مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور

سورة الرعد
قال الداني وتبعه الجعبري: وعطاء: مكية.
قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير
وقال قتادة: هي مدنية، إلا قوله تعالى: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ) .
قال الجعبري: وعنه من أولها إلى: (ولو أنَّ قرآناً) .
والأحاديث الواردة في سبب نزول آية الرعد في أرْبَدَ وعامرِ بن الطُفَيْلِ
وغيرهما تدل على أنها مدنية.

(2/189)


والأحاديث الواردة في سبب نزول: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ) تدل على أنها مكية. والله أعلم.
وقال النجم النسفي: هي مدنية في قول عكرمة والحسن وقتادة ولم
يستثن شيئاً، وكذا قال الغزنوي: قال قتادة: كلها مدنية.
وقال مقاتل: هي مكية، إلا الآية التي في آخر السورة.
وقال الأصفهاني: وقيل: هي مكية، إلا آيتين: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ) الآية، (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا) الآية.
وعزا الغزنوي هذا القول إلى ابن عباس رضي الله عنهما.
وقال الأصفهاني: وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنها مدنية إلا آيتين
نزلتا بمكة، وهما قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ) إلى
آخرهما.
وقيل: المدني منها قوله تعالى: (هو الذي يريكم البرق) ، إلى قوله: (دعوة الحق) .

(2/191)


عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها
وأيها ثلاث وأربعون في الكوفى، وأربع في المدنيين والمكي، وخمس في
البصري، وسبع في الشامي.
واختلافها خمس آيات:
(لفي خلق جديد) ، أسقطها الكوفي وحده.
(هل يستوي الأعمى والبصير) ، عدها الشامي وحده.
(أم هل تستوي الظلمات والنور) ، أسقطها الكوفي وحده.
(أولئك لهم سوء الحساب) ، عدها الشامي وحده.
(من كل باب) أسقطها المدنيان والمكي.
وفيها ما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع، خمسة مواضع:
(المر) ، (وما تغيض الأرحام وما تزداد) ، (لربهم الحسنى) .
(يكفرون بالرحمن) .
وعكسه موضع واحد: (يضرب الله الأمثال) .

(2/192)


رويها سبعة أحرف: (نرق لعبد) ، العين: متاع
وردف النون والقلوب: واو، والباقي: ألف.
مقصودها
ومقصودها: وصف الكتاب بأنه الحق في نفسه، وتارة يتأثر عنه، مع
أن له صوتاً وصيتاً، وإرغاباً وإرهاباً، يهدي بالفعل.
وتراه لا يتأثر، بل يكون سبباً للضلال والعمى.
وأنسب ما فيها لهذا المقصد: الرعد، فإنه مع كونه حقاً في نفسه
يسمعه الأعمى والبصير، والبارز والمستتر، وتارة يتأثر عنه البرق والمطر وتارة لا.
وإذا نزل المطر: فتارة ينفع إذا أصاب الأراضي الطيبة وسلمت من
عاهة، وتارة يخيب إذا نزل على السباخ الخوارة، وتارة يضر بالإغراق، أو
الصواعق، أو البرد، وغيرها.

(2/193)


فضائلها
وروى الترمذي، والنَّسائي، والحاكم، والبيهقي في الدعوات، عن ابن
عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سَمِعَ الرعد والصواعق، قال: اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك.
وللطبراني في الكبير - قال الهيثمي: وفيه قابوس بن أبي ظبيان وهو
ضعيف، وقد وثق - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -:

(2/194)


إن كان كما تقول، فأرنا أشياخنا الأول من الموتى، وافتح لنا هذه الجبال.
جبال مكة التي قد ضمتنا، فنزلت: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى) .
وسيأتي في سورة الشعراء - إن شاء الله تعالى - حديث في ذلك وغيره
عن الزبير رضي الله عنه.

(2/195)


سورة إبراهيم عليه السلام
مكية كلها.
قال الغزنوي: عند أكثر المفسرين.
ويروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وعطاء، وقتادة، إلا آيتين نزلتا
بالمدينة في قتلى قريش يوم بدر: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا)
إلى آخرهما (وَبِئْسَ الْقَرَارُ) .
وقال البغوي: إلى قوله: (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) مع تسميتهما
آيتين.
عدد آياتها وما يشبه الفاصلة منها
وآيها إحدى وخمسون في البصرى، واثنتان في الكوفى، وأربع في المدنيين
والمكي، وخمس في الشامي.

(2/196)


واختلافها سبع آيات:
(لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) ، و (أن أخرج قومك
من الظلمات إلى النور) ، لم يعدهما الكوفي والبصري، وعدهما الباقون.
(وعادًا وثمود) لم يعدها الكوفي والشامي، وعدها الباقون.
(بخلق جديد) عدها المدني الأول والكوفي والشامي، ولم يعدها
الباقون.
(وفرعها في السماء) لم يعدها المدني الأول، وعدها الباقون.
(وسخر الليل والنهار) لم يعدها البصري، وعدها الباقون.
(عما يعمل الظالمون) عدها الشامي، ولم يعدها الباقون.
وفيها مما يشبه الفواصل وليس معدوداً بإجماع، سبعة مواضع:
(الر) ، (يضل الله الظالمين) ، (دائبين) ، (يأتيهم العذاب)
(أجل قريب) ، (غير الأرض والسماوات) (من قطران) .

(2/197)


وعكسه ثلاثة:
(ما يشاء) ، (فيها سلام) ، (وأفئدتهم هواء)
ورويها عشرة أحرف: أصدم لظن بذر.
مقصودها
ومقصودها: التوحيد، وبيان أن هذا الكتاب غاية البلاع إلى الله، لأنه
كافل ببيان الصراط الدال عليه، المؤدي إليه.
وأدل ما فيها على هذا المرام: قصة إبراهيم عليه السلام.
أما التوحيد: فواضح.
وأما أمر الكتاب: فلأنه من جملة دعائه لذريته الذين أسكنهم عند
البيت المحرم، ذرية إسماعيل عليه السلام: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) .

(2/198)


ما ورد في شأنها
أما ما ورد في شأنها: فروى البزار عن أنس بن مالك رضي الله عنه
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان فيه العمل الصالح. وديوان فيه ذنوبه. وديوان فيه النعم من الله عليه. فيقول

(2/199)


الله تعالى لأصغر نعمة - أحسبه قال: في ديوان النعم - خذي ثمنك من عمله
الصالح، فتستوعب عمله الصالح ثم تتنحى فتقول: وعزتك وجلالك ما
استوفيت، وتبقى الذنوب والنعم وقد ذهب العمل الصالح، فإذا أراد الله أن
يرحم عبداً قال: يا عبدي قد ضاعت حسناتك، وتجاوزت عن سيئاتك -
أحسبه قال -: ووهبت لك نعمتي.
وروى البزار - برواةٍ قال المنذري: ثقات - عن عائشة رضي الله
عنها قالت: قلت: يا رسول الله، تبتلي هذه الأمة في قبورها، فكيف بي
وأنا امرأة ضعيفة؟.
قال: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) .
وروى الشيخان وغيرهما - وهذا لفظ مسلم - عن البراء بن عازب
رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ)
نزلت في عذاب القبر، يقال له: من ربك؟.
فيقول: ربي الله، ونبي محمد، فذلك قوله: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) .
وفي رواية لأبي داود عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن المسلم إذا سئل في القبر فشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فذلك قول الله تعالى:

(2/200)


(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) .
وللطبراني في الأوسط - قال الهيثمي: وفيه عطية العوفي وهو
ضعيف - عن أبي سعيد الخدري رضي الله عليه قال: سمعت رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في هذه الآية (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ)
قال: في الآخرة في القبر.
وروى ابن رجب عن مسروق قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن
هذه الآية (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ)
قالت: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه في حجري وأنا ألمسه إذ ذكرت هذه الآية ففاضت عيناي حتى قطرت دموعي على وجهه، فرفع رأسه إليَّ فقال لي: ما يبكيك؟
فقالت: يا رسول الله ذكرت قول الله عز وجل: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) ، فقال: سبقت الناس يا عائشة.
قلت: فأين الناس يومئذ؟.
قال: على الجسر.
وآخره في مسلم.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: أخبرت عن سياد بن جعفر قال:
دخلت على حبيب أبي محمد، فقال: اقرأ علي، فأخذت مصحفه، فأول ما
وقع في يدي: (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) .
فجعل يقول وَاسْتَفْتَحُوا) ، ويبكي.

(2/201)


سورة الحجر
مكية كلها إجماعاً.
عدد آياتها وما يشبه الفاصلة فيها
وآيها بالإجماع: تسع وتسعون، على عدد الأسماء الحسنى الكافلة لحفظ
الوجود، وانتظامه على ما يراد منه.
فلا غرو ان كانت هذه السورة كفيلة بالوعد بالحفظ للذكر، وإظهار
ذلك الوعد في مظهر العظمة، للإعلام بنفوذ الكلمة.
ولذلك تمت الكلمة في الكفاية لأمر المستهزئين، الذين كانوا رؤوس من جعلوا القرآن عضين.
قال الجعبري: وفيها ما يشبه الفواصل موضع واحد:
(الر)

(2/202)


ورويها ثلاثة أحرف: ملن.
مقصودها
ومقصودها: وصف الكتاب بأنه في الذروة من الجمع للمعاني.
الموضحة للحق من غير اختلاف أصلًا.
وأشكل ما فيها وأمثله وأشبهه في هذا المعنى: قصة أصحاب الحجر فإن
وضوح آيتهم عندهم - وعند كل من شاهدها، أي سمع بها وصحت عنده - كوضوح ما دل عليه مقصود هذه السورة في أمر الكتاب عند جميع العرب، لاسيما قريش. وأيضاً آيتهم في غاية الإيضاح للحق، والجمع لمعانيه الدائرة على التوحيد، المقتضى للاجتماع على الداعي.
ومن هنا يتضح ويتأيد ما اخترته من الإعراب لقوله تعالى: (كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) .
من تعليقي له بقوله: (فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81)
كما حققته في أصل هذا الكتاب.
على أن لفظ الحجر يدل على ما دل عليه مقصود السورة من الجمع
والاستدارة التي روحها الإحاطة، المميزة للمحاط به من غيره، بلا لبس
أصلاً.

(2/203)


فضائلها
وأما فضائلها: فروى البزار - مرسلاً ومتصلاً - عن أبي هريرة وأبي
سعيد رضي الله عنهما: قالا: جاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاً يقرأ سورة الحجر

(2/204)


وسورة الكهف، فسكت. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم.
وللطبراني في الكبير بسند فيه خالد بن نافع الأشعري - قال
الهيثمي: قال أبو داود: متروك، وقال الذهبي: هذا تجاوز في الحد لا يستحق الترك، فقد حدث عنه أحمد بن حنبل وغيره، وبقية رجاله ثقات - عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا اجتمع أهل النار في النار، ومعهم من شاء الله من أهل القبلة، قال الكفار للمسلمين، ألم تكونوا مسلمين؟.
قالوا: بلى. قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟.
قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها.
فسمع الله ما قالوا، فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا.
فلما رأى ذلك من بقي من الكفار في النار، قالوا: يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما خرجوا. قال: ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) .
وروى أبو عبيد في كتاب "الفضائل، والغريب "

(2/205)


عن يحيى بن أبي كثير مرسلاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر هو وأصحابه على إبل لحي يقال لهم بنو الملوح - أو بنو المصطلق - وقد عبست أبوالها من السمن، فتقنع بثوبه، ثم قرأ قول الله تعالى: (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ) إلى آخر الآية.
ومعنى "عبست": أن تجف أبوالها وأبعارها على أفخاذها وذلك إنما
يكون من كثرة الشحم، فذلك العبس.
وروى الطبراني - قال الهيثمي: ورجاله ثقات - عن ابن عمر رضي
الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما هلك قوم لوط إلا في الأذان، ولا تقوم القيامة إلا في الأذان.
قال الطبري: معناه عندي - والله أعلم -: في وقت أذان الفجر وهو
وقت الاستغفار والدعاء.

(2/206)