مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور سورة النحل
وتسمي أيضاً سورة النعم.
(مكية) إلا ثلاث آيات وهي قوله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ
فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ) إلى آخرها، فإنها
نزلت بالمدينة حين هَمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -
بالتمثيل بقريش إن أظهره الله بهم، كما مثلوا بعمه حمزة رضي
الله
حين قتلوه بأحد.
قال أبو عمرو الداني في كتاب العدد: هذا قول عطاء،
(2/207)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما مثله، إلا
أنه قال: نزلت بين مكة والمدينة منصرف رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - من أحد.
وما نزل بين مكة والمدينة، وكذا ما نزل بعد الهجرة، فهو مدني.
وقال الأصفهاني: وفي رواية أخرى عن ابن عباس: هي مكية إلا
ثلاث آيات نزلت بالمدينة، وهي قوله: (ولا تشتروا بعهد الله
ثمناً قليلاً -
إلى قوله -: يعلمون) .
وعن قتادة: هي مكية، إلا خمس آيات: (ولا تشتروا بعهد الله) .
الآيتين، ومن قوله؟ (وإن عاقبتم) إلى آخرها.
وعن ابن السائب: هي مكية، إلا خمس آيات، قوله: (والذين
هاجروا في الله من بعد ما ظلموا) ، (وإن عاقبتم) إلى آخرها.
(وعن مقاتل: مكية، إلا سبع آيات، قوله: (ثم إن ربك) .
الآيتن، وقوله: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ
إِيمَانِهِ) الآيتين،
(2/208)
وقوله: (وإن عاقبتم) إلى آخرها.
وقال قتادة - قال الجعبري: وجابر بن زيد -: من أولها أربعون
آية قال
الجعبري: إلى (والذين هاجروا في الله) مكي، ومن ثم إلى آخرها
مدني.
قال الجعبري: فجوز الأمرين باعتبار الطرفين. انتهى.
وذكرابن عبد البر في الاستيعاب بغير إسناد، أن خالد بن عقبة
جاء إلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: اقرأ عليَّ، فقرأ
عليه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)
الآية.
فقال: أعد، فأعاد فقال: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن
أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر.
ورواه البيهقي في الشعب، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بسند
جيد، إلا أنه قال: الوليد بن المغيرة، بدل خالد بن عقبة.
وكذا ذكره ابن إسحاق في السيرة بنحوه.
ورواه البيهقي في الدلائل.
وفي بعض رواياته: أن الوليد قال لقريش - وقد أنكروا عليه
اجتماعه
بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وسماعه لبعض ما جاء به - فقال:
ما فيكم رجل أعلم بالشعر
(2/209)
مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا
بأشعار الجن والله ما يشبه الذي
يقول شيئاً من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه
لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى،
وإنه ليحطم ما تحته.
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الوليد قال قريش وقد
حضر الموسم: أن وفود العرب ستقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر
صاحبكم.
فأجمعوا فيه رأياً، ولا تختلفوا، فيكذب بعضكم بعضاً، فقالوا:
فأنت يا أبا
عبد شمس فقل وأقم لنا فيه رأياً نقوم به، فقال: بل أنتم فقولوا
أسمع. فقالوا: نقول كاهن، قال: ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان،
فما هو بمزمزمة الكاهن ولا سجعه، قالوا: نقول مجنون.
قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه،
ولا تخالجه ولا وسوسته، قالوا: فنقول: شاعر، قال: ما هو بشاعر،
قد عرفنا الشعر: رجزه، وهزجه، وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه، فما
هو بالشعر.
قالوا: فنقول: ساحر، قال: ما هو بساحر، قد رأينا السَّحار
وسحرهم.
فما هو بنفثهم وعقدهم.
قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟.
قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجني، فما
أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف
(2/210)
إنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا:
ساحر جاء بقول هو
سجع يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء
وزوجته، وبين
المرء وعشيرته.
ولقد كان هذا الذي ظنه الوليد عليه من الله ما يستحق، حتى لقد
كان
كذبهم سبباً لِإسلام كثير من الصحابة رضي الله عنهم.
ومن ألطف ما في ذلك: ما رواه مسلم في الجمعة من صحيحه عن ابن
عباس رضي الله عنهما أن ضماداً رضي الله عنه قدم مكة، وكان من
أزد شنوءة، وكان يرقى من هذه الريح، فسمع سفهاء مكة يقولون: إن
محمداً مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل، لعل الله يشفيه
على يدي.
قال: فلقيه، فقال: يا محمد أني أرقى من هذه الريح، وإن الله
يشفى على يديّ من شاء، فهل لك؟
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الحمد لله نحمده
ونستعينه، ومن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،
(2/211)
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأن محمداً عبده ورسوله، أما بعد، فقال: أعد على كلماتك هؤلاء،
فأعادهن عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات،
فقال ة لقد سمعت قول
الكهنة وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء،
ولقد بلغن ناموس - وفي نسخة: قاموس، وفي نسخة: قاعوس - البحر.
هات يدك أبايعك على الِإسلام، فبايعه. فقال رَسُول الله - صلى
الله عليه وسلم -: وعلى قومك، فقال: وعلى قومي. الحديث.
عدد آياتها وما يشبه الفاصلة منها
وآيها مائة وثمانون وعشرون بلا خلاف بين العادين.
وفيها مما يشبه الفواصل، وليس معدوداً بإجماع: اثنا عشر موضعاً
(قصد السبيل) ، (وما يشعرون) ،
(2/212)
(والله يعلم ما يسرون وما يعلنون) أي الذي
بعده: (إنه لا يحب المستكبرين) ، (ما يشاؤون) ، (والملائكة
طيبين) ، (ما يكرهون) ، (أفبالباطل يؤمنون) ، (هل يستوون) ،
(وما عند الله باق) ، (متاع قليل) .
وعكسه خمسة:
(ويخلق ما لا تعلمون) ، (وما تعلنون) ، (وهم مستكبرون) ، (كن
فيكون) ، (على الله الكذب لا يفلحون) .
رويها ثلاثة أحرف: نمر.
الراء: موضعان (قدير) .
مقصودها
ومقصودها: الدلالة على أنه تعالى تام القدرة والعلم، فاعل
بالاختيار
منزه عن شوائب النقص.
(2/213)
وأدل ما فيها على هذا المعنى: أمر النحل،
لما ذكر من شأنها في دقة
الفهم، في ترتيب بيوتها على شكل التسديس، ترتيباً لا يصل إليه
أكابر
المهندسين، إلا بعد تكامل كبير، وقانون يقيسون به ذلك التقدير
وذلك على
وجه هو أنفع الوجوه لها، وفي رعيها، وسائر أمرها، من اختلاف
ألوان ما
يخرج منها، من أعسالها وشموعها، وجعل الشمع نوراً وضياء،
والعسل بركة وشفاء، مع أكلها من كل الثمار، النافع منها
والضار، وغير ذلك من
الأسرار.
ووسمها بالنعم واضح في ذلك، والله أعلم.
فضائلها
وأما فضائلها: فروى مسلم وأبو داود، والترمذي، والنَّسائي،
(2/214)
وابن جرير، عن أبي بن كعب رضي الله عنه
قال: كنت في المسجد، فدخل رجل فصلى، فقرأ قراءة أنكرتها عليه
ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة
صاحبه: فلما قضينا الصلاة، دخلنا جميعاً على رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، فدخل
آخر فقرأ - وفي رواية: ثم قرأ هذا سوى قراءة صاحبه - فأمرهما
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأا، فحسن النبي - صلى
الله عليه وسلم - شأنهما -
وفي رواية: فقال لهما النبي - صلى الله عليه وسلم -: قد أصبتم
وأحسنتم - فسقط في نفسي من التكذيب، ولا إذ كنت في الجاهلية،
فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قد غشيني، ضرب
في صدري، ففضت - وفي رواية: فارفضضت - عرقا فكأنما أنظر إلى
الله عز وجل فرق، فقال لي: يا أبي إن ربي أرسل إلي أن أقرأ
القرآن على حرف، فرددت إليه أن يهون على أمتي، فرد إلي الثانية
أن أقرأه على حرفين، فزددت إليه أن هون على أمتي، فرد إليَّ في
الثالثة أن أقرأه على سبعة أحرف ولك بكل ردّة رددتكها مسألة
تسألنيها، فقلت: اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي، وأخرت
الثالثة ليوم يرغب إليَّ الناس -
وفي رواية: الخلق كلهم - حتى إبراهيم عليه السلام.
(2/215)
وفي رواية لابن جرير عن أبي رضي الله عنه
قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أعيذك بالله من الشك
والتكذيب، وقال: إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على حرف، فقلت:
اللهم رب خفف عن أمتي، فقال: اقرأه على حرفين، فأمرني أن أقرأه
على سبعة أحرف، من سبعة أبواب من الجنة، كلها شاف كاف.
وللنسائي رضي الله عنه قال: أقرأني رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - سورة، فبينا أنا في المسجد جالس، إذ سمعت رجلاً يقرؤها
بخلاف قراءتي، فقلت له: من علمك هذه السورة؟
فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: لا تفارقني حتى
نأتي
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتيت فقلت: يا رسول الله،
إن هذا خالف قراءتي في السورة التي علمتني يا رسول الله - فقال
- صلى الله عليه وسلم -: اقرأ يا أبي، فقرأتها، فقال رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -: أحسنت، ثم قال للرجل: اقرأ فقرأ فخالف
قراءتي، فقال له رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: أحسنت، ثم قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: يا أبي إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف
كلها كاف شاف.
وفي (رواية) أخرى له: ما حاك في صدري منذ أسلمت، إلا أني
قرأت آية وقرأها آخر غير قراءتي، فقلت: أقرأنيها رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -، وقال الأخر: أقرأنيها رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت:
يا رسول الله أقرأتني
آية كذا وكذا؟. قال: نعم، وقال الآخر: ألم تقرئني آية كذا
وكذا؟.
(2/216)
قال: نعم قال: إن جبريل وميكائيل عليهما
السلام أتياني، فقعد جبريل عليه
السلام عن يميني، وميكائيل عليه السلام عن يساري، فقال جبريل:
اقرأ
القرآن على حرف، وقال ميكائيل: استزده، حتى بلغ سبعة أحرف فكل
حرف شاف كاف.
وروى أبو عبيد هذه الرواية عن أبي رضي الله عنه.
وروى عقبها عن سليمان بن صرد عن أبي بن كعب رضي الله عنهما
أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - برجلين قد اختلفا في
القراءة، ثم ذكر مثل ذلك.
وأخرجه المحاملي في الجزء السادس عشر من أماليه الأصبهانيات.
ولفظه (فقال) : يا أبي إن الملكين أتياني، فقال أحدهما: اقرأ
القرآن على
حرف، وقال الآخر: زده، فقلت: زدني، قال: اقرأه على حرفين، فقال
الآخر: زده، قلت، زدني، قال: اقرأ على ثلاثة أحرف، فقال الآخر:
زده، فقلت: زدني، قال: اقرأ على أربعة أحرف، قال الآخر: زده،
قلت: زدني، قال: اقرأ على أربعة أحرف، قال الآخر: زده، قلت:
زدني، قال: حتى انتهى إلى سبعة أحرف، فقال: إن القرآن نزل على
سبعة أحرف.
ورواه النسائي في سننه، وعبد بن حميد في مسنده،
(2/217)
ولفظه: قالَ: قرأ رجل آية، وقرأتها على غير
قراءته، فقلت: من أقرأك هذا؟ قال: أقرأنيها رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -، فانطلقت به إلى النبي فقلت: يا رسول الله
أقرأتني آية كذا وكذا؟ فقال: نعم، فقال الرجل: أقرأتني آية كذا
وكذا؟ ، فقال: نعم، فقال: إن جبريل وميكائيل عليهما السلام
أتياني، فجلس جبريل عن يميني، وميكائيل عن يساري، فقال جبريل:
يا محمد اقرأ القرآن على حرف، فقال ميكائيل: استزده، فقلت:
زدني، فقال: اقرأه على حرفين، فقال ميكائيل: استزده، فقلت:
زدني، فقال: اقرأه على ثلاثة، فقال ميكائيل: استزده، فقلت:
زدني كذلك حتى بلغ سبعة أحرف، فقال: اقرأه على سبعة أحرف، كلٌ
شاف كاف.
ورواه أحمد بن منيع في مسنده عن سليمان بن صرد وهو الخزاعي
رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اقرأ
القرآن على سبعة أحرف، كل شاف كاف.
وفي رواية له عن سليمان - أيضاً - رضي الله عنه قال: أتى أبي
بن
كعب رضي الله عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجلين قد
اختلفا في القرآن فاستقرأهما فاختلفا، فقال لكل واحد منهما:
أحسنت، فقال: إني أمرت أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف.
قال شيخنا البوصيري: ورواه النسائي أيضاً، ورواه أبو داود في
سننه من طريق سليمان عن أبي رضي الله عنهما، فجعله من مسند أبي
رضي الله عنه.
(2/218)
ورواه الطبراني عن سليمان بن صرد رضي الله
عنه قال: أتى محمداً - صلى الله عليه وسلم - الملكان، فقال
أحدهما: اقرأ القرآن على حرف فقال الآخر: زده، فلم يزل
يستزيده، حتى قال: اقرأ القرآن على سبعة أحرف.
وفي رواية عنده، عن سليمان رضي الله عنه يرفعه، قال: أتاني
ملكان
فقال أحدهما: اقرأ، قال الآخر: على كم، قال: على حرف قال: زده،
حتى انتهى إلى سبعة أحرف.
وروى ابن جرير عن أنس بن مالك، عن عبادة بن الصامت، عن أبي
بن كعب رضي الله عنهم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-: أنزل القرآن على سبعة أحرف.
وروى ابن جرير أيضاً عن سليمان بن صرد، عن أبي بن كعب رضي
الله عنهما قال: رحت إلى المسجد، فسمعت رجلًا يقرأ، فقلت: من
أقرأك؟.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانطلقت به إلى رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: استقرىء هذا، قال: فقرأ،
فقال: أحسنت قال: فقلت: فإنك أقرأتني كذا وكذا.
فقال: وأنت قد أحسنت، قال: فقلت: قد أحسنت، قد أحسنت؟ ، قال:
فضرب بيده على صدري، ثم قال: اللهم أذهب عن أبي الشك.
قال: ففضت عرقاً، وامتلأ جوفه فرقاً ثم قال: إن الملكين
أتياني، فقال أحدهما: اقرأ القرآن على حرف وقال الآخر: زده،
قال: قلت: زدني، قال: اقرأه على حرفين، حتى بلغ سبعة أحرف.
ورواه البيهقي في السنن الكبرى عن سليمان، عن أبي رضي الله
عنهما
قال: قرأت آية، وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه خلافها، فأتينا
النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: ألم تقرئني آية كذا
وكذا؟.
قال: بلى، قال ابن مسعود - رضي الله عنه -
(2/219)
ألم تقرئنيها كذلك؟.
قال: بلى.
قال: كلاكما محسن، قلت: ما كلانا أحسن ولا أجمل.
قال: فضرب صدري وقال: يا أبيّ إني أقرئت القرآن.
فقيل لي: على حرف، أم على حرفين؟.
فقال: الملك الذي معي: على حرفين، فقلت: على حرفين.
فقيل لي: على حرفين أم ثلاثة؟.
فقال الملك الذي معي: على ثلاثة، فقلت: على ثلاثة حتى بلغ سبعة
أحرف، قال: ليس فيها إلا شاف كاف، قلت: غفور رحيم عليم حكيم،
نحو هذا، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو رحمة بعذاب.
ولابن جرير عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن أبيّ بن كعب
رضي الله عنه قال: ما حاك في صدري منذ أسلمت، إلا أني قرأت آية
فقرأها رجل غير قراءتي، فقلت: أقرأنيها رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -، وقال الرجل: أقرأنيها رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أليس
أقرأتني آية
كذا وكذا؟ ، قال: بلى، قال الرجل: ألم تقرئني آية كذا وكذا؟.
قال: بلى، إن جبريل وميكائيل - عليهما السلام - أتياني، فقعد
جبريل عن يميني، وميكائيل عن يساري فقال جبريل: اقرأ القرآن
على حرف، وقال ميكائيل: استزده، قال جبريل: اقرأ القرآن على
حرفين، فقال ميكائيل: استزده، حتى بلغ سبعة أحرف وكل شاف كاف.
وفي رواية: حتى بلغ ستة أحرف، قال: اقرأه على سبعة أحرف كل
كاف شاف.
وروى أبو عبيد في الفضائل، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه،
(2/220)
أنه قال: ليس الخطأ أن تدخل بعض السورة في
الأخرى، ولا أن تختم الآية
بحكيم عليم، أو عليم حكيم، أو غفور رحيم، ولكن الخطأ أن تجعل
فيه ما
ليس منه، أو أن تختم آية رحمة بآية عذاب، أوآية عذاب بآية
رحمة.
وقال أبو عبيد في معنى ذلك ما حاصله: أنه إذا أبدل شيئاً من
ذلك
غلطاً، أو سبق لسان، أو نحو ذلك، لم يخرج عن كونه شافياً
كافياً، فإن
الكل صفات الله، ومعاني نحو هذا يقارب بعضه بعضاً، فلا يعنف
على هذا
الإبدال، ولا يقال له: أخطات، بل يقال له: التلاوة كذا وكذا
بخلاف ما
إذا ختم آية رحمة بعذاب، أو آية عذاب برحمة، فإنه غيّر المعنى
فحينئذ يطلق
عليه الخطأ.
وليس المراد بالحديث والأثر: أنه يجوز له أن يتعمد إبدال ذلك
والله
أعلم.
وهذه السورة التي وقع لأبيّ الخلاف فيها مع صاحبيه رضي الله
عنهم
هي سورة النحل.
روى الِإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في أول تفسيره عن
أبي
رضي الله عنه قال: دخلت المسجد فصليت، فقرأت النحل، ثم جاء رجل
آخر فقرأها على غير قراءتي، ثم دخل رجل آخر، فقرأ بخلاف
قراءتنا.
فدخل في نفسي من الشك والتكذيب أشد مما كان في الجاهلية، فأخذت
بأيديهما، فأتيت بهما النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا
رسول الله استقرىء هذين، فقرأ أحدهما، فقال: أصبت، ثم استقرأ
الآخر، فقال: أحسنت، فدخل قلبي أشد مما كان في الجاهلية من
الشك والتكذيب فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدري
فقال: أعاذك الله من الشك وخسأ عنك الشيطان، ففضت عرقاً.
فقال: أتاني جبريل عليه السلام فقال: اقرأ القرآن على حرف
واحد، فقلت: إن أمتي لا تستطيع ذلك حتى قال سبع مرات، فقال:
اقرأ على سبعة أحرف، ولك بكل ردة رددتها مسألة.
(2/221)
وفي رواية: سمعت رجلًا يقرأ في سورة النحل
قراءة تخالف قراءتي ثم
سمعت آخر يقرؤها يخالف ذلك، فانطلقت بهما إلى رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فقلت: إني سمعت هذين يقرأان في سورة النحل،
فسألتهما من أقرأهما؟ فقالا: رسول "الله - صلى الله عليه وسلم
-، فقلت: لأذهبن بكما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ
خالفتما ما أقرأني
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - لأحدهما: اقرأ، فقرأ فقال: أحسنت، ثم قال للآخر:
اقرأ فقرأ، فقال: أحسنت، فوجدت في نفسي وسوسة الشيطان حتى احمر
وجهي، فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجهي، فضرب
بيده في
صدري، ثم قال: اللهم اخسأ الشيطان عنه، يا أبي أتاني آت من ربي
فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: رب
خفف عن أمتي، ثم أتاني الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ
القرآن على حرف واحد، فقلت: رب خفف عن أمتي، ثم أتاني الثالثة
فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد مثله، ثم
أتاني الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة
أحرف، ولك بكل ردة مسألة، فقلت: يا رب اغفر لأمتي، رب اغفر
لأمتىِ، واختبأت الثالثة شفاعة لأمتي يوم القيامة.
وفي رواية عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن رجلين اختصما في آية
من
القرآن، وكلّ يزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرأه،
فتقارأا إلى أبي رضي الله عنه، فخالفهما أبي رضي الله عنهم،
فتقارأوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا نبي الله
اختلفنا في آية من القرآن، وكلنا يزعم أنك أقرأته، فقال
لأحدهما: اقرأ، فقرأ، فقال: أصبت، وقال للآخر: اقرأ فقرأ خلاف
ما قرأ صاحبه، فقال: أصبت، وقال لأبي: اقرأ، فقرأ فخالفهما،
فقال: أصبت، قال أبي: فدخلني من الشك في أمر النبي - صلى الله
عليه وسلم - ما دخل بي من أمر الجاهلية، قال: فعرف رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - الذي في وجهي، فرفع يده فضرب
صدري، وقال: استعذ بالله من الشيطان الرجيم، قال: ففضت عرقا،
وكأني أنظر إلى الله فرقاً،
(2/222)
وقال: إنه أتاني آت عن ربي وقال: إن ربك
يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: رب خفف عن أمتي،
قال: ثم جاء فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد،
فقلت: رب خفف عن أمتي.
قال: ثم جاء الثالثة فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على
حرف واحد، فقلت: رب خفف عن أمتي، قال: ثم جاء في الرابعة فقال:
إن ربك يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف، ولك بكل ردة مسألة
قال: قلت: رب اغفر لأمتي، رب اغفر لأمتي، واختبات الثالثة
شفاعة لأمتي، حتى إن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام ليرغب
فيها.
وفي رواية: اقرأه على سبعة أحرف من سبعة أبواب من الجنة.
وفي رواية: من قرأ منها حرفاً، فهو كما قرأ.
قال أبو عبيد في كتاب الفضائل، بعد إيراد طرق حديث السبعة
الأحرف: قد تواترت هذه الأحاديث كلها على الأحرف السبعة، إلا
حديثاً
واحداً يروي عن سمرة رضي الله عنه، ثم أسند ما تقدم عنه في
الفضائل
العامة وقال: ولا نرى المحفوظ إلا السبعة، لأنها المشهورة، وقد
بينت فيما
مضى: أنه لا معارضة.
وسيأتي الالتفات إلى هذا الحديث بالتفات بديع في سورة "لم يكن"
إن
شاء الله تعالى، وبيان أنه بسبب ما تضمنه هذا الحديث قرأها
النبي - صلى الله عليه وسلم - على أبي رضي الله عنه، فيا لها
من كرامة ما أجلها وأعلى قدرها ومحلها.
ويأتي في سورة الفرقان حديث عمر رضي الله عنه في السبعة
الأحرف.
(2/223)
وقال النووي في التبيان: عن عمر رضي الله
عنه، أنه قرأ يوم الجمعة
على المنبر سورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد، وسجد
الناس.
حتى إذا كانت الجمعة الثانية قرأ بها، حتى إذا جاء السجدة قال:
يا أيها
الناس إنا نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم
عليه، ولم يسجد عمر رضي الله عنه، رواه البخاري.
قال: وهذا الفعل والقول منه في هذا المجمع دليل ظاهر على: على
أنه لا وجوب.
وقال ابن رجب: وقد روى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أنه
قرأ في يوم عيد في خطبة العيد سورة البقرة، وكذلك عمر رضي الله
عنه.
كان يكثر تلاوة القرآن على المنبر، وربما قرأ سورة النحل ثم
نزل فسجد.
وروى الإِمام أحمد والطبراني بسند فيه شهر - قال الهيثمي: وثقة
أحمد وجماعة، وفيه ضعف لا يضر، وبقية رجاله ثقات - عن ابن عباس
رضي الله عنهما قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
بفناء بيته جالس، إذ مر به عثمان بن مظعون، فَكَشَرَ إلى رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: أَلَا تَجْلِسُ قَالَ بَلَى قَالَ فَجَلَسَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُسْتَقْبِلَهُ فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُهُ إِذْ شَخَصَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَصَرِهِ
إِلَى السَّمَاءِ فَنَظَرَ سَاعَةً إِلَى السَّمَاءِ فَأَخَذَ
يَضَعُ بَصَرَهُ حَتَّى
(2/224)
وَضَعَهُ عَلَى يَمِينِهِ فِي الْأَرْضِ
فَتَحَرَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ جَلِيسِهِ عُثْمَانَ إِلَى حَيْثُ وَضَعَ
بَصَرَهُ وَأَخَذَ يُنْغِضُ رَأْسَهُ كَأَنَّهُ يَسْتَفْقِهُ
مَا يُقَالُ لَهُ وَابْنُ مَظْعُونٍ يَنْظُرُ فَلَمَّا قَضَى
حَاجَتَهُ وَاسْتَفْقَهَ مَا يُقَالُ لَهُ شَخَصَ بَصَرُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى
السَّمَاءِ كَمَا شَخَصَ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَأَتْبَعَهُ
بَصَرَهُ حَتَّى تَوَارَى فِي السَّمَاءِ فَأَقْبَلَ إِلَى
عُثْمَانَ بِجِلْسَتِهِ الْأُولَى قَالَ يَا مُحَمَّدُ فِيمَ
كُنْتُ أُجَالِسُكَ وَآتِيكَ مَا رَأَيْتُكَ تَفْعَلُ
كَفِعْلِكَ الْغَدَاةَ قَالَ وَمَا رَأَيْتَنِي فَعَلْتُ قَالَ
رَأَيْتُكَ تَشْخَصُ بِبَصَرِكَ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ
وَضَعْتَهُ حَيْثُ وَضَعْتَهُ عَلَى يَمِينِكَ فَتَحَرَّفْتَ
إِلَيْهِ وَتَرَكْتَنِي فَأَخَذْتَ تُنْغِضُ رَأْسَكَ
كَأَنَّكَ تَسْتَفْقِهُ شَيْئًا يُقَالُ لَكَ قَالَ وَفَطِنْتَ
لِذَاكَ قَالَ عُثْمَانُ نَعَمْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ آنِفًا
وَأَنْتَ جَالِسٌ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ نَعَمْ قَالَ
فَمَا قَالَ لَكَ قَالَ
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ
وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ} .
قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي، وأحببت
محمداً - صلى الله عليه وسلم -.
وروى أحمد باسناد - قال الهيثمي: حسن - عن عثمان بن أبي
العاضي رضي الله عنه قال: كنت عند رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - جالساً إذ شخص ببصره، ثم صوبه، حتى كاد أن يلزقه
بالأرض، قال: وشخص ببصره
(2/225)
قال: أتاني جبريل عليه السلام، فأمرني أن
أضع هذه الآية بهذا الوضع من هذه السورة، (إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي
الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) .
وللطبراني في حديث طويل، وفي مسنده - كما قال الهيثمي - عاصم
ابن بهدلة، وهو ثقة وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح، عن أبي
الضحى قال: اجتمع مسروق وشتير بن شكل في المسجد، فقال مسروق.
هل سمعت عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: أن أجمع آية في
القرآن:
حلال وحرام، وأمر ونهي، ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسَانِ) إلى آخر
الآية؟.
قال: نعم. قال: وأنا قد سمعته.
ورواه أبو عبيد في الفضائل، من طريق أخرى، عن الشعبي قال:
التقى مسروق بن الأجدع وشتير بن شكل، فذكره.
وذكر الحافظ زين الدين بن رجب، عن الحسن، أنه قرأ هذه الآية
((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) ثم وقف
فقال: إن الله جمع لكم الخير
(2/226)
كله، والشر كله، في آية واحدة، فوالله ما
ترك العدل والاحسان شيئاً من
طاعة الله إلا جمعه، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية
الله شيئاً إلا
جمعه.
وروى ابن رجب من طريق أبي مسعود الجريري، حدثني شيخ في
مسجد الأشياخ، كان يحدثنا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينا
نحن
حول مريض لنا، إذ هدأ وسكن، حتى ما يتحرك منه عرق، فسجيناه
وأغمضناه، وأرسلنا إلى ثيابه وصدره وسريره، فلما ذهبنا لنحمله
لنغسله.
تحرك، فقلنا: سبحان الله، سبحان الله، ما كنا نراك إلا قد مت،
قال: فإني قد مت وذهب بي إلى قبري، فإذا إنسان حسن الوجه، طيب
الريح، قد وضعني في لحدي، وطواه بالقراطيس، إذ جاءت إنسانة
سوداء منتنة الريح، فقالت: هذا صاحب كذا، وهذا صاحب كذا، أشياء
استحي من ذكرها، كأنما أقلعت عنها ساعتئذ، قال: قلت: أنشدك
الله أن تدعني، وهذه قالت: انطلق يخاصمك، فانطلقت، فإذا دار
فيحاء واسعة، فيها مصطبة كأنها من فضة، وفي ناحية منها مسجد،
ورجل قائم يصلي، فقرأ سورة النحل، فتردد في مكان منها، ففتحت
عليه فانفتل، فقال: السورة معك؟. فقلت: نعم، فقال: أما إنها
سورة النعم، ورفع وسادة قريبة منه، فأخرج صحيفة فنظر فيها،
فبادرته السوداء، فقال: فعل كذا، وفعل كذا قال: وجعل الحسن
الوجه يقول: وفعل كذا، وفعل كذا، يذكر محاسني، قال: فقال
الرجل: عبد ظالم لنفسه، ولكن الله عزَّ وجلّ تجاوز عنه، لم
يجيء أجل هذا بعد أجل هذا يوم الإثنين، فقال لهم: انظروا، فإن
أنا مت يوم الإثنين فأرجو إلى ما رأيت، وإن لم أمت يوم
الإثنين، فإنما هو هذيان الوجع، فلما كان يوم الإثنين صح، حتى
بعد العصر، ثم أتاه أجله فمات.
(2/227)
سورة الإسراء
وتسمى سورة بني إسرائيل، وسورة سبحان، والأقصى.
مكية إجماعاً.
وقال الغزنوي: غير ثماني آيات، فيها خبر وفد ثقيف، وخبر ما
قالت
اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليست هذه بأرض
الأنبياء) ، وذلك من قوله تعالى:
(وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ - إلى قوله -: (وَاجْعَلْ لِي
مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) فإن هذه الآيات مدنيات.
روى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما
عدد آياتها وما يشبه الفاصلة منها
وآيها مائة وإحدى عشرة في الكوفى، وعشر في عدد الباقين.
(2/228)
اختلافها آية (للأذقان سجداً) ، عدها
الكوفي وحده.
وفيها مما يشبه الفواصل وليس معدوداً بإجماع، أربعة عشر
موضعاً:
(لبنى إسرائيل) ، (بأس شديد) ، (ويبشرالمؤمنين) ، (السنين
والحساب) ، (لمن نريد) ، (وبالوالدين إحساناً) ، (قتل مظلوماً)
، (لوليه سلطاناً) .
(بها الأولون) ، (عذاباً شديداً) ، (ورحمة للمؤمنين) ،
(وصمَّا) (وبالحق نزل) (للأذقان يبكون)
وعكسه اثنان:
(الجبال طولاً) ، (بكم لفيفا)
(2/229)
ورويها أحد عشر حرفاً: "قلّ من سعد بفره"،
وبعد كلّ ألف
التنوين، إلا الراء من (البصير) أول آيها.
مقصودها
ومقصودها: الإقبال على الله وحده، وخلع كل ما سواه، لأنه وحده
المالك لتفاصيل الأمور، وتفضيل بعض الخلق على بعض.
وذلك هو العمل بالتقوى، التي أدناها خلع الأنداد، واعتقاد
التوحيد.
على ما دعا إليه افتتاح النحل. وأعلاها: الإحسان، الذي اختتمت
به، وهو الفناء عما سوى الله.
وذلك شرح ما أشار إليه آخر التي قبلها، من قوله تعالى: (إِنَّ
اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ
مُحْسِنُونَ (128) .
وكل ما أسمائها واضح الدلالة على هذا:
أما سبحان - الذي هو علم للتنزيه - فمن أظهر ما يكون فيه، لأن
من
كان على غاية النزاهة عن كل نقص، كان جديراً بأن: (لا تعبدوا
إلا
إياه) وأن يعرض كل مخلوق عن كل ما سواه، لكونه متصفاً بما ذكر.
(2/230)
وأما الإِسراء: فمن عرف أموره كلها في
السّرى
بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام، إلى المسجد
الأقصى، ثم العروج من المسجد الأقصى، إلى السماوات العلي، إلى
سدرة النتهي، ثم إلى ما شاء العليُّ الأعلى، ثم التردد بين
موسى عليه السلام، وبين من أسرى به من السماء السادسة إلى ما
وصل إليه في المرة الأولى من الحد الأسمى، والحضرة الشماء،
والمحل الأقدس الأنهى، الذي وصل إليه دون غيره من الخلائق وهو
فوق السماء السابعة، بما لا يعلمه إلا الله تعالى، مرة بعد
أخرى ثم الرجوع إلى المسجد الأقصى، ثم إلى الكعبة العظمى، قبل
فجر تلك الليلة، علم أن الفاعل لذلك متصف بكل ما ذكر، فأقبل
بكليته، وانقطع دائماً إليه.
وكذا تسميتها بالأقصى، فإنه مشير إلى قصة الإِسراء.
وأما بنو إسرائيل، فمن أحاط - أيضاً - بتفاصيل أمرهم في مسيرهم
إلى
الأرض المقدسة، الذي هو كالِإسراء، وإيتائهم الكتاب، وما ذكر
مع ذلك
من شأنهم في هذه السورة، الذي هو معروف بالفرق بين الإسراءين
والفرق
بين الإيتاءين، عرف ذلك.
(2/231)
فضائلها
وأما فضائلها: فروى البخاري في فضائل القرآن، عن ابن مسعود
رضي الله عنه قال: بنو إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه،
والأنبياء، إنهن
من العتاق الأول، وهن من تلادي.
ورواه أبو عبيد، فأسقط سورة الأنبياء، وقال: هن من تلادي، وهن
من العتيق الأول.
وقال: إن معناه: من أول ما أخذت من القرآن، شبهة بتلاد المال
القديم، ومعناه: أن ذلك كان بمكة.
وروى الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب، والبيهقي في
(2/232)
الدعوات، من حديث عائشة رضي الله عنها، أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا ينام حتى يقرأ - وفي
رواية البيهقي: كان يقرأ كل ليلة - بني إسرائيل والزمر.
ولأحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سأل أهل مكة النبي -
صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن ينحي
الجبال عنهم فيزدرعوا، فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت
أن تؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم.
قال: لا، بل أستأني بهم، وأنزل الله
هذه الآية: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا
أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ
النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا) .
وفي رواية: فدعا، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن ربك يقرئك
السلام ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا، فمن كفر منهم
بعد
ذلك عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم
باب
التوبة والرحمة، قال: بل افتح لهم باب التوبة والرحمة.
قال البيهقي: ورجال الروايتين رجال الصحيح، إلا أنه وقع في أحد
طرقه عمران بن الحكم، وفي بعضها: عمران أبو الحكم، وهو ابن
(2/233)
الحارث - وهو الصحيح - وهو من رجال الصحيح.
ورواه البزار بنحوه.
وروى ابن رجب من طريق الطبراني، عن أبي الدرداء رضي الله عنه
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يهبط الله عز وجل
آخر ساعة من الليل فيقول: ألا مستغفر يستغفرني فأغفر له، ألا
سائل يسألني فأعطيه، ألا داع يدعوتي فأستجيب له، حتى يطلع
الفجر، قال: فقال: "إن قرآن الفجر كان مشهوداً"، فيشهده الله
وملائكته ".
وروى أبو طاهر المخلص عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ينزل ربنا عز وجل " كل ليلة
إلى السماء الدنيا نصف الليل الأخير، أو الثلث الأخير، فيقول -
فذكره نحوه - وقال: حتى يطلع الفجر أو ينصرف القارىء من صلاة
الصبح.
وروى الطبري في الصغير بسند - قال الهيثمي: فيه ابن إسحاق
(2/234)
وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات - عن عبد
الله بن عباس رضي الله
عنهما قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح،
وعلى الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، قد شد لهم إبليس أقدامها
بالرصاص، فجاء ومعه قضيب فجعل يهوي به إلى كل صنم منها، ليخر
لوجهه، فيقول: (جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ
الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) حتى مر عليها كلها.
وسيأتي إن شاء الله تعالى في سبأ حديث ابن مسعود رضي الله عنه
عند
الشيخين بنحوه.
ولأبي عبيد، عن خيثمة قال: قال عبد الله: عليكم بالشفاءين:
القرآن والعسل، قال أبو عبيد: يريد عبد الله هذه الآية:
(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ) ، والآية التي في النحل: (يَخْرُجُ مِنْ
بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ
لِلنَّاسِ) .
(2/235)
ولأحمد في المسند، والطبراني، عن معاذ بن
أنس الجهني رضي الله
عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان يقول: آية
العزة - وفي رواية: العز - (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي
الْمُلْكِ) إلى آخر السورة.
وللطبراني والبيهقي في الدعوات، والحاكم وقال: صحيح الإسناد عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: ما كربني أمْرٌ إلا تمثل لي جبريل عليه السلام، قال:
يا محمد قل: توكلت على الحي الذي لا يموت، و (الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ
الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا) .
(2/236)
وللطبراني في الدعاء، وأبي يعلى - قال
الهيثمي: وفيه موسى بن عبيدة
الربذي وهو ضعيف - عن أبي هريرة - أيضاً - رضي الله عنه قال:
بينا أنا
أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، استقبله رجل رث
الثياب رث الهيئة، مستقام، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
يا فلان ما الذي بلغ بك ما أرى؟.
قال: الفقر والسقم.
قال: أفلا أعلمك كلمات إذا قلتهن ذهب عنك الفقر والسقم؟.
فقال: لا، ما يسرني بهذا إني شهدت معك بدراً وأحداً، قال: فضحك
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: وهل يدرك أهل بدر
وأهل أحد ما يدرك الفقير القانع؟.
قال أبو هريرة: فقلت: يا رسول الله فعلمنيهن.
قال: قل: توكلت على الحي الذي لا يموت، والحمد للهِ الذي لم
يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل
وكبره تكبيراً. قال: فلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا
هريرة بعد أيام فقال: يا أبا هريرة، ما الذي أرى من حسن حالك؟.
فقال: يا رسول الله ما زلت أقرأ الكلمات منذ علمتنيهن.
وروى عبد الرزاق في جامعة عن جعفر بن سليمان، عن سعيد
الجريري قال: بلغني أنه من قرأ الآية: (الحمد لله الذي لم يتخذ
ولداً ولم
يكن له شريك في الملك) إلى آخر السورة، لم يصبه سرق.
ورواه الأستاذ أبو عثمان الصابوني في كتاب "المائتين" موصولاً
عن
(2/237)
ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: هي - يعني (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ
أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ
الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) الآية - أمان من السرق.
قال: وكان رجل من المهاجرين تلاها حين أخذ مضجعة فدخل عليه
سارق فجمع ما في البيت، ثم حمله والرجل ليس بنائم، حتى انتهى
إلى الباب، فوجد الباب مرذوماً، فوضع الكارَّة، وفعل ذلك ثلاث
مرات، فضحك صاحب البيت وقال: إني قد حصنت بيتي، قال: فذهب
اللص.
قال الصابوني: هذا حديث غريب الإسناد والمتن، لم أكتبه إلا من
هذا
الطريق.
وفي الفردوس عن أبي موسى رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - قال: من قرأ في مصبح أو مسمى (قُلِ ادْعُوا
اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ) ، الآية. لم يمت قلبه في
ذلك اليوم، ولا تلك الليلة.
وروى الأصفهاني في ترغيبه، عن إبراهيم - يعني ابن الأشعث -
قال: سمعت الفضل يقول: إن رجلًا على عهد النبي - صلى الله عليه
وسلم - أسره العدو، فأراد أبوه أن يفديه، فأبوا عليه، إلا بشيء
كثير لم يطقه فشكى ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:
أكتب إليه فليكثر من قوله: (توكلت على الحي الذي لا يموت) .
(2/238)
و (الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً) إلى
آخرها، قال: فكتب بها الرجل إلى
ابنه، فجعل يقولها، فغفل العدو عنه، فاستاق أربعين بعيراً،
وقدم بها إلى
المدينة.
قال المنذري: وهذا معضل (1) .
وسيأتي في الطلاق مما يمكن أن يتصل بهذا.
__________
(1) الحديث المعضل: هو ما سقط من إسناده - في أي موضع كان -
راويان فأكثر على التوالي، فهو حديث غير متصل السند، وعدم
الاتصال يجعله من قبيل الحديث الضعيف، ومن العلماء من يلحقه
بالمرسل، ومنهم من يلحقه بالمنقطع، مع أنه أسوأ حالاً منهما ما
لم يات متصلا من طرق أخرى.
ومثاله: قول الإمام مالك في الموطأ 2/ 980: بلغني أن أبا هريرة
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: للمملوك طعامه
وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل إلا ما يُطيق "، فهذا
الحديث معضل لكنه جاء متصلاً عند مسلم في كتاب الإيمان من
صحيحه: عن مالك بن أنس، عن محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي
هريرة، فالإعضال كان في إسقاط محمد بن عجلان وأبيه.
راجع: دكتور محمد أديب الصالح، لمحات في أصول الحديث ص 237.
239
(2/239)
سورة الكهف
مكية إجماعاً.
وقال الأصفهاني: قيل هذا إجماع المفسرين من غير خلاف.
وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وقتادة: أن فيها
آية
مدنية، وهي قوله: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) .
وجعلها الغزنوي آيتين.
قال الأصفهاني: وعن مقاتل: من أولها إلى (صَعِيدًا جُرُزًا)
مدني
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)
الآيتين، وباقيها مكي.
(2/240)
عدد آياتها وما يشبه
الفاصلة فيها
وآيها مائة وخمس آلِات في المدنيين والمكي، وست في الشامي،
وعشر في
الكوفي، وإحدى عشرة فِى البصري.
اختلافها إحدى عشرة آية:
(وزدناهم هدى) لم يعدها الشامي، وعدها الباقون.
(ما يعلمهم إلا قليل) ، عدها المدني الأخير، ولم يعدها
الباقون.
(إني فاعل ذلك غداً) ، لم يعدها المدني الأخير، وعدها الباقون.
(وجعلنا بينهما زرعاً) لم يعدها المدني الأول والمكي، وعدها
الباقون.
(لن تبيد هذه أبداً) ، لم يعدها المدني الأخير والشامي، وعدها
الباقون.
(من كل شيء سبباً) ، لم يعدها المدني الأول والمكي، وعدها
الباقون.
(فأتبع سبباً) ، (ثم أتبع سبباً) .
(2/241)
(ثم أتبع سبباً) عدهن الكوفي والبصري ولم
يعدها الباقون.
(عندها قوماً) ، لم يعدها الكوفي والمدني الأخير، وعدها
الباقون.
(بالأخسرين أعمالاً) ، لم يعدها المدنيان والمكي، وعدها
الباقون.
وفيها مما يشبه الفواصل وليس معدوداً بإجماع، اثنا عشر موضعاً:
(قيماً) ، (بأساً شديداً) ، (ويبشر المؤمنين) ، (وهم رقود)
(عليهم بنياناً) (بسلطان بين) ، (مراء ظاهرا) ، (خضراً) ، (ولم
تظلم منه شيئاً) .
(على ربك صفا) (آذانهم وقرا) (من دونهما قوماً)
وعكسه ثلاثة:
(2/242)
(عوجا) ، (نهراً) ، (عندها قوماً)
ورويها خمسة عشر - حرفاً، (ازل مرض فظ بعفص نجد) ، وبعد
كل ألف التنوين.
مقصودها
ومقصودها: وصف الكتاب بأنه قيم، لكونه زاجراً عن الشريك الذي
هو خلاف ما قام عليه الدليل في "سبحان "، من أنه لا وكيل دونه،
ولا إله
إلا هو وقاصًّا (بالحق) أخبار قوم قد فضلوا في أزمانهم، وفق ما
وقع الخبر
به في سبحان، من أنه يفضل من يشاء، ويفعل ما يشاء.
(2/243)
وأدل ما فيها على هذا المقصد: قصة أهل
الكهف، لأن خبرهم أخفى
ما فيها من القصص، مع أن سبب فراقهم لقومهم الشرك، وكان أمرهم
موجباً بعد طول رقادهم للوحدانية، وإبطال الشرك.
(2/244)
فضائلها
وأما فضائلها: فروى مسلم وأبو داود، والنَّسائي، والترمذي
وأحمد بن حنبل، وأبو يعلى الموصلي، وأحمد بن منيع، والحارث بن
أبي
أسامة، والطبراني، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ - وفي رواية: من حفظ - عشر
آيات من أول - وفي رواية: من آخر - سورة الكهف، عصم من الدجال.
وفي رواية: من فتنة الدجال.
وفي رواية للترمذي: من قرأ ثلاث آيات من أول سورة الكهف.
ورواه النسائي في "اليوم والليلة" عن ثوبان رضي الله عنه.
ولفظه:
من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من الدجال.
ولمسلم وأبي داود، عن النواس بن سمعان رضي الله عنه، أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الدجال - إلى أن قال -: فمن
أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف.
(2/245)
زاد أبو داود: فإنها جواركم من فتنته.
وروى النسائي في السنن، والبيهقي في الدعوات وغيره مرفوعاً.
والحاكم موقوفاً ومرفوعاً وقال: صحيح الإسناد، والدارمي في
مسنده.
وسعيد بن منصور في سننه، كلاهما موقوفاً فقط، عن أبي سعيد رضي
الله
عنه: من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما
بين
الجمعتين.
ولفظ الدارمي: من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة، أضاء له من
النور
ما بينه وبين البيت العتيق.
ومثله لا يقال من قبل الرأي، فهو مرفوع على كل حال.
قال المنذري: وفي أسانيدهم كلها - إلا الحاكم - أبو هاشم يحيى
بن
دينار الرماني، والأكثرون على توثيقه، وبقية الإسناد ثقات، وفي
إسناد
الحاكم الذي صححه نعيم بن حماد.
ثم قال في فصل الرواة في آخر الكتاب: قال النسائي: ضعيف، وابن
معين: صدودق، وأنا أعرف الناس به، كان رفيقي في البصرة، كتب عن
(2/246)
روح بن عبادة خمسين ألف حديث.
ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم.
والطبراني في الأوسط في ترجمة أحمد بن محمد بن صدقة، مرفوعاً
إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولفظ النسائي والحاكم: من قرأ الكهف كما أنزلت، كانت له نوراً
يوم
القيامة من مقامة إلى مكة، ومن قرأ عشر آيات من آخرها، ثم خرج
الدجال، لم يسلط عليه.
ورواه الطبراني لى الأوسط، في حديث طويل - قال الهيثمي: ورجاله
(2/247)
رجال الصحيح - بلفظ: من قرأ سورة الكهف،
كانت له نوراً يوم القيامة
من مقامه إلى مكة، ومن قرأ عشر آيات من آخرها، ثم خرج الدجال،
لم
يضره.
ورواه عبد الرزاق في جامعه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه -
موقوفاً عليه -، قال: من قرأ سورة الكهف كما أنزلت، ثم أدرك
الدجال لم يسلط عليه - أو لم يكن عليه سبيل - ومن قرأ خاتمة
سورة الكهف، أضاء
نوره من حيث قرأها ما بينه وبين مكة.
وفي الفردوس عن البراء، وابن عباس، رضي الله عنهم، أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ عشر آيات من الكهف، ملئ من
قرنه إلى قدمه إيماناً، ومن قرأها في ليلة جمعة، كانت له
نوراً، فإن خرج الدجال لم يتبعه.
وفيه أيضاً: عن ابن عباس، وأبي هريرة، رضي الله عنهم، أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ سورة الكهف ليلة
الجمعة، أعطى نوراً كما بين صنعاء إلى بصري، ومن قرأها في يوم
جمعة حفظ إلى الجمعة الأخرى وعوفي من الداء والدَّبيلة، وذات
الجنب، والبرص والجذام، والجنون وفتنة الدجال.
ولابن مردويه في تفسيره بإسناد - قال المنذري: لا بأس به - عن
ابن
عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، سطع له نور من تحت قدمه إلى
عنان السماء، يضيء له يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين.
(2/248)
ولأحمد في المسند، والطبراني، بسند حسن، عن
معاذ بن أنس الجهني
رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
من قرأ أول سورة الكهف وآخرها، كانت له نوراً من قدمه إلى
رأسه، ومن قرأها كلها، كانت له نورا ما بين الأرض والسماء.
وعند البزار، وإسحاق بن راهويه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ في ليلة:
(فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا
صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) .
كان له نور من عدن أبين إلى مكة، حشوه الملائكة.
قال المنذري: ورواته ثقات، إلا أن أبا قرة الأسدي لم يرو عنه -
فيما أعلم - غير النضر بن شميل.
ولأبي عبيد في الفضائل، والدارمي، كلاهما عن محمد بن كثير، عن
(2/249)
الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، عن زر بن
حبيش رحمه الله، أنه قال:
من قرأ آخر سورة الكهف لساعة يريد أن يقومها من الليل، قامها -
وقال: قال عبدة: فجربناه فوجدناه كذلك.
وقال ابن كثير: وقد جربناه - أيضاً - في السرايا غير مرة،
فأقوم في
الساعة التي أريد.
قال: وابتدىء من قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا
(107) ، إلى آخرها.
وللشيخين، وأحمد، والترمذي، عن البراء رضي الله عنه قال: كان
رجل يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين، فتغشته
سحابة فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي
- صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك له، فقال: تلك السكينة تنزلت
للقرآن، وهذا الرجل هو أسيد بن الحضير، كما مضى في البقرة.
(2/250)
وقال الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير:
وفي المختارة للحافظ
الضياء المقدسي، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي - رضي الله
عنه - مرفوعاً: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، فهو معصوم إلى
ثمانية أيام من كل فتنة، وإن خرج الدجال، عصم منه.
ولابن السنى عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قال: من رأى شيئاً فأعجبه فقال: ما شاء الله لا
قوة إلا بالله، لم تضره
العين.
ورواه البيهقي في الدعوات، ولفظه: ما أنعم الله على عبد نعمة
في
(2/251)
أهل ولا مال أو ولد، فيقول: ما شاء الله لا
قوة إلا بالله، فيرى فيه آفة دون الموت.
وبنحو هنذا اللفظ رواه الأستاذ أبو عثمان الصابوني في كتاب
"المائتين"
وقال: وما أنعم الله على عبد نعمة من أهل، أو مال، أو ولد. . .
الحديث.
(وقال) : هذا حديث غريب الإِسناد والمتن، ولا أعلم أني كتبته
إلا
من هذا الوجه.
وشرح ما تقدم من أسرار كثير مما تضمنته هذه الأخبار:
أما تخصيصها بيوم الجمعة، فلتذكيرها بالبداية من خلق آدم عليه
السلام، والنهاية من قيام الساعة، الخاصين بيوم الجمعة، مع ما
فيها
من لواحقهما من ذكر الجنتين وإن اختلف الحالان.
ومن ذكر قصة أصحاب الكهف بما فيها من الدلالة على البعث، ومن
ضرب المثل للحياة الدنيا، ومن قصة الحشر، ومن قصة الحوت، وأمر
ذي القرنين في السد وما يتبعه، وغير ذلك من نفخ الصور، وتلك
التي تكون في البعث والنشور، وما ذكر في الجنان والنيران، من
الثبور والحبور.
وأما ما ينشأ عنها من النور، ولكونها سورة الكتاب الهادي
للصواب.
(2/252)
الموصوف بدوام الاستقامة، المانعة من الشك
والارتياب، والزلزلة
والاضطراب وكذلك فعل النور بصاحبه، يوضح له الخفايا، ويفتح له
الخبايا، وكل باب.
وأما السكينة: فلما خص الله به أصحاب الكهف وموسى والخضر وذا
القرنين عليهم السلام، من الطمأنينة على الحق، والسكون على
الخير.
والنصر على المبطلين، وفي كونها سورة الكتاب أعظم مشير إلى
ذلك، وكاشف لسره.
ولهذا كان ما تقدم في فضائل البقرة، الواصفة للكتاب المذكور،
فيها
آية السكينة الموروثة عن آل موسى وآل هارون، عليهم السلام: من
دُنُوِّ
الملائكة والمصابيح المزهرة، لكونها سورة الكتاب المنير
للألباب.
وأما عصمتها من الدجال: فلما فيها من التذكير بتنزيه الله
تعالى عن
كل نقص، وماله من القدرة التامة، وكل كمال، وما اتفق من عصمة
أصحاب الكهف ممن ناوأهم والربط على قلوبهم مع ضعفهم، وكثرة
المخالفين لهم.
والاكتفاء فيها بالعشر من أولها، لجمعه بين التنزيه والبعث،
ولقاء الله
الذي لا يكون شيء منها إلا بعد الدجال، بل وبعد الموت.
وذكر قصة أهل الكهف إجمالاً، وبالعشر من آخرها، لجمعها للبعث
المذكور، والتنزيه والتوحيد، الذي وقع به الاختتام، المنافي
للانقسام وقبول
الانقسام بوجه، فأعلم ببطلان أمر الدجال، إلى غير ذلك من
الأسرار التي
تدق عن الأفكار.
وبالثلاث لتنبيهها على التفكر في الكتاب، الهادي إلى كل صواب
ولا
سيما البشارة والنذارة، الموجبان للعدل، الحاملات على المتاب
والعدول عن
كل ارتياب، ولإعلامها بالتوحيد بالبراءة من الولد، المستلزم
قبوله للمجانسة
(2/253)
المستلزمة للقسمة، المستلزمة للحاجة،
المبرهنة على إبطال أمر الدجال، إلى
غير ذلك من أمور لا تدخل تحت المقدور، وبدور لا تسع أنوارها
الصدور.
كما تشير إليه قصة موسى مع الخضر عليهما السلام، والتسليم من
أنه فوق
كل ذي علم عليم.
(2/254)
|