مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور

سورة الفاتحة
قال النووي في "التبيان ": في السورة لغتان: الهمز، وتركه.
والترك أفصح وهو الذي جاء به القرآن، وممن ذكر اللغتين ابن قتيبة في "غريب الحديث ". انتهى.

(1/157)


قال ابن عباس رضي الله عنهما: مكية.
قال الأصفهاني: وهو قول قتادة، وأبي العالية، وعليه أكثر
العلماء.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه، ومجاهد، وعطاء: مدنية.
وروى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن إبليس
رَن حين أنزلت فاتحة الكتاب، وأنزلت بالمدينة.
ومثل هذا لا يقال بالرأي، فله حكم الرفع.
قال الهيثمي: - ورجاله رجال الصحيح
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: نزلت فاتحة الكتاب بمكة.
من كنز تحت العرش.
وفي البخاري في حديث أبي سعيد بن المُعَلى رضي الله عنه: أن أم
القرآن هي السبع المثاني، والقرآن العظيم.

(1/158)


وسورة الحِجْر مكية بالاتفاق.
وقال ابن إسحاق فىِ سيرته: حدثنا يونس، عن يونس بن عمرو.
عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل - هو الهمداني الكوفي، ثقة: أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لخديجة رضي الله عنها: إني إذا خلوت وحدي، أسمع نداء، وقد - والله خشيت أن يكون هذا أمراً، فقالت: معاذ الله، ما كان الله ليفعل بك ذلك فوالله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وِتصدق الحديث، فلما دخل أبو بكر رضي الله عنه، وليس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثَمَ، ذكرت خديجة حديثه له، فقالت: اذهب يا عتيق مع محمد إلى ورقة، فلما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أخذ أبو بكر بيده، فقال: انطلق بنا إلى ورقة، فقال: ومن أخبرك؟
قال: خديجة فانطلقا إليه، فقصا عليه، فقال: إذا خلوتُ وحدي، سمعتُ
نداء خلفي: يا محمد يا محمد، فأنطلق هارباً في الأرض، فقال له: لا
تفعل، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول: ثم ائتني فاخبرني، فلما خلا،

(1/159)


ناداه: يا محمد، قل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد للهِ رب العالمين " حتى
بلغ: "الضالين ". قل: لا إله إلا الله.
فأتى ورقة فذكر له ذلك، فقال له ورقة: أبشر، ثم أبشر، فأنا
أشهد أنك الذي بَشَر به ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك
نبي مرسل، فإنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، ولئن أدركني ذلك
لأجاهدن معك، فلما توفي ورقة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد رأيت القسّ في الجنة عليه ثياب الحرير، لأنه آمن بي وصدقني "، يعني: ورقة. انتهى.
وعندي: أنها نزلت مرتين، من كل من البلدين مرة، فإن ذلك لائق
بجلالها وعظمتها، ومناسب لتسميتها بالمثاني، فهي مكية مدنية معاً وبه قال
بعض العلماء، حكاه الأصفهاني.

(1/160)


وحكى أبو الليث السمرقندي: أنه نزل بعضها بمكة وبعضها
بالمدينة.
ضابط المكي والمدني
وكل ما نزل قبل الهجرة فهو مكي.
وكل ما نزل بعدها فهو مدني، ولو كان النبى - صلى الله عليه وسلم - وقت نزوله في بلد أخرى.
قال الإمام برهان الدين الجعبري، المقرىء الشافعي، في كتابه
"حسن المدد في معرفة العدد": ولمعرفته طريقان: سماعي، وقياسي.
فالسماعي: ما وصل إلينا نزوله بإحداهما.
والقياسي: قال علقمة عن عبد الله: كلِ سورة فيها "يا أيها الناس "
فقط، بخلاف الحج، أو "كَلا" أو أولها حرف تهَجٍّ، سوى الزهراوين، والرعد في وجه، أو فيها قصة آدم عليه السلام، وإبليس أعاذنا الله منه - سوى الطولي - فهي مكية.
وكل سورة فيها "يا أيها الذين آمنوا" فقط، أو ذكر المنافقين فهي
مدنية.

(1/161)


وقال هشام بن عروة عن أبيه: كل سورة فيها قصص الأنبياء، والأمم
الخالية والعذاب، فهي مكية.
وكل سورة فيها فريضة، أو حد، مدنية.
رواه أبو داود عن عروة فقال: حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة.
عن أبيه قال: ما كان من حد، أو فريضة، فإنه أنزل بالمدينة، وما كان من
ذكر الأمم والعذاب، فإنه أنزل بمكة.
وروى الطبراني في الأوسط عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: نزل
المفصل بمكة فمكثنا حججاً نقرأ، لا ينزل غيره.
قال الهيثمي: وفيه خديج بن معاوية، وثقة أحمد وغيره، وضعفه
جماعة.
ولم يأت ما نزل في شيء من البلدين مرتباً في نسق واحد، لأن ترتيب
النزول كان باعتبار الحاجة والوقائع، ثم نسخه ترتيب المصحف العثماني
المنقول من المصحف التي استنسخها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، المنقول
من الرقاع المكتوبة بين يدي سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمره، وعلى حسب ما أمر
بترتيبه كما أمره الله به سبحانه، حيث كان يقول - إذا أنزلت عليه الآية -:
ضعوها في سورة كذا بين آية كذا، والتي قبلها.
قال إمام القراء أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني في كتابه: "البيان
عن اختلاف أئمة أهل الأمصار واتفاقهم في عدد آي القرآن ".

(1/162)


حدثنا فارس بن أحمد، فا أحمد بن. . . بنا أحمد بن عثمان. بنا
الفضل ابن شاذان، بنا إبراهيم بن موسى، أنا يزيد بن زُرَيْع، بنا سعيد.
عن قتادة قال: المدني: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال، وبراءة، والرعد، والحج، والنور، والأحزاب، والذين كفروا، وإنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ويا أيها النبي لم تحرم، وهل أتى على الإِنسان حين من الدهر، ولم يكن الذين كفروا، وإذا زلزلت، وإذا جاء نصر الله والفتح، مدني، وما بقي مكي.
وذكر أن من أول النحل إلى ذكره الهجرة مكي، وسائر ذلك مدني.
وذكر أن أول "الم أحسب الناس " إلى قوله: "وليعلمن المنافقين "
مدني وسائرها مكي.
وذكر أن الآيتين اللتين في إبراهيم: "الم تر إلى الذين بدلوا نعمة
الله " إلى قوله: "وبئس القرار" مدني، وسائرها مكي.
(ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) إلى هذه الآية: (حتى يأتي وعد الله)
مدني، وسائرها مكي.

(1/163)


وذكر في الأعراف (وهذه الآية) : (واسألهم عن القرية التي كانت
حاضرة البحر) مدنية.
وفي الحج: "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقي
الشيطان في أمنيته " إلى قوله: "أو يأتيهم عذاب يوم عقيم " مكي.
حدثنا فارس بن أحمد، ثنا أحمد بن محمد، نا أحمد بن عثمان، نا
الفضل نا أحمد بن يزيد، نا أبو كامل فضيل بن حُصَيْن ثنا حسان بن
إبراهيم، نا أمية الأزدي، عن جابر بن زيد قال: أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - من القرآن أول ما أنزل بمكة: "اقرأ باسم ربك الذي خلق، ثم ن والقلم، ثم يا أيها المزمل ثم يا أيها المدثر، ثم تَبتْ يدا أبي لهب، ثم إذا الشمس كورت، ثم سبح اسمَ ربك الأعلى، ثم والليل إذا يغشى، ثم والفجر، ثم والضحى، ثم الم نشرح ثم والعصر، ثم والعاديات، ثم إنا أعطيناك الكوثر، ثم ألهاكم التكاثر، ثم أرأيت الذي يكُذب بالدين، ثم قل يا أيها الكافرون، ثم الم تر كيف فعل ربك، ثم قل أعوذ برب الفلق، ثم قل أعوذ برب الناس، ثم قل هو الله أحد، ثم والنَجْم إذا هوى، ثم عبس وتولى، ثم إنا أنزلناه، ثم والشمس وضحاها، ثم والسماء ذات البروج، ثم والتين
والزيتون، ثم لِإيلاف قريش، ثم القارعة، ثم لا أقسم بيوم القيامة، ثم
الهُمَزَة، ثم المرسلات، ثم ق والقرآن، ثم لا أقسم بهذا البلد، ثم والسماء
والطارق، ثم اقتربت الساعة، ثم ص والقرآن، ثم الأعراف، ثم الجن ثم
يس، ثم الفرقان، ثم الملائكة، ثم كهيعص، ثم طه، ثم الواقعة، ثم طسم
الشعراء، ثم طس النمل، ثم طسم القصص، ثم بني إسرائيل، ثم التاسعة
- يعني يونس - ثم هود، ثم يوسف، ثم الحجر، ثم الأنعام، ثم والصافات
ثم لقمان، ثم سبأ، ثم الزمر، ثم حم المؤمن، ثم حم السجدة، ثم حم

(1/164)


الزخرف ثم حم الدخان، ثم الجاثية، ثم الأحقاف، ثم والذاريات، ثم هل
أتاك حديث الغاشية، ثم الكهف، ثم حم عسق، ثم إبراهيم، ثم الأنبياء.
ثم النحل أربعين آية، وبقيتها بالمدينة، ثم تنزيل السجدة، ثم إنا أرسلنا.
ثم والطور، ثم المؤمنون، ثم تبارك الذي بيده الملك، ثم الحاقة، ثم سأل
سائل، ثم عم يتساءلون ثم والنازعات، ثم إذا السماء انفطرت، ثم إذا
السماء انشقت، ثم الروم، ثم العنكبوت، ثم ويل للمطففين.
فذلك ما أنزل عليه - صلى الله عليه وسلم - بمكة، خمس وثمانون سورة إلا من سورة النحل، فإنه نزل بمكة أربعون آية، وبقيتها بالمدينة.
وما أنزل بالمدينة، ثمان وعشرون سورة، سوى سورة النحل، فإنه
أنزل بمكة من سورة النحل أربعون آية، وبقيتها بالمدينة.
وأنزل عليه بعد ما قدم المدينة: سورة البقرة، ثم آل عمران، ثم
الأنفال ثم الأحزاب، ثم المائدة، ثم المُمْتَحَنَة، ثم النساء، ثم إذا زلزلت.
ثم الحديد ثم سورة محمد، ثم الرعد، ثم الرحمن، ثم هل أتى على الِإنسان.
ثم سورة النساء القصرى، ثم لم يكن الذين كفروا، ثم الحشر، ثم إذا
جاء نصر الله والفتح، ثم النور، ثم الحج، ثم المنافقون، ثم المجادلة، ثم
الحجرات، ثم يا أيها النبي لم تحرم، ثم الجمعة، ثم التغابن، ثم سبح
الحواريون، ثم إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ثم التوبة، خاتمة القرآن.
فذلك ثمان وعشرون سورة.

(1/165)


وآخر آية أنزلت: (فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه
توكلت وهو رب العرش العظيم) .
هكذا عد المطففين في المكي، وسيأتي ما يرده.
وقال البيهقي في دلائل النبوة: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني
أبو محمد زياد العبدلي، ثنا محمد بن إسحاق، نا يعقوب بن إبراهيم
الذَوْرَقِي نا أحمد بن نصر بن مالك الفراحي، نا علي بن الحسين بن واقد.
عن أبيه، حدثني يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن بن أبي الحسن قال:
(أول) ما أنزل الله من القرآن بمكة: "اقرأ باسم ربك الذي خلق ".
فذكره على ترتيبه، غير أنه عطف الكل بالواو، لا بـ ثم.
ولما قال: حم المؤمن، خالف الترتيب، فقال: حم الدخان، وحم
السجدة وحم عسق، وحم الزخرف، والجاثية، والأحقاف، والذاريات.
والغاشية، وأصحاب الكهف، والنحل، ونوح، وإبراهيم، والأنبياء.
والمؤمنون، والم السجدة، والطور وتبارك الذي بيده الملك، والحاقة، وسأل
سائل، وعم يتساءلون، والنازعات، وإذا السماء انشقت، وإذا السماء
انفطرت، والروم والعنكبوت.

(1/166)


وقال: وما أنزل بالمدينة: ويل للمطففين، والبقرة.
فساقه كما رتب في رواية أبي عمرو، ولم يخالفه إلا في ذكر المطففين
فيما نزل بالمدينة، كما هو أقرب وأصوب.
وقد ورد به حديث أخرجه ابن ماجة، وابن حبان (في صحيحه) .
والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة كانوا أخبثَ الناس كيلاً، فأنزل الله تعالى: "ويل للمطففين" فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
ولما وصل إلى التحريم، خالفه في الترتيب، مع أنه لا يعطف إلا
بالواو، فقال: والصف، والجمعة، والتغابنُ، والفتح، وبراءة.
وأسقط ذكر الفاتحة والأعراف ومريم، مما نزل بمكة، فنبه عليه
البيهقي، ثم ساق سنده إلى مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:
إن أول ما أنزل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم -: (من القرآن) اقرأ باسم ربك.
فذكر معنى هذا الحديث، وذكر السورة التي سقطت من الرواية الأولى
في ذكر ما نزل بمكة، وقال: ولهذا الحديث شاهد في تفسير مقاتل، وغيره
من أهل التفسير.

(1/167)


وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب "الفضائل ": حدثنا
عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة قال: نزلت
بالمدينة سورة البقرة.
فذكر ما تقدم، لكنه رتبه على ترتيب المصحف، وأسقط الرعد
والحجرات والرحمن والجمعة، والمنافقون والإنسان.
فلا أدري، أأسقطها الكاتب، أو هي ساقطة من الرواية.
وزاد الفجر، والليل إذا يغشى، وإنا أنزلناه في ليلة القدر، فذكرها في
المدني.
وقال الإمام أبو عمرو الداني: حدثنا خلف بن إبراهيم، نا أحمد بن
محمد ثنا علي بن عبد العزيز، نا القاسم بن سلام، نا هشيم، ثنا أبو بشر.
عن سعيد ابن جبير، في قوله عز وجل: (ولقد ءاتيناك سبعاً من
المثاني) قال: هي السبع الطوال: البقرة، وآل عمران، والنساء.
والمائدة، والأنعام، والأ عراف، ويونس.

(1/168)


قال: وقال مجاهد: هي السبع الطوال.
ذكر علماء العدد
وأما عدد آي الفاتحة: فهي سبع عند جميع أهل العدد، وهم خمسة:
مدني، ومكي، وكوفي، وبصري، وشامي.
ا - فالمدني:
رواه شيبة بن نصاح بن سرجس بن يعقوب المخزومي، المدني
القارىء، مولى أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنها.
وأبو جعفر يزيد بن القعقاع، المدني القارىء، مولى عبد الله بن عياش
بن أبي ربيعة المخزومي.

(1/169)


وهو مذهب أول وأخير.
أ - فالأول: رواه عنهما نافع بن أبي نعيم.
قال الِإمام أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي.
الشافعي، المقرىء نزيل دمشق، في كتابه "جمال القراء": وبه أخذ القدماء
من أصحاب نافع.
ب - والأخير: رواه إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري
المدني، عن سليمان ابن مسلم بن جماز عنهما.

(1/170)


قال السخاوي: وعليه الأخذون بقراءة نافع اليوم، وبه ترسم
الأخماس، والأعشار وفواتح السور، في مصاحف أهل المغرب. انتهى.
قال "الإمام أبو عمرو الداني: وقد اختلف أبو جعفر وشيبة في ست
آيات، عد منهن أبو جعفر آية، ولم يعدها شيبة، وعد شيبة خمساً، ولم يعدهن أبو جعفر وكان إسماعيل يأخذ فيهن بقول شيبة، وسيذكرن فيما بعد.
أي في الفرش إن شاء الله تعالى.
2 - والمكي:
يروى عن عبد الله بن كثير، وغيره من أهل مكة.
ورواه عبد الله بن كثير عن مجاهد بن جبر، عن عبد الله بن عباس رضي
الله عنهما عن أبي بن كعب رضي الله عنه، موقوفا عليه.
وأسند الداني (عن) الفضل بن شاذان قال: كتب إليّ ابن أبي بزة

(1/171)


بخطه وقال: أدُوه عني، عن عكرمة بن سليمان، عن شبل
وإسماعيل، عن عبد الله بن كثير عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن
كعب رضي الله عنهم.
3 - وا لكوفي:
عن حمزة بن حبيب الزيات، عن ابن أبي ليلى

(1/172)


عن (أبي) عبد الرحمن، عن عبد الله بن حبيب السلمي الكوفي المقرىء.
وأبو عبد الرحمن بسند بعضه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
موقوفاً عليه.
قال الداني: وأهل الكوفة رووا العدد عن أهل المدينة، ولم يسم أهل
الكوفة في ذلك أحداً بعينه يسندون إليه، وهوعندهم الأول.
وقد خالفت رواية إسماعيل - يعني ابن جعفر المدني - عن أهل المدينة
رواية أهل الكوفة عنهم في سبع وخمسين آية، يذكرن في مواضعهن من
الأبواب والسور.
وقال أبو عمرو: إن عدد أهل الكوفة رواه الكسائي، وسليم.
عن حمزة.
يعني بالسند الماضي.

(1/173)


قال: وذكره سليم عن سفيان، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد
الرحمن، عن علي رضي الله عنه.
وذكر عن نصير بن يوسف النحوي، أنه قال: سمعت العدد من
الكسائي مراراً.
4 - والبصري:
عن المعَلَّى بن عيسى عن عاصم بن أبي الصباح ميمون
الجحْذري.

(1/174)


قال الداني: موقوفاً عليه، وبه كان يعد أيوب بن التوكل، ويعقوب
ابن إسحاق الحضرمي، غير أن أيوب خالف عاصماً في آية واحدة، وهي
قوله تعالى في سورة ص: (قال فالحقُ والحق أقولُ) عدها عاصم ولم
يعدَّها أيوب.
5 - والشامي:
عن عبد الله بن ذَكْوان، عن أيوب بن تميم، عن يحيى بن الحارث
الذِّمَاري.

(1/175)


قال أبو عمرو: موقوفاً عليه، وبعضهم يوقفه على عبد الله بن عامر
اليحصبي القارىء.
فصارت مذاهب العدد ستة.
وموجب اختلافهم: التوقيف كالقراءة.
قال أبو عمرو: وهذه الأعداد، وإن كانت موقوفة على هؤلاء الأئمة.
فإنما لها - لا شك - مادة تتصل بها، وإن لم نعلمها، إذا كان كل واحد منهم قد لقي غير واحد من الصحابة، وشاهده وسمع منه، أو لقي مَنْ لقي
الصحابة، مع أنهم لم يكونوا أهل رأي واختراع، بل كانوا أهل تمسك
واتباع.
وبالله التوفيق.
وقال السخاوي ما معناه: ولو كان ذلك راجعاً إلى الرأي لعد الكوفيون
، الر" آية، كما عدوا " الم "، ولعدوا " المر" كما عدوا "المص"، ولعدوا "طس" كما عدوا "يس"، ولعدوا "كهيعص" آيتين، كما فعلوا في "حم عسق"، ولعد الشامي "إنما نحن مصلحون "، كما عد "غشاوة ولهم عذاب عظيم "، ومثل ذلك كثير، انتهى.
نفي السجع عن القرآن
ومن هنا تعلم يقيناً: أنه لا سجع في كتاب الله أصلاً، فإنه لا ريب

(1/176)


عند من له أدق مزاولة لذلك: أن طس، أوفق عند الساجعين لمبين، من يس
للحكيم. فلو كان السجع مقصوداً، لما وقع الِإجماع من العادِّين على أن
"طس" ليست بآية، وعد بعضهم "يس" آية.
ولما وقعت فاصلة واحدة بين فواصل كثيرة، مخالفة لها في الوزن والروي.
فلا ينبغي الاغترار بما يوجد في بعض كتب الأماثل من
المتأخرين، كالبيضاوي والتفتازاني، من تخريج بعض الفواصل على
السجع، لأنه خولف فيها النظم الذي ورد في سورة أخرى، مثل:
"هارون وموسى".
أو عَدَل عن عبارة إلى عبارة أخرى، لمثل ذلك، نحو قوله تعالى في
سورة يس: (فما استطاعوا مُضياً ولا يَرجِعون) .
قال البيضاوي: إن الأصل كان: ولا رجوعا، فغير لموافقة الفواصل.

(1/177)


وهذا أمر عظيم، لا تليق نسبته إلى جلال الله، فهي زلة عالم حقيقة.
يشتد النفور عنها، والبعد منها.
قال الِإمام فخر الدين الرازي - فيما نقله عنه أبو حيان في "النهر" - في
قوله تعالى في سورة فاطر: (ولا الظل ولا الحَرُور) إنه لا يقال في
شيء مِن القرآن: إنه قدم أو أخر لأجل السجع، لأن معجزة القرآن ليست
في مجرد اللفظ، بل فيه وفي المعنى.
يعني: ومتى حُوِّل اللفظُ لأجل السجع، عما كان يتم به المعنى بدون
سجع، نقص المعنى، والله أعلم.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه "إعجاز القرآن ": ذهب

(1/178)


أصحابنا - يعي الأشاعرة - كلهم إلى نفي السجع عن القرآن، وذكره أبو
الحسن الأشعري (في غير موضع) من كتبه.
وذهب كثير ممن نخالفهم إلى إثبات السجع في القرآن، وزعموا أن
ذلك مما يبين به فضل الكلام، وأنه من الأجناس التي يقع بها التفاضل في
البيان والفصاحة كالتجنيس، والالتفات، وما أشبه ذلك، من الوجوه التي
تعرف بها الفصاحة.
وأقوى ما يستدلون به عليه: اتفاق الكل على أن موسى أفضل من
هارون، عليهما السلام، ولمكان السجع، قيل في موضع: هارون وموسى.
ولما كانت الفواصل في مواضع أخر بالواو والنون، قيل: موسى وهارون.
قالوا: وهذا يفارق أمر الشعر، لأنه لا يجوز أن يقع الخطاب إلا
مقصوداً إليه، وإذا وقع غير مقصود إليه، كان دون القدر الذي نسميه شعراً، وأما ما في القرآن من السجع فهو كثير، لا يصح أن يتفق كله غير مقصود إليه.
ويبنون الأمر في ذلك على تحديد معنى السجع.
قال أهل اللغة: هو موالاة الكلام على وزن واحد..
قال ابن دريد: سجعت الحمامة، أي رددت صوتها، وأنشد:

(1/179)


طربْتَ فأبكتكَ الحمام السواجعُ
تميل بها ضَحْواً غصون نوائع
النوائع: المواثل، من قولهم: (جائع) نائع، أي متماثل ضعفاً.
وهذا الذي يزعمونه غير صحيح، ولو كان القرآن سجعاً، لكان غير
خارج عن أساليب كلامهم، ولو كان داخلاً فيها، لم يقع بذلك إعجاز.
ولو جاز أن يقال: هو سجع معجز، لجاز لهم أن يقولوا: شعر معجز.
وكيف والسجع مما كان يألفه الكهان من العرب، ونفيه من القرآن أجدر بأن
يكون حجة من نفي الشعر، لأن الكهانة تنافي النبوات، وليس كذلك الشعر.
وقد روى: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للذين حاوروه وكلموه في شأن الجنين:
كيف فدى من لا شرب ولا أكل، ولا صاح فاستهل، أليس دمه قد
يطل، فقال: أسجاعة كسجاعة الجاهلية.
وفي بعضها: أسجاعه كسجع الكهان.

(1/180)


فرأى ذلك مذموماً.
والذي يقدرونه أنه سجع، فهو وَهْمٌ، لأنه قد يكون الكلام على مثال
السجع وإن لم يكن سجعاً، لأن ما يكون به الكلام سجعاً يختص ببعض
الوجوه، دون بعض لأن السجع من الكلام، يتبع المعنى فيه اللفظ الذي
يؤدي السجع.
وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن، لأن اللفظ
يقع فيه تابعاً للمعنى.
وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود
منه وبين أن يكون المعنى منتظماً دون اللفظ.
ومتى ارتبط المعنى بالسجع، كان إفادة السجع كإفادة غيره.
ومتى انتظم المعنى بنفسه دون السجع، كان مستجلباً لتحسين الكلام.
دون تصحيح المعنى.
ثم قال: ويقال لهم: لو كان الذي في القرآن - على ما تقدرونه -.
سجعاً لكان مذموماً مرذولاً، لأن السجع إذا تفاوتت أوزانه، واختلفت
طرقه، كان قبيحاً من الكلام. وللسجع منهج مرتب محفوظ، وطريق
مضبوط، متى أخل به المتكلم وقع الخلل في كلامه، ونسب إلى الخروج عن
الفصاحة، كما أن الشاعر إن خرج عن الوزن المعهود كان مخطئاً، وكان شعره مرذولاً، وربما أخرجه عن كونه شعراً، وقد علمنا: أن بعض ما يدعونه (شعراً) سجعٌ متقارب الفواصل، متداني المقاطع وبعضها مما يمتد حتى
يتضاعف طوله عليه، وترد الفاصلة على ذلك الوزن الأول بعد كلام كثير.
وهذا في السجع غير مرض، ولا محمود.

(1/181)


وأما ما ذكروه من تقديم موسى على هارون في موضع، وتأخيره عنه في
موضع لمكان السجع، ولتساوي مقاطع الكلام، فليس بصحيح، لأن الفائدة
عندنا غير ما ذكروه.
وهي: أن إعادة ذكر القصة الواحدة بألفاظ مختلفة تؤدي معنى
واحداً، من الأمر الصعب، الذي تظهر فيه الفصاحة، وتبين فيه البلاغة.
وأعيد كثير من القصص في مواضع مختلفة، على ترتيبات متفاوتة، ونبهوا
بذلك على عجزهم، عن الإتيان بمثله مبتدأ ومكرراً.
ولو كان فيهم تمكن من المعارضة، لقصدوا تلك القصة، فعبروا عنها
بألفاظ لهم تؤدي تلك المعاني ونحوها، وجعلوها بإزاء ما جاء به، وتوصلوا
بذلك إلى تكذيبه وإلى مساواته فيما جاء به، كيف وقد قال لهم: (فليأتوا
بحديث مثله إن كانوا صادقين) .
فعلى هذا يكون القصد بتقديم بعض الكلمات وتأخيرها، إظهار
الِإعجاز على الطريقين جميعاً، دون السجع الذي توهموه.
هذا ما قاله في سر التكرار، وتبعه عليه كل من رأينا كلامه في
هذا.
وقد بينت في كتابي "نظم الدرر" أن الأمر على غير هذا، وأن مقصد
القرآن مما هو في العلو عن هذا الغرض بمراتب لا تنالها يد المتناول، ويقصر
عن عليائها كل متطاول.
وذلك أن كل سورة لها مقصد معين - كما سيوضحه هذا الكتاب، إن
شاء الله تعالى - تكون جميع جمل تلك السورة دليلاً على ذلك المقصد.

(1/182)


فلذلك يقتضي الحال - ولا بد - ما أتى عليه فيها نظم المقال، ومن هنا
تغايرت الألفاظ في القصص، واختلفت النظوم، وجاء الِإيجاز تارة، والإطناب أخرى والتفصيل مرة، والإِجمال أخرى.
فسورة طه لها نظر عظيم إلى الوزير، والِإرشاد إلى طلبه. ولذلك كانت
سبب إسلام - عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وصرح فيها على لسان موسى عليه السلام بطلب الوزير بلفظه، فلذلك كانت العناية به أكثر، فقدم في الذكر تنبيهاً على ذلك.
ولذلك قيل فيها: (إنا رسولَا ربِّك) بالتثنية.
وفي الشعراء بالأفراد، لأنه لا عناية فيها بذلك.
وقد بينت كل موضع ذكروه، بما أفاد أنه لا يجوز في مذاهب البلاغة.
ووجوه البيان، أن يعبر عنه بذلك الأسلوب، وما أوجب القول بالتقديم
والتأخير، والتحويل والتغيير، لأجل الفواصل، ألا ترى ما ذكره العلماء، أن نصف العلم هو: لا أدري. فصار كل من ورد عليه سؤال لا يعرف الجواب الحق فيه، قال برأيه، ما لم يتحقق مشيه على شواهد الكتاب والسنة، وأسرار اللغة.
والذي لا يدع عندك لبساً في هذا: أن أبا حيان بعد أن نقل في سورة
فاطر عن الرازي ما قدمته عنه، نسيه في أول الصافات على قرب العهد.
وقال: "مارد" اسم فاعل، وفي النساء: "مريد" للمبالغة، وموافقة

(1/183)


الفواصل هناك. انتهى.
والواقع: أن المعنى الذي قصد في كل من السورتين، لا يتم إلا بما عبر
له فيها ولو قيل غيره لفسد. وموافقة كل منهما في موضعه للفواصل، تزيده
حسناً، لا أنه يصح التعبير بالآخر، وما خص هذا إلا للفاصلة.
وبيان ذلك في تفسيري فراجعه، واحرص عليه، فإنك لم تظفر بمثله.
وإن أمعنت في مطالعته، بان لك سرُّه، والله الهادي.
وسبب وقوع هؤلاء الأكابر في مثل هذا، أشار إليه الإِمام علم الدين
السخاوي في "شرح الرائية"، عند مدح الشاطبي للباقلاني بكتابي الإِعجاز
والانتصار، فقال: إنه لولا كتاب الانتصار، لخالطت شبه المبتدعة العقول.
وتشكك الناس في الإِسلام واستأصلهم المبتدعة، وأكثر ضعفاء القراء وغيرهم اليوم ينطقون بتلك الشبه التي ألقاها المبتدعون ويعتقدونها، وإن كانوا لا يدرون ما تحتها من الغوائل، ولا يعلمون ما يلزمهم منها. انتهى.
ولا يستبعد هذا، فإن الشبهة ربما كان المراد بها غامضاً، ولها ظاهر له
نوع قبول، فيقولها بعض من لم يفهم معناها، غير قاصد شراً، فيأخذها
بعض الأكابر، لما أعجبه من ظاهرها، فتشتهر عنه، كما وقع في سبب اعتقاد أن التوراة نزلت جملة، وفي أن المراد بـ "أنهم إليهم لا يرجعون)
في سورة يس: الرجوع إلى الدنيا، ونحو ذلك كثير، والله أعلم.

(1/184)


ولم يحصر القاضي أبو بكر السجع بمعيار يضبطه، وزمام يربطه، بحيث
يميزه عن غيره.
وهو عندي: تكلف الإِتيان بالكلام على روي واحد، وقافية متزنة، من
غير أن يكون موافقاً لشيء من أنحاء الشعر، وقل ما يكون ذلك.
كما أن الشعر: تكلف الإتيان بالكلام على روي واحد، وقافية واحدة.
مع التقييد بالوزن من بحر واحد.
وهنا يضطر الشاعر والساجع - ولا بد - إلى اتباع المعنى اللفظ، فيصبحِ
اللفظ على ذلك النوع الذي التزمه، لئلا يَعُدّه الناظمون والساجعون عاجزاَ
وعن الاقتدار على صوغ الكلام قاصراً، فينتقص المعنى لهذا الالتزام، في كثير من المواضع غصباً عليه، فيصير أسير الألفاظ، وعبد الأوزان.
هذا ما لا بد منه لكل شاعر، وإن تفاوت الناس فيه، وليس - قطعاً -
كذلك القرآن وسيأتي لذلك مزيد تفصيل وبيان.
ولهذا فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الكلام، بين الدخيل في ذلك والأصيل، الذي صارت له فيه ملكة صيرت قدرته عليه أشد من قدرة غيره.
قال أهل المغازي - وذكره عنهم الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل
النبوة - لما كانت عزوة الخندق، وعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخندق بنفسه الشريفة
رأى المسلمون أنه إنما بطش معهم ليكون أجدَّ لهم، وأقوى لهم بإذن الله عز
وجل فجعل الرجل يضحك من صاحبه إذا رأى منه فترة، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يغضب اليوم أحد من شيء ارتجز به، ما لم يكن قول كعب، أو

(1/185)


حسان، رضي الله عنهما، فإنهما يجدان من ذلك قولا كثيراً، أو نهاهما أن
يقولا شيئاً يخفضان به أحداً.
فالمعنى - من غير شك -: أنهما إذا قالا شيئاً، كان قولهما له ظاهراً في
أنهما قصدا معناه، وأن غيرهما ليس كذلك، بل يكون الرَّوِي والقافية قد
حكما عليه بمعنى لم يرده، على أن حسان رضي الله عنه - وهو أشعر الذين
فضلهما النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشعر - قد اضطره الوزن إلى ما لم (يكن) يريده قطعاً.
فإنه - قال في غزوة الغابة - وهي غزوة ذي قرد - وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر على مَنْ سبق فيها سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه، ثم لحقهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان مما قيل فيها من الشعر قول حسان بن ثابت رضي الله عنه.
لولا الذي لاقت ومسَّ نسورها. . . بجنوب ساية أمس في التقواد

(1/186)


للقينكم يحملن كل مدخج. . . حامي الحقيقة ماجد الأجداد
ولسر أولاد اللقيطة أننا. . . سلم غداة فوارس المقداد
قال: فلما قالها حسان رضي الله عنه، غضب عليه سعد بن زيد
رضي الله عنه وحلف ألا يكلمه أبداً.
قال: "انطلق إلى خيلي وفوارسي، فجعلها للمقداد.
فاعتذر إليه حسان وقال: والله ما ذاك أردت، ولكن الروي وافق اسم
المقداد وقال أبياتاً يرضى بها سعداً رضي الله عنه:
إذا أردتم الأشَدَّ الجلْدَا. . . أو ذا غناء فعليكم سعدا
سعد بن زيد لا يُهَدُ هدَّا
فلم يقبل منه سعد، ولم يغن شيئاً، رضي الله عنهما وأرضاهما.
ومثل ذلك كثير في الشعر جداً، يعلمه كل من زاول ذلك.
وأما السجع: فقد روى البخاري في الطب وغيره من صحيحه.
ومسلم، وأبو داود، والنَّسائي، وغيرهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنين يقتل في بطن أمه، بغرة: عبد، أو وليدة. فقال
الذي قضى عليه: كيف أغرم ما لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل.
فمثل ذلك بَطَل. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما هذا من إخوان الكهان " من أجل سجعه الذي سجع.
وفي رواية: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: سجع كسجع الأعراب.

(1/187)


ذلك، والله أعلم: أنه لو كان نظره إلى المعنى وتصحيحه، لأغنى
عن هذا السجع، أن يقول: كيف أغرم ما لا حياة له.
ولو قصد السجع، وتهذيب المعنى، لأتى بما يدل على نفي الحياة التي
جعلها مَحَطَّ أمره، فإن ما أتى به، لا يستلزم نفيها.
ولو تقيد بالصحة، لاعتنى بنفي النطق عن نفي الاستهلال، فإنه أعم.
وبنفي الأعم، ينتفي الأخص.
فصح بهذا أنه دائر مع تحسين اللفظ، صح المعنى، أم لا، لئلا يعيبه
أهل صناعة السجع.
ولا ينطبع في عقل عاقل: أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - يذم السجع وهو يرتكبه في القرآن والسنة، ولو كان ذلك لأسرعوا للرد عليه، وتصويب الطعن إليه، ولو ظفروا منه بما يشبه ذلك، لأكثروا به التشنيع، ولملأوا الأرض من التوبيخ والتقريع، ولأغناهم ذلك عما كانوا يتعلقون به من الذم، الذي لا يشك في أنه كذب من النسبة إلى الشعر والسحر، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - أشرف همة، وأعلى مقداراً، من أن يذم شيئاً، وينحو نحوه، على ما هو معروف من أخلاقه،

(1/188)


ومشهور من شمائله وأعراقه، بل قد جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه
السجع قسيماً للخبر.
روى أصحاب فتوح البلاد في فتح مكران من بلدان فارس: أن الحكم
بن عمرو لما فتحها، أرسل بالأخماس مع صحار العبدي، فلما قدم على
عمر رضي الله عنه سأله عن مكران، وكان لا يأتيه أحد إلا سأله عن الوجه
الذي يجيء منه، فقال له: يا أمير المؤمنين، أرض سهلها جبل، وماؤها
وشل وتمرها دقل، وعدوها بطل وخيرها قليل، وشرها طويل، والكثير
بها قليل، والقليل بها ضائع، وما وراءها شر منها، فقال: أسَجاع أنت أم
مخبر؟ قال: لا والله. لا يغزوها جيش لي ما أطعت.
فقد جعل الفاروق السجع قسيماً للخبر، ولم يَرُد عليه ذلك أحد ممن
حضر فدل على أن التقيد به عيب لِإخلاله بالفائدة، أو بتمام الفائدة.

(1/189)


ولعله إنما جوز أن يكون مخبراً، لأنه انفك عن السجع في آخر كلامه.
وكرر لفظ "قليل" فكان ما ظنه.
لأنه لو أراد السجع، لأمكنه أن يقول: والكثير بها ذليل، والقليل بها
ضائع كليل، وما وراءها شر منها يا قوم قيل.
ولقد نفي الله سبحانه (وتعالى) عن هذا القرآن العظيم، تصويب
النظر إلى السجع، كما نفي عنه قرض الشعر.
فإنه قال تعالى: (وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون، ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون) .
فكما أن قول الشاعر إتيانه بالكلام موزوناً بالقصد، فكذلك قول
الكاهن إتيانه بالكلام مسجوعاً، والقرآن منزه عن هذا، كما هو منزه عن
ذلك، وإن وقع فيه كل الأمْرَيْن، فغير مقصود إليه، ولا معول عليه، بل
لكون المعنى انتظم به على أتم الوجوه، فأتى به لذلك، لا لأجل السجع، ثم
يبين أنه غير مقصود بالانفكاك عنه في كثير من الأماكن، بقرينة ليس لها
مجانس في اللفظ، لتمام المعاني المرادة عندها.
فيعلم قطعاً: أن ذلك غير مقصود أصلًا، لأن مثل ذلك لا يرضى به
أقل الساجعين، بل يراه عجزاً، وضيقاً عن تكميل المشاكلة ونقصاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وإذا تاملت الفواصل في الإتيان بها تارة متناظرة - (تارة) بكثرة

(1/190)


وأخرى بقلة - وتارة منفكة عن التناظر بالكلية، بل يؤتى في كل آية بفاصلة
لا توافق الأخرى، لا روياً، ولا وزناً، كالكافرون " علمت أن هذا المذاهب
هو الصواب ولا سيما آخر سورة اقرأ.
وإذا تبحرت في علم العدد، أتقنت الدليل على ذلك والمستند.
فإياك أن تجنح إلى موافقة من قال بمراعاة السجع في موضع من آيات
الكتاب فتكون قد أبعدت عن الصواب، ويتوب الله على من تاب.
وهذا كله لا ينفي أن يكون في السجع والشعر ما هو حسن جداً
وبليغ، وعليه ينطبق قوله - صلى الله عليه وسلم -، الذي رواه البخاري، وأبو داود، وابن ماجة عن أبي بن كعب رضي الله عنه. والبزار عن عائشة رضي الله عنها: إن من الشعر حكمة".
وكذا ما رواه الدارقطني من وجه ضعيف، عن عاثشة رضي الله عنها.
أنه ذُكر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشعرُ فقال: هو كلام فحسنه كحسنه وقبحه كقبيحه.
ورواه الشافعي عن عروة (عنها) مرسلاً.

(1/191)


ورواه أبو يعلى عن عائشة (أيضاً) رضي الله عنها، ولفظه: "هو
كلام فحسنه حسن، وقبيحه قبيح.
وروى الحارث بن أبي أسامة، عن رجل من هذيل، عن أبيه، أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن هذا الشعر جزل من كلام العرب، يعطي به السائل، ويكظم به الغيظ، وبه يتبلغ القوم في ناديهم.
فصار في كل منهما مذمومٌ وممدوحٌ.
فالمذموم: التكلف بالتقيد به، وجعل المعنى تابعاً للفظ.
والممدوح: قبول الطبع له، وسهولته عليه، حتى يرمي (به) من غير
قصد إليه ولا تعويل عليه، رمي العارف به، والمقتدر عليه، المطبوع فيه.
وذلك إذا لم يتأت المعنى الأحسن، والمنحى الأبلغ الأتقن، إلا
به، فيكون حينئذ المطبوع في ذلك متمكناً من نقد الشعر والسجع، بصيراً
بتمييز قبيحه من حسنه.
ومعنى "وما علمناه الشعر": وما علمناه بإنزال هذا القرآن الشعر.
وما جعلناه قائلًا لشيء من أنحائه، قاصدا له.
وما علمناه أن يتكلف استحضار القوافي، وبناء الكلام عليها، والقصد في صوغه إليها، بحيث تكون هي المقصودة بالذات.
فالمنفى تعليمه: هو العلم الصناعي، وهو الحاصل من التمرن على
العمل وهذا لا ينفي أن يكون الوزن في طبعه.
ولو أريد نفيه لقيل: وما طبعناه عليه، أو نحو ذلك ما يؤدي معناه،

(1/192)


بدل: "وما علمناه "، فإن الوزن ليس مما يتكسب بالتعليم، بل هو غريزة
يخلقها الله في طبع من يريد.
وأدل دليل على ذلك قوله تعالى: (قل ما أسالكم عليه من أجر وما
أنا من المتكلفين) ، فنفي ما يخص الشاعر من الاستجداء بشعره، ونفي
التكلف في قرضه ثم أثبت ما يخص القرآن من الصفة التي فَاقَ وفارق فيها
جميع الكلام، فقال: (إنْ هو إلا ذكرٌ للعالمين) .
أي كلهم يشترك في أصل فهمه - مع أنه أعلى من جميع الكلام -
الذكى منهم والغبي، والبليغ والعيى، وإن اختلفت فيه فهومهم، وتفاوتت في دقائقه علومهم.
وأما الشعر والسجع، فإنما يفهمهما خواص العالمين، مع أنهما دون هذا
القرآن، بما لا يجهله ذو لسان، وإن كان قاصراً في البيان.
والدليل على ما قدمته: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتمثل بالشعر فتارة يكسره، وتارة يتركه على وزنه، وتارة يأتي بالكلام من عند نفسه فيقع موزونا وتارة - وهو الأغلب - لا يكون موزوناً، وتارة يأتي مسجوعاً، وتارة. - وهو الأغلب أيضاً - لا يكون كذلك، وما ذلك إلا لِإرادته الأمر على صحة المعاني التي يأمره الله (تعالى) بها في الكلام البليغ، من غير تعريج على قصد نظم ولا سجع.
(روى الِإمام أبو محمد البغوي بسنده من طريق أبي إسحاق

(1/193)


الثعلبي، عن الحسن رحمه الله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتمثل بهذا البيت:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا
فقال له أبو بكر رضي الله عنه: يا نبي الله، إنما قال الشاعر:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال أبو بكر - أو عمر - رضي الله عنهما: أشهد أنك رسول الله.
يقول الله عز وجل: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) .
ورواه الدينوري في الجزء العاشر من "المجالسة" من وجه آخر، عن
الحسن رحمه الله، وفيه: فجعل أبو بكر رضي الله عنه يقول: الشيب
والإسلام، والنبي - صلى الله عليه وسلم - (يقول) : بالإسلام والشيب.
فقال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله حقاً، ما علمك الله الشعر وما
ينبغي لك.
وروى (البغوي) أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أنه قيل لها:
(هل) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمثل شيئاً من الشعر؟. قالت: (كان) يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة.
قالت: وربما قال:. ويأتيك بالأخبار من لم تزود.
وقال معمر: بلغني أن عائشة رضي الله عنها سئلت: هل كان

(1/194)


النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمثل بشيء من الشعر؟. قالت: كان أبغض الحديث إليه.
قالت: ولم يتمثل بشيء من الشعر، إلا ببيت أخي بني قيس طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا. . . ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فجعل يقول: ويأتيك من لم تزود بالأخبار.
فقال أبو بكر رضي الله عنه: ليس هكذا يا رسول الله، فقال: إني
لست بشاعر ولا ينبغي لي.
وقال شيخنا حافظ عصره، أبو الفضل ابن حجر في تخريج أحاديث
مسند الفردوس: أخرجه أبو يعلى عن عكرمة قال: سألت عائشة رضي الله
عنها.
وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وكذا أورد ابن الجوزي التمثل بهذا البيت بغير إسناد إلا أنه
قال: ويأتيك من لم تزوده بالأخبار، فزاد الضمير.
وللترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمثل بشعر ابن رواحة ويقول: ويأتيك بالأخبار من لم تزوده.
قال: وفي الباب عن ابن عباس رضي الله عنهما، هذا حديث حسن صحيح، انتهى.

(1/195)


وروى مسدد عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استزاد خَبَراً، تمثل ببيت طرفة:
ويأتيك بالأخبار من لم تزوده
ْقال شيخنا الحافظ: شهاب الدين البوصيري: ورواه النسائي في
"اليوم والليلة".
ولأبي بكر بن أبي شيبة، وعبد بن حميد، عن ابن عباس رضي الله
عنهما قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمثل من الأشعار:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
هذا ما وقفت عليه من طرق هذا الخبر.
وحقيقة ما كان يعبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا البيت:
ويأتيك من لم تزوده بالأخبار
بزيادة ضمير في "تزود"، أو بغير زيادة مع تقديمها على "بالأخبار".
وأما من روى البيت كما هو، فذكر المتمثل به، ولم يذكر هيئة العبارة
عنه، ومن قدم قوله: "بالأخبار"، وزاد ضميراً في تزود: مشى على جادة
البيت، ظاناً أن المقصود مجرد كسره، وهو حاصل بزيادة الضمير، وخفي عليه المعنى الذي غيره النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجله، كما سيأتي بيانه.
فبهذا تترجح رواية من قدم "من لم تزود" على ما هو الأولى بالمسند إليه
كما يعرف ذلك أهل النقد للأخبار، وأرباب المزاولة للآثار.
وروى الشيخان: البخاري، ومسلم، والترمذي، وابن ماجة، عن أبي

(1/196)


هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أصدق كلمة قالها الشاعر:
كلمة لبيد.
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
ورواه اليونارتي في جزئه عنه فقال: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال على المنبر: إن أصدق كلمة تكلمت بها العرب، كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وللشيخين وغيرهما: عن البراء رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينقل التراب يوم الخندق، حتى اغبر بطنه، ويقول:
والله لولا أنت ما اهتدينا. . . ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا. . . وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الأولى قد بغو علينا. . . إذا أرادوا فتنة أَبَيْنَا

(1/197)


يرفع بها صوته: أبينا، أبينا.
وروى عبد الله بن الِإمام أحمد في "زوائد المسند"، وأبو يعلى الموصلي.
عن الأعشى المازني رضي الله عنه قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فانشدته:
يا مالك الناس وديان العرب. . . إني لقيت ذربة من الذرب
غدوتُ أبغيها الطعام في رجب. . . فخلفتني بنزاع وهَرَبْ
أخلفت العهد ولَطَتْ بالذَّنَبِ. . . وهُنَ شَرُّ غالِبٌ لمن غَلَبْ
قال: فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:

(1/198)


. . . . . .. وهن شر غالب لمن غلب.
وذكر أصحاب السير، والبيهقي في دلائل النبوة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم غنائم حنين، وأكثر في المؤلفة قلوبهم، وأعطى عيينة بن حصن مائة من الإِبل، وأعطى الأقرع بن حابس مائة، وأعطى العباس بن مرداس رضي الله عنه دون المائة، فأنشد يقول:
كانت نُهابا تلافيتها بِكَرِّى. . . على المُهْرِ في الأجْرُع
وإيقاظى الحي أن يرقدوا. . . إذا هجع الناس لم أهجع
فأصبح
وفي رواية:
أتجعل نُهْبِي ونُهْب العُبَيـ. . . دِ بين عيينةَ والأقرع
فما كان حصن ولا حابسٌ. . . يفوقان مرداسَ في مَجْمع
وقد كنتُ في الحرب ذا تُدْرَأ. . . فلم أُعْطَ شيئاً ولم أمنع
وما كنتُ دون امرىء منهما. . . ومن تضع اليوم لا يُرفع
فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنت القائل: أصبح نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة؟.
فقال أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) : بأبي وأمي أنت، لم يقل
كذلك، ولا والله ما أنت بشاعر وما ينبغي لك، وما أنت براويه.

(1/199)


قال: فكيف؟. فأنشده أبو بكر رضي الله عنه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: سواءهما، ما يضرك بأيهما بدأت، بالأقرع أم عيينة؟. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اقطعوا عني لسانه، فأعطى حتى رضي.
هذا ما اطلعت عليه مما تمثل به النبى - صلى الله عليه وسلم - من الشعر.
وأما ما وقع من كلامه - صلى الله عليه وسلم - موزوناً:
فروى الشيخان عن البراء رضي الله عنه في غزوة حنين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هرب عنه أصحابه - رضي الله عنهم - شرع يركض بغلته نحو هوازن ويقول:
أنا النبي لا كذب. . . أنا ابن عبد المطلب
وروى البخاري ومسلم أيضاً: والترمذي، والنَّسائي، من حديث
جندب بن سفيان رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في بعض المشاهد، وقد دميت أصبعه.
وفي رواية: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يمشي إذ أصابه حجر فعثر، فدميت أصبعه فقال:
هل أنت إلا أصبع دميت. . . وفي سبيل الله ما لقيت

(1/200)


قال الزمخشري: ما هو إلا كلام من جنس كلامه الذي كان يرمي به
على السليقة من غير صنعة فيه ولا تكلف، إلا أنه اتفق من غير قصد إلى
ذلك، ولا التفات منه إليه إن جاء موزوناً، كما يتفق في كثير من إنشاءات
الناسِ في خطبهم ورسائلهم ومحاوراتهم أشياء موزونة، ولا يسميها أحد
شعرا، ولا يخطر ببال المتكلم ولا السامع أنه شعر، وإذا فتشت في كل
كلام عن نحو ذلك، وجدت الواقع في أوزان البحور غير عزيز. انتهى.
قلت: وأبين من ذلك في الحجة: أنه قد أخرج بعض الناس البحور
الستة عشر من القرآن العظيم، وما اعترض أحد من العرب عليه - صلى الله عليه وسلم - (بشيء من ذلك) ، مع أنهم كانوا لا يجدون مساعاً لشيء يعترضون به، إلا بادروا إليه.
فلولا أنه مشهور عند صغيرهم وكبيرهم: أن الشعر لا يكون إلا مع
القصد لأوسعوا القول في ذلك، وألزموا به التناقض.
والذي دعا إلى الإتيان به موزوناً: إنما هو صحة المعنى، وكمال انتظامه
به دون غيره، فإن "لا" النافية لكل كذب في "لا كذب "، لا يقوم غيرها
مقامها.
وشهرته - صلى الله عليه وسلم - بعبد المطلب أعظم من شهرته بغيره مع أنه أقرب أجداده، فنظره - صلى الله عليه وسلم - مقصور على المعنى.

(1/201)


وأما في الأصبع: فكذلك لا عبارة غير ما قال تؤدي ذلك المعنى، فإن
تقديم الجار المفيد للاختصاص، في أحق مواضعه وأتمها.
ولم ينقل أحد أنه - صلى الله عليه وسلم - أشبع كسرة التاء حتى تولد منها ياء ويكفي في صرفه عن الشعر، عدم الِإشباع.
وأما الأبيات الماضية: فتقديم الأقرع على عيينة أولى، لأن عيينة ارتد
في أيام الردة، بل أقر أنه لم يكن أسلم قبل ذلك.
وأما الأقرع فكان إسلامه حسناً، ولم يرتد بعد ذلك، ولكنه كان
شريفاً، فكان التأليف لغيره بواسطته.
ولذلك اعتذر - صلى الله عليه وسلم - بقوله: لا يضرك بأيهما بدأت.

(1/202)


وأما شعر الأعشى: فلا يتأتى المعنى على حال السداد والكمال، إلا
بقوله: "وهن شر غالب لمن غلب"، فأتى به كما هو من غير تغيير.
وكذا شعر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه: والله لولا أنت ما
اهتدينا.
ولما كانت "الألى" - بضم الهمزة بمعنى الجماعة - يجوز فيها المد والقصر
وكان المد لا يلتزم هنا إلا لأجل الوزن، وكان انتظام المعنى به مقصوراً.
كانتظامه به ممدودا، قصره - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا نظر له إلى غير تصحيح المعنى بالألفاظ الكاملة.
فإن قيل: المد ربما أفهم تعظيماً لم يفده القصر؟.
قيل: وهذا موجب الإتيان به مقصوراً، لأن المقام لا يقتضي تعظيم
الظالمين.
وأما قول لبيد: فلا يتأتى المعنى - مع أنه في غاية الصحة - إلا به، فلم
يغيره.
وأما قول طرفة: فلما كان قد يلزمه الكذب من تقديم الجار، في قوله:
"بالأخبار" نطق به - صلى الله عليه وسلم - على أتم أحواله، بأن قدم "من لم تزود" الذي هو عمدة الكلام، سواء كان بضمير، أم لا.
وأما "كفى الشيب والِإسلام ": فإنه لا يليق بذلك السياق الذي للنهى
عن المساوىء والوعظ، أن يُقدم فيه شيء على الإِسلام، الذي هو أعظم
واعظ، وأقوى زاجر، وتأكيد المعنى بالجار أحسن، فأتى به كذلك.
فتأمل ما يرد عليك من مثل ذلك حق التأمل، وأعطه ما يليق به.

(1/203)


ثم إن وراء ذلك: أن القوافي المطلقة الموصولة بحروف العلة، لا
يُعَد البيتُ شعراً إلا بوصلها، وإلا نقص الوزن، ومتى نقص، لم يعد شعرا.
ولا رواية مصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم وصل شيئاً من ذلك.
فالظاهر: أنه سكَّن اللام من "باطل " من شعر لبيد للوقف، كما تقدم
في دميت، وكذا كل ما جاء من مثله.
وأما ما "حرف " الوصل فيه من (نفس) الكلمة فيأتي به لكون
الكلمة لا تصح إلا به لا لكونه وصلاً.
وأما من كان يقول له - صلى الله عليه وسلم -: "ليس هكذا قال الشاعر"، من الصحابة رضي الله عنهم، فكانوا يعلمون أن الشاعر إذا قدم شيئاً، أو أخره، لم يفعل ذلك لقصد المعنى الذي أدى إليه التقديم والتأخير، وإنما هو للاضطرار، وأن ذلك لازم في صنعة الشعر، لا يحلو إلا به، فيلزم الذي يقصد الشعر أن يأتي به ليصح النظم معه، وكذا من يقصد روايته عن قائله، لتصح له الرواية.
وأما النبي - صلى الله عليه وسلم -: فلما لم يكن للوزن عنده اعتبار، لم يلتفت إليه، ورأى: أن التقديم والتأخير مِخُل بالمعنى فنطق به - صلى الله عليه وسلم - على الصواب، ولم يلتفت بوجه
إلى الوزن، ولا نحا أصلًا نحوه، لأنه ليس للشعر عنده حرمة من حيث كونه
شعرا، فليس هو بشاعر، ولا راوية للشعر، حتى يقصد الإتيان بالبيت كما
هو، لئلا ينكسر، بل قصده المعنى ليس غير، لأنه إذا أدار الأمر بين أن يأتي
بمعنى معيب في لفظ مزوَّق، فهو في الظاهر حلو، وفي الحقيقة معيب كما هو
حال كل شيء للشيطان فيه حظ. وأن يأتي بالمعنى خالصاً ممدّحاً في لفظ

(1/204)


جليل سالم، وجب أن يأتي به سالماً، لأنه لا حَظَّ للتزويق منه - صلى الله عليه وسلم - في قول، ولا في فعل، ولا حال أصلاً، ولم يكن أحد ممن كان يحاوره في ذلك يساويه في البلاغة حتى يذوق هذا الذوق من قبل أن ينبهه - صلى الله عليه وسلم -. والله الهادي.
وأعلم أن هذا القول، وهو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عالم بأصل الغريزة بانحاء الشعر، معرض عن استعمال ذلك، لما فيه من المعايب، غير معول على شيء منه، لما يوقع فيه من النقائص ما لا بد من اعتقاده، ولأدى الحال إلى أمر فظيع.
قال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب "الإعجاز، ما معناه: "إن من كان
ناقصاً في نوع من أنواع البلاغة في شيء من وجوه الخطاب، لم تقم عليه
الحجة بالقرآن حتى يعلم عجزه الكامل في ذلك النوع، ثم قال: فأما من كان متناهياً في معرفة وجوه الخطاب، وطرق البلاغة، والفنون التي يمكن فيها إظهار الفصاحة، فهو متى سمع القرآن، عرف إعجازه.
وإن لم نقل ذلك، أدى الحال إلى أن يقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعرف إعجاز القرآن حين أوحى إليه، حتى سَبَرَ الحالَ، بعجز أهل اللسان عنه، وهذا خطأ من القول.
فصح من هذا الوجه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أوحى إليه القرآن عرف كونه معجزا، وعرف بأن قيل له: إنه دلالة وعلم على نبوتك.
إنه كذلك من قبل أن يقرأه على غيره، أو يتحدى إليه سواه.
ولذلك قلنا: إن المتناهى في الفصاحة، والعلم بالأساليب التي يقع فيها
التفاصح متى سمع القرآن، عرف أنه معجز، لأنه يعرف من حال

(1/205)


نفسه: أنه لا يقدر عليه، ويعرف من حال غيره مثل ما يعرف من حال
نفسه، فيعلم أن عجز غيره كعجزه هو، وإن كان يحتاج بعد هذا إلى
استدلال آخر على أنه علم على نبوة، ودلالة على رسالة، بأن يقال له: إن
هذا آية النبي، وأنها ظهرت عليه، وادَّعاها معجزة له، وبرهاناً على صدقة.
انتهى.
ولا يُظَنُ أني لم أسبق بالقول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عالم بالوزن، كما أنه قادر على السجع، غير أنه لا يصوِّب إلى شيء منهما همته الشريفة، لا يجر إليه التقيد بذلك من التكلف والنقص اللذين برأه الله منهما، وأبعده عنهما.
فقد قال قاضي الشافعية بمصر: صدر الدين السلمَي المناوي
الشافعي في كتابه "تخريج أحاديث المصابيح ": وقد ذهب جمع من العلماء
إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يُحْسِنُ الشعر - وهو الأصح - حتى قيل: إنه لم ينشد بيتاً تاماً قط، ألا ترى أنه حين ذكر بيت طرفة قال: ويأتيك من لم تزوده بالأخبار؟
وذهب قوم إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحسن الشعر، ولكن لا يقوله وتأولوا قوله
تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) إنه رد على المشركين في
قولهم: (بل هو شاعر) ومن ذكر بيتاً واحداً، لا يلزمه هذا الاسم.
انتهى.

(1/206)


فإن كنت ممن يدور مع البرهان، فقد ذكرت لك من ذلك ما فيه
مقنع، وإن كنت مقيداً بالسلف، فهذا كلام بعضهم، وإن خالفه غيره.
وقوله: إنَّ الأول أصح، منظور فيه.
والأصح - بل الصواب -: هذا الثاني، لما ذكرت من الدلائل، وأقمت
من الحجج.
هذا تحرير القول إجمالاً في نفي السجع عن القرآن، وإن أردت
التفصيل، فانظر كل موضع ادعى فيه كل مدع شيئاً من ذلك من كتابي:
"نظم الدرر في تناسب الآي والسور" تجد فيه - بحمد الله - ما يفكك من
تلك العهدة، ويخلص مما لزم من الورطة، وإنه ما سيق على ذلك النظم، إلا
لحال دعا إليه، لا يبلغ الكلام ذروة البلاغة إلا به، فهو جار على ما
اقتضاه من الحال، لا على التفنن في المقال.
والله الهادي من الضلال، الموفق لمن اختاره إلى أشرف الأقوال
والأعمال.
عدد آيات الفاتحة
إذا تقرر هذا، فعدد آي الفاتحة: وإن وقع الاتفاق على إجماله، فقد
حصل الاختلاف في تفصيله.
عد الكوفي والمكي " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، وأسقطا "أنعمت
عليهم "، وعكس المدنيان، والبصري والشامي.
هكذا حكي الِإجماع - على أنها سبع - المصنِّفون في العدد.

(1/207)


وقال الِإمام نجم الدين أبو حفص عمر النسفي في تفسيره "التيسير:
هي ثماني آيات في قول الحسن البصري، وست في قول الحسين الجعفي.
وسبع في قول الجمهور.
فالحسن عد البسملة و "أنعمت عليهم " آيتين، وتركهما الجعفي.
وحكى الأصفهاني في تفسيره: أن عمر بن عبيد عدها أيضاً ثمانية.
لأنه جعل (إياك نعبد) آية.
قال: وهو شاذ، وكذا القول بأنها ست.
رويها - أي الحرف الذي هو نهاية فواصلها -: حرفان، يجمعهما:
من.
وفيها شبه الفاصلة: (إياك نعبد) ، قاله الداني.
و (صراط الذين) قاله الجعبري.
وروى الداني بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول:
هي - أي البسملة - آية من كتاب الله، ثم يقول أبو هريرة: عُدُّوا إن شئتم
فاتحة الكتاب، يعني: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

(1/208)


قال أبو عمرو: وعدها آية في الحمد من أئمة الأمصار، أهل مكة.
وأهل الكوفة، وكل من رأي قراءتها في صلاة الفرض من الصحابة رضي الله
عنهم والتابعِين ومن بعدهم من الفقهاء، فهي عنده آية.
مقصود سورة الفاتحة
ومقصودها: مراقبة العباد لربهم.
فإن التزام اسمه تعالى وحده - كما دل عليه تقديم الجار - في كل حركة
وسكون داع إلى ذلك، وعلى ذلك دلت أسماؤها.
وهكذا اسم كل سورة مترجم عن مقصودها، لأن اسم كل شيء
تلحظ المناسبة بينه وبين مسماه، عنوانه الدال بالِإجمال على تفصيل ما فيه.
وذلك هو الذي أنبأ به آدم عليه السلام، عند العرض على الملائكة
عليهم السلام ومقصود كل سورة هاد إلى تناسبها.
فهذه السورة اسمها - مع الفاتحة - أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع
المثاني والأساس، والمثاني، والكنز، والشافية، والكافية، والواقية، والشفاء، والرقْيَة والحمد، والشكر، والدعاء، والصلاة.
فمدار هذه الأسماء - كما ترى - على أمر خفي، كاف لكل مراد، وذلك
هو المراقبة، وكل شيء لا يفتتح بها، لا اعتداد به.

(1/209)


وهي أم كل خير، وأساس كل معروف، ولا يعتد بها إلا إذا ثُنِّيت.
فكانت دائمة التكرار، وهي كنز لكل مُنى، شافية لكل داء، كافية لكل
مُهِمٍّ، وافية بكل مرام واقية من كل سوء، شافية من كل سقام،. رقية
لكل مسلم، وهي إثبات الحمد الذي هو الإِحاطة بصفات الكمال، والشكر
الذي هو تعظيم المنعم، وهي عين الدعاء فإنه التوجه إلى المدعو، والمراقبة
أعظم توجه، وأعظم مجامعها الصلاة.
وعلى قدر المقصود من كل سورة، تكون عظمتها، ويعرف ذلك مما ورد
في فضائلها ويؤخذ من ذلك أسماؤها، ويدل على فضلها كثرتها.
فلا سورة في القرآن أعظم من الفاتحة، لأنه لا مقصود أعظم من
مقصودها.
وهي جامعة لجميع معاني القرآن، ولا يلزم من ذلك اتحاد مقصودها مع
مقصوده بالذات، وإن توافقا في المآل، فإنه فرق بين الشيء وبين ما جمع
ذلك الشيء.
فمقصود القرآن، تعريف الخلق بالمَلِكِ، وبما يرضيه.
ومقصود الفاتحة: غاية ذلك، لكونها غاية له، وذلك هو المراقبة
المذكورة، المستفادة من التزام ذكره تعالى في كل حركة وسكون، لاعتقاد أنه لا يكون شيء إلا به.
وعلى جلالة هذا المقصد، جاءت فضائلها.

(1/210)


فضائل القرآن
ولكونها جامعة، ناسب أن يذكر فضائل القرآن الِإجمالية أولها، ويذكر
اهتمام الصحابة بترتيبة وجمعه، وتهذيبه، فإن ذلك من فضائله.
وليعلم أني لا أذكر (من ذلك) إن شاء الله في الفضائل، إلا ما صح
أو حسن، أو جاز ذكره إن كان ضعيفاً، فلم ينزل إلى درجة الموضوع.
ولم أذكر شيئاً من الحديث الموضوع على أبي وابن عباس، رضي الله عنهم، في فضائل كل السور: سورة، سورة، كما ذكره الواحدي والزمخشري، ومن تبعهما، لأن الموضوع لا يحل ذكره، إلا على سبيل القدح فيه. والله الموفق.

(1/211)


كيفية نزول الوحي
روى البخاري في بدء الوحي، ومسلم في فضائل النبي - صلى الله عليه وسلم - والترمذي في المناقب، والنَّسائي في الصلاة، والبيهقي في الأسماء والصفات "، عن عائشة رضي الله عنها، أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -:
كيف يأتيك الوحي؟ ، قال: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده
عليَّ، فينفصم عني، وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً
فيكلمني، فأعي ما يقول، قالت عائشة رضي الله عنها: لقد رأيته ينزل عليه
الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وأن جبينه ليتفصدُ عرقاً.

(1/212)


وسيأتي في سورة القيامة حديث ابن عباس رضي الله عنهما في شدة
الوحي.
والحكمة في جعل صوت الوحي كالصلصلة - والله أعلم - ما بين
صاحبي الصوتين: الوحي، والحديد، من الشّبه في البأس الشديد والمنافع
والثقل، والشدة والصلابة، والحدة والصفاء، والنفع والِإبانة، والقطع
والتأثير، دون التأثر، وغير ذلك مما يكشفه التدبر، والتأمل، والتفكر، مع ما فيه من تقريب إسماع كلام الله تعالى من غير حرف، بل ولا صوت.
وكذلك جاء في الحديث الآخر، الذي رواه البخاري، وأبو داود، عن
أبب هريرة، ومسلم عن ابن عباس، عن رجال من الصحابة رضي الله

(1/213)


عنهم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قضى الله الأمر في السماء، سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا.
ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكمل الخلق، ظهر له في وقع الحديد بعضُه على بعض فإنه أقوى من الوقع على الحجر.
ولما كان هذا الصوت للوحي، وكان الموحي واحداً لا شريك له، شرع
توحيد وحيه أيضاً، بهذا المظهر، تشريفاً له، ولئلا يلبس نوع لَبْس، ولو

(1/214)


على وجه بعيد فنهى عن الجرس، ولو كان مزمار الشيطان، لتعرضه لإلباس
الوحي، وتقرب منه الملائكة غيرة على هذا المقام العالي (المرام) ، والواجب
الإكرام والإعظام، وجعل ما يخطفه الجنى من الوحي كقرقرة الدجاجة، التي
هي من أضعف الحيوان، وهو من أضعف الأصوات وأسمجها. والله الموفق.
نزول الكتب السماوية في رمضان
وروى الإمام أحمد في المسند، وأبو عبيد في الفضائل، والبيهقي في
الشعب والأسماء والصفات، وأبو القاسم الأصفهاني في الترغيب، والثعلبي في التفسير عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أنزلت صحف إبراهيم عليه السلام في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان وأنزل الزبور لثماني عشرة خلت من شهر رمضان (1) ، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان.
ولفظ أبي عبيد: أنزلت صحف إبراهيم عليه السلام أول ليلة من شهر
رمضان ونزلت التوراة على موسى عليه السلام في ست من شهر رمضان.
ونزل الزبور على داود عليه السلام في اثنتي عشرة من شهر رمضان، ونزل
الإنجيل على عيسى عليه السلام في ثماني عشرة من شهر رمضان، وأنزل الله
تبارك وتعالى الفرقان على محمد - صلى الله عليه وسلم - في أربع وعشرين من شهر رمضان.
وأخرجه أبو يعلى الوصلي في الجزء الثاني عشر من مسنده، عن جابر بن
عبد الله رضي الله عنهما قال: أنزل الله تعالى صحف إبراهيم عليه السلام في أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة على موسى عليه السلام.
__________
(1) قوله: "وأنزل الزبور لثماني عشرة خلت من شهر رمضان "، غير موجود في متن الحديث في المسند.

(1/215)


لست خلون من رمضان وأنزل الزبور على داود عليه السلام في إحدى عشرة ليلة خلت من رمضان، وأنزل القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - في أربع وعشرين خلت من رمضان.
هكذا رواه موقوفاً، ومثله لا يقال بالرأي.
قال الِإمام أبو شامة في كتابه "المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق
بالكتاب العزيز": ووقع في تفسير الماوردي وغيره: أنزل الزبور لاثنتى
عشرة والِإنجيل لثمان عشرة.
وكذلك هو في كتاب أبي عبيد.
وفي بعض التفاسير عكس هكذا، الإنجيل لاثنتي عشرة والزبور لثماني
عشرة.
واتفقوا على أن صحف إبراهيم عليه السلام لأول ليلة، والتوراة لست
مضين والقرآن لأربع وعشرين خلت.

(1/216)


قال أبو عبد الله الحليمي: يريد ليلة خمس وعشرين.
وفي (كتاب) الأسماء والصفات للبيهقي: عن ابن عباس رضي الله
عنهما، أنه سأله عطية بن الأسود فقال: قد وقع في قلبي الشك في قول الله
تعالى: (شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن) .
وقوله: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) ، وقد أنزل في شوال، وذي القعدة، وذي الحجة، يعني: وغير ذلك من الأشهر؟.
فقال ابن عباس: إنه أنزل في رمضان، وفي ليلة القدر، وفي ليلة
مباركة، جملة واحدة، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم، رسلا في
الشهور والأيام.
قال البيهقي في معنى قوله: "أنزل القرآن لأربع وعشرين ": إنما أراد -
والله أعلم - نزول المَلَك بالقرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا.
وقال في معنى قوله: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) ، يريد - والله
أعلمِ - إنا أسمعناه الملك، وأفهمناه إياه، وأنزلناه بما سمع، فيكون الملك
متنقلَا به من علو إلى سفل.

(1/217)


نزول القرآن منجماً
ولأبي عبيد في الفضائل، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أنزل
القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك نجوماً
إلى النبي - سع في عشرين سنة، وقرأ: (ولا يأتونك بمَثَل إلا جئناك بالحق
وأحسنَ تفسيراً) ، و (وقرآنا فَرَقْنَاه لتقرأه على الناس على مُكْثٍ
ونرلناه تنزيلاً) .
قال أبو شامة: أخرجه الحاكم أبو عبد الله في كتاب "المستدرك " وقال:
حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وأخرج أبو القاسم الأصفهاني في الترغيب عن ابن عباس رضي الله
عنهما قال: أنزل القرآن في النصف من (شهر رمضان إلى سماء الدنيا.
فجعل في بيت العزة ثم أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عشرين سنة، جواب كلام الناس.

(1/218)


وللحاكم وقال: صحيح على شرطهما، والبيهقي في "الأسماء والصفات
عنه أيضاً، والطبراني في الكبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله
تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القَدْر) قال: أنزل القرآن جملة واحدة قي ليلة
القدر إلى سماء الدنيا وكان بمواقع النجوم، وكان ينزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بعضه في إثر بعض قال: "وقال الذين كفروا لولا نُزِّل عليه القرآن جملةً واحدةً كذلك لنُثَبًت به فؤادك ورتلْناه ترتيلاً".

(1/219)


وأسند البيهقي في الدلائل والشعب، والواحدي في تفسيره عن ابن
عباس رضي الله عنهما قال: أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى
السماء الدنيا جملة واحدة، ثم فرق في السنين، وتلا الآية: (فلا أقسم
بمواقع النجوم) قال: نزل متفرقا.
قال أبو شامة: هو من قولهم: نَجَّمِ عليه الدية، أي قطعها، فلما قطع
الله سبحانه وتعالى القرآن، وأنزله متفرقا، قيل لتقاربه: نجوم، ومواقعها:
مساقطها وهي أوقات نزولها.
وروى أبو العباس أحمد بن علي المَوْهبي بسند حسن إن شاء الله، عن
عمر رضيِ الله عنه، أنه قال: تَعَلَّموا القرآن خمساً خمساً، فإن جبريل نزل به
خمسا خمسا.
وفي الطبراني الكبير، وفي كتاب المستدرك، وقال: صحيح الِإسناد ولم
يخرجاه والأسماء والصفات للبيهقي عن الحاكم، عن ابن عباس - أيضاً -
رضي الله عنهما قال: فصِل القرآن من الذكر) ، فوضعِ في بيت العزة في
السماء الدنيا، فجعل جبريل يُنَزَله على النبي - صلى الله عليه وسلم - يرتله ترتيلا.
وأخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في كتاب "ثواب القرآن" عن ابن
عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر)
قال:

(1/220)


دفع إلى جبريل في ليلة القدر جملة، فوضع في بيت العزة، ثم جعل ينزل
تنزيلًا.
وروى البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات " من طريق أبي داود، عن
جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض نفسه على الناس بالموقف فقال: ألا رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجلّ.
فضل كلام الله على سائر الكلام
وروى الإِمام أحمد في المسند عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
قال: كنا قعوداً نكتب ما نسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخرج علينا فقال: ما هذا الذي تكتبون؟ ، فقلنا: ما نسمع منك. فقال: أَكِتَاب مع كتاب الله؟.
امحضوا كتاب الله وأخلصوه، قال: فجمعنا ما كتبناه في صعيد واحد ثم
أحرقناه بالنار، فقلنا: أنتحدث عنك؟ قال: نعم. تحدثوا عني ولا حرج.
ومن كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار، قال: قلنا: يا رسول الله، أنتحدث

(1/221)


عن بني إسرائيل؟ *، قال: نعم فحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، فإنكم
لا تَحَدِّثُون عنهم بشيء إلا وقد كان فيهم أعجب منه.
وروى الشيخان والترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول
ْالله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من الأنيياء (نبي) إلا أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه لله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة.
وروى مسلم في صفة النار، والنَّسائي في "فضائل القرآن "، عن عياض

(1/222)


بن حمار المجاشعي رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوماً في خطبته: ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، كل مال نَحَلْتُه عبداً حلالٌ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً وأن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا، لا يغسله الماء، تقرأه نائما ويقظان.

(1/223)


وروى الشيخان، والترمذي، والنَّسائي، عن ابن عمر رضي الله
عنهما، عن النبي في أنه قال: لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن
فهو يقوم به آناء الليل، وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً، فهو ينفقه آناء
الليل وآناء النهار.
وللطبراني والبيهقي في كتابا الزهد"، عن معاذ رضي الله عنه قال:
أخذ بيدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمشى ميلاً، ثم قال: أوصيك بتقوى الله وصدق الحديث، ووفاء العهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، ورحمة اليتيم وحفظ الجار، وكظم الغيظ، ولين الكلام، وبذل السلام، ولزوم الإمام، والتفقه في القرآن، وحب الآخرة، والجزع من الحساب، وقصر الأملِ، وحسن العمل، وأنهاك أن تشتم مسلماً، أو تصدق كاذباً، أو تكذِّب صادقا، أو تعصي إماماً عادلَاَ، أو أن تفسد في الأرض، يا معاذ، أذكر الله عند كل شجر وحجر، وأحدث لكل ذنب توبة السر بالسر، والعلانية بالعلانية.
وروي الترمذي: والدارمي، عن الحارث الأعور قال: مررت في
المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث، فدخلت على عليٍّ رضي الله عنه
فأخبرته فقال: أو قد فعلوها؟. قلت نعم. قال: أما إني سمعت رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ألا إنها ستكون فتنة، قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟
قال: كتابُ الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو
الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في
غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط

(1/224)


المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تشبع
منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبة وهو الذي لم تنته
الجن إذ سمعته حتى قالوا "إنا سمعنا قرآنا عجباً"، من قال به صدق، ومن
عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط
مستقيم.
ورواه الِإمام أحمد، والدارمي، وأبو يعلى بلفظ: أن علياً رضي الله عنه
قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أتاني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن أمتك مختلفة بعدك، فقلت: فأين المخرج يا جبريل؟ ، قال: كتاب الله، به يقصم الله كل جبار، من اعتصم به نجا، ومن تركه هلك - مرتين - قول فصل. الحديث.
ولفظ الدارمي: الكتاب العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، من ابتغى الهدى في غيره أضله الله.
ومن ولى هذا الأمر من جبار فحكم بغيره قصمه الله، هو الذكر الحكيم.
والنور المبين. الحديث.
ورواه الطبراني بسند - قال الهيثمي: فيه عمرو بن واقد، وهو

(1/225)


متروك - عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً الفتن فعظمها وشددها، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: فما المخرج منها؟ قال: كتاب الله. الحديث جميعه.
وروى أبو عبيد في الفضائل، والترمذي في الأمثال من جامعة وقال:
حسن غريب والنَّسائي في التفسير، عن النواس بن سمعان رضي الله عنه
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ضرب الله مثلًا صراطاً مستقيماً، وعلى جنبي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى رأس الصراط داع يقول: ادخلوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا، وداع يقول من فوق
الصراط - قال الترمذي: والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى
صراط مستقيم - فإذا أحد فتح شيئاً من تلك الأبواب، قال: ويلك لا
تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، فإن الصراط: الِإسلام والستور حدود الله -
قال: الترمذي: فلا يقع أحد في حدود الله حتى يكشف الستر - والأبواب
المفتحة: محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط، القرآن والذي من
فوقه: واعظ الله في قلب كل مسلم.
وسيأتي في سورة الأنعام عن ابن مسعود رضي الله عنه، وعن العرباض
رضي الله عنه.
وروى الطبراني في الصغير - من وجه ضعيف - عن أنس بن مالك
رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من أصبح حزيناً على الدنيا، أصح ساخطاً على ربه، ومن أصبح يشكو مصيبة نزلت به، فإنما يشكو الله تعالى، ومن تضعضع لغني لينال مما في يده، أسخط الله عز وجل، ومن أعطى القرآن فدخل النار فأبعده الله.

(1/226)


ولمسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال سول
الله - صلى الله عليه وسلم -: الطهور شطر الِإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن - أو تملأ - ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
وقال ابن هشام في السيرة في أوائل الهجرة، قال ابن إسحاق: ثم
خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة أخرى، فقال: إن الحمد لله، أحمده وأستعينه نعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله (تبارك وتعالى) . قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإِسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسنِ الحديث وأبلغه، أحبوا ما (أحب الله) ، أحبوا الله من كل قلوبكم.
ولا تَمَلُّوا كلام الله وذكره ولا تقسُ عنه قلوبكم، فإنه من كل ما يخلق الله
يختار ويصطفي، فقد سماه الله خيرته من الأعمال، ومصطفاه من العباد.
والصالح من الحديث، ومن كل ما أوتي الناس الحلال والحرام، فاعبدوا الله
ولا تشركوا به شيئاً، واتقوه حق تقاته، وأصدقوا الله صالح ما تقولون
بأفواهكم، وتحايُّوا بروح الله بينكم، إن الله يغضب أن يُنكث عهده والسلام عليكم ورحمة الله.

(1/227)


وقال الحافظ زين الدين: عبد الرحمن بن رجب في كتاب "الاستغناء
بالقرآن ": وخرج الطبراني في الطولات بإسناد ضعيف، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب للعلاء بن الحضرمي حين بعثه إلى البحرين عهداً، وذكر فيه: كتاب الله، فيه تبيان لما كان قبلكم، وما هو كائن بعدكم، ليكون حاجزاً للناس، حجز الله بعضهم عن بعض، وهو كتاب الله، مهيمن على الكتب، مصدق لما فيها من التوراة والإنجيل والزبور، ويخبركم الله فيه بما كان قبلكم مما فاتكم دركه في آبائكم الأولين، الذين أتتهم رسل الله وأنبياؤه، كيف كان جوابهم لرسله، وكيف كان تصديقهم بآيات الله وكيف كان تكذيبهم بآيات الله، فأخبركم الله في كتابه هذا شأنهم وأعمالهم، وأعمال من هلك منهم بذنبه، لتجتنبوا مثل ذلك أن تعملوا به، لكي لا يحل عليكم من سخطه ونقمته، مثل الذي حل عليهم من سوء أعمالهم، وتهاونهم بأمر الله، وأخبركم في كتابه هذا بأخبار من نجا ممن كان قبلكم، لكي تعملوا مثل أعمالهم، فكتب لكم في كتابه هذا تبيان ذلك كله، رحمة منه لكم، وشفقة من ربكم عليكم، وهو هدى الله من الضلالة، وتبيان من العمى، وإقالة من العثرة، ونجاة من الفتنة، ونور من الظلمة، وشفاء من الأحداث، وعصمة من الهلكة، ورشد من الغواية، وبيان ما بين الدنيا والأخرة، فيه كمال دينكم.
فذكره حتى قال: من عمل بما فيه نجا، ومن اتبع ما فيه اهتدى، ومن
خاصم به فلح، ومن قاتل به نصر، ومن تركه ضل، حتى يراجعه، تعلموا
ما فيه، وأسمعوه آذانكم، وأودعوه أجوافكم، واستخلصوه قلوبكم، فإنه نور للأبصار، وربيع للقلوب، وشفاء لما في الصدور.
وروى أحمد، والترمذي، والنَّسائي، عن أبي ذر رضي الله عنه، عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاث يحبهم الله، حتى قال: وقوم ساروا ليلتهم، حتى إذا

(1/228)


كان النوم أحب إليهم مما يعدل به، فوضعوا رؤوسهم، فقام أحدهم
يتملقني ويتلوا آياتي.
وللبيهقي عن أبي سلمة، عن عبد الرحمن بن عوف، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب بعد ما قدم المدينة، فقال في خطبته: إن أحسن الحديث كتاب الله، أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الِإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا من أحب الله، وأحبو الله من كل قلوبكم.
وقال الِإمام الغزالي في كتاب "فضل القرآن من الإحياء": وقال
أحمد ابن حنبل: رأيت الله عز وجل في المنام، فقلت: يا رب ما أفضل ما

(1/229)


يتقرب به المتقربون إليك؟ ، قال: كلامي يا أحمد، قال: قلت: يا رب
بفهم، أم بغير فهم؟ ، قال: بفهم وبغير فهم.
وسيأتي في الأعراف ويس ما يتصل بهذا عن حمزة الزيات.
وللإمام أحمد - وهذا لفظه - وأبي داود، وابن ماجه، وابن حبان في
صحيحيهما، والحاكم وصححه - وقال الدارقطني: إسناده صالح، وعلق
البخاري بعضه في صحيحه - عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:
خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة (من نجد) فغشينا داراً من دور المشركين، فأصبنا امرأة رجل منهم، ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راجعاً، وجاء صاحبها وكان غائباً، فذكر له مصابُها، فحلف لا يرت حتى يهريق من
أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دماً، فلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعض الطريق نزل في
شِعْب من الشَعَاب، فقال: من رجلان يكلأننا في ليلتنا هذه من عدونا؟
فقال رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، نحن نكلؤك يا رسول الله.
فخرجنا إلى فم الشعب دون العسكر، ثم قال الأنصاري للمهاجري، أتكفيني
أول الليل وأكفيك آخره، أم تكفيني آخره وأكفيك أوله؟. فقال المهاجري: بل اكفني أوله وأكفيك آخره، فنام المهاجري، وقام الأنصاري يصلي، وافتتح بسورة من القرآن، فبينما هو فيها يقرؤها، جاء زوج المرأة، فلما رأى الرجل

(1/230)


قائماً يصلي، وعرف أنه ربيئة القوم، فنزع له بسهم فوضعه فيه، قال:
فينزعه فيضعه وهو قائم يقرأ السورة التي هو فيها ولم يتحرك كراهية أن
يقطعها، ثم عاد له زوج المرأة بسهم آخر فوضعه فيه، فانتزعه فوضعه وهو
قائم يصلي في السورة التي هو فيها، ولم يتحرك كراهية أن يقطعها، ثم عاد له زوج المرأة الثالثة بسهم فوضعه فيه فانتزعه فوضعه، ثم ركع وسجد، ثم قال لصاحبه: اقعد فقد أتيتُ فجلس الهاجري، فلما رآهما صاحب المرأة هرب وعرف أنه قد نذر به، قال: وإذا الأنصاريْ يفوج دماً من رميات
صاحب المرأة، فقال له أخوه الهاجري: يغفر الله لك، ألا كنت آذنتني
أول ما رماك؟ قال: كنت في سورة من القرآن قد افتتحتها أصلي بها.
فكرهت أن أقطعها وأيم الله لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظه، لقطع نفسي قبل أن أقطعها.

(1/231)


وقيل: إن الرجلين: عمار بن ياسر، وعبَّاد بن بشر، رضي الله
عنهما.
وروى ابن المبارك في الزهد، عن أبي ريحانة - وكان من أصحاب

(1/232)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - أنه قفل من بعض عزواته، فلما انصرف أتى أهله فتعشى، ثم دعا بوضوء فتوضا منه، ثم قام إلى مسجده، فقرأ سورة ثم أخرى، فلم يزل ذلك مكانه كلما فرغ من سورة افتتح أخرى، حتى إذا أذن المؤذن شدَّ عليه ثيابه، فأتته امرأته فقالت: يا أبا ريحانة، قد عزوتَ فتعبتَ في غزوك، ثم قدمت، ألم يكن لي حظ ونصيب؟. فقال: بلى، والله ما خطرتِ لي على بال، فلو ذكرتكِ لكان عليَّ حق، قالت: فما يشغلك يا أبا ريحانة؟
قال: لم يزل يهوى قلبي فيما وصف الله عز وجل في جنته من لباسها
وأزواجها، ونعيمها ولذاتها، حتى سمعت المؤذن.
وروى الحافظ أبو عبد الله بن منده، عن إسماعيل بن طلحة بن
عبيد الله، عن أبيه رضي الله عنه قال: أردت مالي بالغابة، فأدركني الليل.
فآويت إلى قبر عبد الله بن عمرو بن حزام رضي الله عنه، فسمعت قراءة من
القبر ما سمعت أحسن منها فجئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له،

(1/233)


فقال: ذلك عبد الله ألم تعلم أن الله قبض أرواحهم، فجعلها في قناديل من
زبرجد، وياقوت، وعلقها وسط الجنة، فإذا كان الليل رُدَّت إليهم أرواحهم، فلا تزال كذلك، حتى إذا طلع الفجر، رُدَّت أرواحهم إلى مكانهم التي كانت فيه.
ويأتي في العنكبوت قراءة ميت.
وروى من طريق الحافظ أبي بكر الخطيب قال: أنا محمد بن جعفر بن
علان أنا عيسى بن محمد الطوطري قال: رأيت أبا بكر بن مجاهد المقرىء في
النوم كأنه يقرأ، وكأني أقول له: يا سيدي أنت ميت وتقرأ؟ ، فكأنه يقول
لي: كنت أدعو في دبر كل صلاة، وعند ختم القرآن، أن يجعلني ممن يقرأ في
قبره.
وروى أبو بكر الخلال في كتاب "السنة" عن عكرمة قال: قال ابن
عباس رضي الله عنهما: المؤمن يعطي مصحفاً في قبره يقرأ فيه.
وذكر أبو الحسن بن البراء في كتابه "الروضة" عن إبراهيم الحفار قال:
حفرت قبراً، فبدت لَبِنَة من القبر، فشممت رائحة المسك، حين انفتحت
اللبِنَة فإذا بشيخ جالس في قبره يقرأ.
وروى الِإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(1/234)


نمت في فراشي (1) ، فرأيت الجنة، فسمعت صوت قارىء يقرأ.
فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا حارثة بن النعمان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كذاك البَرُّ، كذاك البَرُّ، وكان أبر الناس بأمه.
قال ابن رجب: أخرجاه.
وذكر أبو الشيخ الأصبهاني الحافظ -، عن صالح بن حبان، عن عبد الله
بن بريدة قال: إن أهل الجنة يدخلون كل يوم مرتين على الجبار جل جلاله.
فيقرأ عليهم القرآن، وقد جلس كل امرىء منهم مجلسه الذي هو مجلسه.
على منابر الدر والياقوت والزبرجد، والذهب، والزمرد، فلم تَقَر أعينهم بشيء، ولم يسمعوا شيئاً قط أعظم ولا أحسن منه، ثم ينصرفون إلى رحالهم ناعمين، قريرة أعينهم، إلى مثلها من الغد.
قال: وذكر يحيى بن سلام قال: أخبرني رجل من أهل الكوفة، عن
داود بن أبي هند، عن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أهل الجنة ينظرون إلى ربهم في كل يوم جمعة، على كثيب من كافور، لا يرى طرفاه، وفيه نهر جار، حافتاه المسك، عليه جوار يقرأن القرآن بأحسن أصوات الأولون والأخرون.
__________
(1) لا وجودلها في المسند.

(1/235)


وقال ابن وهب: حدثني سعيد بن أبي أيوب قال: قال رجل لابن
شهاب: هل في الجنة سماع؟ ، قال: أي والذي نفس ابن شهاب بيده.
إن في الجنة لشجراً حمله اللؤلؤ والزبرجد، تحته جوار ناهدات، يتغنين
بالقرآن، يقلن: نحن الناعمات فلا نيأس، ونحن الخالدات فلا نموت، فإذا
سمع ذلك الشجر صفق بعضه بعضاً، فلا يدري أأصوات الجواري أحسن.
أم أصوات الشجر.
وروى أبو عبيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ينبغي
لقارىء القرآن أن يعرف إذ الناس نائمون، وبنهاره إذ الناس يفطرون.
وببكائه إذ الناس يضحكون، وبورعه إذ الناس يخلطون، وبصمته إذ الناس
يخوضون، وبخشوعه إذ الناس يختالون.
قال: وأحسبه قال: وبحزنه إذ الناس يفرحون.
وروى أبو نعيم عن أبي حازم قال: كنت ترى حامل القرآن في

(1/236)


خمسين رجلًا فتعرفه، قد خضعه القرآن، فأدركت القراء الذين هم القراء.
فأما اليوم فليسوا بقراء، ولكنهم خراء.
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "المعروف " عن الفضيل بن عياض
معضلاً قال: بلغني أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا عظَّمت أمتي الدينار والدرهم، نُزِع منها هيبةُ الِإسلام. وإذا تركوا الأمر يالمعروف، حرموا بركة الوحي.
قال الغزالي: قال الفضيل: يعني: حرموا فهم القرآن، فقد شرط
الله الإنابة في الفهم، فقال: "وما يتذكر إلا من ينيب ".
ولمسلم وابن ماجة، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين.

(1/237)


فضل حامل القرآن
ولمسلم والترمذي والنَّسائي، وابن ماجة، عن أبي مسعود البدري رضي الله
عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، وأقدمهم قراءة - وفي رواية: للقرآن - فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سناً - وفي رواية: سِلْما -، ولا يؤمَّن الرجل الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه.
ولعبد بن حميد عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا اجتمع ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم.
ولأبي عبيد عن عائشة رضي الله عنها قالت: يؤم القوم أقرؤهم
لكتاب الله، وأقدمهم هجرة، فإن كانوا في ذلك سواء، فليؤمهم أحسنهم
وجهاً.
قال أبو عبيد: لا أراها إلا أرادت حسن السمت والهدى.
وللبخاري، وأبي داود وهذا لفظه، والنَّسائي، عن عمرو بن سلمة
رضي الله عنه قال: كنا بحاضر يمر بنا الناس إذا أتوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -

(1/238)


فكانوا إذا رجعوا مروا بنا، فأخبرونا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كذا وكذا وكنت غلاماً حافظاً، فحفظتُ من ذلك قرآناً كثيراً، فانطلق أبو وافد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفر من قومه، فعلمهم الصلاة وقال: يؤمكم أقرؤكم.
وفي رواية: لما أرادوا أن ينصرفوا، قالوا: يا رسول الله من يؤمنا؟.
قال: أكثركم جمعاً للقرآن - أو أخذا للقرآن -، فلم يكن أحد جمع ما جمعت، فقدَّمُوني وأنا غلام عليَّ شملة لي.
وفي رواية: فكنت أقرأهم لما كنت أحفظ، فقدَّمُوني، فكنت أؤمهم
وعليَّ بردة لي صغيرة صفراء.
وفي رواية: موصلة فيها فتق، فكنت إذا سجدت خرجت إستي.
وفي رواية: فكنت إذا سجدت تكشفَتْ عني، فقالت امرأة من النساء:
وَارُوا عنا عورة قارئكم، فاشتروا لي قميصاً عُمانِيَّا، فما فرحت بشيء - بعد الإسلام - فرحي به، فكنت أؤمهم وأنا ابن سبع سنين، أو ثماني سنين.
وفي رواية: ما شهدت مَجْمعاً من جَرْم إلا كنت إمامهم، (وكنت
أصلي على جنائزهم إلى يومي هذا.

(1/239)


وقريب من هذا: ما وقع لزيد بن ثابت رضي الله عنه.
قال شيخنا في "الإصابة في أسماء الصحابة"، وروى البخاري
تعليقاً، والبغوي وأبو يعلى موصولاً، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد.
عن أبيه رضي الله عنه قال: أتِي بي النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدمه المدينة، فقيل: هذا من بني النجار وقد قرأ سبع عشرة سورة، فقرأت عليه، فأعجبه ذلك.
وقال: وقتل أبوه يوم بعاث، قبل الهجرة بخمس سنين، وله يومئذ
ست سنين. وسيأتي بقية ما يتم به هذا في سورة البقرة إن شاء الله تعالى.
وفي التبيان للنووي: وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان القراء
أصحاب مجلس عمر رضي الله عنه ومُشَاوَرته، كُهولاً وشُباناً. رواه
البخاري.

(1/240)


وفيه: عن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننْزِل الناس منازلهم.
رواه أبو داود في سننه، والبزار في مسنده.
قال الحاكم أبو عبد الله في "علوم الحديث ": هو حديث حسن
صحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن الله تبارك وتعالى قال: من آذى وليا، فقد آذنته بالحرب، رواه البخاري.
وثبت في الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من صلى الصبح، فهو في ذمة الله، فلا يطلبنَكم الله بشيء من ذمته.

(1/241)


وعن الإمامين الجليلين: أبي حنيفة والشافعي، قالا: إن لم يكن العلماء
أولياء الله، فليس لله ولي.
وقال الِإمام الحافظ أبو القاسم بن عساكر رحمه الله: اعلم يا أخي
وفقنا الله وإياك وجعلنا ممن يخشاه، ويتقيه حق تقاته -: أن لحوم العلماء
مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصهم معلومة، وإن من أطلق لسانه
في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) الآية. انتهى ما في التبيان.
ولأحمد، والترمذي وقال: حسن غريب، والطبراني في معاجمه الثلاث.
عن ابن عمر رضي الله عنهما، ولفظه في الكبير: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة، لا يهولهم الفزع، ولا يفزعون حين يفزع الناس: رجل تعلم القرآن فقام به يطلب وجه الله وما عنده،

(1/242)


ورجل نادى في كل يوم وليلة خمس صلوات يطلب وجه الله وما عنده.
ومملوك لم يمنعه رق الدنيا عن طاعة ربه.
وللبخاري وأصحاب السنن الأربعة، عن جابر رضي الله عنه، أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد، ويقول: أيهما أكثر أخذا للقرآن، فإذا أشير إلى أحدهما: قدمه في اللحد وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يغسلهم، ولم يصل عليهم ".
وقال عبد الرزاق في جامعه: أخبرنا معمر وابن عيينة، عن أيوب، عن
حميد ابن هلال، أخبرني هشام بن عامر الأنصاري رضي الله عنه قال: قتل
أبي يوم أحد فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: احفروا وأوسعوا، وأحسنوا، وادفنوا الإثنين والثلاثة في قبر، وقدموا أكثرهم قرآنا، فكانا أبي ثالث ثلاثة، وكان أكثرهم قرآناً فَقدِّم.

(1/243)


وأخرجه أبو عبيد عن إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب به، ولفظه:
قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القَرْحَ يوم أحد، وقالوا: كيف تأمر بقتلانا؟.
قال: احفروا وأوسعوا، وأحسنوا، وادفنوا في القبر الإثنين والثلاثة.
وقدموا أكثرهم قرآناً، فقدم أبي بين يدي اثنين.
وللشيخين وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن. فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة.

(1/244)


ولفظ عبد بن حميد: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَعْرِض الكتاب على جبريل عليه السلام في كل رمضان، فإذا أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الليلة التي يَعْرِضُ فيها ما يَعْرِض، أصبح وهو أجودُ من الريح المرسلة، لا يُسأل شيئاً إلا أعطاه، فلما كان الشهر الذي تُوُفًيَ بَعْدَهُ، عرض عليه عرضتين.
وللشيخين عن عائشة رضي الله عنها في حديث الوفاة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أْسَرَّ إلى فاطمة رضي الله عنها ما أخبرت به بعد موته - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال لها: إن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن في كل سنة مرة، وأنه عارضه الآن مرتين، قال: وإني لا أرى الأجل إلا وقد اقترب، فاتقى الله واصبري، فإنه نعم السلف أنا لك.
وللشيخين - وهذا لفظ مسلم - عن أنس رضي الله عنه، أن الله عز
وجل تابع الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال أبو شامة: يعني عام وفاته، أو يوم وفاته، يريد: أيام مرضه كلها.
كما يقال: يوم الجمل، ويوم صفين.
وفي جامع الأصول عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جمع الله في
هذا الكتاب علم الأولين، وعلم الآخرين، وعلم ما كان، وعلم ما يكون.
والعلم بالخالق جل جلاله في أمره وخلقه.

(1/245)


فضيلة السواك عند القراءة
ولمسلم وأبي داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأحمد بن منيع عن
أبي سعيد رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما - اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا، نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في من عنده.
وروى عبد الرزاق في جامعه، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
أنه حث الناس على السواك، وقال: إن الرجل إذا قام فصلى، دنا الملك
يستمع القرآن، فما يزال يدنو، حتى أنه ليضع فاه علي فيه، فما يلفظ من آية إلا وقعت في جوف الملك قال: فطيبوا ما هنالِك.
ومثل هذا لا يقال من قبل الرأي.
أي فحكمه الرفع. والله أعلم.
قال المنذري: بإسناد جيد لا بأس به، فرفعناه عن علي رضي الله عنه.
أنه أمر بالسواك وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن العبد إذ تسوك ثم قام يصلي، قام المَلَك خلفه، فيستمع لقراءته، فيدنو منه - أو بكلمة نحوها - حتى يضع فاه علي فيه، فما يخرج من فيه من شيء من القرآن، إلا صار في جوف الملك، فطَهِّروا أفواهكم للقرآن.
قال المنذري: وروى ابن ماجة بعضه موقوفاً، ولعله أشبه، انتهى.

(1/246)


ورواه أبو نعيم في الحلية، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أفواهكم طرق القرآن، فطيبوها بالسواك.
قال العراقي في تخريجه للِإحياء: وكلاهما - أي المرفوع والموقوف -
ضعيف.
وروى ابن رجب من طريق علي بن أحمد الحمامي، عن الزهري قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا تسوك أحدهم، ثم قام يقرأ، طاف به الملَك يستمع القرآن حتى جعل فاه على فيه، فلا تخرج آية من فيه إلا في الملَك، وإذا قام ولم يتسوك طاف به الملك ولم يجعل فاه على فيه.
وهذا مرسل جيد، يقوي المرفوع والموقوف، في أنه في حكم المرفوع.
والله أعلم.
ولأبي نعيم في الحلية، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن لكل شيء شرفاً يتباهى به، وإن بهاء أمتي وشرفها القرآن.
ولأحمد في المسند، والطبراني، والحاكم وقال: صحيح الإِسناد، وابن
حبان في صحيحه، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - أوصبني قال: عليك بتقوى الله فإنها رأس الأمر كله.
قلت: يا رسول الله زدني.
قال: عليك بتلاوة القرآن وذكر الله عز وجل، فإنه نور لك في الأرض
وفخر لك في السماء قلت: يا رسول الله زدني.
قال: عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان وعون لك في أمر دينك. قلت: زدني.
قال: إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب، ويذهب بنور الوجه، قلت: زدني. قال: قل

(1/247)


الحق ولو كان مُرا، قلت: زدني.
قال: لا تخف في الله لومة لائم.
قلت: زدني: قال: ليحجزنك عن الناس ما تعلم من نفسك.
وللدارمي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: القرآن أحب إلى الله من السماوات والأرض، ومَنْ فيهن.
وروى الحافظ ابن رجب فى كتاب "الفردوس" من رواية شهر بن
حوشب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان يوم القيامة يقرأ الله القرآن، فكأنهم لم يسمعوه، فيحفظه المؤمنون، وينساه المنافقون.
وللبيهقي في الشُعب عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، وجلاؤها كثرة ذكر الموت وتلاوة القرآن
وقال الغزالي في كتاب فضل القرآن: وقال علي بن أبي طالب رضي الله
عنه: ثلاثة يزدن في الحفظ، ويذهبن البلغم: السواك، والصوم، وقراءة
القرآن.

(1/248)


النهي عن السفر بالمصحف إلى أرض العدو
وللشيخين وأبي داود، والنَّسائي، وابن ماجه، وأبي عبيد، عن ابن عمر
رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن نسَافرَ بالقرآن إلى أرض العدو.
قال مالك: أرَاة مخافة أن يناله العدو.

(1/249)


ورواه عبد بن حميد، وأبو بكر الشافعي في الجزء السابع من
الغِيلَانِيَّات، عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تسافروا بالقرآن إلى - أرض العدو، فإني أخاف أن ينالوا منه شيئاً.
وسيأتي في أحاديث جمع القرآن سر هذا الخوف.
رفع القرآن
ولابن عبد الحكم في كتاب (الفتوح) ، عن عبد الله بن عمر رضي الله
عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن والذكر أو الركن.

(1/250)


شك ابن عبد الحكم.
وهو في الفردوس بنحوه من وجهين.
وللدارمي عن عبد الله - يعني ابن مسعود - رضي الله عنه قال: أكثروا
تلاوة القرآن قبل أن يرفع، قالوا: هذه المصاحف ترفع، فكيف بما في صدور الرجال؟.
قال: يسري عليه ليلاً، فيصبحون منه فقراء، وينسون قول لا إله
إلا الله، ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم، وذلك حين يقع عليهم
القول.
ورواه عنه عبد الرزاق عنه بنحوه.
وزاد: (ثم قرأ) : (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) .
ورواه الطبراني في الكبير - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، غير
شداد ابن معقل وهو ثقة - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
ليُنْزِعن هذا القرآن من بين أظهركم، قالوا: يا أبا عبد الرحمن ألسنا نقرأ
القرآن، وقد ثبتناه في مصاحفنا؟
قال: يسري على القرآن ليلاً، فلا يبقى في قلب عبد، ولا في مصحفه منه شيء، ويصبح الناس فقراء كالبهائم، ثم قرأ عبد الله: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) .
وهذا وإن كان موقوفاً، فمثله لا يقال من قبل الرأي.

(1/251)


ومثله ما روي الدارمي عنه أيضاً رضي الله عنه، أنه قال: ليسرين
على هذا القرآن ذات ليلة، فلا تترك آية في مصحف، ولا في قلب أحد، إلا رفعت.
ومثله ما رواه عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سيبلي القرآن في
صدور أقوام كما يبلى الثوب فيتهافت، يقرأونه لا يجدون له شهوة ولا لذة.
يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، أعمالهم طمع لا يخالطه خوف، إن قصروا قالوا: سنبلغ، وإن أساءوا قالوا سيغفر لنا، إنا لا نشرك بالله
شيئاً.
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه مُطَوَّلاً، وعن ابن عمر
رضي الله عنهما مختصراً وقال: حديث حسن - وهذا لفظ أبي هريرة - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يخرج في آخر الزمان رجال يَخْتِلُون الدنيا بالدين، يلبسون جلود الضان من اللين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله عز وجل: أبي يفترون، أم في يجترؤون. فبى حلفت لأبعثن على أولئك فتنة تدع الحليم حيران.
وروى مسلم والترمذي وابن ماجه، عن أبي مالك الأشعري رضي الله
عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القرآن حجة لك أو عليك.

(1/252)


وللترمذي وأحمد - قال المنذري. ورواته رواة الصحيح - عن شداد
بن أوس رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من مسلم يأخذ مضجعه فيقرأ سورة من كتاب الله، إلا وكَّل الله به مَلَكاً، فلا يقربه شيء يؤذيه، حتى يهب متى هب.
ولا بن ماجه عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خير الدواء القرآن.
قال النووي في التبيان: وعن طلحة بن مصرِّف: أنه كان يقال: إن
المريض إذا قرىء عنده القرآن، وجد لذلك خفة، فَدَخَلْتُ على خيثمة وهو
مريض فقلت: إني أراك صالحاً، فقال: إنه قرىء عندي القرآن.
ما بنبغي لحامل القرآن
وعند الطبراني، والحاكم وصحح سنده، عن عبد الله بن عمر رضي
الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ القرآن، فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحي إليه، لا ينبغي لصاحب القرآن أن يَجدَ مع من يجد، ولا يجهل مع من جهل، وفي جوفه كلام الله.

(1/253)


ومعنى "يَجد فيمن يَجدُ": أي يجد في نفسه شيئاً لا يليق، أو يجد شيئا
من الدنيا، أو يحصله.
وفي بعض النسخ: "يَجدُ فيمن جدَّ" مضاعفاً.
أي يعظم فيمن عظمَ، أي يتكبر، ويطلب أن يحظى، أو يكون كثير
الرزق.
ورواه الطبراني من طريق فيه إسماعيل - بن رافع - قال الهيثمي: وهو
متروك - ولفظه: - من قرأ القرآن، فكأنما استدرجت النبوة بين جنبيه، غير أنه لا يوحي إليه ومن قرأ القرآن، فرأى أن أحداً أُعطي أفضل ما أعطي، فقد عظَّم ما صغَّر الله وصغَّر ما عظَّم الله، وليس ينبغي لحامل القرآن أن
يَسْفَهَ فيمن يَسْفَهُ، أو يغضب فيمن يغضب، أو يحتدّض فيمن يحتدُّ، ولكن يعفو ويصفح، لفضل القرآن.
وروى أبو عبيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ينبغي
لقارىء القرآن أن يُعرف بليله إذ الناس نائمون، وبنهاره إذ الناس يفطرون.
وببكائه إذ الناس يضحكون وبورعه إذ الناس يخلطون، وبصمته إذ الناس
يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون.
قال: وأحسبه قال: وبحزنه إذ الناس يفرحون.
وروى أبو نعيم عن أبي حازم قال: كنت ترى حامل القرآن في
خمسين رجلًا فتعرفه قد خضعه القرآن، فأدركت القراء الذين هم القراء.
وأما اليوم فليسوا بقراء، ولكنهم خراء.

(1/254)


وروى ابن أبي الدنيا في كتاب "المعروف"، عن الفضيل بن عياض
مُعْضَلاً، قال: بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا عظَّمت أمتىِ الدينار والدرهم، نزع منها هيبة الِإسلام، وإذا تركوا الأمر بالمعروف حرموا بركة الوحي.
قال الغزالي: قال الفضيل: يعني حرموا فهم القرآن، وقد شرط الله
الِإنابة في الفهم فقال: (وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) .
وروى الطبراني بسند - قال الهيثمي: فيه حُييُّ، وثقة جماعة، وفيه كلام
لا يضر، وبقية رجاله رجال الصحيح - عن عبد الله بن عمرو رضي الله
عنهما أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن زوجي مسكين، لا يقدر على شيء
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لزوجها: أتقرأ من القرآن شيئاً؟. قال: أقرأ سورة كذا، وسورة كذا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بَخ بَخٍ، زوجك غنى فلزمت المرأة زوجها، ثم أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا نبي الله قد بسط الله علينا وَرَزَقنا.
وللبزار عن أنس رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن البيت الذي يقرأ فيه القرآن، يكثر خيره، والبيت الذي لا يقرأ فيه القرآن يَقِل خيره.
قال البزار: لم يروه إلا أنس، وفيه عمر بن نبهان، وهو ضعيف.
وفي الفردوس عن أنس رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ القرآن، فكأنما شافهني وشافهته.
وللطبراني في مجامعه الثلاث، بإسناد لا بأس به، عن ابن عمر رضي
الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاثة لا يهولهم الفزع الأكبر، ولا ينالهم

(1/255)


الحساب، هم على كثيب من مسك حتى يُفْرَغَ من حساب الخلائق:
رجلٌ قرأ القرآن ابتغاءَ وجه الله، وأتمَ به قوماً وهم به راضون. الحديث.
ولأبي عبيد عن يحيى بن (أبي) كثير قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إبلٍ لحَي يقال لهم بنو الملَوَّح - أو بنو المصطلق - قد عَبَسَتْ أبوالُهَا من السِّمنَ
فَتَقَنَع بثوبه، ثم قرأ هذه الآية: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. . . (إلى آخر الآية) .
وروى أبو يَعْلَى في مسنده عن أنس رضي الله عنه، والطبراني عن أبي
هرِيرة رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: القرآن غنىً لا فَقرَ بعده ولا غِنى دونَه.
قال الهيثمي: وفيه يزيد بن أَبَانَ الرقاشي، وهو ضعيف
حفظ الله للقرآن
روى الِإمام أحمد وأبو يعلى في مسنديهما، والبَغَوى في "شرح السنَّة"

(1/256)


والدارمي والطبراني في الكبير، وأبو عبيد، عن عقبة بن عامر الجُهَني رضي
الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لو كان القرآن في إهَاب ماَ مستْه النار.
وفي رواية: لو أن القرآن جُعِل في إهاب، ثم ألقى في النار، ما احترق.
قال أبو عبد الرحمن: تفسيره: أن من جَمَع القرآن، ثم دخل النار فهو
شَرٌّ من الخنزير.
وقال أبو عبيد: وجه هذا عندنا: أن يكون أراد بالإهاب قلب المؤمن
وجوفه الذي قد وعى القرآن.

(1/257)


وفي سند الطبراني ابن لهيعة، وفيه خلاف، قاله الهيثمي.
وللطبراني عن عصمة هو ابن مالك الأنصاري الحُلَيْمي رضي الله عنه
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لو جمع القرآنُ في إهاب ما أحرقته النار.
قال الهيثمي: وفيه الفضل بن المختار، وهو ضعيف
وله فيه عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو كان القرآن في إهاب ما مسته النار.

(1/260)


قال الهيثمي: فيه عبد الوهاب بن الضحاك، وهو متروك.
فضل القرآن وقارئه
وفي الفردوس عن أنس رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ القرآن، وعرف تأويله ومعانيه، ولم يعمل به، تَبَوَّأ مضجعه من النار.
وللطبراني في الصغير، عن أنس رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ القرآن يقوم به آناء الليل والنهار، يُحلُّ حلاله، ويُحرِّم حرامه حرم الله لحمه ودمه على النار، وجعله رفيق السفرةِ الكرام البررة، حتى إذا كان يوم القيامة، كان القرآن حجة له".
وللبيهقي في الشُّعَب عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ القرآن، فقام به آناء الليل والنهار، يحلُّ حلاله، ويُحرِّم حرامه، خلطه الله بلحمه ودمه، وجعله رفيق السفرة الكرام البررة، وإذا كان يوم القيامة، كان القرآن حجة له".
ورواه أبو عبيد في كتاب "الفضائل"، عن كعب الأحبار، عن التوراة.
ولفظه: أن الفتى إذا تعلم القرآن وهو حديث السن، وحَرَص عليه، وعمل
به وتابعه، خلطه الله بلحمه ودمه، وكتبه عنده من السفرة الكرام البررة.
فإذا تعلم الرجل القرآن وقد دخل في السن، فحرص عليه وهو في ذلك
يتابعه ويتفلَّت منه، كُتب له أجره مرتين.
ولأبي عبيد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القرآن شافع مُشَفع، ومَاحِل مصدَّق، من شفع له القرآن يوم القيامة نجا،

(1/261)


ومن مَحَلَ به القرآن يوم القيامة كبَّه الله في النار على وجهه.
ورواه الطبراني.
قال الهيثمي: وفيه الربيع بن بدر، وهو متروك.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القرآن شافع مُشَفَّع، وَماحِلٌ مصدَّق، من جعله إمامه قاده إلى الجنة، ومن " جعله خلفه، ساقه إلى النار.
وقال الشيخ محي الدين في التبيان: وروى الدارمي بإسناده، عن

(1/262)


ابنِ مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اقرأوا القرآن فإن الله لا يُعذَب قلبا وعى القرآن، وإن هذا القرآن مَأدُبَةُ الله، فمن دخل فيه فهو آمِن ومن أحب القرآن فليبشر".
وللبيهقي في الشعب، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " قراءة القرآن في الصلاة، أفضل من قراءته في غير الصلاة".
وللطبراني - قال الهيثمي: وفيه أبو سعيد بن عوذ، وثقه ابن
معين في رواية، وضعفه في أخرى - والبيهقي في الدعوات، عن أوس

(1/263)


الثقفي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قراءة الرجل في غير المصحف بألف درجة وقراءته في المصحف تضعف على ذلك إلى ألفي درجة".
تجريد القرآن مما ليس منه
وروى عبد الرزاق عن الثوري، عن سَلَمَة بن كهْل، عن أبي الزعراء
قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه، جَرِّدوا القرآن، (يقول) لا يلبسوا
فيه ما ليس منه.
ورواه الطبراني من طريقه، ولفظه: جَردوا القرآن، لا تلبسوا به ما
ليس منه.
قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، غير أبي الزعراء وقد وثقه ابن
حبان وقال البخاري وغيره: لا يتابع في حديثه.
ورواه أبو عبيد من طريقه بلفظ: جردوا القرآن، ولا تخلطوه بشيء.
وروى عن مسروق، عن عبد الله، أنه كان يحُكُّ التعشير من
المصحف.
وله عن يحيى بن أبي كثير قال: ما كانوا يعرفون شيئاً مما أحدث في
هذه المصاحف.

(1/264)


وله عن يحيى بن أبي كثير: إلا هذه النقط الثلاث، عند رؤوس
الآيات.
كراهة تصغر حجم المصحف
وروى عبد الرزاق عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، أن علياً
رضي الله عنه كان يكره أن تتخذ المصاحف صغاراً.
وروى أبو عبيد عن أبي حكيمة العبدي قال: كنت أكتب المصاحف.
فبينا أنا أكتب مصحفاً إذ مر بي علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقام ينظر
إلى كتابي فقال: أجلل (من) قلمك، فقضمت من قلمي قصمة، ثم
جعلت أكتب. فقال: نعم هكذا، نوِّره كما نوره الله.
وله عن علي رضي الله عنه - أيضاً -: أنه كان يكره أن يكتب
القرآن في الشيء الصغير.
وروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه وجد مع رجل مصحفاً
قد كتب بقلم دقيق، فقال: ما هذا؟. فقال: القرآن كله، فكره ذلك
وضربه، وقال: عظِّموا كتاب الله.
قال: (وقد) كان عمر رضي الله عنه، إذا رأى مصحفاً عظيماً سرَّه.
كتابة القرآن في الشيء الطاهر
وله عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تكتبوا القرآن إلا في شيء طاهر".

(1/265)


وقال أبو (عبيد: حدثنا) يزيد، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عبد
الله ابن أبي بكر قال: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجدي: أن لا يمس القرآن إلا طاهر.
تحريم قراءة القرآن منكوساً
وروى عبد الرزاق عن الثورى، والدارمي عن محمد بن يوسف، عن
سفيان - وهو الثورى -، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود
رضي الله عنه قال: يا أيها الناس تعلموا القرآن، فإن أحدكم لا يدري متى
يُخْتَلُ إِليه، قال فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن، أرأيت رجلًا يقرأ
القرآن منكوساً؟. قال: ذلك منكوس القلب، قال: وأتى بمصحف قد زُيِّن وذُهِّب، فقال عبد الله، أحسن ما زُيِّن به المصحف تلاوته بالحق.
تفسير نكس القرآن
ورواه أبو عبيد في الغريب، وقال: يختل، أي يحتاج، من الخلة
والحاجة.
ونكس القرآن، قال: يتأوله كثير من الناس، أنه يبدأ الرجل من آخر
السورة فيقرؤها إلى أولها، وهذا شيء ما أحسب (أن) أحداً يطيقه، ولا
كان هذا في زمان عبد الله، ولكن وجهه عندي: أن يبدأ من آخر القرآن من
المعوذتين ثم يرتفع إلى البقرة، كنحو ما يتعلم الصبيان في الكُتَّاب، لأن السنة

(1/266)


بخلاف هذا وإنما جاءت الرخصةُ في تَعْلِيم الصبي والعَجَمِي من المُفَصَّل.
لصعوبة السور الطوال عليهما، فهذا عذر، فأما من قرأ القرآن وحفظه، ثم
تعمد أن يقرأه من آخره إلى أوَّلهِ، فهذا النكس المنهي عنه.
وإذا كرهنا هذا النكس، فنحن للنكس من آخر السورة إلى أولها أشد كراهية، إن كان ذلك يكون.
وقال النووي في التبيان: ولو خالف الموالاة، فقرأ سورة لا تلى الأولى.
أو خالف الترتيب فقرأ سورة، ثم قرأ سورة قبلها جاز، فقد جاء بذلك آثار
كثيرة، وقد قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الركعة الأولى من الصبح
الكهف، وفي الثانية بيوسف.
وقد كره جماعة مخالفة ترتيب المصحف، روى ابن أبي داود عن الحسن
أنه كان يكره أن يقرأ القرآن إلا على تأليفه في المصحف.
وبإسناده الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قيل له:
إن فلاناً يقرأ القرآن منكوساً، فقال: ذاك منكوس القلب.
وأما قراءة السورة من آخرها إلى أولها فممنوع منعاً متأكداً، فإنه يذهب
بعض ضروب الِإعجاز، ويزيل حكمة ترتيب الآيات. انتهى.
ثواب قراءة القرآن
وللحافظ أبي محمد الخلال في "كرامات الأولياء": عن أبي حمزة نصر

(1/267)


ابن الفرج الأسلمي قال: كان أبو معاوية الأسود يقرأ في المصحف، فذهب
بصره، وكان إذا جاء وقت قراءته وفتح المصحف، رجع إليه بصره فيقرأ.
فإذا أطبق المصحف ذهب بصره.
وروى عبد الرزاق عن الثورى، عن عاصم بن بَهْدَلَة، عن زِرِّ بنِ
حَوْشَب قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أديموا النظر في
المصحف، فإذا اختلفتم في ياء وتاء، فاجعلوها يا، واذكروا القرآن.
وروى الطبراني مثله.
ولعبد الرزاق عن معمر، عن لَيْث، عن عبد الرحمن بن سابط قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: البيت الذي يقرأ فيه القرآن، يكثر خيره، ويوسع على أهله ويحضره الملائكة، ويهجره الشياطين، وإن البيت الذي لا يقرأ فيه، يضيق على أهله، ويقل خيره ويهجره الملائكة، ويحضره الشياطين، وإن البيت الذي يقرأ فيه القرآن ويثوَّر فيه، يضيء لأهل السماء، كما يضيء النجم لأهل الأرض.

(1/268)


قال معمر: وسمعت رجلاً من أهل المدينة يقول: إن أهل السماء
ليتراءون البيت الذي يقرأ فيه القرآن، ويصلي فيه، كما يتراءى أهل الدنيا
الكوكب الدري في السماء.
وفي أمالي أبي الحسين بن شمعون، عن أنس رضي الله عنه
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الأنبياء سادة أهل الجنة، والشهداء قادة أهل الجنة، وحملة القرآن عُرفاء أهل الجنة.
وروى الطبراني عن الحسين بن علي رضي الله عنه قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: حملة القرآن عرفاء أهل الجنة يوم القيامة.
قال الهيثمي: وفيه إسحاق بن إبراهيم بن سعيد المدني، وهو
ضعيف.
ولأبي عبيد في الفضائل، والدارمي، والنَّسائي في الكبرى، وابن ماجه
والحاكم بإسناد صحيح - كما قاله المنذري - عن أنس بن مالك رضي الله
عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن للهِ تبارك وتعالى أهْلِين من الناس، قيل من هم يا رسول الاه؟.
قال: أهل القرآن، هم أهل الله وخاصته.
ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده، عن النعمان بن بشير رضي
الله عنهما.

(1/269)


ولأبي عبيد عن طلحة بن عبيد الله بن كريز - مرسلاً - قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله جواد يحب الجواد، ويحب معالي الأخلاق ويُبغِضُ - أو قال: يكره - سفسافها، وإن من تعظيم جلال الله، إكرام ثلاثة: الإِمام المقسط، وذي الشبيبة المسلم، وحامل القرآن، غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه.
وسيأتي في تخريج أبي داود لآخره.
وروى أبو عبيد عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن بعض أصحاب
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فضل قراءة القرآن نظراً على من يقرأ ظاهراً، كفضل الفريضة على النافلة.
(وله) عن عمر رضي الله عنه، أنه كان إذا دخل بيته نشر المصحف
فقرأ.
وله عن ابن مسعود رضي الله عنه، إنه كان إذا اجتمع إليه إخوانه.
نشروا المصحف فقرأوا، وفسر لهم.
ولمسلم وابن ماجه، والدارمي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد ثلاث خَلِفَات عظام سمان؟.
قلنا: نعم. قال: فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته، خير له من ثلاث خلفات عظام سمان.

(1/270)


ولمسلم - أيضاً - وأبي داود، وأبي عبيد في كتاب الفضائل، عن عقبة
بن عامر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله ونحن في الصُّفَّة، فقال: أيكم
يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان - أو قال: إلى العقيق - فياتي منه
بناقتين كوْمَاوينِ زهراوين في غير إثم ولا قطيعة رحم؟. قالوا: كلنا يا
رسول الله قال: فلأن يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد فيتعلم آيتين من
كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير
له من أربع، وأعدادهن من الإِبل.
وروى البزار بسند - قال الهيثمي: فيه إسحاق بن إبراهيم الثقفي وهو
ضعيف
والطبراني في الأوسط بسند فيه حفص بن سليمان الغاضري وهو
متروك، ووثقه أحمد في رواية، وضعفه في غيرها - عن كليب بن شهاب
قال: كان علي رضي الله عنه في المسجد أحسبه قال: مسجد الكوفة -
فسمع ضجة شديدة، فقال: ما هذا؟. قال: قوم يقرأون القرآن، أو
يتعلمون القرآن، فقال: طوبي لهؤلاء.

(1/271)


وعزاه النووي لابن أبي داود عن علي رضي الله عنه ساكتاً عليه.
وزاد: أما إنهم كانوا أحب الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولأحمد بسند - قال الهيثمي: فيه ابن لهيعة وهو حسن الحديث، وفيه
ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح - عن عائشة رضي الله عنها قالت:
ذُكر رجل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أولم تروه يتعلم القرآن.
ولمسلم عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) قال: كان رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب، احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومسَّاكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين.
ويقرن بين أصبعيه: السبابة والوسطى ويقول: أما بعد، فإن خير الحديث
كتاب الله وخير الهَدْيِ: هَدْيُ محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشَرَّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
ولأبي عبيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قيل له: إنك
لتُقِل الصوم؟. قال: إنه ليضعفني عن قراءة القرآن، وقراءة القرآن أحب
إليَّ..
وللترمذي عن ابن مسعود - أيضاً - رضي الله عنه قال: سمعت رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من قرأ حرفاً من كتاب الله، فله به حسنة، والحسنة بعشر

(1/272)


أمثالها، لا أقول: "الم" حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم
حرف.
معنى الحرف المقابل بالحسنة
قال أبو عمرو الداني في كتاب "العدد": إن هذا على حال صور الكَلِم
في الرسم، دون استقرارهن في اللفظ، ألا ترى أن صورة "الم" في الكتابة
ثلاثة أحرف، وهي في التلاوة تسعة أحرف، فلو كانت الكلمة إنما تعد
حروفها على حال استقرارها في اللفظ دون الرسم، لوجب أن يكون لقارىء
"الم" تسعون حسنة.
فلما قال: إنها ثلاثة أحرف، وإن لقارئها ثلاثين حسنة، لكل حرف
منها عشر حسنات، ثبت أن حروف الكلمة إنما تُعدُّ على حال صورهن في
الكتابة دون التلاوة، وأن الثواب جارٍ على ذلك.
قال: والكلمة هي الصورة القائمة بجميع ما يختلط بها من الشبهات.
والحرف هو الشبهة.
قال: وأطول الكلم في كتاب الله، ما بلغ عشرة أحرف، نحو قوله:
"ليستخلفنهم " و "أنلزمكموها".
فأما قوله: "فأسقيناكموه" عشرة في الرسم، وأحد عشر في اللفظ.
وحروف الهجاء في الفواتح كلمات، لا حروف، لأن الحروف لا يسكت

(1/273)


عليه، ولا ينفرد وحده في السورة، وهذه الحروف مسكوت عليها، منفردة. انتهى
وهو مشكل، فإن العامل إنما يثاب على عمله، لا على عمل غيره.
فالقارىء إنما يثاب على تحريك أعضائه بالحرف، سواء كتب، أو لا، وكان
مما يكتب إذا كتب أو مما يسقط في الرسم.
والذي قاله، يلزم منه أن تعطل بعض الحروف التي ينطق بها، ويعملها
بلسانه، أو حلقه أو شفتيه، وهذا لا يرضاه أحد، فإن ثوابه على بعض عمله دون بعض تَحكُم.
والذي ئكشف به معنى الحديث: حمل الحرف على الكلمة، فلما كانت
"الم" مرسومة على صورة كلمة واحدة، بين الحديث أنها ثلاث كلمات، فإن
المنطوق به: إنما هو أسماء الحروف، في مسمياتها، وكل اسم منها كلمة، لا
شك في ذلك.
وهذا الذي ظهر لي، نقله شيخنا علامة الِإقراء شمس الدين الجزري
في آخر كتابه النشر، عن شيخه الحافظ عماد الدين ابن كثير، وارتضاه
ونصره، وذكر أن ابنْ مفلح ذكره في فروعه، عن شيخه أبي العباس

(1/274)


ابن تيمية وعزاه إلى المحققين.
ويؤيد ذلك ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة، والبزار، في مسنديهما.
عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ حرفاً من كتاب الله، كتبت له حسنة، لا أقول: "الم" حرف، ولكن الحروف مقطعة، الألف حرف واللام حرف، والميم حرف.
قال شيخنا البوصيري رحمه الله، ومدار الإسناد على موسى بن عبيدة
الربذي وهو ضعيف.
ورواه الطبراني في الأوسط والكبير من طريقه ولفظه: من قرأ حرفاً من
القرآن كتبت له حسنة، ولا أقول: "الم ذلك الكتاب" حرف، ولكن الألف
حرف، واللام حرف، والميم حرف، والذال حرف، والكاف حرف.
إعراب القرآن بمعنى توضيحه
وله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعربوا القرآن، فإنه من قرأ القرآن فأعربه، فله بكل حرف عشر حسنات وكفارة عشر سيئات، ورفع عشر درجات.

(1/275)


وروى أحمد بسند - قال المنذري: فيه زبَّان بن فايد، وهو ضعيف -
عن معاذ بن أنس رضي الله عنه: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ القرآن في سبيل الله، كتب مع الصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
وروى أبو عبيد في الفضائل، والطبراني من طريق رجال بعضها رجال
الصحيح، إلا ليث بن أبي سليم، ففيه ضعف - قاله الهيثمي - عن ابن
مسعود رضي الله عنه، أنه قال: أعربوا القرآن، فإنه عربي، وسيأتي قوم
يثقفونه، وليسوا بخياركم.
ومثله لا يقال بالرأي، فله حكم المرفوع.
وروى الطبراني في الأوسط عن شيخه محمد بن عبيد، بن آدم، بن أبي
إياس - قال الهيثمي: وقد ذكره الذهبي في الميزان، ولم أجد لغيره فيه كلاماً
وبقية رجاله ثقات - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: القرآن ألف ألف حرف، وسبعة وعشرون ألف حرف، فمن قرأه صابراً محتسباً، كان له بكل حرف زوجة من الحور العين.

(1/276)


ولعل هذا العدد كان قبل أن ينسخ شيء من القرآن، وقبل أن يقتصر
على حرف واحد من السبعة، فإن حروفه الآن لا تبلغ هذا العدد، ولا
تقاربه.
وقد روى أبو عبيد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لا يقولَنَّ أحدكم:
قدم أخذت القرآن كله، وما تدريه ما كله، قد ذهب منه قرآن كثير، ولكن ليقل: أخذت ما ظهر منه.
وروى عبد الرزاق عن معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن أبي
عبيدة، عن ابن امسعود رضي الله عنه قال: من قرأ القرآن فله بكل آية عشر حسنات، ولا نقول: "الم" عشر، ولكن ألف ولام وميم ثلاثون حسنة.
وروى أبو يعلى بسند - قال الهيثمي: فيه عبد الله بن سعيد، بن أبي
سعيد المقبري، وهو متروك - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعربوا القرآن، والتمسوا غرائبه.
ولأبي عبيد وعبد الرزاق، والطبراني - قال الهيثمي: وفيه إبراهيم بن

(1/277)


مسلم الهَجَري وهو متروك - كذا قال شيخنا: فيه لين الحديث، رفِع
موقافات، وعزاه ابن رجب إلى الحاكم في المستدرك، عن عبد الله - أيضاَ - رضي الله عنه أنه قال: إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا (من) مأدبته ما
استطعتم، إنَّ هذا القرآن هو حبل الله الذي أمر به، وهو النور المبين.
والشفاء النافع، عصمة لمن اعتصم به، ونجاة لمن تمسك به.
وقال أبو عبيد: عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يَعْوَجُّ فتقَوَّم
ولا يَزيغ فَيُستَعْتَب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن رد.
وقال أبو عبيد: على كثرة الرد، اتلوه فإن الله يأجركم بكل حرف عشر
حسنات لم أقل - وفي رواية: لا أقول لكم -: "الم" حرف، ولكن ألف
حرف، ولام حرف وميم حرف.
(فلفظ) أبي عبيد: ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر.

(1/278)


نقط المصحف وشكله
وروى ابن أبي داود في كتاب "المصاحف" عن شعبة، عن محمد بن
سيف قال: سألت الحسن عن الخط ينقط بالعربية؟.
قال: لا بأس به؟
أما بلغك كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن تَفَقَّهوا في الدين.
وأحسنوا عبارة الرؤيا وتعلموا العربية.
ورواه عبد الرزاق في مصنفه: عن عبد الله بن كثير، عن شعبة.
أخبرني محمد بن سيف أبو رجاء، قال: سألت الحسن عن المصحف ينْقَطُ
بالعربية؟.
قال: لا بأس به، أما بلغك كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فذكره، ثم قال: وسألت ابن سيرين فقال: أخشى أن يُزاد في
الحروف.
وفي "أخبار النحوين" لأبي طاهر عبد الواحد بن أبي هاشم المقرىء.
عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: لأن أقرأ وأنقط، أحب إليّ من أقرأ
وألحن.
قال: وقال عمر رضي الله عنه: من قرأ القرآن فأعربه، فمات، كان
له عند الله يوم القيامة كأجر شهيد.

(1/279)


وروى أبو عبيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: أعربوا القرآن.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أعربوا القرآن فإنه عربي.
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: لأن أعرب آية من
القرآن، أحب إليَّ من أحفظ آية.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: تعلموا إعراب القرآن.
كما تَعَلَّمون حفظه.
وعن أبي رضي الله عنه مثل ذلك.
وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: تعلموا اللحن والفرائض
والسنن، كما تَعَلَّمون القرآن.
وعن الوليد بن محمد بن بن زيد قال: سمعت أبا جعفر يقول: قال
رسول الله تَعَلَّمون: أعربوا الكلام كما تعربون القرآن.
وعن أبي رجاء محمد بن سيف قال: قلت للحسن: ما تقول فيمن
تعلم العربية، أيخاف أن يكون ذلك يزيد في الهجاء؟ فقال: لا بأس به،

(1/280)


قال عمر ابن الخطاب: عليكم بالتفقه في الدين، والتفهم في العربية، وحسن
العبادة.
وعن يحيى بن عتيق قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد، الرجل
يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق، ويقيم بها قراءته؟.
فقال: حسن يا ابن أخي فتعلمها فإن الرجل يقرأ الآية بوجهها فيهلك.
وعن خليل البصري قال: لما ورد علينا سلمان رضي الله عنه أتيناه
نستقرئه القرآن، فقال: إن القرآن عربي، فاستقرئه رجلًا عربياً، قال: فكان زيد بن صوجان يقرئنا، ويأخذ عليه سلمان رضي الله عنه، فإذا أخطأ ميَّز عليه وإذا أصاب قال: أيم الله.
أخرج هذا كله أبو عبيد في الفضائل.
وروى الكلاباذي في أواخر شرحه لمعاني الأخبار، بسنده عن ابن
عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ القرآن، فأعرب في قراءته كان له بكل حرف عشرون حسنة، ومن قرأ بغير إعراب، كان له بكل حرف عشر حسنات.
وأسند - أيضاً - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن للهِ مَلَكا، فإذا قرأ العبد القرآن، فلم يقرأ مُقَوَّما، قَوَّمه المَلَكُ فرفعه مُقَوَّماً.

(1/281)


وحمل ذلك على الأعجمي الذي يكون عاجزاً عن إخراج الحروف من
مواضعها، والألثغ ونحوهما.
أو أن القارىء يسكِّن رؤوس الآي، ولا يُبَين إعرابها.
وروى الطبراني عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ القرآن ظاهراً، أو نظراً حتى يختمه، أعطى شجرة في الجنة، لو أن غراباً أفرخ تحت ورقة منها، ثم أدرك ذلك الفرخ فنهض، لأدركه الهَرَمُ قبل أن يقطع تلك الورقة من تلك الشجرة.
ورواه البزار وقال: لو أن غراباً أفرخ في غصن من أغصانها ثم طار.
لأدركه الهَرَم قبل أن يقطع ورقها.
قال الهيثمي: وفيه محمد بن محمد الهجيمي ولم أعرفه، وسعيد بن سالم
القداح مختلف فيه، وبقية رجال الطبراني ثقات، وإسناد البزار ضعيف.
ثواب في علَّم ولده القرآن
وللطبراني في الأوسط - قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفه - عن أنس
بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من علَّم ابنه القرآن نظراً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومن علمه إياه ظاهراً، بعثه الله يوم القيامة على صورة القمر ليلة البدر، ويقال لابنه، اقرأ، فكلما قرأ آية، رفع الله عز وجل بها الأب درجة، حتى ينتهي إلى آخر ما معه من القرآن.
وللترمذي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(1/282)


يقول: ما أذِنَ الله لشي، ما أذِنَ لعبد يقرأ القرآن في جوف الليل، وإن
البِرَّ ليُذَرُّ على رأس العبد ما دام في مصلاه، وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما
خرج منه.
قال أبو النضر: يعني القرآن، منه بدأ، وإليه يرجع الحكم فيه.
وللطبراني في الأوسط بسند فيه جابر بن سليم - قال الهيثمي: ضعفه
الأزدي - عن أبي هريرة رضي الله عنه، يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من رجل يعلم وَلَدَهُ القرآن في الدنيا إلا تُوِّج أبوه يوم القيامة بتاج في الجنة يعرفه به أهلُ الجنة بِتَعَلُّم ولدِه القرآن في الدنيا.
من أفضل الأعمال تلاوة القرآن
وللترمذي - أيضاً - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رجل: يا
رسول الله "أي الأعمال أفضل؟.
قال: الحال المُرتحِلِ، قال: وما الحال المرتحل؟
قال: صاحب القرآن يضرُب القرآن إلى آخره، كلما حل ارتحل.
ورواه الدارمي عن زرارة بن أبي أوفى رضي الله عنه ولفظه: يضرب

(1/283)


من أوله إلى آخره، ومن آخره إلى أوله، وكلما حل ارتحل.
وللترمذي أيضاً وقال: حسن غريب، والدارمي، عن أبي سعيد رضي
الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول الرب تبارك وتعالى: من شغله القرآن عن ذكرى ومسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله على سائر الكلام، كفضل الله على خلقه.
وهو عند ابن شاهين، بلفظ: يقول الرب تبارك وتعالى: من شغله
قراءة القرآن عن دعائي ومسألتي، أعطيته ثواب الشاكرين
وروى أبو عبيد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه رضي الله عنه
قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى، فإذا مرَّ بآية فيها ذكر النار، قال: أعوذ بالله من النار.
ولأبي بكر الشافعي في الجزء الثامن من "الغيلانيات"، عن أبي سلمة

(1/284)


بن عبد الرحمن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعبد الناس أكثرهم تلاوة للقرآن، وإن أفضل العبادة الدعاء.
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام أحدكم من الليل، فاستعجم القرآن على لسانه، فلم يدر ما يقول فليضجع.
ولأبي داود، وأحمد، والحاكم وقال: صحيح الإِسناد، وأبي يَعْلَى
والطبراني عن سهل بن معاذ بن أنس الجُهَني، عن أبيه رضي الله عنه، أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ القرآن فأكمله وعمل به - وفي رواية: بما فيه - ألبس والداه تاجاً يوم القيامة، ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لوكانت فيكم، فما ظنكم بالذي عمل بهذا.
قال الهيثمي: في إسناد (أحمد) زبَّان بن فايد وهو ضعيف.

(1/285)


وللترمذي وقال: غريب وليس له إسناد صحيح، وابن ماجه، وأحمد
بن حنبل وأحمد بن منيع، وأبي يعلى، عن علي رضي الله عنه قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ القرآن فاستظهره، فأحل حلاله، وحرم حرامه، أدخله الله به الجنة، وشفعه في عشرة من أهل بيته، كلهم قد وجبت له النار.
وللترمذي وحسنه - وقال ابن رجب: إنه صححه - وابن ماجه.
والحاكم وصحح إسناده، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: يجيء صاحب القرآن يوم القيامة، فيقول القرآن: يا رب حلِّه، فيلبس تاج الكرامة ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حُلَّة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيقول: قد رضيت عنه، فيقال له: اقرأ وارق، ويعطي بكل آية حسنة.
وقد ظهر مما مضى، أن المراد هنا بالآية: الكلمة.

(1/286)


ثم رواه الترمذي من طريق أخرى موقوفاً على أبي هريرة، وقال: هذا
أصح عندنا.
قال ابن رجب:، ورواه زائدة عن عاصم موقوفاً.
ولأحمد، وأبي داود، والترمذي وقال: حسن صحيح، والنَّسائي، وأبي
عبيد وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص
رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقال لصاحب القرآن، اقرأ وارق، ورتل كما ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها.
وقال ابن رجب: ورواه ابن أبي شيبة، عن عبد الله بن عمرو موقوفاً.
قال الخطيب: وكذلك رواه أبو جعفر الرازي، عن عاصم عن زر.
عن عبد الله غير منسوب، فهو منسوب في غير هذا الحديث.
ولأبي عبيد، وابن أبي شيبة، والدارمي، عن بريدة رضي الله عنه
بإسناد - قال شيخنا البوصيري: حسن - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن القرآن يَلْقَى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه القبر، كالرجل الشاحب، فيقول: هل

(1/287)


تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صحبك القرآن، الذي أظمأتك في
الهواجر وسهرتُ ليلك، إن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك - وفي نسخة:
وإني - اليوم من وراء كل تجارة، قال: فيعطي الملْكَ بيمينه، والخلْد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسي والداه حُلَّتين، لا تقوَّم لهما الدنيا وما فيها.
وفي رواية: لا يُقَوَّم بهما الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟. فيقال لهما:
بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال له: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها.
قال: فهو في صعود ما دام يقرأ، هذّا كان، أو ترتيلا.
قال الهيثمي: وروى ابن ماجه طرفاً منه.
ولأحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة: اقرأ فاصعد، فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى آخر شيء معه.
وهو عند الحاكم وصححه على شرط مسلم بلفظ: من قرأ القرآن
وتعلمه، وعمل به ألبس والداه يوم القيامة تاجاً من نور، ضوؤه مثل ضوء
الشمس، ويكسي والداه حلتين لا تُقَوَّم بهما الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن.
قال شيخنا البوصيري: ورواه ابن ماجة في سننه، من أوله إلى قوله:
أسهرت ليلك وأظمات نهارك.

(1/288)


ورواه الطبراني في الأوسط، في ترجمة محمد بن عبد الله الحضرمي.
عن أبي هريرة رضي الله عنه.
قال الهيثمي: وفيه يحيى بن عبد الحميد الحماني، وهو ضعيف.
وروى الترمذي بعضه.
ولأبي عبيد في الفضائل، وأبي عمرو الداني في "البيان في تعداد آي
القرآن" عن أم الدرداء قالت: سألت عائشة رضي الله عنها، عمن دخل
الجنة ممن قرأ القرآن ما فضله على من لم يجمعه، فقالت: إن عدد درج الجنة
بعدد آي القرآن، فمن دخل الجنة ممن قرأ القرآن، فليس فوقه أحد.
وروى الحارث في مسنده عن سعيد بن أبي سعيد، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يجيء القرآن يوم القيامة في أحسن شارة، وأحسن هيئة، فيقول: يا رب قد أعطيت أجر كل ما عامل عمله، فأين أجر عملي؟. قال: فيكسي صاحب القرآن حلة الكرامة، ويتوج تاج الملك، فيقول: يا رب قد كنت أرغب له فيما هو أعظم من هذا، فيعطي الخلد بيمينه، والنعيم بشماله،فيقول له: أرضيت؟ فيقول: نعم أي رب.
وقال الحارث: وحدثنا أبو عبد الرحمن المقرىء، ثنا داود أبو بحر، عن
صهر له يقال له مسلم بن مسلم، عن مورق العجلي، عن عبيد بن عمير
الليثي قال: قال عبادة الصامت رضي الله عنه: إذا أقام أحدكم من الليل
فليجهر بقراءته، فإنه يطرد بجهر قراءته الشيطان وفسَّاق الجن.
وإن الملائكة في الهواء وسكان الدار يسمعون لقراءته ويصلون بصلاته، فإذا مضت هذه
الليلة، أو مضت الليلة المستأنفة فيقول: نبهيه لساعته، وكوني عليه خفيفة.
فإذا حضرته الوفاة، جاءه القرآن موقوفاً عند رأسه وهم يغسلونه، فإذا فُرغ
منه، دخل حتى صار بين صدره وكفنه، فإذا وضع في حفرته وجاءه منكر

(1/289)


ونكير، خرج القرآن، حتى صار بينه وبينهما، فيقولان له: إليك فإنا نريد أن نسأله، فيقول: والله ما أنا بمفارقه.
قال أبو عبد الرحمن: وكان في كتاب معاوية بن حماد: "حتى أدخله
الجنة"، هذا الحرف: فإن كنتما أمرتما فيه بشيء فشأنكما، ثم ينظر إليه
فيقول: هل تعرفني؟. فيقول: لا، فيقول: أنا القرآن الذي كنت أسْهِرُ
ليلَك، وأظمىء نهارك، وأمنعك شهوتك، وسمعك وبصرك، فتجدني من
الأخلَاء خليلَ صدق، ومن الِإخوان أخَ صدق، فأبشر، فما عليك بعد مسألة منكر ونكير (من) همٍّ ولا حزن، ثم يخرجان عنه، فيصعد القرآن إلى
ربه، فيسأل له فراشاً ودثاراً.
قال: فيؤمر له بفراش ودثار، وقنديل من الجنة، وياسمين من ياسمين
الجنة فيحمله إليه ملك من مقربي السماء الدنيا.
قال: فيسبقهم إليه القرآن فيقول: هل استوحشت بعدي، فإني لم أزل بربي
الذي خرجت منه، حتى أمر لك بفراش ودِثَار، ونور من نور الجنة، فيدخل
عليه الملائكة فيحملونه، ويفرشونه ذلك الفراش، ويضعون الدثار تحت قلبه، والياسمين عند صدره، ثم يحملونه حتى يضعوه على شقه الأيمن، ثم
يصعدون عنه، فيستلقي عليه، فلا يزال ينظر إلى الملائكة حتى يلحقوا
بالسماء، ثم يرفع القرآن في ناحية القبر، فيوسع عليه ما شاء الله أن يوسَّع
من ذلك.
قال أبو عبد الرحمن: وكان في كتاب معاوية بن حماد: فيوسَّع مسيرة
أربعمائة عام، ثم يحمل الياسمين من عند صدره، فيجعله عند أنفه، فيشمه
غضاً، إلى يوم يُنفخ في الصور، ثم يأتي أهله في كل يوم مرة، أو مرتين.
فيأتيه بخبرهم، فيدعو لهم بالخير والإِقبال، فإن تعلم أحد من ولده القرآن،

(1/290)


بشره بذلك، وإن كان عقبه عقب سوء، أتى الدار غدوة وعشية، فبكى عليه إلى يوم ينفخ في الصور، أو كما قال.
هذا أثر شريف، لا يقال مثله من قبل الرأي. فله حكم الرفع.
ورواه البزار عن معاذ رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقال المنذري: إن ابن أبي الدنيا وغيره رووه عن عبادة موقوفاً.
قال: ولعله أشبه. وقال: إنه منكر. والله أعلم.
وروى الطبراني في الأوسط - قال الهيثمي: وفيه جعفر بن الحارث، وهو
ضعيف - عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقارىء القرآن إذا أحَلَّ حلاله، وحرَّم حرامه، أن يشفع في عشرة من أهل بيته، كلهم قد وجبت له النار.
وروى محمد بن أبي عمر العدني، وأبو يعلى الموصلي، في مسنديهما.
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ ثلث القرآن، أعطي ثلث النبوة، ومن قرأ نصف القرآن، أعطي نصف النبوة، ومن قرأ ثلثيه أعطي ثلثي النبوة، ومن قرأ كله، أعطي النبوة كلها، ويقال له يوم القيامة اقرأ وارق بكل آية درجة، حتى يُنْجِزَ ما معه من القرآن، ويقال له:

(1/291)


اقبض فيقبض، فيقال له هل تدري ما في يدك؟.
في يدك اليمنى الخلد، وفي الأخرى النعيم.
وفي الباب عن ابن مسعود وأنس، رضي الله عنهما.
وروى إسحاق بن راهويه بسند فيه سعيد بن عبد العزيز.
قال شيخنا البوصيري: وهو ضعيف.
كذا قال، وليس ذلك مطلقاً، بل هو إمام كبير، كان بعضهم يقدمه
على الأوزاعي، ولكنه اختلط في آخره عمره.
وللطبراني في الكبير - قال الهيثمي: وفيه سويد بن عبد العزيز وهو
متروك، وأثنى عليه هشيم خيراً، وبقية رجاله ثقات - عن معاذ بن جبل
رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ القرآن وعمل بما فيه، ومات في الجماعة، بُعث يوم القيامة مع السفَرة والحكام - وقال إسحاق: والبررة -
ومن قرأ القرآن وهو يَتَفَلَّت منه آتاه الله أجره مرتين، ومن كان حريصاً عليه
ولا يستطيعه ولا يدعه، بعثه الله مع أشراف خلقه، وفضلوا على سائر
الخلائق، كما فضلت النسور على سائر الطيور، وكما فضلت عين في مرجة

(1/292)


على ما حولها، ثم ينادي مناد: أين الذين كانوا لا تلهيهم رعاية
الأنعام عن تلاوة كتابي، فيقومون، فيلبس أحدهم تاج الكرامة، ويعطي
الفوز - وفي رواية: النعيم بيمينه، والخلد بشماله.
وفي رواية: بيساره - ثم يكسى أبواه إن كانا مُسْلِمِين حُلَّة خيرا من الدنيا وما فيها، فيقولان: أنى لنا هذا وما بلغته أعمالنا؟.
فِيقال: إن ولدكما يقرأ القرآن.
وفي رواية: بما كان ولدكما يقرأ.
ورواه الدارمي موقوفاً على وهب الزماري وقال: مع السفرة والحكام.
قال سعيد: اسفرة: الملائكة. والحكام: الأنبياء.
وروى الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يجيء القرآن يوم القيامة كالرجل الشاحب يقول لصاحبه: هل تعرفني؟ أنا الذي كنت أُسْهِر ليلَك، وأظْمِىءُ نهارَك، هذا أجرك، وأنَّ كل تاجر من وراء تجارته، وأنا لك اليوم من وراء كل تجارة، فيُعطي الملك بيمينه، والخلد بشماله ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسي والداه حلتين لا تقوَّمُ بهما الدنيا وما فيها فيقولان: أنى لنا هذا؟. فيقال لهما: بتعليم ولدكما القرآن.
قال الحافظ. نور الدين الهيثمي: عند الترمذي بعضه.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو يعلي، في مسنديهما، بإسناد حسن

(1/293)


عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، رضي الله عنه قال: سمعت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يتمثل القرآن يوم القيامة، فيؤتي بالرجل قد كان حمله فيتمثل خصما دونه فيقول: يا رب حملته آياتي فشر حامل، تعدى حدودي، وضيع فرائضي، وركب معصيتي، وترك طاعتي، فما يزال يقذف عليه الحجج حتى يقال له: فشأنك به، فيأخذ بيمينه - وفي رواية: بيده - ما يرسله حتى يكبه على منخره في النار.
قال: ويؤتي بالعبد الصالح قد كان حمله، فحفظ أمره، فيتمثل خصماً
دونه فيقول: يا رب حملته آياتي، فخير حامل، حفظ حدودي، وعمل
بفرائضي واجتنب معصيتي، وعمل بطاعتي وما يزال يقذف له بالحجج، حتى
يقال له: شأنك به، فيأخذ بيمينه، فما يرسله حتى يكسوه حلة الاستبرق.
ويعقد عليه تاج الملك، ويسقيه كأس الخمر.
قال الهيثمي: وفي سنده ابن إسحاق، وهو ثقة، ولكنه مدلس، وبقية
رجاله ثقات.
وللطبراني بسند - قال الهيثمي: رجاله ثقات - عن أبي أمامة رضي
الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من تعلم آية من كتاب الله، استقبلته يوم القيامة تضحك في وجهه.
وللشيخين وأبي داود، والترمذي، والنَّسائي، وابن ماجه، عن عائشة
رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الماهر بالقرآن، مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق، له أجران.

(1/294)


ولأحمد بن منيع والترمذي وابن ماجه، وأبي يعلى، عن علي رضي الله
عنه أن النبي - عز وجل - قال: من قرأ القرآن واستظهره وحفظه، أدخله الله الجنة.

(1/295)


وللطبراني وأبي نعيم في الحلية، عن عائشة رضي الله عنها، أن
رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ القرآن فأعربه، كانت له عند الله دعوة مستجابة، إن شاء عجَّلها في الدنيا، وإن شاء أخرها إلى يوم القيامة.
ورواه الطبراني في الأوسط، عن جابر رضي الله عنه: ولفظه: من
قرأ القرآن - أو قال: جمع القرآن - كانت له دعوة مستجابة، إن شاء عجلها في الدنيا وإن شاء ادخرها له في الآخرة.
قال الهيثمي: وفيه مقاتل بن دُوَال دوز، فإن كان هو مقاتل بن
حَيَّان كما قيل، فهو من رجال الصحيح، وإن كان ابن سليمان، فهو
ضعيف، وبقية رجاله ثقات.
ولأبي عبيد عن بكير بن الأخنس قال: كان يقال: إذا قرأ الأعجمي
والذي لا يقيم القرآن، كتبه المَلَك كما أنزل.
وللستة والدارمي، وعبد بن حميد، عن أبي موسى رضي الله عنه وأبي
داود عن أنس رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن، مثل الأترجه، ريحها طيِّب، وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن، كمثل الثمرة، طعمها طيب ولا ريح لها، ومثل المنافق - وفي

(1/296)


رواية، الفاجر - الذي يقرأ القرآن، كمثل الريْحَانة، ريحها طيِّب، وطعمها
مرٌّ، ومثل الفاجر - وفي رواية: المنافق - الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحَنْظَلَة، طعمها مرٌّ، ولا ريح لها.
زاد أبو داود: ومثل الجليس الصالح، كمثل صاحب المسك، إن لم
يصبك منه شيء، أصابك من ريحه.
ومثل جليس السوء، كمثل صاحب الكير، إن لم يصبك من سواده، أصابك من دخانه.
وقال ابن رجب في كتاب "الاستغناء بالقرآن": وروينا بإسناد فيه نظر.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا من اشتاق إلى

(1/297)


الجنة، فليستمع كلام الله، فإن مثل القران كمثل جراب مسك، أي وقت
فتحته فاخ ريحه.
فضل من تعلم القرآن وعلَّمه
وللترمذي وابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: تعلَّموا القرآن، فاقْرَءُوه (وأَقْرِءُوه) وارقدوا، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه، وقام به، كمثل جراب مملوء مسكاً، يفوح ريحه من كل مكان، ومثل من تعلمه فرقد وهو في جوفه، كمثل جراب أوكي على مسك.
ْوقد روى عن عطاء مرسلاً، وقيل: إنه أصح.
وللستة وغيرهم عن عثمان رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: خيركم - وفي رواية عبد الرزاق: أفضلكم - من تعلم القرآن وعلمه.

(1/298)


ورواه البيهقي في "الأسماء والصفات" عن عثمان رضي الله عنه، وزاد:
وفضل القرآن على سائر الكلام، كفضل الله عز وجل على خلقه، وذاك أنه
منه.
وللطبراني في الصغير - بسند فيه محمد بن سنان القزاز، وثقه الدارقطني
وضعفه جماعة - عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: خياركم من تعلم القرآن وعلمه.
وعن عبد الله رضي الله عنه رفعه: خِياركم من قرأ القرآن وأَقْرَأَهُ.
قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وإسناده فيه شريك
وعاصم وكلاهما ثقة، وفيهما ضعف.
وللدارمي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه.
وله عن سعد بن أبي وقًاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خياركم من تعلم القرآن وعلم القرآن.

(1/299)


وذكر المنذري عن ابن أبي الدنيا والبيهقى، بصيغة "روى" عن ابن
عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أشراف أمتي حَمَلَةُ القرآن، وأصحابُ الليل.
ورواه الطبراني.
(قال) الهيثمي: وفيه سعد بن سعيد الجُرجاني، وهو ضعيف.
وروى أبو داود عن أبي إسحاق رضي الله عنه قال: إن من إجلال الله
إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن، غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه.
وإكرام ذي السلطان المقسط.
وبه تقدم تخريج أبي عبيد له بزيادة.
قال النووي في التبيان: وهو حديث حسن.
وسيأتي تفسير الغالي بأنه: المُفَرط المتناهي. والجافي بأنه: المُفْرِط المُتَداني.
وللترمذي وقال: حسن صحيح، والحاكم وصحح إسناده، عن ابن
عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب.

(1/300)


ولابن ماجة بإسناد - قال المنذري: حسن - عن أبي ذر رضي الله
عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا ذر لأن تغدُوَ فتتعلَّم آية من كتاب الله، خير لك من أن تصلي مائة ركعة، ولأن تغدُوَ فتتعلَّم بابا من العلم، عُمِلَ به أو لم يُعْمَلْ به، خير من أن تصلي ألف ركعة.
ولأبي داود الطيالسي في مسنده، عن ابن مسعود رضي الله عنه
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني امرؤ مقبوض، فتعلموا القرآن وعلموه الناس، فإني مقبوض، فإنه سيقبض العلم، وتظهر الفِتَن، حتى يختلف الِإثنان في الفريضة، فلا يجدان من يفصل بينهما.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، والحارث في مسنديهما، وابن حبان في
صحيحه والدارمي، وأبو عبيد، والنَّسائي في الفضائل عن عقبة بن عامر
الجهني رضي الله عنه قال: كنا في المسجد نتعلم القرآن، فدخل علينا رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -، فسلَّم علينا، فردَدْنَا عليه السلام، فقال: تعلَّموا القرآن وأَعْرِبوه واعتنوا به - وفي رواية: تَغَنَوا به واقتنوه - والذي نفسي بيده، لهو أشد تفلُّتا من المخاض في العُقلِ.

(1/301)


وجوب الاعتصام بالقرآن والسنة
ولأبي بكر بن أبي شيبة، وعبدِ بن حُميد في مسنديهما، عن زيد بن ثابت
رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني تارك فيكم ما إن تسمكتم به لن تضلوا، الخليفتَيْن: كتاب الله، وعتْرَتِي، وأنهما لن يفترقا حتى يَرِدَا عليَّ الحوضَ، فانظر كيفِ تَخْلُفوُني فيهما.
وروى من أوجه كثيرة عن عِدة من الصحابة، رضي الله عنهم في
خطبة حَجة الوداع، أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: وقد تركت فيكم أيها الناس ما إن اعتصمتم به، لن تضلوا، كتابَ الله وسُنَةَ نبيه.
وروى البزار بإسناد ضعيف، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: إني
خَلَّفت فيكم شيئين لن تضلواِ بعدهما أبداً ما أخذتم بهما: كتاب الله وسُنَتي.
لن يفترقا حتى يَرِدَا عليَّ الحَوْض.
ولأبي نعيم بإسناد ضعيف، عن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه قال:
خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي تُوفًي فيه، ونحن في صلاة الغداة فقال: إني تركت فيكمِ كتابَ الله وسُنتي، فاستَنْطِقُوا القرآنَ بسنتي، فإنه لن تعمى أبصارُكم، ولن تزِلَّ أقدامكم ما أخذتم بهما.
واستتدل أبو نعيم بذلك على أنه أراد بقوله: وعِتْرتي، سنَتَهُ وبَيَانَهُ
للقرآن.
وعترته من أعلم الناس بأحواله وأفعاله، وأحكامه وسنته، فلذا حضَّ
على الاقتداء بهم، والأخذ عنهم.

(1/302)


ذكر ذلك ابن رجب، والدارمي، ومسلم، والنَّسائي، وعبد بن حميد
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما فيناً خطيبا بماء يدعى خُمَّاً، بين مكةَ والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكَّر ثم قال: أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتِيَني رسولُ ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثَقَلَيْن، أولهما: كتاب الله، فيه الَهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به. فحثَّ على كتاب الله ورَغب فيه.
وفي رواية: قال: هو حَبْلُ الله، من استمسك به وأخذ به، كان على الهُدَى، ومَنْ أخطأه ضلَّ.
وفي رواية: من اتَّبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة.
ثم قال: وأهل بيتي، أذكِّرُكُمُ الله في أهل بيتي، أذكِّرُكُمُ الله في أهل
قال الدارمي: ثلاث مرات.
ولأبي بكر الشافعي في الجزء السادس من "الفوائد الغِيلَانِيات" عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خلَّفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتابَ الله، وسنتي، ولن يفترقا إلى يَرِدَا عليَّ الحوضَ.
ولمالكٍ في المُوطَأ - مُعْضلًا - قال: بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: تركت

(1/303)


فيكم أمرين، لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتابَ الله، وسنةَ رسوله.
وللطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من تَعَلَّم كتاب الله، ثم اتبع ما فيه، هداه الله به من الضلالة في الدنيا، وَوَقَاهُ الله يوم القيامة سوءَ الحساب.
ولرَزِين وعبد الرزاق في جامعه عنه - أيضاً - رضي الله عنه، أنه قال:
من اقتدى بكتاب الله، لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة.
ثم تلا هذه الآية: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) .
ولأبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي سُرَيْح الخُزَاعي رضي الله عنه قال:
خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أبشروا، أبشروا، أليس تشهدون أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟.
قالوا: نعم.
قال: فإن هذا القرآن سبب، طرَفُه بيد الله، وطَرَفُه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا، ولن تهلكوا بعده أبداً.
ورواه عبد بن حميد، وابن حبان في صحيحه، كلاهما من طريقه.
ورواه أحمد بن منيع، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(1/304)


الحث على تعاهد القرآن لكي لا يُنْسى
وللشيخين والترمذي، والنَّسائي، عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: استذكروا القرآن. فإنه أشد تفصياً من صدور الرجال من النَّعم
وللشيخين عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تعاهدوا القرآن، فوالذي نَفْس محمد بيده، لهو أشد تَفَلُّتاً من الِإبل في عُقلِها.
ولمالكٍ والشيخين، والنَّسائي، وأبي عبيد، عن ابن عمر رضي الله عنهما
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما مثل صاحب القرآن - وقال أبو عبيد: مثل القرآن - كمثل صاحب الإبل المعقَلة، إن عاهد عليها - وقال أبو عبيد: إذا عاهد صاحبها على عَقْلِها - أمسكها، وإذا أطلقها - وقال أبو عبيد: وإذا أغفلها - ذ هبت.

(1/305)


وللطبراني في الكبير، والإِمام أحمد - قال الهيثمي: ورجاله رجال
الصحيح - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تَعَلَّمُوا كتاب الله وتعاهدوه، وتَغَنَوا به، فوالذي نفسي بيده، لهو أشد تَفَلُّتاً من النَّعم في العُقُل.
وقال الطبراني، لهو أشد تفلتا من النعم في العقل.
وللطبراني - قال الهيثمي: ورجاله ثقات، إلا شيخه أحمد، فإن كان ابن
الخليل، فهو ضعيف، وإلا فلم أعرفه - عن أنس بن مالك رضي الله
عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تَفَصِّياً من صدور الرجال، من الإبل المُعَقَلة إلى إعْطَائها.
وللطبراني في الثلاثة - قال الهيثمي: ورجال الصغير والأوسط ثقات -
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: تعاهدوا القرآن، تعاهدوا القرآن.
قال في الكبير: فإنه وحشي.

(1/306)


وقال في غيره: فهو أشد تفصياً من صدور الرجال من نوازع الطير.
وهو عند البخاري والدارمي، وأبي عبيد في الغريب، مرفوعاً، ومسلم
موقوفاً بلفظ: بئس ما لأحدهم أن يقول: نَسِيت آية كيْتَ وكيْتَ.
بل هو نُسِّىَ واستذكروا القرآن، فلهو أشد تَفَصِّياً من صدور الرجال، من
النَّعَم في عُقْلِها.

(1/307)


ولفظ أبي عبيد: ليس هو نَسِىَ، لكن نُسِّىَ.
وفي رواية في الصحيحين عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
لا يقل أحدكم: نَسِيت آية كذا وكذا، بل هو نُسِّىَ.
المنع من أخذ أجرة على قراءة القرآن
ولأبي داود عن جابر رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله علينا
ونحن نقرأ القرآن، وفينا الأعرابي والأعجمي، فقال: اقرأوا، فكل حسن
وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح، يتعجلونه، ولا يتأجلونه.

(1/308)


ورواه أحمد بن منيع في مسنده ولفظه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى قوما يقرأون القرآن، فقال: اقرأوا القرآن قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه.
قال شيخنا البوصيري: وله شاهد من حديث أنس بن مالك رضي الله
عنه عند أحمد بن حنبل في مسنده قال: بينا نحن نقرأ، فينا العربي.
والعجمي والأسود - وفي رواية: والأحمر والأبيض - إذ خرج علينا رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنتم في خير، تقرأون كتاب الله، وفيكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيأتي على الناس زمان يَثْقِفُونه كما يَثْقِفُ الْقَدَحَ يَتَعَجَّلُونَ أُجُورَهُمْ وَلَا يَتَأَجَّلُونَهَا.
وفي التبيان للنووي: وروى ابن أبي داود: أن أبا الدرداء رضي الله
عنه كان يدرس القرآن مع نفر يقرؤون جميعاً، فِعْلَ الدارسة مجتمعين، عن
جماعات من أفاضل السلف والخلف، وقضاة المتقدمين.
وفي الفردوس عن بريدة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ القرآن يتأكل به الناس، جاء يوم القيامة، ووجهه عظم، ليس عليه لحم.
ورواه أبو عبيد عن زاذان بلفظه.
ومعلوم أنه لا يقال بالرأي، فله حكم الرفع، فهو مرسل، يعضد
المرفوع.
وفيه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: من قرأ عند أمير جائر كتاب
الله لعنه الله بكل حرف قرأ عنده لعنة.

(1/309)


ولأبي عبيد عن الحسن رحمه الله قال: قُرَّاء القرآن ثلاثة أصناف:
صنف اتخذوه بضاعة ياكلون به.
وصنف أقاموا حروفه، وضيعوا حدوده، واستطالوا به على أهل بلادهم
واسْتَدَروا به الولاة، كثُر هذا الضرب من حملة القرآن، لا كَثَّرهَم الله.
وصنف عمدوا إلى دواء القرآن، فوضعوه على داء قلوبهم، فركدوا به
في محاريبهم، وخَفُوا به في بَرانِسهم، واستشعروا الخوف وارْتَدَوُا الحزن.
فأولئك الذين يُسقى بهم الغيثُ، ويُنْصَر بهم على الأعداء، والله لَهَذَا الضًرْبُ في حملة القرآن، أعز من الكبريت الأحمر.
ولأبي داود، وأبي بكر بن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبي عبيد، عن
سهل ابن سعد الأنصاري رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نقترىء القرآن: يقرىء بعضنا بعضا، فقال: الحمد للهِ، كتاب الله واحد وفيكم الأحمر، وفيكم الأبيض، وفيكم الأسود، اقرأوه قبل أن يقرأه، قوم يقيمونه كما يقوَّم السهم، يتعجلونه ولا يتأجلونه.
ولفظ ابن أبي شيبة: يقيمون حروف القرآن، كما يُقام السهم، لا يجاوز
تراقِيَهم، يتعجلون ثوابه، ولا يتأجلونه.
ولفظ عبد: فقال: الحمد للهِ، كتاب الله واحد، وفيكم الأخيار.
وفيكم الأحمر والأسود، ثم قال: اقرأوا، اقرأوا، اقرأوا، قبل أن يأتي قوم
يقيمون حروفه كما يقام السهم، لا يجاوز تَرَاقِيَهم، يتعجلون أجره، ولا
يتأجلونه.

(1/310)


ولأبي عبيد: عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه.
النهي عن تلحين القرآن
وروى أبو عبيد، عن عِبْسٍ - وفي رواية: عابس - الغفاري رضي
الله عنه، أنه رأى الناس يخرجون في الطاعون. فقال: مَالِ هؤلاء؟. فقالوا: يفرون من الطاعون. فقال: يا طاعون خذني، فقالوا: تتمنى الموت، وقد
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يتمنين أحدكم الموت؟. قال: إني أُبادر خصالًا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتَخَوَّفَهُن على أمته: بَيعُ الحكم والاستخفافُ بالدم، وقطيعةٌ الرَّحِم، وقوماً يتخذون القرآن مَزَامِيرَ، يُقدِّمون أحدهم ليس بِأفْقِهِهِم ولا أفْضَلِهم، إلا ليغنيَهُم به غِنَاءً، وذكر خلتين أخريين.
ورواه أبو عبيد - أيضاً - في كتاب الغريب بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أشراط الساعة فقال: بَيْعُ الحكم، وقطيعةُ الرحم، والاستخفاف بالدم وكثرة الشُّرَط، وأن يتخذ القرآن مزامير، يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم به غناء.

(1/311)


وذلك بعد أن حمل الأمر بتزيينه بالصوت على التحزين، على ما فسرته
الأحاديث الواردة فيه.
وروى النيسابوري في "مناقب مالك" - قال ابن رجب: بإسناده - عن
عبد الله بن مطرف بن يوسف الضبي، ومطرف بن عبد الله، قالا: سمعنا
مالكاً يقول: من قرأ بالتمطيط والتمديد والألحان، ضُرب ضرباً وجيعاً.
وحبس حتى يتوب من ذلك.
وإنما هؤلاء قوم رفعوا أنفسهم عن الغناء، فجعلوا كتاب الله يتغنَوْن
به، ولقد أدركت أهل العلم والفقه ببلدنا وإنهم لهذا أشد كراهية من الغناء
ولا أدري أي شيطان ألقي في أفواه الناس هذا.

(1/312)


وروى الإمام أحمد في ابن سيرين، أنه سئل عن هذه الأصوات
التي يقرأ بها، فقال: هو مُحْدَث.
ونص الإِمام أحمد على كراهة قراءة الألحان، وقال: يُحسّنه بصوته من
غير تكُلف.
وروى أبو عبيد - أيضاً - في الفضائل، وعبد الرحمن بن الحكم في
"فتوح مصر" عن مالك بن عبادة الغافقي أبو موسى، خادم رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه سمع عطية بن عامر رضي الله عنه (يَقُصُّ) يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال مالك: إن صاحبكم هذا لغافل، أو هالك، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إلينا في حجة الوداع فقال: عليكم بالقرآن، فإنكم
سترجعون إلى قوم يشتهون الحديث عني، فمن عقل شيئاً فليحدث به،

(1/313)


ومن قال في ما لم أقل - وقال ابن عبد الحكم: من افترى عليَّ - فليتبوأ بيتاً، أو قال: مقعداً من جهنم.
قال: لا أدري أيهما قال.
ولأبي عبيد أيضاً، عن المُهَاجِر بن حبيب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أهل القرآن، لا تَوَسَّدوا القرآن، واتلوه حق تلاوته، آناء الليل والنهار وتغنَوْه واتقنوه، واذكروا ما فيه لعلكم تفلحون.
ذم نسيان القرآن
ولأبي داود، وأبي، بكر بن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبي عبيد في
الفضائل والغريب، والدارمي، عن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من امرىء يقرأ القرآن ثم ينساه، إلا لقي الله يوم القيامة وهو أجذم.
وقال أبو عبيد: الأجذم: المقطوع اليد.

(1/314)


زاد رزين: واقرأوا (إن شئتم) .: (قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) .
ولأحمد بن حنبل - قال الهيثمي: ورجاله ثقات، وفي بعضهم
خلاف - عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله - - صلى الله عليه وسلم -: ما من أمير عشيرة، إلا جيء يوم القيامة مغلولةً يدُه إلى عنقه، حتى يطلقه الحق أو يوبقه، ومن تعلم القرآن ثم نسيه، لقي الله تبارك وتعالى وهو أجذم.
ولأبي داود، والترمذي، وابن ماجة، وأبي عبيد، وابن خزيمة في
صحيحه عن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: عُرضت عليَّ أُجُوُر أمتي، حتى القذاةُ يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت عليَّ ذنوب أمتي، فلم أر فيها ذنباً أعظم - وقال أبو عبيد: أكبر - من سورة من القرآن، أو آية، أوتيها رجل، ثم نسيها.
وروى أبو عبيد عن سلمان رضي الله عنه نحوه.
وروى أبو عبيد - أيضاً - في الغريب عن الضحاك بن مزاحم قال: ما
من أحد تعلم القرآن ثم نسيه، إلا بذنب يحدثه، لأن الله تعالى يقول:

(1/315)


(وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) .
وإن نسيان القرآن من أعظم المصائب.
نهي صاحب القرآن عن أن يسأل به الناس
وللترمذي عن عمران بن حُصين رضي الله عنه، أنه مر على قارىء
يقرأ القرآن ثم يسأل الناس به، فاسترجع وقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من قرأ القرآن، فليسأل الله به، فإنه سيجيء أقوام يقرأون القرآن ويسألون به الناس.
حب المؤمن للقرآن دليل حبه لله
وروى أبو عبيد، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لا يُسْالُ
عَبْدٌ عن نفسه إلا بالقرآن، فإن كان يحب القرآن، فإنه يحب الله ورسوله.
ورواه الطبراني - قال الهيثمي: ورجاله ثقات - عن عبد الله رضي
الله عنه ولفظه: من أحب أن يعلم أنه يحب الله ورسوله فلينظر، فإن كان
يحب القرآن فهو يحب الله ورسوله.
وفي رواية: فإن كان يحب القرآن، ويعجبه، فهو بخير.

(1/316)


وللترمذي عن صهيب رضي الله عنه، وعبد بن حميد عن أبي سعيد
رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما آمن بالقرآن من استحل محارمه.
وللبخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال: يا معشر القراء، استقيموا
فقد سبقتم سبقاً بعيداً، وإن أخذتم يميناً وشمالاً، لقد ضللتم ضلالًا
بعيداً.
استحباب تحسين الصوت بالقرآن
ولأحمد وأبي داود والنَّسائي، وابن ماجة، والدارمي، وابن حبان.
والحاكم وصححه، عن البراء رضي الله عنه موصولًا، وللبخاري عنه معلقاً
مجزوماً، وللبزار عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قالا: إن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قال: زينوا القرآن بأصواتكم.

(1/317)


وزاد الدارمي قال: الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً.
ورواه عبد الرزاق في جامعه، عن البراء رضي الله عنه من طريقين:
قال في إحداهما:
زينوا القرآن بأصواتكم.
كرواية الجماعة.
وفي الأخرى: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: زينوا أصواتكم بالقرآن.
وكلا المعنيين صحيح، فإن من حسن صوته بالقراءة، زاد صوتُه
القرآنَ حُسْناً وزاد القرآنُ صوتَه حُسْناً.
وللطبراني في الكبير بإسنادين - قال الهيثمي: في أحدهما عبد الله بن
خراش وثقة ابن حبان، وقال: ربما أخطأ، وضعفه البخاري وغيره، وبقية
رجاله رجال الصحيح - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: زَينوا - وفي رواية: حسنوا - أصواتكم بالقرآن.
وللطبراني في الأوسط - قال الهيثمي، وفيه إسماعيل بن عمرو البجَلى.
وهو ضعيف - عن ابن عباس رضي الله عنهما، والبزار - قال الهيثمي: وفيه عبد الله ابن محرز، وهو متروك - عن أنس رضي الله عنه، قال ابن عباس:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لكل شيء حلية وحليةُ القرآن حسن الصوت.
قال أنس: وحلية القرآن الصوت الحسن.
وروى البزار بسند - قال الهيثمي: فيه سعيد بن زَرْبِي، وهو

(1/318)


ضعيف عن عبد الله - يعني ابن مسعود - رضي الله عنه قال: سمعت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن حسن الصوت تزيين للقرآن.
قال ابن رجب: وروى عنه موقوفا عليه، وهو أشبه.
وروى ابن أبي الدنيا عن الهيثم القارىء قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النام فقال: أنت الهيثم القارىء، الذي تزين القرآن بصوتك؟. قلت: نعم. قال: جزاك الله خيراً.
وقال بحر بن نصر: ما رأيت ولا سمعت في عصر الشافعي، كان
أحسن صوتاً منه بالقرآن.
وللشيخين، وأبي داود، والنَّسائي، والدارمي عن أبي هريرة رضي الله
عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما أذن الله لشيء، ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن، يجهر به.

(1/319)


وللطبراني في الأوسط، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لم يأذن الله كَأذَنِه لمترنم بالقرآن.
قال الهيثمي: وفيه سليمان بن داود الشاذَكُوني، وهو كذاب.
وللشيخين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس منا من لم يتغن بالقرآن.
ورواه أبو يعلى الموصلي والبزار، عن عائشة رضي الله عنها بلفظ: من
لم يتغن بالقرآن، فليس منا.
ورواه البزار - قال الهيثمي: وفيه محمد بن ماهان، قال الدارقطني:
ليس بالقوي. وبقية رجاله ثقات - عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما.
ورواه الدارمي وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
والبزار والطبراني، ورجال البزار رجال الصحيح - قال الهيثمي -
عن ابن عباس رضي الله عنهما.
والبزار بسند فيه أبو أمية بن يعلى قال الهيثمي: وهو ضعيف - عن
عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس منا من لم يتغن بالقرآن.
بلفظ أبي هريرة، إلا قوله: القرآن.
قال النووي في التبيان، وفي إسناد سعد اختلاف لا يضر.

(1/320)


ورواه أبو عبيد في الفضائل والغريب، عن عبد الله بن أبي نهيك قال:
دخلت على سعد رضي الله عنه، فرأيته رث المتاع، رث المثال، فقال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس منا من لم يتغن بالقرآن.
ورجح أبو عبيد أن المراد بالتغني، ضد الفقر.
قال: ومنه الحديث الآخر: "من قِرأ القرآن، فرأى أن أحداً أعطى
أفضل مما أعطى، فقد عظَّم صغيراً، وصغَّر عظيماً. انتهى.
ولا شك أنه محمل حسن، ولكنه لا ينفي المعنى الآخر، الذي نقله
النووي عن جمهور العلماء، للأحاديث الصريحة في تحسين الصوت، فيكون
المراد بالتغني الأمران معاً: الغناء: والغنى.
ورواه أبو داود، والطبراني - قال الهيثمي: ورجاله ثقات - عن ابن

(1/321)


أبي مليكة قال: قال عبيد الله بن أبي يزيد: مر بنا أبو لُبابة، فاتبعناه حتى
دخل بيته، فدخلنا عليه، فإذا رجل رث البيت، رث الهيئة، فسمعته يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ليس منا من لم يتغن بالقرآن.
قال: فقلت لابن أبي مليكة، يا أبا محمد، أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟. قال: يحسنه ما استطاع.
وروى ابن ماجة عن أبي موسى رضي الله عنه، والحاكم عن البراء
رضي الله عنه وعبد الرزاق عن عائشة وبريدة رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استمع قراءة أبي موسى رضي الله عنه فقال: لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود.
وروى أبو يعلى الموصلي - قال الهيثمي: وفيه خالد بن نافع الأشعري
وهو ضعيف - عن أبي موسى رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعائشة رضي الله عنهما مرا بأبي موسى وهو يقرأ في بيته، فقاما يستمعان لقراءته، ثم إنهما مضيا، فلما أصبح، لقي أبا موسى رضي الله عنه، فقال: يا أبا موسى، مررتُ بك البارحة ومعي عائشة وأنت تقرأ في بيتك، فقمنا واستمعنا، فقال أبو موسى: أما إني يا رسول الله لو علمت، لحبرتُه لك تحبيراً.

(1/322)


وروى أحمد بن منيع في مسنده عن أنس رضي الله عنه، أن أبا موسى
رضي الله عنه، كان يقرأ ذاتَ ليلة، ونساءُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يستمعن، فقيل له.
فقال: لو علمتُ لحبَّرت تحبيراً، ولشوقت تشويقاً.
ولأبي عبيدة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد، فسمع قراءة رجل، فقال: من هذا؟ ، فقيل: عبد الله بن قيس فقال: لقد أوتي هذا من مزامير آل داود عليه السلام.
وله عن أبي سلمة رضي الله عنه قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله
عنه إذا رأى أبا موسى رضي الله عنه قال: ذكِّرنا ربنا يا أبا موسى، فيقرأ
عنده.
وقال النووي في التبيان: وروى الدارمي وغيره بأسانيدهم عن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان يقول لأبي موسى الأشعري رضي الله
عنه: ذكِّرنا ربنا، فيقرأ عنده القرآن.
وروى الطبراني بسند فيه سعيد بن زَرْبِي وهو ضعيف، عن

(1/323)


علقمة قال: كنت رجلاً قد أعطاني الله حسن الصوت، فكان ابن
مسعود رضي الله عنه يرسل إلي فأقرأ عليه القرآن، فكنت إذا فرغت من
قراءتي قال: زدنا من هذا، فداك أبي وأمي، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: حسن الصوت زينة القرآن.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقرأ القرآن، فقال: رحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا آية قد كنت أسقطها من سورة كذا وكذا.
وفيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن حين يدخلون بالليل وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار، ومنهم حكيم إذا لقي الخيل - أو قال: العدو - قال لهم: إن أصحابي يأمرونكم أن تنظروهم.

(1/324)


تحريم التلحين في قراءة القرآن
وللطبراني في الأوسط، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه رضي
الله عنه قال: كانت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدّ، ليس فيه ترجيع.
قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفه.
ولأبي عبيد في الفضائل، والطبراني في الأوسط، عن حذيفة رضي الله
عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الكتابين، وأهل الفسق، فإنه سيجيء بعدي قوم يرجِّعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح، لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب من يعجبه شأنهم.
قال الهيثمي: وفيه بقية، وراوٍ لم يسمَّ.
وللدارمي عن الأعمش قال: قرأ رجل عند أنس رضي الله عنه بلحن
من هذه الألحان، فكره ذلك أنس رضي الله عنه.
ما جاء في الإِسرار والجهر بالقراءة قي الصلاة وغيرها
ولأبي داود - قال النووي في شرح المهذب: بإسناد صحيح -

(1/325)


والنَّسائي وعبد بن حميد، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: اعتكف رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، وهو في قبة له، فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم يناجي ربه فلا يؤذِينَّ بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة، أوقال في الصلاة.
ورواه أحمد بنحوه، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
ورواه أحمد من طريق مالك.
وفي التبيان للنووي، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رجلًا
قال له: إني أقرأ المفصل في ركع واحدة، فقال عبد الله رضي الله عنه: هذًّا
كهذِّ الشعر؟.. إن أقواماً يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا
وقع في القلب فرسخ فيه نفع.
رواه البخاري ومسلم، وهذا لفظ مسلم.
ورواه أبو عبيد، من طريق مالك أيضاً، عن أبي حازم التمار، عن
البياضي قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس وهم يصلون، وقد علت

(1/326)


أصواتهم، فقال: إن المصلي يناجي ربه، فلينظر بما يناجيه، ولا يجهر
بعضكم على بعض بالقرآن.
ولأبي عبيد عن علي رضي الله عنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرفع الرجل صوته بالقراءة في الصلاة، قبل العشاء الآخرة، وبعد، يُغَلِّطُ أصحابه.
وله عن أبس سلمة بن عبد الرحمن قال: سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن حذافة رضي الله عنه، يقرأ في المسجد، يجهر بقراءته في صلاة النهار،فقال: يا ابن حذافة سمِّع الله، ولا تُسَمِّعنا.
وله عن يحيى بن أبي بكر قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن ههنا قوماً يجهرون بالقراءة في صلاة النهار؟.
فقال: ارموهم بالبعر.
وعن عمر بن عبد العزيز مثل ذلك.
وله عن لقمان بن عامر قال: صلى رجل إلى جنب أبي مسلم
الخولاني، فجهر بالقراءة، فلما فرغ أبو مسلم من صلاته، قال: يا ابن
أخي أفسدت عليَّ وعلى نفسك.
وللترمذي وحسنه، وأبي داود، والنَّسائي، عن عقبة بن عامر رضي الله
عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الجاهر بالقرآن، كالجاهر بالصدقة،والمسر بالقرآن، كالمسر بالصدقة.

(1/327)


قال الترمذي: معناه: أن الذي يسر بقراءة القرآن أفضل، ثم قال:
لكي يأمن الرجل من العجب.
وعند البيهقي في الشعب عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يَفْضُلُ عملُ السر على عمل العلانية سبعين ضعفاً.
وللنسائي، وأبي عبيد، عن أم هانيء رضي الله عنها قالت: كنت
أسمع قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا على عريشي.
وقال أبو عبيد: عرشي. وقال: تعني بالليل.
وروى ابن رجب: عن حذيفة رضي الله عنه قال: أتيت رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - لأصلي بصلاته، فافتتح الطُول، فقرأ قراءة ليس بالخفيضة، ولا بالرفيعة قراءة حسنة. يرتل فيها، يسمعنا.
ولأبي داود الطيالسي.، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كنت

(1/328)


أسمع قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البيت وأنا في الحجرة.
وللترمذي وقال: حسن صحيح غريب، ولأبي عبيد في كتاب
"الفضائل"، وأبي داود والنَّسائي، عن عبد الله بن أبي قيس قال: سألت
عائشة رضي الله عنها: كيف كانت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكان يُسِرُّ بالقراءة، أم يجهر؟.
فقالت: كل ذلك قد كان يفعل، ربما أسر بالقراءة، وربما جهر.
فقلت: الحمد للهِ الذي جعل في الأمر سعة.
وروى محمد بن أبي عمر في مسنده عن يحيى بن يعمر قال: سألنا
عائشة رضي الله عنها، فذكر نحوه.

(1/329)


ولأبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كانت قراءة رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - بالليل يرفع طوراً، ويخفض طوراً.
قال في التبيان: قال الغزالي: وطريق الجمع بين الأخبار في هذا: أن
الإِسرار أبعد من الرياء، فهو أفضل في حق من يخاف ذلك، فإن لم يخف
الرياء، فالجهر ورفع الصوت أفضل، لأن العمل فيه أكبر، ولأن فائدته
تتعدى إلى غيره. والنفع المتعدي أفضل من اللازم، ولأنه يوقظ قلب
القارىء، ويجمع همه إلى الفكر فيه، ويصرف سمعه إليه، ويطرد النوم.
ويزيد في النشاط، ويوقظ غيره من نائم أو غافل وينشطه.
قالوا فمهما حضره شيء من هذه النيات، فالجهر أفضل، فإن اجتمعت
هذه النيات، تضاعف الأجر. انتهى.
وقال في موضع آخر: وهذا كله فيمن لا يخاف رياء ولا إعجاباً، ولا
نحوهما من القبائح، ولا يؤذي جماعة يُلْبِسُ عليهم صلاتهم، ويخلطها
عليهم. انتهى.
وأخرج أبو بكر الشافعي في الجزء الرابع من الغيلانيات، عن أنس
رضي الله عنه قال: ما بعث الله نبياً إلا حسن الصوت، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسن الصوت، غير أنه لا يُرَجِّعُ.
المراد بحسن الصوت
ولابن ماجة عن سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

(1/330)


قال: إن هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتَبَاكَوْا
وتغنَّوا به، فمن لم يتغن بالقرآن فليس منا.
وللطبراني في الأوسط - قال الهيثمي: وفيه إسماعيل بن سيف، وهو
ضعيف - وأبي يعلى عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأوا القرآن بالحزن، فإنه نزل بالحزن.
ولابن ماجة عن جابر رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أحسن الناس صوتا بالقرآن، الذي إذا سمعته يقرأ، رأيت أنه يخشى الله.
وهو عند الطبراني في الكبير، وفيه ابن لُهَيْعة - قال الهيثمي: وهو حسن
الحديث وفيه ضعف - عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أحسن الناس قراءة، من إذا قرأ القرآن يتحزن به.
وهو عند أبي عبيد عن طاووس مرسلًا، ولفظه: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أحسن صوتاً بالقرآن؟
فقال: الذي إذا سمعتَه، رأيته يخشى الله.
ورواه عبد بن حميد في مسنده موصولَاَ عن طاووس، عن ابن عمر
رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيل له: أي الناس أحسن قراءة؟.
قال: الذي إذا سمعتَ قراءته، رأيتَ أنه يخشى الله عز وجل.

(1/331)


وكذا رواه الطبراني في الأوسط، والبزار، عن عمرو بن دينار، عن ابن
عمر رضي الله عنهما بنحوه، ولفظه: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أحسن الناس صوتاً بالقرآن؟.
قال: من إذا سمعتَ قراءته، رأيتَ أنه يخشى الله عز وجل.
قال الهيثمي: وفيه حميد بن حماد بن خوار، وثقة ابن حبان، وقال: ربما
أخطأ، وبقية رجال البزار رجال الصحيح.
وقال المزني - في الشهادات عن الشافعي -: يحسن صوته بأي وجه
كان وأحب ما يقرأ إليَّ حَدْرا وتحزينا.
قال النووي في التبيان: قال أهل اللغة: يقال: حدرت بالقراءة.
أدرجتها ولم تمططها.
ثواب من يستمع القرآن
وفي الفردوس عن أنس رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ القرآن في صلاة قائما، كان له بكل حرف مائة حسنة،، ومن استمع إلى كتاب الله، كان له بكل حرف حسنة.

(1/332)


وروى أحمد - بسند فيه عئاد بن ميسرة، ضعفه أحمد وغيره، ووثقه
ابن معين في رواية، وضعفه في أخرى، ووثقه ابن حبان - عن أبي هريرة
رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من استمع إلى آية من كتاب الله تعالى، كتبت له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نوراً يوم القيامة.
قال النووي في التبيان: وروى الدارمي بإسناده عن ابن عباس رضي
الله عنهما قال: من استمع إلى آية من كتاب الله، كانت له نوراً.
تحزيب القرآن
ولأبي داود، وابن ماجة، عن أوس بن حذيفة رضي الله عنه قال:
قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وفد ثقيف: فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وأنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني مالك في قبة له في المسجد -
أو قال: بين المسجد وبين أهله.
قال مسدد: وكان - يعني: أوساً - في الوفد الذي قدموا على رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - من ثقيف، فكان كل ليلة يأتينا بعد العشاء فيحدثنا قائماً -
وقال أبو عبيد: وهو قائم - حتى إنه ليراوح بين رجليه من طول القيام، وكان أكثر ما يحدثنا به ما لقي من قومه قريش -
قال أبو عبيد: وكان أكثر ما يحدثنا شكايته قريشاً - ثم يقول: ولا سواء، كنا مستضعفين مستذلين - قال مسدد:

(1/333)


بمكة - فلما خرجنا إلى المدينة، كانت سجال الحرب بيننا وبينهم، نُدَال
عليهم، ويدالون علينا.
وقال أبو عبيد: فلما قَدِمْنا المدينة، انتصفنا من القوم، وكانت سجال
الحرب بيننا، علينا ولنا. فلما كانت ذات ليلة أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه. فقلنا: يا رسول الله لقد أبطأت علينا الليلة،.
قال: إنه طرأ علي حزبي من القرآن فكرهت أن أجيء حتى أتمه -
وقال أبو عبيد: أن أخرج من المسجد حتى أمضيَه - قال أوس: وسألت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف - (وقال أيو عبيد: فقلنا لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنه قد حدثنا أنه طرأ
عليه حزبه من القرآن فكيف تحزبون القرآن؟
قالوا ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشر وثلاث عشر، وحزب المفصل وحْدَه.
وقال أبو عبيد: ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور.
وإحدى عشرة سورة، وحزب المفصل ما بين (ق) فأسفل.

(1/334)


فهذا الذي من هذه الأعداد الوترية - من ثلاث، إلى ثلاثَ عشرة -
ثمانٍ وأربعون، وهي من أول البقرة، إلى آخر الحجرات. فإذا أضفت إلى
ذلك الفاتحة مع ثمان أخرى، ليكون سبعاً وخمسين سورة - وهو النصف من
عدد السورة القرآنية - كان ذلك إلى آخر سورة الحديد. وهو أربع وخمسون حزباً، وهي تسعة أعشار القرآن.
ومن أول الواقعة إلى آخره عشر، وهو ستة أحزاب. وذلك سبع
وخمسون سورة، نصف عدد السور.
فينتظم من ذلك لغز، وهو: شيء يكون عشره مثل تسعة أعشاره سواء
من غير زيادة.

(1/335)


وللبخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تُوفًي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قرأت المفصل.

(1/336)


وفي رواية أنه قال: جمعت المحكم في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال سعيد بن جبير: فقلت له: وما المحكم؟. قال: المفصل.
ولأبي عبيد عن عائشة رضي الله عنها قالت: إني لأقرأ حزبي - أو
قالت: سبعي - وأنا جالسة على فراشي، أو قالت: على سريري.
وفي الموطأ عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أنه قيل له: كيف ترى في
قراءة القرآن في سبع؟.
فقال زيد: حسن، ولأن أقرأه في نصف شهر، أو عشر أحب إليّ لكي أتدبره وأقف عليه.
وللشيخين، وعبد الرزاق في جامعه، وأبي داود، والترمذي وقال:
حسن صحيح، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألم أُخْبَرْ أنك تصوم الدهر، وتقرأ القرآن كل ليلة؟.
قلت: بلى يا نبي الله، ولم أرِدْ بذلك إلا الخير.
قال: فصم صوم داود عليه السلام وكان أعبد الناس، واقرأ القرآن في كل شهر.
قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك؟. قال: فاقرأه في عشر. قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك. قال: فاقرأه في سبع، ولا تزد على ذلك.
وفي رواية: فإن لزوجك عليك حقاً. ولزُوَّارك عليك حقاً.
ولجسدك عليك حقاً.
قال: فشدَّدت، فَشدِّد علي، وقال: إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر.
قال: فصرت إلى الذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما كبرت
وددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله - صلى الله عليه وسلم -.

(1/337)


وفي رواية: أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كم يقرأ القرآن؟ قال: في أربعين. ثم قال: في شهر. ثم قال: في عشرين. ثم قال: في خمسة عشر يوماً. ثم قال: في عشر. ثم قال: في سبعة. ولم ينزل من سبعة.
وفي رواية: قلت: أجد بي قوة فناقصني وناقصته، إلى أن قال: اقرأه
في سبع لا تزد على ذلك، قلت: إني أجد بي قوة، قال: فإنه لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث.
ولأبي عمرو الداني بسنده في كتاب "العدد" عن قيس بن أبي صعصعة
رضي الله عنه، أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله في كم أقرأ القرآن؟. فقال: في كل خمسة عشر، فقال: إني أجدني أقوى من ذلك، قال: ففي كل جمعة.
ولأبي عبيد: في كتاب الفضائل، عن حبان بن واسع، عن أبيه.
عن سعد ابن المنذر الأنصاري رضي الله عنه، أنه قال: يا رسول الله أقرأ
القرِآن في ثلاث؟ فقال: نعم إن استطعت، قال: فكان يقرؤه كذلك حتى
تُوُفي.
ورواه أحمد، وفي سنده ابن لُهَيْعة، عن حبان بن واسع به.
وحديث ابن لهيعة حسن، وفيه ضعف.
ولأبي عبيدة عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: كان
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يختم القرآن في أقل من ثلاث.
هذا الأولى، لكونه أرفق من الختم في أقل، وهو - صلى الله عليه وسلم - مشرِّع ما أحب إليه ما خفَّ على أمته.

(1/338)


وقد روى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يختم القرآن في
ركعة، وكذا تميم الداري رضي الله عنه.
ورواه عنهما أبو عبيد، وكذا عن تميم.
وروى عن سليمان بن عتر التجيبي أنه كان يختم القرآن في الليلة
ثلاث مرات، ويجامع ثلاث مرات، فلما مات، قالت امرأته: رحمك الله، إنْ كنت لتُرضي ربك وتُرضي أهلك، قالوا: وكيف ذلك؟ قالت: كان يقوم من الليل فيختم القرآن ثم يُلِم بأهله، ثم يغتسل، فيعود ويقرأ حتى يختم، ثم يلم بأهله ثم يغتسل فيعود ويقرأ حتى يختم، ثم يلم بأهله ثم يغتسل.
فيخرج لصلاة الصبح.
وفي تبيان النووي عن مسلم بن يسار قال: قال أبو أسيد رضي الله
عنه: نمت البارحة عن وردي حتى أصبحت، فلما أصبحت استرجعت، وكان وردي سورة البقرة فرأيت في المنام كان بقرة تنطحني.

(1/339)


رواه ابن أبي داود.
وروى ابن أبي الدنيا عن بعض حفاظ القرآن، أنه نام ليلة عن حزبه
فأرى في المنام كان قائلاً يقول:
عجبت من جسم ومن صحة. . . ومن فتى نام إلى الفجر
والموت لا تؤمن خطفاته. . . في ظلم الليل إذا يسري.
منع الجنب من قراءة القرآن
ولأبي عبيد عن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرئنا القرآن على كل حال، إلا الجنابة.
ولأبي عبيد - أيضاً - والبيهقي بإسناد - قال النووي: ضعيف - عن
ثعلبة ابن أبي الكنود، عن مالك بن أبي جنادة الغافقي - وفي رواية: عبد الله
بن مالك الغافقي - رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لعمر رضي الله عنه: إذا توضأت وأنا جنب، أكلت وشربتُ، ولا أصلي، ولا أقرأ، حتى اغتسل.
وروى أحمد، وأصحاب السنن الأربعة، وابن خزيمة، وابن حبان.
والحاكم والدارقطني، والبزار، والبيهقي، من طريق شعبة عن عمرو بن مرة، عن عبد الله ابن سَلمة، عن علي رضي الله عنه قال: لم يكن يحجب - وفي
رواية: يحجز - النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القرآن شيء سوى الجنابة.

(1/340)


وصحح الحديث الترمذي: وابن السكَن، وعبد الحق، والبغوي في
شرح السنة.
وروى الدارقطني عن علي رضي الله عنه موقوفاً: اقرأوا القرآن، ما لم
يصب أحدكم جنابة، فإن أصابته فلا، ولا حرفاً.
وروى الترمذي، وابن ماجة، والبيهقي، وغيرهم، عن ابن عمر رضي
الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن.

(1/341)


والحديث ضعيف، لكن اجتماع هذه الشواهد أوصله إلى حيز
الحجية.
فضبلة إحياء الليل بتلاوة القرآن
وللترمذي والطبراني وأبي نعيم، عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ ثلاثين آية في ليلة،، لم يضره تلك الليلة سبع ضارٍ، ولا لص طارق، وعوفي في نفسه وأهله وماله، حتى يصبح.
وفي الباب عن عوف بن مالك، وابن عمر.
وروى الدارمي عن الحسن مرسلا، وصاحب الفردوس عن أبي الدرداء
رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ في ليلة مائة آية، لم يحاجه القرآن تلك الليلة، ومن قرأ في ليلة مائتي آية، كتب له قنوت ليلة، ومن قرأ في ليلة خمسمائة آية إلى الألف، أصبح وله قنطار من الأجر، قالوا: وما القنطار؟
قال: اثنا عشر ألفاً.
وأخرجه أحمد وأبو يعلى، والنَّسائي في اليوم والليلة، والطبراني، - وأبو
الشيخ عن تميم رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ في ليلة مائة آية، كتب له قنوت ليلة.

(1/342)


وللدارمي عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: من قرأ ألف آية كتب له
قنطار من الأجر، والقيراط من ذلك القنطار، لا تفي به دنياكم.
وللطبراني في الكبير والأوسط، بإسناد - قال المنذري: حسن - عن
فضالة بن عبيد، وتميم الداري، رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ عشر آيات في الليلة، كتب له قنطار، والقنطار خير من الدنيا وما فيها فإذا كان يوم القيامة يقول ربك: اقرأ وارق، لكل آية درجة، حتى ينتهي إلى آخر آية معه، فيقول الله عز وجل للعبد: اقبض. فيقول العبد بيده: يا رب أنت أعلم، يقول: لهذه الخلد، ولهذه النعيم.
ولأبي داود، وابن خزيمة، وابن حِبان في صحيحه، عن عبد الله بن
عمرو بن العاص، رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية، كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين.
قال المنذري: من سورة المُلْك إلى آخر القرآن، ألف آية، والله أعلم.

(1/343)


ولمالك والستة - إلا البخاري - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من نام عن حزبه من الليل، أو عن شيء منه، فقرأه ما بهن صلاة الفجر، وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه من الليل.
النهي عن الغلو في القرآن
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، والِإمام أحمد، وأبو يعلى، في مسانيدهم.
والبزار وأبو عبيد في الفضائل، عن عبد الرحمن بن شبل الأنصاري رضي الله
عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اقرأوا القرآن، ولا تغلوا فيه، ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به.
وفي نسخة، ولا تستأثروا به.
وشك أبو عبيد فقال: أو تستكثروا به.
قال الهيثمي: ورجال أحمد ثقات.
الغلوُّ: المبالغة المؤدية للملل، وهي ضد الجفوة.
والمراد: التوسط والرفق، والاقتصاد.

(1/344)


يبَينه ما رواه أبو عبيد في الغريب، عن علي رضي الله عنه قال: خير
هذه الأمة: النمط الأوسط، يلحق بهم التالي، ويرجع إليهم الغالي.
النمط: الطريق. والغالي: المتعمق حتى يخرجه ذلك إلى إكفار الناس
كنحو من مذاهب الخوارج، وأهل البدع.
والجافي عنه: التارك له، وللعمل به.
ولكن القصد بين ذلك.
وروى أبو عبيد في الغريب - أيضاً - عن حذيفة رضي الله عنه، أن من
أقرأ الناس للقرآن منافقاً لا يدع واواً ولا ألفاً، يَلْفِته بلسانه، كما تلفت البقرة الخَلَى بلسانها.
اللفْت: الليّ.
وفي حديث آخر: "إن الله (عز وجل) يبغض البليغ من الرجال.
الذي يلفت الكلام كما تلفت البقرة الخلاء بلسانها.

(1/345)


وروى أبو يعلى عن حذيفة أيضاً، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن في أمتي قوماً يقرأون القرآن، ينثرونه نثر الدقل، يتأولونه على غير تأويله.
وروى أبو يعلى بسند - قال الهيثمي: فيه أبو معشر نجيح، وهو
ضعيف يُعتَبر بحديثه - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: إن لهذا القرآن شرة، وللناس عنه فترة، فمن كانت فترته إلى القصد فنعما هي، ومن كانت فترته إلى الِإعراض، فأولئك هم قوم بور.
وروى الشيخان، وأبو داود، والنَّسائي - وهذا لفظ مسلم في أواخر
باب الزكاة من روايات جمعت بينها - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
أن عليا رضي الله عنه بعث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو باليمن بذُهَيْبَة في تربتها، فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أربعة نفر: الأقْرَعُ بن حابِس الحَنْظَلي، وعُيَيْنَةُ ابنُ بَدْرٍ الفَزَارِيُ، وعَلْقَمةُ بنُ عُلَاثَةَ العامِرِي، ثم أحد بن كِلَاب، وزَيْدُ الخَيْر
الطائي ثم أحد بني نبهان. فغضبت قريش فقالوا: يعطي صناديد نجدِ
ويدعنا؟.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني إنما فعلت ذلك لأتألفهم. فجاء رجل

(1/346)


كث اللحية، مشرف الوجنتين، غائر العينين، ناتىء الجبين، محلوق
الرأس، مَشَمِّرُ الإزار.
وفي رواية: فأتاه ذو الخويصرة. وهو رجل من بني تميم فقال: اتق الله
يا محمد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فمن يطيع الله إن عصيته، أيامنني على أهل الأرض ولا تأمنوني؟.
ثم أدبر الرجل، فاستأذن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - في قتله.
وفي رواية: إن الذي استأذن في قتله عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دَعْهُ، فإن له أصحاباً يَحْقِر أحدُكم صلاته مع صلاتهم.
وفي رواية: إن مِنْ ضِئْضِيء هذا قوماً أحْدَاثُ الأسْنَانِ، سُفَهَاءُ
الأحلام، يقولون: مِنْ خير قَولِ البَرِيَّة، يقرأون القرآن - وفي رواية:
يتلون كتاب الله رطبا، لاِ يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام.
ويدعون أهل الأوثان.
وفي رواية: يمرُقون من الإسلام كما يَمْرُقُ السهم من الرمِيَّة، لئن
أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد.

(1/347)


وفي رواية عن أبي سعيد: يخرج في هذه الأمة - ولم يقل: منها - قوم
تحقرون صلاتكم مع صلاتهم.
وفي رواية: يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم.
وفي رواية: ليس صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى
صيامهم بشيء، يقرأون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم.
وفي رواية: يقرأون القرآن لا يجاوز حلوقهم - أو حناجرهم - يمرُقون من الدين مروق السهم من الرميَّة، فينظر الرامي إلى سهمه، إلى نصله، إلى رصافه فيتمادى في الفوقة، هل علق بها شيء من الدمِ، آيتهم رجل أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أول مثل البَضْعة تدَرْدَرُ، يخرجون على حين
فُرْقَةٍ من الناس، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق.
قال أبو سعيد: فاشهد أني سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشهد أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتُمس

(1/348)


فوجد، فأتي به، حتى نظرت إليه على نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي نعت.
وروى الطبراني عن جندب رضي الله عنه قال: لما فارقت الخوارج عليا
رضي الله عنه، فخرج في طلبهم، وخرجنا معه، فانتهينا إلى عسكر القوم.
وإذا لهم دوي كدوي النحل، من قراءة القرآن، وإذا فيهم أصحاب
الثفِنات، أو أصحاب البرانس.
أي لأنهم صارت لهم في وجوههم - من كثرة السجود - ثفنات البعير.
وهو - بالمثلثة والفاء محركة - ركبته وما مس من الأرض من كركرته.
فصار غليظا.
وكأن رئيسهم يقال له: ذو الثفنات. والله الموفق.
وروى ابن رجب عن عمر رضي الله عنه قال: إن أخوف ما أخاف
عليكم ثلاثة: منافق يقرأ القرآن، لا يخطىء منه واواً ولا ألفا، يجادل الناس
أنه أعلم منهم ليضلهم عن الهدى.
وذلةُ عالم. وأئمة مضلون.

(1/349)


وفي رواية: إنما أخاف عليكم رجلين: رجل يتأول القرآن على غير
تأويله ورجل ينافس الملك أخيه.
وروى عن معاذ نحوه موقوفاً عليه. ومرفوعاً من وجوه، غير وجه.
وعن أبي الدرداء، وسلمان، رضي الله عنهما.
وروى عن عمر رضي الله عنه مرفوعاً.
وفي بعض رواياتهم: وأباحوا النفاق بالقرآن.
فإن للقرآن مناراً كمنار الطريق.
ولأحمد. عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: هلاك أمتي في الكتاب واللين. قالوا: يا رسول الله، ما الكتاب واللين؟
قال: يتعلمون القرآن فيتأولونه على غير ما أنزل الله (عز
وجل) ويحبون اللين، فيدعون الجماعات والجمع.
حكم أخذ الأجرة على تعليم القرآن
ولأبي عبيد في الفضائل، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: تعلموا القرآن، واسألوا الله به، قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاثة نفر: رجل يباهى به. ورجل يستأكل به، ورجل يقرؤه لله تعالى.

(1/350)


وله عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم عليه مهاجر، دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن، فدفع إلي رجلا، فكنت أقرئه القرآن، فأهدي الي قوساً، فأخبرت بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: جمرة بين كتفيك تقلَّدتها.
وله عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، أن ابَي بن كعب - رضي الله عنه -

(1/351)


أقرأ رجلا من أهل اليمن سورة، فرأى عنده قوساً، فقال:
بعنيها. فقال: بل هي لك. فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. فقال: إن كنت تريد أن تقلَّد قوساً من نار فخذها.
وفي رواية: لو تقوستها، لتقوست قوساً من نار.
وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي رضي الله عنه: ألم أنهك عن فلان، فاردد القوس عليه، قال: فرددتها عليه.
وزاد في هذه الرواية عن أبي رضي الله عنه، أنه قال: كنت أختلف
إلى رجل مكفوف أقرئه القرآن، فكنت إذا أقرأته، دعا لي بطعام فأكلت منه، فحاك في نفسي منه شيء، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقلت: يا رسول الله، إني أتاني فلان ابن فلان، فأقرئه القرآن، فيدعو لي بطعام، لا آكل مثله بالمدينة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن كان ذلك الطعام طعامه وطعام أهله
الذين يأكلون فكل، وإن كان طعاماً يتحفك به، فلا تأكل.
قال: فأتيته نحواً مما كنت آتيه، فلما فرغ قال: يا جارية هلمي طعام أخي فقلت له: أهذا طعامك وطعام أهلك الذي تأكل ويأكلون، فقال: لا، ولكني أتحفك به.

(1/352)


قال: قلت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهاني عنه.

(1/353)


النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود
وللبخاري والنَّسائي، عن أنس رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا نعس أحدكم في الصلاة فلينصرف، حتى يعلم ما يقرؤه.
ولمسلم عن علي رضي الله عنه قال: نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ راكعاً، أو ساجدا.
ورواه البيهقي في الدعوات، من طريق الشافعي عن ابن عباس رضي
الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إني نهيت أن أقرأ راكعا أو ساجدا، فأما الركوع فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ.
ورواه أبو عبيد في الغريب، ولفظه: إني قد نهيت عن القراءة في
الركوع والسجود، فأما الركوع فعظموا الله فيه، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فإنه قَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ.
ورواه الدارمي في الصلاة من مسنده - عن ابن عباس أيضاً - ولفظه
قال: كشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر رضي الله عنه -

(1/354)


فقال: أيها الناس، إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة.
يراها السلم، أو ترى له، ألا إني نهيت أن أقرأ راكعاً، أو ساجداً.
فذكره.
البكاء عند قراءة القرآن
وفي جامع الأصول، عن أسماء رضي الله عنها قالت: كان أبو بكر
رضي الله عنه إذا قرأ القرآن كثير البكاء، في صلاة وغيرها.
ولأبي عبيد في الفضائل والغريب، عن ابن مهدي، عن حماد بن
سلمة عن ثابت البناني، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن أبيه
رضي الله عنه قال: انتهيت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المِرْجل، من البكاء.
وأخرج الحديث أبو داود (في الصلاة) ، والترمذي في الشمائل، من
هذه الطريق، والنَّسائي في الصلاة والرقائق من غيرها، وابن خزيمة، وابن
حبان في صحيحيهما.

(1/355)


وفي رواية أبِي داود، كأزيز الرحا.
والأزيز يُعْنى به، غليان جوفه بالبكاء، وأصل الأزيز: الالتهاب
والبكاء.
وللطبراني عن جرير رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إني قارىء عليكم سُورةً، فمن قدر أن يبكي، وإلا فلْيَتَبَاكَ.
ورواه أبو عبيد في الفضائل، عن عبيد بن عمير مرسلا، أنه - صلى الله عليه وسلم - أعادها عليهم ثلاث مرات، فلم يبكِ أحد، فقال في الثالثة: ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكَوْا.
ولأبي عبيد، عن سليمان بن سحيم قال: أخبرني من رأى عمر رضي
الله عنه يصلي، وهو يترجح، ويتمايل، ويتأوه، حتى لو رآه (غيره) ممن
يجهله لقال: أصيب الرجل، وذلك لذكر النار، إذا مر بقوله تعالى: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرً) وشِبْه ذلك.
ما يفعله مدعو الإيمان عند سماع القرآن
وله عن أبي حازم قال: مَرَّ ابنُ عمر رضي الله عنهما برجل من أهل
العراق ساقط والناس حوله، فقال: ما هذا؟ فقالوا: إذا قرىء عليه القرآن

(1/356)


أو سمع الله يذكر، خَرَّ من خشية الله، فقال ابن عمر: والله إنا لنخشى الله.
وما نسقط.
وله عن عكرمة قال: سألت أسماء - يعني: بنت أبي بكر رضي الله
عنهما -: هل كان أحد من السلف يغشى عليه من الخوف؟
فقالت: لا، ولكنهم كانوا يبكون.
وله عن أنس رضي الله عنه، أنه سئل عن القوم يُقرأ عليهم القرآن
فيصعقون؟ فقال: ذاك فعل الخوارج.
وله عن محمد بن سيرين وسئل عن رجل يقرأ عنده القرآن فيصعق.
قال: ميعاد ما بيننا وبينهم: أن يجلس على حائط، ثم يقرأ عليه القرآن من
أوله إلى آخره، فإن وقع، فهو كما قال.
وقال ابن الجوزي في تفسير (سورة) الزمر من "زاد السير": وهو عند
ابن رجب عن أبي نعيم.
وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: جئت أبي فقال: أين كنت؟.
فقلت: وجدت قوماً ما رأيت خيراً منهم قط، يذكرون الله عز وجل، فيرعد أحدهم حتى يغشى عليه من خشية الله عز وجل، فقعدت بينهم، فقال: لا تقعد معهم بعدها.
قال: فرآني كأنه لم يأخذ ذلك فيَّ، فقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلو القرآن، ورأيت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما يتلوان القرآن فلا يصيبهم هذا من خشية الله، أفتراهم أخشى لله من أبي بكر وعمر؟.
قال: فرأيت أن ذلك كذلك، فتركتهم.

(1/357)


وقال عبد الله بن عروة بن الزبير: قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر
رضي الله عنهما: كيف كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قرىء عليهم القرآن؟
قالت: كانوا كما نعتهم الله تعالى: تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم.
فقلت: إن ناساً اليوم إذا قرىء عليهم القرآن، خرّ أحدهم مغشياً عليه؟. فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وكان خوات يرعد عند الذكر. فقال له إبراهيم: إن كنت تملكه فما
أبالي أن لا أعتَد بك، وإن كنت لا تملكه فقد خالفت من كان قبلك.
وفي التبيان للنووي عن ابن أبي صالح قال: قدم ناس من أهل اليمن
على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فجعلوا يقرأون القرآن ويبكون.
فقال أبو بكر رضي الله عنه: هكذا كنا.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه صلى بالجماعة الصبح، فقرأ
سورة يوسف عليه السلام، فبكى حتى سألت دموعه على ترقوته.
وفي رواية: فبكى حتى سمعوا بكاءه من وراء الصفوف. انتهى.
وقال ابن رجب: إن ابن عمر رضي الله عنهما قيل له: إن قوماً إذا
قرىء عليهم القرآن يرقد أحدهم من خشية الله؟.
قال: كذبت. قال المخبر له: بلى والله، قال: ويحك إن كنت صادقاً، فإن الشيطان ليدخل جوف أحدهم والله ما هكذا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -.
قال: وكذلك أنكر ذلك من التابعين خلق، منهم: ابن سيرين، وقتادة

(1/358)


وتلى قوله تعالى: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) .
ثم قال: هذا نعت أولياء الله: تقشعر جلودهم، وتبكي أعينهم.
وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم.
إنما هذا من أجل البدع، وهذا من الشيطان.
ثم قال ما حاصله: إن ذلك قد يحصل للصالح، لكن حال الصحابة
رضي الله عنهم: أنهم يحملون ما يَرِدُ عليهم لقوة علمهم وإيمانهم، فلم يظهر

(1/359)


ما يظهر على من ضعف حاله، فإن كان مغلوباً لا تَسَبُّب له في ذلك، فهو
معذور.
كراهة الجمع بين سورتين فأكثر في الركعة الواحدة
ولأبي عبيد عن ابن سيرين، أنه حدث أبا العالية، أن ابن عمر رضي
الله عنهما يقرأ عشر سور في ركعة، فقال: قد كنت أفعله، حتى حدثني مع
سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لكل سورة حَظُّها من الركوع والسجود.
وله عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رجلاً أتاه فقال: قرأت القرآن
في ليلة - أو قال: في ركعة - فقال ابن عمر: أفعلتموها؟ ، لو شاء الله لأنزله جملة واحدة، وإنما فصله لِتُعْطَى كل سورة حَظُّها من الركوع والسجود.
وله عن غياث بن رزين، عن شيخ من المعافر، ذكر منه صلاحاً
وفضلاً حدثه أن رجلا يُقال له: عَبَّاد، كان يلزم عبد الله بن عمرو رضي الله
عنهما، وكان امرءا صالحاً، فكان يقرأ القرآن، ويَقْرِن بين السور في الركعة
الواحدة، فبلغ ذلك عبد الله بن عمرو، فأتاه عبَّاد يوما، فقال عبد الله بن
عمرو: يا خائن أمانته ثلاث مرات، فاشتد ذلك على عبَّاد، فقال: غفر الله
لك، أي أمانة بلغك أني خنتها؟.
فقال أُخبرت أنك تجمع بين السورتين في الركعة الواحدة، فقال: إِني

(1/360)


لا أفعل ذلك، فقال: فكيف يوم تأخذك كل سورة بركعتها وسجدتها، أما
إني لم أقل لك إلا ما قال لي رسول الله.
ورواه ابن عبد الحكم - أيضاً - في فتوح مصر بنحوه.
وقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين سور في ركعة، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة النساء.
فيجمع: بأن هذا أولى.
وذلك لبيان الجواز، أو لعلة اقتضت ذلك - (والله أعلم)

(1/361)


ما جاء في الصعق عند قراءة القرآن
وفي جامع الأصول عن أسماء رضي الله عنها قالت: القرآن أكرم من
أن يزيل عقول الرجال، ما كان أحد من السلف يغشى عليه، ولا يصعق
عند قراءة القرآن وإنما كانوا يبكون ويقشعرون، ثم تلين جلودهم وقلوبهم
لذكر الله.
ولأبي عبيد عن عائشة رضي الله عنها نحوه، ولفظه: أنه قيل لعائشة
رضي الله عنها أن قوماً إذا سمعوا القرآن صعقوا، فقالت: القرآن أكرم من
أن تنزف عنه عقول الرجال، ولكنه كما قال الله تبارك وتعالى: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) .
ذم الرياء بقراءة القرآن
ولمسلم والترمذي، والنَّسائي وابن خزيمة، وابن حبان، في صحيحيهما
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه إذا كان يوم القيامة، وكل أمةٍ جاثيةٍ، فأول من يدعو به الله تعالى للقضاء: رجلٌ

(1/362)


جمع القرآن، ورجل قُتل في سبيل الله، ورجل كثيرُ المال، فيقول الله عز وجل للقارىء: الم أعلمْك ما أنزلت على رسولي فما عملت فيما علمتَ؟. قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله عز وجل له: كذبتَ، وتقول الملائكة له: كذبتَ. ويقول الله تعالى: بل أردتَ أن يقال: فلان قارىء، وقد قيل ذلك.
وذكر الباقي إلى أن قال: ثم ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ركبتي وقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تُسَعَّرُ بهم النار يوم القيامة.
وروى الطبراني في الجزء الذي انتقاه عليه أبو بكر بن مردويه، عن
أنس رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الزبانية أسرع إلى فَسَقَة قراء القرآن، منهم إلى عبدة الأوثان. فيقولون: يُبْدَأْ بنا قبل عبدة الأوثان؟.
فيقال لهم: ليس مَنْ عَلِمَ كمَنْ لا يعلم.
وروى الطبراني في الأوسط - وفيه بكير بن شهاب الدامغاني، قال
الهيثمي: وهو ضعيف - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ جُبِّ الْحَزَنِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا جُبُّ الْحَزَنِ قَالَ: جُبّ في واد في قعر جهنم، تتعوذ منه جهنم كل يوم أربعمائة مرة، أعد للقراء المرائين بأعمالهم، وأن أبغض الخلق إلى الله، قارىء يُزَوِّرُ العمل.

(1/363)


لا يتكلم القاريء بكلام آخر وهو يقرأ
قال النووي في التبيان: وليعتد بما رواه ابن أبي داود عن ابن
عمر رضي الله عنهما، أنه كان إذا قرأ القرآن، لا يتكلم حتى يفرغ مما أراد
أن يقرأه.
ورواه البخاري في صحيحه وقال: لم يتكلم حتى يفرغ منه.
ذكره في كتاب التفسير في قول الله تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) .
ولأبي داود - قال الِإمام صدر الدين المناوي في "تخريج أحاديث المصابيح": وسنده جيد، وله شواهد في صحيح مسلم وغيره - عن أبي سعيد
رضي الله عنه قال: جلست في عصابة من ضعفاء المهاجرين، إن بعضهم
ليستتر ببعض من العرى، وقارىء يقرأ علينا، إذ جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام

(1/364)


علينا، فلما قام رسول الله ي سكت القارىء، ثم قال: ما كنتم
تصنعون؟ قلنا: كنا نستمع إلى كتاب الله، فقال: الحمد للُه الذي جعل في
أمتي من أُمرت أن أصبر نفسي معهم، قال: فجلس وسطنا، ليعدل بنفسه
فينا، ثم قال بيده: هكذا فتحلقوا، وبرزت وجوههم، فقال: أبشروا يا
معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، تدخلون الجنة قبل أغنياء
الناس بنصف يوم، وذلك خمسمائة سنة.
الوقت الذي يستحب فيه ختم القرآن
وروى الدارمي عن جماعة - منهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه -
قالوا: إذا قرأ الرجل القرآن نهاراً، صلت عليه الملائكة حتى يمسي، وإن
قرأه ليلاً صلت عليه الملائكة حتى يصبح.
قال سليمان - يعني الأعمش -: فرأيت أصحابنا يعجبهم أن يختموه
أول النهار وأول الليل.
ولفظ سعد رضي الله عنه: إذا وافق ختم القرآن أول الليل، صلت
عليه الملائكة حتى يصبح، وان وافق ختمه آخر الليل، صلت عليه الملائكة
حتى يمسي فربما بقي على أحدنا الشيء فيؤخره حتى يمسي، أو يصبح.
قال أبو محمد: هذا حسن عن سعد، انتهى.

(1/365)


ومن المعلوم: أن مثل هذا، لا يقال من قبل الرأي، فهو مرفوع حكماً.
والله الموفق.
ورواه أبو عبيد في الفضائل، فقال: حدثنا هشيم، أنبانا العوام، عن
ابراهيم التيمي قال: كان يقال: الرجل يختم القرآن في أول النهار صلت عليه الملائكة بقية يومه، وإذا ختمه أول الليل، صلت عليه الملائكة بقية ليلته قال: فكانوا يستحبون أن يختموا في أول النهار، أو في أول الليل.
وله في الفضائل - أيضاً - عن أبي قلابة مرسلاً قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: من شهد خاتمة القرآن، كان كمن شهد المغانم حين تقسم ومن شهد فاتحة القرآن، كان كمن شهد فتحاً في سبيل الله.
فضيلة الدعاء عند ختم القرآن
وله عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من ختم القرآن، فله دعوة
مستجابة فكان عبد الله إذا ختم القرآن جمع أهله، ثم دعا وأمنوا على دعائه.
وله عن قتادة قال: كان بالمدينة رجل يقرأ القرآن من أوله إلى آخره.
على أصحاب له، فكان ابن عباس رضي الله عنهما يضع عليه الرقباء، فإذا
كان عند الختم، جاء ابن عباس رضي الله عنهما فشهد ذلك.
وفي التبيان للنووي: أنه رواه الدارمي، وابن أبي داود.

(1/366)


وقال: وروى ابن أبي داود عن عمرو بن مرة التابعي قال: كانوا
يحبون أن يختم القرآن من أول الليل، أو من أول النهار.
وعن طلحة بن مصرِّف التابعي الجليل قال: من ختم القرآن أية ساعة
كانت من النهار، صلت عليه الملائكة حتى يمسي، وأية ساعة كانت من الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح.
وعن مجاهد نحوه.
وقال: وروى ابن أبي داود بأسانيده الصحيحة عن الحكم بن عتيبة
التابعي الجليل قال: أرسل إليَّ مجاهد وعنده ابن أبي لبابه، فقالا: إنا
أرسلنا إليك لأنا أردنا أن نختم القرآن، والدعاء يستجاب عند ختم القرآن.
وفي بعض الروايات الصحيحة، أنه كان يقال: إن الرحمة تنزل عند
خاتمة القرآن. انتهى.
وللطبراني عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ صلى صلاةً فرضيةً فله دعوةٌ مستجابةٌ، ومن خَتَم القرآن فله دعوة مستجابة.
قال الحافظ نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد: وفيه عبد الحميد بن
سليمان وهو ضعيف.
وله عن ثابت، أن أنس بن مالك رضي الله عنه، كان إذا ختم
القرآن، جمع أهله وولده، فدعا لهم.

(1/367)


قال الهيثمي: رجاله ثقات.
ورواه ابن أبي داود - كما قال النووي في التبيان - بإسنادين
صحيحين عن قتادة قال: كان أنس بن مالك رضي الله عنه إذا ختم القرآن.
جمع أهله ودعا.
قال: وروى الدارمي بإسناده عن حميد الأعرج قال: من قرأ القرآن ثم
دعا أمَّن على دعائه أربعة آلاف ملك. انتهى.
إنزال القرآن من سبعة أبواب
ولأحمد والطبراني، وابن أبي داود في كتاب المصاحف، عن فلفلة
الجعفي قال: فزعت فيمن فزع إلى عبد الله في المصاحف، فدخلنا عليه.
فقال رجل من القوم: إنا لم نأتك زائرين، ولكن جئنا حين راعنا هذا
الخبر!!.
فقال: إن القرآن أنزل على نبيكم من سبعة أبواب على سبعة أحرف
- أو قال: حروف - وإن الكتاب قبلكم كان ينزل من باب واحد على حرف واحد، معناهما واحد.
قال الهيثمي: وفيه عثمان بن حسان العامري، ذكره ابن أبي حاتم ولم
يجرحه، ولم يوثقه، وبقية رجاله ثقات. انتهى.

(1/368)


وحديث الأبواب هذا روى من أوجه كثيرة.
رواه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده.
وكذا أبو يعلى الموصلى في مسنده، ومن طريقه ابن حبان في صحيحه
والبيهقي في كتاب المدخل.
ومثله لا يقال بالرأي، فهو مرفوع حكما.
وفي بعض الطرق التصريح برفعه إِلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه تفسير السبعة الأحرف: بزاجر وآمر، وحلال وحرام، ومحكم ومتشابه، وأمثال (1) .
ورواه الإمام أحمد عن ابن مسعود مختصراً.
__________
(1) نقل الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران أنه قال: من قال في تأويل السبعة الأحرف هذا القول فتأويله فاسد، لأنه محال أن يكون الحرف منها حراماً لا ما سواه، أو يكون حلالاً لا ما سواه، لأنه لا يجوز أن يكون القرآن يقرأ على أنه حلال كله، أو حرام كله، أو أمثال كله.
قال أبو شامة: وعندي لهذا الأثر - أيضاً - تأويلان آخران:
أحدهما: ذكره أبو علي الأهوازي في كتاب "الإيضاح"، والحافظ أبو العلاء في كتاب "المقاطع": أن قوله "زاجر وآمر - إلى آخره - استئناف كلام آخر، أي هو كذلك، ولم يرد به تفسير الأحرف السبعة وإنما توهم ذلك من توهمه، لاتفاقهما في العدد، وهو السبعة.
وروى: زاجرا، وآمراً، بالنصب، أي نزل على هذه الصفة من سبعة أبواب على سبعة أحرف، ويكون المراد بالأحرف غير ذلك.
التأويل الثاني: أن يكون ذلك تفسيرا للأبواب، لا للأحرف، أي هذا سبعة أبواب من أبواب الكلام وأقسامه وأنواعه، أي أنزله الله تعالى كائناً من هذه الأصناف، لم يقتصر به على صنف واحد، بخلاف ما يحكى أن الإنجيل كله مواعظ وأمثال.
راجع: المرشد ص 108.

(1/369)


وعزاه شيخنا العلامة مقرىء زمانه شمس الدين محمد، بن محمد، بن
محمد ابن علي، بن الجزري، الدمشقي الشافعي، في أوائل كتابه "النشر
في القراءات العشر" إلى الطبراني، من حديث عمر بن أبي سلمة المخزومي
رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لابن مسعود: إن الكتب كانت تنزل من السماء من باب واحد، وإن القرآن أنزل من سبعة أبواب على سبعة أحرف:
حلال وحرام، ومحكم ومتشابه، وضرب أمثال، وأمر وزجر، فأحل حلاله، وحرم حرامه، واعمل بمحكمة، وقف عند متشابهه، واعتبر أمثاله، فإن كُلًا من عند الله وما يذكَّر إلا أولو الألباب.
وكذا أخرجه الحافظ نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد عن الطبراني.
عن عمر بن أبي سلمة به، وقال: وفيه عمار بن مطر، وهو ضعيف جداً.
وقد وثقه بعضهم. انتهى.

(1/370)


وَقَد عَدَّ الحروف سبعاً، فلما سَبَّب عنها قوله: "فأحل حلاله" إلى آخره.
جعلها خمساً، فأسقط الأمر والنهي، لدخولهما في الحلال والحرام.
وذلك موافق لما رواه البيهقي في فضل القرآن من "الشُعب" عن أبي
هريرة رضي الله عنه بلفظ: نزل القرآن على خمسة أوجه: حلال وحرام.
ومحكم ومتشابه، وأمثال.
والمراد - والله أعلم - بالباب: الحسي. وبالحرف الواحد من الكتاب
الأول: اللغة التي هي الروايات في الألفاظ.
فتصير خاصة القرآن في هذا الحديث: نزوله من سبعة أبواب من
أبواب السماء. والمراد بالحروف التي فُصِّل إليها القرآن في هذا الحديث:
الوجوه المذكورة.
والمراد بها في الأحاديث الآتية: اللغات التي خص القرآن من بين
الكتب السالفة بجواز القراءة بها، على أنها (قراءة) ، لا ترجمة وتفسير.
تنبيها على عموم الدعوة، وشرف اللغة التي نزل بها واتساعها، والتخفيف
على أهلها.
قال الإِمام أبو جعفر بن جرير في مقدمة التفسير: كل كتاب تقدم نزوله
كتابنا فإنما نزل بلسان واحد، متى حُوِّل إلى غيره، كان ترجمة له وتفسيراً لا
تلاوة، وكتابنا أنزل بألسن سبعة، بأى واحد منها تلاه التالي، كان تالياً له
على ما أنزل الله، ولا يصير مترجماً له ولا مفسراً، حتى يتحول عن جميع
تلك الألسن السبعة إلى غيرها.
فهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: كان الكتاب الأول ينزل على حرف واحد، ونزل القرآن على سبعة أحرف.

(1/371)


لكل آية ظهر وبطن وحد ومطلع
وروى البغوي في "شرح السنة"، عن علي بن زيد، عن الحسن
البصري مرسلاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل آية ظهر وبطن، ولكل حد ومطلع.
ورواه الطبراني في الأوسط، وأبو يعلى ورجاله ثقات، والبزار.
قال ابن رجب: وابن حبان في صحيحه، وابن جرير.
وفي رواية للطبراني: أن عبد الله رضي الله عنه قال: إن هذا القرآن
ليس منه حرف، إلا له حد، ولكل حد مطلع.
وسياق ابن رجب: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله، وإن القرآن نزل على سبعة أحرف، لكل آية ظهر وبطن، ولكلِّ حدّ ومطلع.
وقال: غريب جداً.
ولعل آخر الحديث مدْرَج من قول ابن مسعود رضي الله عنه، فإنه
قد روى من قوله من وجه آخر، أخرجه أبو نعيم بإسناد غريب.
وذكر الظهر والبطن روى من أوجه كثيرة.

(1/372)


منها: عند ابن حميد - ونحوه - في كتاب "الأدب"، عن عبد الرحمن بن
عوف القرشي، وليس أحد العشرة، بل غيره.
قال أبو حاتم الرازي وغيره: ورواه أبو عبيد في الفضائل والغريب
عن الحسن رحمه الله، ولفظه: ما أنزل الله آية، إلا لها ظهر وبطن، ولكل
حرف حد، ولكل حد مطلع.
تفسير الظهر والبطن والحد والمطلع
وقال الحسن: الظهر هو الظاهر، والبطن هو السر، من قول الجاهلية:
ضربت أمري ظَهْراً لِبَطْنٍ.
والحد: هو الحرف الذي فيه علم الخير والشر.

(1/373)


والمطلع: الأمر والنهي.
وفي رواية أنه قيل: إنها المطلع. قال: يطلع قوم يعملون به.
وقال أبو عبيد في الغريب: أحسبه - يعني: الحسن - ذهب إلى قول عبد
الله بن مسعود رضي الله عنه: ما من حرف - أو قال: آية - إلا قد عمل
بها قوم، أو لها قوم سيعملون بها.
فإن كان هذا إلى هذا، فهو وجه.
وإلا، فإن المطلع في كلام العرب، هو المأتي الذي يؤتي منه، حتى
يعلم علم القرآن من ذلك المأتي.
والمصعد: يصعد إليه في معرفة علمه.
وقال في كتاب الغريب أيضاً في تفسير - هول المطلع -: قال
الأصمعي: المطلع: موضع الاطلاع من إشراف إلى نجد.
قال أبو عبيد: فشبه ما أشرف عليه من أمر الآخرة بذلك.
وقد يكون المطلع: المصعد من أسفل إلى المكان المشرف، وهذا من
الأضداد.
وقال أبو عمرو: مطلع: مأتى، يؤتي منه.

(1/374)


وهو شبيه المعنى بالقول الأول. يقال: مطلع هذا الجبل من مكان كذا
أي مصعده وماتاه.
والظهر والبطن: قال الحسن: العرب تقول: قلبت أمري ظَهْراً لِبَطْن.
وقال غيره: الظهر: لفظ القرآن، والبطن: تأويله.
وفيه قول ثالث - وهو عندي أشبه الأقاويل بالصواب - وذلك: أن الله
تعالى قد قص أنباء القرون الظالمة، فأخبر بذنوبهم، وما عاقبهم به، فهذا هو
الظهر.
إنما هو حديث حدثك به عن قوم، فهو في الظاهر خبر.
وأما الباطن منه: فإنه صير ذلك الخبر عظة لك، وتحذيراً وتنبيهاً أن
تفعل فعلهم، فيحل بك ما حل بهم من عقوبة، انتهى.
فصار الذي تحصل من هذا أن الظهر: ما كان فهمه ظاهراً من
الكلام.
والبطن: ما اختص بفهمه الفَطِنُ من المعاني التي لا يوصل إليها إلا
بالتأمل.
والحد: غاية ما ينتهي إليه من الظاهر والباطن.
فإن الحد: طرف الشيء. والمطلع: الطريق الموصل إلى ذلك الحد.
فالمراد منه: أن الله سبحانه لم يخاطبنا بشيء إلا وفهمُه ممكن، إما
للكافة أو للخاصة، أو لخاصة الخاصة الذين يطلعهم الله تعالى على ذلك
الطريق الموصل إلى الحد والله أعلم.

(1/375)


وقال الِإمام شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي في الباب الثاني
من كتاب "عوارف المعارف " بعد رواية أثر عبد الله بن مسعود هذا: وهذا
الكلام محرض لكل صاحب همة، أن يصغي إلى موارد الكلام، ويفهم دقائق
معانيه، وغامض أسراره من قلبه.
فللصوفي - بكمال الزهد في الدنيا، وتجريد القلب عما سوى الله تعالى -
مطلع من كل آية، وله بكل مرة في التلاوة مطلع جديد، وفهم عتيد، وله
بكل فهم عمل جديد.
فَفَهْمفمْ يدعو إلى العمل، وعملهم يجلب صفاء الفهم، ودقيق النظر في
معاني الخطاب. فمن الفهم علم، ومن العلم عمل، والعلم والعمل يتناوبان
فيه، وهذا العمل آنفاً، إنما هو عمل القلوب، غير عمل القالب، وأعمال
القلوب - للطفها وصقالتها - مشاكلة للعلوم، لأنها نيات وطويات، وتعلقات روحية وتأدبات قلبية، ومسامرات سرية، وكلما أتوا بعمل من هذه الأعمال رفع لهم علم من العلم، وأطلعوا على مطلع من فهم الآية جديد.
ويخالج سرى أن يكون المطلع ليس بالوقوف بصفاء الفهم على دقيق
المعنى وغامض السر في الآية، ولكن المطلع: أن يطلع عند كل آية على شهود المتكلم بها لأنها مستودع وصف من أوصافه، ونعت من نعوته، فتتحدد له التجليات بتلاوة الآيات وسماعها، ويصير له مراء منبئة عن عظيم
الجلال.

(1/376)


ولقد نقل عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال: لقد تجلى
الله تعالى لعباده في كلامه ولكن لا يبصرون.
فيكون لكل آية مطلع من هذا الوجه.
فالحد: حد الكلام.
والمطلع: الترقي عن الكلام إلى شهود التكلم.
وقد نقل عن جعفر الصادق - أيضاً -: أنه خرَّ مغشياً عليه وهو في
الصلاة فسئل عن ذلك فقال: ما زلت أردد الآية حتى سمعتها من المتكلم
بها.
فالصوفي لما لاح له نور ناصية التوحيد، وألقى سمعه عند سماع الوعد
والوعيد وقلبه بالتخلص عما سوى الله تعالى، صار بين يدي الله حاضراً
شهيداً، يرى لسانه - أو لسان غيره - في التلاوة كشجرة موسى عليه السلام، حيث أسمعه الله منها خطابه إياه بإني "أنا الله "، فإذا كان سماعه من الله تعالى، واستماعه إلى الله، صار سمعُه بصرَه، وبصره سمعَه، وعلمُه عمله، وعملُه علمَه، وعاد آخرُه أوله، وأولُه آخره.
ومعنى ذلك: أن الله تعالى خاطب الذر بقوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)
فسمعت النداء على غاية الصفاء، ثم لم تزل الذرات تتقلب في الأصلاب.
وتنتقل إلى الأرحام، قال الله تعالى: (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) .
يعني: تقلب ذرتك في أصلاب أهل السجود من آبائك
الأنبياء، فما زالت تنتقل الذرات حتى برزت إلى أجسادها، فاحتجبت
بالحكمة عن القدرة، وبعالم الشهادة عن عالم الغيب، وتراكم ظلماتها بالتقلب في الأطوار.

(1/377)


فإذا أراد الله تعالى بالعبد حسن الاستماع بأن يصيره صوفياً صافياً، لا
يزال يرقيه في رتب التزكية والتحلية، حتى يخلص من مضيق عالم الحكمة إلى
فضاء القدرة ويزال عن بصيرته النافذة سجف الحكمة، فيصير سماعه
ب (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) كشفاً وعياناً، وتوحيده وعرفانه تبياناً وبرهاناً، وتندرج
له ظلم الأطوار في لوامع الأنوار. انتهى.
وقال الِإمام ولي الدين محمد بن أحمد الملَّوى في كتاب "تبيين معادن المعاني":
قال بعض الصديقين: فالحد والمطلع يدق أمرهما ويغمض، ويختص
بدركهما الأكابر العارفون، وقد يضيق عن كثير منه نطاق النطق.
والظهر: سهل لكل وارد، وفيه يتكلم علماء الرسوم.
وأما البطن: فيكاد يختص به أرباب القلوب، وعلماء الحقائق، قد علم
كل أناس مشربهم. ثم (قال) : إن مطلع كل حرف هو المأتى الذي يؤتي
منه. انتهى.
اشتمال القرآن على جميع العلوم
وروى أبو عبيد أيضاً عن عبد الله - هو ابن مسعود رضي الله عنه -
قال: إذا أردتم العلم فأثيروا القرآن، فإن فيه خبر الأولين والآخرين.

(1/378)


ورواه الطبراني - قال الهيثمي بأسانيد رجال أحدها رجال الصحيح -
ولفظه: من أراد العلم فليثور القرآن، فإن فيه علم الأولين والأخرين.
وعزا ابن رجب في كتاب "الاستغناء بالقرآن " هذا اللفظ إلى يعقوب بن
أبي شيبة في مسنده.
وروى يعقوب بن أبي شيبة عنه - أيضاً - رضي الله عنه أنه قال: إن
الله عز وجل أنزل في هذا القرآن تبيان كل شيء، وأن علمنا يقصر عنه.
وروى أبو خيثمة زهير بن حرب في كتاب "العلم" عن مسروق
قال: ما نسأل أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - عن شيء، إلا وعلمه في القرآن، إلا أن علمنا يقصرعنه.
وروى عبد بن حميد في تفسيره عن علي رضي الله عنه قال: ما من
شيء إلا علمه في القرآن، ولكن رأى الرجال يعجز عنه.
وروى البزار في مسنده من طريق شهر، عن عبد الرحمن بن غنم، أن
الحارث ابن عميرة بكى عند معاذ رضي الله عنه حين احتضر معاذ، وقال
له: إنما أبكي لما يفوتني منك من العلم، فقال معاذ: إن الذي تبغي من

(1/379)


العلم بين لوحي المصحف، فإن أعياك تفسيره، فأطلبه من ثلاثة: عويمر أبي
الدرداء أو سلمان الفارسي، أو ابن أم عبد.
وإياك وذلة العالم، وجدال منافق بالقرآن.
وللبخاري عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي رضي الله عنه: هل عندكم
شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟.
قال: لا والذي فلق الحب، وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة.
قلت: وما في هذه الصحيفة؟.
قال: العقل. وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر.
قال الحافظ زين الدين بن رجب: سبب هذا السؤال: أن غلاة الشيعة
زعمت أن القرآن جزء يسير من الوحي، وأن جميعه عند علي، وأنه اختص
بعلم تلك الأجزاء كلها هو وذريته، فلذا كان إذا سئل - هو أو أحد من
ذريته - اشتد نكيره.
وللشيخين عن طلحة بن مُصرِّف قال: سألت ابن أبي أوفى: أأوصى
النبي - صلى الله عليه وسلم -؟. قال: لا.
قلت: كيف كتب على الناس الوصية ولم يوص؟.
قال: أوصى "بكتاب الله عز وجل".

(1/380)


وروى الإِمام أحمد عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كان أصحاب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعدوا يتحدثون في الفقه، كانوا يأمرون أن يقرأ رجل سورة.
ولأبي عبيد عن مسروق قال: ما يسأل أصحاب محمد عن شيء إلا
وعلمه في القرآن، ولكن علمنا يقصر عنه.
وله عن الحسن - رحمه الله - قال: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن
يُعلم فيما أنزلت، وما أراد بها.
وله عن عمرو بن مرة قال: إني لأمرُّ بالمثل من كتاب الله لا أعرفه
فأغتم به لقول الله تبارك وتعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) .
وله عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: لو أَعْيَتْني آية من كتاب الله.
فلم أجد أحداً يفتحها عليَّ إلا رجلًا بِبَرْكِ الغِمَاد لرحلتَ إليه.
قال: وهو أقصى حِجْر باليمن.
هذا، ولما لم يجمع كتاب من الكتب السالفة هذه الحروف التي فصل
إليها هذا الحديث الذي رواه ابن مسعود، وكانت جامعة لصلاح الدارين.
أفرد كتابنا بالذكر، ففصل ما فيه، ولم يذكر أحوال الكتب الماضية في ذلك، لأنه لم يجمع كتاب منها جميع هذه الأحرف السبعة.

(1/381)


وإن ادعى أنَّ الإنجيل جمعها، وسلم ذلك، لم يقدر أحد أن يقول: إنه
فصلها تفصيلاً يكفي أهل ذلك الدين جميعَ ما ينوبهم من غير احتياج إلى
شيء آخر بخلاف القرآن، فإنه كاف، والله الهادي.
ولأجل أن الكتب الُأوَل لم تكن كافية لمن أنزلت عليهم في كل أمر
ينوبهم كانت تبعث فيهم الأنبياء لتسوسهم وتُعرفَهُم كل ما يجب عليهم.
وإنما نحن فكتابنا كافٍ، ونزول عيسى عليه السلام إلينا في آخر
الزمان، إنما هو لفتنة الدجال ويأجوج ومأجوج، ومثل ذلك مما لا تحتمله
القوى.
وقد طعن الحافظ أبو عمر بن عبد البر في هذا الحديث، وعلى
تقدير صحته يزول عنه - بما قَررتُه - الإشكال، بأن في التوراة الحلال
والحرام، وفي الإنجيل الأمر والنهى، وفي كل منهما المحكم والمتشابه.
وفي الإنجيل والزبور الأمثال، فهي مفرقة في الكتب السالفة غير مجموعة في واحد منها. والله أعلم.
إنزاله على سبعة أحرف
وروى الِإمام أحمد والطبراني في الكبير، وأبو بكر بن أبي شيبة في

(1/382)


مسنديهما عن سمُرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنزل القرآنُ كل ثلاثة أحرف.
وفي رواية: على سبعة أحرف.
ورواه البزار في مسنده ولفظه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمرنا أن نقرأ القرآن. كما أقرَاناهُ، وقال: أنزل القرآن على ثلاثة أحرف، فلا تختلفوا فيه ولا تجافوا عنه.
وفي رواية: ولا تحاجوا فيه، فإنه مبارك كله، اقرأوه كما أُقرِئْتُموه.
ورواه الطبراني وقال: ولا تحاجوا فيه:. بدل: تجافوا عنه.
قال الهيثمي: ورجال أحمد وأحد إسنادي الطبراني والبزار رجال
الصحيح.
ولا يخالف هذا ما يأتي من إنزاله على سبعة أحرف، لأن في تلك
الأحاديث: أن السبعة ما كانت إلا بعد مراجعة، فربما حمل سمرة رضي الله
عنه هذا الحديث عند الثالثة، فاستمر يرويه ثم استمرت المراجعة إلى تمام
السبعة، ولم يسمع تمام المراجعة. أو سمعها - كما في إحدى رواياته - ورأى أن الثلاثة لا تنافي ما فوقها فإنه ليس فيها نفي له.
وروى الطبراني عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، كلها شافٍ كافٍ.

(1/383)


ورواه الطبراني - أيضاً - عن معاذ بن جبل موقوفاً عليه.
ومثله لا يقال بالرأي.
قال الهيثمي: ورجاله ثقات.
ولمسلم وغيره عن أبي بن كعب رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عند أضاة بني غفار، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتُك القرآن على حرف، فقال: أسال الله معافاته ومغفرته، وإني أمتي لا تطيق ذلك ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين.
فقال: أسال الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه
الثالثة - فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: أسال الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاءه الرابعة فقال:
إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيُما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا.

(1/384)


وفي رواية لابن جرير: فمن قرأ منها حرفاً، فهو كما قرأ.
وفي رواية لأبي داود: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أبي إني أقرئت القرآن، فقيل لي: على حرف أو حرفين؟.
فقال الملك الذي معي: قل على حرفين، فقلت: على حرفين. فقيل لي: على حرفين أو ثلاث؟. فقال الملك الذي معي: قل على ثلاث، فقلت: على ثلاث، حتى بلغ سبعة أحرف، ثم قال: ليس منها إلا شاف كاف، إن قلت: سميعاً عليماً، عزيزاً حكيماً، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب.
وفي رواية الترمذي وقال: حسن صحيح: أن أبَيًّا رضي الله عنه قال:
لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل، فقالوا: يا جبريل بعثت إلى أمة أميين، فيهم العجوز والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتاباً قط، فقال لي: يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف.
ورواه أبو داود الطيالسي عن أبي رضي الله عنه، أن جبريل عليه
السلام أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عند أحجار المِرَا. فقال: يا جبريل. فذكر نحوه.
ورواه ابن جرير عن أبي رضي الله عنه قال: لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام عند أحجار المرا. فقال: إني بعثت إلى أمة أميين، منهم الغلام والخادم، والشيخ العاسي، والعجوز، فقال جبريل عليه السلام:

(1/385)


فليقرأوا القرآن على سبعة أحرف.
وروى الإمام أحمد عن حذيفة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لقيت جبريل عليه السلام عند أحجار المرا.
فذكره.
وفي بعض طرقه: إن أمتك يقرأون القرآن على سبعة أحرف.
وفي رواية: إن من أمتك الضعيف، فمن قرأ منهم على حرف، فليقرأ
كما علم ولايرجع عنه.
وفي رواية: فلا يتحول منه إلى غيره رغبة عنه.
ورواه البزار - قال الهيثمي: وفيه عاصم بن بهدلة وهو ثقة وفيه كلام
لا يضر وبقية رجاله رجال الصحيح - ولفظه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقي جبريل عليه السلام عند أحجار المرا فقال: إني أرسلت إلى أمة أمية وإلى من لم يقرأ كتاباً قط، فقال جبريل إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف، فقال: ميكائيل عليه السلام: استزده، فقال: اقرأ على حرفين، فقال ميكائيل: استزده، حتى بلغ سبعة أحرف.
ورواه أبو عبيد في الفضائل، وأحمد، عن حذيفة رضي الله عنه.
ولفظه: لقيت جبريل عليه السلام عند أحجار المرا، فقلت: يا جبريل إني
أرسلت إلى أمة أمية فيهم، الرجل، والمرأة والغلام، والجارية، والشيخ
الفاني - وقال أحمد: العاسي - الذي لم يقرأ كتاباً قط، فقال: إن القرآن
أنزل على سبعة أحرف.

(1/386)


ورواه الطبراني والبزار بنحوه.
والمرا: قال عبد الغافر الفارسي في "مجمع الغرائب" وابن الأثير في
النهاية:. بكسر الميم: هي قباء، انتهى.
وقال في القاموس: وأحجار المرا: قباء خارج المدينة، وأحجار الزيت:
موضع داخل المدينة.
وهذا بناء منه على أن المدينة: الموضع الذي فيه قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة
وليس كذلك، بل هي اسم لجميع المحال التي كانت قبائل الأنصار مفرقة
بها، فيما بين أحُد وعَيْر، وبني النضير وقريظة.
فيكون المكان داخل المدينة.
ويوجد في كثير من الكتب "أحجار المرى" بياء بعد الراء ممدوداً، كما هو
الظاهر جمع مروة، مثل فروة وفرا. فنوع من الحجارة صلب براق، وكتابته
بالياء وهم.
وإن كان مقصوراً، جازت كتابته بالياء. والله أعلم.

(1/387)


وسيأتي إن شاء الله بيان المراد بقوله: سميعاً عليماً، عزيزاً حكيماً، في
سورة النحل.
بيان المراد بالأحرف السبعة
واختلفوا في المراد بسبعة أحرف.
فقال المعظم: هي لغات.
واختلفوا في معنى سبعة، هل هو الحصر، أو المبالغة؟.
واختلف من قال بالحصر في التعيين:
فعن أبي عبيد القاسم بن سلام: إنها لغة قريش، وهذيل، وثقيف.
وهوازن وكنانة، وتميم واليمن.
وعند بعضهم: خزاعة.
وعند آخرين: الأزد، وربيعة.
وعن علي وابن عباس رضي الله عنهم: أنه أنزل بلغة كل حي من
أحياء العرب.
وهذا يدل على أنهما فَهِمَا أن المراد بالسبعة: المبالغة، لا الحصر.
قال أبو شامة في كتابه "المرشد الوجيز": وهذا هو الحق، لأنه إنما

(1/388)


أبيح أن يقرأ بغير لسان قريش توسعة على العرب، فلا ينبغي أن يوسع على
قوم دون قوم، انتهى.
وهذا في غاية الموافقة للأحاديث الذاكرة أن السبب في المراجعة:
التخفيف على الأمة، والله الهادي.

(1/389)


وروى ابن جرير في مقدمة التفسير، وأبو عبيد في الغريب والفضائل.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: سمعت القراء فوجدتهم
متقاربين فاقرأوا كما علمتم، وإياكم والاختلاف والتنطع، فإنما هو كقول
أحدكم: هلم وتعال، وإنه من قرأ منكم على حرف، فلا يتحولن عنه إلى
غيره.
وقال ابن جرير: فمعلوم أن عبد الله رضي الله عنه لم يعن بقوله هذا
من قرأ ما في القرآن من الأمر والنهي، فلا يتحول إلى قراءة ما فيه من
الوعد والوعيد ونحو ذلك.
وإنما عني: أن من قرأ بحرف، فلا يتحول منه إلى غيره رغبة عنه.
وحرفه: قراءته.

(1/395)


تقول العرب لقراءة الرجل: حرف فلان، ولواحد من حروف الهجاء
المقطعة: حرف، كما تقول للقصيدة: كلمة.
فمن قرأ بحرف أبي، أو بحرف زيد، أو غيرهما من القراء، من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يتحول منه إلى غيره رغبة عنه، فإن الكفر ببعضه كفر بجميعه، والكفر بحرف من ذلك، كفر بجميعه.
وروى البزار، وأبو يعلى، وابن جرير واللفظ له، عن أنس رضي الله
عنه أنه قرأ: "إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأصوب قيلا" فقال له بعض
القوم: يا أبا حمزة إنما هي: "وأقوم قيلا". فقال: أقوم، وأصوب، وأهدى
واحد.
وفي رواية غيره، سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول في قوله
تعالى: "وأقوم قيلا" قال: وأصدق قيلا. فقيل له: إنما تقرأ: وأقوم. فقال: أقوم وأصدق واحد.
قال الهيثمي: ورجال أبي يعلى رجال الصحيح، ورجال البزار
ثقات.
وللشيخين، وأبي عبيد، وابن جرير، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أقرأني جبريل على حرف - قال ابن جرير فاستزدته فزادني، وقال الشيخان - فراجعته فزادني، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف.

(1/396)


قال ابن شهاب: بلغني أن تلك الأحرف إنما هي في الأمر يكون
واحداً لا يختلف في حلال، ولا حرام.
وللطبراني في الأوسط - قال الهيثمي: وفيه جعفر لم أعرفه، وبقية رجاله
ثقات - عن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: أتى محمداً - صلى الله عليه وسلم - المَلَكانِ، فقال أحدهما: اقرأ القرآن على حرف، فقال الآخر: زده، فما زال يستزيده حتى قال: اقرأ القرآن على سبعة أحرف.
ولأبي عبيد، وأبي بكر بن أبي شيبة، والِإمام أحمد، والطبراني، وابن
جرير عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه رضي الله عنه، أن جبريل عليه
السلام قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ القرآن على حرف، فقال له ميكائيل: عليه السلام: استزده. فاستزاده، فقال: على حرفين، فقال ميكائيل عليه السلام: استزده، فقال له: زدني، قال: خذه على ثلاث أحرف، حتى بلغ سبعة أحرف فسكت ميكائيل، فقال جبريل: على سبعة أحرف، كلها كاف شاف.
كقولك، هلم وتعال، وأقبل، واذهب.
وفي رواية: أدبر وأسرع وأعجل، ما لم تختم آية رحمة بآية عذاب، أو آية
عذاب بآية رحمة.

(1/397)


قال الهيثمي: وفيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ثقة سيء الحفظ.
وقد توبع، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح.
ورواه مُسَدد في تفسيره ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاني جبريل عليه السلام ومعه ميكائل عليه السلام، فقال جبريل: خذ القرآن على حرف.
فأوما إليه ميكائيل: أن استزده، فقال: زدني، قال: خذه على حرفين فقال: استزده، فقال زدني، قال: خذه على ثلاثة أحرف، فكل مرة يومىء إليه: أن استزده، حتى بلغ سبعة أحرف، قال: فسكت ميكائيل، فقال جبريل: خذه على سبعة أحرف، كلها كاف شاف، كقول الرجل: هلم وأقبل، واذهب وأدبر ما لم تختم آية رحمة بعذاب، أو عذاب برحمة.
وأخرجه الِإمام أحمد بإسنادين - قال الهيثمي: رجال أحدهما رجال
الصحيح - والبزار، وأبو جعفر بن جرير الطبري في أول تفسيره، عن أبي
هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف.
عليم حكيم غفور رحيم.
وفي رواية: أنزل القرآن على سبعة أحرف، فالمراء في القرآن كفر -
ثلاث مرات - فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم فردوه إلى عالمه.

(1/398)


وفي رواية: فاقرأوا ولا حرج، ولكن لا تجمعوا ذكر رحمة بعذاب، ولا
ذكر عذاب برحمة
ورواه عنه - أيضاً - أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده، وابن حبان في
صحيحه ولفظه: أنزل القرآن على سبعة أحرف: عليماً حكيما، غفوراً رحيماً.
وروى الِإمام أحمد، والحميدي، وأبو يعلى، في مسانيدهم، وابن جرير
والطبراني في الكبير - قال الهيثمي: ورجاله ثقات - عن أم أيوب الأنصارية
رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: نزل القرآن على سبعة أحرف أيها قرأت، أصبت.
وروى الِإمام أحمد، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر، في مسنديهما عن عمرو
ابن العاص، رضي الله عنه، أن رجلًا قرأ آية من القرآن، فقال له عمرو:
إنما هي كذا وكذا، لغير ما قرأها الرجل، قال الرجل: هكذا أقرأنيها رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتياه، فقال: يا رسول الله، آية كذا، وكذا، فقرأها عليه فقال: صدقت، فقال الآخر: أليس أقرأتنِيها - على نحو ما قرأها على صاحبه - فرد صاحبه عليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بلى، أنزل القرآن على سبعة أحرف.
فأي ذلك قرأت، فقد أصبت.
وفي رواية: فأي حرف قرأتم، فقد أصبتم، ولا تتماروا فيه، فإن المراء
فيه كفر.
ورواه الإمام أحمد، وأبو عبيد في الفضائل، عن أبي قيس مولى عمرو
بن العاص قال: سمع عمرو بن العاص رجلا يقرأ آية من القرآن، فقال:

(1/399)


من أقرأكها؟. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فقد أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غيرهذا.
فذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أحدهما: يا رسول الله آية كذا وكذا، ثم قرأها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هكذا أنزلت وقال الآخر: يا رسول الله، فقرأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: أليس هكذا يا رسول الله؟. فقال:
هكذا أنزلت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فأي ذلك قرأتم أصبتم، ولا تماروا فيه، فإن المراء فيه كفر، أو آية الكفر
قال الحافظ الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، إلا أنه مرسل.
وللبخاري والنَّسائي، وأبي عبيد، عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه
سمع رجلًا يقرأ آية سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها على خلاف ذلك.
قال: فأخذت بيده فانطلقت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: اقرأ فكلاكما محسن، ولا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو يعلى، في مسنديهما، عن عبد الله
رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنزل القرآن على سبعة أحرف.
زاد أبو يعلى: ولكل آية منها ظهر وبطن.
ورواه الطبراني عنه، ولفظه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن صاحبكم خليل الله، ونزل القرآن على سبعة أحرف.
لكل آية منها ظهر وبطن.

(1/400)


ورواه ابن جرير الطبري في مقدمة التفسير عنه أيضاً ولفظه: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل حرف منها ظهر وبطن.
ولكل حرف حد. ولكل حد مطلع.
ورواه ابن جرير - أيضاً - عن عبد الله رضي الله عنه، أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف، كلها شافٍ كافٍ.
النهي عن المراء والجدال في القرآن
ولابن جرير عنه - أيضاً - رضي الله عنه قال: اختلف رجلان في
سورة، فقال هذا: أقرأني النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال هذا: أقرأني النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره بذلك، قال: فتغير وجهه وعنده رجل فقال: اقرأوا كما
علمتم - فلا أدري: أشيء أمر به، أم شيء ابتدعه من قِبَل نفسه - فإنما
أهلك من كان قبلكم اختلافهم على أنبيائهم.
قال: فقام كل رجل منا وهو يقرأ على قراءة صاحبه. نحو هذا، أو معناه.
ورواه أبو عبيد عنه رضي الله عنه وقال: فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده رجل أنتم له كذا وكذا - يعني: عليا رضي الله عنه - فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال علي - فلا أدري أشيء أسرَّه إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم أسمعه، أم
علم الذي في نفسه فتكلم به -: قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمركم أن يقرأ كل أحد كما عُلّم.

(1/401)


وروى عن عبد الله أيضاً رضي الله عنه قال: تمارينا في سورة من
القرآن، فقلنا: خمس وثلاثون، أو ست وثلاثون (آية) قال: فانطلقنا إلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوجدنا عليا رضي الله عنه يناجيه، قال: فقلنا: إنا اختلفنا في القراءة؟.
قال: فاحمر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم على أنبيائهم، قال: ثم أسرَّ إلى علي رضي الله عنه أشياء، فقال لنا علي رضي الله عنه: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمركم أن تقرأوا القرآن كما عُلِّمتم.
وروى الطبراني قي الكبير، والطبري في مقدمة التفسير، عن زيد بن
أرقم رضي الله عنه، أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أقرأني عبد الله ابن مسعود رضى الله عنه سورة أقرأنيها زيد رضى الله عنه وأقرأنيها أبي بن كعب رضي الله عنه، فاختلفت قراءاتهم، بقراءة أيهم آخذ؟.
قال: فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: وعلي رضي الله عنه إلى جنبه، فقال علي: ليقرأ كل إنسان بما عُلِّم، كل حسن جميل.
ولأحمد، وابن جرير وهذا لفظه وسياقه، عن علقمة قال: لما خرج

(1/402)


عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه من الكوفة، اجتمع إليه أصحابه، فودعهم
ثم قال: لا تنازعوا في القرآن، فإنه لا يختلف، ولا يتلاشى، ولا يتغير لكثرة
الرد، وإن شريعة الإِسلام واحدة، وحدوده وفرائضه فيه واحدة، لو كان
شيء من الحرفين ينهي عن شيء مما أمر به الآخر، لكان ذلك الاختلاف.
ولكنه جامع ذلك كله، لا تختلف فيه الحدود ولا الفرائض، ولا شيء من
شرائع الإسلام، ولقد رأيتنا نتنازع فيه عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيأمرنا فنقرأ عليه، فيخبرنا أنا كلنا محسن. ولو أعلم أحداً أعلم بما أنزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مني لطلبته حتى أزداد علْمَهُ (إلى) علمي، ولقد قرأت من لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعين سورة، وقد كنت علمت أنه يعرض عليه القرآن في كل
رمضان، حتى كان عام قبض، فعرض عليه مرتين، فكان إذا فرغ أقرأ عليه، فيخبرني أني محسن، فمن قرأ على قراءتي فلا يدعها رغبة عنها، ومن قرأ على شيء من هذه الحروف، فلا يدعنَّهُ رغبة عنه، فإنه من جحد بآية - وفي
رواية: بحرف منه - جحد به كله.
ورواه الطبراني عن عبد الرحمن بن عابس، حدثنا رجل من همذان.
من أصحاب عبد الله - وما سماه لنا - قال: لما أراد عبد الله أن يأتي المدينة.
جمع أصحابه فقال: والله إني لأرجو أن يكون قد أصبح فيكم من الفضل
ما أصبح في أجناد المسلمين من الدين والفقه، والعلم بالقرآن. إن هذا
القرآن لا يختلف، ولا يستشنأ ولا ينفذ لكثرة الرد، فمن قرأ على حرف، فلا يدعه رغبة عنه، فإنه من يجحد بآية منه، يجحد به كله، فإنما هو كقول
أحدكم لصاحبه: أعجل وحيهلا (1) .
__________
(1) نصه في مسند الإمام أحمد:
3652 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ قَالَ حَدَّثَنَا رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ وَمَا سَمَّاهُ لَنَا قَالَ
لَمَّا أَرَادَ عَبْدُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمَدِينَةَ جَمَعَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصْبَحَ الْيَوْمَ فِيكُمْ مِنْ أَفْضَلِ مَا أَصْبَحَ فِي أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الدِّينِ وَالْفِقْهِ وَالْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى حُرُوفٍ وَاللَّهِ إِنْ كَانَ الرَّجُلَانِ لَيَخْتَصِمَانِ أَشَدَّ مَا اخْتَصَمَا فِي شَيْءٍ قَطُّ فَإِذَا قَالَ الْقَارِئُ هَذَا أَقْرَأَنِي قَالَ أَحْسَنْتَ وَإِذَا قَالَ الْآخَرُ قَالَ كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ فَأَقْرَأَنَا إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَالْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَالْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَالْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَاعْتَبِرُوا ذَاكَ بِقَوْلِ أَحَدِكُمْ لِصَاحِبِهِ كَذَبَ وَفَجَرَ وَبِقَوْلِهِ إِذَا صَدَّقَهُ صَدَقْتَ وَبَرَرْتَ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يُسْتَشَنُّ وَلَا يَتْفَهُ لِكَثْرَةِ الرَّدِّ فَمَنْ قَرَأَهُ عَلَى حَرْفٍ فَلَا يَدَعْهُ رَغْبَةً عَنْهُ وَمَنْ قَرَأَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْحُرُوفِ الَّتِي عَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَدَعْهُ رَغْبَةً عَنْهُ فَإِنَّهُ مَنْ يَجْحَدْ بِآيَةٍ مِنْهُ يَجْحَدْ بِهِ كُلِّهِ فَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ لِصَاحِبِهِ اعْجَلْ وَحَيَّ هَلًا وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ رَجُلًا أَعْلَمَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِّي لَطَلَبْتُهُ حَتَّى أَزْدَادَ عِلْمَهُ إِلَى عِلْمِي إِنَّهُ سَيَكُونُ قَوْمٌ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ فَصَلُّوا الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا وَاجْعَلُوا صَلَاتَكُمْ مَعَهُمْ تَطَوُّعًا وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعَارَضُ بِالْقُرْآنِ فِي كُلِّ رَمَضَانَ وَإِنِّي عَرَضْتُ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ مَرَّتَيْنِ فَأَنْبَأَنِي أَنِّي مُحْسِنٌ وَقَدْ قَرَأْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعِينَ سُورَةً. اهـ.

(1/403)


وروى أبو عبيد في غريب الحديث، عن عمر بن الخطاب، وأبى رضي
الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف، كلها كاف شاف.
قال: وبعضهم يرويه: فاقرأوا كما علمتم.
وروى هذا الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، من طريق
البخاري مثل رواية أبي يعلى.
ورواه الِإمام أحمد مختصراً.
وروى الإِمام أحمد - أيضاً - وهذا لفظه، والحارث في مسنديهما، وابن
جرير في مقدمة التفسير، وأبو عبيد في الغريب والفضائل، عن أبي الجهم -
ويقال: أبو الجهيم - الأنصاري رضي الله عنه: أن رجلين اختلفا في آية من
القرآن، قال هذا: تلقيتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال الآخر: تلقيتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: القرآن يقرأ على سبعة أحرف.
وفي رواية للحارث: أن رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تماريا في آية من القرآن، كلاهما يزعم أنه تلقاها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلاهما ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سمعها منه.
ذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فلا تماروا في القرآن، فإن مراء فيه كفر.
قال الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح.
وروى الحارث بن أسامة، وأبو يعلي في مسنديهما بسند منقطع، أن
عثمان رضي الله عنه قال على المنبر: اذَكِّرُ الله رجلاً سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:

(1/404)


إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، كلهن كاف شاف، لما قام، فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا بذلك، ثم قال عثمان: وأنا أشهد معكم لأني سمعت رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك.
وسيأتي في سورتي النحل والفرقان أحاديث كثيرة من هذا.
ويأتي هناك عن أبي عبيد: أنها متواترة المعنى.
وللشيخين، وأبي عبيد، والدارمي، عن جندب بن عبد الله البجلي
رضي الله عنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اقرأوا القرآن ما اتفقت - وفي رواية: ما ائتلفت - عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه.

(1/405)


ولأبي عبيد عن نافع بن سهيل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ القرآن ما نهاك، فإذا لم يَنْهَكَ فَلَسْتَ تقرأ.
أو قال: فلا تقرأه.
وقال ابن رجب: وروى يعقوب بن أبي شيبة، عن عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه قال: اقرأ القرآن ما نهاك، فإذا لم ينهك فلست تقرؤه.
وروى عن الحسن ومكحول، من قولهما.
وروى مرفوعا عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما بإسناد
لا يصح.
وروى مسلم في القدر، والنسائي في فضائل القرآن والمواعظ، وأبو
داود الطيالسي، ومُسَدد، وأبو بكر بن أبي شيبة، والحارث بن أبي أسامة، في مسانيدهم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: هجَّرت إلى رسول
الله - سبب يوما، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يُعرف في وجهه الغضبُ، فقال: إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم على أنبيائهم.

(1/406)


وفي رواية: تنازعنا - أي القرآن - على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال قائل:
ألم يقل الله كذا وكذا؟. فأجابه الآخر: ألم يقل الله كذا وكذا؟.
وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة: جئت يوماً، فإذا نفر من أصحاب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلوس بفناء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكنت من ورائهم، وكنت من
أصغر القوم، فقال رجل: يا فلان فيم أنزلت آية كذا وكذا؟. فاختلفوا"
وعلت أصواتهم. وفي رواية له كنا جلوساً عند باب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟.
وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟.
وفي رواية الحارث: جلست من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مجلساً، ما جلست قبله ولا بعده، أغبط عندي منه.
قال: قعد من وراء حجرته قوم يتجادلون بالقرآن فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج مُغْضَباً كأنما فقيء في وجهه حب
الرمان.
وفي رواية الحارث: فخرج محمرةً وجْنتَاه كأنما يقطران دماً، فقال: يا
قوم أبهذا أمرتم، أبهذا بعثتم. إن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، ولا
تجادلوا بالقرآن، إنما ضل من كان قبلكم بجدالهم.
وفي رواية: دعوا المراء في القرآن، إنما هلك الأمم قبلكم بهذا.
وفي رواية: قال: الأمم قبلكم لم يلعنوا حتى اختلفوا في القرآن، إن القرآن
لم ينزل ليكذِّب بعضُه بعضاً، ولكن نزل ليصدِّق بعضُه بعضاً، فانظروا ما
أمرتم به فاتبعوه، وما نهيتم عنه فاجتنبوه.
وفي رواية: فما كان من محكم فاعملوا به، وما كان من متشابهه

(1/407)


فآمنوا به ولستم مما ههنا في شيء، فإن المراء - وفي رواية: فكل مراء - في
القرآن كفر.
وفي رواية: لا تجادلوا في القرآن، فإن جدالاً فيه كفر.
وفي رواية أبي عبيد في الفضائل من طرق كثيرة، عن عبد الله بن عمرو
بن العاص رضي الله عنهما قال: صلينا - وفي رواية: صليت - مع رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - الغداة، فتنحى ناس من أصحابه في بعض حجر أزواجه يقرأون القرآن، فتنازعوا في شيء منه، وأنا منتبذ عنهم - وفي رواية: فجلست ناحية - فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مغْضَباً فقال: إن القرآن يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذبوا بعضه ببعض، ماعلمتم منه فاقبلوه، وما لم تعلموا فَكِلُوه إلى عالمه.
قال: قال عبد الله بن عمرو: فما اغتبطت بشيء اغتباطي بانتباذي عنهم
إذ لم تصبني عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال شيخنا البوصيري بعد سوق هذه الروايات مفصلة: ورواه ابن
ماجة في سننه مختصراً، بإسناد صحيح، من طريق أبي معاوية عن داود -
يعني: ابن أبي هند - عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضى الله
عنه.

(1/408)


وساقه ابن رجب من هذه الطريق، وقال فيه: لا تجادلوا، فإنما هلكت
الأمم من قبلكم بهذا، جادلوا القرآن بعضه ببعض، فما كان فيه من حلال
فاعملوا به، وما كان فيه من حرام فدعوه وانتهوا عنه، وما كان فيه من
متشابه فآمنوا به.
وروى مسدد في مسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا تضربوا
كتاب الله بعضه ببعض، فإن ذلك يوقع الشك في قلوبكم.
وروى أبو داود: وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله
عنه، والطبراني وغيره عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: المراء في القرآن كفر.
قال أبو عبيد في غريب الحديث: ليس المراد بهذا المراء في التأويل بل
في اللفظ، (على) أن يقرأ الرجل القرآن على حرف، فيقول له الآخر:
ليس هو كذا، ولكنه هكذا، على خلافه، وقد أنزلهما الله (تعالى) جميعاً.
انتهى.
وهو في المراء، الذي يلزم منه - لا محالة - الكفر، لأن مطلق الجدال
منهى عنه كما دل عليه حديث عبد الله بن عمرو الماضي وغيره، سواء كان في اللفظ أو المعنى لأنه لا يأتي إلا من ارتكاب الهوى.
ومتى ترك حظ النفس، حصل الاتفاق على ما يظهر من النصوص.
لأنه لا اشتباه فيه أصلاً.

(1/409)


وإن تعارض الظاهران، صرف أحدهما إلى أقرب ما يحتمله من ظاهر
آخر وإن أشكل الحال، وجب أن نكف، ويقال: آمنا به، كل من عند ربنا.
وروى أبو بكر بن أبي عاصم، عن النواس بن سمعان، عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، ولا تكذبوا بعضه ببعض، فوالله إن المؤمن ليجادل بالقرآن فيُغْلَبُ، وإن المنافق - أو قال: الفاجر - ليجادل بالقرآن فَيَغْلِب.
وقال - أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن يونس بن عبيد قال:
كتبت إلى ميمونُ بن مهران، فأتاني كتابه، فذكر فيه أشياء ومنها:
ولا تمارين عالماً ولا جاهلاً، فإنك إذا ما ريت الجاهل خشن
بصدرك، (أولم يطعك، وإذا ما ريت العالم خزن عنك علمه، ثم لم
يبال ما صنعت.
ورواه الدارمي في أوائل مسنده قال: أخبرنا سعيد بن عامر عن
إسماعيل ابن إبراهيم فذكره بمعناه.
خطأ من يقول في القرآن برأيه
وروى أبو داود في العلم، والترمذي في التفسير وقال: غريب وقد
تكلم بعض أهل العلم في سهل بن أبي حزم. والنَّسائي في فضائل القرآن،

(1/410)


وابن جرير في مقدمة التفسير، عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ.
والمعنى: أخطأ في إقدامه على الكلام بالرأي.
وروى هؤلاء الأربعة أيضاً في الأبواب المذكورة، وقال الترمذي: حسن
عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اتقوا الحديث عني إلا ما علمتم، فمن كذب عليَّ فليتبوأ مقعده من النار.
وقد كتبت في بيان المعنى الرواية التي فيها "بغير علم" فبينت أن النهى
عنه: الكلام بمحض الرأي، من غير استناد إلى شيء من قوانين العلم.
وأما من تدبر كما أمره الله، وتكلم بما أدى إليه اجتهاده، فيما يعلم من
لسان العرب، وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأقوال السلف، فأظهر المعنى، لم يُسبق إليه، جارياً على تلك القوانين، غير مخالف لها، فلقد أجاد كل الإِجادة وأفاد أعظم الإفادة.

(1/411)


وروى ابن جرير، وأبو يعلي، والبزار، عن عائشة رضي الله عنها، أنها
قالت: ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفسر شيئاً من القرآن برأيه، إلا آياً تعد، علمهن إياه جبريل عليه السلام.
وهذا الحديث ضعيف.
قال الحافظ نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد: فيه راو لم يحرر اسمه
عند واحد منهما، أما البزار فقال: عن حفص - أظنه ابن عبد الله - عن
هشام بن عروة وقال أبو يعلي: عن فلان بن محمد، بن خالد، عن هشام.
انتهى.
وأما ابن جرير فسماه: جعفر بن محمد الزبيري، وقال: إنه ممن لا
يعرف في أهل الآثار، فلا يجوز الاحتجاج بخبره. انتهى.
فقد كفانا ضعفُه مؤنتَه.
وعلى تقدير صحته، فالمراد: آي من المغيبات. ونحو ذلك، مما لا
سبيل للبشر إلى الِإطلاع عليه، إلا بالوحي.
وإلا كان ذلك - كما قال ابن جرير - مخالفاً لقول الله تعالى:
(بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) .
فلو اقتصر على آي معدودة، لم يكن مبيناً لهم ما نزل إليهم، بل بعضه
ولكان مخالفاً لما رواه ابن مسعود رضي الله عنه.

(1/412)


قال: كان الرجل إذا تعلم عشر آيات، لم يجاوزهن، حتى يعرف
معانيهن والعمل بهن.
وغير ذلك مما شابهه عنه، وعن غيره من الصحابة، وكلام ابن عباس
البحر في التفسير، وتوسعه فيه معروف، والله الموفق.
ولأبي عبيد - أيضاً - عن إبراهيم التيمي قال: خلا عمر رضي الله عنه
ذات يوم فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد، فأرسل
إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فسأل: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها
واحد وقبلتها واحدة؟.
فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين إنا أنزل علينا القرآنُ فقرأناه، وعلمنا فيم نزل وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرأون القرآن، ولا يدرون فيم نزل، فيكون لهم فيه رأى، فإذا كان لهم فيه رأى اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا.
قال: فزبره عمر رضي الله عنه وانتهره، فانصرف ابن عباس، ونظر
عمر فيما قال فعرفه، فأرسل إليه فقال: أعد علي ما قلت، فأعاده عليه.
فعرف عمر قوله.
وروى أحمد، وابن عبد الحكم في الفتوح، عن عقبة بن عامر رضي
الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: هلاك أمتي في الكتاب واللين.
قالوا: يا رسول الله: وما الكتاب واللين؟.
قال: يتعلمون الكتاب فيتأولونه على غير ما أنزله الله، ويحبون اللين، فيدعون الجماعات والجُمَع.

(1/413)


جمع الصحابة رضي الله عنهم للقرآن
1 - جمع أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وروى البخاري، والترمذي، وأبو عبيد في الفضائل، وأبو بكر بن أبي
داود في كتاب المصاحف، عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أرسل إليَّ
أبو بكر رضي الله عنه قتل أهل اليمامة، وعنده عمر رضي الله عنه، فقال
أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس -
وفي رواية: بقراء القرآن - وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن.
فيذهب كثير من القرآن، إلا أن تجمعوه، وأني لأرى: أن يجمع القرآن.
قال أبو بكر: فقلت لعمر: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟.
فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني فيه، حتى شرح الله لذلك
صدري، ورأيت الذي رأى عمر.
قال زيد بن ثابت: وعمر جالس عنده لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك
رجل عاقل شاب، ولا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتتبع القرآن فاجمعه.
فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال، ما كان أثْقَلَ عليَّ مما أمرني به من
جمع القرآن.
قلت: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟. فقال أبو بكر: هو - والله - خير. فلم أزل أراجعه، حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر.
وفي رواية: فلم يزل يراجعني في ذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
حتى شرح الله صدري، للذي شرح له صدرهما.

(1/414)


فقمت فتتبعت القرآن، أجمعه من الرقاع، والأكتاف والعُسُب.
واللَخَاف - يعني الخزف -، وقال أبو بكر بن أبي داود: اللخف واللخاف: الحجارة الرقاق - وقال: ومن الأضلاع، يعني: الأكتاف. وصدور الرجال، حتى وجدتِ من سورة التوبة آيتين مع خزيمة بن ثابت، أو أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مكتوبتين مع أحد غيره: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
فكانت الصحف التي جُمع فيها القرآن عند أبي بكر رضي الله عنه حتى توفاه الله، ثم عند عمر رضي الله عنه حتى توفاه الله - رضي الله عنه -، ثم عند حفصة بنت عمر، رضي الله عنهم.
ولأبي بكر بن أبي شيبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: لما استحر
القتل بالقراء يومئذ، فرق أبو بكر على القرآن أن يضيع، فقال لعمر بن
الخطاب ولزيد ابن ثابت رضي الله عنهما: اقعدا على باب المسجد، فمن
جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه.
أي بشاهدين يشهدان أن الذي أتى به كتب بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وروى إسحاق بن راهوية، وأحمد بن منيع، عن ابن عباس، عن

(1/415)


أبي بن كعب رضي الله عنهم قال: آخر ما نزل من القرآن (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) .
ورواه عبد الله بن أحمد بلفظ: آخر آية نزلت: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) الآية.
وتقدم في أوائل هذه الفضائل في آخر ما نزل غير هذا.
وروى عبد الله بن الِإمام أحمد، وعبد الله بن أبي داود، عن أبي بن
كعب رضي الله عنه، أنهم جمعوا القرآن في مصاحف - وقال ابن أبي داود:
في مصحف - في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وكان رجال يكتبون، ويملي
عليهم أُبي بن كعب رضي الله عنهم أجمعين، فلما انتهوا إلى هذه الآية من
سورة براءة (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
فظنوا أن هذا آخر ما أنزل من القرآن فقال لهم أبي بن كعب رضي الله عنه:
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرأني آيتين: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) .
قال: هذا آخر ما أنزل من القرآن.
فختم (الأمر) بما فتح الله به: بالله الذي لا إله إلا هو، وهو قوله
تبارك وتعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) .

(1/416)


وروى عبد الله بن الِإمام أحمد - أيضاً - والطبراني في الكبير، عن أبي
بن كعب رضي الله عنه قال: آخر آية نزلت: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) الآية.
قال الهيثمي: وفيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ثقة سيء الحفظ.
وبقية رجاله ثقات.
وروى عبد الله بن الِإمام أحمد، وأبو بكر بن أبي داود، عن عباد بن
عبد الله ابن الزبير قال: أتى الحارث بن خزيمة رضي الله عنه بهاتين
الآيتين من آخر سورة براءة (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إلى عمر بن
الخطاب، فقال: من معك على هذا؟. قال: لا أدري، والله إني لسمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووعيتها وحفظتها، فقال عمر رضي الله عنه: وأنا أشهد لسمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: لو كانت شت ثلاث آيات، لجعلتها سورة
على حدة، فانظروا أي سورة من القرآن فضعوها فيها، فوضعها في آخر
براءة.
وروى ابن أبي داود، عن عبد الرحمن بن يحيى بن حاطب، أن عثمان
رضي الله عنه قال: من كان عنده شيء من كتاب الله فليأتنا به، وكان لا
يقبل شيئاً من ذلك حتى يشهد عليه شاهدان، فجاء خزيمة بن ثابت فقال:

(1/417)


إني قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما، قيل: وما هما؟. قال: تلقيت من
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ)
إلى آخر السورة، فقال عثمان رضي الله عنه: وأنا أشهد أنهما من عند الله، فأين ترى أن نجعلهما؟.
فقال: اختم بهما آخر ما نزل من القرآن، فختمت بهما براءة.
2 - جمع عثمان رضي الله عنه.
وروى البخاري والترمذي، وابن أبي داود عن أنس رضي الله عنه.
أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، قدم على عثمان رضي الله عنه، وكان
يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان، مع أهل العراق.
وفي رواية: كان يغازي أهل الشام مع أهل العراق، في فتح أرمينية
وأذربيجان.
وقال ابن أبي داود: في مرج أرمينية، وقال المرج: الثغر.
وفي رواية له: وكان يغزو قِبَلَ أرمينية وأذربيجان، وأهل الشام.
فتنازعوا في القرآن.
وفي رواية: اجتمع لغزوة أذربيجان وأرمينية أهل الشام وأهل العراق.
فتذاكروا القرآن، فاختلفوا فيه، حتى كاد يكون بينهم فتنة، فأفزع حذيفة
رضي الله عنه اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان رضي الله عنهما -
وفي رواية: فركب حذيفة بن اليمان لما رأى من اختلافهم إلى عثمان فقال:
يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود
والنصا رى.
قال ابن أبي داود: ففزع لذلك عثمان فزعاً شديداً، فأرسل عثمان إلى
حفصة رضي الله عنهما: أن أرسلي إلينا بالصحف - وفي رواية: بالمصحف -

(1/418)


ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة (رضي الله
عنها) إلى عثمان (رضي الله عنه) ، فأمر زيداً بن ثابت وعبد الله بن
الزبير، وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام رضي الله
عنهم، فنسخوا في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا
اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما
نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، رد عثمان
الصحف إلى حفصة رضي الله عنها، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما
نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن - في كل صحيفة أو مصحف - أن يُحْرَق.
وقال ابن أبي داود، وقال غيره: أن يُخَرق.
أي بالمعجمة.
وفي رواية له: وأرسل إلى كل جند من أجناد المسلمين بمصحف.
وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسل به، فذلك زمان
حرقت المصاحف بالعراق بالنار.
وروى ابن جرير عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه اجتمع في
غزوة أذربيجان وأرمينية أهل الشام وأهل العراق، فتذاكروا القرآن، فاختلفوا فيه، حتى كاد يكون بينهم فتنة، فركب حذيفة - لما رأى اختلافهم في القرآن
- إلى عثمان رضي الله عنهما فقال: إن الناس اختلفوا في القرآن، حتى إني
خشيت أن يصيبهم مثل ما أصاب اليهود والنصارى من الاختلاف.
قال: ففزع لذلك فزعاً شديداً، فأرسل إلى حفصة رضي الله عنها.
فاستخرج الصحيفة التي كان أبو بكر رضي الله عنه أمر زيداً رضي الله عنه
بجمعها، فنسخ منها مصاحف، فبعث بها إلى الآفاق.

(1/419)


وروى الِإمام أبو عمرو الداني في كتابه "المقنع في الرسم" عن حذيفة
رضي الله عنه، أنه قال لعثمان بن عفان رضي الله عنه: ما كنت صانعاً إذا
قال الناس: قراءة فلان، وقراءة فلان كما صنع أهل الكتاب؟ ، فاصنع الآن فجمع عثمان الناس على هذا المصحف، وهو حرف زيد رضي الله عنه.
حرق عثمان الصحف بعد نسخ المصحف
ولابن أبي داود في كتاب المصاحف، عن سالم وخارجه: أن أبا بكر
الصديق رضي الله عنه كان جمع القرآن في قراطيس، وكان قد سأل زيداً بن
ثابت (رضي الله عنه) النظر في ذلك، فأبي حتى استعان عليه بعمر رضي
الله عنه، ففعل، فكانت تلك الكتب عند أبي بكر رضي الله عنه، حتى
توفي، ثم عند عمر رضي الله عنه حتى توفي، ثم عند حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - فأرسل إليها عثمان رضي الله عنه، فأبت أن تدفعها، حتى عاهدها ليردنها إليها، فبعثت بها إليه، فنسخها عثمان في هذه المصاحف، ثم ردها إليها، فلم تزل عندها حتى أرسل إليها مروان، فأخذها فحرقها.
وفي رواية: فلما كان مروان أمير المدينة، أرسل إلى حفصة رضي الله
عنها يسألها عن الصحف ليحرقها.
وفي رواية أبي عبيد: ليمزقها، وخشى أن يخالف بعض الكتَّاب
بعضا فمنعته إياها.
قال ابن شهاب: فحدثني سالم بن عبد الله قال: فلما توفيت حفصة.
أرسل إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بعزيمة ليرسلن بها ساعة رجعوا

(1/420)


من جنازة حفصة فأرسل بها عبد الله بن عمر إلى مروان فغشاها.
وحرقها.
وفي رواية أبي عبيد: فمزقها مخافة أن يكون في شيء من ذلك اختلاف
لما نسخ عثمان رضي الله عنه.
وفي رواية: فأمر بها فشقت.
وقال مروان: إنما فعلت هذا، لأن ما فيها قد كتب وحفظ بالمصحف.
فخشيت - إن طال بالناس زمان - أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب.
أو يقول: إنه قد كان منها شيء لم يكتب.
وروى الطبراني - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح - عن سالم أن
مروان كان يرسل إلى حفصة رضي الله عنها يسألها عن المصحف الذي
نسخ منه القرآن، فتأبى حفصة أن تعطيه إياها، فلما دفنا حفصة، أرسل
مروان إلى ابن عمر رضي الله عنهما أرسل إلي بذلك الصحف.
فأرسلها إليه.
وقال أبو عبيد في الفضائل - بعد أن روي الحديث -: لم تسمع في
شيء من الحديث أن مروان هو الذي مزق المصحف إلا في هذا الحديث.
وروى أبو عبيد عن عمرو بن شرحبيل أبي ميسرة قال: أتى علي رجل
وأنا أصلي فقال: ثكلتك أمك، ألا أراك تصلي، وقد أمر بكتاب الله أن
يمزق؟. قال: فتجوزت في صلاتي، وكنتُ لا أحْبَسُ، فدخلت الدار فلم أحبس، ورقيت فلم أحبس فإذا أنا بالأشعري، وإذا حذيفة وابن مسعود رضي الله عنهم يتقاولان، وحذيفة يقول لابن مسعود: ادفع إليهم المصحف. فقال:

(1/421)


والله لا أدفعه، فقال: ادفعه اليهم فإنهم لا يألون أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خيراً، فقال: والله لا أدفعه، أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعاً وسبعين سورة، ثم أدفعه إليهم؟.
والله لا أدفعه إليهم.
وللبخاري وأبي عبيد وعبد بن حميد، عن خارجة بن زيد بن ثابت، أنه
سمع زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: لما نسخنا الصحف في المصحف.
فقدت آية من سورة الأحزاب، كنتُ كثيرا أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري.
وفي رواية: فالتمسناها، فوجدناها مع خزيمة الذي جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهادته بشهادة رجلين:
(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)
وفي رواية: مع خزيمة، فألحقناها في سورتها في الصحف.
قال عبد في روايته: ؤكان خزيمة يُدعى ذا الشهادتين، فقتل يوم
صفين، مع عليٍّ رضي الله عنهما.

(1/422)


وفي الأثر الأول دلالة على أنه كان لا أمره الصديق رضي الله عنه ألا
يكتب إلا إذا كان قد وجد مكتوباً بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره، وقابله - مع ذلك - على المحفوظ في صدور الرجال.
وفي هذا الأخير دليل من قوله: "نسخنا الصحف في المصاحف" إلى
آخره أنه أعاد التتبع كما فعل أولًا، ليصح قوله: "فقدت آية من سورة
الأحزاب". لأن افتقادها فرع العلم بها، ومن أبعد البعيد: أن يكون سمع
النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيراً يقرؤها ولا يحفظها، ولا سيما وهو مذكور فيمن جمع القرآن في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والظاهر من هذا التتبع الذي لا يجوز لمن مارس أمثال هذه الهمم أن
يفهم غيره: أن يكون لا ينقل آية، إلا إذا وجد من صفاتها على حسب ما
هي مكتوبة عدد التواتر، ولإرادة حفظ هذا المكتوب بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبأمره إذا جاز له لمثل هذه النازلة، نهى - صلى الله عليه وسلم - أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو، فلا يوجد مثل هذه الواقعة، فلا تكون الثقة به
وإن كان محفوظاً في الصدور، كالثقة به إذا وجد ما كتب منه

(1/423)


بحضرته - صلى الله عليه وسلم -، وكأنه لم يكن كالذي فعله الصديق رضي الله عنه من كل وجه.
وروى الِإمام أحمد عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: بينا نحن
عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نؤلف القرآن من الرقاع إذ قال: طوبي للشام. قيل: ولم ذلك يا رسول الله؟.
قال: إن ملائكة الرحمة باسطة أجنحتها عليها.
الذين جمعوا القرآن من الصحابة
وروى الشيخان، والترمذي، وأبو عبيد، وأبو داود الطيالسي، عن
أنس رضي الله عنه قال: جَمع القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة، كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل.
وأبو زيد، وزيد. يعني زيد بن ثابت. رضي الله عنهم.
قيل لأنس: من أبو زيد؟. قال: أحد عمومتي.
وفي رواية للبخاري عنه: مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد: ونحن ورثناه.
واسمه سعد بن عبيد.

(1/424)


وهذا الحصر بالنسبة إلى علم أنس رضي الله عنه، أو بالنسبة إلى
الأنصار رضي الله عنهم.
قال الإِمام أبو شامة في كتاب "المرشد الوجيز": وقد أشبع القاضي أبو
بكر محمد بن الطيب في كتاب "الانتصار" الكلام في حملة القرآن في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقام أدلة كثيرة على أنهم كانوا أضعاف هذه العدّة المذكورة وأن العادة تحيل خلاف ذلك، ويشهد لصحة (ذلك) كثرة القراء المقتولين يوم مسيلمة باليمامة، وذلك في أول خلافة أبي بكر رضي الله عنه، وما في الصحيح من قتل سبعين من الأنصار يوم بئر معونة، كانوا يسمون القراء.
وقد قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: جمعت القرآن
فقرأته كله في ليلة، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأه في شهر، الحديث.
وعبد الله غير مذكور في هذه العِدَّة، فدل على أنها ليست للحصر، وما
كان من ألفاظها للحصر، فله تأويل.
قال: وقد ذكر القاضي له تاويلات سائغة، منها:

(1/425)


أنه لم يجمعه على جميع وجوهه، والأحرف والقراءات التي نزل بها.
وأخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها كلها شاف كاف، إلا أولئك النفر فقط.
ثم قال: المازري: وإن لم يكمل القرآن سوى أربعة، فقد حفظ
جميع أجزائه مئون، لا يحصون، وما من شرط كونه متواتراً أن يحفظ الكلُ
الكل.
وقال النووي في أواخر التبيان: اعلم أن القرآن العزيز، كان مؤلَّفاً في
زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما هو في المصاحف اليوم، ولكن لم يكن مجموعاً في مصحف، بل كان محفوظاً في صدور الرجال.
فكان طوائف من الصحابة يحفظونه كلَّه، وطوائف يحفظون أبعاضاً
منه، فلما كان زمن أبي بكر - رضي الله عنه - وقتل كثير من حملة القرآن.
خاف موتهم، واختلاف من بعدهم، فاستشار الصحابة رضي الله عنهم في
جمعه في مصحف، فأشاروا بذلك.
يعني خاف عليه فجمعه.
وروى البخاري في المناقب عن عبد الله بن عمرو، أنه ذُكر عنده عبد
الله بن مسعود رضي الله عنهم، فقال: ذلك رجل لأزال أحبه بعد ما سمعت

(1/426)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: استقرؤوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود - فبدأ به - وسالم مولى أبي حذيفة، وأبَى بن كعب، ومعاذ بن جبل، رضي الله عنهم.
وروى ابن أبي داود عن مسروق قال: قال عبد الله - حين صنع
بالمصاحف ما صنع -: والذي لا إله غيره، ما أنزلت سورة إلا أعلم حيث
أنزلت، وما من آية إلا أعلم فيم أنزلت، ولو أني أعلم أحداً أعلم بكتاب
الله مني، تبلغه الإِبل لأتيته.
ورواه عنه أبو عبيد، ولفظه: قال: لو أعلم أحداً تبلغنيه الإِبل.
أحدث عهداً بالعرضة الأخيرة مني لأتيته.
أو قال: لتكلفت أن آتيه.
وروى ابن أبي داود عن زر قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله
عنه: لقد قرأت من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعاً وسبعين سورة، وإن لزيد ابن ثابت ذؤابتين (يلعب مع الصبيان) .
وروى أبو بكر - أيضاً - عن علقمة قال: جاء رجل إلى عمر رضي الله
عنه، وهو بعرفة فقال: يا أمير المؤمنين جئتك من الكوفة، وتركت بها رجلا
يملي المصاحف عن ظهر قلب، قال: فغضب عمر رضي الله عنه وانتفخ حتى
كاد أن يملأ ما بين شعبتي الرجل، قال: من هو ويحك؟.
قال: هو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: فما زال يطفأ ويتسري عنه الغضب.

(1/427)


حتى عاد إلى حاله التي كان عليها ثم قال: ويحك، والله ما أعلم بفتى من
الناس أحداً هو أحق بذلك منه، وسأحدثك عن ذلك، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمر عند أبي بكر الليلة، كذلك في الأمر من أمر المسلمين، وأنه سمر عنده ليلة وأنا معه، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي، وخرجنا معه نمشي، فإذا رجل قائم يصلي في المسجد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من سرَّه أن يقرأ القرآن رطباً كما
نزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد، قال: ثم جلس الرجل يدعو، فجعل
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: سل تعطه، سل تعطه، فقال عمر رضى الله عنه: فقلت: والله لأغدون فلأبشرنه.
قال: فغدوت لأبشره، فوجدت أبا بكر رضي الله عنه قد سبقنى إليه
فبشره ولا - والله - ما سابقته قط إلى خير، إلا سبقني إليه.
ورواه أبو عبيد ولفظه: عن علقمة، عن عمر رضي الله عنه قال:
سمرنا ليلة عند أبي بكر رضي الله عنه في بعض ما يكون من حاجة رسول
الله عنه فخرجنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي بيني وبين أبي بكر، فلما انتهينا الى المسجد، إذا رجل يقرأ، فقام يستمع، فقلت: يا رسول الله أنِمْتَ؟ ، فَغَمَزني بيدِهِ، فسكتُ، فقرأ وركع وسجد، وجلس يدعو ويستغفر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سَلْ تعطه، ثم قال: من سره أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل، فليقرأ كما قرأه ابن أم عبد.
قال: علمت أنا وصاحبي أنه عبد الله فلما أصبحت غدوت عليه لأبشره فقال: قد سبقك أبو بكر رضي الله عنه، قال: وما سابقته إلى خير قط، إلا سبقني إليه.

(1/428)


وروى عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: خذوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة.
دقة المسلمين في جمع القرآن
وروى الِإمام أبو عمرو الداني في كتابه "المقنع" عن أبي قلابة، عن
رجل من بني تميم يقال له - فيما أحسب - أنس بن مالك رضي الله عنه قال: اختلف المعلمون في القرآن حتى اقتتلوا، وكان بينهم قتال، فبلغ ذلك إلى
عثمان رضي الله عنه فقال: أعندي تختلفون وتكذبون وتلحنون فيه يا
أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟.
اجتمعوا فاكتبوا للناس إماماً يجمعهم، فكانوا في المسجد فكثروا، فكانوا إذا تماروا في الآية يقولون: إنه أقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فلان بن فلان وهو على رأس أميال من المدينة، فيُبْعث إليه من المدينة
فيجيء، فيقولون: كيف أقرأك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية كذا وكذا؟. فيقول كذا وكذا. فيكتبون كما قال.
وله من رواية أخرى عن أبي قلابة قال: حدثنا من كان يكتب معهم -
قال حماد: أظنه أنس بن مالك القشيري رضي الله عنه - قال: كانوا يختلفون
في الآية فيقولون: أقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلان ابن فلان، فعسى أن يكون على رأس ثلاث ليال من المدينة.

(1/429)


فذكره نحو ما مضى.
ولان أبي داود، وابن جرير، عن أبي قلابة قال: لما كان في خلافة
عثمان رضي الله عنه، جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة
الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين.
قال أيوب: فلا أعلمه إلا قال: حتى كفر بعضهم بقراء بعض، فبلغ ذلك
عثمان رضي الله عنه، فقام خطيباً فقال: أنتم عندي تختلفون فيه
وتنحتون، فمن نأى عنى من الأمصار أشد فيه اختلافاً، وأشد بحثاً.
فاجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوا للناس إماماً.
قال أبو قلابة: فحدثني مالك بن أنس قال: كنت فيمن أملي
عليهم، فربما اختلفوا في الآية، فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولعله أن يكون غائباً، أو في بعض البوادي، فيكتبون ما قبلها وما بعدها.
ويدَعْون موضعها، حتى يجيء، أو يرسل إليهم، فلما فرغ من المصحف.
كتب عثمان رضي الله عنه إلى أهل الأمصار: إني قد صنعت كذا، وصنعت
كذا، ومحوت ما عندي فامحوا ما عندكم.
وقد ساق ابن جرير خبر أبي بكر الصديق رضي الله عنه في جمعه
المصحف، وخبر عثمان رضي الله عنه في مثل ذلك سياقاً واحداً، حسناً
شافياً، بسند رجاله رجال الصحيح، فقال:
حدثنا أحمد بن عبدة الضبي، بنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي،

(1/430)


عن عمارة ابن غُزِية، عن ابن شهاب، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن
أبيه زيد رضي الله عنه قال: لما قتل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باليمامة، دخل عمر بن الخطاب على أبي بكر، رضي الله عنهما فقال: إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باليمامة، تهافتوا تهافُتَ الفراش في النار، وإني أخشى أن لا يشهدوا موطناً إلا فعلوا ذلك، حتى يُقْتَلُوا وهم حملة القرآن، فيضيع القرآن وُينسى، فلو جمعته وكتبته؟. فنفر منها أبو بكر رضي الله عنه وقال: أفعل ما لم يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟.
فتراجعا في ذلك، ثم أرسل أبو بكر رضي الله عنه إلى زيد بن ثابت
رضي الله عنه.
قال زيد: فدخلت عليه، وعمر رضي الله عنه عنده، فقال أبو بكر:
إن هذا قد دعاني إلى أمر فأبَيْتُ عليه، وأنت كاتب الوحي، فإن تكن معه
أوافقكما، وإن توافقتي لا أفعل.
قال: فاقتص أبو بكر قول عمر، وعمر ساكت، فنفرت من ذلك
فقلت: أنفعل ما لم يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟. إلى أن قال عمر كلمة: وما عليكما لوفعلتما؟.
قال: فذهبنا ننظر، فقلنا: لا شيء، والله ما علينا في ذلك شيء.
قال زيد: فأمرني أبو بكر فكتبته في قِطَع الأُدُم، وكسِرَ الأكتاف.
والعُسُب فلما هلك أبو بكر وكان عمر، كتب ذلك في صحيفة واحدة،

(1/431)


فكانت عنده، فلما هلك كانت الصحيفة عند حفصة زوجِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم إن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قدم من غزوة غزاها بمرْج أرمينية، فلم يدخل بيته، حتى أتى عثمان ابن عفان رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين
أدرك الناس، قال عثمان: وما ذاك؟. قال: غزوت مَرْج أرمينية، فحضرها أهل العراق وأهل الشام فإذا أهل الشام يقرأون بقراءة أبيِّ بن كعب رضي الله عنه، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، فيكفرهم أهل العراق، وإذا أهل العراق يقرأون بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه، فيأتون بما لم يسمع به أهل الشام، فيكفرهم أهل الشام، قال زيد رضي الله عنه: فأمرني عثمان بن
عفان رضي الله عنه أن أكتب له مصحفاً وقال: إني مدخل معك رجلًا لبيباً
فصيحاً، فما اجتمعتما عليه فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعاه إليَّ، فجعل معه أبان بن سعيد بن العاص.
قال: فلما بلغنا (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) .
قال زيد: فقلت: "التابوه " وقال أبان: "التَّابُوتُ" فرفعنا ذلك إلى عثمان، فكتِبَت "التَّابُوتُ".
قال: فلما فرغت عرضته (عرضة) . فلم أجد فيه هذه الآية: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) .
فاستعرضت المهاجرين أسألهم فلم أجدها عند أحد منهم.
ثم استعرضت الأنصار أسألهم فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدتها عند
خزيمة بن ثابت فكتبتها، ثم عرضته عرضة أخرى، فلم أجد فيه هاتين

(1/432)


الآيتين (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) .
فاستعرضت المهاجرين فلم أجدها عند أحد منهم، ثم استعرضت
الأنصار أسألهم (عنها) فلم أجدها عند أحد منهم، حتى وجدتها مع رجل
آخر - أيضاً - يدعى خزيمة، فأثبتها في آخر براءة، ولو تمت ثلاث آيات
لجعلتها سورة على حدة.
ثم عرضته عريضة أخرى، فلم أجد فيه شيئاً، ثم أرسل عثمان إلى
حفصة رضي الله عنها يسألها أن تعطيه الصحيفة، وحلف لها ليردنها إليها.
فأعطته إياها فعرض المصحف عليها، فلم يختلفا في شيء، فردها إليها
وطابت نفسه، وأمر الناس أن يكتبوا مصاحف، فلما ماتت حفصة رضي الله
عنها، أرسل إلى عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيفة بعزمة.
فأعطاهم إياها، فغسلت غسلاً.

(1/433)


وقوله: "لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعله يعني: كاملًا وإلا فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينزل عليه شيء، سواء كان آية، أو بعض آية، أو آيات، أو سورة كاملة إلا دعى كُتَّاب الوحي فيكتبونها، أو من يكتبها منهم.
وقد روى الإِمام أحمد، والبيهقي رضي الله عنه في كتاب "المدخل "
والدلائل عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: كنا حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نؤلِّف القرآن من الرقاع، إذ قال: طوبى للشام، فقيل: ولم؟. قال: إن ملائكة الرحمة باسطوا أجنحتها عليهم.
قال أبو شامة: ثم قال - يعني البيهقي -: وهذا يشبه أن يكون أراد به
تأليف ما أنزل من الآيات المتفرقة في سورها، وجمعها فيها بإشارة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم كانت مثبتة في الصدور، مكتوبة في الرقاع واللخاف، والعسب، فجمعها منها في مصحف بإشارة أبي بكر وعمر، ثم نسخ ما جمعه في الصحف في مصاحف بإشارة عثمان بن عفان رضي الله عنه، على ما رسم المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.
وأخرج هذا الحديث الحاكم في المستدرك، وقال صحيح على شرط
الشيخين ولم يخرجاه.

(1/434)


قال: وفيه البيان الواضح: أن جمع القرآن لم يكن مرة واحدة، فقد
جمع بعضه بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم جمع بحضرة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
والجمع الثالث، وهو ترتيب السور، كان في خلافة أمير المؤمنين
عثمان، رضي الله عنهم أجمعين.
قال أبو شامة: وخزيمة هذا - يعني صاحب آية الأحزاب - غير أبي خزيمة
الذي وجد معه آخر براءة.
ذاك أبو خزيمة بن أوس بن زيد، من بني النجار، شهد بدراً، وما
بعدها وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه.
وهذا خزيمة بن ثابت بن الفاكه، من الأوس، شهد أحُداً وما بعدها، وقتل يوم صفين. وقيل غير ذلك.
قال ابن جرير: فإن قيل: فما بال الأحرف الستة غير موجودة، أنسخت
فرفعت بعد ما أنزلها الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأقرأها - صلى الله عليه وسلم - أصحابه رضي الله عنهم، أم نسيتها الأمة، فذلك تضييع لما أُمِرَتْ بحفظه؟.
قيل: لم تنسخ فترفع، ولا ضيعتها الأمة، وهي مأمورة بحفظها، ولكنها

(1/435)


أمرت بحفظ القرآن وخُيِّرت في قراءته وحفظه بأي تلك الأحرف السبعة
شاءت، كما أمرت إذا هي حنثت في يمين وهي موسرة - أن تكفر بأي
الكفارات الثلاث شاءت: إما بعتق، أو إطعام، أو كسوة.
فلو اجتمع جميعها على التكفير بأي الكفارات الثلاث شاء المكفر.
كانت مصيبة حكم الله: مؤدية في ذلك الواجب عليها من حق الله.
فكذلك (الأمة) أمرت بحفظ القرآن، وخيرت في قراءته بأي
الأحرف السبعة شاءت، فرأت علة من العلل أوجبت عليها الثبات على
حرف واحد، ورفض القراءة بالستة الباقية، ولم يحظر على أحد قراءته بجميع
حروفه، على ما أذن له فيه.
وروى أبو عمرو الداني عن عامر قال: (قال صعصعة) : استخلف الله
أبا بكر رضي الله عنه، فأقام المصحف.
وعن هشام بن عروة عن أبيه أن أبا بكر رضي الله عنه أول من
جمع القرآن في المصحف حين قتل أهل اليمامة وعثمان رضي الله عنه الذي
جمع المصاحف على مصحف واحد.
وروى أبو عبيد في الفضائل عن المطلب بن زياد عن السدي، عن عبد
خير قال: أول من جمع القرآن بين اللوحين أبو بكر.

(1/436)


وله عن عبد خير، عن علي رضي الله عنه قال: رحم الله أبا بكر.
كان أول من جمع القرآن.
وروى الداني عن ابن وهب، عن مالك رحمه الله، أنه قال: إنما
ألف القرآن على ما كانوا يسمعون من قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
تأييد الناس عثمان في حرق الصحف
وعن سويد بن غَفَلة قال: قال لي علي رضي الله عنه: لو وُلِّيت
لفعلت في المصاحف الذي فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وروى أبو عبيد، وأبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف، عن سويد
بن غفلة الجعفي، قال: قال علي رضي الله عنه في المصاحف - وفي رواية:
حين حرق عثمان رضي الله عنه المصاحف -: لو لم يصنعه عثمان رضي الله
عنه لصنعته.
وفي رواية: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: يا أيها
الناس لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيراً - أو قولوا له خيراً - في
المصاحف وإحراق المصاحف، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا
عن ملأ منا جميعا

(1/437)


، فقال: ما تقولون في هنه القراءة، فقد بلغني أن بعضهم
يقول: إن قراءتى خير من قراءتك وهذا يكاد أن يكون كفرا.
قلنا: فما ترى؟.
قال: أرى أن نجمع الناس على مصحف واحد، فلا تكون فرقة.
ولا يكون اختلاف.
قلنا: فنعم ما رأيت.
قال: فقيل: أي الناس أفصح، وأي الناس أقرأ؟.
قالوا: أفصح سعيد ابن العاص، وأقرؤهم زيد بن ثابت، فقال: ليكتب أحدهما، ويملي الآخر، ففعلا وجمع الناس على مصحف واحد.
قال علي رضي الله عنه: والله لو وليت لفعلت الذي فعل.
ورواه من طريق مصعب بن سعد، وقال في آخره: فما رأيت أحدا
عاب ذلك عليه.
وقال النووي في التبيان: وكان فعله - أي عثمان رضي الله عنه - أي
الذي ذكر في جمع المصحف، وإتلاف ما سواه - باتفاق منه ومن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه، وسائر الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم.
وإنما لم يجمعه - صلى الله عليه وسلم - (في مصحف واحد) ، لما كان يتوقع من زيادة، أو نسخ بعض المتلو، ولم يزل ذلك التوقع إلى وفاته - صلى الله عليه وسلم -.
وروى ابن أبي داود - أيضاً - عن أبي المحياة عن بعض آل طلحة بن
مصرف قال: دفن عثمان المصاحف بين القبر والمنبر.

(1/438)


وروى ابن أبي داود، وأبو بكر بن أبي شيبة، عن عبد خير، أنه قال:
قال علي رضي الله عنه: يرحم الله أبا بكر، هو أول من جمع ما بين
اللوحين.
وفي السنن الكبرى للبيهقي عن علي رضي الله عنه قال: اختلف
الناس في القرآن على عهد عثمان رضي الله عنه، فجعل الرجل يقول
للرجل: قراءتي خير من قراءتك فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه، فجمع
أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن الناس قد اختلفوا اليوم في القراءة وأنتم بين ظهرانيهم، فقد رأيت أن أجمعهم على قراءة واحدة، قال: فاجتمع رأينا مع رأيه على ذلك.
قال: وقال علي رضي الله عنه: لو وليت مثل هذا الذي ولى، لصنعت
مثل الذي صنع.
وفي رواية: يرحم الله عثمان، لو كنت أنا لصنعت في المصاحف ما
صنع عثمان - رضي الله عنه -.
أخرجه البيهقي في المدخل.
وروى الداني، وأبو عبيد، وابن أبي داود، عن مصعب بن سعد -
يعني: ابن أبي وقاص - قال: أدركت الناس - قال ابن أبي داود -: متوافرين -
حين شقق عثمان المصاحف، فأعجبهم ذلك.
أو قال: لم يعب ذلك أحد.

(1/439)


وقال أبو عبيد: وقال مصعب بن سعد: أدركت الناسَ حين فعل
عثمان رضي الله عنه ما فعل، فما رأيت أحداً أنكر ذلك.
يعني من المهاجرين والأنصار. وأهل العلم.
عدد المصاحف التي نسخها عثمان
قال أبو عمرو: وأكثر العلماء على أن عثمان رضي الله عنه، لما كتب
المصحف جعله على أربع نسخ، وبعث إلى كل ناحية من النواحي بواحدة
منهن. فوجه إلى الكوفة إحداهن، وإلى البصرة أخرى، وإلى الشام الثالثة.
وأمسك عند نفسه واحدة.
وقد قيل: إنه جعله سبع نسخ، ووجه من ذلك - أيضاً - نسخة إلى
مكة، ونسخة إلى اليمن، ونسخة إلى البحرين.
والأول: أصح، وعليه الأئمة، انتهى.
وقد روى ابن أبي داود قي كتاب "المصاحف " القول الأول عن حمزة
الزيات وقال: فبعث بمصحف منها إلى الكوفة، فوضع عند رجل من مراد.
فبقي حتى كتبت مصحفي عليه.
والقول الثاني رواه عن أبي حاتم السجستاني.

(1/440)


وتصديق ما مضى من النقول عن الصحابة رضي الله عنهم بموافقة أمير
المؤمنين عثمان رضي الله عنه: أنه ببركته وحسن نيته، وقع الحفظ لهذه
الأمة، فانقطع ما كان به الخلاف بحفظ ما أثبته على سبيل التواتر، وذهاب
ما أمر بتركه، فلم ينقل منه شيء من وجه يصح، واجتمعت الأمة على حظر
قراءته، والمنع الشديد من تلاوته.
المنع من القراءات الشاذة
قال الشيخ محيي الدين النووي في شرح المهذب: ولا تجوز القراءة في
الصلاة ولا غيرها بالقراءة الشاذة، لأنها ليست قرآناً، فإن القرآن لا يثبت
إلا بالتواتر فلو خالف وقرأ بالشاذ، أنكر عليه.

(1/441)


وقد اتفق فقهاء بغداد على استتابة من قرأ بالشواذ.
ونقل الِإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر إجماع المسلمين على أنه
لا تجوز القراءة بالشاذ، وأنه لا يُصَلى خلف من قرأ بها.
قال العلماء: فمن قرأ بالشاذ - إن كان جاهلًا به وبتحريمه - عُرف ذلك
فإن عاد إليه بعد ذلك، أو كان عالماً به، عُزرَّ تعزيراً بليغاً، إلى أن ينتهي عن
ذلك، ويجب على كل مكلَّف قادر على الإنكار أن ينكر عليه.
فإن قرأ الفاتحة في الصلاة بالشاذ، فإن لم يكن فيها تغيير معنى، ولا
زيادة حرف ولا نقصه، صحت صلاته، وإلا، فلا.

(1/442)


ترك البسملة بين الأنفال وبراءة
روى أحمد وأبو داود، والترمذي وقال: حسن، وأبو عبيد في الفضائل
وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف، والحاكم
- وصححه على شرط الشيخين، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت
لعثمان رضي الله عنه: ما حملكم إلى أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني.
وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" ووضعتموها في السبع الطول، ما حملكم على ذلك؟.
فقال عثمان رضي الله عنه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يأتي عليه الزمان، وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، وكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها -
وقال أبو عبيد: في الموضع الذي يذكر فيه - كذا وكذا، فإذا نزلت عليه الآية يقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، فإذا نزلت عليه الآية يقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت - براءة من أواخر القرآن نزولًا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبين لنا أمرها.
وفي رواية: أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما
سطر "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" ووضعتها في السبع الطول.

(1/443)


وروى البخاري عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: قلت
لعثمان رضي الله عنه: الآية التي في البقرة: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ)
لم تكتبها وقد نسختها الآية الأخرى؟
قال: يا ابن أخي لا أغَير شيئا عن مكانه.
بدعة تزيين المصحف
وروى ابن أبي داود، عن أبي بن كعب، وأبي ذر، وأبي الدرداء، وأبي
هريرة، رضي الله عنهم، أن كلا منهم قال: إذا حليتم مصاحفكم، وزوقتم
مساجدكم فعليكم الدثار.
وروى أيضاً - عن برد بن سنان قال: ما أساءت أمة العمل، إلا
زَينَتْ مصاحفها ومساجدها.
وروى أيضاً عن شقيق، وأبي وائل من طريقين، أن كلا منهما قال: مر
عليَّ عبد الله بمصحف، قد زين بالذهب، فقال: إن أحسن ما زُيِّنَ به
المصحف، تلاوته في الحق.
وعن أبي وائل قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: الرجل يقرأ القرآن
منكوساً. فقال: منكوس القلب.

(1/448)


ورواه أبو عبيد بسند صحيح.
وللطبراني برجال - قال الهيثمي: ثقات - عن عبد الله رضي الله عنه، أنه جاءه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن، أرأيت رجلًا يقرأ القرآن
منكوساً؟.
قال: ذاك منكوس القلب، فأتى بمصحف قد زُين وذُهِّب، فقال
عبد الله: إن أحسن ما زين به المصحف تلاوته في الحق.
وقد تقدم في أوائل الفضائل.
وتقدم كلام أبي عبيد عليه في غريب الحديث.
النهي عن خلط سورة بسورة في القراءة
وفي مصنف عبد الرزاق في الجامع عن ابن عيينة، عن "عبد الرحمن
بن حرملة: سمعت بن المسيب يقول: مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي بكر رضي الله عنه وهو يصلي وهو يخافت، ومر بعمر رضي الله عنه وهو يجهر، ومر ببلال رضي الله عنه وهو يخلط فأصبحوا فاجتمعوا عنده فقال: مررت بك يا أبا بكر وأنت تخافت، قال: أجل بأبي وأمي، إني أسمع من أناجي.
قال: ارفع شيئاً. قال: مررت بك يا عمر وأنت تجهر.
قال: أجل بأبي وأمي، أسمع الرحمن، وأوقظ الوسنان، وأطرد الشيطان. قال: اخفض شيئاً.

(1/449)


قال: ومررت بك يا بلال وأنت تخلط.
قال: أجل بأبي وأمي، أخلط الطيب بالطيب.
قال: اقرأ كل سورة على نحوها.
ورواه أبو عبيد عن يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن
سعيد ابن المسيب، وقال: قال لبلال: مررت بك وأنت تقرأ من هذه السورة ومن هذه السورة، فقال: أخلط الطيب بالطيب.
فقال: اقرأ السورة على وجهها.
ورواه عن عمر مولى غُفْرة وقال: قال لبلال: إذا قرأت السورة
فانفذها.
وروى هذا الحديث أبو داود بإسناد - قال النووي في شرح المهذب:
صحيح - عن أبي قتادة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج ذات ليلة، فإذا هو بأبي بكر رضي الله عنه يصلي يخفض من صوته، ومر بعمر رضي الله عنه وهو يصلي رافعاً صوته، فلما اجتمعا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا
بكر مررت بك وأنت تصلي تخفض من صوتك.
قال قد أسمعتُ من ناجيتُ يا رسول الله، وقال لعمر رضي الله عنه: مررت بك وأنت تصلي رافعاً صوتك؟.
فقال: يا رسول الله، أوقظ الوسنان، وأطرد الشيطان.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئاً. وقال لعمر: اخفض من صوتك شيئاً.

(1/450)


قال النووي: ورواه أبو داود - أيضاً - بإسناد صحيح، عن أبي هريرة
رضي الله عنه بهذه القصة، ولم يذكر قوله: "فقال لأبي بكر"
وزاد: "وقد سمعتك يا بلال تقرأ من هذه السورة، ومن هذه السورة.
قال: كلام طيب يجمعه الله بعضه إلى بعض، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: كلكم قد أصاب".
هذا ما أردت جمعه من فضائل القرآن، وحَمَلَته، وآدابه، والاعتناء
بجمعه على العموم.

(1/451)


فضائل القرآن بخصوص السور
وأما بخصوص السور:
ما جاء في الاستعاذة
فروى أبو داود، والترمذي، والنَّسائي، وابن ماجة، عن أبي سعيد

(1/452)


الخدري رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل كبَّر. ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، ثلاثاً، تبارك اسمك، وتعالى
جدك، ولا إله غيرك، ثم يقول: لا إله إلا الله، ثلاثاً، ثم يقول:
الله أكبر كبيرا، ثلاثاً، أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم.
من همزه، ونفخه، ونفثه.
قال النووي: ولكن الحديث ضعيف.
ورواه أبو عبيد في غريب الحديث، ولفظه:
"كان إذا استفتح القراءة في الصلاة قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

(1/453)


من همزه ونفثه ونفخه، فقيل: يا رسول الله، ما همزه ونفثه
ونفخه؟.
فقال: أما همزه: فالموتة. وأما نفثه: فالشعر. وأما نفخه:
فالكبر.
قال أبو عبيد: الموَتة: الجنون. وإنما سمَّاه همزاً لأنه جعله من النَخْس
والغمز، وكل شيء دفعته فقد همزته.
وسمى الشعر نفثاً، لأنه كالشيء ينفثه الِإنسان من فيه، مثل الدقيقة
ونحوها وأما الكبر فإنه سمي نفخاً، لما يوسوس إليه الشيطان في نفسه.
فيعظمها عنده ويحقر الناس في عينه حتى يدخله الكبر، والتجبر
والزهو.
لكن المختار لجميع القراء العشرة، وعامة الفقهاء، في لفظ التعوذ:
" أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " من غير زيادة، موافقة لما ورد في سورة
النحل من قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) - أي أردت قراءته، إرادةً
قاربت الشروع فيها (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) .
وموافقة لما في الصحيحين عن سليمان بن صُرَد رضي الله عنه
قال: استبّ رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحدهما يسب صاحبه مُغْضَباً، قد

(1/454)


احمر وجهه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إني لأعلم كلمة لو قالها، لذهب عنه ما يجده، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنَّسائي في اليوم والليلة، وأبو يعلى
الموصلي في مسنده، عن أبي بن كعب رضي الله عنه.
ورواه الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه.
قال شيخنا العلامة مقرىء زمانه شمس الدين بن الجزري في كتابه
النشر، وقد روى الطبراني في الكبير، عن أبي موسى رضي الله عنه قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر حديثاً يأتي في سورة الحجر - إلى أن قال: ثم قرأ

(1/455)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) .
وروى أبو الفضل الخزاعي، من طريق يعقوب الحضرمي.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أعوذ بالله السميع العليم. فقال لي: يا ابن أم عبد قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أخذته عن جبريل، عن ميكائيل، عن اللوح المحفوظ.
وقال: حديث غريب جيد الإسناد من هذا الوجه.
وذكر شيخنا له طرقاً غير هذه، ثم قال: ورواه
الخزاعي - أيضاً - في كتابه " المنتهى " بإسناد غريب،

(1/456)


عن عبد الله بن مسلم بن يسار قال: قرأت على أبي بن كعب رضي الله عنه فقلت: أعوذ بالله السميع العليم. فقال: يا بني عمن أخذت هذا؟.
قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، كما أمر الله عز وجل.
وأورد شيخنا عن أبي عمرو الداني، عن ابن عباس رضي الله عنهما
قال: أول ما نزل جبريل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه الاستعاذة، فقال: يا محمد قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم قال: قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
ورواه ابن جرير بلفظ: "أستعيذ بالله السميع العليم" من وجه ضعيف ومنقطع.
ما جاء في البسملة
وروى ابن مردويه في تفسيره بسند - قال ابن رجب: ضعيف - عن
بريدة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أنزلت عليَّ آية لم تنزل على نبي غير سليمان بن داود عليه السلام وغيري.
وهي: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

(1/457)


وروى أبو داود عن ابن عباس، والبراء، رضي الله عنهم، وصحح
الحاكم حديث ابن عباس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف فصل السورة، حتى ينزل عليه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
ورواه البزار - قال الهيثمي: بإسنادين رجال أحدهما رجال
الصحيح - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعرف خاتمة السورة، حتى ينزل عليه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فإذا نزل (بسم الله الرحمن الرحيم) ، علم أن السورة قد ختمت، واستقبلت - أو ابتدَأت - سورة أخرى.
قال ابن رجب: وروى أبو ذر الهروي في معجمه بإسناد ضعيف.
عن أبي بريدة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم) ، فسردها عشرين مرة.
فضل سورة الفاتحة
وروى الِإمام أحمد في المسند، عن ابن جابر رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

(1/458)


قال: ألا أخبرك يا عبد الله بن جابر بأخْيَر سورة في القرآن؟.
قلت: بلى يا رسول الله، قال: اقرأ الحمد للهِ رب العالمين، حتى تختمها.
قال الهيثمي: وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو سيء الحفظ.
وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات.
وروى البخاري، وأبو داود، والنسائى، وابن ماجة -، والدارمي.
عن أبي سعيد بن المُعَلى رضي الله - عنه قال،: كنت أصلي بالمسجد، فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم أجبه، ثم أتيته فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي، قال: ألم يقل الله عز وجل: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ) ؟.
ثم قال: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن، قبل أن تخرج من
المسجد، فأخذ بيدي، فلما أردنا أن نخرج قلت: يا رسول الله إنك
قلتَ: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن، قال: (الحمد لله رب
العالمين) ، هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته.
ولابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.
عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في مسير فنزل، ونزل رجل إلى جانبه، فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: ألا أخبرك بأفضل القرآن؟.
قال: بلى، فتلا: (الحمد لله رب العالمين) .

(1/459)


وروى مالك في الموطأ عن أبي سعيد بن المُعَلى - أيضاً - رضي اللُه
عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نادى أبي بن كعب رضي الله عنه وهو يصلي، فلما فرغ من صلاته لحقه، قال أبي: فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على يدي فقال: إني لأرجو أن لا تخرج من المسجد، حتى تعلم سورة ما أنزل الله في التوراة، ولا في الِإنجيل، ولا في الزبور، ولا في الفرقان مثلها، قال أبي: فجعلت أبطىء في المسجد رجاء ذلك، فلما دَنَوْتُ قلت: يا رسول الله ما السورة التي وعدتني؟.
قال: كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟.
قال أبن: فقرأت - الحمد لله رب العالمين - حتى أتيت على
آخرها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هي هذه السورة، وهي السبع المثاني، والقرآن العظيم، الذي أعطيت.
وأخرجه إسحاق في المسند عن أبي نفسه رضي الله عنه.
وعند ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم باختصار.
وقال: على شرط مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(1/460)


وعند الترمذي وقال: حسن صحيح.
وعبد بنِ حميد عن أبي هريرة نفسه رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على أبي بنِ كعب رضي الله عنه فقال: يا أبي - وهو يصلي - فالتفت أبي فلم يجبه، وصلى أبى فخفَّف، ثم انصرف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: السلام عليك يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وعليك السلام ما منعك
أن تجيبني إذ دعوتك؟.
فقال: يا رسول الله إني كنت في الصلاة.
قال: أفلم تجد فيما أنزل الله إليَّ (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) ؟.
قال: بلى، ولا أعود إن شاء الله.
قال: أتحب أن أعلِّمك سورة لم ينزل في التوراة، ولا في الإنجيل.
ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها؟
قال: نعم يا رسول الله.
قال: لعلك أن لا تخرج من ذلك الباب حتى أخبرك بها.
قال: فقمت معه، فجعل يحدثني ويدي في يده، فجعلت أتباطأ.
كراهية أن يخرج قبل أن يخبرني بها، فلما دنوت من الباب، قلت: يا رسول
الله، السورة التي وعدتني، فقال رسول الله - عز وجل -: كيف تقرأ في الصلاة؟
فقرأت أم الكتاب، قال: هي، هي، وهي السبع المثاني التي قال الله عز
وجل: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) .
الذي أوتيت.
وفي رواية غيره قال: فقرأت أم القرآن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

(1/461)


والذي نفسي بيده، ما أنزل في التوراة، ولا في الِإنجيل، ولا في الزبور.
ولا في الفرقان مثلها، وأنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته.
ولأحمد في المسند، والدارمي، وأبي عبيد في الفضائل والغريب، بسند
صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال - وقرأ عليه أبي رضي الله عنه أم القرآن - فقال: والذي نفسي بيده، ما أنزل في التوراة، ولا في الإنجيل - قال الدارمي: والزبور، وقال أبو عبيد: ولا في الزبور - ولا في الفرقان مثلها، وإنها السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أعطيت.
ورواه أبو داود، والدارمي، عنه أيضاً، وقال: قال: رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: الحمد لله أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني.
وللطبراني عن أبي زيد رضي الله عنه قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض فجاج المدينة، فسمع رجلًا يتهجد، ويقرأ بأم القرآن، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستمع حتى ختمها، ثم قال: ما في القرآن مثلها.
وفي الفضائل لأبي عبيد، عن الحسن رحمه الله رفعه: من قرأ فاتحة
الكتاب، فكأنما قرأ التوراة والِإنجيل، والزبور والقرآن.

(1/462)


وللبخاري، وأبي داود، والترمذي وقال: حسن صحيح، عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الحمد لله رب العالمين) أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني.
ورواه الطبراني ولفظه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: الحمد لله رب العالمين، سبع آيات، إحداهن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، - وهي السبع المثاني، والقرآن العظيم، وهي أم القرآن، وفاتحة الكتاب.
ولمسدد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: السبع المثاني: فاتحة
الكتاب.
ولأبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أوتي رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - سبعاً من المثاني الطُّوَل، وأوتي موسى عليه السلام ستاً، فلما ألقى الألواح، رفعت ثنتان، وبقي أربع.
ولإِسحاق بن راهوية عن علي رضي الله عنه، أنه سئل عن فاتحة
الكتاب، فقال: حدثنا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أنها نزلت من كنز تحت العرش.
وعَزَاه ابن رجب في كتاب "الاستغناء بالقرآن" إلى مسند يعقوب بن
أبي شيبة بسند منقطع.
وهو في كتاب الفضائل لأبي عبيد بإسناد ضعيف.
وروى الطبراني في الأوسط - (بإسناد) قال الهيثمي: فيه الوليد

(1/463)


ابن الوليد، وثقه أبو حاتم، وابن حبان، وتركه جماعة، وبقية رجاله
ثقات - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من مولود يولد، إلا وهو مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من فاتحة الكتاب.
وللترمذي، والنسائي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وابن خزيمة، وابن
حبان في صحيحيهما، والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم عن أبي
هريرة، عن أبي ابن كعب - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أنزل الله في التوراة، ولا في الإنجيل مثل أم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل.
ولمسلم، والأربعة، وعبد الرزاق في مصنفه الجامع، وأبي عبيد في
الفضائل عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهي خداج (ثلاثاً) غير تمام،

(1/464)


فقيل لأبي هريرة رضي الله عنه: إنا نكون وراء الِإمام؟.
فقال: اقرأ بها في نفسك (يا فارسي) فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي (نصفين) ولعبدي ما سأل، فإذا قال: الحمد للهِ رب العالمين قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى علي عبدي وإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله: مجَّدني عبدي - وقال مرة: فوَّض إِليَّ عبدي - فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله: هذا بيني وبين عبدي -
زاد أبو عبيد: أولها لي، وآخرها لعبدي - ولعبدي ما سأل.
فإذا قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل.

(1/465)


وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه هذا الحديث من
طريق عبد الرزاق ولفظه: قال الله: قسمت الصلاة بيني، وبين عبدي
نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل.
قال أبو هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأوا، يقول العبد: الحمد لله رب العالمين، فيقول الله: حمدني عبدي، ويقول العبد: الرحمن الرحيم، فيقول الله: أثنى علي عبدي، ويقول العبد: مالك يوم الدين، فيقول الله: مجدني عبدي، وقال: هذه بيني وبين عبدي، يقول العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: إحداهما لعبدي ولعبدي ما سأل، قال: يقول عبدي:
اهدنا الصراط المستقيم، إلى آخرها، يقول الله: هذه لعبدي، ولعبدي ما
سأل.
أخرجه مسلم بمعناه.
وللشيخين وأصحاب السنن الأربعة، وعبد الرزاق في جامعه، عن
عبادة بن الصامت رضي الله عنه، يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعداً.
ورواه الدارقطني عنه بلفظ " لا تجزىء صلاة لا يقرأ الرجل فيها بفاتحة

(1/466)


الكتاب "، وقال: إسناده حسن، ورجاله ثقات كلهم.
ورواه ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحيهما - قال النووي: بإسناد
صحيح - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب.
ولأبي داود، والترمذي وقال: حسن، والبيهقي وصححه.
والدارقطني وقال: إسناده حسن، والخطابي وقال: إسناده جيد لا مطعن
فيه. عن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه قال: كنا خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر، فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: لعلكم تقرأون خلف إمامكم؟.
قلنا نعم. هذا يا رسول الله، قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها.
الاستشفاء والرقية بفاتحة الكتاب
وللدارمي، والبيهقي في الشعب، عن عبد الملك بن عمير رحمه الله -
مرسلاً -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فاتحة الكتاب شفاء من كل داء.

(1/467)


وقد وصله أبو الحسن الخلعي في السابع من فوائده، عن
جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما، ولفظه: فاتحة الكتاب شفاء من كل
داء، إلا السام والسام: الموت.
وللبزار عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا وضعت جنبك على الفراش، وقرأت فاتحة الكتاب، وقل هو الله أحد، فقد أمنت من كل شيء إلا الموت.
وللبخاري ومسلم، وأبي داود، والترمذي واللفظ له، وعبد بن
حميد، وأبي عبيد، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بعثنا رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية، فنزلنا بقوم فسألناهم القِرَى، فلم يَقْرونا، فلدغ سيدهم، فأتونا فقالوا: هل فيكم من يرقى من العقرب؟. - وفي رواية: فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحي سليم لَدغ، فهل فيكم من
راقٍ؟.
قلت: نعم، ولكن لا أرقيه حتى تعطونا غنماً.
قالوا: فإنا نعطيكم ثلاثين شاة، فقبلنا.
فقرأت عليه " الحمد للهِ رب العالمين " سبع مرات.
وفي رواية: إنه كان يجمع بزاقه - ويتفل.

(1/468)


فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي، وما به قلبة.
وفي رواية: فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبناً.
وفي رواية: عبداً.
فجعلت أقرأ فاتحة الكتاب، وأمسح المكان الذي لدغ حتى برأ.
فأعطونا الغنم، فقبضنا الغنم.
قال: فعرض في أنفسنا شيء فقلنا: لا تعجلوا حتى تأتوا رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فلما قدمنا عليه ذكرت له الذي صنعت.
قال: وما علمت - وفي رواية: وما يدريك - إنها رقية، اقبضوا الغنم
واضربوا لي معكم بسهم.
ولفظ أبي عبيد: فرقاه رجل منهم، فأعطى قطيعاً من غنم، فأبى أن

(1/469)


يقبله فقدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكروا ذلك له، فقال: من أخذ برقية باطل، لقد أخذت برقية حق، خذوا واضربوا لي معكم بسهم.
وللبخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن نفرا من أصحاب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مروا بماء فيهم لديغ أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل الماء
فقال: هل فيكم راق؟. (إن في الماء رَجلاً لديغا أو سليماً) ، فانطلق
رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاءٍ فبرأ، فجاء بالشاء إلى أصحابه.
فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجراً؟.
حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله، أخذ على كتاب الله أجراً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله.
ولأبي داود في السنن بإسناد - قال النووي: صحيح - والنَّسائي.
والبيهقي في الدعوات، والدارقطني في السنن في آخر كتاب الأطعمة وهذا
لفظه، عن خارجة بن الصلت التميمي، عن عمه - قال النووي:
واسمه: علاقة بن صحار وقيل: عبد الله رضي الله عنهما - أنه أتى
النبي - لمجيفاسلم، ثم أقبل راجعاً من عنده، فمر على قوم فوجد عندهم
رجلاً مجنوناً، فرقاه بفاتحة الكتاب فبرأ، فأعطى مائة شاة، قال: فأتيت

(1/470)


النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته فقال: هل إلا هذا؟.
قال: لا، قال: خذها، فلعمري من أكل برقية باطل فلقد أكلت برقية حق.
ولفظ أبي داود: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلمت، ثم رجعت على قوم عندهم رجل مجنون، مُوثَق بالحديد، فقال أهله: إنا حُدثْنَا أن صاحبك هذا قد جاء بخير، فهل عندك شيء تداويه؟.
فرقيته بفاتحة الكتاب فبرأ فأعطونا مائة شاة، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقال: هل إلا هذا؟ -
وفي رواية: هل قلت غير هذا؟ -
قلت: لا، قال: خذها، فلعمري لمن أكل برقية باطل، لقد
أكلت برقية حق.
قال النووي في الأذكار: ورويناه في كتاب ابن السنى بلفظ آخر.
وهي رواية أخرى لأبي داود، قال: أقبلنا من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتينا على حي من العرب، فقالوا: هل عندكم دواء؟.
فإن عندنا معتوهاً في القيود، فجاءوا بالمعتوه في القيود، فقرأت عليه فاتحة الكتاب ثلاثة أيام غدوة وعشية، أجمع بزاقي، ثم أتفل.
وفي رواية: كلما ختمها جمع بزاقه ثم تفله. فكأنما نشط من عقال.
فأعطوني جعلا، فقلت: لا، فقالوا: سل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسألته، فقال: كل

(1/471)


فلعمري من أكل برقية باطل، لقد أكلت برقية حق.
ولأبي عبيد عن قيس بن أبي حازم قال؟ جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني رقيت فلاناً، كانت به ريح فبرأ، والله إنْ رَقَيْتُه إلا بالقرآن، فأمر لي بقطيع من الغنم، أفآخذه؟.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أخذ برقية باطل، لقد أخذت برقية حق.
وله عن طلحة بن مصرِّف قال: كان يقال: إذا قرىء القرآن عند
المريض، وجد لذلك خفة، قال: فدخلت على خيثمة وهو مريض، فقلت: إني أراك اليوم صالحا؟.
قال: إنه قرىء عندي القرآن.
وعند مسلم، والنَّسائي، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، عن ابن
عباس رضي الله عنهما قال: بينما جبريل عليه السلام قاعد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - (سمع) نقيضاً من فوقه، فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء، فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى

(1/472)


الأرض فلم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما، لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته.
النقيض - بالمعجمة - هو: الصوت.
وسيأتي في آخر الفلق قراءتها مع المعوذتين عند المريض.
ما جاء في أن الفاتحة تعدل ثلثي القرآن
ولعبد بن حميد عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: فاتحة الكتاب تعدل بثلثي القرآن.
ولا يشكل هذا الحديث بالأحاديث المسمية لها أم القرآن، وأم الكتاب.
لأنها اشتملت على جميع مقاصده، بحيث إنه ما من شيء من مقاصده إلا
وهو تابع لها، فهي له أصل، كما قاله العلماء.
فإن مقاصده - كما ذكر الإمام حجة الإِسلام الغزالي - ستة: ثلاثة مهمة
وثلاثة متمة.
الأولى: تعريف المدعو إليه، كما أشير إليه بصدرها، وتعريف

(1/473)


الصراط المستقيم وقد صُرح به فيها، وتعريف الحال عند الرجوع إليه سبحانه وهو الآخرة، كما أشير إليه بقوله: مالك يوم الدين.
والثلاثة الثانية: تعريف أحوال المطيعين، كما أشير إليه بقوله: الذين
أنعمت عليهم. وحكاية أحوال الجاحدين، وقد أشير إليها بالمغضوب عليهم
ولا الضالين. وتعريف منازل الطريق، كما أشار إليه (إياك نعبد وإياك
نستعينُ) .
وإنما كان لا يشكل، لأنه ليس الذكر بالصريح، كالِإشارة والتلويح.
كما سيأتي في الفرق بين سورتي الإخلاص: الكافرون، وقل هو الله أحد.
قال الِإمام ناصر الدين بن الميلق: دلالات القرآن الكريم، إما أن
تكون بالمطابقة، أو بالتضمن، أو بالالتزام.
وهذه السورة تدل على جميع مقاصدي القرآن بالتضمن والالتزام، ولا
تدل على جميعها بالمطابقة.
والاثنان من الثلاثة: ثلثان.
وأيضاً: الحقوق ثلاثة: حق الله على عباده، وحق العباد على الله.
وحق بعض العباد على بعض.
وقد اشتملت الفاتحة - صريحاً - على الحقين الأولين، فناسب كونها

(1/474)


بصريحها ثلثين، وحديث "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين "، شاهد
لذلك. والله أعلم.
ولأبي عبيد بسند رجاله ثقات، عن أبي النهال سيَّار بن سلامة، أن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه سقط عليه رجل من المهاجرين، وعمر
يتهجد من الليل، يقرأ بفاتحة الكتاب لا يزيد عليها، ويكبر ويسبح، ثم
يركع ويسجد، فلما أصبح الرجل ذكر ذلك لعمر، فقال عمر: لأمك الويل، أليست تلك صلاة الملائكة؟.
كيف كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - للقرآن
وللبخاري وأبي داود، والنَّسائي، والترمذي، وابن ماجة، عن قتادة أنه
سأل أنَساً رضي الله عنه، عن قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: كان يَمدُّ مداً ثم قرأ: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) يمد ببسم الله، ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم.
وللطبراني في الكبير - قال الهيثمي: ورجاله ثقات -

(1/475)


عن مسعود بن يزيد الكندي قال: كان ابن مسعود رضي الله عنه يُقرىء رجلًا، فقرأ الرجل: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) مرسلة، فقال ابن
مسعود: ما هكذا أَقْرَأَنِيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: كيف أَقْرَأَكَها يا أبا عبد الرحمن؟. قال: أقرأنيها: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ" بمدودها.
وروى الطبراني في الأوسط - قال الهيثمي، وفيه من لم أعرفه.
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: - كانت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المد، ليس فيه ترجيع.
ثم ينام قدر ما صلى، ثم يصلي قدر ما نام، ثم ينام قدر ما صلى.
حتى يصبح ثم نعتت قراءته، فإذا هي تنعت قراءة مُفَسرة حرفاً حرفاً.
ولعبد الرزاق عن ابن التيمي، عن أبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتنفس في الحمد ثلاث مرات.
وللترمذي من رواية ابن أبي مليكة، عن أم سلمة رضي الله عنها

(1/476)


قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَطِّع قراءته يقول: الحمد للهِ رب العالمين، ثم يقف الرحمن الرحيم، ثم يقف، وكان يقرؤها مَلِكِ يوم الدين.
وقال: هذا حديث غريب.
وأخرجه أحمد وأبو داود فقالا: قالت: قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين (يُقَطعُ) قراءته، آيةً، آيةً.
وروى الإمام أبو يعقوب البويطي عنها رضي الله عنها قالت:
كان - صلى الله عليه وسلم - (يقرأ) في الصلاة " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " آية، الحمد للهِ رب العالمين - آيتين - الرحمن الرحيم، ثلاثة. مالك يوم الدين. أربعة.
وعد السهروردي في كتابه "الصباح" إلى "الضالين".
وكذا فعل أبو عبد الله أحمد بن محمد، المعروف بابن أوس المقرىء

(1/477)


في كتابه، "الوقف والابتداء" فعد إلى (الضالين) .
وأسند ذلك عن أم سلمة رضي الله عنها من طريق ابن جريج.
وزاد بعد قوله: "الضالين " يقطع قراءته حرفاً حرفاً، ويمد حتى بلغ
سبعاً.
الدليل على أن البسملة آية من الفاتحة
وذكر الحديث عن أم سلمة رضي الله عنها ابنُ خزيمةَ في صحيحه
ولفظه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في الصلاة أول الفاتحة " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " فعدها آية. "الحمد لله رب العالمين" آيتين.
"الرحمن الرحيم" ثلاث آيات "مالك يوم الدين" أربع آيات.
وقال: هكذا (إيَّاكَ نعبدُ وإيَّاكَ نستعين)
وجمع خمس أصابعه.
فقد تبين أن العدد كان بالأصابع، زيادة على الوقف.
ورواه - أيضاً - البيهقي، والطحاوي.

(1/478)


وأسند أبو عمرو الداني في كتابه "البيان في عدد آي القرآن" مستدلًا
على العدِّ فيَ الصلاة باليسار، عن أم سلمة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
كان يُعُدُّ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - آية فاصلة - الحمد لله رب العالمين.
الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.
وكذلك كان يقرؤها: (إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط
المستقيم) ، إلى آخرها سبع، وعقد بيده اليسرى، وجمع كفيه.
وروى أبو داود، وابن خزيمة، والدارقطنى وقال: رجال إسناده كلهم
ثقات وهو إسناد صحيح، والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط
الشيخين: عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قرأ يُقَطِّع قراءته آية، آية.
وفي رواية: يُقَطِّع قراءته: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله رب
العالمين، الرحمن الرحيم، مالكِ يوم الدين.
(وكذلك كان يقرؤها: إياك نعبدُ وإياكَ نَسْتَعِينُ) .
وروى الداني في بيانه من طريق ابن جريج، عن عبد الله بن أبي
مليكة، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(1/479)


فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد للهِ رب العالمين، إلي آخرها سبع يا أم
سلمة.
وروى عبد الرزاق في جامعه، وأبو عبيد في الفضائل، عن ابن جريج
(قال) : أخبرني أبي، أن سعيد بن جبير (رضي الله عنه) أخبره أن ابن
عباس رضي الله عنهما قال: "ولقد آتيناك سبعاً من المثاني" أم القرآن.
وقرأها علي كما قرأتها عليك، ثم قال: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " الآية
السابعة، قال ابن عباس: وقد أخرجها الله لكم، فما أخرجها لأحد
قبلكم.
قال عبد الرزاق: قرأها علينا ابن جريج: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "
آية. الحمد لله رب العالمين، آية. الرحمن الرحيم، آية. مالك يوم الدين.
آية. إياك نعبد وإياك نستعين، آية. اهدنا الصراط المستقيم، آية. صراط
الذين أنعمت عليهم، إلى آخرها.
زاد أبو عبيد قال: فقلت لأبي: فأخبرك سعيد أن ابن عباس رضي الله
عنهما قال له: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " آية من القرآن؟.
قال: نعم.

(1/480)


وروى ابن خزيمة في صحيحه، والبيهقي، عن ابن عباس رضي الله
عنهما في قوله تعالى: (ولقد آتيناك سبعاً من المثاني) قال: هي فاتحة
الكتاب. قيل: فأين السابعة؟.
قال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
قال النووي في شرح المهذب: وفي سنن البيهقي عن علي، وأبي
هريرة وابن عباس وغيرهم، رضي الله عنهم: أن الفاتحة هي السبع المثاني.
وهي سبع آيات، وأن البسملة هي الآية السابعة.
وفي سنن الدارقطنى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -: إذا قرأتم الحمد، فاقرأوا
" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، إنها أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني.
و" بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "، إحدى آياتها.
قال الدارقطني: رجال إسناده كُلهم ثقات، وروى موقوفاً.
وفي سنن الدارقطني - أيضاً - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبريدة رضي الله عنه:
بأي شيء تستفتح القرآن، إذا افتتحت الصلاة؟.
قال: قلت: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، (قال: هي هي، ثم خرج.

(1/481)


وروى النسائي في سننه، وابن خزيمة في صحيحه، عن نعيم بن عبد
الله المُجْمِر قال: صليت وراء أبي هريرة رضي الله عنه فقرأ: بسم الله
الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن، حتى إذا بلغ (ولا الضالين) قال: آمين.
قال الناس: آمين، ويقول كلما سجد: الله أكبر، وإذا قام من الجلوس في
الاثنين قال: الله أكبر، ثم يقول إذا سلم: والذي نفسي بيده، إني لأشبهكم
صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال النووي: ورواه (أبو حاتم) ابن حبان في صحيحه.
والدارقطني في سننه وقال: هذا حديث صحيح (ورواته كلهم ثقات) .
(ورواه الحاكم في المستدرك على الصحيح، وقال،: على شرط البخاري
ومسلم. واستدل به الحافظ والبيهقي في كتاب "الخلافيات" ثم قال: ورواة
هذا الحديث كلهم ثقات، مُجْمَع على عدالتهم، محتج بهم في الصحيح.
ورواه الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان إذا قرأ وهو يؤم الناس، افتتح ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

(1/482)


وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أمَّ الناس، قرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
وفي رواية: جهر ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
قال أبو هريرة: وهي آية من كتاب الله، أقرأوا إن شئتم فاتحة
الكتاب، فإنها الآية السابعة.
وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولأمر قال الدارقطني: رجال إسناده كلهم ثقات.
وروى الدارقطني في السنن، والحاكم في الستدرك وقال: هذا إسناد
صحيح وليس له علة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يجهر ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
وفي رواية الدارقطني - قال: إسنادها صحيح، ليس في روايته
مجروح -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جهر ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
وفي رواية أخرى رواها الترمذي والدارقطني: كان النبي يفتتح
الصلاة ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

(1/483)


وروى الدارقطني بسند - قال: رواته كلهم ثقات - عن عبد خير قال:
سئل عليَّ رضي الله عنه، عن السبع المثاني فقال: الحمد للهِ رب العالمين.
فقيل: إنما هي ست آيات، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية.
ولصاحب الفردوس عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، سبحت معه الجبال، إلا أنه لا يسمع ذلك منها.
ولأبي عبيد عن سعيد بن المسيب: أنَ كِتابَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى قيصر فقرأه، فقال: إن هذا الكتاب لم أره بعد سليمان بن داود: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
وروى أبو عبيد عَدَّها آيةً من الفاتحة، عن محمد بن كعب القرظي
وغيره.
وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جهر ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

(1/484)


فضل " آمين " بعد الفاتحة
وفي الفردوس عن أنس رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثم قرأ فاتحة الكتاب، ثم يقول: آمين، لم يبق في السماء مَلَك مقرب، إلا استغفر له.
ولمسلم، وأبي داود، والنَّسائي، عن أبي موسى الأشعري رضي الله
عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبَّر فكبِّروا، فإذا قرأ فأنصتوا، وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: آمين، يجبكم الله.
ولأبي داود وهذا لفظه، والترمذي وقال: حسن، عن سمرة بن
جندب رضي الله عنه، أنه حفظ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكتتين: (سكتة إذا

(1/492)


كبَّر) وسكتة إذا فرغ من قراءة (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) .
وصدقه على ذلك أبي بن كعب رضي الله عنه.
وروى الشيخان وغيرهما - وهذا لفظ (البخاري) عن أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قال الإِمام: (غير المغضوب عِليهم ولا الضالين) ، فقولوا: آمين، فإنه من وافق قوله قول الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه.

(1/493)


وروى أبو داود، والترمذي وقال أيضاً: حسن، عن وائل بن حُجْر
رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فقال: آمين، مد بها صوته.
ولابن ماجة بإسناد - قال المنذري: صحيح - وابن خزيمة في
صحيحه، وأحمد والطبراني في الأوسط، عن عائشة رضي الله عنها، عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما حسدتكم اليهود (على شيء) ما حسدتكم على السلام والتأمين.

(1/494)


ولأبي داود عن أبي زهير النميري رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلًا يدعو. فقال: أوْجَبَ إن ختم، فقال رجل من القوم: بأي شيء يختم؟. قال: بآمين (فإنه إن ختم بآمين فقد أوجب) .
قال أبو زهير: آمين مثل الطابع على الصحيفة.
وللبيهقي في الدعوات، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا
عند النبي - صلى الله عليه وسلم - جلوساً، فقال: إن الله عز وجل أعطاني خصالًا ثلاثاً: أعطاني الصلاة في الصفوف، وأعطاني التحية، إنها لَتَحِيَّةُ أهل الجنة، وأعطاني التأمين ولم يعطه أحداً من النبيين قبلي، إلا أن يكون الله أعطى هارون، يدعو موسى وهارون يؤمِّن، عليهما السلام.
وروى عبد الرزاق في جامعه عن بشر بن رافع، عن أبي عبد الله، عن

(1/495)


أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان موسى بن عمران عليه السلام إذا دعا
أمَّن هارون عليه السلام.
قال: وسمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: "آمين" اسم من أسماء الله عز وجل.

(1/496)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الجزء الثاني: مَصَاعِدُ النَّظَرِ للإشْرَافِ عَلَى مَقَاصِدِ السِّوَرِ
ويُسَمَّى: "المَقْصِدُ الأَسْمَى في مُطَابَقَةِ اسْمِ كُلِّ سُورَةٍ لِلمُسَمَّى"

(2/4)