مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور

سورة الكافرون
مكية، وقيل: مدنية
وتسمى: الإِخلاص، والمقشقشة.
روى الأصمعي عن أبي العلاء قال: كانت تسمى: المقشقشة، أي
أنها تبرىء من الشرك يقال: قشقش البعير، إذا نحرته.
عدد آياتها
وآيها ست إجماعاً. ولا اختلاف فيها.
ورويها ثلاثة أحرف وهي. ندم، أو: مدن.

(3/259)


مقصودها
ومقصودها: إثبات مقصود الكوثر، بالدليل الشهودي، على أن
منزلها كامل العلم، شامل القدرة، لأنه المنفرد بالوحدانية. فلذلك لا يقاوي
من كان معه. ولذلك لما نزلت قرأها - صلى الله عليه وسلم - عليهم في المسجد، أجمع ما كانوا.
وهذا المراد بكل من أسمائها.
أما الكافرون: فمن وجهين: ناظر إلى إثبات، وناظر إلى نفي.
أما المثبت: فمن حيث إنه إشارة إلى تأمل جميع السورة، من إطلاق
البعض على الكل.
أما النافي: فمن جهة أنهم إنما كفروا بإنكار ما هو مقصودها إما صريحاً
كالوحدانية وتمام القدرة. وإما لزوماً، وهو العلم، فإنه يلزم من نقص القدرة نقصه.
وأما الإخلاص: فلأن المنفذ لك، كان مؤمناً، مخلصاً، بريئاً من كل
شرك، وكل كفر.
وأما المقشقشة: فلأنها أبرأت من كل نفاق وكفر، من قولهم: تقشقشت
قروحه إذا تقشرت للبراء.
وعندي: أنه من الجمع، أخذاً من القش، الذي هو تطلب المأكول من
ههنا وههنا. فإنها جمعت جميع أصول الدين، فأثبتها على أتم وجه.
فلزم من ذلك: أنها جمعت جميع أنواع الكفر فحذفتها، ونفتها.
وتقدم تمام توجيه ذلك في براءة.
فأمرها دائر على الِإخلاص. ومن المعلوم: أن من أخلص للهِ، كان من
أهل ولايته حقاً فحق له ما يفعل الولي مع وليه.
ولذلك - والله أعلم - سنت قراءتها مع قل هو الله أحد، في ركعتي

(3/260)


الفجر، ليحوز فاعل ذلك ثمرة ما ورد من: "أن من صلى الصبح كان في ذمة الله ".
ومن كان كذلك، كان جديراً بأن ينال ما أشارت إليه السورتان اللتان
بين سورتي الِإخلاص من الفتح له والنصرة، والخيبة لعدوه والخسر والحسرة.
فضائلها.
وأما فضائلها: فروى الترمذي وقال: حسن، عن سلمة بن وردان.
عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل من أصحابه: هل تزوجت يا فلان؟.
قال: لا والله يا رسول الله، ولا عندي ما أتزوج به.
قال: أليس معك (قل هو الله أحد) ؟ قال: بلى. قال: ثلث القرآن، قال:
أليس معك (إذا جاء نصر الله والفتح) ؟. قال: بلى، قال: ربع القرآن.
قال: أليس معك (قل يا أيها الكافرون) ؟. قال: بلى قال: ربع القرآن.
تزوج، تزوج.

(3/261)


قال المنذري: وقد تكلم في هذا الحديث مسلم في كتاب "التمييز".
ورواه أحمد من هذا الوجه - قال الهيثمي: وسلمة ضعيف - قال:
أليس معك (قل هو الله أحد) ؟. قال: بلى. قال: ربع القرآن.
وقال في آخره -: قال: أليس معك آية الكرسي؟. قال: بلى. قال: ربع
القرآن.
ورواه الترمذي - أيضاً - عن أنس رضي الله عنه، ولفظه:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ (إذا زلزلت) عدلت بنصف القرآن، ومن قرأ: (قل يا أيها الكافرون) عدلت بربع القرآن. ومن قرأ (قل هو الله أحد) عدلت بثلث القرآن.
وروى أبو عبيد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قل يا أيها الكافرون، تعدل ربع القرآن.
قال الِإمام ناصر الدين بن ميلق - ما حاصله -: إن التفاوت بينهما وبين
(قل هو الله أحد) في كونها تعدل ربعاً، وتلك تعدل ثلثاً، مع أن كلا منهما
تسمى الِإخلاص: أن (قل هو الله أحد) اشتملت من صفات الله تعالى ما
تشتمل عليه "الكافرون".
وأيضاً: فالتوحيد إثبات إلهية المعبود وتقدسه، ونفي إلهية ما سواه، وقد
صرحت الِإخلاص بالإِثبات والتقديس، ولوَّحت إلى نفي عبادة غيره.
والكافرون صرحت بالنفي، ولوَّحت بالنفي، ولوَّحت بالِإثبات والتقديس.
فكان بين الرتبتين من التصريحين والتلويحين، ما بين الربع والثلث انتهى.
وسرُّ كون آية الكرسي ربعاً: أنها ربع الِإيمان بالله ورسوله وكتبه،

(3/262)


واليوم الآخر، ولم تكن ثلثاً كالإخلاص، لأنها بكونها سورة مستقلة، والله أعلم.
وروى أبو داود، والترمذي، والنَّسائي، والدارمي، وأبو عبيد في
الفضائل، والبيهقي في الدعوات، عن نوفل بن فروة أبي فروة الأشجعي
رضي الله عنه، أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، علمني شيئاً أقوله إذا أويت إلى فراشى. قال: اقرأ (قل يا أيها الكافرون) ، ثم نم على خاتمتها، فإنها براءة من الشرك.
وأخرجه الطبراني في الأوسط، في ترجمة أحمد بن يحيى الحلواني، من
حديث جبلة ابن حارثة رضي الله عنه.

(3/263)


وأخرجه الِإمام أحمد، ولفظه: اقرأ عند منامك (قل يا أيها الكافرون) ، ثم نم على خاتمتها، فإنها براءة من الشرك.
وقال الِإمام أحمد - أيضاً -: حدثنا أبو النضر، ثنا المسعودي، عن
مهاجر أبي الحسن، عن شيخ أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فمر برجل يقرأ (قل يا أيها الكافرون) .
قال: أما هذا فقد برىء من الشرك، قال: وإذا آخر يقرأ: (قل هو الله أحد) ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - بها وجبت له الجنة.
وفي رواية: أما هذا فقد غفر له.
قال الهيثمي: رواه أحمد بإسنادين، في أحدهما شريك وفيه خلاف.
وبقية رجاله رجال الصحيح.
ورواه الدارمي عن أبي الحسن مهاجر قال: قال: جاء رجل من زياد
إلى الكوفة، فسمعته يحدث: أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسير له، قال: وركبتي تصيب أو تمس - ركبته، فسمع رجلاً يقرأ (قل هو الله أحد) قال: غفرله.
وقال ابن رجب: وروينا من حديث طلحة بن خراش، عن جابر

(3/264)


ابن عبد الله رضي الله عنهما، أن رجلاً قام فركع ركعتي الفجر، فقرأ في
الركعة الأولى: (قل يا أيها الكافرون) حتى انقضت السورة.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذا عبد عرف ربه، وقرأ في الأخيرة (قل هو الله أحد) ، حتى انقضت السورة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذا عبد آمن بربه.
وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لما قرأ (قل يا أيها الكافرون) : برىء من الشرك وقال - لما قرأ (قل هو الله أحد) -: قد غفر له.
أخرجه الكتاني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، ورجل من
الصحابة رضي الله عنهم - غير مسمى.
ولأبي يعلى الموصلي، عن ابن عباس رضى الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ألا أدلكم على كلمة تنجيكم من الإشراك بالله عز وجل؟. تقرأون (قل يا أيها الكافرون) عند منامكم.
وروى الطبراني في الصغير - قال الهيثمي: وفيه من لم أعرفهم - عن
سعد ابن مالك - يعني ابن أبي وقاص رضي الله عنه - قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ (قل هو الله أحد) فكأنما قرأ ثلث القرآن، ومن قرأ: (قل يا أيها الكافرون) فكانما قرأ ربع القرآن.
وللطبراني - أيضاً - في الأوسط - قال الهيثمي:

(3/265)


وفيه عبيد الله بن زحر، وثقه جماعة، وفيه ضعف، وعزاه المنذري إلى الطبراني في الكبير أيضاً. وإلى أبي يعلى وقال: وإسناده حسن - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(قل هو الله أحد) ، تعدل ثلث القرآن، و (قل يا أيها الكافرون) ، تعدل ربع القرآن. وكان يقرأ بهما في ركعتي الفجر، وقال: هاتان الركعتان فيهما رغب الدهر.
قال الهيثمي: وروى الترمذي عنه القراءة بهما في ركعتي الفجر.
قال النووي في الرياض: وقال: حديث حسن. ولفظه: رمقت
النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين قبل الفجر: قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد.
وروى أبو عبيد عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: من قرأ
(قل يا أيها الكافرون) في ليلة فقد أكثر وأطاب.
وروى النسائي عن ابن عمر رضي الله عنه قال: رمقت النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرين مرة يقرأ في الركعتين بعد المغرب، "والركعتين قبل الفجر، قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد.
وروى عبد الرزاق منه أمر الفجر.
وروى عبد بن حميد عن ابن عمر - أيضاً - رضي الله عنهما قال: صلى

(3/266)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه في سفر صلاة الفجر فقرأ (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) وقال: قرأت بكم ثلث القرآن وربعه.
وروى عبد الرزاق عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن
عائشة رضي الله عخها قالت: أَسَرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القراءة في ركعتي الفجر، وقرأ فيهما (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) .
وله عن معمر، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة رضي
الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم لركعتي الفجر، فأقول: هل قرأ فيهما بأم القرآن أم لا؟. لخفته إياهما.
ورواه بسند آخر عن يحيى، عمن سمع عمرة.
وفي أمالي ابن مزدك تخريج الطبراني عن أبي بن كعب رضي الله عنه.
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من قرأ (قل يا أيها الكافرون) ، عند نومه، أمن من فزع النوم، انتهى.

(3/267)


سورة النصر
مدنية إجماعاً.
نزلت أيام التشريق، كما تراه في مسند عبد، وحكاه أبو حيان بصيغة
قيل وصدر بقوله: نزلت في منصرفه - صلى الله عليه وسلم - من غزوة حنين، وعاش بعد نزولها سنتين.
عدد آياتها
وآيها ثلاث في جميع العدد، ولا اختلاف فيها.
ورويها ثلاثة أحرف، وهي: حجب، أو: * بجح.
مقصودها
ومقصودها: الِإعلام بتمام الدين، اللازم عن مدلول اسمها، اللازم

(3/268)


عنه موت النبي - صلى الله عليه وسلم - اللازم عنه العلم، بأنه ما يرد إلى عالم الكون والفساد، إلا لِإعلاء كلمة الله، وإدحاض كلمة الشيطان، اللازم منه: أنه - صلى الله عليه وسلم - خلاصة الوجود، وأعظم عبد للولي الودود.
فضائلها
وأما فضائلها: فروى الإمام أحمد بإسناد - قال المنذري: حسن -
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما افتتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، رنّ إبليس رنّة اجتمعت إليه جنوده فقال: ايأسوا أن تردوا أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الشرك بعد يومكم هذا، ولكن افتنوهم في دينهم، وأفشوا فيهم النوح.
وروى الِإمام عبد الله بن أبي داود في كتاب "المصاحف" عن أبي
سعيد رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأقصر سورتين من القرآن ثلاث مرات.
وفي رواية: أن تلك الصلاة: الصبح. فلما فرغ، أقبل علينا بوجهه
فقال: إنما عجلت لتفرغ أم الصبي إلى صبيها.
وله عن عمرو بن ميمون قال: لما طعن عمر رضي الله عنه.
كادت الشمس أن تطلع، فقدموا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه،

(3/269)


فأمَّهم بأقصر سورتين في القرآن: إذا جاء نصرالله والفتح، وإنا أعطيناك
الكوثر.
وروى عبد بن حميد عن أبي سعيد - أيضاً - رضي الله عنه قال: صلى
بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفجر سورتين في القرآن فقلت: يا رسول الله صليت بنا اليوم صلاة ما كنت تصليها؟. فال إني سمعت صوت صبي في صف النساء.
وللنسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت "إذا جاء
نصر الله والفتح" إلى آخر السورة. قال: نعيت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه حين أنزلت، فأخذ في أشد ما كان اجتهاداً في أمر الآخرة.
وللبخاري والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان عمر
ابن الخطاب رضي الله عنه يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لم
تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟
قال: إنه ممن قد علمتم. قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، قال: وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني، فقال: ما تقولونا في (إذا جاء نصر الله والفتح) ؟ حتى ختم السورة - فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا جاء نصر الله وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري، ولم يقل بعضهم شيئاً، فقال لي: يا ابن عباس كذلك تقول؟.
قلت: لا. قال فما تقول؟.
قلت: هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه الله به، (إذا جاء نصر الله والفتح) فتح مكة فذلك علامة أجلك.

(3/270)


(فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً) ، فقال عمر رضي الله عنه:
ما أعلم منها إلا ما تعلم.
ففهم عدة الِإعلام بعد ذكر ما لزم منه ظهور الدين، من الأمر
بالاستغفار، لأن الله تعالى جعل للأمة أمانين من عذابه، أحدهما: وجوده - صلى الله عليه وسلم - فيهم.
والثاني: وجود الاستغفار. (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) .
فلما كرر الأمر بالاستغفار الذي هو الأمان الثاني في السورة التي
نزلت عليه - صلى الله عليه وسلم - في حجته بعد نزول (اليوم أكملت لكم دينكم) .
كان مشعراً بأن الأمان الأول انقضى زمانه، وأنه ينبغي للأمة المواظبة
على الأمان الثاني، والاجتهاد فيه، وأكد لهم الأمر بذلك، بتوجيه الخطاب
فيه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، لأن أمر الرئيس أدعي إلى أمتثال أتباعه والله الموفق.
وروى عبد بن حميد عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن هذه السورة
أنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أوسط أيام التشريق بمنى، وهو في حجة الوداع
(إذا جاء نصر الله والفتح) حتى ختمها، فعرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه الوداع

(3/271)


فأمر براحلته القصوى فرحلت له، فركب فوقف للناس بالعقبة، فاجتمع إليه
الناس فذكر خطبته في ذلك الجمع الأعظم.
وقد ذكرتها كاملة في كتابي "الاطلاع علي حجة الوداع".
وقال البيهقي في "دلائل النبوة" في باب ما جاء في نعي النبي - صلى الله عليه وسلم -: ويذكر عن أبي سعيد رضي الله عنه ما يدل على أنها نزلت عام الفتح. والله أعلم.
وروى الدارمي في أوائل المسند، عن عبد الله بن عباس رضي الله
عنهما قال: لما نزلت "إذا جاء نصرالله والفتح" دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة رضي الله عنها فقال: قد نعيت إليَّ نفسي، فبكت، فقال لا تبكي فإنك أول أهلي لاحق بي، فضحكت، فرآها بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلنا: يا فاطمة رأيناك بكيت ثم ضحكت، قالت: أنه أخبرني أنه قد نعيت إليه نفسه فبكيت، فقال لي: لا تبكي فإنك أول أهلي لا حق بي، فضحكت.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا جاء نصرالله والفتح، وجاء أهل اليمن هم أرق أفئدة، والِإيمان يمان، والحكمة يمانية.

(3/272)


وللبيهقي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قل يا أيها الكافرون) تعدل ربع القرآن، و (إذا جاء نصر الله والفتح) تعدل ربع القرآن.
وروى مسلم في صحيحة عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال:
قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: أتدري آخر سورة من القرآن نزلت
جميعها؟.
قلت: نعم، إذا جاء نصرالله والفتح. قال: صدقت.
وقال الِإمام ولي الله الملوى: وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها
قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قول "سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله وأتوب إليه"
قال: أخبرني ربي أني سأرى علامة في أمتى، فإذا رأيتها أكثرت من قول: سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله وأتوب إليه، فقد رأيتها: إذا جاء نصرالله والفتح - فتح مكة - ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً.
وتقدم في سورة "الكافرون " حديث أنس في: أنها تعدل ربع القرآن.
ولعل السر في ذلك: أنه لما كان مقصود القرآن، بيان هذا الدين.
وبيان أحواله للمنزل عليه - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر، ثم في أثنائه، ثم في آخره عند تمامه، وموت المنزل عليه - صلى الله عليه وسلم -، ثم بعد موته، بأخذه في التناقص حتى

(3/273)


يعود غريباً كما بدأ، وكانت هذه السورة مبينة لحاله عند تمامه، كانت ربعاً له بهذا الاعتبار.
وما نزل بمكة المشرفة بين مبدأه، وآيات الهجرة منه بئنت أول الوسط.
وسورة الفتح المنبئة عن الفتح الأول، الذي هو سبب الفتح الأعظم، بينت
أول التمام، وهذه السورة - وهي سورة فتح الفتوح - بينت انتهاءه.
و"ألهاكم التكاثر " - ونحوها لبيان حالة تناقص بالإقبال على الأموال. والأولاد والجاه، وغير ذلك من سنن من كان قبلنا، الذي كان سبباً لارتداد أكثر من ارتد بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، المشار إليهم بقوله: "إنه كان تواباً" أي على من يرتد من أمتك عقب وفاتك، حتى يردوا إِلى الدين، ويفتح الله بهم البلاد إكراماً لك بسبب استغفارك لهم.
ولهذه الأسرار، وقع الترغيب في قراءة التكاثر، لأنها تعدل ألف آية
ليحصل لقارئها ببركتها الكف عما حذرت منه.
وموت النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان خيراً لنا - فمن جهة أنا لم نستأصل بعذاب في حياته، وهو وهن لنا من جهة الافتراق، وانتشار الكلمة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أمان لأصحابي، فإذا مت، أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا مات أصحابي أتى أمتي ما يوعدون".

(3/274)


وقد حثت هذه السورة على الإقبال على الذكر بالتسبيح، وبالحمد
والاستغفار والتوبة، وتفريغ القلب لذلك، والاجتهاد فيه عند تمام الأشياء.
تقييداً لنعمه بالشكر: " فإذا فرغت فانصب، وإلى ربك فارغب".

(3/275)


سورة تبت
وتسمى: المسد.
مكية إجماعاً.
عدد آياتها
وآيها خمس إجماعاً، وليس فيها اختلاف.
وفيها مشبه الفاصلة موضع: (أبي لهب)
ورويها حرفان، هما: دب.
مقصودها
ومقصودها: البتُّ، والقطع الحتم بخسران الكافر، ولو كان أقرب
الخلق إلى أعظم الفائزين، اللازم عنه: أن شارع الدين له من العظمة

(3/276)


ما يقصر عنه الوصف، فهو يفعل ما يشاء، لأنه لا كقوله أصلاً، حثا على
التوحيد من سائر العبيد.
وكذلك وقعت بين سورتي الإخلاص، المقرن بضمان النصر، وكثرة
الأنصار، واسمها "تبت" واضح الدلالة على ذلك، بتأمل السورة على هذه الصورة.
فضائلها
وأما ما ورد فيها: فروى البغوي عن ابن عمر، والبخاري عن ابن
عباس، رضي الله عنهم قال: صعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم الصفا فقال: يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش. فقالوا: مالك؟ ، قال: أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم، أما كنتم تصدقوني؟ قالوا: بلى، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تَباًّ

(3/277)


لك ما دعوتنا إلا لهذا؟.
فأنزل الله عز وجل: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
إلى آخرها.

(3/278)


سورة الإِخلاص
وتسمى: قل هو الله أحد.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: مدنية.
وقال مجاهد وعطاء وقتادة: مكية.
ويؤيد هذا حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه الآتي في فضلها
ويمكن أن تكون لعظمها نزلت في كل من البلدين، كما تقدم مثل ذلك
في الفاتحة.
وعكس النجم النسفي القولين، فقال مكية عند ابن عباس رضي الله - رضي الله عنهما - ومقاتل، والواقدي، والحسين بن واقد.
وقال قتادة: هي مدنية.
عدد آياتها
وآيها خمس في المكي والشامي، وأربِع في عدد الباقين.

(3/279)


اختلافها آية (لم يلد) . عدها المكي والشامي، ولم يعدها الباقون.
ورويها: الدال.
مقصودها
ومقصودها: بيان حقيقة الذات الأقدس ببيان اختصاصه بالاتصاف
بأقصى الكمال للدلالة على صحيح الاعتقاد، للِإخلاص في التوحيد، بإثبات
الكمال، ونفي شوائب النقص والاختلال، المثمر لحسن الأقوال والأفعال.
وثبات اللحا والاعتقاد في جميع الأحوال.
وعلى ذلك دل اسمها "الإِخلاص"، الموجب للخلاص، وكذا
"المقشقشة". قال في القاموس: المقشقشتان: الكافرون، والِإخلاص.
المبرئتان من النفاق والشرك، كما يقشقش، الهناء الجرب.
الهناءة القطران.
وقال عبد الحق في كتابه "الواعي" كما يبرأ المريض من علته، إذا برأ
منها، انتهى. وهو مأخوذ من القش بمعنى: الجمع.
فسميتا بذلك، لأنهما يتبعان الِإنفاق بجميع أنواعه، وكذا الشرك.
فجمعتاه ونفتاه عن قارئهما حق القراءة.
وقد تقدم الكلام على هذا الاسم في براءة مبسوطا.
وهي أعظم مفيد للتوحيد في القرآن.
قال الرازي: والتوحيد مقام

(3/280)


يضيق النطق عنه، لأنك إذا أخبرت عن الحق، فهناك مخبر عنه، ومخبر
به. ومجموعهما وذلك ثلاثة، فالعقل يعرفه، ولكن النطق لا يصل إليه.
سئل الجنيد عن التوحيد فقال: معنى تضمحل فيه الرسوم.
وتتشوش فيه العلوم، ويكون الله كما لم يزل.
وقال الجنيد - أيضاً -: أشرف كلمة في التوحيد ما قاله الصديق:
سبحان من لم يجعل لخلقه سبيلاً إلى معرفته، إلا بالعجز عن معرفة.
فضائلها
وأما فضائلها: فروى مالك في الموطأ واللفظ له، والترمذي، والنَّسائي.
وأبو عبيد وقال: صحيح الإسناد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أقبلت
مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فسمع رجلًا يقرأ: (قل هو الله أحد) ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وجبت، فسألته: ماذا يا رسول الله؟.
قال: الجنة.
قال أبو هريرة رضي الله عنه: فأردت أن أذهب إلى الرجل فأبشره، ثم فَرِقْت أن يفوتني الغداء مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فآثرت الغداء، ثم ذهبت إلى الرجل، فوجدته قد ذهب.

(3/281)


وهو عند الترمذي بدون قوله: "فأردت" إلى آخره. وقال: حسن
صحيح غريب.
فرقت - بكسر الراء -: أي خفت.
ومن حديثه عند مسلم، والترمذي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: احشدوا فإني ساقرأ عليكم ثلث القرآن، فحشد مَنْ حشد، ثم خرج - صلى الله عليه وسلم - فقرأ: "قل هو الله أحد"، ثم دخل فقال بعضنا لبعض: إنا نرى هذا خبراً جاءه من السماء، فذلك الذي أدخله، ثم خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني قلت لكم: ساقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن.
وعند مسلم والنَّسائي، والدارمي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أيعجز أحدكم أن يقرأ في الليلة ثلث القرآن؟.
قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟.
قال: "قل هو الله أحد" تعدل ثلث القرآن.
وفي رواية: قال: إن الله عز وجل جزأ القرآن بثلاثة أجزاء، فجعل
"قل هو الله أحد " جزءاً من أجزاء القرآن.
ولفظ الدارمي: أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة بثلث القرآن؟.
قالوا: نحن أعجز وأضعف من ذلك، قال: إن الله عز وجل جزأ القرآن ثلاثة أجزاء، فجعل (قل هو الله أحد" ثلث القرآن.

(3/282)


والمراد - والله أعلم - بتضعيف الأجر فيها: أنه يزاد على الحسنة بعشر
إلى أن يبلغ إلى مقدار عشرين حزباً، من غير تضعيف، لا أن قارئها كمن
قرأ عشرين حزبا، فإن هذا تضاعف له الحسنة بعشر أمثالها، فتصير العشرون مائتين.
وكذا ما قيل فيه: إنه كربع القرآن، أو كنصفه، أو غير ذلك، والله
أعلم.
وذلك أنها اشتملت على ثلث ما اشتمل عليه القرآن.
قال الإمام حجة الِإسلام الغزالي في جواهره: مقاصد القرآن ستة:
ثلاثة مهمة، وثلاثة متمة.
فالمهمة: معرفة الله تعالى، ومعرفة الآخرة، ومعرفة الصراط المستقيم.
انتهى.
والإخلاص مشتملة على معرفة الله تعالى، فكانت ثلثاً.
قال الناصر بن ميلق: ولا يلزم مساوات غيرها من آيات التوحيد لها.
لعدم المساواة في ترتيب إسنادها، وترتيب إيرادها الكافل بما ترتب عليه
الحكم، والله أعلم.
وقال الإمام الغزالي في كتاب المحبة من الإحياء: فما في القرآن شيء
إلا وهو هدى ونور، وتعرف من الله تعالى إلى خلقه، فتارة يتعرف إليهم
بالتقديس وتارة يتعرف إليهم بصفات جلاله، وتارة يتعرف إليهم في أفعاله
المخوفة والمرجوة، ولا يعدو القرآن هذه الأقسام الثلاثة، وهي الإرشاد إلي
معرفة ذاته، وتقديسه، أو معرفة صفاته وأسمائه، أو معرفة أفعاله وسننه مع
عباده.
ولما اشتملت سورة الإخلاص على أحد هذه الأقسام الثلاثة، وهو
التقديس، وازنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلث القرآن، لأن منتهى التقديس في أن يكون واحداً في ثلاثة أمور:
يكون حاصلًا منه من هو من نوعه وسميه، ودل عليه قوله:

(3/283)


"لم يلد". ولا يكون هو حاصلا ممن هو نظيره وشبيهه، ودل عليه قوله: "ولم يولد".
ولا يكون أحد في درجته، وإن لم يكن أصلاً له ولا فرعاً ممن هو مثله.
ودل عليه قوله: "ولم يكن له كفواً أحد".
ويجمع جميع ذلك قوله: " قل هو الله أحد".
وجملته تفصيل لا إله إلا الكه. فهذه أسرار القرآن، ولا تتناهى أمثال هذه الأسرار في القرآن، ولا رطب ولا يابس، إلا في كتاب مبين.
وعند الترمذي وقال: حسن، والنَّسائي عن أبي أيوب رضي الله عنه
نحوه. وكذا عند مالك، والبخاري، وأبي داود، والنَّسائي، عن أبي
سعيد رضي الله عنه..
ورواه أحمد من طريق ابن لهيعه، وفيه ضعف، عن عبد الله بن
عمرو، عن أبي أيوب الأنصاري، رضي الله عنهم، أنه قال: إنها ثلث
القرآن، فصدقه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو عند أبي عبيد والبخاري، وأبي داود، عن أبي سعيد رضي الله عنه، ولفظ أبي عبيد: أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي جاراً يقوم الليل، فما يقرأ إلا " قل هو الله أحد"، يعني: يرددها، كأنه يتقالُّها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن.

(3/284)


وفي رواية البخاري، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: أخبرني أخي
قتادة بن النعمان رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أيعجز أحدكم أن يقرأ بثلث القرآن في ليلة؟.
فشق ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟.
فقال: (قل هو الله أحد، الله الصمد) ثلث القرآن.
ولأبي عبيد عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، عن
النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: أيعجز أحدكم أن يقرأ القرآن في ليلة، الله الواحد الصمد.
وله عن ابن مسعود رضي الله عنه نحوه، وكذا عن ابن عباس رضي.
الله عنهما.
ورواه البزار والطبراني في الكبير والأوسط عن ابن مسعود رضي الله
قال الهيثمي: بأسانيد رجال أحدها رجال الصحيح، غير عبد الله بن
أحمد وهو ثقة إمام.
وروى أبو عبيد، عن أبي بن كعب رضي الله عنه - أو رجل من
الأنصار رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ (قل هو الله أحد) فكأنما قرأ ثلث القرآن.

(3/285)


ورواه أحمد عن أبي، أو رجل من الأنصار رضي الله عنهم -
أيضاً. قال الهيثمي: ورحاله رجال الصحيح.
وروى أبو يعلى: " أنها تعدل ثلث القرآن " عن أنس رضي الله
عنه.
وروى نحوه البزار، عن سعد، بن أبي وقاص رضي الله عنه.
قال الهيثمي: وفيه زكريا بن عطية. وهو ضعيف.
ورواه الطبراني عق معاذ بن جبل رضي الله عنه.
قال الهيثمي: ورجاله ثقات، وفي بعضهم خلاف.
ورواه البزار عن شيخه مفرح بن شجاع، وهو ضعيف، من حديث
جابر رضي الله عنه.
وروى أبو عبيد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا ابتدأت في
سورة فأردت أن تحول منها إلى غيرها، فَتَحَوَّلْ إلى "قل هو الله أحد"، فإذا
بدأت فيها فلا تحول منها حتى تختمها.
وعند الطبراني في الأوسط، عن يزيد بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن
الشخير رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ " قل هو الله أحد " في مرضه الذي يموت فيه، لم يفتن في قبره، وأمن من ضغطة القبر، وحملته الملائكة يوم القيامة بأكفها حتى تجيزه على الصراط إلى الجنة.
قال الهيثمي: وقال الطبراني: لا يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بهذا الإِسناد، وفيه نصر بن حماد الوراق وهو متروك.

(3/286)


وعند أبي داود، والترمذي وقال: حسن غريب، والنَّسائي مسنداً
ومرسلاً - قال النووي: بالإسانيد الصحيحة - عن معاذ بن عبد الله بن
خبيب عن أبيه رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: قل (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) والمعوذتين - حين تصبح، وحين تمسي، ثلاث مرات، تكفيك من كل شيء.
وفي رواية: أنه قال: خرجنا في ليلة مطر وظلمة شديدة نطلب رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -ليصلي بنا - وفي رواية: لنا فأدركناه، فقال لي: قل، فلم أقل شيئاً ثم قال: قل، فلم أقل شيئاً، ثم قال: قل، فلم أقل شيئَاً، ثم قال: فقلت: يا رسول الله فما أقول؟ ، قال: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)
والمعوذتين حين تمسي، وحين تصبح ثلاث مرات، تكفيك من كل شيء.
وسيأتي في المعوذتين بسياق آخر.
ورواه النسائي عن عقبة رضي الله عنه قال: بينما أنا أقود برسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(3/287)


راحلته في غزاة فقال: يا عقبة قل، فاستمعت، ثم قال: يا عقبة قل. فاستمعت، فقال الثالثة فقلت، ما أقول؟.
فقال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. فقرأ حتى ختمها، ثم قرأ: قل أعوذ برب الفلق وقرأت معه حتى ختمها، ثم قرأ: قل أعوذ برب الناس فقرأت معه حتى ختمها، ثم قال: ما تعوذ بمثلها أحد. وستأتي بقية طرق هذا الحديث في المعوذتين، إن شاء الله تعالى.
ولابن داود بسند - قال النووي، على شرط مسلم - عن إبراهيم
النخعي قال: كانوا يعلمونهم إذا أووا إلى فرشهم أن يقرأوا المعوذتين.
وفي رواية كانو يستحبون أن يقرأوا هؤلاء السور في كل ليلة ثلاث
مرات: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ والمعوذتين.
ولأبي داود والترمذي والنَّسائي وابن عبد الحكم في الفتوح.
وغيرهم عن عقبة ابن عامر رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ المعوذتين دبر كل صلاة.
وفي رواية أبي داود: بالمعوذات.

(3/288)


فينبغي أن يقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ
برب الناس قاله النووي.
وللترمذي وقال: غريب، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" كل يوم مائتي مرة، محيَ عنه ذنوب خمسين سنة، إلا أن يكون عليه دين.
قال: ومن أراد أن ينام على فراشه، فنام على يمينه، ثم قرأ "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" مائة مرة، فإذا كان يوم القيامة يقؤل له الرب: يا عبدي
أدخل عن يمينك الجنة. وضعفه المنذري.
ولأحمد والطبراني - قال الهيثمي: وفيه علي بن يزيد وهو ضعيف
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل يقرأ "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" فقال: أوجب هذا، أو: وجبت له الجنة.
ولأحمد والطبراني - أيضاً - وابن عبد الحكم في الفتوح، من طريق

(3/289)


زبَّان، عن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" عشر مرات - قال ابن عبد الحكم: حتى يختمها - بني الله له بيتا في الجنة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذن نستكثر يا رسول الله؟.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الله أكثر وأطيب.
قال الهيثمي: وقال أحمد في روايته: عن سهل بن معاذ أن أنس الجهني
صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل: عن أبيه.
والظاهر: أنها سقطت.
يعني: فإن سهلا لا صحبة له.
قال: وفي إسنادهما رشدين بن سعد وزبان، وكلاهما ضعيف، وفيهما توثيق ليِّن.
ورواه الدرامي عن مرسل سعيد بن المسيب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" إحدى عشرة مرة بنى له بها قصر في الجنة، ومن قرأها عشرين مرة بنى له بها قصران في الجنة، ومن قرأها ثلاثين مرة بنى بها ثلاثة قصور، فقال عمر بن الخطاب: إذن نكثر قصورا؟.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الله أوسع من ذلك.
وللطبراني من طريق محمد بن قدامة الجوهري - قال الهيثمي: وهو

(3/290)


ضعيف - عن ابن الديلمي وهو ابن أخت النجاشي رضي الله عنه، وقد
خدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، من قرأ "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" مائة مرة في الصلاة، أو غيرها، كتب "الله له براءة من النار".
وللطبراني في الأوسط من طريق هانئ بن المتوكل - قال الهيثمي: وهو
ضعيف - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قرأ: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" عشر مرات بني له قصر في الجنة، ومن قرأ عشرين مرة بني له قصران، ومن قرأها ثلاثين مرة بني له ثلاث.
وللطبراني في الصغير بسند - قال الهيثمي: فيه من لم أعرفهم - عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" بعد صلاة الصبح اثنتي عشرة مرة، فكأنما قرأ القرآن أربع مرات، وكان أفضل أهل الأرض يومئذ إذا اتقى.
وله في الصغير والأوسط - قال الهيثمي: عن شيخه يعقوب بن إسحاق
بن الزبير الحلبي ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات - عن جابر بن عبد الله
رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) في كل يوم خمسين مرة، نودى يوم القيامة من قبره: قم يا مادح الله فادخل الجنة.
وللدارمي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) خمسين مرة غفر الله له ذنوب خمسين سنة.

(3/291)


وللطبراني في الكبير والأوسط، عن جابر رضي الله عنه قال: قالوا: يا
رسول الله انسب لنا ربك، فنزلت "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" إلى آخرها.
ورواه أبو يعلى إلا أنه قال: إن أعرابياً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: انسب
قال الهيثمي: وفيه مجالد بن سعيد، قال ابن عدى: له عن الشعبي
عن جابر رضي الله عنه أحاديث صالحة، قال: قلت: وهذا منها، قال وبقية
رجاله رجال الصحيح.
وروى الترمذي عن أبي كعب رضي الله عنه، أن المشركين قالوا للنبي
- صلى الله عليه وسلم -: انسب لنا ربك. فأنزل الله تعالى: (قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد) لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت، وليس شيء يموت إلا سيورث، وأن الله لا يموت ولا يورث، ولم يكن له كفواً أحد.
وفي أوائل السابع من "الغيلانيات"، عن سعيد، عن أبيه - رضي الله عنه -

(3/292)


أن إنسانا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:، انسب لي ربك، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزل جبريل فأخبره، فقال: أين السائل عن نسبة الله عز وجل؟.
قال: أنا هوذا. قال: " قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم
يكن له كفوا أحد".
وللطبراني في الأوسط، من رواية الوازع بن نافع - قال الهيثمي: وهو
متروك - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن لكل شيء نسبة، وإن نسبة الله "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ".
وعزا الملوي إلى البيهقي من طرق مرسلة ومتصلة، ومن متصلها:
عن أنس رضي الله عنه قال: غزونا مع الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة تبوك، فطلعت الشمس ذات يوم ونحن بتبوك، بنور وشعاع وضياء، لم نرها مثل ذلك فيما مضي، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجب من ضيائها ونورها، إذ أتاه جبريل عليه السلام بالوحي، فسأل جبريل فقال: يا نبي الله مات اليوم معاوية بن معاوية
الليثي، فبعث إليه سبعون ألف ملك يصلون عليه.
قال: بم ذلك يا جبريل؟ قال: كان يكثر قراءة "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" قائماً وقاعداً، وماشياً، وآناء الليل والنهار، فهل لك يا نبي الله أن تصلي عليه ثم ترجع؟ ، فأقبض لك الأرض؟.
ففعل، ثم صلى عليه فرجع.
وفي رواية: قال جبريل بيده: هكذا، ففرج له عن الجبال والآكام.
فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي ومعه جبريل عليه السلام، ومع جبريل سبعون ألف ملك، حتى صلى على معاوية بن معاوية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا جبريل بم بلغ معاوية هذا؟
قال: بكثرة قراءة "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ"، كان يقرؤها قائماً وقاعداً، وراقداً وماشياً وراكباً، فبهذا بلغ ما بلغ.

(3/293)


قال النووي في الأذكار: وروينا في كتاب ابن السني، ودلائل النبوة
للبيهقي، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام وهو بتبوك فقال: يا محمد اشهد جنازة معاوية بن معاوية المزني رضي الله عنه، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونزل جبريل عليه السلام في سبعين ألفا من الملائكة، فوضع جناحه الأيمن على الجبال فتواضعت، ووضع جناحه الأيسر على الأرضين فتواضعت، حتى نظر إلى مكة والمدينة، فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجبريل والملائكة عليهم السلام.
فلما فرغ قال: يا جبريل بم بلغ معاوية هذه المنزلة؟.
قال: بقراءة "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" قائماً وراكباً وماشيا.

(3/294)


قال وروينا في سنن أبي داود، والترمذي، والنَّسائي، وابن ماجة، عن
بريدة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يقول: اللهم إني أسالك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، فقال: سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعى به أجاب.
وروى أحمد والطبراني في الأوسط والدارمي - قال الهيثمي: ورجال
أحمد رجال الصحيح - عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها قالت:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، تعدل ثلث القرآن.
وللطبراني عن حمزه بن يوسف، بن عبد الله، بن سلام: أن عبد الله

(3/295)


ابن سلام رضي الله عنه قال لأحبار يهود: إني أَحْدَثُ بمسجد أبينا إبراهيم
وإسماعيل عليهما السلام عهداً، فانطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة، فوافاهم وقد انصرفوا من الحج فوجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس حوله، فقمت مع الناس، فلما نظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أنت عبد الله بن سلام؟.
قال: قلت: نعم قال: أدن، فدنوت منه، قال: أنشدك بالله يا عبد الله بن سلام أما تجدني في التوراة رسول الله؟
فقلت له، انعت لنا ربنا؟
قال: فجاء جبريل عليه السلام حتى وقف بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: (قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد) فقرأها علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال عبد الله بن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
قال الهيثمي: ورجاله ثقات، إلا أن حمزة لم يدرك جده عبد الله بن سلام رضي الله عنه، انتهى.
وهذا لا ينافي ما في الصحيح من أن إسلامه كان في المدينة الشريفة.
لاحتمال أن يكون قصد النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الهجرة فأسلم، وكان يخفي إسلامه خوفاً من اليهود، إلى أن هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه شهد له بالرسالة ولم يتابع، كما وقع ذلك لغيره من اليهود، فلما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - شرح الله صدره فأسلم.
والله أعلم.
قال الشيخ محى الدين النووي في الأذكار: وروينا عن جابر رضي الله
عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من نسى أن يسمى على طعامه فليقرأ "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" إذا فرغ.
وروى البخاري في صحيحه تعليقاً، والترمذي في جامعه، والدارمى.
عن أنس رضي الله عنه قال، قال رجل لرسول - صلى الله عليه وسلم -: إني أحب هذه السورة "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" قال: حبك إياها يدخلك الجنة.

(3/296)


وفي رواية الدارمي: أدخلك الجنة.
وروى عبد بن حميد، عن أنس أيضاً رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله إن ها هنا رجلا لا يصلي صلاة إلا قرأ فيها "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ".
منها ما يفردها، ومنها ما يقرؤها مع سورة أخرى، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: وما تريد إلى هذا؟.
قال: يا رسول الله إني أحبها، قال حبها أدخلك الجنة.
وللشيخين، والنَّسائي، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلاً على سرية، فكان يقرأ لأصحابه - فيختم بـ "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ"، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: سَلْهُ لأي شيء يصنع ذلك؟.
فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن، وإني أحب أن أقرأها، فقال: أخبروه أن الله يحبه.
وللترمذي وقال: حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - قرأ في ركعتي الفجر بالكافرون و "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ".
وأخرجه النسائي وقال: رمقت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرين مرة يقرأ في الركعتين قبل الفجر: قل يا أيها الكافرون، و "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ".
وقد تقدم في قل يا أيها الكافرون مثل هذا، من وجه آخر.

(3/297)


سورة الفلق
قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد: مدنية.
وقال قتادة - قال الأصبهاني: والحسن، وعطاء، وعكرمة، وجابر بن
زيد -: مكية.
قال: والأول أصح، ويدل عليه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحر وهو مع عائشة رضى الله عنها، فنزلت عليه المعوذتان.
وآيها خمس باتفاق العادين، ولا اختلاف فيها.
ورويها ثلاثة أحرف. وهي: دبق.
مقصودها
ومقصودها: الاعتصام من شر كل ما انفلق عنه الخلق الظاهر
والباطن. واسمها ظاهر الدلالة على ذلك.
فضائلها
وأما فضائلها: فروى الترمذي وقال: حسن صحيح غريب،

(3/298)


عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من الجان، وعين الإِنسان، حتى نزلت المعوذتان، فلما نزلتا أخذ بهما وترك ما سواهما.
وأخرج الطبراني في الأوسط، عن علي رضي الله عنه قال: لدغت
النبي - صلى الله عليه وسلم - عقرب وهو يصلي، فلما فرغ قال: لعن الله العقرب لا تدع مصلياً ولا غيره، ثم دعا بماء وملح. وجعل يمسح عليها ويقرأ: "قل يا أيها الكافرون، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس".
وفي المسند للِإمام أحمد، والسنن للنسائي، وأمالي أبي الحسين بن
شمعون، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: بينا أنا أقود برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نقب من تلك النقاب، إذ قال: ألا تركب يا عقبة؟. فأجللت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أركب مركبه، ثم قال: ألا تركب يا عقبة؟. فأشفقت أن تكون معصية، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وركبت هنية ونزلت، وركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقدت به ثم قال: يا عقبة ألا أعلمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس؟
قلت: بلى يا رسول الله، قال: فاقْرأَ: قل أعوذ برب الفلق، وقل
أعوذ برب الناس ثم أقيمت الصلاة، فتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقرأ بهما، ثم مرَّ بى، قال كيف رأيت يا عقبة؟
اقرأ بهما كلما نمت وكلما قمت.
وزاد النسائي في رواية: ما سأل سائل بمثلهما، ولا استعاذ مستعيذ
بمثلهما.
وفي المسند عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، عن عقبة بن
عامر رضي الله عنه قال: لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فابتدأته فأخذت بيده

(3/299)


قال: قلت: يا رسول الله ما نجاة المؤمن؟.
قال: يا عقبة أخرس - وفي رواية: أملك - لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك، قال: ثم لقينى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فابتدأني، فأخذ بيدي فقال: يا عقبة بن عامر، ألا أعلمك
خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والِإنجيل والزبور والقرآن العظيم.
وفي رواية: ألا أعلمك سوراً ما أنزل في التوراة ولا في الزبور ولا
في الِإنجيل ولا في القرآن مثلهن؟.
قال: قلت: بلى جعلني الله فداك.
قال: فأقرأني: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب
الناس. ثم قال يا عقبة لا تنسهن، ولا تَبِتْ ليلة حتى تقرأهن، فما نسيتهن
منذ قال: لا تنسهن وما بت ليلة حتى أقرأهن، ثم لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فابتدأته فأخذت بيده، فقلت يا رسول الله أخبرني بفواضل الأعمال. فقال: يا عقبة صِلْ من قطعك، وأعط من حرمك، وأعرض - وفي رواية -: واعف عمَّنْ ظلمك.
وفيه: وفي رواية - قال الهيثمي: رجالها ثقات - أنه قال: لقيت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: يا عقبة بن عامر ألا أعلمك سوراً ما أنزل في التوراة ولا في الزبور ولا في الِإنجيل، ولا في القرآن، مثلهن، ولا تأتي ليلةٌ إلا قرأت بهن فيها: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس.

(3/300)


قال الهيثمي: وهو في الصحيح باختصار.
وفي المسند - أيضاً عن ابن عابس الهجهني رضي الله عنه، أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له يا ابن عابس ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوذون؟.
قلت: بلى يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل أعوذ برب الناس وأعوذ برب الفلق، هاتين السورتين.
وفي المسند عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: أمرني رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة.
ورواه أبو داود والنَّسائي، والترمذي وقال: حسن صحيح، وقال
بالمعوذتين.
وروى مسلم والترمذي والنَّسائي عن عقبة. بن عامر رضي
الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ألم تر آيات أنزلت الليلة، لم ير مثلهن قط:
قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس.

(3/301)


ولأبي داود، والنَّسائي عن عقبة بن عامر رضى الله عنه قال: بينا أنا
أسير مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الجحفة والأبواء، غشيتنا ريح وظلمة شديدة، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ بأعوذ برب الفلق، وأعوذ برب الناس، ويقول: يا عقبة تعوذ بهما، فما تعوذ متعوذ بمثلهما.
قال: وسمعته يؤمنا بهما في الصلاة.
الجحفة: قرية كبيرة على سبع مراحل من المدينة الشريفة، وثلاث من
مكة، وتسمى مهيعة والأبواء: جبل بين مكة والمدينة.
وروى أبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح، عن عبد الله بن
خبَيب رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) والمعوذتين، حين تمسي، وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء.
وقد تقدم في الِإخلاص بلفظ آخر.
وروى النسائي، وأبو عبيد في الفضائل، عن معاذ بن عبد الله بن
خبيب عن أبيه رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طريق مكة ومعه أصحابه، فوقعت علينا ضبابة من الليل، حتى سترت بعض القوم عن بعض، فلما أصبحنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل يابن خبيب. فقلت: ما أقول يا رسول الله؟ :
قال: قل أعوذ برب الفلق، فقرأها، وقرأتها، حتى فرغ
منها، ثم قال: ما استعاذ - أو استعان - أحد بمثل هاتين السورتين قط.

(3/302)


هكذا هو في نسختي، وكأنه سقط ذكر سورة الناس.
وفي رواية النسائي قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق مكة، فأصبتُ خلوة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدنوتُ منه، فقال: قل. قلت: ما أقول؟
قال: أعوذ برب الفلق، حتى ختمها، وقل أعوذ برب الناس، حتى ختمها.
ثم قال: ما تعوذ الناس بأفضل منهما.
وللبزار - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح - عن عبد الله الأسلمي
رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمرة، حتى إذا كنا ببطن واقم، استقبلتنا ضبابة فأضلتنا الطريق، فلم نشعر حتى طلعنا على ثنية، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك عدل إلى كثيب فأناخ عليه، ثم قام، وقام عليه من شاء الله، فما زال يصلي حتى طلع الفجر، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأس ناقته، ثم مشى، وعبد الله بن الأسلمي إلى جنبه، ما أحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غيره، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على صدره ثم قال: قل.
قلت: ما أقول؟
قال: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ، (قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق) ، حتى فرغت منها، ثم قال: (قل أعوذ برب الناس) ، حتى فرغت منها.
فقال رسول الله: هكذا فتعوذ، فما تعوذ العباد بمثلهن قط.
وللبيهقي في الدعوات، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:

(3/303)


كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من عين الجان وعين الِإنسان، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما، وترك ما سوى ذلك.
وللنسائي، وابن حبان في صحيحه، عن جابر رضي الله عنه، أن
النِبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: أقرأ يا جابر، قلت: وماذا أقرأ بأبى أنت وأمى؟ ، قال: اقرأ قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس) ، فقرأتهما، فقال: اقرأ بهما، ولن تقرأ بمثلهما.
وللطبراني في الأوسط - قال الهيثمي: ورجاله ثقات - عن ابن
مسعود رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لقد أنزل عليَّ لم ينزل عليَّ مثلهن، المعوذتين.
وللدرامي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: مشيت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: قل يا عقبة، فقلت: أي شيء أقول؟
قال: فسكت عني، ثم قال: يا عقبة قل. فقلت: قل. فقال: أعوذ برب الفلق، فقرأتها حتى جئت على آخرها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: ما سأل سائل ولا استعاذ مستعيذ بمثلها.
ورواه عبد الرازق بنحوه. ورويا أيضاً عنه رضي الله عنه قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد أنزل عليَّ آيات لم أر - أو لم ير - مثلهن.
وقال عبد الرازق: لم أسمع مثلهن - أو لم أر مثلهن -: المعوذتين.

(3/304)


ورواه أبو عبيد، ولفظه: أنزلت علي آيات، لم ينزل عليَّ مثلهن قط:
المعوذتان.
ولأبي عبيد، وابن عبد الحكيم في الفتوح، عن عقبة بن عامر
الجهني - أيضاً - رضي الله عنه قال: اتبعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو راكب، فوضعت يدي على قدمه، فقلت: أقرئني من سورة هود، أو سورة يوسف، عليهما السلام فقال: "لن تقرأ شيئاً أبلغ عند الله من " قل أعوذ برب الفلق ".
ورواه النسائي وقال: لي تقرأ شيئاً عند الله أبلغ من آيات أنزلت
عليَّ أعوذ برب الفلق، وأعوذ برب الناس.
وروى البغوي عن عقبة أيضاً رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوذون؟.
قلت: بلى. قال: قل أعوذ برب الناس.
ولأبي داود والنَّسائي عن عقبة - أيضاً - رضي الله عنه. أنه قال: كنت
أقود بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ناقته في سفر، فقال لي: يا عقبة ألا أعلمك خير سورتين قرئتا؟ ، فعلمني (قل أعوذ برب الفلق) ، (وقل أعوذ برب الناس) فلم يرني سررت بهما جداً، فلما نزل لصلاة الصبح صلى بهما صلاة الصبح للناس، فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التفت إليَّ فقال: يا عقبة كيف رأيت.
ولأبي عبيد عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قال: من صلى

(3/305)


الجمعة ثم قرأ بعدها "قل هو الله أحد" والمعوذتين، حفظ - أو كفى - من
مجلسه ذلك إلى مثله.
ومثله لا يقال بالرأي، فحكمه الرفع.
ورواه ابن السنى عن عائشة رضي الله عنها بصريح الرفع، قالت:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ بعد صلاة الجمعة: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، سبع مرات، أعاذه الله من السوء إلى الجمعة الأخرى.
ولمالك والشيخين، وأبي داود والترمذي، عن عائشة أيضاً رضي
الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أخذ مضجعه، نفث في يده وقرأ المعوذات، وقل هو الله أحد، ومسح بها وجهه وجسده، فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل به ذلك.

(3/306)


وفي رواية: كان ينفث على نفسه في المرض الذي توفى فيه بالمعوذات.
فلما ثقل، كنت أنفث عليه بهن. وأمسح بيد نفسه لبركتها.
ورواه البخاري في الوفاة، والبيهقي في الدعوات، بلفظ: كان إذا
اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، ومسح بيديه، قالت: فلما اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعه الذىِ توفى فيه، طَفِقْتُ أنفُثُ عليه بالمعوذات التي كان ينفث بها على نفسه، وأمسح بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه.
ولفظ الموطأ وأبي داود: في رواية: كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه
بالمعوذات وينفث، فلما اشتد وجعه " كنت أقرأ عليه، وأمسح عنه بيده رجاء بركتها".
ورواه أبو عبيد في أواخر كتاب الفضائل، عن عائشة أيضاً رضي الله
عنها بلفظ: كان إذا مرض يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث.
وقال الشيخ محى الدين في أواخر باب الغسل من شرح المهذب:
ويقرأ عند المريض الفاتحة، وقل هو الله أحد، والمعوذتين، مع النفخ في
اليدين، ويمسحه بهما، ثبت ذلك في الصحيحين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وروى عبد بن حميد عنها أيضاً رضي الله عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد النوم يجمع يديه فينفث فيهما، ويقرأ بـ قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، يمسح بهما على وجهه ورأسه، وسائر جسده.
قال عقيل: ورأيت ابن شهاب يفعل ذلك.
قال النووي: قال أهل اللغة: النفث: نفخ لطيف بلا ريق.

(3/307)


ولأحمد - قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح عن أبي العلاء، يعني
يزيد بن عبد الله، بن الشخير، قال:: قال رجل كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سفر، والناس يعتقبون وفي الظهر قلة، فحانت نزلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونزلت، فلحقني من بعدي، فضرب منكبي فقال: قل أعوذ برب الفلق، فقلت أعوذ برب الفلق، فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرأتها معه.
ثم قال: قل أعوذ برب الناس، فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرأتها معه، قال: إذا أنت صليت، فاقرأ بهما.

(3/308)


سورة الناس
قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد: مدنية
وقال قتادة: مكية.
عدد آياتها
وآيها سبع في المكى والشامي، وست في عدد الباقين.
اختلافها آية:
(الوسواس) ، عدها المكي والشامي، ولم يعدها الباقون.
ورويها: السين.
مقصودها
ومقصودها: الاعتصام بالِإله الحق، من شر الخلق الباطن، واسمها
دال على ذلك، لأن الِإنسان مطبوع على الشر، وأكثر شره بالمكر والخداع.
وأحسن من هذا: أنها للاستعاذة من الشر الباطن، المأنوس به، المشروح
إليه، فإن الوسوسة لا تكون إلا بما يشتهي.

(3/309)


والناس: مشتق من الِإنس، فإن أصله، أناس، وهو أيضاً: اضطراب
الباطن، المشير إليه الاشتقاق من النَّوس، فطابق حينئذ - الاسم المسمى.
ومقصود هذه السورة معادل لمقصود الفاتحة، الذي هو المراقبة.
فقد اتصل الآخر بالأول اتصال العلة بالمعلول، والدليل بالمدلول، والمثل
بالممثول، والله المسؤول، في تيسير السُّؤْل، وتحقيق المأمول.
فضائلها
وأما فضائلها: فروى مالك والشيخان، والأربعة، عن عائشة رضي الله
عنها، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما، فقرأ فيهما: قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات.
وقد تقدمت في الفلق بقية ألفاظه.
وروى أبو داود في السنن، والبيهقي في الدعوات، عن عقبة بن عامر
رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأوا بالمعوذات في دبر كل صلاة.
وفي رواية أبي داود: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقرأ بالمعوذات في دبر كل صلاة.
وللبيهقي في "شعب الِإيمان" عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "لا ينام أحدكم حتى يقرأ ثلث القرآن، قالوا: يا رسول الله

(3/310)


وكيف يستطيع أحدنا أن يقرأ ثلث القرآن؟.
قال: ألا يستطيع أن يقرأ: "قل هو الله أحد "، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس".
وروى البيهقي - أيضاً - عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: مشيت
مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لي: يا عقبة قل، فقلت: إيش أقول؟.
قال: فسكت عني، فقلت: اللهم اردده فيَّ فقال: يا عقبة قل، فقلت: قل، فقال: أعوذ برب الناس، فقرأتها، حتى جئت على آخرها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: ما سأل بمثلها ولا استعاذ مستعيذ بمثلها.
وروى أحمد عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن زِر قال: قلت
لأبي رضي الله عنه: إن عبد الله رضي الله عنه يقول في المعوذتين؟.
فقال: سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: قيل لي فقلت: فأنا أقول كما قال.
وروى أيضاً عن وكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن زر قال: سألت
أبي بن كعب رضي الله عنه عن المعوذتين، فقال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال قيل لي، فقلت لكم، فقولوا: قال أبي رضي الله عنه، فقال لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنحن نقول.
وأورده من طرق كثيرة، منها: ما قال الهيثمي في مجمع الزوائد: إن رجاله الصحيح، ووافقه عليه الطبراني عن زر قال: قلت لأبيٍّ رضي الله عنه: إن أخاك يحكهما من المصحف، قيل لسفيان: ابن مسعود رضي الله عنه، فلم ينكر، فقال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: قيل لي، فقلت، فنحن نقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

(3/311)


قال الهيثمي: وهو في الصحيح. غير حكهما من المصحف، انتهى.
ولفظ البخاري في الصحيح: أن زرا سأل أُبَي بن كعب رضي الله عنه عن
المعوذتين، فقال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: قيل لي فقلت. فنحن نقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال شيخنا حافظ عصره ابن حجر في شرحه البخاري: القائل، فنحن
نقول - إلي آخره -، هو أبي بن كعب رضي الله عنه، ووقع عند الطبراني في الأوسط: أن ابن مسعود رضي الله قال مثل ذلك، لكن المشهور: أنه من
قول أبي ابن كعب، فلعله انقلب على رواية. انتهى.
وقال الشيخ بدر الدين الزركشي: وروى ابن حبان في صحيحه عن
زر قال: قلت لأبي ذر رضي الله عنه: إن ابن مسعود رضي الله، لا يثبت في
مصحه المعوذتين فقال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال لي جبريل عليه السلام: قل: أعوذ برب الفلق، فقلتها، وقال لي قل أعوذ برب الناس، فقلتها، فنحن نقول ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وروى عبد الله بن الِإمام أحمد - قال الهيثمي: ورجاله رجال
الصحيح، والطبراني ورجاله ثقات - عن عبد الرحمن بن يزيد - يعني:
النخعي - قال: كان عبد الله يحك المعوذتين من مصاحفه ويقول: إنهما
ليستا من كتاب الله تبارك وتعالى.
وروى البزار والطبراني - قال الهيثمي: ورجالهما ثقات -

(3/312)


عن عبد الرحمن بن يزيد أيضاً عن عبد الله أنه كان يحك المعوذتين من المصحف،ويقول: إنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتعوذ بهما، وكان عبد الله لا يقرأ بهما.
قال البزار: لم يتابع عبد الله أحد من الصحابة، وقد صح عن النبي
- صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ بهما في الصلاة، وأُثبتنا في المصحف، انتهى.
وعندي: أن ظاهر هذه الأخبار غير مراد، وأن ابن مسعود رضي
الله عنه إنما كان ينكر كلمة "قل" فقط في أولهما، ويحكهما من الصحف من
المعوذتين، وأن قرءته كانت كذلك، وكان يستدل على صحة قراءته لهما التي أخذها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسهو غيره في نقل قل، بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يتعوذ بهما، والمتعوذ لا يناسب أن يأمر من يتعوذ به بالقول.
وعلى ذلك ينطبق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل: "قيل لي فقلت " أي كما قال لي الملك، لا أسقط شيئاً مما نطق به، لأنه كلام الله، ولو كان عبد الله رضي الله عنه ينكر جميع المعوذتين، لم يطابق قول أبي رضي الله عنه: " سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: قيل لي فقلت " قول من سأله، وكذا قول أبي ذر رضي الله عنه من سأله، والله الموفق.
والحاصل: أنه يلزم على نسبته رضي الله عنه، إلى أنه ينكر جميع
السورتين فسادان عظيمان.
أحدهما في حق أُبَيٍّ وأبي ذر رضي الله عنهما.
والثاني: في حق ابن مسعود رضي الله عنه، ولا يلزم على القول بأن
المنكر إنما هو كلمة "قل" شيء.
أما الأول، وهو ما في حق أبى وأبي ذر، رضي الله عنهما: فلأنه يلزم
أن يكون استدلا لهما غير مفيد لمطلوبهما، لأنه لا يلزم في كل ما قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -

(3/313)


أن يكون قرآناً، ولا يفيد الدليل أنهما قرآن إلا بدعوى ذلك.
وإن قيل: إن ذلك هو مرادهما، لأنهما في مقام الاستدلال، كان خروجاً
عن الظاهر. لا لحاجة بل لإثبات فساد، وهو الفساد الثاني الذي يلزم في حق ابن مسعود رضي الله عنه.
لأنه لا يخلو حينئذ، أما أن يقال: إنه أقدم على حك السورتين كاملتين
بعلم، أو بغير علم.
والمراد بالعلم: القطع، وهو الصفة التي توجب تمييزاً لا يحتمل النقيض.
فإن قيل بغير علم، لزم عنيه نسبة هذا الصحاب الجليل الذي
مناقبه - لا سيما في العلم بشهادة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أكثر من أن تحصى إلى هذا الأمر الفظيع، الذي يتحاشى عنه أحاد المسلمين.
وإن قيل: إن إقدامه على ذلك بعلم، لزم منه نفى كونهما قرآناً، ولا
يخفى ما فيه من الشناعة والطعن على سائر الصحابة، رضوان الله عليهم
أجمعين.
وأما إنه لا يلزم شيء على القول بأن المراد إنكار "قل" فلأنه يكون من
إطلاق المعوذتين على كلمتين منهما مجازاً، بدلالة التضمن.
وقوله: إنما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتعوذ بهما - أي السورتين - دليل على حذف "قل"، لأن المتعوذ لا يقول لمن يستعيذ به: في أعوذ، فيكون آمِراً بالتعوذ، لا متعوذاً.
والضمير في قوله: وكان عبد الله لا يقرأ بهما: للكلمتين، وليسا بأول
ضميرين اتسقا، وعاد كل منهما على ما هو له، بقرينة، وإقدامه على حكهما، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرأه السورتين بدونهما، كما هو ظاهر في إقرائه - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله الأسلمي رضي الله عنه حين قال له: قل أعوذ برب الناس، فقال: أعوذ برب الناس، فلم يلقنه "قل" وكذا إقراؤه لعبد الله بن الشخير، ولعقبة رضي النّه عنهما
وبعض الروايات كما مضى، فليستا في قراءة عبد الله رضي الله عنه.

(3/314)


والدليل عنده قائم على ما فهمه على أنه لا معنى لِإثباتهما، بل يكون
إثباتهما - على ما فَهِمَ - مُخرِجاً عن التعوذ المقصود منهما، إلى الأمر به.
وليستا بأول كلمتين سقطتا في قراءة، وثبتتا في أخرى مع ما يؤيد
ذلك عنده في قصد التعوذ، لا الأمر به، فهذا هو الحامل له على الِإقدام على حكَهِما.
هذا في حق ابن مسعود رضي الله عنه.
وأما في جانب أبَي، وأبي ذر، رضي الله عنهما: فلأن استدلا لهما على
إثبات الكلمتين قرآناً بقول كل منهما: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له، إلى آخره، تام مطابق لما ورد عليه من إنكارهما، وهو أنهما إنما قيلتا، مع أن المراد التعوذ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قالهما كما قالهما جبريل عليه السلام مطابقة لما قال الله تعالى، فيصير إثباتهما في غاية الدلالة على أنهما قرآن لا مطلق تعوذ.
ويفيض - أيضاً - التذكير بمن قيل له ذلك، وهو المنزل عليه - صلى الله عليه وسلم -، ويفيد الِإذعان لذلك، بركة التعوذ، ويحصل المقصود به، كما يفيد الِإذعان لـ قل هو الله أحد، وقل يا آيها الكافرون البراءة.
وقوله: "قيل لي فقلت" ظاهر في أن المسؤول عنه، والتنازع فيه إنما
هو كلمة القول، والله أعلم.
وقد تبين بهذا براءة هذا السيد الجليل مما نسب إليه من إنكار
السورتين، وأنه لا خلاف في شيء من كتاب الله.
وقد سبقنى إلى تأويل كلامه القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني كما
نقل عنه الِإمام بدر الدين الزركشي، رحمهما الله تعالى، وإن كانت سبيلى
في ذلك غير سبيله، وتأويلي مُبايناً لتأويله.
ثم رأيت في شرح المهذب للِإمام الرباني محى الدين النووي في صفة
الصلاة في آخر الكلام على القراءة في الصلاة ما نصه:

(3/315)


وما نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه في الفاتحة، والمعوذتين باطل، ليس بصحيح.
قال ابن حزم في أول كتابه "المحلي". هذا كذب على ابن مسعود
رضي الله عنه موضوع، وإنما صح عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش، عن
ابن مسعود رضي الله عنه، وفيها الفاتحة والمعوذتان. انتهى.
ولما قرب التقاء نهايتي الدائرة السورية، آخرها بأولها، اشتد تشاكل
الرأسين، فكانت هذه السور الثلاث الأخيرة، مشاكلة للثلاث الأولى في
المقاصد وكثرة الفضائل:
الِإخلاص لسورة التوحيد: آل عمران، وهو واضح.
والفلق للبقرة، طباقاً ووفاقاً، فإن الكتاب الذي هو مقصود سورة
البقرة خير الأمر، والفلق للعوذ من شر الخلق، المحصل لكل خير، وفي
البقرة (أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) ، (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) .
الآيات، (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) الآية.
والناس للفاتحة، فإنه إذا فرغ الصبر الذي هو مسكن القلب، الذي

(3/316)


هو مركب الروح الذي هو معدن العقل، كانت المراقبة، فصار ذلك بمنزلة
تقديس النفس بالتوحيد والإِخلاص، ثم استعاذة من كل شر ظاهر، وكل
سوء باطن، للتأهل لتلاوة سورة المراقبة وما بعدها من الكتاب على غاية من
السداد والصواب، فاتصل الآخر بالأول أي اتصال بلا ارتياب، واتحد به كل الاتحاد، إن في ذلك لذكرى لأولى الألباب.
فإنه اكتفى - أولاً - بالاستعاذة المعروفة، كما يكتفي في أوائل الأمور
بأيسر مأمور، فلما ختم الخاتمة، جوزي بتعوذ من القرآن، ترقية له إلى مقام
الإِحسان.
هذا ما أردت إيداعه في هذا الكتاب، قد انتهى الإِثبات له مع التحرير
والانتخاب، على قدر الجهد والطاقة، والله الموفق للصواب.
(وكان ابتدائي فيه في نصف شوال سنة 70، وكان فراغي من مسودته
ليلة الجمعة، رابع عشر جمادي الأولى، من سنة إحدى وسبعين وثمان مائة.
وكان فراغي من هذه النسخة ليلة الثلاثاء، رابع عشر من شعبان من
السنة كل ذلك بمنزلي ومسجدي من رحبة العيد، من القاهرة المعزية، جبرها
الله تعالى.
قال ذلك أحوج الخلائق إلى عفو الخالق، إبراهيم بن عمر بن حسن
الرباط ابن علي بن أبي بكر، البقاعي الشافعي، "لطف الله بهم أجمعين.
آمين، آمين، آمين، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد.
وعلى آله وصحبه وسلم) ، حسبنا الله، ونعم الوكيل.

(3/317)