دلائل الإعجاز ت هنداوي فصل [في مسألة
التعبير عن المعنى بلفظين أحدهما فصيح والآخر غير فصيح]
قد أردت أن أعيد القول في شيء هو أصل الفساد ومعظم الآفة،
والذي صار حجازا بين القوم وبين التأمّل، وأخذ بهم عن طريق
النّظر، وحال بينهم وبين أن يصغوا إلى ما يقال لهم، وأن يفتحوا
للذي تبيّن أعينهم، وذلك قولهم: «إنّ العقلاء قد اتّفقوا على
أنه يصحّ أن يعبّر عن المعنى الواحد بلفظين، ثم يكون أحدهما
فصيحا، والآخر غير فصيح. وذلك، قالوا، يقتضي أن يكون للّفظ
نصيب في المزيّة، لأنها لو، كانت مقصورة على المعنى، لكان
محالا أن يجعل لأحد اللفظين فضل على الآخر، مع أن المعبّر عنه
واحد».
وهذا شيء تراهم يعجبون به ويكثرون ترداده، مع أنهم يؤكّدونه
فيقولون:
«لولا أنّ الأمر كذلك، لكان ينبغي أن لا يكون للبيت من الشّعر
فضل على تفسير المفسّر له، لأنّه إن كان اللّفظ إنما يشرف من
أجل معناه، فإنّ لفظ المفسّر يأتي على المعنى ويؤدّيه لا
محالة، إذ لو كان لا يؤدّيه، لكان لا يكون تفسيرا له».
ثم يقولون: «وإذا لزم ذلك في تفسير البيت من الشّعر، لزم مثله
في الآية من القرآن» وهم إذا انتهوا في الحجاج إلى هذا الموضع،
ظنّوا أنّهم قد أتوا بما لا يجوز أن يسمع عليهم معه كلام، وأنه
نقض ليس بعده إبرام، وربما أخرجهم الإعجاب به إلى الضحك
والتعجّب ممن يرى أنّ إلى الكلام عليه سبيلا، وأنّه يستطيع أن
يقيم على بطلان ما قالوه دليلا.
والجواب، وبالله التوفيق، أن يقال للمحتج بذلك: قولك إنّه يصحّ
أن يعبّر عن المعنى الواحد بلفظين، يحتمل أمرين:
أحدهما: أن تريد باللفظين كلمتين معناهما واحد في اللغة، مثل
«الليث» و «الأسد»، ومثل «شحط» و «بعد»، وأشباه ذلك مما وضع
اللفظان فيه لمعنى.
والثاني: أن تريد كلامين.
فإن أردت الأوّل خرجت من المسألة، لأن كلامنا نحن في فصاحة
تحدث من بعد التأليف، دون الفصاحة التي توصف بها اللفظة مفردة،
ومن غير أن يعتبر حالها مع غيرها.
(1/268)
وإن أردت الثاني، ولا بدّ لك من أن تريده،
فإن هاهنا أصلا، من عرفه عرف سقوط هذا الاعتراض. وهو أن يعلم
أن سبيل المعاني سبيل أشكال الحليّ، كالخاتم والشّنف والسّوار،
فكما أن من شأن هذه الأشكال أن يكون الواحد منها غفلا ساذجا،
لم يعمل صانعه فيه شيئا أكثر من أن أتى بما يقع عليه اسم
الخاتم إن كان خاتما، والشّنف إن كان شنفا، وأن يكون مصنوعا
بديعا قد أغرب صانعه فيه.
كذلك سبيل المعاني، أن ترى الواحد منها غفلا ساذجا عامّيا
موجودا في كلام الناس كلّهم، ثم تراه نفسه وقد عمد إليه البصير
بشأن البلاغة وإحداث الصّور في المعاني، فيصنع فيه ما يصنع
الصّنع الحاذق، حتى يغرب في الصّنعة، ويدقّ في العمل، ويبدع في
الصّياغة. وشواهد ذلك حاضرة لك كيف شئت، وأمثلته نصب عينيك من
أين نظرت.
تنظر إلى قول النّاس: «الطبع لا يتغيّر»، و «لست تستطيع أن
تخرج الإنسان عمّا جبل عليه»، فترى معنى غفلا عامّيا معروفا في
كل جيل وأمة، ثم تنظر إليه في قول المتنبي: [من المتقارب]
يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطّباع على النّاقل «1»
فتجده قد خرج في أحسن صورة، وتراه قد تحوّل جوهرة بعد أن كان
خرزة، وصار أعجب شيء بعد أن لم يكن شيئا.
وإذ قد عرفت ذلك، فإن العقلاء إلى هذا قصدوا حين قالوا: «إنّه
يصحّ أن يعبّر عن المعنى الواحد بلفظين، ثم يكون أحدهما فصيحا
والآخر غير فصيح»، كأنهم قالوا: إنه يصح أن تكون هاهنا عبارتان
أصل المعنى فيهما واحد، ثم يكون لإحداهما في تحسين ذلك المعنى
وتزيينه، وإحداث خصوصيّة فيه تأثير لا يكون للأخرى.
واعلم أن المخالف لا يخلو من أن ينكر أن يكون للمعنى في إحدى
العبارتين حسن ومزيّة لا يكونان له في الأخرى، وأن تحدث فيه
على الجملة صورة لم تكن أو يعرف ذلك، فإن أنكر لم يكلّم، لأنه
يؤديه إلى أن لا يجعل للمعنى في قوله:
وتأبى الطباع على الناقل
__________
(1) البيت في ديوانه (2/ 17) من قصيدة في مدح سيف الدولة ويذكر
استنقاذه أبا وائل بن داود بن حمدان العدوي من أسر الخارجي سنة
سبع وثلاثين وثلاث ومائة ومطلعها:
إلام طماعية العاذل ... ولا رأي في الحب للعاقل
(1/269)
مزية على الذي يعقل من قولهم: «الطبع لا
يتغير»، و «لا يستطيع أن يخرج الإنسان عمّا جبل عليه» وأن لا
يرى لقول أبي نواس: [من السريع]
وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
مزيّة على أن يقال: «غير بديع في قدرة الله تعالى أن يجمع
فضائل الخلق كلّهم في رجل واحد». ومن أدّاه قول يقوله إلى مثل
هذا، كان الكلام معه محالا، وكنت إذا كلّفته أن يعرف، كمن
يكلّف أن يميّز بحور الشعر بعضها من بعض، فيعرف المديد من
الطّويل، والبسيط من السّريع من ليس له ذوق يقيم به الشعر من
أصله.
وإن اعترف بأنّ ذلك يكون، قلنا له: أخبرنا عنك، أتقول في قوله:
وتأبى الطّباع على الناقل «1» أنه غاية في الفصاحة؟ فإذا قال:
نعم. قيل له: أفكان كذلك عندك من أجل حروفه، أم من أجل حسن
ومزيّة حصلا في المعنى فإن قال: من أجل حروفه: دخل في الهذيان
وإن قال: من أجل حسن ومزيّة حصلا في المعنى، قيل له: فذاك ما
أردناك عليه حين قلنا: إن اللفظ يكون فصيحا من أجل مزية تقع في
معناه، لا من أجل جرسه وصداه.
واعلم أنه ليس شيء أبين وأوضح وأحرى أن يكشف الشبهة عن متأمّله
في صحة ما قلناه، من «التشبيه». فإنّك تقول: «زيد كالأسد» أو
«مثل الأسد» أو «شبيه بالأسد»، فتجد ذلك كلّه تشبيها غفلا
ساذجا ثم تقول: «كأن زيدا الأسد»، فيكون تشبيها أيضا، إلّا
أنّك ترى بينه وبين الأول بونا بعيدا، لأنك ترى له صورة خاصّة،
وتجدك قد فخّمت المعنى وزدت فيه، بأن أفدت أنه من الشّجاعة
وشدّة البطش، وأنّ قلبه قلب لا يخامره الذّعر ولا يدخله
الرّوع، بحيث يتوهّم أنه الأسد بعينه ثم تقول: «لئن لقيته
ليلقينّك منه الأسد»، فتجده قد أفاد هذه المبالغة، لكن في صورة
أحسن، وصفة أخصّ، وذلك أنك تجعله في «كأن»، يتوهّم أنه الأسد،
وتجعله هاهنا يرى منه الأسد على القطع، فيخرج الأمر عن حدّ
التوهّم إلى حدّ اليقين ثم نظرت إلى قوله: [من الطويل]
__________
(1) راجع هامش رقم (1) ص (271).
(1/270)
أأن أرعشت كفّا أبيك وأصبحت ... يداك يدي
ليث فإنّك غالبه «1»
وجدته قد بدا لك في صورة آنق وأحسن ثم نظرت إلى قول أرطاة بن
سهيّة:
[من البسيط]
إن تلقني لا ترى غيري بناظرة ... تنس السّلاح وتعرف جبهة الأسد
«2»
وجدته قد فضل الجميع، ورأيته قد أخرج في صورة غير تلك الصّور
كلّها.
واعلم أن من الباطل والمحال ما يعلم الإنسان بطلانه واستحالته
بالرجوع إلى النفس حتى لا يشكّ. ثم إنّه إذا أراد بيان ما يجد
في نفسه والدّلالة عليه، رأى المسلك إليه يغمض ويدقّ. وهذه
الشبهة أعني قولهم: «إنه لو كان يجوز أن يكون الأمر على خلاف
ما قالوه من أنّ الفصاحة وصف للّفظ من حيث هو لفظ، لكان ينبغي
أن لا يكون للبيت من الشّعر فضل على تفسير المفسّر»، إلى آخره
من ذاك.
وقد علقت لذلك بالنّفوس وقويت فيها، حتى إنك لا تلقي إلى أحد
من المتعلقين بأمر «اللفظ» كلمة مما نحن فيه، إلا كان هذا أوّل
كلامه، وإلّا عجّب وقال: «إنّ التفسير بيان للمفسّر، فلا يجوز
أن يبقى من معنى المفسّر شيء لا يؤدّيه التفسير ولا يأتي عليه،
لأن في تجويز ذلك القول بالمحال، وهو أن لا يزال يبقى من معنى
المفسّر شيء لا يكون إلى العلم به سبيل. وإذا كان الأمر كذلك،
ثبت أن الصحيح ما قلناه، من أنه لا يجوز أن يكون للّفظ المفسّر
فضل من حيث المعنى على لفظ التفسير. وإذ لم يجز أن يكون الفضل
من حيث المعنى، لم يبق إلا أن يكون من حيث اللفظ نفسه».
فهذا جملة ما يمكنهم أن يقولوه في نصرة هذه الشبهة، قد
استقصيته لك.
وإذ قد عرفته فاسمع الجواب، وإلى الله تعالى الرّغبة في
التوفيق للصواب.
__________
(1) البيت للفرزدق في ديوانه (1/ 105) ط، دار صادر، بيروت، من
خمسة أبيات قالها حيث كان له ثلاثة أولاد يقال:: لواحد منهم
لبطة والآخر: حنظلة، والثالث: سبطة، وكان لبطة من العققة فقال
له هذه الأبيات، وهذا البيت مطلعها وبعده:
إذا غلب ابن الشباب أبا له ... كبيرا فإن الله لا بد غالبه
رأيت تباشير العقوق هي التي ... من ابن امرئ ما إن يزال يعاتبه
ولما رآني قد كبرت وأني ... أخو الحي واستغنى عن المسح شاربه
أصاخ لغربان النعي وإنه ... لأزور عن بعض المقالة جانبه
(2) البيت سبق ص (145)، وهو في الأغاني (13/ 37)، وبعده:
ماذا تظنك تغني في أخي رصد ... من أسد خفان جابي العين ذي لبد
وكان شبيب بن البرصاء يقول: وددت أني جمعني ابن الأمة أرطاة بن
سهية يوم قتال فأشفي منه غيظي، فبلغ ذلك أرطاة، فقال له عدة
أبيات منها هذا البيت. الناظرة: العين.
(1/271)
اعلم أن قولهم: «إنّ التفسير يجب أن يكون
كالمفسّر»، دعوى لا تصحّ لهم إلا من بعد أن ينكروا الذي
بيّنّاه، من أن من شأن المعاني أن تختلف بها الصّور، ويدفعوه
أصلا، وحتّى يدّعوا أنه لا فرق بين «الكناية» و «التصريح»،
وأنّ حال المعنى مع «الاستعارة» كحاله مع ترك الاستعارة، وحتى
يبطلوا ما أطبق عليه العقلاء من أنّ «المجاز» يكون أبدا أبلغ
من الحقيقة، فيزعموا أن قولنا: «طويل النجاد» و «طويل القامة»
واحد، وأن حال المعنى في بيت ابن هرمة. [من المنسرح] ولا أبتاع
إلّا قريبة الأجل «1» كحاله في قولك: أنا مضياف وأنك إذا قلت:
«رأيت أسدا»، لم يكن الأمر أقوى من أن تقول: «رأيت رجلا هو من
الشجاعة بحيث لا ينقص عن الأسد»، ولم تكن قد زدت في المعنى بأن
ادّعيت له أنه أسد بالحقيقة ولا بالغت فيه وحتى يزعموا أنه لا
فضل ولا مزيّة لقولهم: «ألقيت حبله على غاربه»، على قولك في
تفسيره: «خلّيته وما يريد، وتركته يفعل ما يشاء» وحتّى لا
يجعلوا للمعنى في قوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ
الْعِجْلَ [البقرة: 93]، مزيّة على أن يقال: «اشتدّت محبتهم
للعجل وغلبت على قلوبهم» - وأن تكون صورة المعنى في قوله عز
وجل:
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4]، صورته في قول من
يقول: «وشاب رأسي كلّه» و «ابيض رأسي كلّه» وحتى لا يروا فرقا
بين قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [البقرة: 16]،
وبين: «فما ربحوا في تجارتهم» وحتى يرتكبوا جميع ما أريناك
الشناعة فيه، من أن لا يكون فرق بين قول المتنبي:
وتأبى الطّباع على النّاقل «2» وبين قولهم: «إنّك لا تقدر أن
تغيّر طباع الإنسان» ويجعلوا حال المعنى في قول أبي نواس: [من
السريع]
وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
كحاله في قولنا: «إنه ليس ببديع في قدرة الله أن يجمع فضائل
الخلق كلهم في واحد» ويرتكبوا ذلك في الكلام كلّه، حتّى يزعموا
أنّا إذا قلنا في قوله تعالى:
وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أن المعنى فيها: «أنه لما كان
الإنسان إذا همّ بقتل آخر
__________
(1) سبق ص (181) هامش (1).
(2) راجع ص (271) هامش (1).
(1/272)
لشيء غاظه منه، فذكر أنّه إن قتله قتل
ارتدع، صار المهموم بقتله كأنه قد استفاد حياة فيما يستقبل
بالقصاص» كنا قد أدّينا المعنى في تفسيرنا هذا على صورته التي
هو عليها في الآية، حتى لا نعرف فضلا، وحتى يكون حال الآية
والتفسير حال اللّفظتين إحداهما غريبة والأخرى مشهورة، فتفسّر
الغريبة بالمشهورة، مثل أن تقول مثلا في «الشّرجب» «1» إنه
الطويل، وفي «القطّ» إنه الكتاب، وفي «الدّسر» إنه المسامير.
ومن صار الأمر به إلى هذا، كان الكلام معه محالا.
واعلم أنه ليس عجب أعجب من حال من يرى كلامين، أجزاء أحدهما
مخالفة في معانيها لأجزاء الآخر، ثم يرى أنه يسع في العقل أن
يكون معنى أحد الكلامين مثل معنى الآخر سواء، حتى يقعد فيقول:
«إنّه لو كان يكون الكلام فصيحا من أجل مزيّة تكون في معناه،
لكان ينبغي أن توجد تلك المزيّة في تفسيره». ومثله في العجب
أنّه ينظر إلى قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ
[البقرة: 16]، فيرى إعراب الاسم الذي هو «التجارة»، قد تغير
فصار مرفوعا بعد أن كان مجرورا، ويرى أنّه قد حذف من اللفظ بعض
ما كان فيه، وهو «الواو» في «ربحوا»، و «في» من قولنا: «في
تجارتهم»، ثم لا يعلم أن ذلك يقتضي أن يكون المعنى قد تغيّر
كما تغيّر اللفظ!! واعلم أنه ليس للحجج والدّلائل في صحة ما
نحن عليه حدّ ونهاية، وكلما انتهى منه باب انفتح فيه باب آخر.
وقد أردت أن آخذ في نوع آخر من الحجاج، ومن البسط والشّرح،
فتأمل ما أكتبه لك.
اعلم أن الكلام الفصيح ينقسم قسمين: قسم تعزى المزيّة والحسن
فيه إلى اللفظ وقسم يعزى ذلك فيه إلى النّظم.
فالقسم الأول: «الكناية» و «الاستعارة» و «التمثيل الكائن على
حدّ الاستعارة»، وكلّ ما كان فيه، على الجملة، مجاز واتّساع
وعدول باللفظ عن الظاهر، فما من ضرب من هذه الضّروب إلّا وهو
إذا وقع على الصّواب وعلى ما ينبغي، أوجب الفضل والمزية.
فإذا قلت: «هو كثير رماد القدر»، كان له موقع وحظّ من القبول
لا يكون إذا قلت: «هو كثير القرى والضيافة».
وكذا إذا قلت: «هو طويل النجاد»، كان له تأثير في النفس لا
يكون إذا قلت:
«هو طويل القامة».
__________
(1) الطويل والفرس الكريم، ا. هـ القاموس «شرجب» (129).
(1/273)
وكذا إذا قلت: «رأيت أسدا»، كان له مزيّة
لا تكون إذا قلت: «رأيت رجلا يشبه الأسد ويساويه في الشجاعة».
وكذلك إذا قلت: «أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى»، كان له موقع لا
يكون إذا قلت: «أراك تتردد في الذي دعوتك إليه، كمن يقول: أخرج
ولا أخرج، فيقدّم رجلا ويؤخّر أخرى».
وكذلك إذا قلت: «ألقى حبله على غاربه»، كان له مأخذ من القلب
لا يكون إذا قلت: «هو كالبعير الذي يلقى حبله على غاربه حتى
يرعى كيف يشاء ويذهب حيث يريد».
لا يجهل المزيّة فيه إلا عديم الحسّ ميّت النفس، وإلّا من لا
يكلّم، لأنه من مبادئ المعرفة التي من عدمها لم يكن للكلام معه
معنى.
وإذ قد عرفت هذه الجملة، فينبغي أن تنظر إلى هذه المعاني واحدا
واحدا، وتعرف محصولها وحقائقها، وأن تنظر أوّلا إلى «الكناية»،
وإذا نظرت إليها وجدت حقيقتها ومحصول أمرها أنّها إثبات لمعنى،
أنت تعرف ذلك المعنى من طريق المعقول دون طريق اللفظ. ألا ترى
أنك لما نظرت إلى قولهم: «هو كثير رماد القدر»، وعرفت منه أنهم
أرادوا أنه كثير القرى والضيافة، لم تعرف ذلك من اللفظ، ولكنّك
عرفته بأن رجعت إلى نفسك فقلت: إنّه كلام قد جاء عنهم في
المدح، ولا معنى للمدح بكثرة الرّماد، فليس إلا أنّهم أرادوا
أن يدلّوا بكثرة الرّماد على أنه تنصب له القدور الكثيرة،
ويطبخ فيها للقرى والضّيافة. وذلك لأنه إذا كثر الطبخ في
القدور كثر إحراق الحطب تحتها، وإذا كثر إحراق الحطب كثر
الرّماد لا محالة.
وهكذا السبيل في كلّ ما كان «كناية». فليس من لفظ الشّعر عرفت
أن ابن هرمة أراد بقوله:
ولا أبتاع إلّا قريبة الأجل «1» التمدّح بأنه مضياف، ولكنّك
عرفته بالنّظر اللطيف، وبأن علمت أنه لا معنى للتمدّح بظاهر ما
يدلّ عليه اللّفظ من قرب أجل ما يشتريه، فطلبت له تأويلا،
فعلمت أنه أراد أنّه يشتري ما يشتريه للأضياف، فإذا اشترى شاة
أو بعيرا، كان قد اشترى ما قد دنا أجله، لأنه يذبح وينحر عن
قريب.
__________
(1) راجع ص (181) هامش (1).
(1/274)
وإذ قد عرفت هذا في «الكناية»،
«فالاستعارة» في هذه القضيّة. وذاك أنّ موضوعها على أنك تثبت
بها معنى لا يعرف السّامع ذلك المعنى من اللّفظ، ولكنه يعرفه
من معنى اللّفظ.
بيان هذا، أنا نعلم أنك لا تقول: «رأيت أسدا، إلّا وغرضك أن
تثبت للرجل أنه مساو للأسد في شجاعته وجرأته، وشدّة بطشه
وإقدامه، وفي أن الذّعر لا يخامره، والخوف
لا يعرض له. ثم تعلم أن السامع إذا عقل هذا المعنى، لم يعقله
من لفظ «أسد»، ولكنه يعقله من معناه، وهو أنه يعلم أنه لا معنى
لجعله «أسدا»، مع العلم بأنه «رجل»، إلا أنك أردت أنه بلغ من
شدّة مشابهته للأسد ومساواته إيّاه، مبلغا يتوهّم معه أنه أسد
بالحقيقة. فاعرف هذه الجملة وأحسن تأمّلها.
واعلم أنك ترى الناس وكأنهم يرون أنك إذا قلت: «رأيت أسدا»،
وأنت تريد التشبيه، كنت نقلت لفظ «أسد» عما وضع له في اللغة،
واستعملته في معنى غير معناه، حتّى كأن ليس «الاستعارة» إلّا
أن تعمد إلى اسم الشيء فتجعله اسما لشبيه، وحتى كأن لا فصل بين
«الاستعارة»، وبين تسمية المطر «سماء»، والنّبت «غيثا»،
والمزادة «راوية»، وأشباه ذلك مما يوقع فيه اسم الشيء على ما
هو منه بسبب، ويذهبون عمّا هو مركوز في الطّباع من أن المعنى
فيه المبالغة، وأن يدّعي في الرجل أنه ليس برجل، ولكنه أسد
بالحقيقة، وأنّه إنما يعار اللفظ من بعد أن يعار المعنى، وأنه
لا يشرك في اسم «الأسد»، إلّا من بعد أن يدخل في جنس الأسد. لا
ترى أحدا يعقل إلّا وهو يعرف ذلك إذا رجع إلى نفسه أدنى رجوع.
ومن أجل أن كان الأمر كذلك، رأيت العقلاء كلّهم يثبتون القول
بأن من شأن «الاستعارة» أن تكون أبدا أبلغ من الحقيقة، وإلّا
فإن كان ليس هاهنا إلّا نقل اسم من شيء إلى شيء، فمن أين يجب،
ليت شعري، أن تكون الاستعارة أبلغ من الحقيقة، ويكون لقولنا:
«رأيت أسدا»، مزيّة على قولنا: «رأيت شبيها بالأسد»؟ وقد علمنا
أنّه محال أن يتغيّر الشيء في نفسه، بأن ينقل إليه اسم قد وضع
لغيره، من بعد أن لا يراد من معنى ذلك الاسم فيه شيء بوجه من
الوجوه، بل يجعل كأنه لم يوضع لذلك المعنى الأصليّ أصلا. وفي
أي عقل يتصوّر أن يتغيّر معنى «شبيها بالأسد»، بأن يوضع لفظ
«أسد» عليه، وينقل إليه؟
واعلم أن العقلاء بنوا كلامهم، إذا قاسوا وشبّهوا، على أن
الأشياء تستحق الأسامي لخواصّ معان هي فيها دون ما عداها، فإذا
أثبتوا خاصّة شيء لشيء، أثبتوا له
(1/275)
اسمه، فإذا جعلوا «الرجل» بحيث لا تنقص
شجاعته عن شجاعة الأسد ولا يعدم منها شيئا، قالوا: «هو أسد»
وإذا وصفوه بالتّناهي في الخير والخصال الشريفة، أو بالحسن
الذي يبهر قالوا: «هو ملك» وإذا وصفوا الشيء بغاية الطّيب
قالوا: «هو مسك».
وكذلك الحكم أبدا.
ثمّ إنهم إذا استقصوا في ذلك نفوا عن المشبّه اسم جنسه فقالوا:
«ليس هو بإنسان، وإنما هو أسد»، و «ليس هو آدميّا، وإنما هو
ملك»، كما قال الله تعالى:
ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف: 31].
ثمّ إن لم يريدوا أن يخرجوه عن جنسه جملة قالوا: «هو أسد في
صورة إنسان» و «هو ملك في صورة آدميّ». وقد خرج هذا للمتنبي في
أحسن عبارة، وذلك في قوله: [من الخفيف]
نحن ركب ملجنّ في زيّ ناس ... فوق طير لها شخوص الجمال «1»
ففي هذه الجملة بيان لمن عقل أن ليست «الاستعارة» نقل اسم عن
شيء إلى شيء، ولكنها ادّعاء معنى الاسم لشيء، إذ لو كانت نقل
اسم وكان قولنا: «رأيت أسدا»، بمعنى: رأيت شبيها بالأسد، ولم
يكن ادّعاء أنّه أسد بالحقيقة لكان محالا أن يقال: «ليس هو
بإنسان، ولكنه أسدا» أو «هو أسد في صورة إنسان»، كما أنّه محال
أن يقال: «ليس هو بإنسان، ولكنه شبيه بأسد» أو يقال: «هو شبيه
بأسد في صورة إنسان».
واعلم أنّه قد كثر في كلام الناس استعمال لفظ «النقل» في
«الاستعارة»، فمن ذلك قولهم: «إنّ الاستعارة تعليق العبارة على
غير ما وضعت له في أصل اللغة على سبيل النقل»: وقال القاضي أبو
الحسن «2»: «الاستعارة ما اكتفي فيه بالاسم المستعار عن
الأصلي، ونقلت العبارة فجعلت في مكان غيرها».
__________
(1) البيت في ديوانه (1/ 166) من قصيدة في مدح عبد الرحمن بن
المبارك الأنطاكي، ومطلعها:
صلة الهجر لي وهجر الوصال ... فكساني في السقم نكس الهلال
الركب: جمع راكب، ملجن: أي من الجن لغة، الزي: الهيئة. أي: نحن
كالجن نألف المجاهل وركائبنا كالطير في قطع المسافات. المعنى:
يقول نحن ركب وهم ركاب الإبل يقال: ركب وركبان من الجن في زي
الناس فوق طير إلا أنها في صورة الجمال يرد لسرعة سيرها كأنها
تطير كما يطير الطير. والبيت في شرح التبيان للعكبري (2/ 159)،
والإيضاح (260)، ورواية الإيضاح: «نحن قوم الجن في زي ناس»،
والمفتاح (480)، وأورده محمد بن علي الجرجاني في الإشارات
(211) وعزاه للمتنبي.
(2) علي بن عبد العزيز الجرجاني (ت 392) صاحب كتاب «الوساطة
بين المتنبي وخصومه». شذرات الذهب (3/ 56).
(1/276)
ومن شأن ما غمض من المعاني ولطف، أن يصعب
تصويره على الوجه الذي هو عليه لعامّة الناس، فيقع لذلك في
العبارات التي يعبّر بها عنه، ما يوهم الخطأ، وإطلاقهم في
«الاستعارة» أنها «نقل للعبارة عمّا وضعت له»، من ذلك، فلا
يصحّ الأخذ به. وذلك أنّك إذا كنت لا تطلق اسم «الأسد» على
«الرجل»، إلا من بعد أن تدخله في جنس الأسود من الجهة التي
بيّنّا، لم تكن نقلت الاسم عما وضع له بالحقيقة، لأنك إنّما
تكون ناقلا، إذا أنت أخرجت معناه الأصليّ من أن يكون مقصودك،
ونفضت به يدك. فأمّا أن تكون ناقلا له عن معناه، مع إرادة
معناه، فمحال متناقض.
واعلم أن في «الاستعارة» ما لا يتصوّر تقدير النقل فيه البتّة،
وذلك مثل قول لبيد: [من الكامل]
وغداة ريح قد كشفت وقرّة ... إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها «1»
لا خلاف في أن «اليد» استعارة، ثم إنك لا تستطيع أن تزعم أنّ
لفظ «اليد» قد نقل عن شيء إلى شيء. وذلك أنه ليس المعنى على
أنه شبّه شيئا باليد، فيمكنك أن تزعم أنه نقل لفظ «اليد» إليه،
وإنما المعنى على أنه أراد أن يثبت للشّمال في تصريفها
«الغداة» على طبيعتها، شبه الإنسان قد أخذ الشيء بيده يقبله
ويصرّفه كيف يريد. فلما أثبت لها مثل فعل الإنسان باليد،
استعار لها «اليد». وكما لا يمكنك تقدير «النقل» في لفظ
«اليد»، كذلك لا يمكنك أن تجعل الاستعارة فيه من صفة اللفظ.
ألا ترى أنه محال أن تقول: إنه استعار لفظ «اليد» للشّمال؟
وكذلك سبيل نظائره، مما تجدهم قد أثبتوا فيه للشيء عضوا من
أعضاء الإنسان، من أجل إثباتهم له المعنى الذي يكون في ذلك
العضو من الإنسان كبيت الحماسة: [من الطويل]
إذا هزّه في عظم قرن تهلّلت ... نواجذ أفواه المنايا الضّواحك
«2»
فإنه لما جعل «المنايا» تضحك، جعل لها «الأفواه والنواجذ» التي
يكون الضّحك فيها وكبيت المتنبّي: [من الطويل]
__________
(1) البيت في ديوانه (230) ط، دار القاموس الحديث، وأورده
القزويني في الإيضاح (277)، والمبرد في الكامل وعزاه للبيد،
وأساس البلاغة (يدي). والبيت من معلقته المشهورة، والقرة
والقر: البرد، يقول: كم من غداة تهب فيها الشمال وهي أبرد
الرياح، وقد كففت عادية البرد عن الناس بنحر الجزر لهم.
(2) البيت لتأبط شرا في شرح الحماسة للتبريزي (1/ 49)، القرن
بالكسر: المثل والكفؤ، وتهللت:
لاحت وظهرت من البشر والسرور.
(1/277)
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه ... وفي أذن
الجوزاء منه زمازم «1»
لما جعل «الجوزاء» تسمع على عادتهم في جعل النّجوم تعقل،
ووصفهم لها بما يوصف به الأناسيّ أثبت لها «الأذن» التي بها
يكون السمع من الأناسيّ.
فأنت الآن لا تستطيع أن تزعم في بيت الحماسة أنّه استعار لفظ
«النواجذ» ولفظ «الأفواه»، لأن ذلك يوجب المحال، وهو أن يكون
في المنايا شيء قد شبّهه بالنواجذ، وشيء قد شبّهه بالأفواه،
فليس إلّا أن تقول: إنه لمّا ادّعى أنّ المنايا تسرّ وتستبشر
إذا هو هزّ السيف، وجعلها لسرورها بذلك تضحك أراد أن يبالغ في
الأمر، فجعلها في صورة من يضحك حتى تبدو نواجذه من شدة السرور.
وكذلك لا تستطيع أن تزعم أن المتنبي قد استعار لفظ «الأذن»،
لأنه يوجب أن يكون في «الجوزاء» شيء قد أراد تشبيهه بالأذن.
وذلك من شنيع المحال.
فقد تبيّن من غير وجه أنّ «الاستعارة» إنما هي ادّعاء معنى
الاسم للشيء، لا نقل الاسم عن الشيء. وإذا ثبت أنها ادّعاء
معنى الاسم للشيء، علمت أن الذي قالوه من «أنها تعليق للعبارة
على غير ما وضعت له في اللغة، ونقل لها عمّا وضعت له» كلام قد
تسامحوا فيه، لأنه إذا كانت «الاستعارة» ادعاء معنى الاسم، لم
يكن الاسم مزالا عما وضع له، بل مقرّا عليه.
واعلم أنك تراهم لا يمتنعون إذا تكلموا في «الاستعارة» من أن
يقولوا: «إنه أراد المبالغة فجعله أسدا»، بل هم يلجئون إلى
القول به. وذلك صريح في أن الأصل فيها المعنى، وأنه المستعار
في الحقيقة، وأن قولنا: «استعير له اسم الأسد»، إشارة إلى أنه
استعير له معناه، وأنه جعل إياه.
وذلك أنّا لو لم نقل ذلك، لم يكن «لجعل» هاهنا معنى، لأن «جعل»
لا يصلح إلا حيث يراد إثبات صفة للشيء، كقولنا: «جعلته أميرا»
و «جعلته لصّا»، تريد أنك أثبت له الإمارة، ونسبته إلى
اللصوصية وادّعيتها عليه ورميته بها.
وحكم «جعل»، إذا تعدّى إلى مفعولين، حكم «صيّر»، فكما لا تقول:
__________
(1) البيت في ديوانه: (2/ 139)، من قصيدة في مدح سيف الدولة،
ويذكر بناءه ثغر الحدث سنة ثلاث وأربعين وثلاث مائة ومطلعها:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام
المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها ... وتصغر في عين العظيم العظائم
والخميس: الجيش العظيم له الميمنة والميسرة والقلب والجناحان،
والزحف: التقدم. الجوزاء:
أنجم معروفة، والزمازم: جمع زمزمة، وهي صوت لا يفهم لتداخله،
والمعنى: يقول هذا الجيش لكثرته قد عم الشرق والغرب وبلغ صوتهم
الجوزاء وخصها بالذكر من سائر البروج لأنها على صورة الإنسان
هذا قول الواحدي.
(1/278)
«صيّرته أميرا»، إلا على معنى أنك أثبتّ له
صفة الإمارة، كذلك لا يصحّ أن تقول:
«جعلته أسدا»، إلا على معنى أنك أثبتّ له معاني الأسد. وأمّا
ما تجده في بعض كلامهم من أن «جعل» يكون بمعنى «سمّى»، فمما
تسامحوا فيه أيضا، لأن المعنى معلوم، وهو مثل أن تجد الرجل
يقول: «أنا لا أسمّيه إنسانا»، وغرضه أن يقول: إني لا أثبت له
المعاني التي بها كان الإنسان إنسانا. فأما أن يكون «جعل» في
معنى «سمّى»، هكذا غفلا، فممّا لا يخفى فساده. ألا ترى أنك لا
تجد عاقلا يقول:
«جعلته زيدا»، بمعنى: سميته زيدا ولا يقال للرجل: «اجعل ابنك
زيدا»، بمعنى:
سمّه زيدا و «ولد ابن فجعله عبد الله»، أي: سمّاه عبد الله.
هذا ما لا يشك فيه ذو عقل إذا نظر.
وأكثر ما يكون منهم هذا التسامح، أعني قولهم إنّ «جعل» يكون
بمعنى «سمّى» في قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ
الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف:
19]، فقد ترى في التفسير أن «جعل» يكون بمعنى «سمّى»، وعلى ذاك
فلا شبه في أن ليس المعنى على مجرّد التسمية، ولكن على الحقيقة
التي وصفتها لك. وذاك أنّهم أثبتوا للملائكة صفة الإناث،
واعتقدوا وجودها فيهم، وعن هذا الاعتقاد صدر عنهم ما صدر من
الاسم أعني إطلاق اسم «البنات» وليس المعنى أنّهم وضعوا لها
لفظ «الإناث» ولفظ «البنات»، من غير اعتقاد معنى وإثبات صفة.
هذا محال.
أو لا ترى إلى قوله تعالى: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ
شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ [الزخرف: 19]، فلو كانوا لم يزيدوا
على إجراء الاسم على الملائكة، ولم يعتقدوا إثبات صفة لما قال
الله تعالى: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ. هذا ولو كانوا لم يقصدوا
إثبات صفة، ولم يكن غير أن وضعوا اسما لا يريدون به معنى، لما
استحقّوا إلّا اليسير من الذمّ، ولما كان هذا القول منهم كفرا.
والتّفسير الصحيح والعبارة المستقيمة، ما قاله أبو إسحاق
الزجاج رحمه الله، فإنه قال: إنّ «الجعل» هاهنا في معنى القول
والحكم على الشيء، تقول: «قد جعلت زيدا أعلم الناس»، أي وصفته
بذلك وحكمت به.
ونرجع إلى الغرض فنقول: فإذا ثبت أن ليست «الاستعارة» نقل
الاسم، ولكن ادّعاء معنى الاسم وكنّا إذا عقلنا من قول الرجل:
«رأيت أسدا»، أنه أراد به المبالغة في وصفه بالشجاعة، وأن
يقول: إنه من قوة القلب، ومن فرط البسالة وشدّة البطش، وفي أن
الخوف لا يخامره، والذّعر لا يعرض له، بحيث لا ينقص عن الأسد
لم نعقل ذلك من لفظ «أسد»، ولكن من ادّعائه معنى الأسد الذي
رآه ثبت بذلك أن «الاستعارة كالكناية، في أنك تعرف المعنى فيها
من طريق المعقول دون طريق اللّفظ.
(1/279)
وإذ قد عرفت أنّ طريق العلم بالمعنى في
«الاستعارة» و «الكناية» معا، المعقول، فاعلم أن حكم
«التّمثيل» في ذلك حكمهما، بل الأمر في «التمثيل» أظهر.
وذلك أنه ليس من عاقل يشكّ إذا نظر في كتاب يزيد بن الوليد «1»
إلى مروان ابن محمّد، حين بلغه أنه يتلكأ في بيعته:
«أمّا بعد، فإنّي أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى، فإذا أتاك
كتابي هذا فاعتمد على أيّتهما شئت، والسّلام» «2».
يعلم أنّ المعنى أنه يقول له: بلغني أنّك في أمر البيعة بين
رأيين مختلفين، ترى تارة أن تبايع،، وأخرى أن تمتنع من البيعة،
فإذا أتاك كتابي هذا فاعمل على أي الرأيين شئت وأنّه لم يعرف
ذلك من لفظ «التقديم والتأخير»، أو من لفظ «الرّجل»، ولكن بأن
علم أنه لا معنى لتقديم الرّجل وتأخيرها في رجل يدعى إلى
البيعة، وأنّ المعنى على أنه أراد أن يقول: إنّ مثلك في تردّدك
بين أن تبايع، وبين أن تمتنع، مثل رجل قائم ليذهب في أمر،
فجعلت نفسه تريه تارة أن الصواب في أن يذهب، وأخرى أنه في أن
لا يذهب، فجعل يقدّم رجلا تارة، ويؤخّر أخرى.
وهكذا كلّ كلام كان ضرب مثل، لا يخفى على من له أدنى تمييز أن
الأغراض التي تكون للناس في ذلك لا تعرف من الألفاظ، ولكن تكون
المعاني الحاصلة من مجموع الكلام أدلّة على الأغراض والمقاصد.
ولو كان الذي يكون غرض المتكلم يعلم من اللفظ، ما كان لقولهم:
«ضرب كذا مثلا لكذا»، معنى، فما اللفظ «يضرب مثلا» ولكن
المعنى. فإذا قلنا في قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «إيّاكم
وخضراء الدّمن» «3»، إنه ضرب عليه السلام «خضراء الدّمن» مثلا
للمرأة الحسناء في منبت السّوء، لم يكن المعنى أنه صلى الله
عليه وسلّم ضرب لفظ «خضراء الدّمن» مثلا لها. هذا ما لا يظنّه
من به مسّ، فضلا عن العاقل.
فقد زال الشكّ وارتفع في أنّ طريق العلم بما يراد إثباته
والخبر به في هذه الأجناس الثلاثة، التي هي «الكناية» و
«الاستعارة» و «التمثيل» المعقول دون اللّفظ،
__________
(1) هو أبو عبد الملك بلغ من العمر (40) سنة ودامت ولايته خمسة
أشهر توفي (126) هـ. شذرات الذهب (1/ 171).
(2) انظر البيان والتبيين (1/ 301) مع بعض الإضافة، وورد
الحديث عنها سابقا.
(3) ذكره العجلوني في كشف الخفاء (1/ 272)، وقال: رواه
الدارقطني في الأفراد، والعسكري في الأمثال، وابن عدي في
الكامل.
(1/280)
من حيث يكون القصد بالإثبات فيها إلى معنى
ليس هو معنى اللّفظ، ولكنه معنى يستدلّ بمعنى اللفظ عليه،
ويستنبط منه، كنحو ما ترى من أن القصد في قولهم:
«هو كثير رماد القدر»، إلى كثرة القرى، وأنت لا تعرف ذلك من
هذا اللفظ الذي تسمعه، ولكنك تعرفه بأن تستدلّ عليه بمعناه،
وعلى ما مضى الشرح فيه.
وإذ قد عرفت ذلك، فينبغي أن يقال لهؤلاء الذين اعترضوا علينا
في قولنا: «إنّ الفصاحة وصف يجب للكلام من أجل مزيّة تكون في
معناه، وأنها لا تكون وصفا له من حيث اللّفظ مجرّدا عن
المعنى»، واحتجّوا بأن قالوا: «إنه لو كان الكلام إذا وصف بأنه
فصيح، كان ذلك من أجل مزيّة تكون في معناه، لوجب أن يكون
تفسيره فصيحا مثله» أخبرونا عنكم، أترون أنّ من شأن هذه
الأجناس، إذا كانت في الكلام، أن تكون له بها مزيّة توجب له
الفصاحة، أم لا ترون ذلك؟
فإن قالوا: لا نرى ذلك لم يكلّموا وإن قالوا: نرى للكلام، إذا
كانت فيه، مزيّة توجب له الفصاحة.
قيل لهم: فأخبرونا عن تلك المزية، أتكون في اللفظ أم في
المعنى؟
فإن قالوا: في اللفظ دخلوا في الجهالة، من حيث يلزم من ذلك أن
تكون «الكناية» و «الاستعارة» و «التمثيل» أوصافا للفظ، لأنه
لا يتصوّر أن تكون مزيّتها في اللفظ حتى تكون أوصافا له. وذلك
محال، من حيث يعلم كلّ عاقل أنه لا يكنى باللفظ عن اللفظ، وأنه
إنّما يكنى بالمعنى عن المعنى. وكذلك يعلم أنه لا يستعار اللفظ
مجرّدا عن المعنى، ولكن يستعار المعنى، ثم اللفظ يكون تبع
المعنى، على ما قدّمنا الشرح فيه. ويعلم كذلك أنّه محال أن
يضرب «المثل» باللفظ، وأن يكون قد ضرب لفظ: «أراك تقدّم رجلا
وتؤخّر أخرى» مثلا لتردّده في أمر البيعة.
وإن قالوا: هي في المعنى.
قيل لهم: فهو ما أردناكم عليه، فدعوا الشكّ عنكم، وانتبهوا من
رقدتكم، فإنّه علم ضروريّ قد أدّى التقسيم إليه، وكلّ علم كان
كذلك، فإنه يجب القطع على كلّ سؤال يسأل فيه بأنّه خطأ، وأنّ
السّائل ملبوس عليه.
ثم إن الذي يعرف به وجه دخول الغلط عليهم في قولهم: «إنّه لو
كان الكلام يكون فصيحا من أجل مزيّة تكون في معناه، لوجب أن
يكون تفسيره فصيحا مثله»، هو أنّك إذا نظرت إلى كلامهم هذا
وجدتهم كأنهم قالوا: «إنه لو كان الكلام إذا كان
(1/281)
فيه كناية أو استعارة أو تمثيل، كان لذلك
فصيحا، لوجب أن يكون إذا لم توجد فيه هذه المعاني فصيحا أيضا».
ذاك لأن تفسير «الكناية» أن نتركها ونصرّح بالمكنّي عنه فنقول:
إن المعنى في قولهم: «هو كثير رماد القدر»، أنه كثير القرى
وكذلك الحكم في «الاستعارة»، فإنّ تفسيرها أن نتركها، ونصرّح
بالتشبيه فنقول في «رأيت أسدا»: إن المعنى: رأيت رجلا يساوي
الأسد في الشجاعة وكذلك الأمر في «التمثيل»، لأنّ تفسيره أن
نذكر المتمثّل له فنقول في قوله: «أراك تقدّم رجلا وتؤخّر
أخرى»: إن المعنى أنه قال: أراك تتردّد في أمر البيعة فتقول
تارة أفعل، وتارة لا أفعل، كمن يريد الذّهاب في وجه، فتريه
نفسه تارة أن الصواب في أن يذهب، وأخرى أنه في أن لا يذهب، فهو
يقدّم رجلا ويؤخر أخرى. وهذا خروج عن المعقول، لأنه بمنزلة أن
تقول لرجل قد نصب لوصف علّة: «إن كان هذا الوصف يجب لهذه
العلة، فينبغي أن يجب مع عدمها».
ثم إنّ الذي استهواهم، هو أنهم نظروا إلى تفسير ألفاظ اللغة
بعضها ببعض، فلما رأوا اللفظ إذا فسّر بلفظ، مثل أن يقال في
«الشرجب» إنه الطويل، لم يجز أن يكون في المفسّر من حيث
المعنى، مزيّة لا تكون في التفسير ظنوا أن سبيل ما نحن فيه ذلك
السبيل. وذلك غلط منهم، لأنه إما كان للمفسّر، فيما نحن فيه،
الفضل والمزيّة على التّفسير، من حيث كانت الدّلالة في المفسّر
دلالة معنى على معنى، وفي التفسير دلالة لفظ على معنى. وكان من
المركوز في الطّباع، والرّاسخ في غرائز العقول، أنه متى أريد
الدّلالة على معنى، فترك أن يصرّح به ويذكر باللّفظ الذي هو له
في اللغة، وعمد إلى معنى آخر فأشير به إليه، وجعل دليلا عليه
كان للكلام بذلك حسن ومزيّة لا يكونان إذا لم يصنع ذلك، وذكر
بلفظه صريحا.
ولا يكون هذا الذي ذكرت أنّه سبب فضل المفسّر على التفسير، من
كون الدّلالة في المفسّر دلالة معنى على معنى، وفي التفسير
دلالة لفظ على معنى، حتى يكون للفظ المفسّر معنى معلوم يعرفه
السامع، وهو غير معنى لفظ التفسير في نفسه وحقيقته، كما ترى من
أنّ الّذي هو معنى اللفظ في قولهم: «هو كثير رماد القدر»، غير
الّذي هو معنى اللفظ في قولهم: «هو كثير القرى»، ولو لم يكن
كذلك، لم يتصوّر أن يكون هاهنا دلالة معنى على معنى.
وإذ قد عرفت هذه الجملة، فقد حصل لنا منها أن المفسّر يكون له
دلالتان:
دلالة اللّفظ على المعنى، ودلالة المعنى الذي دلّ اللّفظ عليه
على معنى لفظ آخر ولا
(1/282)
يكون للتفسير إلّا دلالة واحدة، وهي دلالة
اللفظ. وهذا الفرق هو سبب أن كان للمفسّر الفضل والمزيّة على
التفسير.
ومحال أن يكون هذا قضيّة المفسّر والتّفسير في ألفاظ اللغة،
ذاك لأن معنى المفسّر يكون دالّا مجهولا عند السامع، ومحال أن
يكون للمجهول دلالة.
ثم إن معنى المفسّر يكون هو معنى التفسير بعينه، ومحال إذا كان
المعنى واحدا أن يكون للمفسّر فضل على التفسير، لأن الفضل كان
في مسألتنا بأن دلّ لفظ المفسّر على معنى، ثم دلّ معناه على
معنى آخر. وذلك لا يكون مع كون المعنى واحدا ولا يتصوّر.
بيان هذا: أنّه محال أن يقال إن معنى «الشّرجب» الذي هو
المفسّر، يكون دليلا على معنى تفسير الذي هو «الطويل» على وزان
قولنا إن معنى: «كثير رماد القدر»، يدل على معنى تفسيره الذي
هو «كثير القرى»، لأمرين:
أحدهما: أنك لا تفسّر «الشرجب» حتى يكون معناه مجهولا عند
السامع، ومحال أن يكون للمجهول دلالة.
والثاني: أن المعنى في تفسيرنا «الشرجب» بالطويل، أن نعلم
السامع أن معناه هو معنى الطويل بعينه. وإذا كان كذلك، كان
محالا أن يقال: إن معناه يدل على معنى الطويل، بل الذي يعقل أن
يقال: إنّ معناه هو معنى الطويل. فاعرف ذلك.
وانظر إلى لعب الغفلة بالقوم، وإلى ما رأوا في منامهم من
الأحلام الكاذبة! ولو أنهم تركوا الاستنامة إلى التقليد،
والأخذ بالهوينا، وترك النّظر، وأشعروا قلوبهم أن هاهنا كلاما
ينبغي أن يصغى إليه لعلموا، ولعاد إعجابهم بأنفسهم في سؤالهم
هذا وفي سائر أقوالهم، عجبا منها ومن تطويح الظنون بها.
وإذ قد بان سقوط ما اعترض به القوم وفحش غلطهم، فينبغي أن تعلم
أن ليست المزايا التي تجدها لهذه الأجناس على الكلام المتروك
على ظاهره، والمبالغة التي تحسّها في أنفس المعاني التي يقصد
المتكلم بخبره إليها، ولكنّها في طريق إثباته لها، وتقريره
إيّاها، وأنّك إذا سمعتهم يقولون: «إن من شأن هذه الأجناس أن
تكسب المعاني مزيّة وفضلا، وتوجب لها شرفا ونبلا، وأن تفخّمها
في نفوس السامعين» فإنهم لا يعنون أنفس المعاني، كالتي يقصد
المتكلم بخبره إليها، كالقرى والشجاعة والتردّد في الرأي،
وإنما يعنون إثباتها لما تثبت له ويخبر بها عنه.
فإذا جعلوا للكناية مزيّة على التصريح، لم يجعلوا تلك المزيّة
في المعنى المكني
(1/283)
عنه، ولكن في إثباته للذي يثبت له، وذلك
أنا نعلم أن المعاني التي يقصد الخبر بها لا تتغيّر في أنفسها
بأن يكنى عنها بمعان سواها، ويترك أن تذكر بالألفاظ التي هي
لها في اللغة. ومن هذا الذي يشكّ أن معنى طول القامة وكثرة
القرى لا يتغيّران بأن يكنى عنهما بطول النّجاد وكثرة رماد
القدر، وتقدير التغيير فيهما يؤدّي إلى أن لا تكون الكناية
عنهما، ولكن عن غيرهما؟
وقد ذكرت هذا في صدر الكتاب، وذكرت أن السبب في أن كان يكون
للإثبات إذا كان من طريق «الكناية» مزيّة لا تكون إذا كان من
طريق التصريح، أنك إذا كنيت عن كثرة القرى بكثرة رماد القدر،
كنت قد أثبت كثرة القرى بإثبات شاهدها ودليلها، وما هو علم على
وجودها، وذلك لا محالة يكون أبلغ من إثباتها بنفسها، وذلك
لأنّه يكون سبيلها حينئذ سبيل الدعوى تكون مع شاهد.
وذكرت أن السّبب في أن كانت «الاستعارة» أبلغ من الحقيقة، أنك
إذا ادّعيت للرجل أنه أسد بالحقيقة، كان ذلك أبلغ وأشدّ في
تسويته أنك إذا ادّعيت للرجل أنه أسد بالحقيقة، كان ذلك أبلغ
وأشدّ في تسويته بالأسد في الشّجاعة. ذاك لأنه محال أن يكون من
الأسود، ثم لا تكون له شجاعة الأسود. وكذلك الحكم في
«التمثيل»، فإذا قلت: «أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى»، كان أبلغ
في إثبات التردّد له من أن تقول: «أنت كمن يقدّم رجلا ويؤخر
أخرى».
واعلم أنّه قد يهجس في نفس الإنسان شيء يظنّ من أجله أنّه
ينبغي أن يكون الحكم في المزيّة التي تحدث بالاستعارة، أنها
تحدث في المثبت دون الإثبات.
وذلك أن تقول: إنّا إذا نظرنا إلى «الاستعارة»، وجدناها إنما
كانت أبلغ من أجل أنها تدل على قوّة الشبه، وأنه قد تناهى إلى
أن صار المشبّه لا يتميّز عن المشبه به في المعنى الذي من أجله
شبّه به. وإذا كان كذلك، كانت المزيّة الحادثة بها حادثة في
الشّبه. وإذا كانت حادثة في الشّبه، كانت في المثبت دون
الإثبات.
والجواب عن ذلك أن يقال: إن الاستعارة، لعمري، تقتضي قوّة
الشّبه، وكونه بحيث لا يتميّز المشبه عن المشبّه به، ولكن ليس
ذاك سبب المزيّة. وذلك لأنه لو كان ذاك سبب المزيّة، لكان
ينبغي إذا جئت به صريحا فقلت: «رأيت رجلا مساويا للأسد في
الشجاعة، وبحيث لولا صورته لظننت أنّك رأيت أسدا»، وما شاكل
ذلك من ضروب المبالغة، أن تجد لكلامك المزية التي تجدها لقولك:
«رأيت أسدا».
وليس يخفى على عاقل أنّ ذلك لا يكون.
(1/284)
فإن قال قائل: إن المزيّة من أجل أنّ
المساواة تعلم في «رأيت أسدا» من طريق المعنى، وفي «رأيت رجلا
مساويا للأسد» من طريق اللفظ.
قيل: قد قلنا فيما تقدم، إنه محال أن يتغير حال المعنى في
نفسه، بأن يكنى عنه بمعنى آخر وأنه لا يتصوّر أن يتغيّر معنى
طول القامة بأن يكنى عنه بطول النّجاد، ومعنى كثرة القرى بأن
يكنى عنه بكثير الرّماد. وكما أنّ ذلك لا يتصوّر، فكذلك لا
يتصوّر أن يتغير معنى مساواة الرّجل الأسد في الشجاعة، بأن
يكنى عن ذلك ويدلّ عليه بأن تجعله «أسدا». فأنت الآن إذا نظرت
إلى قوله: [من البسيط]
فأسبلت لؤلؤا من نرجس، وسقت ... وردا، وعضّت على العنّاب
بالبرد «1»
فرأيته قد أفادك أن «الدّمع» كان لا يخرم من شبه اللؤلؤ، و
«العين» من شبه النرجس شيئا، فلا تحسبنّ أن سبب الحسن الذي
تراه فيه، والأريحية التي تجدها عنده، أنه أفادك ذلك فحسب.
وذاك أنك تستطيع أن تجيء به صريحا فتقول:
«فأسبلت دمعا كأنه اللّؤلؤ بعينه، من عين كأنها النّرجس
حقيقة»، ثم لا ترى من ذلك الحسن شيئا. ولكن اعلم أنّ سبب أن
راقك، وأدخل الأريحيّة عليك، أنه أفادك في إثبات شدّة الشبه
مزيّة، وأوجدك فيه خاصّة قد غرز في طبع الإنسان أن يرتاح لها،
ويجد في نفسه هزّة عندها، وهكذا حكم نظائره كقول أبي نواس: [من
السريع]
تبكي فتذري الدّرّ عن نرجس، ... وتلطم الورد بعنّاب «2»
وقول المتنبي: [من الوافر]
بدت قمرا، ومالت خوط بان، ... وفاحت عنبرا، ورنت غزالا «3»
واعلم أن منشأ «الاستعارة» أنك كلما زدت إرادتك التشبيه إخفاء،
ازدادت الاستعارة حسنا، حتى إنك تراها أغرب ما تكون إذا كان
الكلام قد ألّف تأليفا إن
__________
(1) البيت للوأواء الدمشقي، في ديوانه، ويروى: «فأمطرت» بدل
«فأسبلت» وهي الرواية المشهورة.
(2) البيت في ديوانه (349)، من أربعة أبيات قالها في جنان وهي:
يا قمرا أبرزه مأتم ... يندب شجوا بين أتراب
يبكي فيذري الدر من نرجس ... ويلطم الورد بعناب
أبرزه المأتم لي كارها ... برغم بواب وحجاب
لا زال موتا دأب أحبابه ... وكان إن أبصره وابى
(3) البيت للمتنبي في ديوانه (1/ 184)، من قصيدة في مدح أبي
الحسين بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني ومطلعها:
بقائي شاء ليس هم ارتحالا ... وحسن الصبر زموا لا الجمالا
تولوا بغتة فكأن بينا ... تهيبني ففاجأني اغتيالا
بدت: ظهرت، الخوط: الغصن الناعم، رنت: نظرت. راجع البيت ص
(202) هامش (2).
(1/285)
أردت أن تفصح فيه بالتشبيه، خرجت إلى شيء
تعافه النفس ويلفظه السمع، ومثال ذلك قول ابن المعتز: [من
مجزوء الكامل]
أثمرت أغصان راحته ... لجناة الحسن عنّابا «1»
ألا ترى أنّك لو حملت نفسك على أن تظهر التشبيه وتفصح به،
احتجت إلى أن تقول: «أثمرت أصابع يده التي هي كالأغصان لطالبي
الحسن، شبيه العنّاب من أطرافها المخضوبة»، وهذا ما لا تخفى
غثاثته. من أجل ذلك كان موقع «العناب» في هذا البيت أحسن منه
في قوله:
وعضّت على العنّاب بالبرد وذاك لأن إظهار التشبيه فيه لا يقبح
هذا القبح المفرط، لأنك لو قلت:
«وعضّت على أطراف أصابع العنّاب بثغر كالبرد»، كان شيئا يتكلّم
بمثله وإن كان مرذولا. وهذا موضع لا يتبيّن سرّه إلّا من كان
ملهب الطبع حادّ القريحة. وفي الاستعارة علم كثير، ولطائف
معان، ودقائق فروق، وسنقول فيها إن شاء الله في موضع آخر.
واعلم أنّا حين أخذنا في الجواب عن قولهم: «إنه لو كان الكلام
يكون فصيحا من أجل مزيّة تكون في معناه، لكان ينبغي أن يكون
تفسيره فصيحا مثله»، قلنا:
«إن الكلام الفصيح ينقسم قسمين، قسم تعزى المزيّة فيه إلى
اللفظ، وقسم تعزى فيه إلى النظم»، وقد ذكرنا في القسم الأول من
الحجج ما لا يبقى معه لعاقل، إذا هو تأمّلها، شكّ في بطلان ما
تعلّقوا به، من أنه يلزمنا في قولنا: «إنّ الكلام يكون فصيحا
من أجل مزية تكون في معناه»، أن يكون تفسير الكلام الفصيح
فصيحا مثله، وأنه تهوّس منهم، وتقحّم في المحالات.
وأمّا القسم الذي تعزى فيه المزية إلى «النّظم» فإنهم إن ظنّوا
أن سؤالهم الذي اغترّوا به يتّجه لهم فيه، كان أمرهم أعجب،
وكان جهلهم في ذلك أغرب. وذلك أن «النظم»، كما بيّنا، إنّما هو
توخّي معاني النحو وأحكامه وفروقه ووجوهه، والعمل
__________
(1) البيت في ديوانه (40) ط، دار صادر، بيروت، وهو من قصيدة
مطلعها:
جار هذا الدهر أو آبا ... وقراك الهم أو صابا
ووفود النجم واقفة ... لا ترى في الغرب أبوابا
والجناة: القاطفون. العناب: أراد أنامله التي تشبه العناب
باحمرارها. ورواية الديوان: «لجناة الحسن» بدل «بجنان الحسن».
(1/286)
بقوانينه وأصوله، وليست معاني النّحو معاني
ألفاظ، فيتصوّر أن يكون لها تفسير.
وجملة الأمر، أن «النظم» إنما هو أن «الحمد» من قوله تعالى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مبتدأ، و «لله» خبره، و «ربّ» صفة لاسم الله تعالى ومضاف إلى
«العالمين» و «العالمين» مضاف إليه، و «الرحمن الرحيم» صفتان
كالرب، و «مالك» من قوله: «مالك يوم الدّين» صفة أيضا، ومضاف
إلى يوم. و «يوم» مضاف إلى «الدين»، و «إيّاك» ضمير اسم الله
تعالى، وهو ضمير يقع موقع الاسم إذا كان الاسم منصوبا، معنى
ذلك أنك لو ذكرت اسم الله مكانه لقلت: «الله نعبد»، ثم إنّ
«نعبد» هو المقتضى معنى النصب فيه، وكذلك حكم «إيّاك نستعين».
ثم إنّ جملة «إيّاك نستعين» معطوف بالواو على جملة «إيّاك
نعبد»، و «الصّراط» مفعول، و «المستقيم» صفة للصّراط، و «صراط
الّذين» بدل من «الصراط المستقيم»، «وأنعمت عليهم» صلة الذين،
«وغير المغضوب عليهم» صفة «الذين»، و «الضّالين» معطوف على
«المغضوب عليهم».
فانظر الآن هل يتصوّر في شيء من هذه المعاني أن يكون معنى
اللفظ؟ وهل يكون كون «الحمد» مبتدأ معنى لفظ الحمد؟ أم يكون
كون «رب» صفة وكونه مضافا إلى «العالمين» معنى لفظ «الرب»؟.
فإن قيل: إنّه إن لم تكن هذه المعاني أنفس الألفاظ، فإنها تعلم
على كل حال من ترتيب الألفاظ، ومن الإعراب، فبالرفعة في
«الدال» من «الحمد» يعلم أنه مبتدأ، وبالجر في «الباء» من «رب»
يعلم أنه صفة، وبالياء في «العالمين» يعلم أنه مضاف إليه، وعلى
هذا قياس الكلّ.
قيل: ترتيب اللفظ لا يكون لفظا، والإعراب وإن كان يكون لفظا،
فإنه لا يتصوّر أن يكون هاهنا لفظان كلاهما علامة إعراب، ثم
يكون أحدهما تفسيرا للآخر. وزيادة القول في هذا من خطل الرأي،
فإنه مما يعلمه العاقل ببديهة النظر، ومن لم يتنبّه له في أول
ما يسمع، لم يكن أهلا لأن يكلّم. ونعود إلى رأس الحديث فنقول:
قد بطل الآن من كل وجه وكل طريق، أن تكون «الفصاحة» وصفا للفظ
من حيث هو لفظ ونطق لسان. وإذا كان هذا صورة الحال وجملة
الأمر، ثم لم تر القوم تفكّروا في شيء مما شرحناه بحال، ولا
أخطروه لهم ببال، بان وظهر أنهم لم يأتوا الأمر من بابه، ولم
يطلبوه من معدنه، ولم يسلكوا إليه طريقه، وأنّهم لم يزيدوا على
(1/287)
أن أوهموا أنفسهم وهما كاذبا أنهم قد
أبانوا الوجه الذي به كان القرآن معجزا، والوصف الذي به بان من
كلام المخلوقين، من غير أن يكونوا قد قالوا فيه قولا يشفى من
شاكّ غليلا، ويكون على علم دليلا، وإلى معرفة ما قصدوا إليه
سبيلا.
واعلم أنه إذا نظر العاقل إلى هذه الأدلّة فرأى ظهورها، استبعد
أن يكون قد ظنّ ظانّ في «الفصاحة» أنّها من صفة اللفظ صريحا.
ولعمري إنه لكذلك ينبغي، إلّا أنّا إنما ننظر إلى جدّهم
وتشدّدهم وبتّهم الحكم «بأن المعاني لا تتزايد وإنما تتزايد
الألفاظ»، فلئن كانوا قد قالوا «الألفاظ» وهم لا يريدونها
أنفسها، وإنما يريدون لطائف معان تفهم منها، لقد كان ينبغي أن
يتبعوا ذلك من قولهم ما ينبئ عن غرضهم، وأن يذكروا أنهم عنوا
بالألفاظ ضربا من المعنى، أن غرضهم مفهوم خاصّ.
هذا، وأمر «النظم» في أنه ليس شيئا غير توخّي معاني النحو فيما
بين الكلم، وأنك ترتّب المعاني، أوّلا في نفسك، ثم تحذو على
ترتيبها الألفاظ في نطقك، وأنّا لو فرضنا
أن تخلو الألفاظ من المعاني، لم يتصوّر أن يجب فيها نظم وترتيب
في غاية القوة والظهور، ثمّ ترى الذين لهجوا بأمر «اللفظ» قد
أبوا إلّا أن يجعلوا «النّظم» في الألفاظ. ترى الرّجل منهم يرى
ويعلم أن الإنسان لا يستطيع أن يجيء بالألفاظ مرتّبة إلّا من
بعد أن يفكّر في المعاني ويرتّبها في نفسه على ما أعلمناك، وثم
تفتّشه فتراه لا يعرف الأمر بحقيقته، وتراه ينظر إلى حال
السامع، فإذا رأى المعاني لا تقع مرتّبة في نفسه إلا من بعد أن
تقع الألفاظ مرتبة في سمعه، نسي حال نفسه، واعتبر حال من يسمع
منه. وسبب ذلك قصر الهمّة، وضعف العناية، وترك النّظر، والأنس
بالتقليد. وما يغني وضوح الدّلالة مع من لا ينظر فيها، وإنّ
الصّبح ليملأ الأفق، ثم لا يراه النائم ومن قد أطبق جفنه؟.
واعلم أنك لا ترى في الدّنيا علما قد جرى الأمر فيه بديئا
وأخيرا على ما جرى عليه في «علم الفصاحة والبيان».
أما البديء، فهو أنك لا ترى نوعا من أنواع العلوم إلّا وإذا
تأملت كلام الأوّلين الذين علّموا الناس، وجدت العبارة فيه
أكثر من الإشارة، والتصريح أغلب من التّلويح. والأمر في «علم
الفصاحة» بالضد من هذا. فإنك إذا قرأت ما قاله العلماء فيه،
وجدت جلّه أو كلّه رمزا ووحيا، وكناية وتعريضا، وإيماء إلى
الغرض من وجه لا يفطن له إلّا من غلغل الكفر وأدقّ النّظر، ومن
يرجع من طبعه إلى ألمعيّة يقوى معها على الغامض، ويصل بها إلى
الخفي، حتى كأنّ بسلا حراما أن تتجلّى معانيهم سافرة
(1/288)
الأوجه لا نقاب لها، وبادية الصّفحة لا
حجاب دونها، وحتى كأن الإفصاح بها حرام، وذكرها إلا على سبيل
الكناية والتعريض غير سائغ.
وأما الأخير، فهو أنّا لم نر العقلاء قد رضوا من أنفسهم في شيء
من العلوم أن يحفظوا كلاما للأوّلين ويتدارسوه، ويكلّم به
بعضهم بعضا، من غير أن يعرفوا له معنى، ويقفوا منها على غرض
صحيح، ويكون عندهم، إن يسألوا عنه، بيان له وتفسير إلا «علم
الفصاحة»، فإنّك ترى طبقات من الناس يتداولون فيما بينهم
ألفاظا للقدماء وعبارات، من غير أن يعرفوا لها معنى أصلا، أو
يستطيعوا- إن يسألوا عنها- أن يذكروا لها تفسيرا يصحّ.
فمن أقرب ذلك، أنك تراهم يقولون إذا هم تكلموا في مزيّة كلام
على كلام:
«إن ذلك يكون بجزالة اللّفظ» وإذا تكلّموا في زيادة نظم على
نظم: «إن ذلك يكون لوقوعه على طريقة مخصوصة وعلى وجه دون وجه»،
ثم لا تجدهم يفسّرون الجزالة بشيء، ويقولون في المراد
«بالطريقة» و «الوجه» ما يحلى منه السامع بطائل.
ويقرءون في كتب البلغاء ضروب كلام قد وصفوا «اللّفظ» فيها
بأوصاف يعلم ضرورة إليه من حيث هو لفظ ونطق لسان وصدى حرف،
وكقولهم: «لفظ متمكّن غير قلق ولا ناب به موضعه، وإنّه جيّد
السبك صحيح الطّابع، وأنه ليس فيه فضل عن معناه» وكقولهم: «إن
من حقّ اللفظ أن يكون طبقا للمعنى، لا يزيد عليه ولا ينقص عنه»
وكقول بعض من وصف رجلا من البلغاء: «كانت ألفاظه قوالب
لمعانيه»، هذا إذا مدحوه وقولهم إذا ذمّوه: «هو لفظ معقّد،
وإنه بتعقيده قد استهلك المعنى»، وأشباه لهذا، ثم لا يخطر
ببالهم أنه يجب أن يطلب لما قالوه معنى، وتعلم له فائدة،
ويجشّم فيه فكر، وأن يعتقد على الجملة أقلّ ما في الباب، أنه
كلام لا يصحّ حمله على ظاهره، وأن يكون المراد «باللفظ» فيه
نطق اللسان.
فالوصف بالتّمكّن والقلق في «اللفظ» محال، فإنما يتمكن الشّيء
ويقلق إذا كان شيئا يثبت في مكان، و «الألفاظ» حروف لا يوجد
منها حرف حتى يعدم الذي كان قبله. وقولهم: «متمكّن» أو «قلق»
وصف للكلمة بأسرها، لا حرف حرف منها.
ثم إنه لو كان يصحّ في حروف الكلمة أن تكون باقية بمجموعها،
لكان ذلك فيها محالا أيضا، من حيث أنّ الشيء إنما يتمكن ويقلق
في مكان الذي يوجد فيه، ومكان الحروف إنّما هو الحلق والفم
واللسان والشفتان، فلو كان يصحّ عليها أن توصف بأنها تتمكّن
وتقلق، لكان يكون ذلك التمكّن وذلك القلق منها في أماكنها من
الحلق والفم واللسان والشفتين.
(1/289)
وكذلك قولهم: «لفظ ليس فيه فضل عن معناه»،
محال أن يكون المراد به «اللّفظ»، لأنه ليس هاهنا اسم أو فعل
أو حرف يزيد على معناه أو أن ينقص عنه.
كيف؟ وليس بالذّرع وضعت الألفاظ على المعاني.
وإن اعتبرنا المعاني المستفادة من الجمل، فكذلك. وذلك أنه ليس
هاهنا جملة من مبتدأ وخبر أو فعل وفاعل، يحصل بها الإثبات أو
النّفي، أتمّ أو أنقص مما يحصل بأخرى. وإنّما فضل اللفظ عن
المعنى: أن تزيد الدّلالة بمعنى على معنى، فتدخل في أثناء ذلك
شيئا لا حاجة بالمعنى المدلول عليه إليه. وكذلك السبيل في
«السّبك والطّابع» وأشباههما، لا يحتمل شيء من ذلك أن يكون
المراد به «اللّفظ» من حيث هو لفظ.
فإن أردت الصدق، فإنّك لا ترى في الدنيا شأنا أعجب من شأن
الناس مع «اللفظ»، ولا فساد رأي مازج النفوس وخامرها واستحكم
فيها وصار كإحدى طبائعها، من رأيهم في «اللفظ». فقد بلغ من
ملكته لهم وقوّته عليهم، أن تركهم وكأنهم إذا نوظروا فيه أخذوا
عن أنفسهم، وغيّبوا عن عقولهم، وحيل بينهم وبين أن يكون لهم
فيما يسمعونه نظر، ويرى لهم إيراد في الإصغاء وصدر، فلست ترى
إلا نفوسا قد جعلت ترك النّظر دأبها، ووصلت بالهوينا أسبابها،
فهي تغترّ بالأضاليل وتتباعد عن التحصيل، وتلقي بأيديها إلى
الشّبه، وتسرع إلى القول المموّه.
ولقد بلغ من قلّة نظرهم أن قوما منهم لما رأوا الكتب المصنّفة
في اللّغة قد شاع فيها أن توصف الألفاظ المفردة بالفصاحة،
ورأوا أبا العباس ثعلبا قد سمّى كتابه «الفصيح» «1»، مع أنه لم
يذكر فيه إلّا اللغة والألفاظ المفردة، وكان محالا إذا قيل: إن
«الشّمع» بفتح الميم، أفصح من «الشّمع» بإسكانه، وأن يكون ذلك
من أجل المعنى، إذ ليس تفيد الفتحة في الميم شيئا في الذي سمّي
به سبق إلى قلوبهم أنّ حكم الوصف بالفصاحة أينما كان وفي أيّ
شيء كان، أن لا يكون له مرجع إلى المعنى البتّة، وأن يكون وصفا
للّفظ في نفسه، ومن حيث هو لفظ ونطق لسان ولم يعلموا أن المعنى
في وصف الألفاظ المفردة بالفصاحة، أنها في اللّغة أثبت، وفي
استعمال الفصحاء أكثر.
أو أنها أجرى على مقاييس اللغة والقوانين التي وضعوها، وأنّ
الذي هو معنى «الفصاحة» في أصل اللغة، هو الإبانة عن المعنى،
بدلالة قولهم: «فصيح» و «أعجم»،
__________
(1) كتاب في الأدب واللغة لثعلب النحوي المتوفى سنة (291 هـ)،
وله شروح كثيرة منها شرح المبرد، كشف الظنون (2/ 1272).
(1/290)
وقولهم: «أفصح الأعجمي»، و «فصح اللّحّان»
و «أفصح الرّجل بكذا»، إذا صرّح به وأنه لو كان وصفهم الكلمات
المفردة بالفصاحة من أجل وصف هو لها من حيث هي ألفاظ ونطق
لسان، لوجب إذا وجدت كلمة يقال إنها كلمة فصيحة على صفة في
اللّفظ؛ أن لا توجد كلمة على تلك الصّفة، إلا وجب لها أن تكون
فصيحة، وحتى يجب إذا كانت «فقهت الحديث» بالكسر أفصح منه
بالفتح، أن يكون سبيل كلّ فعل مثله في الزّنة أن يكون الكسر
فيه أفصح من الفتح.
ثم إنّ فيما أودعه ثعلب كتابه، ما هو أفصح، من أجل أن لم يكن
فيه حرف كان فيما جعله أفصح منه، ومثل أنّ «وقفت» أفصح من
«أوقفت»، أفترى أنّه حدث في «الواو» و «القاف» و «الفاء» بأن
لم يكن معها الهمزة، فضيلة وجب لها أن تكون أفصح؟ وكفى برأي
هذا مؤدّاه تهافتا وخطلا! وجملة الأمر أنه لا بدّ لقولنا
«الفصاحة» من معنى يعرف، فإن كان ذلك المعنى وصفا في ألفاظ
الكلمات المفردة، فينبغي أن يشار لنا إليه، وتوضع اليد عليه.
ومن أبين ما يدلّ على قلة نظرهم، أنه لا شبهة على من نظر في
كتاب تذكر فيه «الفصاحة»، أن «الاستعارة» عنوان ما يجعل به
«اللفظ» فصيحا، وأن «المجاز» جملته، و «الإيجاز» من معظم ما
يوجب للّفظ الفصاحة. وأنت تراهم يذكرون ذلك ويعتمدونه، ثم يذهب
عنهم أن إيجابهم «الفصاحة» للفظ بهذه المعاني، اعتراف بصحّة ما
نحن ندعوهم إلى القول به، من أنّه يكون فصيحا لمعناه.
أما «الاستعارة»، فإنهم إن أغفلوا فيها الذي قلناه، من أن
المستعار بالحقيقة يكون معنى «اللفظ»، واللّفظ تبع، من حيث أنا
لا نقول: «رأيت أسدا»، ونحن نعني رجلا، إلّا على أنّا ندّعي
أنّا رأينا أسدا بالحقيقة، من حيث نجعله لا يتميّز عن الأسد في
بأسه وبطشه وجرأة قلبه فإنهم على كل حال لا يستطيعون أن يجعلوا
«الاستعارة» وصفا للّفظ من حيث هو لفظ، مع أن اعتقادهم أنك إذا
قلت: «رأيت أسدا»، كنت نقلت اسم «الأسد» إلى «الرجل»، أو جعلته
هكذا غفلا ساذجا في معنى شجاع. أفترى أن لفظ «الأسد» لما نقل
عن السبع إلى «الرجل» المشبه به، أحدث هذا النقل في أجراس
حروفه ومذاقتها وصفا صار بذلك الوصف فصيحا؟
ثم إن من «الاستعارة» قبيلا «1» لا يصحّ أن يكون المستعار فيه
«اللفظ» البتّة،
__________
(1) القبيل: الكفيل والعريف والضامن القاموس «قبل» (1351).
(1/291)
ولا يصحّ أن تقع الاستعارة فيه إلا على
المعنى. وذلك ما كان مثل «اليد» في قول لبيد: [من الكامل]
وغداة ريح قد كشفت وقرّة، ... إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها «1»
ذاك أنه ليس هاهنا شيء يزعم أنّ شبهه باليد، حتى يكون لفظ
«اليد» مستعارا له، وكذلك ليس فيه شيء يتوهّم أن يكون قد شبّهه
بالزمام، وإنما المعنى على أنه شبه «الشّمال» في تصريفها
«الغداة» على طبيعتها، بالإنسان يكون زمام البعير في يده، فهو
يصرّفه على إرادته، ولما أراد ذلك جعل للشّمال يدا، وعلى
الغداة زماما.
وقد شرحت هذا قبل شرحا شافيا.
وليس هذا الضّرب من الاستعارة بدون الضرب الأول في إيجاب وصف
«الفصاحة» للكلام، لا بل هو أقوى منه في اقتضائها. والمحاسن
التي تظهر به، والصّور التي تحدث للمعاني بسببه، آنق وأعجب.
وإن أردت أن تزداد علما بالذي ذكرت لك من أمره، فانظر إلى
قوله: [من الرجز] سقته كفّ اللّيل أكواس الكرى «2» وذلك أنه
ليس يخفى على عاقل أنه لم يرد أن يشبّه شيئا بالكفّ، ولا أراد
ذلك في «الأكواس»، ولكن لما كان يقال: «سكر الكرى»، و «سكر
النوم»، استعار للكرى «الأكواس»، كما استعار الآخر «الكاس» في
قوله: [من البسيط] وقد سقى القوم كأس النّعسة السّهر «3» ثمّ
إنه لمّا كان الكرى يكون في الليل، جعل الليل ساقيا، ولما جعله
ساقيا جعل له كفّا، إذ كان السّاقي يناول الكأس بالكفّ.
ومن اللّطيف النادر في ذلك، ما تراه في آخر هذه الأبيات، وهي
للحكم بن قنبر: [من الطويل]
ولولا اعتصامي بالمنى كلّما بدا ... لي اليأس منها، لم يقم
بالهوى صبري
ولولا انتظاري كلّ يوم جدى غد، ... لراح بنعشي الدّافنون إلى
قبري
__________
(1) سبق ص (278) هامش (2).
(2) أكؤس: جمع الكأس، وفي مطبوعة الشيخ محمود شاكر: أكواس.
(3) البيت لأبي دهبل الجمحي، وهو في ديوانه.
(1/292)
وقد رابني وهن المنى وانقباضها ... وبسط
جديد اليأس كفّيه في صدري
ليس المعنى على أنه استعار لفظ «الكفين» لشيء، ولك على أنّه
أراد أن يصف اليأس بأنه قد غلب على نفسه، وتمكّن في صدره. لو
ما أراد ذلك وصفه بما يصفون فيه الرجل
بفضل القدرة على الشيء. وبأنّه ممكّن منه، وأن يفعل فيه كلّ ما
يريد، كقولهم: «قد بسط يديه في المال ينفقه ويصنع فيه ما
يشاء»، و «قد بسط العمل يده في الناحية وفي ظلم الناس»، فليس
لك إلّا أن تقول: إنه لما أراد ذلك، جعل لليأس «كفّين»،
واستعارهما له، فأمّا أن توقع الاستعارة فيه على «اللفظ»، فما
لا تخفى استحالته على عاقل.
والقول في «المجاز» هو القول في «الاستعارة»، لأنه ليس هو بشيء
غيرها، وإنما الفرق أنّ «المجاز» أعمّ، من حيث أن كلّ استعارة
مجاز، وليس كلّ مجاز استعارة.
وإذا نظرنا من «المجاز» فيما لا يطلق عليه أنه «استعارة»،
ازداد خطأ القوم قبحا وشناعة. وذلك أنه يلزم على قياس قولهم أن
يكون إنّما كان قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ
اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً [يونس:
67]، أفصح من أصله الذي هو قولنا: «والنهار لتبصروا أنتم فيه،
أو مبصرا أنتم فيه»، من أجل أنه حدث في حروف «مبصر» بأن جعل
الفعل للنّهار على سعة الكلام وصف لم يكن. وكذلك يلزم أن يكون
السبب في أن كان قول الشاعر: [من الرجز] فنام ليلي وتجلّى همّي
«1» أفصح من قولنا: فنمت في ليلي أن كسب هذا المجاز لفظ «نام»
ولفظ «الليل» مذاقة لم تكن لهما. وهذا مما ينبغي للعاقل أن
يستحي منه، وأن يأنف من أن يهمل النّظر إهمالا يؤدّيه إلى
مثله، ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق.
وإذ قد عرفت ما لزمهم في «الاستعارة» و «المجاز»، فالذي يلزمهم
في «الإيجاز» أعجب. وذلك أنه يلزمهم إن كان «اللّفظ» فصيحا
لأمر يرجع إليه نفسه دون معناه أن يكون كذلك موجزا لأمر يرجع
إلى نفسه. وذلك من المحال الذي يضحك منه، لأنه لا معنى للإيجاز
إلّا أن يدلّ بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى، وإذا لم
تجعله وصفا للّفظ من أجل معناه، أبطلت معناه، أعني أبطلت معنى
الإيجاز.
__________
(1) راجع ص (197) هامش (1).
(1/293)
ثم إن هاهنا معنى شريفا قد كان ينبغي أن
نكون قد ذكرناه في أثناء ما مضى من كلامنا، وهو أنّ العاقل إذا
نظر علم علم ضرورة أنه لا سبيل له إلى أن يكثّر معاني الألفاظ
أو يقلّلها، لأن المعاني المودعة في الألفاظ لا تتغيّر على
الجملة عمّا أراده واضع اللّغة، وإذا ثبت ذلك، ظهر منه أنّه لا
معنى لقولنا: «كثرة المعنى مع قلّة اللفظ»، غير أن «المتكلم
يتوصّل بدلالة المعنى على المعنى إلى فوائد، لو أنه أراد
الدّلالة عليها باللّفظ لاحتاج إلى لفظ كثير.
واعلم أنّ القول الفاسد والرأي المدخول، إذا كان صدره عن قوم
لهم نباهة وصيت وعلوّ منزلة في أنواع من العلوم غير العلم الذي
قالوا ذلك القول فيه، ثم وقع في الألسن فتداولته ونشرته، وفشا
وظهر، وكثر الناقلون له والمشيدون بذكره صار ترك النّظر فيه
سنّة، والتقليد دينا، ورأيت الذين هم أهل ذلك العلم وخاصّته
والممارسون له، والذين هم خلقاء أن يعرفوا وجه الغلط والخطأ
فيه لو أنهم نظروا فيه كالأجانب الذين ليسوا من أهله، في قبوله
والعمل به والرّكون إليه، ووجدتهم قد أعطوه مقادتهم، وألانوا
له جانبهم، وأوهمهم النّظر إلى منتماه ومنتسبه، ثم اشتهاره
وانتشاره وإطباق الجمع بعد الجمع عليه أن الضّنّ به أصوب،
والمحاماة عليه أولى. ولربّما بل كلّما ظنّوا أنه لم يشع ولم
يتّسع، ولم يروه خلف عن سلف، وآخر عن أوّل، إلّا لأن له أصلا
صحيحا، وأنه أخذ من معدن صدق، واشتقّ من نبعة كريمة، وأنه لو
كان مدخولا لظهر الدّخل «1» الذي فيه على تقادم الزّمان وكرور
الأيام. وكم من خطأ ظاهر ورأي فاسد حظي بهذا السّبب عند
النّاس، حتى بوّءوه في أخصّ موضع من قلوبهم، ومنحوه المحبة
الصادقة من نفوسهم، وعطفوا عليه عطف الأمّ على واحدها. وكم من
داء دويّ قد استحكم بهذه العلّة، حتى أعيا علاجه، وحتّى بعل به
«2» الطبيب.
ولولا سلطان هذا الذي وصفت على الناس، وأنّ له أخذة تمنع
القلوب عن التدبّر، وتقطع عنها دواعي التفكّر لما كان لهذا
الّذي ذهب إليه القوم في أمر «اللفظ» هذا التمكّن وهذه القوة،
ولا كان يرسخ في النفوس هذا الرّسوخ، وتنشعب عروقه هذا الشّعب،
مع الذي بان من تهافته وسقوطه وفحش الغلط فيه، وأنّك لا ترى في
أديمه من أين نظرت، وكيف صرّفت وقلّبت مصحّا، ولا تراه باطلا
فيه شوب من الحق، وزيفا فيه شيء من الفضّة، ولكن ترى الغشّ
بحتا والغيظ صرفا، ونسأل الله التوفيق.
__________
(1) الدخل: الفساد وقوله «لظهر الدخل»: جواب الشرط: وهو «كلّما
ظنوا».
(2) بعل الطبيب بأمره: دهش وجرم ولم يدر ما يصنع. القاموس
«برم» (249). الأخذة: رقية كالسحر. القاموس «أخذ» (421).
(1/294)
وكيف لا يكون في إسار الأخذة، ومحولا بينه
وبين الفكرة من يسلّم أن الفصاحة لا تكون في أفراد الكلمات،
وأنها إنّما تكون فيها إذا ضمّ بعضها إلى بعض، ثم لا يعلم أنّ
ذلك يقتضي أن تكون وصفا لها، من أجل معانيها، لا من أجل
أنفسها، ومن حيث هي ألفاظ ونطق لسان؟
ذاك لأنه ليس من عاقل يفتح عين قلبه، إلّا وهو يعلم ضرورة أنّ
المعنى في «ضمّ بعضها إلى بعض»، تعليق بعضها ببعض، وجعل بعضها
بسبب من بعض، لا أن ينطق بعضها في أثر بعض، من غير أن يكون
فيما بينها تعلّق، ويعلم كذلك ضرورة إذا فكّر، أن التعلّق يكون
فيما بين معانيها، لا فيما بينها أنفسها. ألا ترى أنّا لو
جهدنا كلّ الجهد أن نتصوّر تعلّقا فيما بين لفظين لا معنى
تحتهما، لم نتصوّر؟ ومن أجل ذلك انقسمت الكلم قسمين: «مؤتلف»
وهو الاسم مع الاسم، والفعل مع الاسم، و «غير مؤتلف» وهو ما
عدا ذلك كالفعل مع الفعل، والحرف مع الحرف. ولو كان التعلّق
يكون بين الألفاظ، لكان ينبغي أن لا يختلف حالها في الائتلاف،
وأن لا يكون في الدنيا كلمتان إلّا ويصحّ أن يأتلفا، لأنه لا
تنافي بينهما من حيث هي ألفاظ.
وإذا كان كلّ واحد منهم قد أعطى يده بأن الفصاحة لا تكون في
الكلم أفرادا، وأنّها إنّما تكون إذا ضمّ بعضها إلى بعض، وكان
يكون المراد بضمّ بعضها إلى بعض، تعليق معانيها بعضها ببعض، لا
كون بعضها في النّطق على إثر بعض كان واجبا، وإذا علم ذلك، أن
يعلم أنّ الفصاحة تجب لها من أجل معانيها، لا من أجل أنفسها،
لأنه محال أن
يكون سبب ظهور الفصاحة فيها، تعلّق معانيها بعضها ببعض، ثم
تكون الفصاحة وصفا يجب لها لأنفسها لا لمعانيها. وإذا كان
العلم بهذا ضرورة، ثم رأيتهم لا يعلمونه، فليس إلّا أن
اعتزامهم على التّقليد قد حال بينهم وبين الفكرة، وعرض لهم منه
شبه الأخذة.
واعلم أنّك إذا نظرت وجدت مثلهم مثل من يرى خيال الشيء فيحسبه
الشيء.
وذاك أنهم قد اعتمدوا في كلّ أمرهم على النّسق الذي يرونه في
الألفاظ، وجعلوا لا يحفلون بغيره، ولا يعوّلون في الفصاحة
والبلاغة على شيء سواه، حتى انتهوا إلى أن زعموا أن من عمد إلى
شعر فصيح فقرأه ونطق بألفاظه على النّسق الذي وضعها الشاعر
عليه، كان قد أتى بمثل ما أتى به الشاعر في فصاحته وبلاغته
إلّا أنهم زعموا أنه يكون في إتيانه به محتذيا لا مبتدئا.
ونحن إذا تأمّلنا وجدنا الذي يكون في الألفاظ من تقديم شيء
منها على
(1/295)
شيء، إنما يقع في النفس أنّه «نسق»، إذا
اعتبرنا ما توخّي من معاني النحو في معانيها، فأمّا مع ترك
اعتبار ذلك، فلا يقع ولا يتصوّر بحال. أفلا ترى أنك لو فرضت في
قوله: [من الطويل] قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل «1» أن لا يكون
«نبك» جوابا للأمر، ولا يكون معدّى «بمن» إلى «ذكرى»، ولا يكون
«ذكرى» مضافة إلى «حبيب»، ولا يكون «منزل» معطوفا بالواو على
«حبيب» لخرج ما ترى فيه من التقديم والتأخير عن أن يكون
«نسقا»؟ ذاك لأنه إنما يكون تقديم الشيء على الشيء نسقا
وترتيبا، إذا كان ذلك التقديم قد كان لموجب أوجب ن يقدّم هذا
ويؤخّر ذاك، فأمّا أن يكون مع عدم الموجب نسقا، فمحال، لأنه لو
كان يكون تقديم اللفظ على اللفظ من غير أن يكون له موجب
«نسقا»، لكان ينبغي أن يكون توالي الألفاظ في النّطق على أي
وجه كان «نسقا»، حتى إنّك لو قلت: «نبك قفا حبيب ذكرى من»، لم
تكن قد أعدمته النسق والنظم، وإنما أعدمته الوزن فقط. وقد
تقدّم هذا فيما مضى، ولكنّا أعدناه هاهنا، لأن الذي أخذنا فيه
من إسلام القوم أنفسهم إلى التقليد، اقتضى إعادته.
واعلم أن «الاحتذاء» عند الشعراء وأهل العلم بالشّعر وتقديره
وتمييزه، أن يبتدئ الشاعر في معنى له وغرض أسلوبا- و «الأسلوب»
الضّرب من النّظم والطريقة فيه فيعمد شاعر آخر إلى ذلك
«الأسلوب» فيجيء به في شعره، فيشبّه بمن يقطع من أديمه نعلا
على مثال نعل قد قطعها صاحبها، فيقال: «قد احتذى على مثاله»،
وذلك مثل أنّ الفرزدق قال: [من الطويل]
أترجو ربيع أن تجيء صغارها ... بخير، وقد أعيا ربيعا كبارها
«2»
واحتذاه البعيث فقال: [من الطويل]
أترجو كليب أن يجيء حديثها ... بخير، وقد أعيا كليبا قديمها
«3»
__________
(1) البيت سبق في أكثر من موضع وسبق تخريجه، راجع ص (236) هامش
رقم (1).
(2) البيت في ديوانه (1/ 272) ط، دار صادر، بيروت، من ثلاث
أبيات هو أولها في هجاء بني ربيع ابن الحارث رهط مرة بن محكان
والبيتان اللذان بعده:
عتلّون، صخابوا العشى كأنهم ... جداء من المعزى شديد يعارها
إذا النجم وافى مغرب الشمس حاردت ... مقاري عبيد واشتكى القدر
جارها
(3) البيت من قصيدة البعيث في النقائض (109، 125).
(1/296)
وقالوا: إنّ الفرزدق لما سمع هذا البيت
قال: [من الوافر]
إذا ما قلت قافية شرودا ... تنحّلها ابن حمراء العجان «1»
ومثل ذلك أنّ البعيث قال في هذه القصيدة: [من الطويل]
كليب لئام النّاس قد تعلمونه ... وأنت إذا عدّت كليب لئيمها
وقال البحتريّ: [من الطويل]
بنو هاشم في كل شرق ومغرب ... كرام بني الدّنيا وأنت كريمها
وحكى العسكريّ في «صنعة الشعر» «2» أن ابن الرّوميّ قال: قال
لي البحتري:
قول أبي نواس: [من الطويل]
ولم أدر من هم غير ما شهدت لهم ... بشرقيّ ساباط الدّيار
البسابس «3»
مأخوذ من قول أبي خراش الهذليّ: [من الطويل]
ولم أدر من ألقى عليه رداءه؟ ... سوى أنّه قد سلّ من ماجد محض
قال فقلت: قد اختلف المعنى! فقال: أما ترى حذو الكلام حذوا
واحدا؟
وهذا الذي كتبت من جليّ الأخذ في «الحذو»، وممّا هو في حدّ
الخفيّ قول البحتريّ: [من الطويل]
ولن ينقل الحسّاد مجدك بعد ما ... تمكّن رضوى واطمأن متالع «4»
وقول أبي تمام: [من الكامل]
ولقد جهدتم أن تزيلوا عزّه ... فإذا أبان قد رسا ويلملم «5»
قد احتذى كل واحد منهما على قول الفرزدق: [من الكامل]
__________
(1) هو في ديوانه، والنقائض (125)، و «تنحّلها»: انتحلها، وابن
حمراء العجان: يعني البعيث لأن أمه أعجمية غير عربية.
(2) أبو هلال العسكري صاحب «الصناعتين»، كشف الظنون (2/ 1082).
(3) هو في ديوانه ص (83)، وساباط هو ساباط كسرى بالمدائن
والبسابس: القفار. وفي رواية «ما هم» بدل «من هم»، وبه بدل
لهم.
(4) البيت في ديوانه، ورضوى ومتالع: جبلان.
(5) البيت في ديوانه ص (258) من قصيدة يمدح فيها مالك بن طوق
حين عزل عن الجزيرة مطلعها:
أرض مصرّدة وأخرى تثجم ... تلك التي رزقت وأخرى تحرم
والمصرّدة: الممنوعة، وتثجم: تمطر. وأما «أبان» و «يلملم» فهما
جبلان.
(1/297)
فادفع بكفّك، إن أردت بناءنا، ... ثهلان ذا
الهضبات، هل يتحلحل؟ «1»
وجملة الأمر أنهم لا يجعلون الشاعر «محتذيا» إلّا بما يجعلونه
به آخذا ومسترقا، قال ذو الرمة: [من الوافر]
وشعر قد أرقت له غريب ... أجنّبه المساند والمحالا
فبتّ أقيمه وأقدّ منه ... قوافي لا أريد لها مثالا «2»
قال يقول: لا أحذوها على شيء سمعته.
فأمّا أن يجعل إنشاد الشّعر وقراءته «احتذاء»، فما لا يعلمونه
كيف؟ وإذا عمد عامد إلى بيت شعر فوضع مكان كلّ لفظة لفظا في
معناه، كمثل أن يقول في قوله:
[من البسيط]
دع المكارم لا ترحل لبغيتها، ... واقعد فإنّك أنت الطّاعم
الكاسي
ذر المآثر لا تذهب لمطلبها، ... واجلس فإنك أنت الآكل اللّابس
«3»
لم يجعلوا ذلك «احتذاء» ولم يؤهّلوا صاحبه لأن يسموه «محتذيا»،
ولكن يسمّون هذا الصنيع «سلخا» «4»، ويرذّلونه ويسخّفون
المتعاطي له. فمن أين يجوز لنا أن نقول في صبيّ يقرأ قصيدة
امرئ القيس: إنه احتذاه في قوله:
__________
(1) البيت للفرزدق في ديوانه ص (157) من قصيدة مطلعها:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا، دعائمه أعزّ وأطول
وثهلان: جبل، ويتحلحل: يتحرك، يقال: حلحل القوم أزالهم عن
مواضعهم، والتحلحل:
التحرّك، انظر البيت في اللسان (حلل)، وجاء برواية «ذو» بدلا
من «ذا» والصواب ذا. وفي مقاييس اللغة (2/ 20)، وتاج العروس
(ثهل)، (حلل)، وبلا نسبة في أساس البلاغة (ثهل).
(2) البيتان لذي الرّمة في ديوانه ص (200)، والأول في أساس
البلاغة (فعل)، والثاني في لسان العرب (سند). والأرق: السهر.
المساند في الشّعر كالسّناد وهو من عيوب الشّعر. المحال من
الكلام:
ما صرف عن وجهه. وقوله: أقيمه، أي: أقيم الشّعر شعرا لا يقوله
غيره. والبيتان من قصيدة له يمدح فيها بلال بن أبي بردة
مطلعها:
أراح فريق جيرتك الجمالا ... كأنهم يريدون احتمالا
والاحتمال: الرحيل.
(3) البيت للحطيئة في ديوانه ص (108)، والأزهية ص (175)،
والأغاني (2/ 155)، وخزانة الأدب (6/ 299)، وشرح شواهد الشافية
(ص 120)، وشرح شواهد المغني (2/ 916)، وشرح المفصل (6/ 15)،
والشعر والشعراء (ص 334)، ولسان العرب (ذرق)، (طعم)، (كسا)،
وتاج العروس (طعم)، (كسا)، وكتاب العين (1/ 143)، وبلا نسبة في
تلخيص الشواهد (ص 418)، وكتاب العين (2/ 26).
(4) السلخ: وهو نوع من أنواع السرقات الشعرية وهو الإلمام ومن
أنواع السرقات «النسخ، المسخ ... ».
(1/298)
فقلت له لمّا تمطّى بصلبه ... وأردف أعجازا
وناء بكلكل «1»
والعجب من أنّهم لم ينظروا فيعلموا أنه لو كان منشد الشّعر
«محتذيا»، لكان يكون قائل شعر، كما أن الذي يحذو النّعل بالنعل
يكون قاطع نعل.
وهذا تقرير يصلح لأن يحفظ للمناظرة ينبغي أن يقال لمن يزعم أن
المنشد إذا أنشد شعر امرئ القيس، كان قد أتى بمثله على سبيل
«الاحتذاء»: أخبرنا عنك؟ لماذا زعمت أنّ المنشد قد أتى بمثل ما
قاله امرؤ القيس؟ ألأنه نطق بأنفس الألفاظ التي نطق بها، أم
لأنه راعى «النّسق» الذي راعاه في النّطق بها؟.
فإن قلت: «إنّ ذلك لأنه نطق بأنفس الألفاظ التي نطق بها»،
أحلت، لأنه إنما يصحّ أن يقال في الثاني أنه أتى بمثل ما أتى
بمثل ما أتى به الأوّل، إذا كان الأوّل قد سبق إلى
شيء فأحدثه ابتداء، وذلك في الألفاظ محال، إذ ليس يمكن أن
يقال: إنه لم ينطق بهذه الألفاظ التي هي في قوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل «2» قبل امرئ القيس أحد.
وإن قلت: إنّ ذلك لأنه قد راعى في نطقه بهذه الألفاظ «النّسق»
الذي راعاه امرؤ القيس.
قيل: إن كنت لهذا قضيت في المنشد أنّه قد أتى بمثل شعره،
فأخبرنا عنك؟
إذا قلت: «إن التّحدي وقع في القرآن إلى أن يؤتى بمثله على جهة
الابتداء»، ما تعني به؟ أتعني أنه يأتي في ألفاظ غير ألفاظ
القرآن، بمثل الترتيب والنسق الذي تراه في ألفاظ القرآن؟
فإن قال: ذلك أعني.
قيل له: أعلمت أنّه لا يكون الإتيان بالأشياء بعضها في أثر بعض
على التوالي
__________
(1) البيت في ديوانه (ص 117)، وجاءت بلفظ «بجوزه» بدلا من
«بصلبه»، والبيت في الإيضاح (ص 265)، والبيتان في المعاني
والبيان للطيبي (ص 320)، وتمطى بصلبه: تمدد بظهره ويروى بجوزه
أي بجسده. وأردف أعجازا: تابع أواخره بأوائله. وناء بكلكل:
ناء: بمعنى حط وبمعنى بعد والأولى أولى بالمقام أي: حط بصدره.
(2) صدر بيت لامرئ القيس من معلقته المشهورة وسبق تخريجه.
(1/299)
نسقا وترتيبا، حتى تكون الأشياء مختلفة في
أنفسها، ثم يكون للذي يجيء بها مضموما بعضها إلى بعض، غرض فيها
ومقصود، لا يتمّ ذلك الغرض وذلك المقصود إلّا بأن يتخيّر لها
مواضع، فيجعل هذا أوّلا، وذلك ثانيا؟ فإنّ هذا ما لا شبهة فيه
على عاقل. وإذا كان الأمر كذلك، لزمك أن تبيّن الغرض الذي
اقتضى أن تكون ألفاظ القرآن منسوقة النّسق الذي تراه.
ولا مخلص له من هذه المطالبة، لأنه إذا أبى أن يكون المقتضي
والموجب للذي تراه من النّسق، المعاني وجعله قد وجب لأمر يرجع
إلى اللّفظ، لم تجد شيئا يحيل في وجوبه عليه البتّة، اللهمّ
إلا أن يجعل الإعجاز في الوزن، يزعم أنّ «النسق» الذي تراه في
ألفاظ القرآن إنما كان معجزا، من أجل أن كان قد حدث عنه ضرب من
الوزن يعجز الخلق عن أن يأتوا بمثله.
وإذا قال ذلك، لم يمكنه أن يقول: «إن التحدّي، وقع إلى أن
يأتوا بمثله في فصاحته وبلاغته»، لأنّ الوزن ليس هو من الفصاحة
والبلاغة في شيء، إذ لو كان له مدخل فيهما، لكان يجب في كلّ
قصيدتين اتّفقتا في الوزن أن تتّفقا في الفصاحة والبلاغة.
فإن دعا بعض الناس طول الإلف لما سمع من أن الإعجاز في اللفظ،
إلى أن يجعله في مجرّد الوزن كان قد دخل في أمر شنيع، وهو أن
يكون قد جعل القرآن معجزا، لا من حيث هو كلام، ولا بما به كان
لكلام فضل على كلام! فليس بالوزن ما كان الكلام كلاما، ولا به
كان كلام خيرا من كلام.
وهكذا السبيل إن زعم زاعم أن الوصف المعجز هو «الجريان
والسّهولة»، ثم يعني بذلك سلامته من أن تلتقي فيه حروف تثقل
على اللّسان لأنه ليس بذلك كان الكلام كلاما، ولا هو بالذي
يتناهى أمره إن عدّ في الفضيلة إلى أن يكون الأصل، وإلى أن
يكون المعوّل عليه في المفاضلة بين كلام وكلام، فما به كان
الشاعر مفلقا، والخطيب مصقعا، والكاتب بليغا.
ورأينا العقلاء حيث ذكروا عجز العرب عن معارضة القرآن، قالوا:
إن النبي صلى الله عليه وسلّم تحدّاهم وفيهم الشعراء والخطباء
والذين يدلّون بفصاحة اللسان، والبراعة والبيان، وقوّة القرائح
والأذهان، والذين أوتوا الحكمة وفصل الخطاب ولم نرهم قالوا: إن
النبي صلى الله عليه وسلّم تحدّاهم وهم العارفون بما ينبغي أن
يصنع، حتّى يسلم الكلام من أن تلتقي فيه حروف تثقل على
اللّسان.
(1/300)
ولما ذكروا معجزات الأنبياء عليهم السلام وقالوا: إنّ الله
تعالى قد جعل معجزة كلّ نبي فيما كان أغلب على الذين بعث فيهم،
وفيما كانوا يتباهون به، وكانت عوامّهم تعظّم به خواصّهم
قالوا: إنّه لما كان السّحر الغالب على قوم فرعون، ولم يكن قد
استحكم في زمان استحكامه في زمانه، جعل تعالى معجزة موسى عليه
السلام في إبطاله وتوهينه ولمّا كان الغالب على زمان عيسى عليه
السلام الطبّ، جعل الله تعالى معجزته في إبراء الأكمه والأبرص
وإحياء الموتى ولما انتهوا إلى ذكر نبيّنا محمد صلى الله عليه
وسلّم وذكر ما كان الغالب على زمانه، لم يذكروا إلا البلاغة
والبيان والتصرّف في ضروب النّظم.
وقد ذكرت في الذي تقدّم غير ما ذكرته هاهنا، مما يدلّ على سقوط
هذا القول، وما دعاني إلى إعادة ذكره إلّا أنه ليس لتهالك
النّاس في حديث «اللّفظ»، والمحاماة على الاعتقاد الذي اعتقدوه
فيه وضنّ أنفسهم به حدّ، فأحببت لذلك أن لا أدع شيئا مما يجوز
أن يتعلّق به متعلّق، ويلجأ إليه لاجئ، ويقع منه في نفس سامع
شكّ، إلّا استقصيت في الكشف عن بطلانه.
وهاهنا أمر عجيب، وهو أنه معلوم لكل من نظر، أن الألفاظ من حيث
هي ألفاظ وكلم ونطق لسان، لا تختصّ بواحد دون آخر، وأنها إنما
تختصّ إذا توخّى فيها النظم. وإذا كان كذلك، كان من رفع
«النّظم» من البين، وجعل الإعجاز بجملته في سهولة الحروف
وجريانها، جاعلا له فيما لا يصحّ إضافته إلى الله تعالى. وكفى
بهذا دليلا على عدم التوفيق، وشدّة الضّلال عن الطريق. |