معاني القراءات للأزهري

القراءة في:
سورة البقرة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
القول في (الم) .
إنها حرف التهجي، وهي الألف، والباء، والتاء، وسائر ما في القرآن
منها.
وإجماع النحويين على أن هذه الحروف مبنية على الوقف، وأنها
لا تعرب، كقولك: ألِف، لام، مِيم. بسكون الفاء من (ألف) ، والميم من (لام) ، ومن (ميم) ، والنطق بها أن تسكت على كل حرف.
والدليل على أن حروف الهجاء مبنية على السكتِ كما بُنِي العدد على السكت أنك تقول فيها بالوقف مع الجمع بين الساكنين، كما تقول إذا عددت: واحِدْ، اثنان، أربعة.
فتقطع ألف (إثنان) وهي ألف وصل، ويُذكر الهاء في ثلاثة وأربعة لولا أنك
تقدر السكت لقلت: ثلاثة.
فإذا عطفت الحروف فإنك حينئذ تُعربها، فتقول:
ألف ولام وميم. وكذلك ألف وباء وتاء إلى آخر الحروف.
وكذلك في العدد إذا عطفت أعربت، فتقول: واحدٌ واثنانِ وثلاثة وأربعة.

(1/120)


وكذلك اختير الوقف في "الم " و (الر، و (كَهَيَعَصَ"
وما أشبه هذه الحروف.
وروي عن أبي جعفر الرؤاسي أنه قرأ: (الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)
بقطع الألف من (الله) .
وأما القراء فإنهم اتفقوا على طرح همزة ألف (الله) ، والعلة في فتحة هذه الميم من قولك: (المَ الله) لأن الميم إنما جُزمت لِنِيَّة الوقف عليها، إلا أنها كانت مجزومة جزما أصليًا، وإذا كان الحرف ينوَى به الوقوف نوِيَ بَما بعده الاستئناف، فالقراءة (الم الله) بجزم الميم، فتركت العرب همز الألف من (الله) فصارت فتحها في الميم بسكونها، فقرئَ (المَ الله) لهذه العلة، ولو كانت الميم مجزومة جزما مستحقة الجزم لكسِرت حين استقبالها ألف ولام، كما قال الله جلَّ وعزَّ: (قيل ادخلِ الجنة) بجزم اللام.
وقال أبو إسحاق في قول الله جلَّ ذكره: (الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) :
إنما حركت الميم في (المَ الله) لأنه لا يسوغ في اللفظ أن
يُنطقَ بثلاثة أحرف سواكن، فلابد من فتحة الميم في (المَ اللهُ) لالتفاء

(1/121)


الساكنين، أعني الميم واللام التي بعدها، وهذا القول صحيح لا يمكن في اللفظ غيره.
قال: ولا أعلم أحدا قرأ (المْ اللهُ) بسكون الميم إلا أبو جعفر الرؤاسي
قال: وأما ما روي عن عاصم فلا يصح عنه، واجتماع القراء على
حركة الميم.
وقال الفراء: بلغني عن عاصم أنه قرأ بقطع الألف.
* * *
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لا رَيْبَ)
اتفق القراء على نصب (لَا رَيْبَ) .
وجائز في العربية أن تقول: لَا رَيْبٌ فيه، ولكن لا يجوز القراءة
بها، لأن القراءة سنة مُتبَعة.
و (لا) حرف نفى، نصب العرب الحرف بها إذا لم يكرروها بلا تنوين،
فإذا كرروها فمنهم من ينصب بلا تنوين، ومن يرفع وينون.

(1/122)


وقوله جلَّ وعزَّ: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ)
كان ابن كثير يهمز كل حرف مهموز همزته، نحو قوله: (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ)
و (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) و (كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) .
وإنما يَضم الميم إذا كانت في كلمة مضمرة، مثل: (أنْتُم) و (هم) و (كُنتم) إذا انضم ما قبل الميم، أو كان مفتوحا، فإذا كان انكسر ما قبلها سكنها،
نحو: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) و (فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) .
وقال ورش عن نافع الهاء مكسورة، والميم موقوفة، إلا أن يلقى الميم
ألفَ أصلية، كقولك: (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) .

(1/123)


وقرأ حمزة ويعقوب بضم الهاءات في تلك المواضع المذكورة
على الأصل؛ لأن أصل الهاء الضم، ألا ترى أنك تقول: (هُم يُوقنُونَ)
و (هُم يُوقِنُونَ) فتجد الهاء مضمومة لا غير.
وروى إسحاق الأزرق عن حمزة (عَليهِم) بكسرالهاء وجزم الميم.
وأخبرني المنذري عن أبي العباس أنه ذكر قول أبي عبيد في (عليهم) ،
و (لديهم) و (إليهم) قال: قال أبو عبيد: اختيارنا كسر الهاء، ووقف
الميم في كله ما لم يلقها ألف ولام، فإذا لقيتها ألف ولام كان الخفض أحب
إليَّ؛ لأنه أقيس في العربية أن يكون كل حرف منجزم بعده حرف ساكن أن
يكون حركته إلى الخفض.
قال أبو العباس: وهذا غلط؛ لأن للميم حركة، وهو الضم، فإذا
ْحُركَت كان أولى بها أن يرد إلى حركتها التي هي لها فتُضم.
قال: وقال الأخفش ومن قال بقوله: أضم الهاء وأسكن الميم؛ لأن
الهاء هو الأصل، وهي القراءة القديمة، قراءة أهل الحجاز ولغتهم.

(1/124)


ويسكن الميم فيها، وكذلك كل هاءٍ ضُم وميم قبلها ياء ساكنة وما قبل الياء
مفتوح، مثل: (عَليهُم) و (لدَيهُم) .
قال أبو العباس: أما ما ادعي من أنها أصل فهي الأصل، ولكن العرب
تقرب الحرف من الحرف إذا قاربه، مثل الإدغام.
قال: والكسر في (عَليهِم) أولى، لأن الهاء من جنس الياء، لأنها يقع في القوافي مكانها، وأن الهاء ينقطع إلى مخرج الياء، فلذلك أتبعت الهاءُ الياءَ، وكذلك إذا كانت الهاء منفردة من الميم فقد اجتمعوا على كسر الهاء، مثل (بِهِ) و (عَليهِ) .
وزعم الفراء أنها لغة. . . النبي صلى الله عليه، فإذا جاءوا
بالألف واللام ضموا الهاء والميم.
قال أبو العباس: وهذا هو القياس؛ لأن الهاء
إذا انفردت تبعت الكسر والياء لمؤاخاتها لهما، وإذا كانت معهما
الميم، والأصل (هُمُ) ، ثم أتبعت الهاء والياء والكسرة كما ذكرنا، فإذا حركَت الميم ردت الهاء والميم إلى أصلهما، فإذا لم تأت بالميم تركت الهاء على ما تبعت، مثل (بِهِ القول) و (عَليه العَذاب) .

(1/125)


فهنا هو الاختيار، والضم لغة والإشباع في الضم والكسر لغة، مثل:
(بِهِ يا هذا) و (عليه ياهذا) و (بهو) و (عليهو) و (بهِي) و (عليهي) -
فإذا كان ما قبلها ساكنا حذفوا الواو، وهو الاختيار، وعليه القراءة وإذا انفتح ما قبل الهاء أو انضم فلا فرق بينهم أنه الإشباع، مثل (ضربهو)
و (لن يضربهو) وإذا كان قبله ساكن مثل (عَنه) و (إِليهِم) و (مَحيَاهم)
فالاختيار الحذف عند أبي العباس، والذين يقولون: (عَليهُم) هم الذين أتبعوا الهاء شكلها، وردوا الميم إلى أصلها.
وقال أبو إسحاق الزجاج: الأصل في هذه الهاء التي في قولك:
ضربتهو يا فتى) و (مررت بهو يا فتى) أن يتكلم به في الوصل بواو، فإذا
وقفت قلت: (ضربته) و (مررت به)
قال. رزعم سيبويه أن الواو زيدت على الهاء في الذكر كما زيدت
الألف في المؤنث في قولك: (ضربتهَا) و (مررت بها) ليستوي المؤنث والمذكر
في باب الزيادة قال أبو إسحاق: والقول "في هذا الواو عند
أصحابنا أنها إنما زيدت لخفاء الهاء، وذلك أن الهاء تخرج من أقصى
الحلق، والواو حرف مدٍّ ولينٍ تخرج من طرف الشفتين، فإذا زيدت الواو بعد الهاء أخرجتها من الخفاء إلى الإبانة، فلهذا زيدت - وتسقط في الوقف - كما

(1/126)


تسقط الضمة والكسرة في قولك - سَاكنة أو متحركة في جميع القرآن.
إلا (القرآن) فإنه لايهمزه ويمهمز (قرأت) وكلهم يهمزون "يُؤْمِنُونَ "
و"نؤمن " و، يَأكلون، و، تأكل، و، يُؤتون، و، يَأتون "
ونحو هنا من الحروف إلا أبا عمرو فإنه يطرح الهمزة من هنا ونحوه مما
يكون فيه الهمز ساكنة، وذلك أنها لما سكنت ضعفت، واستحسن
طرحها لسكونها في الحدر والدرج إلا أن يكون همزها أخف من
طرحها.
وروى اليزيدي عن أبي عمرو أنه كان إذا قرأ في الصلاة أو أدرج
القراءة لم يهمز.
وإذا حقق همزَ.
وكذلك قرأت بِحرف عاصم الذي رواه أبو بكر عنه من رواية الأعشى عن أبي بكر بِطرح الهمز من هذه الحروف، ومن حروف أخَر الهمزة فيهن متحركة، نحو قوله؛، مِائةَ

(1/127)


حَبةٍ، و: (لِيَطمَئن قَلبِي) ، و: (تَطمَئِن قُلوبُنَا) ، و (كمَ من فِئَةٍ
قَليلةٍ) ، و (رِئاءَ الناسِ) ، و (كتَابًا مؤَجلا) ، و (فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا) ،
و (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ) ، و (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) .
ونحو هذا في قراءة الأعشى عن أبي بكر، وأحسب أن الذي حكاه الإشناني عن ابن الصباح عن ْحفص عن عاصم عن أبي عبد الرحمن عن علي أنه كان يدع الهمز من الخوف إذا تخوف النقصان هو هذا الذي رواه الأعشى عن أبي بكر عن عاصم من طرح الهمز فيما قدمت ذكره.
وكان حمزة يهمز هذه الحروف كلها إذا وصل القراءة، فإذا سكت وقف
بغير همز، وكذلك يفعل بقوله: (يَسْتَهْزِئُونَ) وقوله: (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ) ،
ونحو هذا.
فأما: (خَائفِينَ) و (الخَائِنِينَ)

(1/128)


و (يَكلؤكم) و (تَفتَأ) يشير بصدرِه إلى الهمز ولا يَهمِز.
وما الهمزة فيه عين الفعل فإنه يصله ويقف عليه بالهمز، نحو (مَوئلا)
و (تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ) ، وقال الأدمي: قف على (مُؤَجَّلًا) بالهمز أَيضا.
قال أبو منصور: وللعرب مذاهب في الهمز: فمنهم من يحقق الهمز،
ويسمونه (النبر) .
ومنهم من يخفف الهمز ويلينه.
ومنهم من يحذف الهمز. ومنهم من يحول الهمز.
وهي لغات معروفة، والقرآن نزل بلغات العرب، فمن
همز ما قرئ به فهو الأتَم المختار، ومن لم يهمز مما تَرك همزه كثير من القراء
فهو مصيب.
وأما قول الله جلَّ وعزَّ: (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ)
فالأصل فيه همزتان:
إحداهما: الألف، والأخرى ألف الاستفهام.
واختلف القراء فيه، فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب
"آنذرتهم " بهمزة مطولة، وكذلك جميع ما أشبه هذا، نحو قوله:

(1/129)


(آنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) ، (آلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) .
وقرأ الباقون بهمزتين في كل هذا.
وكل ذلك عربي فصيح، فمن همز همزة مطولة فر من الجمع بين الهمزتين، ومن جمع بينهما فهو الأصل.
وكان أبو عمرو يخفف الهمزة الأولى، ويُحَققُ الثانية.
وكان الخليل يحقق الأولى ويخفف الثانية، ونحويو أهل
البصرة مالوا إلى قول الخليل، وكلهم أجاز ما اختاره أبو عمرو.
قال أبو منصور: ومن القراء القدماء من أدخل بين الهمزتين ألفا ساكنة
فراراً من الجمع بينهما، فقرأ: (ءاأنذَرتهُم) ، و: (ءاألد) ،
قال أبو حاتم:
أخبرني الأصمعي أنه سمع نافعا يقرأ: (ءانَّئكُم لتشهَدُونَ) ، أدخل بين
الهمزتين ألفا.
قال الأصمعي: أنشدني أبو عمرو لمزرد:
تطَالَلْتُ فاسْتَشْرَفْتُه فَعَرَفْتُهُ ... فقلت له آأنتَ زيدُ الأرانبِ

(1/130)


ومثله قول، ذي الرّمة:
أيا ظبيةَ الوَعْساء بين جُلاجِلٍ ... وبين النقا آأنتِ أَمْ أمُّ سالمِ
قال أبو حاتم: ويجوز تخفيف الهمزة الثانية التي بعد الألف الزائدة،
وكان أبو عمرو ربما فعَل ذلك.
قال أبو حاتم: ونحن نَكْرهُ الجمع بين همزتين،
قال: ومما يدلك على كراهية العرب اجتماع الهمزتين قول الله تبارك وتعالى:
(هَا أنتم) .
قال أبو حاتم: قال الأخفش: إنما هو (ءاأتتُنم) ، أدخلوا بين
الهمزتين ألفا استثقالا لهما، وأبدلوا من الهمزة الأولى هاء كما قالوا:
(هرقت الماء) و (أرقت) ، وقالوا: (هِياك) بمعنى: إياك.
* * *
وقول الله جلَّ وعزَّ: (وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ)
اتفق القراء على "غِشَاوَة" بالرفع، إلا ما روى الفضل عن عاصم (غِشَاوَةً" نصبا.
قال أبو منصور: الرفع هي القراءة المختارة، ومن نصب فعلى إضمار
فعل، كأنه قال: وجعل على أبصارهم غشاوةً، كما قال الشاعر:

(1/131)


يا ليتَ زَوجَكَ قد غَدَا ... متقلِّداً سيفاً ورُمْحا
أراد: متقلدا سيفا وحاملا رمحا.
وأنشد الفراء:
عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ... حتى شَتَتْ هَمَّالةً عَيْناها
أراد: وسقيتها ماء باردا، يعني: فرسه.
وأما قول الله جلَّ وعزَّ في سورة الجاثية: (وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً)
فإن حمزة والكسائي قرآ (غَشَوَةً) بغير ألف مع فتح الغين، وقرأَ
الباقون: (غِشَاوَةً) بألف مع كسر الغين، وكل ذلك جائز، والمعنى واحد، وهو: ما يَغشى البصر من الظلمة.

(1/132)


وقوله تعالى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ)
لم يختلف القراء في الأولى إنه بألف.
واختلفوا في الثانية فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (ما يُخَادعُون) بألف. وقرأ الباقون: (وَمَا يَخْدَعُونَ) بغير ألف، مع فتح الياء.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ: (وَمَا يُخَادعُون إلا أنْفُسَهُمْ) جعل الخداع من
واحد وإن كان على (مُفَاعَلة) ، ومثله قولهم: (عاقَبْتُ اللص) و (عافاه الله) و (طارقتُ النغل) و (قاتَلهُ اللهُ) ، في حروف كثيرة جاءت للواحد.
وَمَنْ قَرَأَ: (وَمَا يُخَادعُون) فلا سؤال فيه.
وقال شمر في قول الشاعر:
وخالَفَ المجدَ أَقوامٌ لهم وَرَقٌ ... راحَ العِضاةُ به والعِرْقُ مَدْخولُ
قال: معنى خادع المجد: تركه.
* * *
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا)
كسر حمزة الزاي من "فَزادَهُم) . وكذلك قرأ ابن عامر.
وفتح الباقون الزاي وما أشبهها.
غير أن نافعا يلفظ بها بين الفتح والكسر، وهو إلى الفتح أقرب.

(1/133)


وأخبرني المنذري عن أبي العباس أنه احتج لحمزة وكسرة الزاي لقولك:
(زِدت) فتكسر الزاي،
وقوله: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) .
اتفقوا كلهم على فتح الراء من (مَرَض) .
ورَوَى ابن دُرَيد عن أبي حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأ:
(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ساكنة الراء.
قال أبو منصور: ولا يُعرجُ على رواية ابن دريد، فإنه غير ثقة والقراءة
(مَرَضَ) لا غير.
* * *
* * *
قوله جلَّ وعزَّ: (بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) .
قرأ عاصم وحمزة والكسائي (يكذِبُونَ) خفيفا
وقرأ الباقون: (يكَذِّبُونَ) مشددا.
فمن قرأ: (يَكْذِبُونَ) فمعناه: بكذبهم.
وَمَنْ قَرَأَ: (يكَذِّبُونَ) فمعناه: بتكذيبهم الأنبياء،
و (ما) في الفعلين (ما) المصدر،
المعنى: بكذبهم، أو: بتكذيبهم.

(1/134)


قوله جلَّ وعزَّ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ)
قرأ الكسائي ويعقوب: (قُيل) و (غُيضَ) و (سُيءَ)
و (سُيئَت) و (جُيءَ) ، بضم أوائل هذه الحروف حيث وقعت.
وعلتهما أن الأصل فيهن الضم، نحو: (قول) و (حُولَ) و (سُوق) و (غُيضَ)
و (سُيئَت) .
وكان نافع يضم (سُىءَ) و (سُيئَت) ، ويكسر الباقي.
وكان ابن عامر يضم (سُىء) و (سُيئَت) و (حُيلَ) و (سُيئَ) ، هذه الأربعة، ويكسر الباقي.
وروى هشام بن عمَّار فيها عنه مثل قراءة الكسائي.
وروى شبل عن ابن كثير (سُىءَ) و (سُيئت) ، وكذلك فعل نافع، وقرأ الباقون بكسر أوائل هذه الحروف كلها.
قال أبو منصور: من ضم فلأنها جاءت على وزن (فُعِل) ، ومن

(1/135)


كسر فلاستثقال الضمة مع كسرة الواو.
ومن ضم فإنه يشم ولايشبع الضم -، والعربي الناشئ في البادية يطوع لسانهُ لضمة خفية يجفو عنها لسان الحضري المتكلف.
* * *
وقوله تعالى: (السُّفَهَاءُ أَلَا)
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (السُّفَهَاءُ أَلَا) بهمز الأولى

(1/136)


وطرح الثانية، وكذلك يفعلون بكل همزتين برزتا مختلفتين من كلمتين في
جميع القرآن،
فإذا وردتا متفقتين همزوا الثانية وتركوا الأولى، كقوله:
(جَا أمرُنا) و (شَا أنْشَرَهُ) ونحوهما.
وكان ابن كثير ونافع إذا أتت الهمزتان المتفقتان في موضع خفض حَوَّلا الأولى إلى الياء، فقرءا: (هَؤُلاي إن) و (على البغَايِ إن) ، فإذا أتيا مضمومتين حَوَّلا الهمزة الأولى إلى الواو، كقولك: (أؤلِيَاوُ أولئِكَ) ،
وكان ابن كثير ونافع يهمزان الثانية في المكسورتين، ويعوضان من الأولى كسرة مختلسة، وفي المضمومتين يهمزان الثانية ويعوضان من الأولى ضمة مختلسة، وأما المفتوحتان فإن ابن كثير ونافعًا وأبا عمرو يهمزون الثانية ويطرحون الأولى، ولا يبدلون منها فتحة.

(1/137)


وكان يعقوب يجمع بين الهمزتين المختلفتين في قوله: (السُّفَهَاءُ أَلَا)
ومذهبه في المتفقتين همز الثانية وتعويض من الأولى في المضمومتين
واوا، وفي المفتوحتين ألفا، وفي المكسورتين ياء.
وقرأ الباقون كل هذا بهمزتين همزتين.
قال أبو منصور: قد أعلمتك أن هذه القراءات في باب الهمز لغات
مأخوذة عن العرب، فبأي لغة قرأت فقد أصبت، إذا قرأ به قارئ يقرأ بالسنة.
* * *
قوله جلَّ وعزَّ: (فِي طُغْيَانِهِمْ) .
كان الكساني يميل الألف فيها، وفي قوله: (وَفِي آذانِهِمْ)
و (فَأَحْيَاكُمْ) و (خَطايَاكُم) و (مَرضاتِ اللهِ) و (حَق تُقَاتِهِ)

(1/138)


و (وقد هدان) و (يُسَارِعُونَ) و (سَارِعُوا) و (مَحْيَاي)
و (رُؤيايَ) و (مَن عَصَانِي) و (أخسَنَ مَثوايَ) و (ما أنسانِيه)
و (آتَانِي الكِتَاب) ، و (أوصَانِي) و (آتَانِي اللهُ) .
و"كَمِشكَاةٍ) و (دَحَيها) و (تَليها) و (طحَيها)
و (سَجَى) ، انفرد الكسائي بكَسْرِ هذه الحروف.
وفتحهُن حمزة، وكان حمزة إذا تقدمت قبل (أحيا) واوٌ كسر الحرف، مثل قوله:

(1/139)


(أَمَاتَ وَأَحْيَا) . وقد كسر حروفا من نظائر هذه الحروف، مثل قولهم: (مِنهُم تُقَاةً) و (أكرِمِي مَثْوَاه) ولا يقاس على هذه الحروف التي ذكر عن
الكسائي أنه كسرها وحده، ويفتح حمزة إياها.
واتفق حمزة والكسائي على إمالة (كِلاهُما) وعلى إمالة (فَالِق الحَب والنوَى) ، وروى الدوري عن الكسائي أنه أمال (أولَ كافِرٍ بِهِ) ، ولم يقله أحد من القراء.
وكان ابن كثير وابن عامر وعاصم ويعقوب يفتحون هذه الحروف كلها إلا
ما روي عن ابن عامر في "التوراة" و (مَا أدراك) أنه كان
يقرأهما بين الفتح والكسر.
وكان حمزة والكسائي يميلان كل ذوات الياء.
والإمالة لغة تميم، وعليها صيغة لسان مَنْ جاورهم من أهل العراق
والبَدوِ.
والعرب تقول: (هذا عِابِدٌ) و (عَابِدٌ) ، و (عِالِمٌ) و (عَالِمٌ)

(1/140)


فيكسرون الألف لانكسار ما بعدها إلا أن تَدخل حروف الإطباق،
وهي: الطاء والظاء والصاد والضاد، ولايجوز في ذلك (ظالم) ، ولا (طالِب) ، ولا (صَابِر) ، ولا (ضَابِط) .
وكذلك حروف الاستعلاء، وهي: الخاء والغين والقاف، لا يجوز في
(غَافِل) (غِافِل) ولا في (خَادم) خِادم، ولا في (قَاهِر) (قِاهِر) ،
وباب الإمالة يطول شرحه إلا أَن هذا في هذا الموضع هو القصد، وقدر الحاجة.
وأمَا إمالة مثل قوله: (سَجَى) و (قَلى) وما أشبههما فالقياس أن
ما كان منها من ذوات الياء مثل (قَلى يَقلي) و (سرى يسري) أمِيل.
وما كان في بنات الواو مثل (علا يعلو) و (سما يسمو) لم يُمَل، على أن الإمالة جائزة في جميعها إذا اتفقت رُؤُوس الآيات.
والراء إذا دخلت في أسماء على مثال (فَاعِل) سهَلت الإمالة، وإن كان
فيها حرف من حروف الإطباق مثل قولك: (هذا صِارِم) يميل الصاد، ولا تقول في (صالح) ، وكذلك تقول: (مررت بضِارِب) ، ولا تقول: (مررت بضِابِط) ،
وهذا الباب انفرد به البصريون، وهو - باب الإمالة.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ) .

(1/141)


اتفق القراء على تخفيف "يَخطفُ) ، واختلفوا في سورة الحج،
فقرأ نافع: (فَتَخَطفُهُ الطير) - بفتح الخاء وتشديد الطاء - وقرأ الباقون:
(فتَخطفُهُ) - بالتخفيف وسكون الخاء -.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (يَخطفُ " و (فَتخطفُهُ) فهو من خَطِف
يَخطفُ خَطفًا، وهي لغة العالية التي عليها أكثر القراء.
وَمَنْ قَرَأَ (فتخَطَّفُهُ) - بفتح الخاء وتشديد الطاء - فأصل فيه
(فَتَختَطِفُه) ، يقال: خَطِفْت الشْيء " واختَطفتُه، إذا اجْتَذَبته بسرعة.
وعلة هذه القراءة إدغام التاء في الطاء، وإلقاء فتحة الطاء على الخاء، وإتباع فتحة الخاء فتحة في الطاء.
وفيها لغة أخرى لم يقرأ بها هؤلاء القراء، وهي: (يَخِطِّفُ " "فتَخِطِّفُه
الطير"
رُوى ذلك عن الحسن أنه قرأ: (يَخِطِّف) - بكسر الخاء والطاء -.

(1/142)


ومن العرب من يقول: (يَخَطِّفُ) - بفتح الياء والخاء، وكسر الطاء -
ومنهم من يقول: (يِخِطِّفُ) - بكسر الياء والخاء والطاء -.
وأجودها: (يَخَطَّف) ، وبعده: (يَخِطِّف) ، فمن قال: (يَخَطَّفُ) فالأصل (يَختَطِفُ) ، فأدغمت التاء في الطاء، وألقيت على الخاء فتحة التاء.
ومن قال: (يخِطِّف) كسر الخاء لسكونها وسكون الطاء. وهذا قول
الخليل، وزَعَم الفراء أن الكسر لالتقاء الساكنين ها هنا خطأ، وأنه
يلزم من قال هذا أن يقول في "يَعَضُّ ": "يَعِضُّ) ، وفي "يَمُدُّ " "يَمِدُّ) .
وقال من احتج للخليل: هذا الذي قاله القراء غلط غير لازم، لأنه
لو كسر "يَعَضُّ" و "يَمُدُّ" لالتَبَس ما أصله "يَفْعَلُ " و "يَفعُل" بما أصله
(يفعِلُ) .
وأما: (يَختطِفُ) فليس أصله غير هذا، ولايكون مرة على (يَفتَعِلُ)
ومرة على غير (يَفْتَعَلُ) ، فكسر لالتقاء الساكنين في موضع غير ملتبس،
وامتنع في الملتبس من الكسر لالتقاء الساكنين، وألزمَهُ حركة الحرف الذي
أدغمه لتدل الحركة عليه.

(1/143)


وقوله جلَّ وعزَّ: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) .
قرأ نافع وأبو عمرو والكساني بجزم الهاء "وهْو) ، وحركها الباقون
في كل القرآن.
قال أبو منصور: هما لغتان معروفتان، إذا اتصلت الهاء من (هو)
و (هي) بواوٍ أو فاءٍ أو لام فإن كثيرا من العرب من يسكن الهاء لكثرة
الحركات، ومنهم من يتركها على أصل حركتها، وكل جائز حَسَن.
وقاس الكسائي على الباب قوله: (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ، وحركها
الباقون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
و: (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) .

(1/144)


قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بفتح الياءين، وأرسَلهما الباقون.
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال: إذا كان قبل ياء الإضافة
متحرك يجوز أن تسكن الياء وتحرك، وإن كان ما قبلها ساكناً حركته لا غير.
قال: فإذا استقبلها ألف ولام كقوله: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) حركت الياء لئلا تسقط.
وقال الفراء في نصب الياء من (نِعْمَتِيَ) كل ياء كانت من المتكلم
فمعها لغتان الإرسال والفتح، فإذا لقِيَتها ألف ولام اختارت العرب
التحريك، وكرهت السكون؛ لأن اللام ساكنة فتسقط الياء عندها
لسكونها، فاستقبحوا أن يقولوا: (نعمتِ التي) فتكون كأنها مخفوضة
على غير إضافة، فأخذوا بأوثق الوجهين.
قال: وقد يجوز إسكانها

(1/145)


عند الألف واللام، قال الله جلَّ وعزَّ: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا) فقرئت
بإرسال الياء ونَصبِها، وكذلك ما في القرآن مما فيه ياء ثابتة ففيه الوجهان،
وما لم يكن فيه الياء لم تُنصب.
وأما قوله: (فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ) ،
فإن هذا بغير ياء، فلا تُنصَبُ ياؤُها.
على هذا يقاس كل ما في القرآن.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (أَنْبِئْهُمْ)
اتفق القراء كلهم على ضم الهاء مع الهمزة.
قال أبو منصور: وإنما اتفقوا على ذلك ولم يشبهُوهُ بـ (عليهم) و (إليهم)
لأن الهمزة إذا سكنت فهي كالحرف الصحيح، والياء أخت الكسرة في
(عليهم) ، فأتبعوا الكسرة الكسرة.

(1/146)


وقد روي عن ابن عامر أنه قرأ: (أنبِئهِم) بكسر الهاء.
وهذا غير جائز عند أهل العربية، ولكن لو قرئ: (أئبيهِم) بحذف الهمزة
كان جائزا في العربية، ولا يجوز في القراءة لأنه لم يَقرأ به أَحد.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ)
قرأ حمزة وحده: (فَأزالهُما) بألف مع التخفيف.
وسائر القراء قرأوا: (فَأَزَلَّهُمَا) بالتشديد بغير ألف.
قال أبو منصور: مَن قرأ: (فأزالهما) فهو من زالَ يزُولُ، ومعناه:
فنحَّاهما.
وَمَنْ قَرَأَ: (فَأَزَلَّهُمَا) فهو من زللت أزلُّ، وأزلني غيري،
ولِزللتُ وجهان: يصلح أن يكون الخطيئة، فأزلهما الشيطان،
أي: كسبهما الزلة.
ويصلح أن يكون (فَأَزَلَّهُمَا) أي: نحاهما.
وكلتا القراءتين جيدة حسنة،
قال ذلك أبو إسحاق الزجاج، والله أعلم بما أراد.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) .
اتفق القراء على هذه القراءة، إلا ما رُوي عن ابن كثير أنه قرأ:
(فَتَلَقَّى آدَمَ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٌ) .

(1/147)


قال أبو منصور: والقراءة برفع (آدم) ونصبِ (كلمات) ؛ لأن آدم تعلم
الكلمات من ربه،، فقيل: تلقى الكلمات.
والعرب تقول: تلقيتُ هذا من فلان.
معناه: أن فهمي قَبِلهُ من لفظه.
والذي قرأ به ابن كثير جائز في العربية، لأن ما تلقيتَه فقد تلقاك.
والقراءة الجيدة ما عليه العامة.
* * *
قوله جلَّ وعزَّ: (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
فالقراءة بتنوين (فَلَا خَوْفٌ) .
قال أبو منصور: وهو الجيد عند النحويين، المختار إذا تكرر حرْف النفي،
وقرأ يعقوب وحده (فلا خوفَ) وهو جائز في العربية، وإن كان المختار ما عليه الجماعة.

(1/148)


وقوله جلَّ وعزَّ: (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب (ولا تُقْبل) - بالتاء -،
وروي عن عاصم مثل ذلك. وقرأ الباقون بالياء.
قال أبو منصور: مَن قرأ بالتاء فَلِتَأنيث الشفاعة، وَمَنْ قَرَأَ بالياء فلأن
الشفاعة كالمصدر وإن كان لفظها مؤنثا، وهو كقول الله جلَّ وعزَّ: (وأخذت الذين ظلموا الصيحة) ،
وقال في موضع آخر: (وأخذ الذين ظلموا الصيحة) ، لأن الصيحة وإن كان لفظها مؤنثا فهي مصدر، وكل ذلك جائز في كلام العرب.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)

(1/149)


قال أبو عمرو ويعقوب: (وإذ وَعدنا) ، وكذلك قوله:
(وَوَعَدنا مُوسَى ثَلاثِينَ ليلة) و (وَعَدناكُم) بغير ألف.
وقرأ سائر القراء: (وَواعَدناكُم) بألف.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (وعدنا) بغير ألف فإنما اختار وعدنا لأن
المواعدة إنما تكون بين الآدميين، واستدل بقوله تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ) ، وهذا يشبه بعضه بعضا.
وَمَنْ قَرَأَ (واعدنا) و (واعدناكم) فحجتُه أنْ الطاعة في القبول
بمنزلة المواعدة، فهو من الله وعْدٌ، ومن موسى قبول واتباع، فجرى مجرى
المواعدة.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ)
روى اليزيدي عن أبي عمرو (بَارِئْكُم) بجزم الهمزة.
وروى عباس عن أبي عمرو أنه قال: قراءتي (بَارِئْكُم) مهمُوزة لا يثقِّلُها. وقال سيبويه: كان أبو عمرو يختلس الحركة من (بَارِئْكُم) ، وهو صحيح، وسيبويه أضبط لما

(1/150)


رُوِى عن أبي عمرو من غيره، لأن حذف الكسرِ في مثل هذا إنما يأتي في
اضطرار الشعر، ولا يجوز ذلك في القرآن،
وسائر القراء قرأوا بالإشباع، وكسر الهمزة، وهي القراءة المختارة، وليس كل لسان يطوعُ ما كان يطوع له لسانُ أبي عمرو، لأن صيغة لسانه صارت كصيغة ألسنة العرب الذين شاهدهم وألِفَ عادتهم.

(1/151)


قوله جلَّ وعزَّ: (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ)
قرأ نافع: (يُغْفَرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ) - بالياء -.
وقرأ ابن عامر (تُغفَر لكُم) بالتاء مضمومة -.
وقرأ الباقون (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ) بالنون -.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (يُغْفَرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ) - بالياء - فلتقدم فعل
الجماعة، وَمَنْ قَرَأَ (تُغْفَر) - بالتاء - فلتأنيث الخطايا، وهي جمع خطيئة
وخطايا، وَمَنْ قَرَأَ (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ) فالفعل لِلهِ جلَّ وعزَّ، نغفر نحن،
وخطاياكم على هذه القراءة في موضع النصب؛ لوقوع الفعل عليها.
وَمَنْ قَرَأَ بالتاء والياء فخطاياكم في موضع الرفع، لأنه لم يُمسَم فاعلها، والإعراب لايَتَمَيزُ فيها؛ لأنها مقصورة.
والخظايا هي: الآثام التي تعمدها كاسبها.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا)
اتفق القراء على تسكين الشين من "عَشْرَةَ" ها هنا، وهي لغة العالية
الفصيحة،، وفيها لغة أخرى "عَشِرةَ) بكسر الشين، وقد قرأ بها

(1/152)


بعض القراء،: هي قليلة.
وأما (عَشَرة) في مثل هذا الموضع فإن أهل اللغة لا يعرفونها، وقد قرأ بها الأعمش، والعرب لاتعرفها. والقراءة المختارة
(عَشْرة) بسكون الشين.
وانتصب قوله: (عَيناً) على التمييز، وجاء في التفسير: أن الله تبارك
وتعالى فجَّر لهم من حجر واحد اثنتا عشرة عينا لاثني عشر فريقا، لكل فريق
عين يشربون منها، تنفجر إذا نزلوا، وتغور إذا ارتحنوا.
* * *
قوله جلَّ وعزَّ: (النَّبِيِّينَ) ، و (الأئبِيَاء)
قرأ نافع وحده: (النَّبِيِّئين) و (اْلأنْبِئَاء) ، و: (النبيئُونَ) ،
و (النبِيء) بالهمز في كل القرآن إلا في موضعين في سورة الأحزاب:
(إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ) ،
وقوله: (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) .
وسائر القراء لم يهمزوا (النبي) .

(1/153)


قال أبو منصور: من همز (النبِيء) و (الأنبِئَاء) و (النبِيئينَ) فهو
من النبأ، ومِن أنبأ عن الله، أي: أخبر، وكأنه على هذا (فَعِيل) بمعني
(مُفْعِل) ، مثل (نَذِير) بمعنى (مُنذِر) ، ولها نظائر في القرآن.
ومن لم يهمز (النبِي) ذهب به إلى: نَبَا الشيءُ يَنْبُو إذا ارتفع،
ويقال للمكان المرتفع: نَبِى.
وكذلك النبوة والنباوة، وأكثر العرب على
ترك الهمز في (النبِي) ، وهو اختيار أهل اللغة؛ لأنه لو كان مهموزا لجمع
على النبَئاء، وقد جمعه الله على (الأنبِيَاء) . مثل (تَقِي) و (أتقِيَاء)
و (غَنِي) و (أغنِيَاء) .
وحجة من همز وإن كان مجموعا على الأنبِيَاء، أنه مِثْلُ: نَصِيب
وَأنْصِبَاء، وجمع ربيع: النهر على أربعاء.
والقراءة المختارة ترك الهمز.

(1/154)


قوله جلَّ وعزَّ: (الصَّابِئِينَ)
قرأ نافع وحده (الصابِين " و (الصابونَ) - بغير همز - في كل
القرآن.
وهمز الباقون (الصَّابِئِينَ) .
والهمز فيها هي اللغة الجيدة، ومن قولك: صَبَأ فلان يَصبَأ: إذا خرج
من دين إلى دين.
وصَبَأ نَابُهُ، أي: خَرَجَتْ، وصَبَأت النجوم: إذا طلعَت
كل ذلك مهموز.
وَمَنْ قَرَأَ بغير الهمز ففيه قولان:
أحدهما: أنه من صبا يَصبو؟ إذا مال إلى هواه.
والقول الآخر: أنه على تخفيف الهمز على لغة من يخففها.
والقراءة المختارة أن يهمز الباب لاتفاق أكثر القراء.
* * *
قوله جلَّ وعزَّ: (أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا)
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي (هُزُؤًا) ،
و (كفُؤًا) بالهمز والتخفيف، واختلف عن نافع وعاصم، وأما

(1/155)


حمزة فإنه قرأ (كُفْؤا) " و (هُزْؤا) ، وهما لغتان جيدتان، فاقرأ كيف
شئت.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
قرأ ابن كثير ها هنا: (عَمَّا يَعْمَلُونَ) - بالياء -.
وقوله: (إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (85)) - بالياء - وقوله: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)) - بالياء -
في هذ" الثلاثة المواضع،
وقرأ الباقي - بالتاء - وقرأ أبو عمرو في موضعين بالياء،
قوله: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) ،
وقوله: (لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (149) .
والباقي بالتاء.
وقرأ نافع وعاصم في رواية

(1/156)


أبي بكر ويعقَوب في موضعين بالياء، وهو قوله: (إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (85) ،
و: (الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون) .
وروى حفص عن عاصم موضعا بالياء، قوله: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) .
هذه وحدها بالياء.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: (وما الله بغافل عما تعملون) بالتاء
وهي ستة مواضع: خمسة في البقرة، وواحدة في آل عمران، رأس تسع
وتسعين منها.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (يعملون) فعلى الإخبار عنهم، وَمَنْ قَرَأَ بالتاء
فهو مخاطبة لهم.

(1/157)


قوله جلَّ وعزَّ: (إِلَّا أَمَانِيَّ)
روى هارون عن أبي عمرو (إِلَّا أَمَانِيَ) مخففة الياء، وسائر القراء
قرأوا بتشديد الياء، لأن الواحدة منها أمنِية.
قال أبو منصور: سمعت المنذري عن أبي العباس، أحمد بن
يحيى أنه قال: من شدد الأماني فهو مثل قولهم: قُرقور وقَراقير، ومن خفف
الأماني فهو مثل قولهم: قُرقور وقراقر، غير أن القراءة بالتشديد لاجتماع
القراء عليه.
ومعنى الأماني: الأكاذيِب، يقال: أنت تمنيت هذا القول، أي:
اختَلقتَهُ.

(1/158)


وقال غيره: تكون الأماني أيضًا جمع الأمنية، وهي التلاوة، ومنه
قول الله جلَّ وعزَّ (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)
أي: في تلاوته.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)
قرأ نافع وحده: (وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَاتُهُ) .
وقرأ سائر القراء: (خَطِيئَتُهُ) .
قال أبو منصور: والخَطِيثة تنوب عن الخَطِيئَات، وقد تجمع الخَطِيئَة
خَطايَا وخَطِيئات.
* * *
قوله جلَّ وعزَّ: (لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ)
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي (لَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) - بالياء -
وقرأ الباقون (لَا تَعْبُدُونَ) بالتاء.
من قرأ: (لَا يَعْبُدُونَ) فعلى أنهم غُيَّب، وعلامة الغائب الياء.

(1/159)


وكان في الأصل (أن لا يعبدوا) ، فلما حذف (أن) رفعه،
مثل قول طرفة:
ألا أيُّهذا اللائِمِي أحضرُ الوغى ... وأنْ أشهدَ اللذاتِ هل أنتَ مُخْلِدي
أراد: أن أحضرَ، فلما حذف (أن) رفعه.
وَمَنْ قَرَأَ بالتاء فهو خطاب، ومثله في الكلام: تقدَمتُ إلى فلان
لا تشرب الخمر ولا يشرب الخمر.
* * *
قوله جلَّ وعزَّ: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) .
قرأ حمزة والكسائي ويعقوب (حَسَنًا) بفتح الحاء والسين.
وقرأ الباقون: (حُسْنًا) .

(1/160)


قال أبو منصور: (حُسْنًا) فالمعنى: قولوا للناس قولاً ذا حُسن.
والخطاب لعلماء اليهود، قيل لهم: اصدُقوا في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومَنْ قرأ (حَسَنًا) فالمعنى: قولوا لهم قولاً حَسَنًا.
واتفق القراء على قوله في العنكبوت: (حُسْنًا)
وافترقوا في الأحقاف.
فقرأ حمزة وعاصم والكسائي (إِحسَانًا) بالألف، وقرأ الباقون
(حُسْنًا) بغير ألف، مضمومة الحاء،
ومعنى إحسانا، أي: أحسِنُوا بالوالدين إحسَانًا،
فإحسَانًا بدل من اللفظ بـ (أحسِنُوا) .

(1/161)


وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال: قال بعض أصحابنا:
اخترنا (حَسَنًا) لأنه يريد: قولا حَسَنًا.
قال: وَمَنْ قَرَأَ (حُسْنًا) فهو مصدر
حَسُن يَحْسُنُ حُسْنًا، قال: وهو جائز، ونحن نذهب إلى أن الحَسَن شيء من
الحُسن، وبجوز هذا وهذا.
* * *
ْوقوله جلَّ وعزَّ: (تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ)
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب: (تَظَّاهَرُونَ)
مشددة، وقرأ الكوفيون: (تَظاهَرُونَ) بتخفيف الظاء.
من قرأ (تَظَّاهَرُونَ) بالتشديد فالأصل فيه تَتَظاهَرُونَ، فأدغمت
التاء في الظاء لِقُرْب المخرجَين، وشددت الظاء،
وَمَنْ قَرَأَ بالتخفيف فالأصل فيه (تَتَظاهَرُونَ) بتاءين أيضًا، فحذفت التاء الثانية لاجتماعهما.
وتفسير تَظاهَرُونَ: تَتَعاونون، يقال: ظاهَرَ فلانَ فلانا: إذا عاونه.
وقال الله تعالى: (وِإن تَظاهَرا عَليهِ) معناه: وإن تعاونا.
والظهِيِر: المعِين، وقال الله تعالى:
(وكَانَ الكَافِرُ عَلى ربهِ ظهِير) ، أي: مُعِينا.

(1/162)


قوله جلَّ وعزَّ: (أُسَارَى تُفَادُوهُمْ)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (أسَارَى) بألف "تفدُوهُم، بغير ألف. وقرأ نافع وعاصم والكسائي ويعقوب (أُسَارَى تُفَادُوهُمْ) ، بألفين فيهما. وقرأ حمزة "أسرَى تقدُوهُم" بغير ألف فيهما.
ولم يقرأ أحد (أسَارَى) بفتح الألف.
فمن قرأ (أسارى) جَمَعَ الأسير على أسَارَى، على (فُعَالى) .
وَمَنْ قَرَأَ (أسرَى) جمعه على (فَعْلى) .
وقال نصير الرازي: أسارَى جمع أسرَى،
والأصل: أسَارَى، فضمت الألف، كما قالوا: سُكَارَى وسَكَارَى، وكُسَالى وكَسَالى.
قال: ومثل أسِير وأسرَى: قَتيِل وقَتلى، وجَرِيح وجَرحى.
وأما قوله: (تفدُوهُم) و (تُفادُوهُم) فمن قرأ (تُفَادُوهُم) فإن العرب
تقول: فادَيتُ الأسير، وكان أخي أسيراً ففَادَيتُه بأسير
وقال نصيب:
ولكنِّني فادَيْت أمِّي بعدما ... عَلا الرأسَ كَبْرَةٌ ومَشِيبُ
بِعَبْدَيْن مَرْضِيَّيْنِ لم يَكُ فيهما ... لَئِنْ عُرِضا للناظِرين مَعِيبُ
وَمَنْ قَرَأَ (تفْدُوهُم) فهو على وجهين:
أحدهما: تفدوهم بالمال، كقوله: (وَفدَيناهُ بِذِبحٍ عَظِيمٍ) .
والوجه الثاني: أن يكون معنى فَدَيتُه: خَلصتُه مما

(1/163)


كان فيه.
وقال أبو معاذ النحوي: مَنْ قَرَأَ (تفدُوهُم)
فمعناه: تَشتَرُونهمْ من العدو وتُنقِذونهم،
وَمَنْ قَرَأَ (تُفَادُوهم)
فمعناه تمَاكِسُون من هم في أيديهم بالثمن ويُمَاكِسُونَكم.
* * *
قوله جلَّ وعزَّ (بِرُوحِ الْقُدُسِ)
قرأ ابن كثير وحده، (بِرُوحِ الْقُدْسِ) ساكنة الدال في جميع القرآن.
وقرأ الباقون: (القُدُسِ) مثقلا حيث وقع.
قال أبو منصور: والقُدسُ: الطهارة، وقيل: البَركة.
وفيه لغتان:
قُدْسِ وقُدُسِ، والتخفيف والتثقيل جائزان، وأنشدني أعرابي:
لاَ نَومَ حَتى تَهبطِي أرضَ القُدس
وَتَشرَبي مِن خَيْر ماءٍ بقُدس
فثقَّل كما ترى.

(1/164)


وقوله جلَّ وعزَّ (قُلُوبُنَا غُلْفٌ)
ْقرأ أبو عمرو في رواية اللؤلؤي عنه (غُلُفٌ) بضم اللام.
وأسكنها الباقون.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (غُلُفٌ) فهو جمع غِلاف، المعنى: قلوبنَا
أوعية للعلم فما بالها لا تفهم عنك (قالها اليهود) .
وَمَنْ قَرَأَ (غُلْفٌ) بسكون اللام فهو جمع أغلف وغَلفا، المعنى: قلوبنا في
أوعية، كما قال آخرون: (قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ) ، وهذا أعجب
إليَّ أن يقرأ به الشاهد الذي ذكرت من الكتاب، مع أن غلف إذا كان جمع
غِلاف جاز تسكين اللام معه، كما يقال: مِثَالٌ ومُثُلٌ.
* * *
ْوقوله جلَّ وعزَّ: (أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)
قرأ ابن كثير:، ينْزل، و (منزِلها) و، منْزلٌ مِن ربَِّكَ)
و (منْزلين) و (نَزل بِهِ) ونحو هذا من الفعل الذي أوله ياء أو نون

(1/165)


أو ميم كالتخفيف في كل القرآن، إلا في ثلاثة مواضع فإنه يشددهن، قوله في الحجر: (وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) ، وقوله في بني إسرائيل: (ونُنَزل مِن
القُرآنِ) وقوله: (حَتَّى يُنَزل عَليْنَا كِتَابًا نَقرَأهُ) .
وقرأ أبو عمرو بالتخفيف أيضًا إلا حرفين قوله في الأنعام:
(قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) وفي الحجر: (وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) .
وقرأ نافع وعاصم بتشديد كل ما في أوله ياء وتاء أو نون، إلا
قوله: (نَزلَ بِهِ الروحُ الأمين) و (وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) فإن نافعا وحفصا
خففَاهما، وقد شددهما أبو بكر.
وخفف نافع ما أوله ميم، إلا قول: (إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ) فإنهما شددا.
وزاد حفصٌ على أبي بكر: (أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) ، في الأنعام فشدد.
وقرأ ابن عامر بتشديد ذلك كله.

(1/166)


وقرأ حمزة والكساني بتشديد ما أوله تاء أو نون أو ياء في جميع
القرآن إلا في حرفين:
أحدهما في لقمان: (وَيُنْزِلُ الْغَيْثَ) ،
والآخر في: عسق: (وَهُوَ الَّذِي يُنْزِلُ الْغَيْثَ) خففا هذين الحرفين، وخففا ما في أوله ميم حيث وقع في القرآن.
قال أبو منصور: العرب تقول: نزَّلت القوم منازلهم، وأنزلتهم منازلهم
بمعنى واحد.
ومنهم من يستعمل التشديد فيما يُتكرر ويكثر العمل فيه،
ويخفف فيما لا يكثر ولا يتكرر.
* * *
قوله جلَّ وعزَّ: (أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) .
اتفق القراء على (بِمَا يَعْمَلُونَ) بالياء إلا الحضرمي فإنه
قرأ بالتاء.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ.. (97) .
قرأ ابن كثير: (جَبرِيل) بفتح الجيم وكسر الراء بغير همز،
و (مِيكائيلَ) مهموزا ممدودا.
وروى شبل: (مِيكَائِل) مقصورا مهموزا.

(1/167)


مثل نافع، وقرأ نافع: (جِبْرِيلَ) بكسر الجيم والراء.
وقرأ حمزة والكسائي (جَبْرئِيل) مثل (جَبْرعِيل) .
وقرأ أبو بكر: (وجَبرَئِل، مثل (جبرعل) .
وقرأ الباقون (جِبْرِيلَ) ، بغير همز، إلا أن ابن كثير فتح الجيم،
وكسرها الباقون.
قرأ أبو عمرو وحفص (مِيكَالَ) بغير ياء، وقرأ نافع بالهمز
(مِيكَائِل) ، الباقون (مِيكَائيلَ) بياء بعد همزة.

(1/168)


قوله - عزَّ وجلَّ -: (وَلَكِنَّ.. (102)
بكسر النون وتخفيفها.
(الشَّيَاطِينُ.. (102)
بالرفع ابن عامر وحمزة والكسائي.
* * *
قوله - عزَّ وجلَّ -: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا. . . (106) .
بضم النون وكسر السين ابن عامر.
(أَوْ نُنْسِهَا. . . (106) .
بالفتح والهمز ابن كثير وأبو عمرو.
* * *

(1/169)


(قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ... (116) .
بغير واوٍ ابن عامر.
والباقون بالواو.
قال أبو منصور: المعنى واحد في إثبات الواو ها هنا. وحذفها، غير أن
القراءة بالواو أعجب إليَّ لأنه زيادة حَرف يَستوجِبُ بِهِ القارئ عشر حَسَنَاتٍ.
والواو تُعطَف بها جملة على جملة.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) .
حدثنا السعدي قال: حدثنا على بن خشرم عن عيسى عن يونس عن
موسى عن عبيدة عن محمد بن كعب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
ليت شعري: ما فعل أبواي.
فأنزل الله: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) .
قرأ نافع ويعقوب: (وَلَا تَسْأَلْ) بِفَتح التاء وجزم اللام.
وقرأ الباقون: (وَلَا تُسْأَلُ) بضم التاء واللام.

(1/170)


قال أبو منصور: مَن قرأ: (وَلَا تَسْأَلْ) - بالجزم - جزمه بـ (لا) النهي،
وله معنيان: أحدهما: أن الله أمره بترك المسألة عنهم.
والآخر: أن في النهي تفخيما مما أعدَّ الله لهم من العقاب، كما يقول لك القائل الذي يعلم أنك تحب أن يكون من تسأله عنه في حالٍ جميلة أو قبيحة فيقول: لا تَسألْ عن فلان،
أي: قد صار إلى أكثر مما تريد، والله أعلم بما أراد.
وفيه وجهٌ آخر: أن يكون الله أمره بترك المسألة عنه.
وَمَنْ قَرَأَ: (وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ)
فإنه بمعني: ولست تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ ... (108) .
اتفق القراء على التثقيل والهمز، إلا ما روي عن ابن عامر أنه
قرأ: (سُئل) مهموزا بغير إشباعٍ.

(1/171)


والقراءة بالهمز.
ومن قرأ (سُئلَ) فإنه كان يجعلها بين بين، يكون بين
الهمز والياء، فتلفظ (سئِئِل) ، وهنا إنما تُحكِمُه المشافهة -، لأن الكتاب فيه
غير فاصل بين المحقق والمليَّن.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (كُنْ فَيَكُونُ (117)
اتفق القراء على رفع النون عن قوله: (فَيَكونُ) فىِ جميع القرآن، إلا
ابن عامر فإنه قرأ: (فَيَكونَ) بالنصب في جميع القرآن إلا في ثلاتة
مواضع: موضعين في آل عمران، قوله: (فَيَكُونُ طَيْرًا) بالرفع،
وقوله: (فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) ،
والثالث في الأنعام، قوله: (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ) بالرفع.

(1/172)


وتابع الكسائي ابن عامر على نصب النون في موضعين؛ رأس أربعين
من النحل (فَيَكُونَ) ، وآخِر يس: (يَكُونَ) .
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ: (فَيَكُونُ) بالرفع فمعناه: فهو يكونُ، أو: فإنه
يَكُونُ.
وقال الزجاج: مَنْ قَرَأَ: (فَيَكون) فإن شئت عطفته على (يقول) ،
وإن شئت فعلى الإِينافِ، المعنى: فهو يكون.
قال: ومعنى قوله: (إنما يقول له كُن فَيَكُون) : إنما يريد فَيَحدُثُ كما أراد.
وقيل معناه: إنما يقول له (كنْ فَيَكُونُ) يقول هل وإن لم يكن
حاضرا: (كن) لأن ما هو معلوم عند الله كونه بمنزلة الحاضر.
وقال بعض النحويين: (إِنَّمَا يَقُولُ لَهُ) : من أجله.
فكأنه إنما يقول من أجلِ إرادته إياه: (كنْ) ، أي: احدُث فَيَحدُثُ.
ْوَمَنْ قَرَأَ: (فَيكُونَ) بالنصب فهو على جواب الأمر بالفاء، كما تقول:
زُرني فَأزُورَك.
وهذا عند القراء ضعيف، والقراءة بالرفع هو المختار.

(1/173)


وقوله جلَّ وعزَّ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ... (125) .
قرأ نافع وابن عامر: (وَاتَّخَذُوا) على الخبر، بفتح الخاء.
وقرأ الباقون بكسر الخاء على الأمر.
وكل ذلك جائز.
ورُوي عن عمر أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد
وقفا على مقام إبراهيم: أليس هذا مقام خليل الله؟ أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)
فكان الأمر على هذا الخبر أبيَنُ وأحسَنُ.
وليس يمتنع قراءة مَنْ قَرَأَ: (وَاتَّخَذُوا) ؛ لأن الناس اتخذوه، وقال
الله جَل وعزَّ: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ) ثم قال: (وَاتَّخَذُوا) فعطف بجملة على جملة.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (إِبْرَاهِيمَ ... (124)

(1/174)


قرأ ابن عامر وحده: (إِبْرَاهَامَ) بالألف في سورة البقرة، وفي سورة
آل عمران بالياء، وفي سورة النساء بألف إلا قوله: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ) ، وفي الأنعام بالياء، إلا قوله: (مِلَّةِ إِبْرَاهَامَ)
وفي سورة التوبة بالألف إلا موضعا واحدا قوله: (وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ) ،
وفي سورة هود بالياء، وفي سورة يوسف بالياء، وفي سورة إبراهيم بالياء إلا موضعا: (إذ قَالَ إِبْرَاهَامُ) ، وليس في كلام العرب (إفعَالال) .
وقرأ الباقون بالياء في جميع القرآن.

(1/175)


قال أبو منصور: القراءة بالياء لِتَتَابُع القراءة عليه،
ومن قرأ: (إبراهَامُ) فهي لغة عِبْرانِية تركت على حالها ولم تعرب.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (نِعْمَتِيَ الَّتِي (122) .
اتفق القراء على تريك الياء من قوله (نِعْمَتِيَ الَّتِي) ، إلا ما روى
المفضل عن عاصم.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِونَ (124) .
قرأ حمزة وحفص عن عاصم: (عَهْدِي الظَّالِمِينَ) بإرسال الياء.
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ... (125) .

(1/176)


حرك الياء من (بَيْتِيَ) نافع وحفص، وأسكنها الباقون.
وقال الزجاج: أجود اللغتين في قوله: (نِعْمتي التِي) فتح الياء؛
لأن الذي بعدها ساكن وهو لام المعرفةِ، واستعمالها كثير في الكلام،
فاختير فتح الياء معهما لالتقاء الساكنين ولأن الياء لو لم يكن بعدها ساكن
كان فتحها أصوب في اللغة.
قال: ويجوز أن تُحدف الياء في اللفظ لالتقاء الساكنين فَيُقرأ: (نِعْمَتِ الَّتِي) بغير إثبات الياء.
قال: والاختيار إثبات: الياء وفتحها لأنه أقوى في العربية، وأجزل في
اللفظ، وأتم للثواب.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ... (126) .
قرأ ابن عامر وحده: (فَأُمْتِعُهُ) بالتخفيف، من (أمتَعْتُ) .
وقرأ الباقون: (فَأُمَتِّعُهُ) مشددًا، من (مَتَّعْتُ) .
وهما لغتان جيدتان: أمْتعْتُ، ومَتَّعْتُ بمعنى واحدٍ. ومعنى:

(1/177)


فأمتعه قليلًا: أُملِي به المدة إملاءً قليلا.
وعلة الرفع في قوله (فأمتعُة) أن الفاء جواب للمجازاة في قوله:
(ومَن كَفَرَ) ، وإذا كانت الفاء هي الجواب رُفِع ما بعدها.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا ... (128) .
قرأ ابن كثير ويعقوب: (وَأَرْنَا) و (رَبِّ أَرْنِي) و (أَرْنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا) ،
ونحو ذلك، بتسكين الراء.
وروى شبل عن ابن كثير: (وَأَرْنَا) بين الإسكان والكسر.
وقرأ أبو عمرو في رواية اليزيدي، وعبد الوارث، وهارون، وعبيد، وعلي
بن نصر: (وَأرَنَا) و (أرْنِي) بين الإسكان والكسر،
وهو مذهب أبي عمرو في هذا الباب، لا يجزم ولا يثقل.

(1/178)


وقرأ ابن عامر وأبو بكر عَن عاصم مثل قراءة ابن كثير ويعقوب في
(حم السَجدة) فقط.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص بالتثقيل في جميع القرآن.
قال أبو منصور: القراءة (أرِنَا) بالكسرة لأن الأصل فيه (أرِئِنَا) ،
فالكسرة إنما هي كسرة الهمزة التي ألقيت وطرحت حركتها على الراء، وإذا
كانت الكسرة دليل الهمزة قبُحَ حذفها. وقراءة أبي عمرو بالكسرة المختلسة
جيدة، مأخوذة عن العرب الذين يكرهون التثقيل.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ ... (132) .
قرأ نافع وابن عامرٍ: (وأوصى بها) بالألف.
وقرأ الباقون بغير ألف.

(1/179)


قال أبو منصور: هما لغتان: أوصَي،، وَوَصى، فاقرأ كيف شئْتَ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (أَمْ يَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ... (140) .
قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو: (أم يقولون) بالياء، رواه
عاصم لأبي بكر، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بالتاء.
قال أبو منصور: من قرأ بالتاء فهو مخاطِبة.
ومن قرأ بالياء فهو إخبار عن غائب،.
ومعنى أم: ألف الاستفهام، أيقولون؟ .

(1/180)


وقوله جلَّ وعزَّ: (لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) .
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص: (لَرَءُوفٌ) بوزن رَعُوف في
كل القرآن.
وقرأ الباقون: (لَرَءُوفٌ) بوزن رَعُف
قال أبو منصور: هما لغتان، وَرَءُوفٌ على (فَغول) أشبه بالصفات.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ ... (142) .
قرأ حمزة والكسائي: (مَا وَلِّيهُمْ) مُمَالًا.
ورواه أبو بكر عن عاصم بالإمالة أيضًا.
وفَخَّمه الباقون.
قال أبو منصور: هما لغتان، والتفخيم أفصحهما.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (مُوَلِّيهَا ... (148) .
قرأ ابن عامر وحده: (هُوَ مُوَلَّاهَا) . وقرأ الباقون: (هُوَ مُوَلِّيهَا) .
من قرأ: (هُوَ مُوَلِّيهَا) فمعناه: مستقبلها، كأنه قال: هُوَ مُوليها وجهه.
وقال أحمد بن يحيى: التولية ها هنا: إقبال.
وقال الزجاج: قال قوم:

(1/181)


هُوَ مُوليها: إن الله يولي أهل كل ملة القبلة التي يريد.
قال: وَمَنْ قَرَأَ: (هُوَ مُوَلَّاهَا) فالمعنى: لكل إنسان قِبلة ولَّاه الله إياها،
وهي قراءة ابن عباس وأبي جعفر محمد بن علي، والقراءتان جيدتان،
ومُوليَها أكثر وأفصح.
* * *
قوله جلَّ وعزَّ: (لِئَلَّا يَكُونَ ... (150)
اتفقوا على همز (لِئَلَّا) ، إلا ما رَوى ورش على نافع: (لِيَلَّا)
غير مهموز، كذلك قال أحمد بن صالح ويونس عن ورش.
قال أبو منصور: الاختيار (لِئَلَّا) بالهمز، لأن الأصل (لِأن لا) ، فأدغمت
النون في اللام، والهمزة على حالها، لِئَلَّا يَحُل بالحرف حذف حرفين. وما روي عن نافع فهو جائز على تليين الهمزة.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا ... (158) .
قرأ حمزة والكسائي: (وَمَنْ يَطَّوَّعْ) بالياء والجزم في الموضعين.

(1/182)


وقرأ الحضرمي: (وَمَنْ يَطَّوَّعْ) في الأولى مثل قراءة حمزة،
وقرأ الثاني: (وَمَنْ تَطَوَّعَ) مثل قراءة أبي عمرو.
وقرأ الباقون مثل قراءة أبي عمرو بالتاء والنصب في الحرفين.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (وَمَنْ يَطَّوَّعْ) بالياء والجزم جعل (مَن) مجازاة
و (يَطَّوَّعْ) كان في الأصل (يَتَطوع) فأدغمت التاء في الطاء، وجُعلتَا طاء
شدِيدةً.
وَمَنْ قَرَأَ (تَطَوَّعَ) بالتاء والنصب فهو على لفظ الماضي، ومعناه
المستقبل، وكل جائز حسن.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ... (152) .
حرك الياء ابن كثير، وأبو قرَة عن نافع، وأرسلها الباقون.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ ... (164) .
قرأ نافع: الرياح " في البقرة، و: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) ،
وفي الأعراف (يُرْسِلُ الرياحَ) ، وفي إبراهيم: (اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّياحُ) .

(1/183)


وفي الحجر: (الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) ، وفي الكهف: (تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ) ،
وفي الفرقان: (أَرْسَلَ الرِّيَاحَ) ، وفي النمل: (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ) ،
وفي الروم: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ) ، وفي فاطر: (أَرْسَلَ الرِّيَاحَ)
وفي الجاثية: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) وفي عسق: (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّياحَ)
قرأهن كلهن نافع على الجمع.
وقرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم: (الريَاح) منها في
تسعة مواضع في البقرة والأعراف، والحجر، والكهف،، والفرقان،

(1/184)


والنمل، والروم، وفي فاطر، والجاثية.
وقرأوا في إبراهيم، وعسق على التوحيد.
ووافقهم ابن كثير في أربعة مواضع في البقرة، والحجر، والكهف،
والجاثية، والباقي على التوحيد -
وقرأ حمزة واحدة منها على الجمع في الفرقان، والباقي على
التوحيد.
ولم يختلفوا في التي في سورة الروم: (الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ)
على الجمع.
وقرأ الكسائي (الرياح) في موضععين في الحجر وفي الفرقان، والباقي
على التوحيد.
قال أبو منصور: قوله: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) فاختلف القراء في هذا
الحرف فقرئ مَرة (الرياحُ) ، ومرة (الريح) ، والريح يقوم مقام الرياح.

(1/185)


وكذلك قُرِئت، فمن قرأ الرياح فهو جمع الريح، وَمَنْ قَرَأَ الريح أراد
بها: الرياح. ولذلك أنثت، لأن معناها الجماعة.
وقال بعضهم ماكان من رياح رحمة فهي رياح، وما كان من ريح
عذاب فهي واحدة.
واتفق القراء على توحيد ما ليس فيه ألف ولام،
كقوله: (وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا) وكذلك: (رِيحًا صَرْصَرًا) وما أشبهه،
وما كان فيه الألف واللام فقد اختلف القراء فيها على ما بَينا، وكل ذلك جائز.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ... (165) .
قرأ نافع وابن عامر ويعقوب: (ولو ترى الذين ظلموا) بالتاء.
وقرأ الباقون بالياء.
* * *
وقوله: (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ... (165) .
قرأ ابن عامر وحده: (إِذْ يُرَوْنَ الْعَذَابَ) بضم الياء.
وقرأ الباقون: (إِذْ يَرَوْنَ) بفتحها.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ: (ولو ترى الذين ظلموا) فالخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -

(1/186)


والمراد به الأمة،
وَمَنْ قَرَأَ بالياء فهو للظالمين.
* * *
ْوقوله جلَّ وعزَّ: (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ ... (165) .
قرأ يعقوب وحده: (إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ)
بكسر الألف فيهما.
قال أبو منصور: الاختيار: (أَنَّ الْقُوَّةَ) و (أَنَّ اللَّهَ) بفتح الألفين.
وقرأ يعقوب بالكسر على إضمار جواب (لو) ، والتقدير: ولو ترى
الذين ظلموا إذ يرون العذاب لقلتَ: إن القوة لله جميعا وإن الله.
وكذلك إذا قرئ بالياء؛ لأن المعنى: لعلموا أن القوة لله جميعا.

(1/187)


وقوله جلَّ وعزَّ: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ... (168) .
قرأ ابن كثير في إحدى الروايتين، وأبو عمرو وعاصم في رواية
أبي بكر، وحمزة (خُطْوَاتِ) بسكون الطاء.
وكذلك قرأ نافع، وروي عن ابن كثير في إحدى الروايتين: (خُطُوَاتِ) بضم الطاء، وهي قراءة ابن عامر والكسائي وحفص.
قال أبو منصور: قال النحويون: يقال: خُطْوة واحدة ويجمع (خُطْوَاتِ)
و (خُطُوَاتِ) وقد قرئ بهما، وفيها لغة ثالثة لم يُقرأ بها، وهي: (خُطَوَاتِ) .
وفسِّرَ خُطو،: الشيطان: آثاره.
وأصل الخطوة ما بين القدمين.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (فَمَنِ اضْطُرَّ ... (173) .
اختلف القراء في ضم النون وكسرها من قوله: (فَمَنِ اضْطُرَّ) ، وفي

(1/188)


التاء من قوله: (وَقَالَتُ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) ، وفي الدال من قوله:
(وَلَقَدُ اسْتُهْزِئَ) وفي الواو من قوله: (أَوُ اخْرُجُوا) (أَوُ ادْعُوا) ،
وفي اللام من قوله: (قُلُ انْظُرُوا) ، و (قُلُ ادْعُوا) ، ونحوهن.
فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي: (فَمَنُ اضْطُرَّ) (أَنِ اقْتُلُوا) (أَوُ اخْرُجُوا) ، (وَلَقَدُ اسْتُهْزِئَ) ، (وَقَالَتُ اخْرُجْ) ، (أَوُ انْقُصْ)
وما نَحَا نحو هذا بالضم.

(1/189)


قرأ أبو عمرو: (قُلُ ادعُوا اللهَ) ، (أوُ انقُص) ، (أوُ اخرجُوا) ،
(أوُ ادعُوا) (قُلُ انظروا) بضم اللام والواو في هذه الخمسة الأحرف، وكَسر
الباقي.
ورَوى هارون عن أبي عمرو: (وقالتُ اخرج) بضم التاء،
(فمنُ اضطر) بضم النون.
وقرأ عاصم وحمزة بكسرها كلها في التنوين وغيره، لاجتماع
الساكنين.
وقرأ يعقوب: (أوُ اخرجُوا) ، (أوُ ادعوا) ، (أوُ انْقُص) بضم هذه الثلاثة
الأحرف، وكسر الباقي.
قال أبو منصور: هما لغتان، فمن كسر فلاجتماع الساكنين، ومن
ضم فلأن ألف الوصل كان حقها الضم لو ابتدى بها، فلما سقطت في الوصل نقلت ضمتها إلى الحرف الذي قبلها.

(1/190)


واتفق القراء على ضم الطاء من "اضطُّر" ومن فتحها فقد خالف
الإعراب.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ... (177) .
قرأ حفص وحمزة: (لَيْسَ الْبِرَّ) بالنصب،
وقرأ الباقون: (لَيْسَ الْبِرُّ) رفعا.
قال أبو منصور: الاختيار الرفع؛ لأن (ليسَ) يرفع الاسم الذي يليه، ومن
نصب فعلى أنه جعل اسم ليس (الْبِرُّ) (أَنْ تُوَلُّوا) ، و (الْبِرَّ) خبره، وهو
جائز، والرفع أجود القراءتين.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ... (177) .
قرأ نافع وابن عامر: (وَلَكِنِ الْبِرُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) ،

(1/191)


(ولكِنِ البِرُّ مَن اتَّقَى) بتخفيف النون من (لكن) ورفع (البر) .
وقرأ الباقون بتشديد النون والنصب.
قال أبو منصور: هما لغتان فاقرأ كيف شئت.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا ... (182) .
قرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي ويعقوب: (مِنْ مُوَصٍّ)
بتشديد الصاد.
وقرأ الباقون: (مِنْ مُوصٍ) .
قال أبو منصور: هما لغتان: وصَّى وأوصى، فاقرأ كيف شئت.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ... (184) .
قرأ نافع وابن عامر: (فِدْيَةُ طَعَامِ مِسَاكِينَ) بالإضافة، وخفض
الطعام، وجمع مساكين.
وقرأ الباقون: (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) بالتنويق والرفع
والتوحيد.
قال أبو منصورة مَنْ قَرَأَ (فِدْيَةُ طَعَامِ مِسَاكِينَ) أضاف فدية إلى طعام
مساكين، والعرب تضيف الشيء إلى نعته، كقول الله جلَّ وعزَّ:

(1/192)


(وَحَبَّ الْحَصِيدِ) ، و (ذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) .
وَمَنْ قَرَأَ: (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)
رفع قوله (طَعَامُ مِسْكِينٍ) لأنه ترجمة عن فدية، ويكون بدلاً، كأنه قال: وعلى الذين يطيقونه طعام مسكين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ... (185)
قرأ عاصم ويعقوب (وَلِتُكَمِّلُوا الْعِدَّةَ) مشددا، ورُوِى ذلك عن
أبي عمرو أيضًا، وروى عنه التخفيف،
وقرأ الباقون بالتخفيف.
قال أبو منصور: العرب تقول: كمَّلت الشيء وأكملته بمعنى واحد، مثل:
وصَّيت وأوصيت، ونجَّيتُ وأنجَيت.

(1/193)


وقوله جلَّ وعزَّ: (وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) .
اتفق القراء على ضم الشين من (يَرشُدونَ) ، وهو من رشَد يرشُد، وفيه
لغة أخرى لم يُقرأ بها، وهي: رَشِد يَرشَد.
وحَرك الياء من قوله: (بِيَ) ورش عن نافع.
وأرسلها الباقون.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا ... (189) .
قرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي: (البِيُوتَ) بكسر الباء في كل
القرآن، وكذلك كسر العين من العِيون، والجيم من الجِيوب، والشِين
من الشيوخ والغين من الغِيوب، وروى الأعشى عن أبي بكر عن
عاصم نحو ذلك، وقال يحيى عن أبي بكر عن عاصم: إنه ضم الجيم من

(1/194)


الجُيوب، وكسر ما سوى ذلك من هذه الحروف، وكسر نافع في رواية قالون الباء من البِيوت، وضم سائر الحروف.
وقرأ أبو عمرو ويعقوب كلها بالضم. .
قال أبو منصور: من ضم أول هذه الحروف فلأنها مبنية على
(فُعُول) بضم الفاء ومن كسر اعتل بالياء، فأتبع الكسرة الكسرة، كما
قالوا: أبيضُ وبِيض، وقالوا في جمع أعين: عِين، والأصل: بُيِضٌ، وعُيِنٌ.
كما قالوا: أصْفَر وصُفُر، وأحمَر وحُمُرَ.
وروى سليم عن حمزة أنه كان يُشمَ الجيم من: (جيوبهن) الضم ثم يشمه
كسرة خفيفة، ويرفع الياء.
وروى غيره عن حمزة الكسرة في جميعها.
* * *
" وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ... (191) .
قرأ حمزة والكسائي: (لا تَقتُلوهم. . . حَتى يَقتُلوكُم. . . فإن قَتَلوكم)
بغير ألف.
وقرأ الباقون فيهن بالألف.
قال أبو منصور: من قرأ: (لا تَقتُلوهم) فالمعنى: لا تَبدَأُوهم بِقَتل حتى
يَبدَأوكم به، وجاز ولا تَقتُلوهم وإن وَقع القَتْل بِبَعضٍ دون بعض، لأن العرب
__________
(1) وروى حفص عن عاصم الضم في سائرها. (المبسوط في القراءات العشر 144) . وكذا ضمها أبو جعفر ويعقوب. (المبسوط في القراط: العشر 144) .

(1/195)


تقول: قَتَلنا القوم، وإنما قَتَلوا بعضَهُم،
وَمَنْ قَرَأَ: (ولاَ تُقَاتِلوهم) فإنهم نُهُوا عن قصدِهم بالقتال حتى يكون الابتداء منهم، والقِتَال من اثنين، والقَتْل من الواحد.
وأجازت العرب قَاتَلهُ اللهُ بمعنى: لعَنَهُ الله.
وقيل في قوله: (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) ، أي: قَتَلهُم اللهُ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ... (197) .
قرأ ابن كثيرٍ وأبو عمرو ويعقوب: (فَلَا رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ) رفعًا
بالتنوين.
وقرأ الباقون نصبا غير منون، على التبرئة، واتفقوا كلهم على
نصب اللام من قوله: (وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) .
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (فَلَا رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ) فرفعهما بقوله في الحج،
وإنما يحسنُ الرفع إذا نُسقَ عليه، وإن لم ينسق عليه بـ (لا) فالاختيار
النصب بلا تنوين، كقوله جلَّ وعزَّ: (لا رَيبَ فِيهِ) على التبرئة،
ومعنى (وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) ، أي: لا شك أن الحج في ذي الحجة.

(1/196)


وقرأ الباقون: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ) بالنصب في جميعها
على التبرئة، ولو قرئ: (وَلَا جِدَالٌ) بالرفع والتنوين كان ذلك جائزا في
كلام العرب، فأما في القرآن فلا يجوز؛ لأن القراءة سنة، ولم يقرأ بها أحد من القُراء.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ... (208)
(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) ، (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) .
قرأ ابن كثير ونافع والكسائي: (ادْخُلُوا فِي السَّلْمِ) فتحوا السين
في ثلاثهن.
وقرأ أبو عمرو، وابن عامرٍ وعاصم في رواية حفص، ويعقوب: (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) بكسر السين، (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) ، (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ)
بفتح السين.
وقرأ أبو بكر عن عاصم ثلاثهن بالكسر، وقرأ حمزة:
(ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) (وَتَدْعُوا إِلَى السِّلْمِ) بالكسر فيهما،
وفتح قوله: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) .

(1/197)


قال أبو منصور: وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال: كان
أبو عمرو يكسر التي في البقرة، ويذهب بمعناها إلى الإسلام، ويفتح اللتين
في الأنفال وسور محمد، ويتأول فيهما المُسالمة.
قال أبو العباس: والقراءة التي اجتمع عليها أهل الحرمَين بالفتح في كله، لأنها أعَربُ اللغتين وأعلاهما.
رأخبرني المنذري عن الحرلم ني عن ابن السكيت إنه قال: السَّلم: الصُّلحُ.
ويقال: سَلم. وأخبرني ابن فَهْم عن محمد بن سلام عن يُونُس قال: السَّلم:
الإسلام، وأما الصُّلح فيجوز فيه سَلم وسِلم.
* * *
قوله جلَّ رعز: (مَرْضَاتِ اللَّهِ ... (207)
وقف حمزة على (مَرْضَاتِ) بالتاء.
ووقف الباقون على "مَرضاةِ" بالهاء.
وأمال الضَّادَ الكسائي، وفتحها حمزة، وفخمها الباقون.
قال أبو منصور: أجاز أهل العربية الوقوف على مرضاة وأشباهها
من الهاءات التي ليست بأصلية بالتاء. وكذلك: (هَيهَاتَ) و (يَا أبَتِ)

(1/198)


وإن وقف عليها بالهاء فهو جائز، والتفخيم في مرضات أحسن من
الإمالة.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) .
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب: (تَرْجِعُ) بفتح التاء في كل
القرآن.
وقرأ الباقون بضم التاء وفتح الجيم (تُرْجَعُ) .
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (تَرْجِعُ الْأُمُورُ) فالفعل للأمور، ويكون
(تَرْجِعُ) لازمًا.
وَمَنْ قَرَأَ (تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فهو على ما لم يُسَم فاعله، وجعله
متعديا.
والعرب تقول: رجعتُه فَرَجَعَ، لفظ اللازم والمتعدي سواء: كقولك:
نقصته فنقص، وهبطهُ فهبَط.

(1/199)


وقوله جلَّ وعزَّ: (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ ... (214) .
قال الفراء قرأها القراء بالنصب إلا مجاهد، ونافعا فإنهما رفعَا
(حَتَّى يَقُولُ) .
قال الفراء: وكان الكسائي يقرأها دهرًا: (حَتَّى يَقُولُ) ثم رجع إلى
النصب.
وقرأ سائر القراء: (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) نصبا.
وقال الفراء: من قرأ بالنصب فلأن الفعل الذي قبل (حتى) مما يتطاول، وإذا كان الفعل على هذا المعنى نُصِبَ بـ (حَتَّى) ، وإن كان في المعني ماضيا.
قال: وإذا كان الفعل الذي قبل (حتى) لا يتطاول وهو ماض رُفع الفعل الذي بعد (حتى) إذا كان ماضيا.
قال أبو منصور: العرب تنصب ب (حتى) الفعل المستقبل وهو
أكثر كلام العرب.
ومن العرب من يرفع الفعل المستقبل بعد (حتى) إذا تضمن معنيين:
أحدهما: أن يَحسُن (فَعَل) في موضع (يَفْعُل) ، كقوله: (حَتَّى يَقُولَ
الرَّسُولُ) معناه: حتى قال الرسولُ.
والمعنى الثاني: تطاول الفعل الذي قبل (حتى) كقولك: سرتُ نَهَارِي أجمعَ حتَى أدخُلهَا، بمنزلة: سرتُ فدخلتُها، فصارت (حتى) غير عاملة في الفعل، وعلى هذا يؤيدُ قراءة مَنْ قَرَأَ (يقولُ) .

(1/200)


وقوله جلَّ وعزَّ: (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ... (219) .
قرأ حمزة والكسائي: (إِثْمٌ كَثِيرٌ) بالثاء.
وقرأ الباقون: (إِثْمٌ كَبِيرٌ) .
قال أبو منصور: ما أقرب معنى الكثير من الكبير فاقرأ كيف
شئت.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ... (219) .
قرأ أبو عمرو وحده: (قُلِ الْعَفْوُ) بالرفع.
وقرأ الباقون: (قُلِ الْعَفْوَ) نصبا.
قال أبو منصور: من جعل (ماذا) اسما واحدًا ردَّ (العَقوَ) عليه
فنصبه.
ومن جعل (ما) اسمًا و (ذا) خبره وهي في المعنى (الذي) رد
(العَفوَ) عليه فرفعهُ، المعنى: ما الذي ينفقون؟
فقال: العفوُ، أي: الذي ينفقون العفوُ.
والعَفو: ما عَفَا وتيسَر ولم يَشُقَّ، وأصل العَفْو: الفَضل الذي
لا يُعَنِّي صاحِبَهُ.

(1/201)


وقوله جلَّ وعزَّ: (حَتَّى يَطْهُرْنَ ... (222) .
قرأ عاصم وحمزة والكسائي: (حَتَّى يَطَّهَّرْنَ) بتشديد الطاء والهاء.
وقرأ الباقون: (حَتَّى يَطْهُرْنَ) مخففا.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (حَتَّى يَطَّهَّرْنَ) والأصل: يَتَطهَّرنَ والتطهرُ
يكون بالماء، فأدغمت التاء في الطاء فشددت.
وَمَنْ قَرَأَ (حَتَّى يَطْهُرْنَ) فالمعنى: يَطهُرنَ مِن دَم المحِيض إذا انقَطع الدم. وجانز أن يكون يَطهُرن الطهر التام بالماء بعد انقِطاع الدم.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا ... (229) .
قرأ حمزة ويعقوب: (يُخَافَا) بضم الياء.
وقرأ الباقون: (يَخَافَا) .
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (يَخَافَا) بفتح الياء فإن الفراء قال: الخَوف

(1/202)


في هذا الموضع كالظن. قال: والاختيار (إِلَّا أَنْ يَخَافَا) .
قال: وأما ما قرأ به حمزة (إِلَّا أَنْ يُخَافَا) فإنه اعتبر قراءة
عبد الله التي رُوِيَت له "إلا أن تَخَافوا) .
قال: ولم يُصِبْ حمزةُ، والله أعلم؛ لأن الخوف إنما وقع على (أن) وَحدها إذ قال: (إلِا أن تَخَافوا أن لا تُقِيمُوا"، وحمزة قد أوقع الخَوْف على الرجل والمرأة، وعلى (أن) ألا ترى أن اسمَها في الخوف مَرفوع بِما لم يُسَم
فاعله، فلو أراد: إلِا أن يُخَافَا على هذا، ويُخافا بِذا، أو مِنْ ذا.
فيكون على غير اعتبار قراءة عبد الله كان جائزًا.

(1/203)


قال أبو منصور: الاختيار (إِلَّا أَنْ يَخَافَا) بفتح الياء، وهو قراءة أكثر
القراء.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ... (220) .
قرأ ابن كثيرٍ: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ) بغير همز، وهمز
الباقون.
ْقال أبو منصور: الاختيار الهمز، لأن ألف أعنتكم مقطوعة، وهي
كالأصلية، فهمزها أكملُ وأعرب.
وأما قراءة ابن كثير فهو عندي على
اختياره تليين الهمزة، لا أنه حذف الهمزة.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (يُبَيِّنُهَا ... (230) .
اتفق القراء على الياء في (يُبَيِّنُهَا) إلا ما رَوى المفضل عن عاصم:
(نُبَيِّنُهَا) بالنون.
والمعنى فيمن قرأ بالنون والياء قريب من السواء، إلا أن القِراءة

(1/204)


بالياء أجود لاتفاق القراء عليها.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا ... (233) .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب (لَا تُضَارُّ وَالِدَةٌ) رفعًا.
وروى أبانُ عن عاصم الرفع أيضًا، وقال أبو بكر بن مجاهد: أخبرني ابن أبي الرجال عن بشر بن هلال عن بَكار عن أبَان بن يزيد عن عاصم:
(لَا تُضَارَرْ وَالِدَةٌ) .
قال: كذا هو في كتابي راءين.
وقرأ الباقون: (لَا تُضَارَّ) نصبًا.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ) بفتح الراء.
والموضع موضع جزم على النهي، ولفظه لفظ الخبر، الأصل (لاتضارَرْ) فأدغمت الأولى في الثانية، وانفتحت لالتقاء الساكنين، وهو الاختيار في المضاعف، كقولك عضَّ زيدا، وضارَّ عمرًا يا رَجُل، يعني: لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بولدها، أي: لاتترك إرضاع ولدها ضِرارًا لأبيه فتُضِر بالولد؛ لأن الوالدة أشفَق على ولدها من الأجنبية، ولبنُها له أهَنأ وأمْرأ.

(1/205)


وقوله جلَّ وعزَّ: (وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ... (233) .
أي: لا يضارُّ الوالد الأمَّ فيأخذه منها يَرُوم بذلك غَيظها فَيُضِر بولده.
وَمَنْ قَرَأَ (لا تُضَارُّ) برفع الراء فإن المنذري أخبرني عن أحمد بن يحيى أنه
قال: كان ابن كثير وأبو عمرو يقرآن (لاتُضَارُّ) ، قال: وأحسِبُهما آثرا
الرفع عطفا على قوله: (لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ) فأتبعا الرفع الرفع وجعلاه خبرا،
والمعنى نهي.
قال: والقراءة بالنهي، لأنه نهي صحيح.
* * *
قوده جلَّ وعزَّ: (إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ ... (233)
قرأ ابن كثير وحده: (مَا أتَيْتُمْ) بقصر الألف.
وقرأ الباقون: (ما آتَيتُنم) .
قال أبو منصور: (مَا آتَيتُم) معناه: ما أعطيتم، من أتى يُؤتي،
والمعنى: إذا سَلمتم الأجْرة إلى المرضعة، وقيل: إذا سَلمتم، أي: ما أعطاهُ بعضكم

(1/206)


لبعض من التراضي في ذلك.
وَمَنْ قَرَأَ (ما أتَيتُم) بقصر الألف فإن ابن الأنباري قال:
لا يحتمل أن يكون معناه غير ما جئتم بالمعروف، من المَجِيء.
قال: وليست في هذا الموضع حسنة، والقراء (ما آتَيتُم) .
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ... (237) .
قرأ حمزة والكسائي: (تُمَاسُّوهُنَّ) بضم التاء، وإثبات الألف.
وقرأ الباقون: (تَمَسُّوهُنَّ) بغير ألف.
وأخبرني المنذري عن أبي العباس أنه قال: مَنْ قَرَأَ (تَمَسْوهُنً) فهو
الاختيارة لأنا وجدنا هذا الحرف في غير موضع من الكتاب بغير ألف:
(لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) ، وكل شىء في القرآن من هذا الباب فهو فِعْلُ الرجل في

(1/207)


باب الغِشيَان. قال: وهو أحَبُّ إليَّ مِنْ قرَاءة مَنْ قرأ: (مَا لَمْ تُمَاسُّوهُنَّ)
قال: ومَن قرأ: (مَا لَمْ تُمَاسُّوهُنَّ) اعتدَ بأن الفعل لهما، وأنهما يَلتذَّانِ معًا
بالجِمَاع، فهو منهما.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ ... (236) .
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم والحضرمي:
(قَدْرُه) و (قَدْره) خفيفتين.
وقرأ الباقون: (قَدَرُهُ) بالتثقيل.
وأخبرني المنذري عن أبي العباس أنه قال: التثقيل أعلى اللغتَين (قَدَرُهُ) .
قال: وقال الكسائي: يُقرأ بالتخفيف والتثقيل، وكل صواب.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ ... (240) .
قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر عن عاصم والكسائي ويعقوب:
(وَصِيَّةٌ) رفعا.
وقرأ الباقون: (وَصِيَّةً) نصبا.

(1/208)


قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (وَصِيَّةً) أراد فليُوصوا وَصِيَّةً، ومن رفع
فالمعنى فَعَليْهم وَصِيَّةٌ لأزواجهم، هكذا قال النحويون، والاختيار
الرفع لقراءة أبيٍّ وابن مَسْعود: (الوَصِيةُ لأزواجِهِم متاعًا) .
قال أبو منصور: وهذا منسوخ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ ... (245) .
قرأ ابن كثير: (فَيُضَعِّفُهُ لهُ) بتشديد العين مَرفوعًا بغير ألف، وكذلك
قرأ في الحديد بالرفع، وكذلك شدد كُل ما كان من هذا، كقوله:
(واللهُ يُضَعِّفُ) و: (يُضَعِّفُهُ) و (يُضَعَّفُ لَهَا الْعَذَابُ) ، ونحوهن، وتابعه

(1/209)


ابن عامرٍ ويعقوب في التشديد وحذف الألف في كل هذا، وخالفاه
في الإعراب فَنَصَبا في البقرة والحديد.
وقرأ أبو عمرو وحمزة ونافع والكسائي: (فَيُضَاعِفُهُ) بالرفع وإثبات
ألف وكذلك قرَأوا في الحديد، وخَففُوا قوله: (واللهُ يُضَاعِفُ) بالألف،
و (أَضعَافًا مُضَاعَفَة) وما أشبهه.
هذا في كل القرآن إلا أبا عمرو فإنه يحذف الألف في الأحزاب، ويشدد العين من قوله: (يُضَعَّفُ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ) .
وقرأ عاصم (فيضاعفه) هاهُنا وفي الحديد بالنصب والتخفيف، وكذلك
يخفف جميع هذا ويثبت الألف.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (يُضَاعِفُ) أو (يُضَعِّفُ) فمعناهما واحد،
أخبرني المنذري عن الحراني عن ابن السكيت أنه قال: تقول العرب: ضَاعَفتُ الشيء وضَغفْتُه.
ومثله: صاعر خذهُ وصَعَّره، وامرأة مُنَاعَمة ومُنَعَّمة، وعَاليتُ
الرجل فوق البعير وعَليَّتُهُ.
__________
(1) قرأها ابن عامر (فيضعفَهُ) بالنصب، لا بالرفع كما قرأها ابن كثير.
أما يعقوب فروح برواية ابن كثير، ورويس كابن عامر.
وقراءة أبي جعفر كابن كثير. (المبسوط في القراءات العشر 147) .

(1/210)


وَمَنْ قَرَأَ بالرفع (فَيُضَاعِفُه) فإن أبا العباس قال: من رفعه جعل
(الذِي) جزاء، وجعل ا@فاء منسوقة على صِلة (الذِ@) ، قال: ومن فصب
(فَيُضَاعِفَهُ) جعل جواب الاستفهام.
قال: والقراءة عندنا بالرفع، لأن فيه تأويل الجزاء، وكذلك بعض
أصحابنا.
قال أبو إسحاق: من رفع (فَيُضَاعِفُهُ) عطفه على قوله: (يُقرِضُ الله) ،
ومن نصب فَعَلى جواب الاستفهام بالفاء.
* * *
قوله جلَّ وعزَّ: (يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ ... (245) ، و: (وَزَادَهُ بَسْطَةً) .
قرأ ابن كثير كل شيء في القرآن (يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ) و (وَزَادَهُ بَسْطَةً) .

(1/211)


في البقرة، وفي الأعراف مثله، و (المُسَيطِرُونَ) بالسين،
وقرأ (بِمُصَيطِرٍ) بالصاد هذه وحده.
وقرأ نافع: (يَقْبضُ وَيَبْصُطُ) و (وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) في
الأعراف، و (المصَيطِرون) و (بِمُصَيطِرٍ) بالصاد في هذه الأربعة المواضع،
وسائر القرآن بالسين.
وقرأ أبو عمرو وحمزة (المصَيطِرُون) و (بِمُصيطِر) بالصاد فيهما،
وأشَمهما حمزة الزاي، وسائر القراء بالسين.
وروى حفص عن عاصم (يقبِضُ وَيَبسطُ) و (بَسطة) في البقرة، و (بَسْطة) .
في الأعراف بالسين.

(1/212)


وقرأ ابن عامر والحضرمي (يَقْبِضُ وَيَبسُطُ) ، و (بَسْطةً) في البقرة بالسين، والباقي بالصاد.
وقرأ الكسائي كل شيء في القرآن بالصاد، إلا قوله: (وزادَهُ بَسْطةً) في
البقرة بالسين، وهذه رواية ابن عُمر ونصير.
وقال الفراء عن الكسائي: إنه قرأ كل هذا بالسين.
قال أبو منصور: العرب تُجيز السين والصاد في كل حرف فيه طاء.
وأخبرني أبو بكر عن شمر لأبي عبيد أنه قال: إذا كان في الاسم طاء أو خاء
أو قاف أو غين ولا يكون في غير هذه الأربعة، مثل: الصراط والزراط والسراط، والبُزاق والبُصَاق، وسَنَخ الوَدَكُ وزَنَغ، ومصدغة ومزدغة
ومسدغة.

(1/213)


وقوله جلَّ وعزَّ: (هَلْ عَسَيْتُمْ ... (246) .
قرأ نافع وحده: (عَسِيتُم) بكسر السين في الصورتين، وقرأ يعقوب
ها هنا: (عَسَيتُمْ) بفتح السين، وفي سورة القتال: (عَسِيتُم) .
وسائر، القراء قرأوا: (عَسَيْتُم) .
وهي القراءة المختارة، واتفق أهل اللغة على أن كسر السين ليس
بجيد، وأنا أحسِبُها لغة لبعض العرب وإن كرهها الفصحاء.
* * *
قوله جلَّ وعزَّ: (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ ... (249) .
حرك الياء من قوله (مِنيَ) نافع وأبو عمرو، وأَرسلها الباقون.
وقرأ ابن كثير، نافع وأبو عمرو: (غَرْفة) بفتح الغين.
وقرأ الباقون: (غُرْفَةً) بضم الغين.

(1/214)


وأخبرني المنذري عن ابن فَهمٍ عن محمد بن سَلَّام عن يُونُس أنه قال:
غُرفة وغَرفة عرييتان، وقال: غَرفتُ غَرفا، وفي الإناء غُرْفة، ومثله:
حَسَوت حَسوَة، وفي الإناء حُسوَة.
وقال أبو العباس: الغَرْفَةُ: المرة من المصدر،
والغُرفة: الماء الذي يُغرف بَعَينه.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ... (251) .
قرأ نافع ويعقوب: (وَلَوْلَا دِفَاعُ اللَّهِ) بالألف.
وقرأ الباقون: (دَفْعُ اللَّهِ) بغير ألف.
وكذلك قرأ نافع ويعقوب في الحج: (دفِاعُ اللَّهِ) بألف.
وقرَأ الباقون بغير ألف.
قال أبو منصور: المعنى في الدفاع والدفع واحد، يقال: دافع الله عنك
السوءَ، ودفع عنك السوء.

(1/215)


وقوله جلَّ وعزَّ: (يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ... (254) .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب ها هنا وفي إبراهيم: (لَا بَيْعَ فِيهِ وَلَا خِلَال) وفي الطور: (لَا لَغْوَ فِيهَا وَلَا تَأْثِيم) بالنصب. وقرأ الباقون بالرفع
والتنوين.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (لَا بَيْعَ فِيهِ وَلَا خُلَّةَ وَلَا شَفَاعَةَ) بالنصب فهو
على التبرئة،
ومن رفع ونوَّن فهي لغة جيدة إذا تكررت (لا) ،
وإذا لم تتكرر فالاختيار النصب.
ومعنى الرفع: الابتداء وخبره.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ... (255) .
وقف يعقوب: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَه) بالهاء. وكذلك: (نِعِمَّا هِيَه) ،

(1/216)


و (كَأنَّهُ هُوَه) ، و (فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَه) .
ويقف على: (عَم يَتَساءلونَ) عَمَّه، ونحو ذلك في القرآن كله.
يقول هذه هاء الاستراحة.
ْوالباقون من القراء يقفون على هذه الحروف بغير هاء.
قال أبو منصور: أما ما اختاره يعقوب من الوقف على هذه الحروف
بالهاء فهو من كلام العرب الجيد، غير أني أختار المرور عليها، وأن لا يتعمد
الوقوف عليها، لأن الهاءات لم تثبت في المصاحف فأخأف أن تكون زيادة
في التنزيل، وإن اضطر الواقف إلى الوقوف عليها وَقَفَ بغير هاء اتباعا للقراء
الذين قرأوا بالسنة.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ... (258) .
أسكن الياء حمزة. وحركها الباقون.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ... (258) .
قرأ نافع وحده بإثبات الألف من (أنا) إذا لقيتها الهمزة مفتوحة أو
مضمومة في اثني عشر موضعا في البقرة، وموضع في الأنعام، وموضع
في الأعراف، وموضعين في يوسف، وموضعين في الكهف،

(1/217)


وموضعين في النمل، وموضع في المؤمن، وموضع في الزخرف،
وموضع في الممتحنة.
فإذا لقيت ألف (أنا) همزة مكسورة حذفها كقوله في الأعراف: (إِنْ أنَا إِلا نَذِير وبَشِير) ، وفي الشعراء (إِن أنَا إلِا نَذِير مبِين) ،
وفي الأحقاف: (ومَا أنَا إلا نَذِير مبِين) ، فإنه حذف
الألف في هذه المواضع.
والباقون من القراء يطرحون ألف (أنا) في القرآن كله.
ولم يختلفوا في طرحها إذا لم يلقها همزة.
قال أبو منصور: في (أنا) ثلاث لغات: (أنَا) بإثبات الألف، كقولك:

(1/218)


(عنَا) ، وليست بالجيدة.
و (أنَ فعلت) ممالة النون إلى الفتح، وهي اللغة الجيدة، و (إن) فخففة الحركة، وهي رديئة.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (لَبِثْتَ ... (259) ، و: (لَبِثْتُمْ) .
أظهر الثاء في (لبِثت) و (لبِثْتم) ابن كثير ونافع وعاصم حيث وقعت.
وأدغمه الباقون، إلا أن يعقوب أظهرها في حرفين في سورة المؤمنين،
عند قوله: (قَالَ كَم لبِثتُم) ، و (قَالَ إن لبِثتُم) .
قال أبو منصور: من أدغم فقرأ (لبتُّم) فلقرب مخرجي التاء والثاء.
ومن أظهر الثاء فلأنه أشبع وأتم، وأنا أختار الإظهار.
* * *
قوله جلَّ وعزَّ: (لَمْ يَتَسَنَّهْ ... (259) .
قرأ حمزة ويعقوب بحذف الهاء من (يَتَسَنَّهْ) في الوصل، وكذلك

(1/219)


(فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) ، و (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)
و (مَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) .
وزاد يعقوب على حمزة حذف الهاء من قوله: (كِتَابِيَهْ) و: (حِسَابِيَه)
وأثبتها حمزة.
وحذت الكسائي الهاء من (يَتَسَنَّهْ) ومن (اقْتَدِهْ) ، في الوصل، وأثبت الهاء في
الوصل والوقف، أي في غيرهما، ولم يختلفُوا في أن الهاء ثابتة في الوقف،
والباقون يصلون بالهاء ويقفون على الهاء.
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال في قوله: (لَمْ يَتَسَنَّهْ) :
قرأها أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم بإثبات الهاء إنْ وَصلوا وإن قَطعوا،
وكذلك قوله: (اقْتَدِهْ) وما أشبهه في القرآن.
ووافقهم أبو عمرو إلا في الأنعام، فإنه كان يحذف الهاء منه في الوصل، ويثبتها في الوقف، وكان الكسائي يحذف الهاء من (يَتَسَنَّهْ) ، و (اقْتَدِهْ) ، في الوصل، ويثبتها في

(1/220)


الوقف ولا يفعل ذلك في سائر هاءات الوقف في القرآن، وكان عاصم
يُثبتُها في الوقف في القرآن كله، ويحذفها في الوصل، مثل قوله:
(يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ) ، و (مَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ) .
وكان الأعمش وحمزة يفعلان ذلك أيضًا في قوله: (لَمْ يَتَسَنَّهْ) ، وفي: (فَبِهُداهُمُ اقتَدِه) ، وفي حرفين من الحاقة: (مَالِيَه) و (سُلطانِيَه)
وأما ما سواها فإنهما كانا يثبتان الهاء في الوصل والقطع.
قال أبو العباس: ونحن نذهب إلى أن هذه الهاءات هاءات وقف، والوجه
فيها كلها أن تحذف في الموصَل والممر، وتثبت في الموقف، فهذا الوجه

(1/221)


في العربية، وقد تصل العرب على مثال الوقف، فيكون الوصل كالقطع،
وهذا من ذلك، فاعلم.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (كَيْفَ نُنْشِزُهَا ... (259) .
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب: (نُنْشِرُهَا) بالراء،
وقرأ الباقون: (نُنْشِزُهَا) بالزاي.
وروى عبد الوهاب بن عطاء عن أبان عن عاصم: (كَيف نُنْشِرُهَا)
بفتح النون وضم الشين، وهي قراءة الحسن.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (نُنشِزُها) بالزاي فالمعنى: نجعلها بعد بِلاهَا
وهُمودهِا نَاشِزَةً، تَنشُز بَعضَهَا إلى بَعض، أي: ترتفع، مأخوذ من نشَزَ،
والنشْزُ هو: ما ارتفع من الأرض.
وَمَنْ قَرَأَ: (نُنشِرها) بالراء فمعناهُ: نحييها، يقال: أنشَرَ الله الموتى، أي: أحياهم فنشروا، أي: حيوا، ومن

(1/222)


قرأ (ننشرها) فهو مأخوذ من النشر بعد الطي.
والقراءة (نُنْشِرُهَا) أو (نُنْشِزُهَا) بضم النون الأولى فيهما،
وأما (نَنْشِرُهَا) فهي شاذة، لا أرى القراءة بها.
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) .
قرأ حمزة والكسائي: (قَالَ اعْلَمْ) بالأمر.
وقرأ الباقون: (أَعْلَمُ) بقطع الألف وضم الميم.
وأخبرني المنذري عن أبي العباس أنه قال في قراءة عبد الله: (قيلَ اعْلَمْ) على الأمر.
وكذلك قرأ حمزة والكسائي، اعتبرا قراءة عبد الله،
وَأما أبو جعفر وشيبة وعاصم ونافع وأبو عمرو فإنهم قرأوا: (قَالَ أعْلمُ) ، قال: واختارها أبو عمرو على أنه من مقالة الذي أحياه الله.
وقال أحمد ابن يحيى: وأنا أختاره؛ لأنه مفسر في حديثه أنه لما رأى ما صُنعَ به وبحمَاره قال عند ذلك: (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
قال أبو العباس: ونحن

(1/223)


نذهب به إلى الجزم؛ لأن مَنْ قَرَأَ به أكثر، على أنهُ قيل لإبراهيم:
و (اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) .
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ... (260) .
قرأ حمزة ويعقوب: (فَصِرْهُنَّ إِلَيْكَ) بكسر الصاد.
وقرأ البا قون: (فَصُرْهُنَّ) بالضم.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (فَصُرْهُنَّ) فمعناه: أمِلهُن إليك، يقال:
صُرتُ الشيء أصُوره، أي: أمَلته، ومنه قول لبيد.

(1/224)


مِن فُقد مولى تَصُور الحيِّ جفنته ... أوزرْء مالٍ وَرزء المال يجتَبَر
وَمَنْ قَرَأَ (فَصِرْهُنَّ) بكسر الصاد فإن الفراء قال: معناه:
قَطعهُن، قال: وهو مقلوب من صَرَى يَصري، إذا قَطعَ.
وأنشد:
تَعَرَّب آبابي فَهَلَّا صَراهُمُ ... عَنِ المَوتِ أن لم يَذهَبُوا وَجُدوديِ
قال: ومثله عَثَيتُ وعِثتُ.
قال أبو منصور: والذي عندي في معنى (صُرْهُنَّ) و (صِرْهُنَّ) أن
معناهما واحد، يقال: صَارَه يَصُورُهُ، ويصيُرهُ بللواو والياء، إذا مَالهُ،
لغتان معروفتان.
وأنشد الكسائي:
وفَرْع يُصِيرُ الجِيدَ وَخفٍ كَأنهُ ... عَلى الليتِ قِنوانُ الكُرُوم الدوالِحِ.

(1/225)


قال: يُصِيرُ: يُمِيل.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ ... (265) .
قرأ ابن عامر وعاصم: (بِرَبْوَةٍ) و (إِلى رَبْوَةٍ) في سورة المؤمنين بفتح الراء.
وقرأ الباقون بضم الراء.
وأخبرني المنذري عن أبي العباس فيها ثلاث لغات: رَبْوَة، ورُبوة،
ورِبوَة.
والاختيار رُبوَة؛ لأنها أكثر في اللغة.
قال: والفتح لغة تميم.
قال أبو منصور: رِبوة لغة، ولا تجوز القراءة بها.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ ... (265) .
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (فَآتَتْ أُكْلَهَا) خفيفة، وكذلك كل ما
أضيف إلى مؤنث فهو خفيف.
قال أبو بكر: وافْتَرَقُوا فيما أضيف إلى مذكر نحو: (أُكُلُهُ) ، وما أضيف إلى اسم ظاهر، كقوله: (أُكُلٍ خَمْطٍ) فقرأ أبو عمرو بتثقيلهاحيث وقع، وثقل أيضًا ما لم يُضف،

(1/226)


نحو: (الأُكُلٍ) .
وقرأ نافع وابن كثير بتخفيف ذلك كله.
وقرأ الباقون بتثقيل ذلك كله ما استثنوا شيئا.
قال أبو منصور: هما لغتان جيدتان فاقرأ كيف شئت.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ ... (269) .
قرأ يعقوب وحده: (وَمَنْ يُؤْتِ الْحِكْمَةَ) بكسر التاء، وتقديره: ومن
يُؤتِهِ اللهُ الحكمة.
وقرأ الباقون: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ) بفتح التاء.
قال أَبو منصور: القراءة بفتح التاء، و (يؤتَ) جزم ب (منْ) ، والجواب
الفاء في قوله: (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) .
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (فَنِعِمَّا هِيَ ... (271)
قرأ ابن كثير، وعاصم في رواية حَفْص عنه، والأعشى عن أبي بكر
عنه، ويعقوب (فَنِعِمَّا هِيَ) بكسرة النون والعين، وكذلك روى ورش عن نافع

(1/227)


بكسر النون والعين.
وقرأ أبو عمرو ونافع وعاصم في رواية يحيى عن
أبي بكر عن عاصم والمفضل عنه: (فَنِعْمَّا هِيَ) بكسر النون وتسكين
العين.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: (فَنَعِمَّا هِيَ) بفتح النون وكسر العين
وتشديد الميم.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (فَنِعِمَّا هِيَ) بكسر النون والعين فهو جيد؛ لأن
الأصل في نِعْمَ: نَعِمَ ونِعْمَ ثلاث لغات.
وَمَنْ قَرَأَ (فنِفما) فهي على لغة
من يقول: نِعْمَ. وأما مَنْ قَرَأَ (فَنِعْمَّا) بكسر النون وسكون العين وتشديد الميم فهي على لغة من يقول: نِعْم كإثم، أدغم الميم من (نِعْمَ) في (ما) وشددها، وترك العين على حالها ساكنة، وهذه القراءة عند نحويي أهل البصرة

(1/228)


غير جائزة؛ لأن فيها الجمع بين ساكنين مع غير حرف مد ولا لين، وكان
أبو عُبَيد يختار هذه القراءة، ولم يُجِرها أهلُ النحو، والقراءة فَنَعِمَّا أو
فنِعِمَّا ومعناهما فَنِعْم الشيء.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَنُكَفِّرُ عَنْكُمْ (271) .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب: (وَنُكَفِّرْ عَنْكُمْ)
بالنون والرفع، وكذلك أبو خُليد عن نافع.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي: (وَنُكَفِّرْ عَنْكُمْ) بالنون والجزم.
وكذلك قال الكسائي عن أبي بكر عن عاصم بالنون والجزم.
وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ) بالياء والرفع.

(1/229)


قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (نُكَفرْ) جزما عطفه على موضع الجزم في قوله:
(فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لأن معناه: يكن خيرا لكم.
وَمَنْ قَرَأَ (ونكَفرُ عَنكُم) بالنون والرفع رفعهُ لأن ما بعد الفاءِ قد صار بمنزلته في غير الجزاء، وهو اختيار سيبويه، كأنه استئناف، وكذلك مَنْ قَرَأَ (وَيُكَفِّرُ) بالياء والرفع.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ ... (273) .
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي والحضرمي (يَحْسِبُهُمُ)
و (يَحسِبُونَ " و (يَحسِب) بكسر السين في كل القرآن.
وقرأ ابن عامر

(1/230)


وحمزة وعاصم بفتح السين في ذلك كله.
قال أبو منصور: هما لغتان معروفتان عن العرب، على (فَعِلَ يفعِلُ)
حَسِبَ يحْسِبُ، والكسر لغة أهل الحجاز، والفتح لغة تميم، وحَسِب
يَحْسِبُ. جاء نادرا، ومثله من باب السالم: نَعِم يَنْعِم، وزاد بعضهم يَئِسَ
يَيئِسُ ويَيأَسُ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ... (279) .
قرأ عاصم في رواية أبي بكر، وحمزة: (فَآذِنُوا) بالمد وكسر الذال.
وقرأ الباقون وحفص عن عاصم: (فَأْذَنُوا) مقصورا، وفتحوا الذال:
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (فَآذِنُوا) بالمد، المعني: فأعلموا مَن وراءكم أن

(1/231)


كل مَنْ لم يترك الربا فهو حَرب، يقال: آذَتتُهُ أوذنُه، إذا أعلنته.
ومن قرأ (فَأْذَنوا) بالقصر فمعناه: فاعلمُوا وأيقنُوا بحرب من الله، يقال: أذنتُ آذَنُ إِذنًا، إذا علمت الشيءَ واستيقَتتَ بهِ، وأَذنِ يَأذَنُ إذِنًا، إذا سَمِعت.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) .
روى المفضل عن عاصم: (لَا تُظْلَمُونَ وَلَا تَظْلِمُونَ) .
وقرأ الباقون بفتح الأولى وضم الثانية.
قال أبو منصور: المعنى: (لكم رُءوس أموالكم لا تَظلِمون بأن تأخذوا أكثر
منها، ولا تُظلمونَ بأن تُنقَصُوا من رُءوس أموالكم شيئا، والتأخير والتقديم
لا يُغَيِّر المعنى، غير أن أجود القرائتين: (لَا تَظْلِمُونَ) على أنهم فاعلون،
و (لَا تُظْلَمُونَ) على أنهم مفعولون.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ ... (280) .
قرأ نافع وحده: (إلِى مَيْسُرَةٍ) بضم السين.
وقرأ الباقون بفتح

(1/232)


السين.
قال أبو منصور: هما لغتان: مَيسَرَة ومَيْسُرة، ومثله: مَقبَرة ومَقبُرة،
ومشرَبة ومَشرُبة: للغُرفة.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَأَنْ تَصَدَّقُوا (280) .
قرأ عاصم: (وَأَنْ تَصَدَّقُوا) خفيفة الصاد.
وقرأ الباقون: (تَصَّدَّقُوا) بتشديد الصاد والدال.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ بتخفيف الصاد فالأصل: تَتَصَدقوا
فحُذِفت إحدي التاءين، وبقي تصدَّقوا.
وَمَنْ قَرَأَ بتشديد الصاد فالأصل أيضًا: تتصدَّقوا، فأدغمت التاء الثانية في الصاد، وشددت، والمعنى واحد.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ... (281) .

(1/233)


قرأ أبو عمرو ويعقوب: (تَرْجِعُونَ) بفتح التاء.
وقرأ الباقون: (تُرْجَعُونَ) بضم التاء،
قال أبو منصور: (تَرْجِعُونَ) فِعلهُ لازم غير واقع.
و (تُرْجَعُونَ) مفعول من رَجعته، فالأول واقع، والثاني لازم.
* * *
قوله جلَّ وعزَّ: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا ... (282) .
قرأ حمزة: (إِنْ تَضِلَّ) بكسر الألف على محض الشرط، (فَتُذَكِّرُ)
بتشديد الكاف وضم الراء، والفاء جواب الشرط.
وفتح الباقون الألف من (أَنْ تَضِلَّ) والراء من (فَتُذَكِّرَ) .
وأسكن الذال من قوله: (فَتُذْكِرَ) ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب، وخفضوا الكاف.
وقرأ الباقون: (فَتُذَكِّرَ) .
وأذكرتُ وذكَّرت واحد.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (أَنْ تَضِلَّ) المعنى: أن تنسى إحداهما

(1/234)


فتُذكرها الذاكرة.
وقوله: (فَتُذَكِّرُ) رفع مع كسر (إنْ) لا غير، وهي قراءة حمزة.
وَمَنْ قَرَأَ (إن تَضِلَ إِحْدَاهُمَا فَتُذْكِرَ) فالمعنى: لأن تُذكرَ إحداهما
الأخرى، ومن أجل أنْ تُذْكِر إحداهما الأخرى.
وقال سيبويه: لِمَ جازَ (أن تَضِلَ) وإنما أعِدَّ هذا للإذكار؟
فالجواب: أن الإذكار لما كان سببُه الإضلال جاز (أن تَضِلَّ) ؛ لأن الإضلال هو السبب الذي أوجَب الإذكار.
قال: ومثله في الكلام: أعددت هذا أن يَمِيل الحائط فأدْعَمُهُ، وإنما أعددتُهُ للدَغم لا للميل، ولكن الميل ذكِر لأنه سبب الدعم، كما ذكِر الإضلال لأنه سببُ الإِذكار، وهذا بَيِّن إن شاء الله.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً ... (282) .
قرأ عاصم وحده: (تِجَارَةً حَاضِرَةً) نصبا.
وقرأ الباقون: (تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ) رفعا.
قال أبو منصور: من نصب (تجارةً حَاضرةً) فالمعنى: إلا أن تكون المداينة
تجارةً حاضرةً.
ومن رفع (تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ) جعل (كان) مُكتفية بالاسم دون

(1/235)


الخبر، وذلك كثير.
و (حاضرة) من نَعْت (تجارة) ، وذلك جائز في كلام العرب.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ... (283) .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: (فَرُهْنٌ) بغير الألف.
وقرأ الباقون: (فَرِهَانٌ) بالألف.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (فَرُهْنٌ) أراد أن يَفصِل بين الرهان في
الخَيل وبين الرهُن: جمع الرَّهْن.
وقال الفراء: رُهْن: جمع الرِّهان.

(1/236)


وقال غيره: رَهْن ورُهُن، مثل: سَقْف وسُقف.
ومن قرأ: (فَرِهَانٌ) فهو جمع رُهْن.
وأنشد أبو عمرو في الرهن:
بانَتْ سعادُ وأمسى دونَها عدنُ ... وَغلَّقَتْ عندَها مِنْ قبلِك الرُّهُنُ
وأخبرني المنذري عن الحسن بن فهم عن ابن سلام عن يونس قال: الرُّهُن
والرِّهَان واحد، عربيتان.
والرُّهُن في الرَّهْن أكثر، والرِّهَان في الخيل أكثر.
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى قال: الاختيار (رِهَان) مثل: كَبشٍ
وكِبَاشٍ وحَبلٍ وحِبالٍ وما أشبههما.
قال: (ورُهُن) قراءة ابن عباس.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ... (284) .
قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب: (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ)
بالرفع.
وقرأ الباقون بجزم الراء والباء.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ (يُعَذِّبْ مَّنْ يَشَاءُ) أدغم الباء من (يُعَذِّبْ) في
الميم من (مَّنْ يَشَاءُ) .

(1/237)


وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى وسئل عن قوله
(فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ)
قال: من جزم رده على الجزم في قوله: (يُحَاسِبْكُم) .
قال: وهو الاختيار عندي.
قال: ومن رفع فهو على الاستئناف.
قال أبو العباس: إنما اختَرْت الجزم لأنه يدخل في تكفير الذنوب إذا كان جوابا لقوله: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ)
ومن رفع لم يجعله جوابًا لهذا الشرط.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ... (285) .
قرأ حمزة والكسائي: (وكِتَابِهِ) مُوَحَدًا.
وقرأ الباقون: (وَكُتُبِهِ) جميعا.
قال أبو منصور عن ابن عباس: إنه قرأ (كِتَابِه) ، وقيل له في قراءته
فقال: (كِتَاب) أكثر من (كُتُب) .
قال أبو منصور: ذهب به إلى الجنس، كما يقال: كثر الدرهم والدينَار في أيدي الناس.
وَمَنْ قَرَأَ (وَكُتُبِهِ) فهو مثل:

(1/238)


حِمَارٍ وحمْر وغِلافٍ وغلْف.
* * *
وقوله: (وَرُسُلِهِ)
قد اتفق القراء على تثقيله.
* * *
وقرأ الحضرمي: (لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ... (285)
بالياء
وكسر الراء. وقرأ الباقون: (لَا نُفَرِّقُ) بالنون.
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال: النون هو الاختيار،
وعليها قُراء الأمصَار، ومعناها: يقول: لا نفرق بين أحد، فيكون القول فيه مضمرا، وإضمار القول كثير في القرآن.
قال: وَمَنْ قَرَأَ: (لَا يُفَرِّقُ) فإنه يريد: مَن آمَنَ بالله لَا يُفَرِّقُ، ردَّه على مَن آمن بالله، وكلٌّ آمن، وكلٌّ لَا يُفَرِّقُ بين أحد منهم.
واحد في معنى الجميع ها هنا.
* * *
وقال أبو بكر: حذفت من البقرة ست ياءاتٍ اكتُفى بكسراتِ ما قبلهن، منها:
حذف ياء (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) ، (فَاتَّقُونِ (41) ، (وَلَا تَكْفُرُونِ (152) ،

(1/239)


(دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ (186) ، (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) .
وقد أثبتهن يعقوب في الوصل والوقف.
ووصل أبو عمرو منهن ثلاثا: (الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ (186)
(وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) .
ووقف بغير ياء.
وحذفهن الباقون في الوصل والوقف.
* * *

(1/240)