معاني القراءات للأزهري

القراءة في سورة فاتحة الكتاب
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قول الله جلَّ وعزَّ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) .
اتفق القراءُ على ضم الدال من قوله: (الحمدُ لله) ، وكسر اللام من
(لله) ، وكَسر الباء من (رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
فـ (الحَمدُ) رفع على الابتداء، وخبر الابتداء اللام من (لِلهِ) ،
وهذه القراءة هي المأثورة.
وقد قرأ بعضهم: (الحَمدَ لِلهِ) ، وليس بمختار؛ لأن المصادر
تُنصَب إذا كانت غير مضافة، وليس فيها ألف ولام، كقولك: حَمداً،
وشُكراً، أي: أحمدُ وأشكُر.
وهذا قول أبي العباس أحمد بن يحيى فيما أخبرني عنه أبو الفضل محمد بن أبي جعفر المنذري العدلُ.

(1/108)


قوله جلَّ وعزَّ: (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) .
قرأ (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن
عامر، وحمزة بن حبيب.
وقرأ (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) عاصم، والكسائي، ويعقوب الحضرمي،
قال الأزهري: مَن قرأ (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) فمعناه: أنه ذو المِلْكَةِ في
يوم الدين.
وقيل: معناه أنه مالِك الملك يوم الدين.
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال: اختار أبو عبيد - (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، قال: والفراء ذهب إليه.
قال: واختار الكسائي (مَالِكِ) ثم قال: (ناخِرةً) و (نَخرةً) يجوز هذا وهذا. قال: واعتل أبو عبيد بأن الإسناد فيها أقَوى، وَمَنْ قَرَأَ بها من أهل العِلم أكثر، وهي في المعنى أصح. .
ويقوي هذه القراءة قوله جلَّ وعزَّ: (فَتَعَالى اللهُ المَلكُ الحَق) ،
وقوله: (قُل أعُوذُ برَب الناس، مَلك الناس) ،
قالَ: وفيه وجه ثالث يقويه، وهو قوله تبارك وتعالى:
(لِمَن المُلكُ اليَومَ) .
وإنما اسم المصدر من الملِك: المِلك، يقال: مَلِك عظيمُ المِلك.

(1/109)


قال: والاسم من المالك: المُلْك. قال: ومما يزيده قوة أن الملِكَ
لا يكون إلا مالكًا، وقد يكون مالكا وليس بِمَلك وهو أتمُّ الوجهين.
قال أبو العباس: والذي أختارُ (مالك) لأَن كل من يملك فهو مالك،
لأنه بتأويل الفعل (مالك الدراهم) و (مالك الثوب) و (مالك يوم الدين "
الذي يملك إقامة يوم الدين.
ومنه قوله: (مالِكُ الملك) .
قال: وأمَّا "مَلِك الناسِ" و (سيد الناس) و (رَب النَاسِ) ،
فإنه أراد: أفضل من هؤلاء، ولم يرد: يملك هؤلاء.
وقد قالوا: (مالك الملك) .
ألا ترى أنه جعله مالكًا لكل شيء، فهذا يدل على الفعل.
قال أبو العباس: فكلا الوجهين حَسَن، له مذهب صحيح.
قال أبو منصور: القراءتان كلتاهما ثابت بالسنة، غير أن
(مالك) أحَبُّ إليَّ؛ لأنه أتم.
* * *
قوله جلَّ وعزَّ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) .
قرأ بالصاد ابن كثير، واتفق معَه نافع، وأبو عمرو،
وابن عامر، وعاصم،، والكسائي.
وقرأ حمزة بين الصاد والزاي،

(1/110)


ولا يحتمله الكتاب، وقرأ يعقوب الحضرمي (السِّراط) بالسين، وروى
السين عن ابن عباس، وابن الزيير.
وقال أبو حاتم فيما أخبرنا عنه أبو بكر بن عثمان: قراءة العامة بالصاد، وعليها المصاحف.
قال الأزهري: مَنْ قَرَأَ بالسين فهو الأصل؛ لأن العرب تقول: سرطتُ
اللقمة سرطا، و: زَرَدتهَا - زَرداً، أي: بلعتُها بلعًا.
وَمَنْ قَرَأَ بالصاد فلأن مخرج السين والصاد من طرف اللسان فيما بينه وبين الثنايا، والسين والصاد يتعاقبان في كل حرف فيه غين، أو قاف، أو طاء، أو خاء.
فالطاء مثل: (بَسطة" و (بَصطة) ، ومثل: (مُسَيطر"
و"مُصَيْطر) ، والخاء مثل: سلخ الجلد، وصلخه.
والغين مثل: مصدغة، ومسدغة.
والقاف مثل: الصقر، والسقر، و: صقع الديك، وسقع.
رَوى ذلك الثقات عن العرب.
والسين حرف مهموس، والصاد حرف مجهور، وذلك اختير مع هذه الحروف.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) ،
معناه ثبِّتنا على المنهاج الواضح.
وقيل معناه: زدنا هُدى.

(1/111)


وقوله جلَّ وعزَّ: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) .
قرأ حمزة ويعقوب: عليهُم، ولَدَيهُم، وإليهُم
وزاد يعقوب على حمزة: فيهُم، وفيهُما.
وذلك أن عليَّ ولديَّ وإليَّ إذا أفردنَ ولم يضَفنَ فلفظهنَّ بالفتح، فاستحسَنَ حمزة فيهن ضمَّ الهاء لما كن منفتحاتٍ في الإفراد، وذلك أن الهاء لا يجوز كسرها إلا أن يسبقها كسرة أو ياء،
وأما (أيديهم) و (يزكيهم) ونحوها مما كان قبل الهاء ياء فإن
يعقوب يضمها، وكذلك مكَني المؤنث، مثل: عليهنَّ، وفيهنَّ.
وكذلك إذا سقطت الياء التي قبل الهاء للجزم كقوله: (أولم
تَأتِهم " و (إنِ يأتِهم عَرَضٌ) ، "فَاستَفتِهم) بضم الهاء -

(1/112)


في هذه الحروف كلها إلا قوله: (وَمَن يولهِم " فإنه يكسر الهاء
في مثله.
والباقون من القراء يكسرون الهاء ويسكنون الميمَ إلا ابن كثير فإنه
يصل الميم بواو في اللفظ ويكسر الهاء، كقولك (عليهمو) و (إليهمو) ،
وكذلك إذا انضمت الهاء وَصَل الميم بواو مثل: (لهمُو)
و (عندَهُمُو) و (وراءهمُو) في كل القرآن.
وكان نافع في رواية قالون وإسماعيل بن جعفر يُخير في هذا،
فمن أحب ضم الميم، ومن أحب أسكنها.
وكان ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم يكسرون الهاء
ويضمون الميم عند السواكن، مثل قوله: (عَليهمُو الغَمَامَ "
و: (إِليهمو اثنَينِ، و (مِن دُونِهم امرأتَينِ) ،
وكان أبو عمرو يكسر الميم والهاء عند السواكنِ، وكان حمزة والكسائي يضمان الميم والهاء عند

(1/113)


السوكن حيث لقي الميمَ سكنَ.
وكان يعقوب يضم الهاء والميم عند السواكن إذا سبقت الهاءَ ياء
فإذا تقدم الهاء حرف غير الياء كسر الهاء والميم.
مثل قوله: (بِهِم الأسباب) و (مِن دونهِم امرَأتَينِ) .
وقرأ الكسائي في رواية نصير عنه أنه يضم الميم إذا تطرفت
فكانت آخر كلمة مضمرة تلي رأس آية نحو قولهم: (هم يوقِنونَ)
(إِن كنتم صَادقِينَ)
(وأنتم تَعلمون) ، ونحو هنا في كل القرآن.
وكذلك قراءته بَضم الميم عند الألفَات المهموزات (أنا) (أنت) في موضع
الاستفهام، فكانت أصلية أو قطعا. كقوله، (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ)
(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا) (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا) وكذلك إذا لقيت الميمَ
ميمٌ نحو قوله: (جَاكم موسَى) ، (فمنهم مَن يقول) (جَاءهم
مِن ربهم) ، وإذا طالت الكلمة لم يضم الميم عند ماذكرنا من
هنا الباب، (أتانى زيد ومررت بزيد) ولأنهما واو وصل

(1/114)


فلا يثبت لئلا يلتبس الوصل بالأصل، قال: فإذا قلت - (عليه مال)
فلك فيه أربعة أوجه:
إن شئت قلت (عليهِ مالٌ) وإن شئت قلت (عليهي مالٌ)
وإن شئت قلت (عليهُ مالٌ) وإن شئت قلت (عليهو مالٌ) .
وأما قوله جلَّ وعزَّ: (إن تحمل عليه يلهث) ،
وقوله، (إلا ما دمت عليه قائما) فالقراءة بالكسر بغير ياء،
وهي أجود هذه الوجوه.
ولاينبغي أن يُقرأ بما يجوز في اللغات إلا أن تثبت رواية
صحيحة، أو يَقرأ به كبير من القراء.
قال: وَمَنْ قَرَأَ (عليهمُ) فأصل الجمع أن يكون بواو.
ولكن الميم استغني بها عن الواو، والواو أيضًا تثقل على ألسنتهم حتى إنه ليس في أسمائهم اسم آخره واو قبلها حركة، فكذلك اخترنا حذف الواو.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)
قرأ أبو عمرو. ونافع. وابن عامر. وعاصم، وحمزة والكسائي،
ويعقوب، (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) ، بالكسر واختلف عن ابن كثير، فقال
أبو حاتم: قال بكَّار: حدثتي الخليل بن أحمد عن ابن لعبد الله بن كثير
المكي أنه قرأ، (غيرَ المَغضوبِ عَليهِم) نصبا قال بكار وحدثني الغمر
بن بشير عن عباد الخواص قال: قراءة أهل مكة غَيرَ المَغضوبِ،
بالنصب، قال أبو حاتم: ررى هارون الأعور عق أهل مكة النصب في

(1/115)


(غيرَ) . قال أبو منصور: وروى غير هؤلاء عن ابن كثير أنه قرأ (غيرِ)
بالكسر كما قرأ سائر القراء.
قال أبو منصور: والقراءة الصحيحة المختارة "غَيرِ المَغضُوبِ "
بكسر الراء، ونصب الراء شاذ.
وأخبرني المنذري عن أبي طالب عن أبيه
عن الفراء أنه قال في قول الله جلَّ ثناؤه: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)
بخفض غير، لأنها نعت للذين، لا للهاء والميم من (عليهم) ، قال: وإنما
جاز أن يكون (غير) نعتا لمعرفة لأنها قد أضيفت إلى اسم فيه ألف
ولام وليس بمصمود له ولا الأول أيضًا بمصمود له، وهو في الكلام
بمنزلة قولك: (لا أمرُّ إلا بالصادقِ غيرِ الكاذبِ) ، كأنك
تريد: بمن يصدق ولا يكذب.
ولا يجوز أن تقول: (مررت بعبدِ اللهِ غيرِ الظريفِ) إلا على التكرير، لأن (عبد الله) مُوَقَتَ، و (غير) في مذهبٍ نكرة غير موقتة، فلا يكون نعتا إلا لمعرفة غير موقتة.
قال: الفراء: وأما النصب في (غير) فجائز، يجعله قطعا
من (عليهم) .
قال: وقد يجوز أن يجعل (الذين) قبلها في موضع
توقيت، وتخفض (غير) بمعنى التكرير، صراط غيرِ المغضوبِ

(1/116)


عليهم.
وأخبرني المنذري عن أبي العباس أنه قال: جعل الفراء
الألف واللام بمنزلة النكرة.
قال: وقال الأخفش: هو بَدل.
قال أبو العباس: وليس يمتنع ما قال، وهو قريب من قول الفراء.
وقال الزجاج في (غيرِ) - بالجر - قريبا مما قال الفراء.
قال: ويجوز نصب (غير المغضوب) على ضريين:
على الحال، وعلى الاستثناء.
فأما الاستثناء فكأنك قلت: إلا المغضوبَ عليهم،
وحق (غير) من الإعراب في الاستثناء النصب إذا كان ما بعد (إلا) منصوبًا، وأما الحال فكأنك قلت فيها: صراط الذين أنعمت عليهم لا مَغضُوبًا عليهم.
وأخبرني المنذري عن ابنٍ لليزيدي عن أبي زيد في نصب (غير) إنه على القطع كما قال الفراء.
وأما قول القائل بعد الفراغ من قراءة سورة فاتحة الكتاب:

(1/117)


(آمين) ففيه لغتان:
إحداهما: قصر الألف
والأخرى: آمِين بوزن (عَامِين) .
وهما لغتان معروفتان، والميم خفيفة، والنون ساكنة.
ومعنى (آمين) : الاستجابة.
وحقه السكون، ومن العرب من ينصب النون إذا مَر عليه،
ومنه قول الشاعر:
تَبَاعَد مني فَطْحَلٌ إِذْ رأَيتُه أَمينَ ... فزاد الله ما بيننا بُعْدَا
وقال الآخر فيمن طو" الألف:
يا رَبِّ لا تَسْلُبَنِّي حُبَّها أبداً ... ويَرْحمُ اللهُ عبداً قال آمينا

(1/118)


وأخبرني المنذري عن أبي العباس أنه قال في قوله (وَلَا الضَّالِّينَ)
القراء كلهم عليها إلا ما روي عن أيوب السختياني
أنه همز (وَلَا الضَّألينَ) لالتقاء الساكنين.
قال أبو العباس: وقال بعضهم: نَمُد المدغم إذا كان قبله واو، أو
ياء، أو ألف سواكن، نحو قوله: (وَلَا الضَّالِّينَ) و (لَا رَادَّ لِفَضْلِهِ)
و (يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) ، وما أشبهه.
قال: أرادوا: أن يكون المدغم عوضا عن الحركة التي كانت قبل أن يدغم الحرف الأول؛ لأنه لا يجتمع ساكنان.
قال أبو العباس: وهذا غلط، إنما مد لأن الساكن الثاني يخفَى فَيُمد
ما قبله لحركة الثاني، ولأن المدة إذا كانت مع الأول، فكأنهُ متحرك.
* * *

(1/119)