفردة أصلا، ولكني أقول إنه لا يتعلّق بها مجرّدة من معاني النحو، ومنطوقا بها على وجه لا يتأتّى معه تقدير معاني النحو وتوخّيها فيها، كالذي أريتك، وإلّا فإنك إذا فكّرت في الفعلين أو الاسمين، تريد أن تخبر بأحدهما عن الشيء أيّهما أولى أن تخبر به عنه وأشبه بغرضك، مثل أن تنظر: أيّهما أمدح وأذمّ، أو فكّرت في الشيئين تريد أن تشبّه الشيء بأحدهما أيّهما أشبه به كنت قد فكّرت في معاني أنفس الكلم، إلا أن فكرك ذلك لم يكن إلّا من بعد أن توخّيت فيها معنى من معاني النحو، وهو أن أردت جعل الاسم الذي فكّرت فيه خبرا عن شيء أردت فيه مدحا أو ذمّا أو تشبيها، أو غير ذلك
__________
(1) راجع ص (236) هامش (1).

(1/261)


من الأغراض ولم تجيء إلى فعل أو اسم ففكرت فيه فردا، ومن غير أن كان لك قصد أن تجعله خبرا أو غير خبر. فاعرف ذلك.
وإن أردت مثالا فخذ بيت بشّار: [من الطويل]
كأنّ مثال النّقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه «1»
وانظر هل يتصوّر أن يكون بشار قد أخطر معاني هذه الكلم بباله أفردا عارية من معاني النحو التي تراها فيها وأن يكون قد وقع «كأنّ» في نفسه من غير أن يكون قصد إيقاع التّشبيه منه على شيء وأن يكون فكّر في «مثار النقع»، من غير أن يكون أراد إضافة الأول إلى الثاني وفكّر في «فوق رءوسنا»، من غير أن يكون قد أراد أن يضيف «فوق» إلى «الرءوس» وفي «الأسياف» من دون أن يكون أراد عطفها بالواو على «مثار» وفي «الواو» من دون أن يكون أراد العطف بها وأن يكون كذلك فكّر في «الليل»، من دون أن يكون أراد أن يجعله خبرا «لكأنّ» وفي «تهاوى كواكبه»، من دون أن يكون أراد أن يجعل «تهاوى» فعلا للكواكب، ثم يجعل الجملة صفة لليل، ليتمّ الذي أراد من التشبيه؟ أم لم يخطر هذه الأشياء بباله إلّا مرادا منها هذه الأحكام والمعاني التي تراها فيها؟
وليت شعري، كيف يتصوّر وقوع قصد منك إلى معنى كلمة من دون أن تريد تعليقها بمعنى كلمة أخرى؟ ومعنى «القصد إلى معاني الكلم»، أن تعلم السامع بها شيئا لا يعلمه. ومعلوم أنك، أيّها المتكلم، لست تقصد أن تعلم السامع معاني الكلم المفردة التي تكلّمه بها، فلا تقول: «خرج زيد»، لتعلمه معنى «خرج» في اللغة، ومعنى «زيد». كيف؟ ومحال أن تكلّمه بألفاظ لا يعرف هو معانيها كما تعرف. ولهذا لم يكن الفعل وحده من دون الاسم، ولا الاسم وحده من دون اسم آخر أو فعل، كلاما. وكنت لو قلت «خرج»، ولم تأت باسم، ولا قدّرت فيه ضمير الشيء، أو قلت: «زيد»، ولم تأت بفعل ولا اسم آخر ولم تضمره في نفسك، كان ذلك وصوتا تصوّته سواء، فاعرفه.
واعلم أن مثل واضع الكلام مثل من يأخذ قطعا من الذهب أو الفضّة فيذيب
__________
(1) البيت في ديوانه، وذكره الطيبي في التبيان (1/ 278) وعزاه لبشار، وأورده أيضا في شرحه على مشكاة المصابيح (1/ 106)، والقزويني في الإيضاح، والسكاكي في المفتاح (444، 461)، وأورده الرازي في نهاية الإيجاز (155)، ومحمد بن علي الجرجاني في الإشارات (180)، والعلوي في الطراز.

(1/262)


بعضها في بعض حتى تصير قطعة واحدة. وذلك أنّك إذا قلت: «ضرب زيد عمرا يوم الجمعة ضربا شديدا تأديبا له»، فإنّك تحصل من مجموع هذه الكلم كلّها على مفهوم، هو معنى واحد لا عدّة معان، كما يتوهّمه الناس. وذلك لأنك لم تأت بهذه الكلم لتفيده أنفس معانيها، وإنما جئت بها لتفيده وجوه التعلّق التي بين الفعل الذي هو «ضرب»، وبين ما عمل فيه، والأحكام الّتي هي محصول التعلّق.
وإذا كان الأمر كذلك، فينبغي لنا أن ننظر في المفعولية من «عمرو»، وكون «يوم الجمعة» زمانا للضرب، وكون «الضرب» ضربا شديدا، وكون «التأديب» علّة للضرب، أيتصوّر فيها أن تفرد عن المعنى الأوّل الذي هو أصل الفائدة، وهو إسناد «ضرب» إلى «زيد»، وإثبات «الضرب» به له، حتى يعقل كون «عمرو» مفعولا به، وكون «يوم الجمعة» مفعولا فيه وكون «ضربا شديدا» مصدرا، وكون «التأديب مفعولا له من غير أن يخطر ببالك كون «زيد» فاعلا للضرب؟
وإذا نظرنا وجدنا ذلك لا يتصوّر، لأن «عمرا» مفعول لضرب وقع من زيد عليه، و «يوم الجمعة» زمان لضرب وقع من زيد، و «ضربا شديدا» بيان لذلك الضرب كيف هو وما صفته، و «التأديب» علة له وبيان أنه كان الغرض منه. وإذا كان ذلك كذلك، بان منه وثبت، أنّ المفهوم من مجموع الكلم معنى واحد لا عدّة معان، وهو إثباتك زيدا فاعلا ضربا لعمرو في وقت كذا، وعلى صفة كذا، ولغرض كذا. ولهذا المعنى قول إنّه كلام واحد.
وإذ قد عرفت هذا، فهو العبرة أبدا. فبيت بشّار إذا تأملته وجدته كالحلقة المفرغة التي لا تقبل التقسيم، ورأيته قد صنع في الكلم التي فيه ما يصنع الصّانع حين يأخذ كسرا
من الذهب فيذيبها ثم يصبّها في قالب، ويخرجها لك سوارا أو خلخالا. وإن أنت حاولت قطع بعض ألفاظ البيت عن بعض، كنت كمن يكسر الحلقة ويفصم السوار. وذلك أنه لم يرد أن يشبّه «النّقع» بالليل على حدة، و «الأسياف» بالكواكب على حدة، ولكنه أراد أن يشبّه النّقع والأسياف تجول فيه بالليل في حال ما تنكدر «1» الكواكب وتتهاوى فيه. فالمفهوم من الجميع مفهوم واحد، والبيت من أوّله إلى آخره كلام واحد.
فانظر الآن ما تقول في اتّحاد هذه الكلمة التي هي أجزاء البيت؟ أتقول: إنّ ألفاظها اتّحدت فصارت لفظة واحدة؟ أم تقول: إنّ معانيها اتّحدت فصارت الألفاظ
__________
(1) انكدر: أسرع. القاموس مادة «كدر» (603).

(1/263)


من أجل ذلك كأنّها لفظة واحدة؟ فإن كنت لا تشكّ أن الاتّحاد الذي تراه هو في المعاني، إذ كان من فساد العقل، ومن الذّهاب في الخبل، أن يتوهّم متوهّم أن الألفاظ يندمج بعضها في بعض حتى تصير لفظة واحدة.
فقد أراك ذلك، إن لم تكابر «1» عقلك، أن «النظم» يكون في معاني الكلم دون ألفاظها، وأن نظمها هو توخّي معاني النحو فيها. وذلك أنه إذا ثبت الاتّحاد، وثبت أنه في المعاني، فينبغي أن تنظر إلى الذي به اتّحدت المعاني في بيت بشّار. وإذا نظرنا لم نجدها اتّحدت إلّا بأن جعل «مثار النقع» اسم «كأن»، وجعل الظّرف الذي هو «فوق رءوسنا» معمولا «لمثار» ومعلّقا به، وأشرك «الأسياف» في «كأن» بعطفه لها على «مثار»، ثم بأن قال: «ليل تهاوى كواكبه»، فأتى بالليل نكرة، وجعل جملة قوله: «تهاوى كواكبه» له صفة، ثم جعل مجموع: «ليل تهاوى كواكبه»، خبرا «لكأنّ».
فانظر هل ترى شيئا كان الاتّحاد به غير ما عدّدناه؟ وهل تعرف له موجبا سواه؟
فلولا الإخلاد إلى الهوينا، وترك النّظر وغطاء ألقي على عيون أقوام، لكان ينبغي أن يكون في هذا وحده الكفاية وما فوق الكفاية. ونسأل الله تعالى التوفيق.
واعلم أن الذي هو آفة هؤلاء الذين لهجوا بالأباطيل في أمر «اللفظ» أنهم قوم قد أسلموا أنفسهم إلى التّخيّل، وألقوا مقادتهم إلى الأوهام، حتى عدلت بهم عن الصواب كلّ معدل، ودخلت بهم من فحش الغلط في كلّ مدخل، وتعسّفت بهم في كلّ مجهل، وجعلتهم يرتكبون في نصرة رأيهم الفاسد القول بكلّ محال، ويقتحمون في كلّ جهالة، حتى أنك لو قلت لهم: إنه لا يتأتّى للناظم نظمه إلّا بالفكر والرويّة، فإذا جعلتم «النظم» في الألفاظ، لزمكم من ذلك أن تجعلوا فكر الإنسان إذا هو فكّر في نظم الكلام، فكرا في الألفاظ التي يريد أن ينطق بها دون المعاني لم يبالوا أن يرتكبوا ذلك، وأن يتعلّقوا فيه بما في العادة ومجرى الجبلّة من أن الإنسان يخيّل إليه إذا هو فكّر، أنه كأنّه ينطق في نفسه بالألفاظ التي يفكر في معانيها، حتى يرى أنّه يسمعها سماعة لها حين يخرجها من فيه، وحين يجري بها اللسان.
وهذا تجاهل، لأنّ سبيل ذلك سبيل إنسان يتخيّل دائما في الشيء قد رآه وشاهده أنه كأنّه يراه وينظر إليه، وأنّ مثاله نصب عينيه. فكما لا يوجب هذا أن
__________
(1) تعظّم. اللسان مادة «كبر» (5/ 129).

(1/264)


يكون رائيا له، وأن يكون الشيء موجودا في نفسه، كذلك لا يكون تخيّله أنّه كأنّه ينطق بالألفاظ، موجبا أن يكون ناطقا بها، وأن تكون موجودة في نفسه، حتّى يجعل ذلك سببا إلى جعل الفكر فيها.
ثمّ إنّا نعمل على أنه ينطق بالألفاظ في نفسه، وأنه يجدها فيها على الحقيقة، فمن أين لنا أنه إذا فكر كان الفكر منه فيها؟ أم ماذا يروم، ليت شعري، بذلك الفكر؟
ومعلوم أن الفكر من الإنسان يكون في أن يخبر عن شيء بشيء، أو يصف شيئا بشيء، أو يضيف شيئا إلى شيء، أو يشرك شيئا في حكم شيء، أو يخرج شيئا من حكم قد سبق منه لشيء، أو يجعل وجود شيء شرطا في وجود شيء، وعلى هذا السبيل؟ وهذا كلّه فكر في أمور معقولة زائدة على اللفظ.
وإذا كان هذا كذلك، لم يخل هذا الذي يجعل في الألفاظ فكرا من أحد أمرين: إمّا أن يخرج هذه المعاني من أن يكون لواضع الكلام فيها فكر ويجعل الفكر كلّه في الألفاظ وإمّا أن يجعل له فكرا في اللفظ مفردا عن الفكرة في هذه المعاني.
فإن ذهب إلى الأوّل لم يكلّم، وإن ذهب إلى الثاني لزمه أن يجوّز وقوع فكر من الأعجمي الذي لا يعرف معاني ألفاظ العربية أصلا، في الألفاظ. وذلك ممّا لا يخفى مكان الشّنعة «1» والفضيحة فيه.
وشبيه بهذا التوهّم منهم، أنّك قد ترى أحدهم يعتبر حال السامع، فإذا رأى المعاني لا تترتّب في نفسه إلّا بترتّب الألفاظ في سمعه، ظنّ عند ذلك أن المعاني تبع للألفاظ، وأن التّرتّب فيها مكتسب من الألفاظ، ومن ترتّبها في نطق المتكلم.
وهذا ظن فاسد ممن يظنّه، فإن الاعتبار ينبغي أن يكون بحال الواضع للكلام والمؤلّف له، والواجب أن ينظر إلى حال المعاني معه لا مع السامع، وإذا نظرنا علمنا ضرورة أنه محال أن يكون التّرتّب فيها تبعا لترتّب الألفاظ ومكتسبا عنه، لأن ذلك يقتضي أن تكون الألفاظ سابقة للمعاني، وأن تقع في نفس الإنسان أوّلا، ثم تقع المعاني من بعدها وتالية لها، بالعكس مما يعلمه كلّ عاقل إذا هو لم يؤخذ عن نفسه، ولم يضرب حجاب بينه وبين عقله. وليت شعري، هل كانت الألفاظ إلّا من أجل المعاني؟ وهل هي إلّا خدم لها، ومصرّفة على حكمها؟ أو ليست هي سمات لها، وأوضاعا قد وضعت لتدلّ عليها؟ فكيف يتصوّر أن تسبق المعاني وأن تتقدّمها في تصوّر النفس؟ إن جاز ذلك، جاز أن تكون أسامي الأشياء قد وضعت قبل أن
__________
(1) شنع فلان استقبحه. القاموس «شنع» (949).

(1/265)


عرفت الأشياء، وقبل أن كانت. وما أدري ما أقول في شيء يجرّ الذاهبين إليه إلى أشباه هذا من فنون المحال، ورديء الأقوال.
هذا سؤال لهم من جنس آخر في «النظم». قالوا: لو كان «النظم» يكون في معاني النحو، لكان البدويّ الذي لم يسمع بالنحو قطّ، ولم يعرف المبتدأ والخبر وشيئا ممّا يذكرونه، لا يتأتّى له نظم كلام. وإنّا لنراه يأتي في كلامه بنظم لا يحسنه المتقدّم في علم النحو.
قيل: هذه شبهة من جنس ما عرض للذين عابوا المتكلمين فقالوا: «إنّا نعلم أنّ الصحابة رضي الله عنهم والعلماء في الصّدر الأوّل، لم يكونوا يعرفون «الجوهر» و «العرض»، و «صفة النفس» و «صفة المعنى» وسائر العبارات التي وضعتموها، فإن كان لا تتمّ الدّلالة على حدوث العالم والعلم بوحدانيّة الله، إلا بمعرفة هذه الأشياء التي ابتدأتموها، فينبغي لكم أن تدّعوا أنكم قد علمتم في ذلك ما لم يعلموه، وأن منزلتكم في العلم أعلى من منازلهم.
وجوابنا هو مثل جواب المتكلمين، وهو أن الاعتبار بمعرفة مدلول العبارات، لا بمعرفة العبارات. فإذا عرف البدويّ الفرق بين أن يقول: «جاءني زيد راكبا»، وبين قوله: «جاءني زيد الرّاكب»، لم يضرّه أن لا يعرف أنه إذا قال: «راكبا»، كانت عبارة النحويين فيه أن يقولوا في «راكب»: «إنه حال»، وإذا قال: «الراكب»، أنه صفة جارية على «زيد» وإذا عرف في قوله: «زيد منطلق» أن «زيدا» مخبر عنه، و «منطلق» خبر، لم يضرّه أن لا يعلم أنّا نسمّي «زيدا» مبتدأ وإذا عرف في قولنا: «ضربته تأديبا له»، أن المعنى في التأديب أنه غرضه من الضرب، وأنه ضربه ليتأدب، لم يضرّه أن لا يعلم أنا نسمي «التأديب» مفعولا له.
ولو كان عدمه العلم بهذه العبارات، يمنعه العلم بما وضعناها له وأردناه بها لكان ينبغي أن لا يكون له سبيل إلى بيان أغراضه، وأن لا يفصل فيما يتكلّم به بين نفي وإثبات، وبين «ما» إذا كان استفهاما وبينه إذا كان بمعنى «الذي»، وإذا كان بمعنى المجازاة، لأنه لم يسمع عباراتنا في الفرق بين هذه المعاني.
أترى الأعرابيّ حين سمع المؤذّن يقول: «أشهد أنّ محمدا رسول الله» بالنصب، فأنكر وقال: صنع ماذا؟ أنكر عن غير علم أن النصب يخرجه عن أن يكون خبرا ويجعله والأوّل في حكم اسم واحد، وأنه إذا صار والأوّل في حكم اسم واحد، احتيج إلى اسم آخر أو فعل، حتى يكون كلاما، وحتى يكون قد ذكر ما له فائدة؟ إن كان لم يعلم ذلك، فلماذا قال: «صنع ماذا؟»، فطلب ما يجعله خبرا؟

(1/266)


ويكفيك أنه يلزم على ما قالوه أن يكون امرؤ القيس حين قال: [من الطويل] قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل «1» قاله وهو لا يعلم ما نعنيه بقولنا: أن «قفا» أمر، و «نبك» جواب الأمر، و «ذكرى» مضاف إلى «حبيب»، و «منزل» معطوف على الحبيب وأن تكون هذه الألفاظ قد ترتّبت له من غير قصد منه إلى هذه المعاني. وذلك يوجب أن يكون قال:
«نبك» بالجزم من غير أن يكون عرف معنى يوجب الجزم، وأتى به مؤخرا عن «قفا»، من غير أن عرف لتأخيره موجبا سوى طلب الوزن.
ومن أفضت به الحال إلى أمثال هذه الشناعات، ثم لم يرتدع، ولم يتبيّن أنه على خطأ، فليس إلّا تركه والإعراض عنه.
ولولا أنّا نحبّ أن لا ينبس أحد في معنى السّؤال والاعتراض بحرف إلّا أريناه الذي استهواه، لكان ترك التشاغل بإيراد هذا وشبهه أولى. ذاك لأنّا قد علمنا علم ضرورة أنّا لو بقينا الدهر الأطول نصعّد ونصوّب، ونبحث وننقّب، نبتغي كلمة قد اتصلت بصاحبة لها، ولفظة قد انتظمت مع أختها، من غير أن توخّي فيما بينهما معنى من معاني النحو، طلبنا ممتنعا، وثنينا مطايا الفكر ظلّعا. فإن كان هاهنا من يشكّ في ذلك، ويزعم أنه قد علم لاتّصال الكلم بعضها ببعض، وانتظام الألفاظ بعضها مع بعض، معاني غير معاني النحو، فإنا نقول له: هات، فبيّن لنا تلك المعاني، وأرنا مكانها، واهدنا لها، فلعلّك قد أوتيت علما قد حجب عنّا، وفتح لك باب قد أغلق دوننا: [من الوافر]
وذاك له إذا العنقاء صارت ... مربّبة وشبّ ابن الخصيّ «2»
__________
(1) راجع هامش رقم (1) ص (236).
(2) البيت لأبي تمام في ديوانه (330) من قصيدة في مدح الحسن بن وهب، وقبله:
ويتبع نعمتي بك عين ضغن ... كما نظر اليتيم إلى الوصيّ
رجاء أنه يوري بزندي ... لديك وأنه يعزى فرييّ
والبيت فيه تعليق أمر مستحيل على أمر مستحيل. والعنقاء: طائر ضخم، وقيل: طائر خرافي مثله مثل الغول. مرببة: أي يربّيها الناس كما يربى الحمام وهذا محال، الخصيّ: لا ولد له فأنى يكون له ولد يشيب.

(1/267)