معاني القرآن للفراء الم (1) ذَلِكَ
الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
ومن سورة البقرة
«1»
قوله تعالى: الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ ... (2)
الهجاء موقوف فِي كل القرآن، وليس بجزم يسمّى جزما، إنما هُوَ
كلام جزمه نية الوقوف على كل حرف منه فافعل ذلك بجميع الهجاء
فيما قل أو كثر. وإنما قرأت القراءُ «آلم اللَّهُ» في «آل
عِمْرانَ» ففتحوا الميم لأن الميم كانت مجزومة لنية الوقفة «2»
عليها، وإذا كان الحرف ينوى به الوقوف نوى بما بعده الاستئناف،
فكانت القراءة «ال م الله» فتركت العرب همزة الألف من «الله»
فصارت فتحتها في الميم لسكونها، ولو كانت الميم جزما مستحِقّا
للجزم لكسرت، كما في «قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ» «3» . وقد
قرأها رجل من النحويين، - وهو أبو جعفر الرؤاسي وكان رجلا
صالحا- «آلم أَلله» بقطع الألف، والقراءة بطرح الهمزة. قال
الفراء:
وبلغني عن عاصم أنه قرأ بقطع «4» الألف.
__________
(1) فى ج، ش: فاتحة البقرة.
(2) فى ج، ش: «الوقف» . فتح الميم فى «الم الله» أوّل سورة آل
عمران هو قراءة العامة قال النحاس فى إعراب القرآن له: «وقد
تكلم فيها النحويون القدماء فمذهب سيبويه أن الميم فتحت
لالتقاء الساكنين، واختاروا لها الفتح كى لا يجمع بين كسرة
وياء وكسرة قبلها ... ... وقال الكسائي: حروف التهجي إذا
لقيتها ألف الوصل فحذفت ألف الوصل حركتها بحركة الألف فقلت:
الم الله، والم اذكر، والم اقتربت» .
وقال العكبري فى إعراب القرآن له: «وقيل فتحت لأن حركة همزة
«الله» ألقيت عليها، وهذا بعيد لأن همزة الوصل لا حظ لها فى
الثبوت فى الوصل حتى تلقى حركتها على غيرها. وقيل الهمزة فى
«الله» همزة قطع، وإنما حذفت لكثرة الاستعمال، فلذلك ألقيت
حركتها على الميم لأنها تستحق الثبوت، وهذا يصح على قول من جعل
أداة التعريف «أل» .
(3) آية 27 سورة يس.
(4) قراءة عاصم كقراءة الرؤاسى، وهذه القراءة على تقدير الوقف
على «الم» كما يقدرون الوقف على أسماء الأعداد فى نحو واحد،
اثنان، ثلاثة، اربعة وهم واصلون.
(1/9)
وإذا كان الهجاء أوّل سورة فكان حرفا واحدا
مثل قوله «ص» و «ن» و «ق» كان فيه وجهان في العربية إن نويت به
الهجاء تركته جزمًا وكتبته حرفًا واحدا، وإن جعلته اسما للسورة
أو في مذهب قَسَم كتبته على هجائه «نون» و «صاد» و «قاف» وكسرت
الدال من صاد، والفاء من قاف، ونصبت النون الآخرة من «نون»
فقلت: «نون والقلم» و «صاد والقرآن» و «قاف» لأنه قد صار كأنه
أداة كما قالوا رجلان، فخفضوا النون من رجلان لأن قبلها ألفًا،
ونصبوا النون في «المسلمون والمسلمين» لأن قبلها ياء وواوا.
وكذلك فافعل ب «يس وَالْقُرْآنِ» فتنصب النون من «يس» وتجزمها.
وكذلك «حم» و «طس» ولا يجوز ذلك فيما زاد على هذه الأحرف مثل
«طا سين ميم» لأنها لا تشبه الأسماء، و «طس» تشبه قابيل. ولا
يجوز ذلك في شيء من القرآن مثل «الم» و «المر» ونحوهما.
وقوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ ... (2)
يصلح فيه ذلِكَ من جهتين، وتصلح فيه «هذا» من جهة فأما أحد
الوجهين من «ذلِكَ» فعلى معنى: هذه الحروف يا أحمد «1» ، ذلك
الكتاب الذي وعدتك أن أُوحِيه إليك. والآخر أن يكون «ذلِكَ»
على معنى يصلح فِيهِ «هَذَا» لأن قوله «هَذَا» و «ذلِكَ»
يصلحان في كل كلام إذا ذكر ثم أتبعته بأحدهما بالأخبار عنه.
ألا ترى أنك تقول: قد قدم فلان فيقول السامع: قد بلغنا ذلك،
وقد بلغنا هذا الخبر، فصلحت فيه «هذا» لأنه قد قرب من جوابه،
فصار كالحاضر الذي تشير إليه، وصلحت فيه «ذلِكَ» لانقضائه،
والمنقضي كالغائب. ولو كان شيئًا قائما يرى لم يجز مكان
«ذلِكَ» «هذا» ،
__________
(1) فى ج، ش «محمد» .
(1/10)
ولا مكان «هذا» «ذلِكَ» وقد قال الله جل
وعز: «وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ» إلى قوله:
«وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ» ثم قال: «هذا ذِكْرُ» «1» .
وقال جل وعز في موضع آخر: «وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ
أَتْرابٌ» ثم قال:
«هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ» «2» . وقال جل
ذكره: «وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ» ثم قال:
«ذلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ» «3» . ولو قيل في مثله من
الكلام في موضع «ذلِكَ» : هذا» أو فى موضع «هذا» : «ذلِكَ»
لكان صوابا.
وفي قراءة عبد الله بن مسعود «هَذَا فَذُوقُوهُ» وفي قراءتنا
«ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ» «4» .
فأما ما لا يجوز فِيهِ «هذا» في موضع «ذلِكَ» ولا «ذلِكَ» في
موضع «هذا» فلو رأيت رجلين تنكر أحدهما لقلت للذي تعرف: مَن
هذا الذي معك؟ ولا يجوز هاهنا: مَن ذلك؟ لأنك تراه بعينه.
وأما قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) فإنه رفع من وجهين
ونصب من وجهين إذا أردت ب «الْكِتابُ» أن يكون نعتا ل «ذلِكَ»
كان الهُدَى في موضع رفع لأنه خبر ل «ذلِكَ» كأنك قلت: ذلك
هُدًى لا شك فيه «5» . وإن جعلت لا رَيْبَ فِيهِ خبره رفعت
أيضا (هُدىً) تجعله تابعا لموضع «لا رَيْبَ فِيهِ» كما قال
الله عز وجل: «وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ» «6» كأنه
قال: وهذا كتاب، وهذا مبارك، وهذا من صفته كذا وكذا. وفيه وجه
ثالث من الرفع: إن شئت رفعته على الاستئناف لتمام ما قبله، كما
قرأت القرّاء «الم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ. هُدىً
وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ» »
بالرفع
__________
(1) الآيات 45- 49 سورة ص. [.....]
(2) آية 52، 53 سورة ص.
(3) آية 19 سورة ق.
(4) آية 14 سورة الأنفال.
(5) وجملة «لا ريب فيه» على هذا اعتراض أو حال.
(6) آية 92 و 155 سورة الأنعام.
(7) آية 1- 3 سورة لقمان.
(1/11)
والنصب. وكقوله في حرف عَبْد اللَّه:
«أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخٌ» «1» وهي في
قراءتنا «شَيْخاً» .
فأما النصب في أحد الوجهين فأن تجعل «الْكِتابُ» خبرا ل
«ذلِكَ» فتنصب «هُدىً» على القطع لأن «هُدىً» نكرة اتصلت
بمعرفة قد تم خبرها فنصبتها لأن النكرة لا تكون دليلا على
معرفة. وإن شئت نصبت «هُدىً» على القطع «2» من الهاء التي في
«فِيهِ» كأنك قلت: لا شك فيه هاديا.
واعلم أن «هذا» إذا كان بعده اسم فيه الألف واللام جرى على
ثلاثة معان:
أحدها- أن ترى الاسم الذي بعد «هذا» كما ترى «هذا» ففعله حينئذ
مرفوع «3» كقولك: هذا الحمار فارهٌ. جعلت الحمار نعتًا لهذا
إذا «4» كانا حاضرين، ولا يجوز هاهنا النصب «5» . والوجه
الآخر- أن يكون ما بعد «هذا» واحدا يؤدّي عن جميع جنسه، فالفعل
حينئذ منصوب كقولك: ما كان من السباع غير مخوف فهذا الأسد
مخوفا ألا ترى أنك تخبر عن الأسْد كلِّها بالخوف. والمعنى
الثالث- أن يكون ما بعد «هذا» واحدا لا نظير له فالفعل حينئذ
أيضا منصوب. وإنما نصبت الفعل لأن «هذا» ليست بصفة للأسد إنما
دخلت تقريبا «6» ، وكان الخبر بطرح «هذا» أجود ألا ترى إنك لو
قلت: ما لا يضر «7» من السباع فالأسد ضارّ، كان أبين. وأما
معنى التقريب: فهذا أول ما أخبركم عنه، فلم يجدوا بدّا من أن
__________
(1) آية 72 سورة هود.
(2) يريد بالقطع الحال.
(3) يعنى أن مدلول «هذا» والاسم المحلى بأل بعده واحد مساو له،
بأن يكون هو إياه لا يزيد عنه، ومراده بفعله الاسم الواقع بعد
المحلى بأل، وعبر عنه بفعله لأنه من أحواله وصفاته، وقد يكون
حدثا من أحواله وصفاته نحو الفراهة والإخافة، والضياء والنور
فى الأمثلة التي أتى بها.
(4) كذا فى الأصول.
والأنسب (إذ) .
(5) عدم جواز النصب هنا أنه لو نصب «فاره» حالا، لتعين أن يكون
«الحمار» خبر الاسم الإشارة فتكون الجملة الاسمية لا فائدة
فيها لأنك تخبر عن شىء مشاهد بنفسه.
(6) انظر فى التقريب عند الكوفيين الهمع 1/ 113
(7) كذا بالأصول، وقد يكون الأصل: ما لا يضرى من السباع فالأسد
ضار.
(1/12)
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ
غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
يرفعوا هذا «بالأسد» ، وخبره منتظر، فلما
شغل الأسد بمرافعة «1» «هذا» نصب فعله الذي كان يرافعه لخلوته
«2» . ومثله «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «3» فإذا أدخلت عليه
«كان» ارتفع بها والخبر منتظر يتم به الكلام فنصبته لخلوته.
وأما نصبهم فعل الواحد الذي لا نظير له مثل قولك: هذه الشمس
ضياءً للعباد، وهذا القمر نورًا فإن القمر واحد لا نظير له،
فكان أيضا عن قولك «هذا» مستغنيا ألا ترى أنك إذا قلت: طلع
القمر، لم يذهب الوهم إلى غائب فتحتاج أن تقول «هذا» لحضوره،
فارتفع بهذا ولم يكن نعتا، ونصبت خبره للحاجة إليه.
وقوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى
سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ... (7)
انقطع معنى الختم عند قوله: «وَعَلى سَمْعِهِمْ» . ورفعت
«الغشاوة» ب «عَلى» ، ولو نصبتها بإضمار «وجعل» لكان صوابا.
وزعم المفضَّل «4» أن عاصم بن أبي النَّجُود كان ينصبها، على
مثل قوله في الجاثية: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ
هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى
سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً» «5»
ومعناهما واحد، والله أعلم. وإنما يحسن الإضمار في الكلام الذي
يجتمع ويدل أوله على أخره كقولك: قد أصاب فلان المال، فبنى
الدور والعبيد والإماء واللباس الحسن فقد ترى البناء لا يقع
على العبيد والإماء ولا على الدواب ولا على الثياب، ولكنه من
صفات اليسار
__________
(1) «بمرافعة» كذا فى ش. وفى غيرها: «بمرافعه» . هذا ومذهب
الكوفيين ومنهم الفراء أنّ المبتدأ والخبر ترافعا يعنى أن
المبتدأ رفع الخبر والخبر رفع المبتدأ لأن كلا منهما طالب
للآخر ومحتاج إليه وبه صار عمدة. [.....]
(2) أي عدم اشتغاله بمرافع.
(3) «الله» مبتدأ و «غفور رحيم» خبران، فإذا دخل على الجملة
كان يكون لفظ الجلالة مرفوعا بها، وينصب ما بعده.
(4) هو المفضل الضبّىّ. كان من أكابر علماء الكوفة، توفى سنة
171 هـ.
(5) آية 23 من السورة المذكورة.
(1/13)
أُولَئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ
تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ
كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا
حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي
ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ
لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ
ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي
آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ
مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ
أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا
أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ
بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
فحسن الإضمار لمّا عرف. ومثله فى سورة
الواقعة: «يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ.
بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ» «1» ثم قال:
«وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا
يَشْتَهُونَ. وَحُورٌ عِينٌ» فخفض بعض القراء، ورفع بعضهم
الحور العين.
«2» قال الذين رفعوا: الحور العين لا يطاف بهن فرفعوا على معنى
قولهم: وعندهم حُورٌ عينٌ، أو مع ذلك حور عينٌ فقيل «3» :
الفاكهة واللحم لا يطاف بهما إنما يطاف بالخمر وحدها- والله
أعلم- ثم أُتبع آخر الكلام أوله. وهو كثير في كلام العرب
وأشعارهم، وأنشدني بعض بني أسد يصف فرسه:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وماءً باردًا ... حتَّى شَتَتْ هَمَّالةً
عَيْنَاهَا «4»
والكتاب أعرب وأقوى في الحجة من الشعر. وأمّا ما لا يحسن فيه
الضمير «5» لقلة اجتماعه، فقولك: قد أعتقت مباركا أمس وآخر
اليوم يا هذا وأنت تريد: واشتريت آخر اليوم لأن هذا مختلف لا
يعرف أنك أردت ابتعت. ولا يجوز أن تقول:
ضربت فلانا وفلانا وأنت تريد بالآخر: وقتلت فلانا لأنه ليس
هاهنا دليل.
ففي هذين الوجهين ما تعرف به ما ورد عليك إن شاء الله.
وقوله: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ ... (16)
ربما قال القائل: كيف تربح التجارة وإنما يربح الرجل التاجر؟
وذلك من كلام العرب: ربح بَيْعُك وخسر بيعُك، فحسن «6» القول
بذلك لأن الربح والخسران إنما يكونان في التجارة، فعلم معناه.
ومثله من كلام العرب: هذا ليل نائم. ومثله من كتاب الله:
«فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ» «7» وإنما العزيمة للرجال، ولا يجوز
الضمير «8»
__________
(1) آية 22 من السورة المذكورة.
(2) كذا فى أ. وفى ش، ج: «وقال» .
(3) هذا توجيه الخفض فى «حور عين» بالحمل على الفاكهة واللحم،
فقد خفضا مع أنهما لا يشتركان مع الأكواب فى الطواف بهما،
وإنما هو إتباع الآخر الأوّل على تقدير عامل مناسب، فليكن هذا
هنا.
(4) انظر الخزانة 1/ 499.
(5، 8) يريد بالضمير المحذوف.
(6) كذا فى أ، ب. وفى ش، ج: «وحسن» .
(7) آية 21 سورة محمد.
(1/14)
إلا في مثل هذا. فلو قال قائل: قد خسر عبدك
لم يجز ذلك، (إن كنت) «1» تريد أن تجعل العبد تجارةً يُربَح
فيه أو يُوضَع «2» لأنه قد يكون العبد تاجرا فيربح أو يُوضَع،
فلا يعلم معناه إذا ربح هو من معناه إذا كان مَتْجُورًا فيه.
فلو قال قائل: قد ربحت دراهمُك ودنانيرُك، وخسر بَزُّك ورقيقك
كان جائزا لدلالة بعضه على بعض.
وقوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ...
(17)
فإنما ضرب المثل- والله أعلم- للفعل لا لاعيان الرجال، وإنما
هو مَثَل للنفاق فقال: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ولم يقل:
الذين استوقدوا. وهو كما قال الله: «تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ
كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ» «3» . وقوله: «مَا
خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ» «4»
فالمعنى- والله أعلم-: إلا كبعث نفس واحدة ولو كان التشبيه
للرجال لكان مجموعا «5» كما قال: «كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ
مُسَنَّدَةٌ» «6» أراد الْقِيمَ «7» والأجسام، وقال:
«كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ» «8» فكان مجموعا إذ
«9» أراد تشبيه أعيان الرجال فأجْر الكلام على هذا. وإن جاءك
تشبيه جمع الرجال موحّدا فى شعر فأجْر الكلام على هذا. وإن
جاءك تشبيه جمع الرجال موحَّدا في شعر فأجِزْه. وإن جاءك
التشبيه للواحد مجموعا في شعر فهو «10» أيضا يراد به الفعل
فأجزه كقولك: ما فِعْلك إلا كفعل الحَمِير، وما أفعالكم إلا
كفعل الذِّئب فابنِ على «11» هذا، ثم تُلْقِي الفعلَ فتقول: ما
فعلك إلا كالحَميرِ وكالذئب.
وإنما قال الله عز وجل: «ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ» لأن
المعنى ذهب إلى المنافقين فجمع لذلك. ولو وُحِّد لكان صوابا
كقوله: «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. طَعامُ الْأَثِيمِ.
__________
(1) فى الأصول: «وإن كنت» وما أثبتناه أوفق.
(2) أوضع فى تجارته (بضم الهمزة) ، ووضع (كعنى وكوجل) خسر
فيها. وفى ج، ش: «تربح وتوضع» .
(3) آية 19 سورة الأحزاب. [.....]
(4) آية 28 سورة لقمان.
(5) العبارة فى ج، ش: «ولو كان التشبيه للرجال أراه لكان
مجموعا ... إلخ» .
(6) آية 4 سورة المنافقون.
(7) القيم (جمع قامة أو قيمة) : وهى قوام الإنسان وقدّه وحسن
طوله.
(8) آية 7 سورة الحاقة.
(9) فى الأصول: «إذا» والمقام للتعليل.
(10) كذا فى الأصول. والأنسب: «وهو» .
(11) فى ج، ش: «هذين» .
(1/15)
كَالْمُهْلِ تغلى فِي الْبُطُونِ» «1» و
«يَغْلِي» فمن أنّث ذهب إلى الشجرة، ومن ذَكَّر ذهب إلى المهل.
ومثله قوله عز وجل: «أَمَنَةً نُعاساً تغشى طائِفَةً مِنْكُمْ»
«2» للأمنة، و «يَغْشى» للنعاس.
وقوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) رفعن
وأسماؤهن «3» في أول الكلام منصوبة لأن الكلام تم وانقضت به
آية، ثم استؤنفت «صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ» في آية أخرى، فكان أقوى
للاستئناف، ولو تم الكلام ولم تكن آية لجاز أيضا الاستئناف قال
الله تبارك وتعالى: «جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً.
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ»
«4» «الرَّحْمنِ» يرفع ويخفض في الإعراب، وليس الذي قبله بآخر
آية. فأما ما جاء في رءوس الآيات مستأنفا فكثير من ذلك قول
الله: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ» إلى قوله: «وَذلِكَ هُوَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» «5» . ثم قال جل وجهه: «التَّائِبُونَ
الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ» بالرفع فى قراءتنا، وفي حرف ابن
مسعود «6» «التائبين العابدين الحامدين» . وقال: «أَتَدْعُونَ
بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ»
«7» . يُقرأ بالرفع والنصب على ما فسرت لك. وفي قراءة عبد
الله: «صُمًّا بُكْمًا عُمْيًا» بالنصب.
ونصبُه على جهتين إن شئت على معنى: تركهم صمًّا بكما عميا، وإن
شئت اكتفيت بأن توقع الترَك عليهم في الظلمات، ثم تستأنف
«صُمًّا» بالذمّ لهم.
والعرب تنصب بالذمّ وبالمدح لأن فيه مع الأسماء مثل معنى
قولهم: وَيْلا له، وَثَوَابًا له، وَبُعْدًا وسقيا ورعيا.
__________
(1) آية 43- 45 سورة الدخان.
(2) آية 154 سورة آل عمران.
(3) كأنه يريد الضمير المنصوب فى قوله: «وتركهم» وجعله أسماءهم
إذ كان ضميرا مجموعا، فكأنه عدّة ضمائر، كل ضمير اسم، أو أراد
بالمنصوبة غير المرفوعة.
(4) آية 37 سورة النبأ.
(5) آية 111 سورة التوبة.
(6) فى ج، ش: «وفى قراءة عبد الله» . [.....]
(7) آية 125- 126 سورة الصافات.
(1/16)
وقوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ ...
(19)
مردود على قوله: «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ
ناراً» . أَوْ كَصَيِّبٍ:
أو كمثل صيِّب، فاستُغني بذكر «الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً»
فطُرِح ما كان ينبغي أن يكون مع الصيب من الأسماء، ودل عليه
المعنى لأن المثل ضرب للنفاق، فقال:
فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ فشبه الظلمات «1» بكفرهم،
والبرق «2» إذا أضاء لهم فمشوا فيه بإيمانهم، والرعد ما أتى في
القرآن من التخويف. وقد قيل فيه وجه آخر قيل: إن الرعد إنما
ذُكِر مَثَلا لخوفهم من القتال إذا دُعُوا إليه. ألا ترى أنه
قد قال في موضع آخر: «يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ»
«3» أي يظنون أنهم أبدًا مغلوبون.
ثم قال: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ
الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ فنصب «حَذَرَ» على غير وقوعٍ من
الفعل عليه لم ترد يجعلونها حذرا، إنما هو كقولك: أعطيتك
خَوْفًا وفَرَقًا. فأنت لا تعطيه الخوف، وإنما تعطيه من أجل
الخوف فنصبه على التفسير ليس بالفعل، كقوله جل وعز:
«يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً» «4» . وكقوله: «ادْعُوا
رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً» «5» والمعرفة والنكرة
تفسِّران في هذا الموضع، وليس نصبه على طرح «مِنَ» . وهو «6»
مما قد يستدل به المبتدئ للتعليم.
وقوله: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ ... (20)
والقراء تقرأ «يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ» بنصب الياء والخاء
والتشديد. وبعضهم ينصب الياء ويخفض الخاء ويشدد الطاء فيقول:
«يَخْطَفُ» . وبعضهم يكسر
__________
(1، 2) الأولى عكس التشبيه، فالكفر مشبه بالظلمات، والإيمان
مشبه بالبرق.
(3) آية 4 سورة المنافقون.
(4) آية 90 سورة الأنبياء.
(5) آية 55 سورة الأعراف.
(6) يريد أنه قد يقرب المفعول لأجله للمبتدىء بما يصلح فيه
تقدير من.
(1/17)
الياء والخاء ويشدد فيقول: «يَخْطَفُ» .
وبعضٌ من قراء أهل المدينة يسكن الخاء والطاء فيجمع بين ساكنين
فيقول: «يَخْطَفُ» . فأما من قال: «يَخْطَفُ» فإنه نقل إعراب
التاء المدغمة إلى الخاء إذ كانت منجزمة. وأما من كسر الخاء
فإنه طلب كسرة الألف التي في اختطف والاختطاف وقد قال فيه بعض
النحويين: إنما كسرت الخاء لأنها سكنت وأُسكنت التاء بعدها
فالتقى ساكنان فخفضتَ الأوّل كما قال: اضربِ الرجل فخفضتَ
الباء لاستقبالها اللام.
وليس الذي قالوا بشيء لأن ذلك لو كان كما «1» قالوا لقالت
العرب في يَمُدّ:
يَمِدّ لأن الميم [كانت «2» ] ساكنة وسكنت الأولى من الدالين.
ولقالوا في يَعَضّ:
يَعِضّ. وأما من خفض الياء والخاء فإنه أيضا من طَلَبِه كسرة
الألف لأنها كانت في ابتداء الحرف مكسورة. وأما من جمع بين
الساكنين فإنه كمن بني على التبيان «3» إلا أنه إدغام خفيّ.
وفي قوله: «أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى» «4» وفى
قوله: «تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ» «5» مثل ذلك التفسير
إلا أن حمزة الزيات قد قرأ: «تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ
يَخِصِّمُونَ» بتسكين الخاء، فهذا معنى «6» سوى ذلك «7» وقوله:
كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ... (20)
فيه لغتان: يقال: أضاءَ القمر، وضاءَ القمر فمن قال ضاء القمرُ
قال:
يضوء ضَوءا. والضّوء فيه لغتان: ضم الضاد وفتحها.
يضوء ضَوءا والضّوء فيه لغتان، ضم الضاد وفتحها.
وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ فيه لغتان: أظلم الليل «8» وظلم.
__________
(1) فى ج، ش: «على ما» .
(2) ساقط من أ.
(3) يريد بالتبيان الإظهار وعدم الإدغام.
(4) آية 35 سورة يونس.
(5) آية 49 سورة يس.
(6) يريد أنه جاء فى معنى الغلبة أي يغلبون فى الجدل والخصومة.
يقال: خاصمت فلانا فخصمته، أخصمه، بالكسر فى المضارع، وهذا مما
شذ. والقياس الضم فى المضارع. وانظر اللسان (خصم) والطبري فى
تفسير الآية.
(7) ما بين النجمتين ساقط من ش، ج.
(8) الليل: ساقط من ش، ج. [.....]
(1/18)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ
مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ
تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
وقوله: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ
بِسَمْعِهِمْ ... (20)
المعنى «1» - والله أعلم-: ولو شاء الله لاذهب سمعهم. ومن شأن
العرب أن تقول «2» : أذهبت بصره بالألف إذا أسقطوا الباء. فإذا
أظهروا الباء أسقطوا الألف من «أذهبت» . وقد قرأ بعض القرّاء:
«يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ» «3» بضم الياء
والباء في الكلام. وقرأ بعضهم: «وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ
طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ» «4» . فترى- والله أعلم-
أن الذين ضموا على معنى الألف شبَّهوا دخول الباء وخروجها من
هذين الحرفين بقولهم: خذ بالخطام، وخذ الخطام، وتعلقت بزيد،
وتعلقت زيدا. فهو «5» كثير في الكلام والشعر، ولستُ أستحبُّ
ذلك «6» لقلَّته، ومنه «7» قوله: «آتِنا غَداءَنا» «8» المعنى-
والله أعلم- ايتنا بغدائنا فلما أسقطت الباء زادوا ألفا في
فعلت، ومنه قوله عز وجل:
«قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً» «9» المعنى- فيما
جاء «10» - ايتوني بِقطر أُفرِغ عليه، ومنه قوله: «فَأَجاءَهَا
الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ» «11» المعنى- والله أعلم-
فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة.
وقوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ... (23)
الهاء كناية عن القرآن فأتوا بسورة من مثل القرآن. وَادْعُوا
شُهَداءَكُمْ يريد آلهتكم. يقول: استغيثوا بهم وهو كقولك
للرجل: إذا لقيت العدو خاليا فادع المسلمين. ومعناه: فاستغث
واستعن «12» بالمسلمين.
__________
(1) فى ش، ج: «ومعناه» .
(2) فى ش، ج: «أن يقولوا» .
(3) آية 43 سورة النور. وهذه قراءة أبى جعفر.
(4) آية 20 سورة المؤمنون. وهذه قراءة ابن كثير وأبى عمرو.
(5) يريد المشبه به من قولهم: خذ بالخطام وما بعده.
(6) يريد الجمع بين صيغة الإفعال والباء.
وهو المشبه.
(7) رجوع لأصل الكلام فى قوله: «ومن شأن العرب ... » .
(8) آية 62 سورة الكهف.
(9) آية 96 سورة الكهف.
(10) «فيما جاء» : ساقط من ج، ش.
(11) آية 23 سورة مريم.
(12) «واستعن» : ساقطة من ج، ش.
(1/19)
إِنَّ اللَّهَ لَا
يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا
فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا
فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ
بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ
إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
وقوله: النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ... (24)
الناس وقودها والحجارة وقودها. وزعموا أنه كبريت يُحمى، وأنه
أشدّ الحجارة حرّا إذا أحميت. ثم قال: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ
يعنى النار «1» .
وقوله: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً اشتبه عليهم، فيما ذكر في
لونه «2» ، فإذا ذاقوه عرفوا أنه غير الذي كان قبله.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما
بَعُوضَةً فَما فَوْقَها ... (26)
فإن قال قائل: أين الكلام الذي هذا جوابه، فإنا لا نراه فى
سورة البقرة؟
فذكِر لنا «3» أن اليهود لما قال الله: «مَثَلُ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ
الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً» «4» قال أعداء الله: وما
هذا من الأمثال؟ وقالوا مثل ذلك عند إنزاله: «يا أَيُّهَا
النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً» - إلى
قوله- «ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ» «5» لذِكر الذباب
والعنكبوت فأنزل الله: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ
يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها. فالذى
«فَوْقَها» يريد أكبر منها، وهو العنكبوت والذباب. ولو جعلت في
مثله من الكلام «فَما فَوْقَها» تريد أصغر منها لجاز ذلك. ولست
أستحسنه «6» لأن البعوضة كأنها غاية في الصغر، فأحَبُّ إلىّ أن
أجعل «فَما فَوْقَها» أكبر
__________
(1) فى ج، ش: «وأنه أشدّ الحجارة حرا يحمى، فهى أشدّ الحجارة
حرا إذا أحميت. «وأتوا به متشابها» .
(2) فى ج، ش: «اشتبه عليهم، يريد على أهل الجنة فى لونه» .
[.....]
(3) فى ج، ش: «فى سورة البقرة أن اليهود» . وهذا جواب السؤال
السابق.
(4) آية 41 سورة العنكبوت.
(5) آية 73 سورة الحج.
(6) فى ج، ش: «أستحبه» .
(1/20)
منها. ألا ترى أنك تقول: يُعْطى من الزكاة
الخمسون فما دونها. والدرهم فَمَا فوقه فيضيق الكلام «1» أن
تقول: فوقه فيهما. أو دونه فيهما. وأما موضع حسنها في الكلام
فأن يقول القائل: إن فلانا لشريف، فيقول السامع: وفوق ذاك يريد
المدح. أو يقول: إنه لبخيل، فيقول الآخُر: وفوق ذاك، يريد
بكليهما معنى أكبر. فإذا عرفت أنت الرجل فقلت: دون ذلك فكأنّك
تحطّه عن غاية الشرف أو غاية البُخل. ألا ترى أنك إذا قلت: إنه
لبخيلٌ وفوق ذاك، تريد فوق البخل، وفوق ذاك، وفوق الشرف. وإذا
قلت: دون ذاك، فأنت رجلٌ عرفته فأنزلتَه قليلا عن دَرَجته. فلا
تقولنّ: وفوق ذاك، إلا في مدح أو ذمّ.
قال الفرّاء: وأما نصبهم «بَعُوضَةً» فيكون من ثلاثة أوجه:
أوّلها: أن تُوقع الضّرب على البعوضة، وتجعل «ما» صلة كقوله:
«عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ» «2» [يريد عن «3»
قليل] المعنى- والله أعلم- إن الله لا يستحيى أن يضرب بعوضة
فما فوقها مثلا.
والوجه الآخر: أن تجعل «ما» اسما، والبعوضة صلة «4» فتعرّبها
بتعريب «ما» . وذلك جائز فى «مِنْ» و «ما» لأنهما يكونان معرفة
في حال ونكرة في حال كما قال حسَّان بن ثابت:
فَكَفَى بِنا فَضْلا عَلَى مَنْ غَيْرِنا ... حُبُّ النَّبِيءِ
محمّد إيّانا «5»
__________
(1) فى ج، ش: «فيضيق الكلام هاهنا أن تقول» .
(2) آية 40 سورة المؤمنون.
(3) ساقط من أ.
(4) فى ج، ش: «صلة له» .
(5) نسب هذا البيت لغير حسان أيضا، ويرى النحاة أن «من» فى
البيت نكرة موصوفة، و «غيرنا» بالجرّ نعت لها، والتقدير على
قوم غيرنا. وقد روى «غيرنا» بالرفع على أن «من» اسم موصول و
«غير» خبر لمبتدإ محذوف «هو غيرنا» والجملة صلة.
وانظر الخزانة 2/ 545 وما بعدها.
(1/21)
[قال الفراء: ويروى:
... على مَنْ غَيْرُنا «1» ] والرفع فى «بَعُوضَةً» هاهنا
جائز، لأن الصلة تُرفَعُ، واسمها «2» منصوب ومخفوض.
وأما الوجه «3» الثالث- وهو أحبها إلي- فأن تجعل المعنى على:
إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها.
والعربُ إذا ألْقَتْ «بَيْنَ» من كلام تصلُح «إِلَى» في آخره
نصبوا الحرفين المخفوضين اللذين خفض أحدهما ب «بين» والآخر ب
«إلى» . فيقولون: مُطرْنا ما زُبالَةَ فالثّعْلبية «4» ، وله
عشرون ما ناقةً فجملا، وهي أحسن الناس ما قَرْنًا فقدَمًا «5»
. يراد به ما بين قرنها إلى قدمها.
ويجوز أن تجعل القرن «6» والقدم معرفة، فتقول: هي حسنةٌ ما
قرنها فقدمها.
فإذا لم تصلح «إلى» في أخر الكلام لم يجزْ سقوطُ «بين» من ذلك
أن تقول:
داري ما بَيْنَ الكوفة والمدينة. فلا يجوز أن تقول: داري ما
الكوفة فالمدينة لأن «إلى» إنما تصلح إذا كان ما بين المدينة
والكوفة كلُّه من دارك، كما كان المطر آخذا ما بين زُبالَة إلى
الثَّعلبية. ولا تصلح الفاء مكانَ الواو فيما لا تصلح فيه
«إلى» كقولك: دار فلان بَيْنَ الحيرة فالكوفة مُحالٌ. وجلست
بين عبد الله فزيدٍ محالٌ، إلا أن يكون مقعدُك آخذًا للفضاء
الذي بينهما. وإنما امتنعت الفاءُ من الذي «7» لا تصلح فيه
«إلى» لأن الفعل فيه لا يأتي فيتّصل، و «إلى»
__________
(1) ما بين المربعين ساقط من ج، ش.
(2) يريد باسم الصلة الموصول.
(3) انظر فى هذا الخزانة 4/ 399.
(4) زبالة (كشمامة) ، والثعلبية (بفتح أوّله) :
موضعان من منازل طريق مكة من الكوفة.
(5) يشار إلى البيت:
يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم ... ولا حبال محب واصل تصل
أراد ما بين قرنا فلما أسقط «بين» نصب «قرنا» على التمييز
لنسبة «أحسن» . [.....]
(6) فى ش: «مكان القرن» .
(7) ج، ش: « ... الفاء التي لا ... » .
(1/22)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
(28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ
سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
محتاج إلى اسمين يكون الفعل بينهما
كطَرْفةِ عَيْنٍ، وإن قَصُر قدرُ الذي بينهما مما يوجد «1» ،
فصلحت الفاءُ في «إلى» لأنك تقول: أخذ المطرُ أوَلَه فكذا وكذا
إلى آخره. فلما كان الفعل كثيرا شيئًا بعد شيء في المعنى كان
فيه تأويلٌ من الجزاء. ومثله أنهم قالوا: إن تأتني فأنت
مُحسنُ. ومحال أن تقول: إن تأتني وأنت محسن فرضُوا بالفاء
جوابا في الجزاء ولم تصلح الواو.
قال الكسائي: سمعت أعرابيا ورأى الهلال فقال: الحمد لله ما
إِهلالك إلى سَرارِك. يريد ما بين إِهلالِك إلى سرارك فجعلوا
النصب الذي كان يكون في «بَيْنَ» فيما بعده إذا سقطت ليُعلم أن
معنى «بَيْنَ» مُرادٌ. وحكى الكسائي عن بعض العرب: الشنق ما
خمسا إِلَى خمس وعشرين. يريد ما بين خمس إِلَى خمس وعشرين.
والشَّنَق: ما لم تجب فيه الفريضة من الإبل. والأوْقاصُ «2» في
البقر.
وقوله: مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ
كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ... (26)
كأنه قال- والله أعلم- ماذا أراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد
يضل به هذا ويهدي به هذا. قال الله: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا
الْفاسِقِينَ.
وقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً ...
(28)
على وجه التعجُّب والتوبيخ لا على الاستفهام المحض [أي «3» ]
وَيْحكم كيف تكفرون! وهو كقوله: «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ» «4» .
وقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ
__________
(1) فى ج، ش: «الذي بينهما فصلحت» .
(2) الأوقاص (جمع وقص بالتحريك) : ما بين الفريضتين مما لم تجب
فيه الزكاة كالشنق.
(3) زيادة يقتضيها السياق. (انظر تفسير الطبري ج 1 ص 149)
والعبارة فى ج، ش: « ...
المحض، وهو كقوله: فأين أي ويحكم كيف تذهبون» .
(4) آية 26 التكوير.
(1/23)
وَكُنْتُمْ أَمْواتاً. المعنى- والله أعلم-
وقد كنتم، ولولا إضمار «قد» لم يجز مثله في الكلام «1» . ألا
ترى أنه قد قال فى سورة يوسف: «إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ
دُبُرٍ فَكَذَبَتْ» «2» . المعنى- والله أعلم- فقد كَذَبتْ.
وقولك للرجل: أصبحت كَثُرَ مالُك، لا يجوز إلا وأنت تريدُ: قد
كَثُرَ مالُك لانهما جميعا قد كانا، فالثاني حال للأوّل،
والحالُ لا تكون إلا بإضمار «قد» أو بإظهارها ومثله في كتاب
الله:
«أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ» «3» يريد- والله
أعلم-[جاءوكم قد حصرت صدورهم «4» ] . وقد قرأ بعض القرّاء- وهو
الحسن البصري- «خصرة صدورهم» .
كأنه لم يعرف الوجه في «5» أصبح عبد الله قام أو أقبل أخذ شاة،
كأنه يريدُ فقد أخَذَ شاة. وإذا كان الأول لم يَمْضِ لم يجز
الثاني بقَدْ ولا بغير قد، مثل قولك: كاد قام، ولا أراد قام
لأن الإرادة شيء يكون ولا يكون الفعل، ولذلك كان محالا قولك:
عسى قام لأن عسى وإن كان لفظها على فَعَلَ فإنها لمستقبل «6» ،
فلا يجوز عسى قد قام، ولا عسى قام، ولا كاد قد قام، ولا كاد
قام لأن ما بعدهما لا يكون
__________
(1) جرى الفراء فى هذا على القاعدة المقررة عند الجمهور أن
الجملة الفعلية الماضوية المثبتة إذا وقعت حالا فلا بد من «قد»
ظاهرة أو مقدرة لتقربه من الحال نحو «وقد فصل لكم ما حرم
عليكم» ، «وقد بلغني الكبر» . فإن لم تكن ظاهرة قدرت نحو «أو
جاءوكم حصرت صدورهم» ، «هذه بضاعتنا ردت إلينا» وذلك أيضا قول
المبرد وأبى على الفارسي. قال أبو حيان: «والصحيح جواز وقوع
الماضي حالا بدون «قد» ولا يحتاج إلى تقديرها لكثرة ورود ذلك،
وتأويل الكثير ضعيف جدا لأنا إنما نبنى المقاييس العربية على
وجود الكثرة. وهذا مذهب الأخفش، ونقل عن الكوفيين، بل نقله
بعضهم عن الجمهور أيضا.
(2) آية 27 من السورة المذكورة.
(3) آية 90 سورة النساء.
(4) ما بين المربعين ساقط من أ.
(5) فى ج، ش «كأنه لم يعرف إجازة أصبح ... إلخ» .
(6) فى أ: «لمستقبل فيستقبل» .
(1/24)
ماضيا فإن جئت بيكون مع عسى وكاد صلح ذلك
فقلت: عسى أن يكون قد ذهب كما قال الله: «قُلْ عَسى أَنْ
يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ» «1» .
وقوله: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ يعني نُطَفا «2» ،
وكل ما فارق الجسد من شعر أو نُطْفة فهو ميتة والله أعلم.
يقول: فأحياكم من النُّطَف، ثُم يميتكم بعد الحياة، ثم يحييكم
للبعث.
وقوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ ... (29)
الاستواء في كلام العرب على جهتين: إحداهما أن يستوى الرجل [و]
«3» ينتهى شبابُه، أو يستوي عن اعْوِجاج، فهذان وجهان. ووجه
ثالث أن تقول: كان مقبلا على فلان ثم استوى على يُشاتمني وإلى
سَوَاءٍ «4» ، على معنى أَقْبَلَ إلى وعليّ فهذا معنى قوله:
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ والله أعلم. وقال «5» ابن عباس:
ثم استوى إلى السماء: صعِد، وهذا كقولك للرجل: كان قائما
فاستوى قاعدا، وكان قاعدا فاستوى قائما. وكلٌّ في كلام العرب
جائزٌ.
فأما قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ فإن
السماء في معنى جمع، فقال «فَسَوَّاهُنَّ» للمعنى المعروف
أنهنّ سبعُ سَمَوَاتٍ. وكذلك الأرض يقع عليها- وهى واحدة-
الجمع. ويقع عليهما التوحيدُ وهما مجموعتان، قال الله عز وجل:
«رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» «6» . ثم قال: «وَما
بَيْنَهُما» ولم يقل بينهن، فهذا دليل على ما (قلت «7» لك) .
__________
(1) آية 72 سورة النمل.
(2) فى ش: «يعنى النطف» . [.....]
(3) فى الأصول «أو» بدل الواو.
(4) فى ج، ش: «استوى علىّ وإلىّ يشاتمنى» وكذا فى اللسان.
(5) فى أ: «وقد قال» .
(6) آية 5 سورة والصافات.
(7) فى أ: (أخبرتك) .
(1/25)
وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ
فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ
صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا
مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)
قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا
أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ
مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا
إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ
(34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ
الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا
تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ
(35)
وقوله: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ
كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ ... (31)
فكان عَرَضَهُمْ «1» على مذهب شخوص العالمين «2» وسائر العالم،
ولو قُصِد قَصْد الأسماء بلا شخوص جاز فيه «عرضهنّ» و «عرضها»
. وهي في حرفِ عبد الله «ثم عرضهن» وفي حرف أبي «ثم عرضها» ،
فإذا قلت «عرضها» جاز أن تكون للأسماء دون الشخوص وللشخوص دون
الأسماء.
وقوله: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ ... (33)
إن همزت قلت أَنْبِئْهُمْ ولم يجز كسر الهاء والميم لأنها همزة
وليست بياء فتصير مثل «عليهم» . وإن ألقيت الهمزة فأثبت الياء
أو لم تثبتها جاز رفعُ «هُمْ» وكسرها على ما وصفت لك في
«عليهم» و «عليهم» .
وقوله: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا ... (35)
إن شئت جعلت فَتَكُونا جوابا نصبا، وإن شِئتَ عطفتَه على أول
الكلام فكان جزْما مثل قول امرئ القيس:
فقلتُ له صَوِّبْ ولا تجهدنه ... فيذرك من أخرى القطاة فتزلق
«3»
__________
(1) «عرضهم» : ساقط من ج، ش.
(2) فى أ: «الآدميين» .
(3) من قصيدته التي أولها:
ألا أنعم صباحا أيها الربع وانطق وحدّث حديث الركب إن شئت
واصدق
والضمير فى «له» يعود للغلام المذكور فى بيت قبله. وانظر ديوان
امرئ القيس برواية الطوسي المخطوط بالدار. ووقع فى سيبويه 1/
452 نسبته الى عمرو بن عمار الطائي. ويقال: صوب الفرس أرسله فى
الجري. وجهد دابته «كمنع» وأجهدها: بلغ جهدها وحمل عليها فى
السير فوق طاقتها.
وأذرت الدابة راكبها: صرعته، وطعنه فأذراه عن فرسه أي صرعه.
والقطاة: العجز أو ما بين الوركين، أو مقعد الرديف من الدابة
خلف الفارس. وزلق كفرح ونصر: زل وسقط. ويروى الشطر الثاني:
فيذرك من أعلى القطاة فتزلق
(1/26)
فجزم. ومعنى الجزم كأنه تكرير النهى، كقول
القائل: لا تذهب ولا تعرض لأحد. ومعنى الجواب والنصب لا تفعل
هذا فيُفعلَ بك مجازاةً، فلما عُطف حرفُ على غير ما يشاكله
وكان في أوله حادثٌ لا يصلح في الثاني نُصِبَ. ومثله قوله:
«وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي» «1» و
«لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ
بِعَذابٍ» «2» و «فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها
كَالْمُعَلَّقَةِ» «3» . وما كان من نفي ففيه ما في هذا، ولا
يجوز الرفع في واحد من الوجهين إلا أن تريد الاستئناف بخلاف
المعنيين كقولك للرجل: لا تركب إلى فلان فيركبُ إليك تريد لا
تركب إليه فإنه سيركب إليك، فهذا مخالف للمعنيين لأنه استئناف،
وقد قال الشاعر:
أَلَمْ تَسْألِ الَّرْبعَ الْقَدِيمَ فَيَنْطِقُ ... وَهَلْ
تُخْبِرَنْكَ الْيَوْمَ بَيْدَاءَ سَمْلَقُ «4»
أراد: ألم تسأل الربع فإنه يخبرك عن أهله، ثم رجع إلى نفسه
فأكذبها، كما قال زهير بن أبي سُلْمَى المُزَنيّ:
قِفْ بِالدِّيَارِ التي لَمْ يَعْفُها الْقِدَمُ ... بَلَى
وغَيَّرها الأرْواحُ والدِّيَمُ
فأكذب نفسه. وأما قوله: «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ» «5» فإنّ جوابه قوله:
«فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ» والفاء التي فى قوله:
«فَتَطْرُدَهُمْ»
__________
(1) آية 81 سورة طه.
(2) آية 61 سورة طه.
(3) آية 129 سورة النساء.
(4) البيت مطلع قصيدة لجميل بن معمر العذرى، ويروى صدره:
ألم تسأل الربع القواء فينطق والقواء: القفر الذي لا ينبت.
والبيداء: القفر الذي يبيد من سلكه أي يهلكه. والسملق: الأرض
التي لا تنبت شيئا أو السهلة المستوية الخالية. وانظر الخزانة
3/ 601
(5) آية 52 سورة الأنعام.
(1/27)
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ
رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ
الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ
وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا
لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا
تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ
(41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا
الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
جواب لقوله: «مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ
مِنْ شَيْءٍ» ففى قوله: «فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ» الجزم
والنصب على ما فسرت لك، وليس في قوله: «فَتَطْرُدَهُمْ» إلا
النصب، لأن الفاء فيها مردودة على محلٍّ وهو قوله: «مَا
عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ» و «عَلَيْكَ» لا تشاكل الفعل، فإذا
كان ما قبل الفاء اسما لا فعل فيه، أو محلا مثل قوله: «عندك
وعليك وخلفك» ، أو كان فعلا ماضيا مثل: «قام وقعد» لم يكن في
الجواب بالفاء إلا النصب. وجاز في قوله:
فَيُذْرِكَ مِنْ أُخْرى الْقَطَاةِ فَتَزْلِقُ لان الذي قبل
الفاء يفعل والذي بعدها يفعل، وهذا مشاكل بعضه لبعض لأنه فعل
مستقبل فيصلح أن يقع على أخره ما يقع على أوله، وعلى أوله ما
يقع على أخره لأنه فعل مستقبل «1» .
وقوله: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ ... (37)
ف آدَمُ مرفوع والكلمات في موضع نصب. وقد قرأ بعض القراء:
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فجعل الفعل للكلمات،
والمعنى- والله أعلم- واحد لأن ما لقيك فقد لقينه، وما نالك
فقد نلته. وفي قراءتنا: «لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «2»
وفي حرف عبد الله: «لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمون» .
وقوله: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ [الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ
«3» ] ... (40)
المعنى لا تنسوا نعمتي، لتكن منكم على ذُكْر، وكذلك كل ما جاء
من ذكر النعمة فإن معناه- والله أعلم- على هذا: فاحفظوا ولا
تَنْسَوْا. وفي حرف عبد الله:
__________
(1) «لأنه فعل مستقبل» ساقط من ج، ش. [.....]
(2) آية 124 سورة البقرة.
(3) زيادة فى أ.
(1/28)
«ادَّكروا» «1» . وفي موضع آخر: «2» :
«وَتَذَكروا ما فيه» . ومثله في الكلام أن تقول: اذكُرْ مَكاني
مِنْ أبيك» .
وأما نصب الياء من «نِعْمَتِيَ» فإن كل ياء كانت من المتكلم
ففيها لغتان:
الإرسالُ والسكون، والفتح، فإذا لَقيتها ألفٌ ولام، اختارت
العربُ اللغة التي حركت فيها الياء وكرِهوا الأخرى لأن اللام
ساكنة فتسقط الياء عندها لسكونها، فاستقبحوا أن يقولوا: نعمتي
«3» الّتي، فتكون كأنها مخفوضة على غير إضافة، فأخذوا بأوثق
الوجهين وأبينهما. وقد يجوز إسكانها عند الألف واللام وقد قال
اللَّه:
«يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» «4»
فقرئت بإرسال الياء ونصبها، وكذلك ما كان فِي القرآن مما فِيهِ
ياء ثابتة ففيه الوجهان، وما لم تكن فيه الياء لم تنصب.
وأمَّا قوله: «فَبَشِّرْ عِبادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ
الْقَوْلَ» «5» . فإن هذه بغير ياء، فلا تنصب ياؤها وهي محذوفة
وعلى هذا يقاس كل ما فِي القرآن منه. وقوله: «فَما آتانِيَ
اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ» «6» زعم الكسائي أن العرب
تستحب نصب الياء عند كل ألف مهموزة سوى الألف واللام، مثل
قوله: «إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» «7» و «إِنِّي
أَخافُ اللَّهَ» «8» . ولم أر ذلك عند العرب رايتهم يرسلون
الياء فيقولون: عندي أبوك، ولا يقولون: عندي أَبُوك بتحريك
الياء إلا أن يتركوا الهمز فيجعلوا الفتحة فِي الياء فِي هذا
ومثله. وأما قولهم: لِيَ ألفان، وَبِي أخواك كفيلان،
__________
(1) ذكر هذه القراءة البيضاوي ولم ينسبها. ونسبها ابن خالويه
إلى يحيى بن وثاب.
(2) «فى موضع آخر» : ساقط من ج، ش، وهو يشير إلى قراءة ابن
مسعود فى آية 63 سورة البقرة: «واذكروا ما فيه لعلكم تتقون» .
(3) رسم فى أ: «نعمت» تحقيقا لحذف الياء فى اللفظ.
(4) آية 53 سورة الزمر.
(5) آية 17، 18 سورة الزمر.
(6) آية 36 سورة النمل.
(7) آية 72 سورة يونس.
(8) آية 48 سورة الأنفال، وآية 16 سورة الحشر. وفتح الياء
قراءة نافع.
(1/29)
فإنهم ينصبون فِي هذين لقلتهما «1» ،
[فيقولون: بي أخواك، ولي ألفان، لقلتهما «2» ] والقياس فيهما
وفيما قبلهما واحد.
وقوله: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا ... (41)
وكل ما كان فِي القرآن من هذا قد نُصِبَ فِيهِ الثَّمَنُ
وأدخلت الباء فِي المبيع أو المشترى، فإن ذلك أكثر ما يأتي فِي
الشيئين لا يكونان ثَمَنًا معلوما مثل الدنانير والدراهم فمن
ذلك: اشتريتُ ثوبا بكساء أيَّهما شئتَ تجعله ثَمَنًا لصاحبه
لأنه ليس من الأثمان، وما كان ليس من الأثمان مثل الرقيق
والدور وجميع العروض فهو على هذا. فإن جئت إلى الدراهم
والدنانير وضعت الباء فى الثّمن، كما قال فى سورة يوسف:
«وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ» «3» لأن
الدراهم ثمنٌ أبدا، والباء إنما تدخل فِي الأثمان، فذلك قوله:
«اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا» «4» ،
«اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ» «5» ، [اشتروا
الضلالة بالهدى «6» ] «وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ» «7» ،
فأدخل الباء فِي أي هذين شئت حَتَّى تصير إلى الدنانير
والدراهم فإنك تُدخل الباء فيهن مع العُروض، فإذا اشتريت
أحدهما [يعني الدنانير والدراهم] «8» بصاحبه أدخلت الباء فِي
أيهما شئت لأن كل واحد منهما فِي هذا الموضع بيعٌ «9» وثمنٌ،
فإن أحببت أن تعرف فرق ما بين العُروض وبين الدراهم، فإنك تعلم
أن من اشترى عَبْدا بألف درهم معلومة، ثُمَّ وجد به عيبا فرده
لم يكن له على البائع «10» أن يأخذ ألفه بعينه، ولكن ألفا. ولو
اشترى عَبْدا بجارية ثُمَّ وجد به عيبا لم يرجع بجارية أخرى
مثلها، فذلك دليل على أن العُروض ليست بأثمان.
__________
(1) أي لقلة (لى) و (بي) فكلاهما حرفان، فلو سكنت الياء خفيت
فتبدو الكلمتان كأنهما حرف واحد.
(2) ما بين المربعين ساقط من أ.
(3) آية 20 من السورة المذكورة.
(4) آية 9 سورة التوبة. [.....]
(5) الآية 86 من البقرة.
(6) زيادة خلت منها الأصول.
(7) الآية 175 من البقرة.
(8) ساقط من أ.
(9) يراد بالبيع المبيع.
(10) فى الأصول «المشترى» والتصويب وجد بهامش نسخة (أ) .
(1/30)
وقوله: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ
لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ
إِلى حِينٍ «1» (36) فإنه خاطب آدم وامرأته، ويقال أيضا: آدم
وإبليس، وقال: «اهْبِطُوا» يعنيه ويعني ذريته، فكأنه خاطبهم.
وهو كقوله: «فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ
كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» «2» . المعنى- والله أعلم-
أَتَيْنا بما فينا من الخلق طائعين. ومثله قول إِبْرَاهِيم:
«رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ» . ثم قال:
«وَأَرِنا مَناسِكَنا» «3» وفي قراءة عَبْد اللَّه «وأرهم
مناسكهم» فجمع قبل أن تكون ذريته. فهذا ومثله فِي الكلام مما
تتبين به المعنى أن تقول للرجل: قد تزوّجت وولد لك فكثرتم
وعززتم.
وقوله: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ
شَيْئاً ... (48)
فإنه قد يعود على اليوم والليلة ذِكْرُهما مرة بالهاء وحدها
ومرة بالصفة فيجوز ذلك «4» كقولك: لا تجزى نفس عن نفس شيئًا
وتضمر الصفة، ثم
__________
(1) يلاحظ أن هذه الآية ليست فى موضعها من الترتيب والأصول
كلها على هذا الوضع.
(2) آية 11 سورة فصلت.
(3) آية 128 سورة البقرة.
(4) مراده بالصفة حرف الجر كما هو اصطلاح الكوفيين، وهو هنا
(فى) المتصل بالضمير العائد على اليوم (فيه) فحذف الجار
والمجرور لأن الظروف يتسع فيها ما لا يتسع فى غيرها. والحذف
هنا فيه خلاف بين النحويين، قال البصريون: التقدير «واتقوا
يوما لا تجزى فِيهِ نفس عن نفس شيئا» ثم حذف فيه كما قال:
ويوما شهدناه سليما وعامرا قليلا سوى طعن النهال نوافله
أي شهدنا فيه.
وقال الكسائي: هذا خطأ لا يجوز (فيه) والتقدير «واتقوا يوما لا
تجزيه نفس» ، ثم حذف الضمير المنصوب، وإنما يجوز حذف الهاء لأن
الظروف عنده لا يجوز حذفها، قال: لا يجوز هذا رجل قصدت، ولا
رأيت رجلا أرغب، وأنت تريد قصدت إليه وأرغب فيه. قال: ولو جاز
ذلك لجاز (الذي تكلمت زيد) بمعنى تكلمت فيه.
وقال الفراء: يجوز حذف (الهاء) و (فيه) ، وحكى جواز الوجهين عن
سيبويه والأخفش والزجاج.
(1/31)
تظهرها فتقول: لا تجزى فِيهِ نفس عن نفس
شيئا. وكان الكسائي لا يجيز إضمار الصفة فِي الصلات ويقول: لو
أجزت إضمار الصفة هاهنا لأجزت: أنت الَّذِي تكلمتُ وأنا أريد
الَّذِي تكلمتُ فِيهِ. وقال غيره من أهل البصرة: لا نجيز الهاء
ولا تكون، وإنما يضمر فِي مثل هذا الموضع الصفة. وقد أنشدني
بعض العرب:
يا رُبَّ يَوْم لو تَنَزّاهُ «1» حول ... أَلْفَيْتَني ذا عنزٍ
وذا طول
وأنشدني آخر:
قد صَبَّحت «2» صبَّحها السلامُ ... بِكَبِدٍ خالَطها سَنامُ
فِي ساعة يُحَبُّها الطعامُ ولم يقل يُحَبّ فيها. وليس يدخل
على الكسائي ما أدخل على نفسه لأن الصفة فِي هذا الموضع والهاء
متفق معناهما، ألا ترى أنك تقول: آتيك يوم الخميس، وفي يوم
الخميس، فترى المعنى واحدا، وإذا قلت: كلمتُك كان غير كلّمتُ
فيك، فلما اختلف المعنى لم يجز إضمار الهاء مكان «فِي» ولا
إضمار «فِي» مكان الهاء.
وقوله: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ ... «3» (41)
فوحد الكافر وقبله جمعٌ وذلك من كلام العرب فصيحٌ جيدٌ فِي
الاسم إذا كان مشتقًّا من فِعْل، مثل الفاعل والمفعول يرادُ به
ولا تكونوا أول من يكفر فتحذف «من» ويقوم الفعل مقامها فيؤدي
الفعلُ عن مثل
__________
(1) فى ج، ش: «تذراه» ولم نعثر على هذا البيت فيما لدينا من
مراجع.
(2) صبحت أنت بالتصبيح يريد به الغداء مجازا، من قولهم: صبح
القوم وصبحهم سقاهم الصبوح، وهو ما يشرب صباحا من لبن أو خمر.
(3) هذه الآية ليست على الترتيب وكذا ما بعدها.
(1/32)
ما أدّت «من» عَنْهُ من التأنيث والجمع وهو
فِي لفظ توحيدٍ. ولا يجوز فِي مثله من الكلام أن تقول: أنتم
أفضلُ رجلٍ، ولا أنتما خير رَجُل لأن الرجل يثنى ويجُمع ويُفرد
[فُيعَرف «1» ] واحدُه من جمعه، والقائم قد يكون لشيء ولمن
فيؤدي عَنْهُمَا وهو موحَّد ألا ترى أنك قد تقول: الجيْشُ
مقبلٌ والجُنْد منهزمٌ، فتوحِّد الفعل لتوحيده، فإذا صرت إلى
الأسماء قلت: الجيش رجالٌ والجند رجالٌ ففي هذا تبيان «2» وقد
قال الشاعر:
وإذا هُمُ طَعِمُوا فَأَلامُ طاعِمٍ ... وإذا هُمُ جاعُوا
فشَرُّ جِيَاعِ «3»
فجمعه وتوحيده جائز حسنٌ.
وقوله: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا
الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) إن شئت جعلت
«وَتَكْتُمُوا» فِي موضع جزم تريد به: ولا تلبسوا الحق بالباطل
ولا تكتموا الحق، فتُلقي «لا» لمجيئها فِي أول الكلام. وفي
قراءة أَبي:
«ولا تكونوا أوّل كافر به وتشتروا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا»
فهذا دليلٌ على أن الجزم فى قوله: «وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ»
مستقيم صوابٌ، ومثله: «وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ»
«4» وكذلك قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا
اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ» «5» وإن شئت جعلت هذه الأحرُفَ المعطوفة بالواو
نصبًا على ما يقولُ النحويّون من الصَّرْف فإن قلت: وما
الصّرف؟
__________
(1) ساقط من أ. [.....]
(2) راجع تفسير الطبري ج 1 ص 199 طبع بولاق فى هذا البيان
فعبارته أوضح.
(3) من ثلاثة أبيات فى نوادر أبى زيد 152، نسبها إلى رجل
جاهلىّ.
(4) آية 188 سورة البقرة.
(5) آية 27 سورة الأنفال.
(1/33)
قلت: أن تأتي بالواو «1» معطوفةً على كلامٍ
فى أوّله حادثة لا تستقيم إعادتُها على ما عُطِف عليها، فإذا
كان كذلك فهو الصَّرْفُ «2» كقول الشاعر «3» :
لا تَنْهَ عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فَعلتَ عظِيمُ
ألا ترى أنه لا يجوز إعادة «لا» فِي «تأتي مثله» فلذلك سُمّي
صَرْفًا إذْ كان «4» مَعطوفًا ولم يستقم أن يُعاد فِيهِ الحادث
الَّذِي قبله. ومثله من الأسماء التي نصبتها العربُ وهي معطوفة
على مرفوع قولهم: لو تُركت والأسد لأكلك، ولو خُلِّيت ورأيَك
لَضَلَلْتَ: لمَّا لم يحسن فِي الثاني أن تقول: لو تُركت وتُرك
رأيُك لضللت تهبّيوا أن يعطِفوا حرفًا لا يستَقيمُ فِيهِ ما
حَدَثَ فِي الَّذِي قبله. قال «5» : فإنّ العرب تجيزُ الرفع لو
تُرك عَبْد الله والأسد لأكله، فهل «6» يجوز فِي الأفاعيل «7»
الّتي نصبت بالواو على الصرف أن تكون مردودة على ما قبلها
وفيها معنى الصرف؟ قلت: نعم العرب تقول: لستُ لابي إِنْ لم
أقتلك أو تذهب نفسي، ويقولون: والله لاضربنك أو تسبقني فِي
الأرض، فهذا مردودٌ على أول الكلام، ومعناه الصرف لأنه لا يجوز
على الثاني إعادة الجزم بِلَمْ، ولا إعادة اليمين على والله
لتسبقني، فتجد ذلك إذا امتحنت الكلام. والصرف فِي غير «لا»
كثير إلا أنا أخّرنا ذكره حتى تأتى مواضعه.
__________
(1) فى ش، ج: «الواو» .
(2) يسمى الكوفيون هذه الواو (واو الصرف) إرشاد بصرفه عن سنن
الكلام إلى أنها غير عاطفة، وشرط هذه الواو أن يتقدمها نفى أو
طلب.
(3) نسبه سيبويه فى كتابه 1/ 424 (باب الواو) للأخطل. ويروى
لأبى الأسود الدؤلي فى قصيدة طويلة.
(4) فى أ: «كان به» .
(5) كأن الأصل: «قال قائل» .
(6) فى ش، ج: «وهل» .
(7) الأفاعيل جمع أفعال جمع فعل، عبر به إشارة إلى كثرة الوارد
منه.
(1/34)
وقوله: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً
فَادَّارَأْتُمْ فِيها ... «1» (72)
وقوله: «وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» «وَإِذْ
فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ» «2» يقول القائل: وأين جواب «إِذْ»
وعلام عُطِفت؟ ومثلها «3» فى القرآن كثير بالواو ولا جواب معها
ظاهر؟ والمعنى- والله أعلم- على إضمار «وَاذْكُرُوا إِذْ
أَنْتُمْ» أو «إذ كنتم» فاجتزئ بقوله: «اذْكُرُوا» فِي أول
الكلام، ثُمَّ جاءت «إِذْ» بالواو مردودةً على ذلك. ومثله من
غير «إِذْ» قول اللَّه: «وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً» «4»
وليس قبله شيءٌ تراه ناصبًا لصالح فعُلم بذكر النَّبِيّ صلى
اللَّه عليه وسلم والمُرسَل إليه أن فِيهِ إضمار أرسلنا، ومثله
قوله: «وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ» «5» «وَذَا النُّونِ
إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً» «6» «وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ
لِقَوْمِهِ» «7» يجرى هذا على مثل ما قال فِي «ص» : «وَاذْكُرْ
عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ» «8» ثُمَّ ذكر الأنبياء
الذين من بعدهم بغير «وَاذْكُرْ» لأن معناهم مُتّفق معروفٌ،
فجاز ذلك. ويستدل على أن «واذكروا» مضمرة مع «إِذْ» أنه قال:
«وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي
الْأَرْضِ» «9» «وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا
فَكَثَّرَكُمْ» «10» فلو لم تكن هاهنا «وَاذْكُرُوا»
لاستدْلَلت على أنها تُراد لانّها قد ذُكرت قبلَ ذلك. ولا
يجوزُ مثلُ ذلك فِي الكلام بسقوط الواو إلا أن يكون معه جوابه
متقدمًا أو متأخِّرا كقولك: ذكرتُك إذ احتجت إليك «11» أو إذ
احتجت ذكرتك.
__________
(1) كذا فى الأصل، ويلاحظ أن هذه الآية على غير ترتيب.
(2) آية 50 سورة البقرة.
(3) فى ش، ج «منها» . [.....]
(4) آية 73 سورة الأعراف.
(5) آية 76 سورة الأنبياء.
(6) آية 87 من سورة الأنبياء.
(7) آية 16 سورة العنكبوت.
(8) آية 45 من السورة المذكورة.
(9) آية 26 سورة الأنفال.
(10) آية 86 سورة الأعراف.
(11) «إليك أو إذ احتجت» : ساقط من ج، ش.
(1/35)
وَإِذْ فَرَقْنَا
بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ
فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا
مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ
مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا
عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)
وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ (53)
وقوله: فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ
فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) يقال: قد كانوا فِي
شُغل من أن ينظروا، مستورين بما اكتنفهم من البحر أن يروا
فرعون وغرفة، ولكنه فِي الكلام كقولك: قد ضُرِبتَ وأهلك
يَنْظُرون فما أتَوْك ولا أغاثوك يقول: فهم قريبٌ بمرأى ومسمع.
ومثله فِي القرآن: «أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ
الظِّلَّ» «1» ، وليس هاهنا رؤيةٌ إنما هُوَ علمٌ، فرأيت يكونُ
على مذهبين: رؤية العلم ورؤية العين كما تقول: رأيتُ فرعون
أعتى الخلق وأخْبَثَه، ولم تره إِنما هُوَ بلغك «2» ففي هذا
بيانٌ.
وقوله: «وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ... (51)
ثُمَّ «3» قال فِي موضع أخر: «وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ
لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ «4» فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» ، فيقول القائل: كيف ذكر الثلاثين
وأتمها بالعشر «5» والأربعون «6» قد تكمل بعشرين وعشرين، أو
خمسةٍ وعشرين وخمسة عشر؟ قيل:
كان ذلك- والله أعلم- أن الثلاثين كانت عدد شهر، فذكرت
الثلاثون منفصلة لمكان الشهر وأنها ذو القعدة وأتممناها بعشر
من ذي الحجة، كذلك قال المفسرون.
ولهذه القصة خصت العشر والثلاثون بالانفصال.
وقوله: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
__________
(1) آية 45 سورة الفرقان.
(2) العبارة فى ج، ش: «ولم تره ونظرت. هذا بيان» ووجد بهامش
نسخة أبعد قوله: بلغك «ونظرت إلى ... ولم تأت إنما هو العلم» .
وفى موضع النقط كلمة غير واضحة، قد تكون: منزلك.
(3) فى أ: «و» .
(4) آية 142 سورة الأعراف.
(5) فى أ: «بعشر» .
(6) فى ش، ج: «أربعون» . [.....]
(1/36)
وَظَلَّلْنَا
عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ
وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا
ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا
حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا
وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ
الْمُحْسِنِينَ (58)
ففيه وجهان:
أحدهما- أن يكون أراد وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعنى
التوراة، ومحمدا صلى اللَّه عليه وسلم الْفُرْقانَ،
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وقوله: «وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى
الْكِتابَ» كأنه خاطبهم فقال: قد آتيناكم علم مُوسَى ومحمد
عليهما السلام «لعلكم تهتدون» لأن التوراة أنزلت جملةً ولم
تنزل مُفرقة كما فُرق القرآن فهذا وجه.
والوجه الآخر- أن تجعل التوراة هدًى والفرقان كمثله، فيكون:
ولقد آتينا موسى الهدى كما آتينا محمّدا صلى اللَّه عليه وسلم
الهدى. وَكُلُّ ما جاءت به الأنبياء فهو هُدًى ونورٌ. «1» وإن
العرب لتجمع بين الحرفين وإنهما لواحِد إذا اختلف لفظاهما «2»
كما قال عدي بْن زَيْدُ:
وقدمت «3» الأديم لراهشيه ... وأَلْفَى قَوْلها كذِبًا
ومَيْنَا
وقولهم «4» : بعدا وسحقا، والبعد والسحق واحد، فهذا وجه آخر.
وقال بعض المفسّرين: الكتاب التّوراة، والفرقان انفراق البحر
لبنى إسرائيل. وقال بعضهم:
الفرقان الحلال والحرام الَّذِي فى التّوراة.
وقوله: الْمَنَّ وَالسَّلْوى ... (57)
بلغنا أن المنّ هذا «5» هذا الّذى يسقط على الثّمام «6»
والعشر، وهو حلو كالعسل وكان بعض المفسرين يسميه الترنجبين «7»
الَّذِي نعرف. وبلغنا أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلّم
__________
(1) يبدو أن هنا سقطا، وأن الأصل كما يؤخذ من إعراب القرآن
للنخاس: «ويجوز أن يكون الفرقان هو الكتاب، أعيد ذكره تأكيدا»
وانظر القرطبي 1/ 399.
(2) فى ش، ج: لفظهما» .
(3) كذا فى الأصول. والرواية المشهورة «وقددت» بمعنى شقت
وقطعت، والراهشان عرقان فى باطن الذراعين.
(4) فى أ: «قوله» .
(5) سقط فى أ.
(6) الثمام: نبت ضعيف له خوص أو شبيه بالخوص. والعشر: شجر من
العضاه كبار الشجر وله صمغ حلو.
(7) الترنجبين: تأويله عسل الندى، وهو طلى يقع من السماء ندى
شبيه بالعسل جامد متحبب يقع على بعض الأشجار بالشام وخراسان.
(1/37)
قال: (الكمأة «1» من المن وماؤها شفاء
للعين) . وأما السَّلْوَى فطائِر كان يسقط عليهم لما أَجَموا
«2» المنّ شبيهٌ بهذه السماني، ولا واحد للسّلوى.
وقوله: وَقُولُوا حِطَّةٌ ... (58)
يقول- والله أعلم- قولوا: ما أمرتم به أي هى حطة فحالفوا إلى
كلام بالنبطية، فذلك قوله: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ.
وبلغني أن ابن عَبَّاس قال: أمروا أن يقولوا: نستغفر اللَّه
فإن يك كذلك فينبغي أن تكون «حِطَّةٌ» منصوبة فِي القراءة «3»
لأنك تقول: قلت لا إله إلا اللَّه، فيقول القائل: قلت كلمة
صالحة، وإنما تكون الحكاية إذا صلح قبلها إضمارُ ما يرفع أو
يخفض أو ينصب، فإذا ضممت ذلك كله فجعلته كلمة كان منصوبا
بالقول كقولك: مررت بزيد، ثُمَّ تجعل هَذِهِ كلمةً فتقول: قلت
كلاما حسنا ثُمَّ تقول:
قلت زَيْد قائم، فيقول: قلت كلاما «4» . وتقول: قد ضربت عمرا،
فيقول أيضا:
قلت كلمة صالحة.
فأما قول اللَّه تبارك وتعالى: «سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ
رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ» «5» إلى آخر ما ذكر من العدد فهو رفع
لأن قبله ضمير أسمائهم سيقولون: هَم ثلاثة، إلى آخر الآية.
وقوله: «وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ»
«6» رفع أي قولوا: اللَّه واحدٌ، ولا تقولوا
__________
(1) هذا الحديث رواه الشيخان وغيرهما. وانظر الجامع الصغير فى
حرف الكاف.
(2) أجم الطعام واللبن وغيرهما: كرهه ومله من المداومة عليه.
(3) النصب على وجهين أحدهما- إعمال الفعل فيها وهو «قولوا» أي
قولوا كلمة تحط عنكم أو زاركم. والثاني- أن تنسب على المصدر
بمعنى الدعاء والمسألة أي حط اللهم أوزارنا وذنوبنا حطة.
وبالنصب قرأ ابن أبى عبلة وطاوس اليماني. والقراءة العامة
بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أي مسئلتنا حطة، أو أمرك حطة
قال النيسابورى: وأصله النصب، ومعناه اللهم حط عنا ذنوبنا
فرفعت لإفادة الثبوت.
(4) ما بين النجمتين ساقط من ج، ش.
(5) آية 22 سورة الكهف.
(6) آية 171 سورة النساء.
(1/38)
الآلهة ثلاثةٌ. وقوله: «قالُوا مَعْذِرَةً
إِلى رَبِّكُمْ» «1» ففيها وجهان: إن أردت: ذلك الَّذِي
قُلْنَا معذرة إلى ربكم رفعت، وهو الوجه. وإن أردت: قُلْنَا ما
قُلْنَا معذرة إلى اللَّه فهذا وجهُ نصب «2» . وأما قوله:
«وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا» «3» فإن العرب لا تقوله
إلا رفعًا وذلك أن القوم يؤمرون بالأمر يكرهونه فيقول أحدهم:
سمعٌ وطاعةٌ، أي قد دخلنا أول هذا الدين على أن نسمع ونُطيعَ
فيقولون: علينا ما ابتدأناكم به، ثُمَّ يخرجون فيخالفون، كما
قال عز وجل:
«فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ [بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ
غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ] » [أي] فإذا خرجوا من عندك بدلوا «4»
. ولو أردت فِي مثله من الكلام: أي نطيع، فتكون «5» الطاعة
جوابا للأمر بعينه جازَ النصبُ، لأن كل مصدر وقع موقع فعل
ويفعل جاز نصبهُ، كما قال اللَّه تبارك وتعالى: «مَعاذَ
اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ» «6» [معناه والله أعلم:
نعوذ بالله أن نأخذ] . ومثله فِي النور: «قُلْ لا تُقْسِمُوا
طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ»
«7» الرفع على ليكن منكم ما يقوله أهل السمع والطاعة. وأما
قوله فِي النحل: «وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ
رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» «8» فهذا قول أَهْل
الجحد لانهم قَالُوا لم ينزل شيئا، إنما هَذَا أساطير الأولين
وأما الذين آمنوا فإنهم أقروا فقالوا: أنزل ربنا خيرًا «9» ،
ولو رُفع خيرٌ على: الَّذِي أنزله خير لكان صوابا، فيكون
بمنزلة قوله:
«يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ» «10» و «قُلِ
الْعَفْوَ» النّصب على الفعل: ينفقون
__________
(1) آية 164 سورة الأعراف. [.....]
(2) فى ش، ج: «النصب» .
(3) آية 81 سورة النساء.
(4) فى الأصول: «فإذا خرجوا من عندك بدلوا» ، وقد زدنا «أي»
وأكلنا الآية كما ترى، ليكون هذا تفسيرا لها.
(5) فى أ: «تكون» .
(6) آية 79 سورة يوسف.
وما بين المربعين ساقط من أ.
(7) آية 53 من السورة المذكورة.
(8) آية 24 وما بين النجمتين ساقط من ج، ش.
(9) يشير إلى قوله تعالى: «قالُوا خَيْراً» آية 30 من سورة
النحل.
(10) آية 219 سورة البقرة.
(1/39)
وَإِذِ اسْتَسْقَى
مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ
فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ
كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ
اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ
وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ
الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا
وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ
أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ
لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ
وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ
وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا
عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
العفو، والرفعُ على: الَّذِي ينفقون عفو
الأموال. وقوله: «قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ» «1» فأما السلام
(فقول يقال) «2» ، فنصب لوقوع الفعل عليه، كأنك قلت: قلت
كلامًا.
وأما قوله: «قالَ سَلامٌ» فإنه جاء فيه نحن «سَلامٌ» وأنتم
«قَوْمٌ مُنْكَرُونَ» .
وبعض المفسرين يقول: «قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ» يريد سلموا
عليه فرد عليهم، فيقول القائل: ألا كان السلام رفعًا كله أو
نصبًا كله؟ قلت: السلام على معنيين:
إذا أردت به الكلام نصبته، وإذا أضمرت معه «عليكم» رفعته. فإن
شئت طرحت الإضمار من أحد الحرفين وأضمرته فِي أحدهما، وإن شئت
رفعتهما معا، وإن شئت نصبتهما جميعا. والعرب تقول إذا التقوا
فقالوا سلام: سلامٌ، على معنى قَالُوا السلام عليكم فرد عليهم
الآخرون. والنصب يجوز فِي إحدى القراءتين «قَالُوا سلامًا قال
سلامًا» . وأنشدني بعضُ بني عُقَيْل:
فقلنا السَّلام فاتقت من أميرها ... فما كَانَ إلا ومؤها
بالحواجب
فرفع السلام لأنه أراد سلمنا عليها فاتقت أن ترد علينا. ويجوز
أن تنصب السلام على مثل قولك «3» : قُلْنَا الكلام، قُلْنَا
السلام، ومثله: قرأت «الْحَمْدَ» «4» وقرأت «الحمد» إذا قلت
قرأت «الحمد» أوقعت عليه الفعل، وإذا رفعت جعلته حكاية «5» على
قرأتُ «الْحَمْدُ لِلَّهِ» .
وقوله: اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ
اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً ... (60)
معناه- والله أعلم- فضرب فانفجرت، فعُرِف بقوله:
«فَانْفَجَرَتْ» أنه قد ضرب، فاكتفى بالجواب لأنه قد أدى عن
المعنى، فكذلك قوله: «أَنِ اضْرِبْ
__________
(1) آية 69 سورة هود.
(2) فى ج، ش: «فتسليمهم» بدل «فقول يقال» .
(3) «قلنا الكلام» : ساقط من ج، ش.
(4) فى ش، ج: «الحمد لله» .
(5) سقط هذا الحرف فى أ. [.....]
(1/40)
بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ» «1» ومثله
(فِي الكلام) «2» أن تقول: أَنَا الَّذِي أمرتك بالتجارة
فاكتسبت الأموال، فالمعنى فتجَرت فاكتسبت.
وأما قوله: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ ... (60)
فإن القائل يقول: وما حاجة القوم إلى أن يعلموا مشاربهم ونحن
نرى الأنهار قد أجريت لقوم بالمن من اللَّه والتفضل على عباده،
ولم يقل: قد علم كل أناسٍ مشربهم، لغيرهم؟ وإنما كان ذلك-
والله أعلم- لأنه حجرٌ انفجرت منه اثنتا عشرة عينا على عدد
الأسباط لكل سِبْطٍ عين، فإذا ارتحل القوم أو شربوا ما يكفيهم
عاد الحجر كما كان وذهبت العيونُ، فإذا احتاجوا انفجرت العيونُ
من تلك المواضع، فأتى كل سِبْطٍ عَيْنَهم التي كانوا يشربون
منها.
وأما قوله: وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها ... (61)
فإن الفوم فيما ذكر لغةٌ قديمة (وهي) «3» الحِنْطَة والخُبْز
جميعا قد ذُكِرا. قال بعضهم:
سمعنا (العرب «4» من) أهل هذه اللغة يقولون: فَوِّموا لنا
بالتشديد لا غير «5» ، يريدون اختبزوا وهي فِي قراءة عَبْد
اللَّه «وَثُومِهَا» بالثاء، فكأنّه أشبهُ المعنيين بالصواب
لأنه مع ما يشاكله: من العدس وَالْبَصَلِ وشِبْهه. والعرب
تُبدل الفاء بالثاء فيقولون: جدث وجَدَفٌ، ووقعوا فِي عاثُور
شَرٍّ «6» وعافُور شرٍّ، والأثاثي والأثافيّ. وسمعت كثيرًا من
بْني أسد يسمّى (المغافير «7» المغاثير) .
__________
(1) آية 63 سورة الشعراء.
(2، 3، 4) سقط فى أ.
(5) «لا غير» : سقط من ج، ش.
(6) وقعوا فى عاثور شر: أي فى اختلاط من الأمر وشدّة.
(7) فى أ: «يقولون:
المغاثير والمغافير» . والمغافير: صمغ يسيل من شجر الرمث
والعرفط وهو حلو يؤكل غير أن رائحته ليست بطيبة.
(1/41)
وقوله: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ
أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ... (61)
أي الَّذِي هُوَ أقرب، من الدُّنُوِّ، ويقال من الدَّناءة.
والعرب تقول:
إنه لَدنيٌّ [ولا يهمزون «1» ] يُدَنَّى فِي الأمور أي «2»
يتَّبِع خَسيَسها وأصاغرها. وقد كان زُهير «3» الفُرْقُبي
يَهْمِز: «أَتَسْتَبْدِلُونَ الّذى هو أدنى بِالَّذِي هُوَ
خَيْرٌ» ولم نر العرب تهمزُ أَدْنَى إذا كان من الحسة، وهم فِي
ذلك يقولون إنه لدانىء خَبِيثٌ [إذا كان ماجنا «4» ] فيهمزون.
وأنشدني بعض بني كلاب:
باسِلَةُ الْوَقْعِ سَرَابِيلُها ... بيضٌ إلى دانئها الظّاهر
«5»
يعنى «6» الدروع «7» على خاصتها- يعني الكتيبة- إلى الخسيس
منها، فقال: دانئها يريد الخسيس. وقد كُنَّا نسمع المشيخة
يقولون: ما كنت دانِئًا ولقد دنات، والعرب تترك الهمزة. ولا
أراهم رووه إلّا وقد سمعوه.
وقوله: اهْبِطُوا مِصْراً ... (61)
كتبت بالألف، وأسماءُ البلدان لا تنصرف خَفَّت أو ثَقُلت،
وأسماء النساء «8» إذا خَفَّ منها شيءٌ جرى «9» إذا كان على
ثلاثة أحْرفٍ وأوسطها ساكن مثل دعد وهند
__________
(1) «ولا يهمزون» ساقط من أ.
(2) سقط فى ش، ج.
(3) هو من القرّاء النحويين، وكان فى زمن عاصم، ويعرف
بالكسائي. وانظر طبقات القراء لابن الجزري رقم 1301.
والفرقبىّ نسبة إلى فرقب، كقنفذ. وفى القاموس: فرقب موضع ومنه
الثياب الفرقبية: ثياب بيض من كتان. وقال شارحه: وردت هذه
النسبة فى الثياب والرجال، فيمكن أن تكون إلى موضع، أو يكون
الرجل منسوبا إلى حمل الثياب.
(4) ما بين المربعين ساقط من أومن عبارة الفراء المنقولة فى
اللسان. وهو صحيح لغة، قال فى اللسان: دنؤ الرجل دناءة إذا كان
ماجنا.
(5) البيت من قصيدة طويلة للأعشى قالها فى منافرة عامر بن
الطفيل وعلقمة بن علاثة العامرىّ مطلعها:
شأقتك من قتلة أطلالها ... بالشط فالوتر إلى حاجر
وبسل الرجل بسولا فهو باسل وبسل إذا عبس غضبا أو شجاعة.
والسربال: الدرع أو كل ما لبس والجمع سرابيل، والمراد هنا
الدروع كما قال المؤلف.
(6) فى ج، ش: «وفسر فقال يعنى ... إلخ» .
(7) فى ج، ش: «فى خاصتها» .
(8) فى ج، ش: «الناس» .
(9) أي (انصرف) ونون. وهذا اصطلاح الكوفيين. فالجارى عندهم
المنصرف، وغير الجاري هو الممنوع من الصرف. ويعبرون أيضا
بالمجرى وغير المجرى، من الإجراء. [.....]
(1/42)
وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا
آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ
مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ
اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا
قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا
بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ
(66) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا
هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ
الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ
لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا
فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا
تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا
مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ
صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
وَجُمْلُ. وإنما انصرفت إذا سمى بها النساء
لأنها تردد وتكثر بها التسمية فتخف لكثرتها، وأسماء البلدان لا
تكاد تعود «1» . فإن شئت جعلت الألف التي فى «مصرا» ألفا
يُوقَفُ عليها، فإذا وصلت لم تنوِّن فيها، كما كتبوا «سلاسلا»
وَوارِيرَ»
«2» بالألف، وأكثر القراء على ترك الإجراء فيهما. وإن شئت جعلت
«مِصْر» غير المصر التي تُعرَف، يريد اهبطوا مِصرًا من
الأمصار، فإن الَّذِي سألتم لا يكون إلا فِي القرى والأمصار.
والوجه الأول أحب إلى لأنها فِي قراءة عَبْد اللَّه «اهْبِطوا
مِصْرَ» بغير ألف، وفي قراءة أُبَيٍّ: «اهْبِطُوا فَإِنّ
لَكُمْ ما سَأَلْتُم وَاسْكُنُوا مِصْر» «3» وتصديق ذلك أنها
فِي سورة يوسف بغير ألف: «ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ
آمِنِينَ» «4» .
وقال الأعمش وسئل عَنْهَا فقال: هِيَ مصر التي عليها صالح بْن
عليّ «5» .
وقوله: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ ... (63)
يقول: بجدٍّ وبتأدية ما افترض عليكم فِيهِ.
وقوله: فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما
خَلْفَها ... (66)
يعني المسخة التي مُسِخوها جُعلت نكالا لما مضى من الذنوب ولما
يعمل بعدها: ليخافوا أن يعملوا بما عمل الذين مُسِخوا
فَيْمسخوا.
وقوله: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ ... (67)
وهذا فِي القرآن كثير بغير الفاء، وذلك لأنه جوابٌ يستغنى
أولهُ عن آخره بالوقفة عليه، فيقال: ماذا قَالَ لك؟ فيقول
القائل: قال كذا وكذا فكأنّ «6» حسن
__________
(1) أي تتكرر فى الذكر والكلام.
(2) آية 4 وآية 15 سورة الإنسان.
(3) هذه القراءة المنسوبة لأبى لم نقف عليها فى غير أصول
الفرّاء مما بين أيدينا من المراجع.
(4) آية 99 من السورة المذكورة.
(5) صالح بن على بن عبد الله بن العباس أوّل من ولى مصر من قبل
أبى العباس السفاح سنة 133 وتوفى بقنسرين وهو عامل على حمص سنة
154.
(6) فى ج، ش: «فلما حسن السكوت ... إلخ» .
(1/43)
السكوت يجوز به طرح الفاء. وأنت تراه فِي
رءوس الآيات- لأنها فصولٌ- حَسَنًا «1» من ذلك: «قالَ فَما
خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. قالُوا إِنَّا
أُرْسِلْنا» «2» والفاء حسنة مثل قوله: «فَقالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا» «3» ولو كان على كلمة واحدة لم تُسقط
العرب منه الفاء. من ذلك: قُمتُ ففَعَلْت، لا يقولون: قمت
فعلت، ولا قلت قال، حَتَّى يقولوا: قُلْتُ فقال، وَقُمْتُ فقام
لأنها نَسَقٌ وليست باستفهام يوقف عليه ألا ترى أنه: «قالَ»
فرعون «لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ. قالَ رَبُّكُمْ
وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» «4» فيما لا أحصيه. ومثله من
غير الفعل كثيرٌ فِي كتاب اللَّه بالواو وبغير الواو فأما الذي
بالواو فقوله: «قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ
لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ» «5» ثُمَّ قَالَ بعد
ذلك: «الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ
وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ» . وقال
فِي موضع آخر: «التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ» «6»
وقال فِي غير هذا: «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ» «7» ثُمَّ قال فِي الآية بعدها: «إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا» ولم يقل: وإنّ.
فاعْرِفْ بما جَرى تفسير ما بقي، فإنه لا يأتي إلا على الَّذِي
أنْبَاتك به من الفصول أو الكلام المكتفى يأتي له جوابٌ.
وأنشدني بعضُ العرب:
لما رأيتُ نَبَطًا أنْصَارا ... شَمَّرتُ عن رُكْبَتِيَ
الإزَارَا
كُنْتُ لها مِنَ النَّصارى جَارَا وقوله: لا فارِضٌ وَلا
بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ ... (68)
والعَوان ليست بنَعْتٍ لِلْبِكْرِ لأنها ليست بَهرِمَة ولا
شابةً انقطع الكلام عند قوله: وَلا بِكْرٌ ثم استأنف فقال:
عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ والعوان يقال منه
__________
(1) فى ش، ج: «حسنة» .
(2) آية 31 و 32 سورة الذاريات.
(3) آية 27 سورة هود.
(4) آية 25 و 26 سورة الشعراء.
(5) آية 15 و 17 سورة آل عمران.
(6) آية 112 سورة التوبة.
(7) آية 10 سورة البروج.
(1/44)
قد عوَّنَت. والفارِضُ: قد فرضت، وبعضهم:
قد فرَضت (وأما البكر فلم «1» ) نسمع فيها بِفعْل. والبِكر
يُكْسر أوّلها إذا كانت بِكرْا من النساء «2» . والبكر مفتوح
أَوّلَه من بِكَارَة الإبل. ثم قال «بَيْنَ ذلِكَ» و «بَيْنَ»
لا تصلح إلا مع اسمين فما زاد، وإنّما صلحت مع «ذلِكَ» وحْدَه
لأنه فِي مذهب اثنين، والفعلان قد يجمعان ب «ذلك» و «ذاك» ألا
ترى أنك تقول: أظنُّ زيدا أخاك، وكان زيدٌ أخاك، فلا بد لكان
من شيئين، ولا بد لأظن من شيئين «3» ، ثُمَّ يجوز أن تقول: قد
كان ذاك، وأظنُّ ذلك. وإنما المعنى فِي الاسمين اللذين
ضَمَّهما ذلك: بين الهرم والشباب. ولو قال فِي الكلام: بين
هاتين، أو بين تَيْنِك، يريد الفارض والبكر كان صوابا، ولو
أعيد ذكرهما «4» (لم يظهر إلا بتثنية) «5» لانهما اسمان ليسا
بفعلين، وأنت تقول فِي الأفعال فتوحِّد فعلهما بعدها.
فتقول: إِقْبالك وإِدْبارُك يَشُقُّ على، ولا تقول: أخوك وأبوك
يزورُنِي. ومما يجوز أن يقع عليه «بَيْنَ» وهو واحدٌ فِي اللفظ
مما يؤدي عن الاثنين «6» فما زاد قوله:
«لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ» «7» ولا يجوز: لا نفرق
بين رَجُل منهم لأن أحدا لا يُثَنّى كما يثنى الرجل ويُجَمع،
فإن شئت جعلت أحدا فِي تأويل اثنين، وإن شئت فِي تأويل أكثر من
ذلك قول اللَّه عزّ وجل: «فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ
حاجِزِينَ» «8» وتقول: بَيْنَ أَيِّهِم الْمَالُ؟ وبين من قسم
المال؟ فتجرى «من» و «أى» .
مجرى «9» أحد لانهما قد يكونان لواحد ولجمع.
__________
(1) فى ش، ج: «ولم» . [.....]
(2) فى ج، ش: «من الجواري» .
(3) فى ج، ش: «بين هاتين من شيئين» . ولا وجه له.
(4) أي ضميرهما.
(5) فى ج، ش: «لم تكن إلا بتثنية» .
(6) ساقط من ج.
(7) آية 126 سورة البقرة.
(8) آية 47 سورة الحاقة.
(9) فى ش، ج: «على مجرى» .
(1/45)
وقوله: ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا
مَا لَوْنُها ... (69)
اللَّوْنُ مرفوعٌ لأنك لم ترد أن تجعل «ما» صلةً فتقول: بين
لنا ما لونها «1» ولو قرأ به قارئٌ كان صوابا، ولكنه أراد-
والله أعلم-: ادع لنا ربك يبين لنا أي شيءٍ لونُها، ولم يصلح
للفعل الوقوع على أي لأن أصل «أي» تفرق «2» جمع من الاستفهام،
ويقول القائل: بين لنا أسوداءُ هِيَ أم صَفْراء؟ فلما لم يصلح
للتَّبَيُّن أن يقع على الاستفهام فِي تفرقه لم يقع على أيّ
لأنها جمعُ ذلك المتفرق، وكذلك ما كان فِي القرآن مثله، فأعمل
فِي «ما» «وأي» الفعل الَّذِي بعدهما، ولا تعمل الَّذِي قبلهما
إذا كان مُشتقًّا من العِلْم كقولك:
ما أعلم أَيُّهم قال ذاك، ولا أعلمنّ أَيُّهم قال ذاك، وما
أدري أَيَّهم ضربت، فهو فِي العلم والأخبار والأنباء وما
أشبهها على ما وصفت لك. منه قول اللَّه تبارك وتعالى: «وَما
أَدْراكَ ما هِيَهْ» «3» «وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ»
«4» «ما» «5» الثانية رفعٌ، فرفعتها بيوم كقولك: ما أدراك أيُّ
شيء يومُ الدين، وكذلك قول اللَّه تبارك وتعالى: «لِنَعْلَمَ
أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى» «6» رفعته بأَحْصَى، وتقول إذا
كان الفعل واقعا على أيّ «7» : ما أدري أَيَّهم ضربت. وإنما
امتنعت من أن توقع على أي
__________
(1) «لونها» بالنصب فى المثال مفعول يبين، وتكون «ما» زائدة.
ما بين النجمتين ساقط من نسخ ج، ش.
(2) يريد أن أيا نابت عن جمع من الاستفهام متفرّق. فبدل أن
يقال: بين أسوداء هى أم صفراء أم حمراء. يقال: بين أي شىء
لونها، فتغنى أي عن هذا الجمع من الاستفهام، فمن ثمّ كان أصلا
لها.
وعبارة الطبري: «لأن أصل «أي» و «ما» جمع متفرق الاستفهام» .
ويريد الطبري بالأصل ما يوضع له اللفظ ويدل عليه، وهذا غير ما
يريد الفراء. وكل صحيح.
(3) آية 10 سورة القارعة.
(4) آية 17 سورة الانفطار.
(5) فى ش، ج: «وموضع ما» .
(6) آية 12 سورة الكهف. [.....]
(7) أي: اسم استفهام عما يعقل وعما لا يعقل، وأدوات الاستفهام
(كغيرها من المعلقات) تعلق العامل عن العمل لفظا لأن لها صدر
الكلام، فلو أعمل ما قبلها فيها أو فيما بعدها لخرجت عن أن
يكون لها صدر الكلام. ولا يكون التعليق إلا فى أفعال القلوب
التي تلغى نحو علم وظن، ولذلك لا تقول: لأضربن أيهم قام
(بالرفع) لأنه فعل مؤثر لا يجوز إلغاؤه فلا يجوز تعليقه.
وقال الفرّاء: «أي» يعمل فيه ما بعده ولا يعمل فيه ما قبله،
وإنما يرفعها أو ينصبها ما بعدها كقوله تعالى: «لِنَعْلَمَ
أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى» فرفع، وقوله: «وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» -
(1/46)
الفعل الَّذِي قبلها من العلم وأشباهه لأنك
تجد الفعل غير واقع على أي فِي المعنى ألا ترى أنك إذا قلت:
اذهب فاعلم أيهما قام أنك تسأل غيرهما عن حالهما فتجد الفعل
واقعا على الَّذِي أعلمك، كما أنك تقول: سل أَيُّهُمْ قام،
والمعنى: سل الناس أيُّهُمْ قام. ولو أوقعت الفعل على «أَيَّ»
فقلت: أسأل أيَّهُمْ قام لكنت كأنك تضمر أيًّا مرة أخرى لأنك
تقول: سل زيدًا أيُّهُمْ قام، فإذا أوقعت الفعل على زَيْدُ فقد
جاءت «أي» بعده. فكذلك «أي» إذا أوقعت عليها الفعل خرجت من
معنى الاستفهام، وذلك أن أردته، جائز، تقول: لاضْرِبَنَّ
أيَّهُم يقول ذاك لأن الضرب لا يقع على [اسم ثُمَّ يأتي بعد
ذلك استفهام، وذلك لأن الضرب لا يقع على «1» ] اثنين، وأنت
تقول فِي المسألة: سل عَبْد اللَّه عن كذا، كأنك قلت:
سله عن كذا، ولا يجوز ضربت عَبْد اللَّه كذا وكذا إلا أن تريد
صفة الضرب، فأما الأسماء فلا. وقول اللَّه: «ثُمَّ
لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى
الرَّحْمنِ عِتِيًّا» «2» من نصب أيًّا أوقع عليها النزع وليس
باستفهام، كأنه قال: ثُمَّ لنستخرجن العاتي الَّذِي هُوَ أشد.
وفيها وجهان من الرفع أحدهما أن تجعل الفعل مكتفيا بمن فِي
الوقوع عليها، كما تقول: قد قتلنا من كل قوم، وأصبنا «3» من كل
طعام، ثُمَّ تستأنف أيّا فترفعها بالذي بعدها، كما قال جل وعز:
«يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ»
__________
- فنصب، وقال الفراء أيضا: «أي» إذا أوقعت الفعل المتقدّم
عليها خرجت من معنى الاستفهام، وذلك أن أردته جائز، يقولون:
لأضربن أيهم يقول ذلك (بالنصب) . وقال الكسائي: تقول لأضربن
أيهم فى الدار (بالنصب) ولا تقول: ضربت أيهم فى الدار، ففرق
بين الواقع والمنتظر.
والكوفيون يجرون «أيا» مجرى من وما فى الاستفهام والجزاء، فإذا
وقع عليها الفعل وهى بمعنى الذي نصبوها لا محالة، فيقولون:
اضرب أيهم أقبح، وأكرم أيهم هو أفضل. وحكى أنهم قرءوا بالنصب
فى الآية «ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ
أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا» .
(1) ما بين المربعين ساقط فى أ.
(2) آية 69 سورة مريم.
(3) فى ج، ش: وأكلنا.
(1/47)
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ
إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا
تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا
الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا
يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ
فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ
الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
«أَيُّهُمْ أَقْرَبُ» «1» أي ينظرون أيهم
أقرب «2» . ومثله «يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ
مَرْيَمَ» «3» . وأما الوجه، الآخر فإن فِي قوله تعالى: «ثُمَّ
لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ» لننزعن من الذين تشايعوا
على هذا، ينظرون بالتشايع أيهم أشد وأخبث، وأيهم أشد على
الرَّحْمَن عتيًّا، والشيعة «4» ويتشايعون سواء فِي المعنى.
وفيه «5» وجه ثالث من الرفع أن تجعل «ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ
كُلِّ شِيعَةٍ» بالنداء أي لننادين «أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى
الرَّحْمنِ عِتِيًّا» وليس هذا الوجه يريدون. ومثله مما تعرفه
به قوله: «أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ
يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً» «6» فقال بعض
المفسرين «أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا» : ألم يعلم،
والمعنى- والله أعلم- أفلم ييأسوا علما بأن اللَّه لو شاء لهدى
الناس جميعا. وكذلك «لَنَنْزِعَنَّ» يقول يريد ننزعهم بالنداء.
وقوله: مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها ... (71)
غير مهموز يقول: ليس فيها لون غير الصّفرة. وقال بعضهم: هِيَ
صفراء حَتَّى ظلفها وقرنها أصفران.
وقوله: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها ...
(72)
يقال: إنه ضرب بالفخذ اليمنى، وبعضهم يقول: ضُرِب بالذَّنَب.
ثُمَّ قال اللَّه عز وجل: «كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى»
معناه والله أعلم اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
فيحيا كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
أي اعتبروا ولا تجحدوا بالبعث، وأضمر
__________
(1) آية 57 سورة الإسراء.
(2) «أيهم أقرب» ابتداء وخبر فى موضع نصب بالفعل المضمر الذي
دل عليه الكلام التقدير: ينظرون أيهم أقرب. ولا يعمل الفعل فى
لفظ أي لأنها استفهام.
(3) آية 44 سورة آل عمران.
(4) فى الأصول: «التشيعة» ويبدو أن ما أثبت هو الصواب.
(5) فى ج، ش: «وفيها» .
(6) آية 31 سورة الرعد.
(1/48)
وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ
وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
فيحيا، كما قال: «أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ
الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ» «1» والمعنى- والله أعلم- فضرب البحر
فانفلق.
وقوله: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ
الْأَنْهارُ ... (73)
تذكير مِنْهُ على وجهين إن شئت ذهبت به- يعني «مِنْهُ» «2» -
إلى أن البعض حَجرٌ، وذلك مذكر، وإن شئت جعلت البعض جمعا فِي
المعنى فذكَّرته بتذكير بعض، كما تقول للنسوة: ضربني بعضُكنّ،
وإن شئت أنثته هاهنا بتأنيث المعنى كما قرأت القرّاء: «وَمَنْ
يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ» «3» «ومن تقنت» بالياء والتاء،
على المعنى، وهي فِي قراءة أَبيّ: «وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ
لَمَا يَتَفَجَّرُ منها الأنْهَارُ» .
وقوله: لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ
... (78)
فالأماني على وجهين فِي المعنى، ووجهين فِي العربية فأما فِي
العربية فإن من العرب من يخفف الياء فيقول: «إِلَّا أَمانِيَّ
وَإِنْ هُمْ» ومنهم من يشدد، وهو أجودُ الوجهين.
وكذلك ما كان مثل أمنية، ومثل أضحية، وأغنية، ففي جمعه وجهان:
التخفيف والتشديد، وإنما تشدد لأنك تريد الأفاعيل، فتكون مشددة
لاجتماع الياء من جمع «4» الفعل والياء الأصلية. وإن خففت «5»
حذفت ياء الجمع فخففت الياء الأصلية، وهو كما يقال: القَراقير
«6» والقراقر، (فمن قال الأماني بالتخفيف) «7» فهو الَّذِي
يقول القراقر، ومن شدد الأماني فهو الَّذِي يقول القراقير.
والأمنية فِي المعنى التلاوة، كقول اللَّه عز وجل:
«إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ»
«8» أي فِي تلاوته، والأماني أيضا أن يفتعل
__________
(1) آية 63 سورة الشعراء.
(2) يعنى «منه» ليست فى ج، ش، ويبدو أنها تفسير لعبارة المؤلف
من المستملي.
(3) آية 31 سورة الأحزاب. و «يقنت» حملا على لفظ «من» وبالتاء
من فوق حملا على المعنى. [.....]
(4) فى أ: «جميع» يريد الحادثة فى صيغة الأفاعيل.
(5) فى ج، ش: «وإذا خففت ... » .
(6) قراقير وقراقر جمع قرقور بالضم وهى السفينة العظيمة
الطويلة.
(7) فى أ: «فمن خفف الأمانى» .
(8) آية 52 سورة الحج.
(1/49)
وَقَالُوا لَنْ
تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ
أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ
عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
(80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ
خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (81)
الرجل الأحاديث المفتعلة قال بعض العرب
لابن دأب «1» وهو يحدث الناس «2» : أهذا شيء رويته أم شيء
تَمنَّيته؟ يريد افتعلته، وكانت أحاديث يسمعونها من كبرائهم
ليست من كتاب اللَّه «3» . وهذا أبين الوجهين.
وقوله: إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ... (80)
يقال «4» : كيف جاز فِي الكلام: لاتينك أياما معدودة، ولم يبين
عددها؟ وذلك أنهم نَوَوُا الأيام التي عبدوا فيها العجل،
فقالوا: لن نُعذَّب فِي النار إلا تلك الأربعين الليلة التي
عبدنا فيها العجل. فقالوا: لن نُعذَّب فِي النار إلا تلك
الأربعين الليلة التي عبدنا فيها العجل. فلما كان معناها مؤقتا
معلوما عندهم وصفوه بمعدودة ومعدودات، فقال اللَّه: قل يا
مُحَمَّد: هَلْ عندكم من اللَّه عهدٌ بهذا الَّذِي قلتم أَمْ
تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ.
وقوله: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ...
«5» (76)
هذا من قول اليهود لبعضهم أي لا تحدثوا المسلمين بأنكم تجدون
صفة مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلم فِي التوراة وأنتم لا
تؤمنون به، فتكون لهم الحجة عليكم. أَفَلا تَعْقِلُونَ قال
اللَّه: «أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما
يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ» هذا جوابهم من قول اللَّه.
وقوله: وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ ... (85)
إن شئت جعلت هُوَ كناية عن الإخراج وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً
مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ أي وهو محرم عليكم يريد: إخراجهم
محرم عليكم، ثم أعاد الإخراج
__________
(1) ابن دأب: أبو الوليد عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب المدني،
كان يضع الشعر وأحاديث السمر وكلاما ينسب إلى العرب، فسقط،
وذهبت روايته. وتوفى سنة 171 هـ.
(2) زيادة فى أ.
(3) فى ج، ش: «من كتب الله» .
(4) فى أ: «فقال» .
(5) يلاحظ أن هذه الآية والتي تليها ليست على الترتيب من الآية
السابقة.
(1/50)
مرة أخرى تكريرا على «هُوَ» لما حال (بين
«1» الإخراج وبين «هُوَ» كلام) ، فكان رفع الإخراج بالتكرير
على «هُوَ» وإن شئت جعلت «هُوَ» عمادا ورفعت الإخراج بمحرم «2»
كما قال اللَّه جل وعز: «وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ
الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ» «3» فالمعنى- والله أعلم- ليس
بمزحزحه من العذاب التعمير فإن قلت: إن العرب إنما تجعل العماد
فِي الظَّنّ لأنه ناصب، وفي «كان» و «ليس» لانهما يرفعان، وفي
«إنّ» وأخواتها لانهن ينصِبْن، ولا ينبغي للواو وهي لا تنصب
ولا ترفع ولا تخفض أن يكون لها عمادٌ، قلت: لم يوضع العماد على
أن يكون لنصب أو لرفع أو لخفض، إنما وضع فِي كل موضع يبتدأ
فِيهِ بالاسم قبل الفعل، فإذا رَأَيْت الواو فِي موضع تطلب
الاسم دون الفعل صلح فِي ذلك العمادُ كقولك: أتيت زيدا وأبوه
قائم، فقبيحٌ أن تقول: أتيت زيدا وقائم أَبُوهُ، وأتيت زَيْدًا
ويقوم أَبُوهُ لأن الواو تطلب الأب، فلما بدأت بالفعل وإنما
تطلب الْوَاوُ الاسم أدخلوا لها «هو» لأنّه اسم. قال الفرّاء
«4» : سمعت بعض العرب يقول:
كَانَ مرة وهو ينفع النّاس أحسابهم «5» . وأنشدنى بعض العرب:
__________
(1) فى ش، ج: «بينهما كلام» .
(2) مراده بالعماد الضمير المسمى عند البصريين ضمير فصل، وسمى
ضمير فصل لأنه فصل بين المبتدأ والخبر أو بين الخبر والنعت.
ويسميه الكوفيون عمادا لأنه يعتمد عليه فى الفائدة إذ به يتبين
أن الثاني خبر لا تابع. وبعض الكوفيين يسميه دعامة لأنه يدعم
به الكلام أي يقوى به ويؤكد.
وقد قال النحاس: وزعم الفراء أن «هو» عماد، وهذا عند البصريين
خطأ لا معنى له لأن العماد لا يكون فى أوّل الكلام.
(3) آية 96 من سورة البقرة.
(4) «قال الفراء» : ساقط من أ. [.....]
(5) هكذا المثال فى جميع الأصول.
(1/51)
فأَبِلغْ أَبَا يحيى إذا ما لقيتهُ ... على
العيس فِي آباطها عرق يبسُ «1»
بأن السلامي الَّذِي بضريةٍ ... أمير الحمى قد باع حقي بني عبس
«2»
بِثَوْبٍ ودِينارٍ وشاةٍ ودِرهمٍ ... فَهَل هُوَ مَرفوعٌ بما
هاهنا رَأْسُ
فجعل مع «هَل» العماد وهي لا ترفع ولا تنصب لأن هَلْ تطلب
الأسماء أكثر من طلبها فاعلا «3» قال: وكذلك «ما» و «أما» ،
تقول: ما هُوَ بذاهب أحدٌ، وأما هُوَ فذاهبٌ زَيْدُ، لقبح أمّا
ذاهب فزيد.
وقوله: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً ... (81)
وضعت بَلى لكل أقرار فِي أوله جحد، ووضعت «نعم» للاستفهام الذي
لا جحد فيه، ف «بَلى» بمنزلة «نعم» إلا أنها لا تكون إلا لما
فِي أوله جحد قال اللَّه تبارك وتعالى: «فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا
وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ» «4» ف «بَلى» لا تصلح
فى هذا الموضع. وأما الجحد فقوله: «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ.
قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ» «5» ولا تصلح هاهنا «نعم»
أداة وذلك أن الاستفهام يحتاج إلى جواب ب «نعم» و «لا» ما لم
يكن فِيهِ جحدٌ، فإذا دخل الجحد فِي الاستفهام لم يستقم أن
تقول «6» فِيهِ «نعم» فتكون كأنك مقر بالجحد وبالفعل الَّذِي
بعده ألا ترى أنك لو قلت لقائل قال لك: أما لك مالٌ؟ فلو قلت
«نعم» كنت مقرًّا بالكلمة بطرح الاستفهام وحده، كأنك قلت «نعم»
مالي مالٌ، فأرادوا أن يرجعوا عن الجحد ويقرّوا بما
__________
(1) عرق يبس: جاف.
(2) السلامى: نسبة إلى سلام: موضع بنجد. وضرية: قرية قديمة فى
طريق مكة من البصرة من نجد، أو أرض بنجد ينزلها حاج البصرة.
وفى البيت إقواء لأن روىّ قافية البيت الأوّل والثالث مرفوع
والثاني مجرور.
(3) كذا. والوجه: فعلا، وعذره أن الفاعل حليف الفعل ورديفه.
وفى الأصول: «فاعل» وكأن وجهه أن كلا يطلب الآخر، فهل تطلب
الفاعل، والفاعل يطلبها، ولا يطلبها الاسم.
(4) آية 44 سورة الأعراف.
(5) آية 8، 9 سورة الملك.
(6) «أن تقول» : ساقط من ج، ش.
(1/52)
وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا
قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
بعده فاختاروا «بَلى» «1» لأن أصلها كان
رجوعا مَحْضا عن الجحد إذا قَالُوا: ما قال عَبْد اللَّه بل
زيدٌ، فكانت «بل» كلمة عطف ورُجوع لا يصلح الوقوف عليها،
فزادوا فيها ألفا يصلح فيها الوقوف عليه، ويكون رجوعا عن الجحد
فقط، وإقرارا بالفعل الَّذِي بعد الجحد، فقالوا: «بَلى» ، فدلت
«2» على معنى الإقرار والأنعام، ودّل لفظ «بل» على الرجوع عن
الجحد فقط.
وقوله: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا
تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ ... (83)
رفعت تَعْبُدُونَ لأن دخول «أن» يصلح فيها، فلما حذف الناصب
رُفِعت، كما قال اللَّه: «أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي
أَعْبُدُ» «3» (قرأ الآية) «4» وكما قال:
«وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ» «5» وفي قراءة عَبْد اللَّه
«وَلا تَمْنُنْ أَنْ تَسْتَكْثِرَ» فهذا وجه من الرفع، فلما لم
تأت بالناصب رفعت. وفي قراءة أُبيٍّ: «وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُوا» ومعناها الجزم
بالنهي، وليست بجواب لليمين. ألا ترى أنه قد قال: «وَإِذْ
أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا
ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» «6» فأمروا، والأمر لا يكون جوابا
لليمين لا يكون فِي الكلام أن تقول: والله قم، ولا أن تقول:
والله لا تقم. ويدل على أنه نهى وجزمٌ أنه قال: وَقُولُوا
لِلنَّاسِ حُسْناً كما تقول: افعلوا ولا تفعلوا، أو لا تفعلوا
وافعلوا. وإن شئت جعلت
__________
(1) هذا على رأى من يقول: إن أصل «بلى» . «بل» والألف فى آخرها
زائدة للوقف، فلذا كانت للرجوع بعد النفي، كما كانت للرجوع عند
الجحد فى: ما قام زيد بل عمرو، وقال قوم: إن «بلى» أصل الألف.
(2) أي الألف.
(3) آية 64 سورة الزمر.
(4) أي قرأ الفرّاء الآية كلها، وهذا من المستملي. وسقط هذا فى
ش، ج.
(5) آية 6 سورة المدثر.
(6) آية 63 من سورة البقرة.
(1/53)
«لا تَعْبُدُونَ» جوابا لليمين لأن أخذ
الميثاق يمينٌ، فتقول: لا يعبدون، ولا تعبدون، والمعنى واحد.
وإنما جاز أن تقول لا يعبدون ولا تعبدون وهم غيب كما قال:
«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سيغلبون» «1» و «سَتُغْلَبُونَ»
بالياء والتاء «سَيُغْلَبُون» بالياء على لفظ الغيب، والتاء
على المعنى لأنه إذا أتاهم أو لقيهم صاروا مخاطبين «2» . وكذلك
قولك: استحلفت عَبْد اللَّه ليقومن لغيبته، واستحلفتُه لتقومن
(لاني) «3» قد كنت خاطبته. ويجوز فِي هذا استحلفت عَبْد اللَّه
لأقومن أي قلت له: احلف لأقومن، كقولك: قُلْ لأقومن «4» . فإذا
قلت: استحلفت فأوقعت فعلك على مستحلفٍ جاز فعلُه أن يكون
بالياء والتاء والألف، وَإِذَا كان هُوَ حالفا وليس معه مستحلف
كان بالياء وبالألف ولم يكن بالتاء من ذلك حلف عَبْد اللَّه
ليقومن فلم يقم، وحلف عَبْد اللَّه لأقومن لأنه كقولك قال
لأقومن، ولم يجز بالتاء لأنه لا يكون مخاطبا لنفسه لأن التاء
لا تكون إلا لرجل تخاطبه، فلما لم يكن مستحلف سقط الخطاب.
وقوله: «قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ
وَأَهْلَهُ» «5» فيها ثلاثة أوجه: «لتبيّتنّه» و «ليبيّتنّه» و
«لَنُبَيِّتَنَّهُ» بالتاء والياء والنون. إذا جعلت
«تَقاسَمُوا» على وجه فعلوا «6» ، فإذا جعلتها فِي موضع جزمٍ
«7» قلت: تقاسموا لتبيتنه ولنبيتنه، ولم يجز بالياء، ألا ترى
أنك تقول للرجل: احلف لتقومن، أو احلف لأقومن، كما تقول: قل
لأقومن. ولا يجوز أن تقول للرجل احلف ليقومن، فيصير كأنه لآخر،
فهذا ما فِي اليمين.
__________
(1) آية 12 سورة آل عمران. [.....]
(2) فى أ: «الذي تلقاهم به فصاروا مخاطبين» .
(3) كذا فى الأصول، وفى الطبري: «لأنك» ولكل وجه.
(4) وجدت العبارة الآتية بهامش نسخة (أ) ولم يشر إلى موضعها:
«ولا يجوز احلف لأقومنّ، ولكن احلف لتقومنّ، وقل لأقومنّ» .
(5) آية 49 سورة النمل.
(6) أي فعلا ماضيا فى معنى الحال كأنه قال: قالوا متقاسمين
بالله.
(7) أي فعل أمر أي قال بعضهم لبعض احلفوا.
(1/54)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا
غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا
يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ
يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ
مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى
الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ
أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ
يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ
عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ
عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا
وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا
لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ
مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
وقوله: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ ... (89)
[إن شئت] رفعت المصدق ونويت أن يكون نعتًا للكتاب لأنه نكرة،
ولو نصبته على أن تجعل المصدق فعلا للكتاب لكان صوابا «1» .
وفي قراءة عَبْد اللَّه فِي آل عِمْرَانَ: «ثُمَّ جاءكم رسول
مصدقا» «2» فجعله فعلا. وإذا كانت النكرة قد وصلت بشيء سوى
نعتها ثُمَّ جاء النعت، فالنصب على الفعل أمكن منه إذا كانت
نكرة غير موصولةٍ، وذلك لأن صلة النكرة تصير كالموقته لها، ألا
ترى أنك إذا قلت: مررت برجل فِي دارك، أو بعبدٍ لك فِي دارك،
فكأنك قلت: بعبدك أو بساس دابتك، فقس على هذا وقد قال بعض
الشعراء:
لو كان حَيٌّ ناجيًا لَنَجا ... من يومه المزلم الأعصم «3»
فنصب ولم يصل النكرة بشيء وهو جائز. فأما قوله: «وَهذا كِتابٌ
مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا» «4» فإن نصب اللسان على وجهين
أحدهما أن تضمر شيئًا يقع عليه المصدق، كأنك قلت: وهذا يصدّق
التوراة والإنجيل «لِساناً عَرَبِيًّا» (لأن التوراة والإنجيل
لم يكونا عربيين) «5» فصار اللسان العربي «6» مفسرا. وأما
الْوَجْهُ الآخر فعلى ما فسّرت «7»
__________
(1) يريد المؤلف أنه حال من كتاب، وجاز ذلك لأنه قد تخصص
بالوصف فقرب من المعرفة.
وفى ج، ش: «لأنه نعت للكتاب وهما جميعا نكرتان كان صوابا» .
(2) «مصدقا» بالنصب قراءة شاذة، وحسن نصبه على الحال من النكرة
كونها فى قوّة المعرفة من حيث أريد بها شخص معين، وهو محمد صلى
الله عليه وسلم.
(3) البيت من قصيدة طويلة للمرقش الأكبر، وهو عوف بن سعد بن
مالك شاعر جاهلى قالها فى مرثية عم له. والمزلم: الوعل، وزلمتا
العنز زنمتاها، والزلمة تكون للمعز فى حلوقها متعلقة كالقرط،
وإن كانت فى الأذن فهى زنمة. والأعصم من الظباء والوعول ما فى
ذراعيه أو فى أحدهما بياض.
(4) آية 12 سورة الأحقاف.
(5) فى أ: «لأن التوراة لم تكن عربية، ولا الإنجيل» .
(6) سقط فى أ.
(7) فى ج. وش: «وصفت» .
(1/55)
لك، لما وصلت الكتاب بالمصدق أخرجت «لسانا»
مما فِي «مصدق» من الراجع من ذكره «1» . ولو كان اللسان مرفوعا
لكان صوابًا على أنه نعتٌ وإن طال.
وقوله: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ... (90)
معناه- والله أعلم- باعوا به أنفسهم. وللعرب فِي شروا واشتروا
مذهبان، فالأكثر منهما أن يكون شروا: باعوا، واشتروا: ابتاعوا،
وربما جعلوهما جميعا فِي معنى باعوا، وكذلك البيع يقال: بعت
الثوب. على معنى أَخْرَجَتهُ من يدي، وبعته: اشتريته، وهذه
اللغة فِي تميم وربيعة. سمعت أَبَا ثروان يقول لرجل: بع لي
تمرا بدرهم. يريد اشتر لي وأنشدني بعض ربيعة «2» :
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له ... بتاتًا ولم تضرب له وقت
موعدٍ
على معنى لم تشتر له بتاتا قال الفراء: والبتات الزاد. وقوله:
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا «أن
يكفروا» فِي موضع خفض ورفع فأما الخفض فأن ترده على الهاء التي
فِي «به» على التكرير على كلامين «3» كأنك قلت أشتروا أنفسهم
بالكفر «4» . وأما الرفع فأن يكون مكرورا أيضا على موضع «ما»
التي تلى «بئس «5» » .
ولا يجوز أن يكون رفعًا على قولك بئس الرجل عَبْد اللَّه، وكان
الكسائي يقول ذلك «6» قال الفراء: وبئس لا يليها مرفوعٌ موقّت
ولا منصوب موقّت، ولها
__________
(1) يريد أن (لسانا) حال من المضمر الذي فى مصدق. [.....]
(2) البيت لطرفة من معلقته.
(3) فى نسخة (أ) على كلامهم.
(4) يريد أن المصدر من أن والفعل فى محل جر بدل من الهاء فى
«به» والبدل على نية تكرار العامل.
(5) وجه الرفع أن يكون المصدر فى محل رفع على أنه المخصوص
بالذم، وفى الآية أعاريب أخرى فى كتب التفسير.
(6) الكسائي يقول:
«ما» و «اشتروا» بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه، والتقدير: بئس
اشتراؤهم أن يكفروا. وهذا مردود فإن «نعم» و «بئس» لا يدخلان
على اسم معين معروف، والشراء قد تعرف بإضافته إلى الضمير.
(1/56)
وجهان فإذا وصلتها بنكرة قد تكون معرفة
بحدوث ألفٍ ولام فيها نصبت تلك النكرة، كقولك: بئس رجلا عمرو،
ونعم رجلا عمرو، وإذا أوليتها معرفة فلتكن غير موقتة، فِي سبيل
النكرة، ألا ترى أنك ترفع فتقول: نعم الرجل عمرو «1» ، وبئس
الرجل عمرو «2» ، فإن أضفت النكرة إلى نكرة رفعت ونصبت، كقولك:
نعم غلام سفر زَيْدُ، وغلام سفر زَيْدُ وإن أضفت إلى المعرفة
شيئا رفعت، فقلت: نعم سائس الخيل زَيْدُ، ولا يجوز النصب إلا
أن يضطر إليه شاعر، لانهم حين أضافوا إلى النكرة رفعوا، فهم
إذا أضافوا إلى المعرفة أحرى ألا ينصبوا. وإذا أوليت نعم وبئس
من النكرات ما لا يكون معرفة مثل «مثل» و «أى» كان الكلام
فاسدًا خطأ أن تقول: نعم مثلك زَيْدُ، ونعم أي رَجُل زَيْدُ
لأن هذين لا يكونان مفسرين «3» ، ألا ترى أنك لا تقول: [لله]
«4» درك من أي رجل، كما تقول: لله درك من رَجُل، ولا يصلح أن
تولي نعم وبئس «الَّذِي» ولا «من» ولا «ما» إلا أن تنوي بهما
الاكتفاء «5» دون أن يأتي بعد ذلك اسم مرفوع «6» . من ذلك
قولك: بئسما صنعت، فهذه مكتفية، وساء ما صنعت. ولا يجوز ساء ما
صنيعك. وقد أجازه الكسائي فِي كتابه على هذا المذهب. قال
الفراء: ولا نعرف ما جهته، وقال «7» : أرادت العرب أن تجعل
«ما» بمنزلة الرجل حرفا تاما، ثُمَّ أضمروا لصنعت «ما» كأنه
قال: بئسما ما صنعت، فهذا قوله وأنا لا أجيزه. فإذا جعلت «نعم»
(صلة لما) «8» بمنزلة قولك «كلما» و «إنما» كانت بمنزلة «حبذا»
فرفعت بها الأسماء من ذلك قول اللَّه عز وجل:
«إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ» رفعت «هِيَ» ب
«نعما» ولا تأنيث فِي «نعم»
__________
(1، 2) فى أ: «عبد الله» .
(3) لاشتراط النحاة فى فاعل نعم وبئس أن يكون غير متوغل فى
الإبهام بخلاف نحو «غير» و «مثل» و «أي» .
(4) زيادة يقتضيها المثال.
(5) أي الاستغناء عن المخصوص. وهذا إذا كان هذان اللفظان
موصولين بما يوصل به الذي.
(6) أي مخصوص.
(7) أي الكسائىّ.
(8) كذا فى الأصول. والوجه فى العبارة:
«موصولة بما» أو «جعلت ما صلة نعم» كما سيأتى له. وقد ركب
الفراء متن التسامح فى هذا.
(1/57)
ولا تثنية إذا جعلت «ما» صلة لها فتصير
«ما» مع «نعم» بمنزلة «ذا» من «1» «حبذا» ألا ترى أن «حبذا» لا
يدخلها تأنيث ولا جمعٌ. ولو جعلت «ما» على جهة الحشو «2» كما
تقول: عما قليل آتيك، جاز فِيهِ التأنيث والجمع، فقلت: بئسما
رجلين أنتما، وبئست ما جارية جاريتك. وسمعت العرب تقول فِي
«نعم» المكتفية بما: بئسما «3» تزويج ولا مهر، فيرفعون التزويج
ب «بِئْسَمَا» .
وقوله: بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ... (90)
موضع «أن» جزاء، وكان الكسائي يقول فِي «أن» : هِيَ فِي موضع
خفض، وأنما هِيَ جزاءٌ «4» .
إذا كان الجزاء لم يقع عليه شيء قبله (وكان) «5» ينوى بها
الاستقبال كسرت «إن» وجزمت بها فقلت: أكرمك إن تأتني. فإن كانت
ماضية قلت: أكرمك أن تأتيني. وأبين من ذلك أن تقول: أكرمك أن
أتيتني كذلك قال الشاعر:
أتجزع أن بان الخليط المودّع ... وحبل الصفا من عزّة المتقطع
يريد أتجزع بأن، أو لأن كان ذلك. ولو أراد الاستقبال ومحض
الجزاء لكسر «إن» وجزم بها، كقول اللَّه جل ثناؤه:
«فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ
يُؤْمِنُوا» «6» فقرأها القراء بالكسر، ولو قرئت بفتح «أن» على
معنى [إذ لم يؤمنوا «7» ] ولأن لم يؤمنوا، ومن أن لم يؤمنوا
[لكان صوابا] «8» وتأويلُ «أن» فِي موضع نصب، لأنها إنما كانت
«9» أداة بمنزلة «إذ» فهي فِي موضع نصب إذا ألقيت الخافض وتمّ
__________
(1) فى ش، ج: «مع» .
(2) يريد بالحشو أنها زائدة غير كافة عن العمل. [.....]
(3) يريد رفع التزويج ببئس، و «ما» لا موضع لها لتركيبها مع
بئس تركيب «ذا» مع «حب» .
(4) فى ش، ج بعد هذا زيادة: «فى قول الفراء» .
(5) فى أ: «فكان» .
(6) آية 6 سورة الكهف.
(7) ساقط من أ.
(8) زيادة تقتضيها العبارة.
(9) فى ج، ش: «إنما أداة إلخ» . وكتب فى ش فوق السطر «هى» بين
«إنما» و «أداة» .
(1/58)
ما قبلها، فإذا جعلت لها الفعل أو أوقعته
عليها أو أحدثت لها خافضا فهي فِي موضع ما يصيبها من الرفع
والنصب والخفض «1» .
وقوله: فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ... (89)
وقبلها «وَلَمَّا» وليس للأولى جوابٌ، فإن الأولى صار جوابها
كأنه فِي الفاء التي فِي الثانية، وصارت كَفَرُوا بِهِ كافية
من جوابهما جميعا. ومثله فِي الكلام:
ما هُوَ إلا أن أتاني عَبْد اللَّه فلما قعد أوسعت له وأكرمته.
ومثله قوله: «فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ
تَبِعَ هُدايَ» فى البقرة «2» «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ» فى
«طه» «3» اكتفى بجوابٍ واحد لهما جميعا «4» «فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ» فِي البقرة «فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى» فِي «طه» .
وصارت الفاء فِي قوله «فَمَنْ تَبِعَ» كأنها جواب ل «فإما» ،
ألا ترى أن الواو لا تصلحُ فِي موضع الفاء، فذلك دليل على أن
الفاء جواب وليست بنَسَقٍ «5» .
وقوله: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) يقول القائل: هَلْ كان
لهم قليل من الإيمَان أو كثير؟ ففيه وجهان من العربية: أحدهما-
ألا يكونوا آمنوا قليلا ولا كثيرا. ومثله مما تقوله العرب
بالقلة على أن ينفوا الفعل كله قولهم: قل ما رأيتُ مثل هذا قط.
وحكي الكسائي عن العرب: مررتُ بِبلادٍ قل ما تُنبت إلا البصل
والكرّاث. أي ما تنبت
__________
(1) راجع الطبري فى تفسير قوله تعالى: «أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ
الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ» سورة
«الزخرف» ففيه الكلام على فتح همزة «إن» وكسرها.
(2) آية 38 من السورة المذكورة.
(3) آية 123 من السورة المذكورة.
(4) زيادة فى أ.
(5) فى جواب «لما» وجه آخر انظره فى تفسير الطبري.
(1/59)
إلا هذين. وكذلك قول العرب: ما أكاد أَبرحُ
منزلي وليس يبرحه وقد يكون أن يبرحه قليلا. والوجه الآخر- أن
يكونوا يصدقون بالشيء قليلا ويكفرون بما سواه: بالنبي صلى
اللَّه عليه وسلم فيكونون كافرين وذلك أنه يقال: من خلقكم؟
ومن رزقكم؟ فيقولون: اللَّه تبارك وتعالى، ويكفرون بما سواه:
بالنبي صلى اللَّه عليه وسلّم وبآيات اللَّه، فذلك قوله:
فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ. وكذلك قال المفسرون فِي قول
اللَّه: «وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ
مُشْرِكُونَ» «1» على هذا التفسير.
وقوله: فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ... (90)
لا يكون باؤ مفردة حَتَّى توصل بالباء. فيقال: باء بإثم يبوء
بوءا.
وقوله بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ أن اللَّه غضب على اليهود فِي
قولهم: «يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ» «2» .
ثُمَّ غضب عليهم فِي تكذيب مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلّم حين
دخل المدينة، فذلك قوله: «فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ» .
وقوله: وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ ... (91)
يريد سواه، وذلك كثير فِي العربية أن يتكلم الرجلُ بالكلام
الْحَسَن فيقول السامع: ليس وراء هذا الكلام شيءٌ، أي ليس عنده
شيءٌ سواه.
وقوله: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ ...
(91)
يقول القائل: إنما «تَقْتُلُونَ» للمستقبل فكيف قال: «مِنْ
قَبْلُ» ؟ ونحن لا نجيز فِي الكلام أَنَا أضربك أمس، وذلك جائز
إذا أردت بتفعلون الماضي،
__________
(1) آية 106 سورة يوسف.
(2) . 64 سورة المائدة. [.....]
(1/60)
وَإِذْ أَخَذْنَا
مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا
آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا
وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ
بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ
الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ
النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
(94)
ألا ترى أنك تعنف الرجل بما سلف من فعله
فتقول: ويحك لم تكذب! لم تبغض نفسك إلى الناس! ومثله قول
اللَّه: «وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ
سُلَيْمانَ» «1» .
ولم يقل ما تلت الشياطين، وذلك عربي كثير فِي الكلام أنشدني
بعض العرب:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ... ولم تجدي من أَنْ تُقِرِّي
بها «2» بُدًّا
فالجزاء للمستقبل، والولادة كلها قد مضت، وذلك أن المعنى معروف
ومثله فِي الكلام: إذا نظرت فِي سير «3» عمر رحمه الله لم يسىء
المعنى لم تجده أساء فلما كان أمر عُمَر لا يشك فِي مضيه لم
يقع فِي الوهم أنه مستقبل فلذلك صلحت «مِنْ قَبْلُ» . مع قوله:
فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ وليس الذين
خوطبوا بالقتل هُمُ القتلة، إنما قتل الأنبياء أسلافهم الذين
مضوا فتولوهم على ذلك ورضوا به فنسب القتل إليهم.
وقوله «4» : سَمِعْنا وَعَصَيْنا ... (93)
معناه سمعنا قولك وعصينا «5» أمرك.
وقوله: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ
... (93)
فإنه أراد: حب العجل، ومثل هذا مما تحذفه العرب كثير قال الله:
«وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ
الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها» «6» والمعنى سل أهل القرية وأهل
العير وأنشدني المفضّل:
__________
(1) . 102 سورة البقرة.
(2) فى تفسير الطبري وفى المغني «به» أي بهذا الكلام، وهو لم
تلدنى لئيمة. وقائله زائد بن صعصعة الفقعسي يعرض بزوجته وكانت
أمها سرية وقبله:
رمتنى عن قوس العدوّ وباعدت ... عبيدة زاد الله ما بيننا بعدا
(مغنى اللبيب ج 1: 25) .
(3) فى ج، ش: سيرة.
(4) فى ج، ش:
«وأما قوله» .
(5) فى ش، ج: «ولكن عصينا» .
(6) آية 82 سورة يوسف.
(1/61)
حَسِبْتَ بُغَامَ راحِلَتي عَنَاقًا ...
وما هِيَ وَيْبَ غيرك بالعناق «1»
ومعناه «2» : بغام عناق ومثله من كتاب اللَّه: «وَلكِنَّ
الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ» معناه والله أعلم: ولكن البر
«3» برُّ من فعل هذه الأفاعيل التي وصف اللَّه. والعرب قد
تقول: إذا سرك أن تنظر إلى السخاء فانظر إلى هرم أو إلى حاتم.
وأنشدني بعضهم «4» :
يَقُولون جاهِدْ يا جَمِيلُ بغَزْوَةٍ ... وإنّ جهادا طىّء
وقتالها
يجزىء ذكر الاسم من فعله «5» إذا كان معروفا بسخاء أو شجاعة
وأشباه ذلك.
وقوله: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ
اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ
... (94)
يقول: إن كان الأمر على ما تقولون من أن الجنة لا يدخلها إلا
من كان يهوديا أو نصرانيا فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ فأبوا، وذلك أن رسول اللَّه صلى اللَّه
عليه وسلم قال: (والله لا يقوله أحد إلا غص بريقه) «6» . ثُمَّ
إنه وصفهم فقال: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى
حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا معناه والله أعلم: وأحرص
من الذين أشركوا على الحياة. ومثله أن تقول: هذا أسخى
__________
(1) البيت من أبيات لذى الخرق الطهوىّ يخاطب ذئبا تبعه فى
طريقه، وقبله:
ألم تعجب لذئب بات يسرى ... ليؤذن صاحبا له باللحاق
و «ويب» كلمة مثل «وبل» تقول: ويبك وويب زيد كما تقول ويلك
معناه: ألزمك الله ويلا نصب نصب المصادر. فإن جئت باللام رفعت،
قلت: ويب لزيد ونصبت منونا فقلت ويبا لزيد.
وبغام الناقة صوت لا تفصح به. والعناق: الأنثى من المعز.
(2) فى ج، ش: «أراد بغام راحلتى بغام عناق إلخ» .
(3) «معناه والله أعلم ولكن البر» ساقط من ج، ش.
(4) فى ج، ش: بعض العرب.
(5) فى الطبري: «من ذكر فعله» .
(6) هكذا نص الحديث فى كل الأصول، ورواية البيهقىّ عن ابن عباس
مرفوعا: (لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه) ولهذا الحديث
روايات أخرى تطلب من مظانها.
(1/62)
قُلْ مَنْ كَانَ
عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ
بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى
وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ
وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ
اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا
الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ
فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ
لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ
لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ
عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ
الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا
أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ
وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا
نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا
مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ
بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ
عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ
خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)
الناس ومن هرم. لأن التأويل للأول هُوَ
أسخى من الناس ومن هرم ثُمَّ إنه وصف المجوس فقال: يَوَدُّ
أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وذلك أن تحيتهم فيما
بينهم: (زِهُ «1» هَزَارْ سَالْ) . فهذا تفسيره: عش ألف «2»
سنة.
وأما قوله: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ
نَزَّلَهُ، ... (97)
[يعنى القرآن] «3» عَلى قَلْبِكَ [هذا أمر] «4» أمر اللَّه به
محمدا صلى الله عليه وسلّم فقال: قل لهم لما قالوا عدوّنا
جبريل وأخبره اللَّه بذلك، فقال: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا
لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ يعني قلب
مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلم، فلو كان فِي هذا الموضع «على
قلبي» وهو يعني محمدًا صلى اللَّه عليه وسلم لكان صوابا. ومثله
فِي الكلام: لا تقل للقوم إن الخير عندي، وعندك أما عندك فجاز
لأنه كالخطاب، وأما عندي فهو قول المتكلم بعينه. يأتي هذا من
تأويل قوله:
«سَتُغْلَبُونَ» و «سَيَغْلِبُونَ» «5» بالتاء والياء.
وقوله: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ
سُلَيْمانَ ... (102)
(كما تقول فِي ملك سُلَيْمَان) «6» . تصلح «فِي» و «على» فِي
مثل هذا الموضع تقول: أتيته فِي عهد سليمان وعلى عهده سواء.
__________
(1) زه معناها فى العربية: عش، وهزار معناها: ألف، وسال
معناها: سنة.
(2) فى تفسير الطبري: عن ابن عباس فى قوله «يَوَدُّ أَحَدُهُمْ
لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» قال هو قول الأعاجم: سال زه
نوروز مهرجان، وعن ابن جبير قال: هو قول أهل الشرك بعضهم لبعض
إذا عطس:
زه هزار سال. [.....]
(3) ساقط من أ.
(4) ساقط من أ.
(5) آية 12 سورة آل عمران، والقراءة بياء الغيبة أي بلغهم أنهم
سيغلبون، وبتاء الخطاب أي قل لهم فى خطابك إياهم ستغلبون.
(6) سقط ما بين القوسين فى أ.
(1/63)
وقوله: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ
... (102)
القراء يقرءون «الْمَلَكَيْنِ» من الملائكة. وكان ابن عَبَّاس
يقول:
«الْمَلَكَيْنِ» من الملوك.
وقوله: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ ...
(102)
أما السحر فِمن عمل الشياطين، فيتعلمون من الملكين كلاما إذا
قيل أخذ «1» به الرجل عن امرأته. ثُمَّ قال: ومن قول الملكين
إذا تعلم منهما ذلك: لا تكفر.
إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ، فَيَتَعَلَّمُونَ ليست
بجواب لقوله: وَما يُعَلِّمانِ إنما هى مردودة على قوله:
يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فيتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم
فهذا وجه. ويكون «فَيَتَعَلَّمُونَ» متصلة بقوله: «إِنَّما
نَحْنُ فِتْنَةٌ» فيأبون فيتعلمون ما يضرهم، وكأنه أجود
الوجهين فِي العربية «2» . والله أعلم.
وقوله: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها ... (106)
أو ننسئها- أَوْ نُنْسِها عامة القراء يجعلونه من النسيان، وفي
قراءة عَبْد اللَّه: / «مَا ننسك من آية أو ننسخها نجىء بمثلها
أو خير منها» وَفِي قراءة سالم مَوْلَى أبي حُذَيْفة: «ما ننسخ
من آية أو ننسكها» ، فهذا يقوي النسيان.
والنسخ أن يعمل بالآية ثُمَّ تنزل الأخرى فيعمل بها وتترك
الأولى. والنسيان هاهنا على وجهين: أحدهما- على الترك نتركها
فلا ننسخها كما قال اللَّه جل ذكره:
«نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ» «3» يريد تركوه فتركهم. والوجه
الآخر- من النسيان الذي
__________
(1) أخذ (بتشديد الخاء) : حبس ومنع. وقد أخذت الساحرة الرجل
تأخيذا.
(2) لعل الوجه الأوّل هو ما أشار إليه المؤلف أوّلا، وهو عطف
«فيتعلمون» على موضع «ما يعلمان» وقد أجازه بعضهم لأن قوله:
«وما يعلمان» وإن دخلت عليه ما النافية فمضمنه الإيجاب فى
التعليم. وهناك أعاريب أخرى.
(3) آية 67 سورة التوبة.
(1/64)
ينسى، كما قال اللَّه: «وَاذْكُرْ رَبَّكَ
إِذا نَسِيتَ» «1» وكان بعضهم يقرأ: «أَوْ نَنْسَأْهَا» يهمز
يريد نؤخرها من النسيئة وكل حسن. حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ
قَالَ: «2» وَحَدَّثَنِي قَيْسٌ «3» عَنْ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ بإسناد برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع
رجلا يَقْرَأُ فَقَالَ: (يَرْحَمُ اللَّهُ هَذَا، هَذَا
أَذْكَرَنِي آيَاتٍ قَدْ كُنْتُ أُنِسِيتَهُنَّ) .
وقوله: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ... (102)
من فِي موضع رفع وهي جزاء «4» لأن العرب «5» إذا أحدثت على
الجزاء هذه اللام صيّروا فعله على جهة فعل. ولا يكادون يجعلونه
على يفعل كراهة أن يحدث على الجزاء حادث وهو مجزوم ألا ترى
أنهم يقولون: سل عما شئت، وتقول: لا آتيك ما عشت، ولا يقولون
ما تعش لأن «ما» فِي تأويل جزاء
__________
(1) آية 24 سورة الكهف.
(2) فى ج، ش: «قال حدثنا قيس» .
(3) هو قيس ابن الربيع الأسدىّ الكوفىّ. مات سنة 165 هـ. وانظر
الخلاصة والتهذيب وتاريخ بغداد.
(4) «ولقد علموا لمن اشتراه ما له فى الآخرة من خلاق» اللام
للقسم و «من» اسم موصول مبتدأ وجملة «اشتراه» صلة الموصول،
وجملة «ما له فى الآخرة من خلاق» مبتدأ وخبر، و «من» زائدة فى
المبتدأ «خلاق» للتوكيد، و «فى الآخرة» متعلق بمحذوف حال منه،
ولو أخر عنه لكان صفة له، وهذه الجملة فى محل رفع خبر المبتدأ
«من» والجملة كلها «لمن اشتراه ما له فى الآخرة من خلاق» فى
محل نصب سادة مسدّ مفعولى «علموا» . هذا هو الظاهر عند
النحويين وقال الفرّاء: إن «من» أداة شرط مبتدأ، واللام فى
«لمن» موطئة للقسم.
والمشهور أن اللام الداخلة على «قد» فى مثل الآية إنما هى لام
القسم، أما اللام الداخلة على أداة الشرط فهى للإيذان بأن
الجواب بعدها مرتب على قسم قبلها لا على الشرط، ولذلك تسمى
اللام المؤذنة، وتسمى الموطئة أيضا لأنها وطأت الجواب للقسم أي
مهدته له. وحيث أغنى جواب القسم عن جواب الشرط لزم كون فعل
الشرط ماضيا ولو معنى كالمضارع المنفي بلم غالبا- هذا- وقد
يغنى عن القسم جوابه لدليل يدل عليه كما إذا وقع بعد «لقد» أو
بعد «لئن» نحو «ولقد صدقكم الله وعده» و «لئن متم أو قتلتم
لإلى الله تحشرون» . وراجع إعراب الآية فى تفسير الطبري.
(5) فى ج، ش: «إلا أن العرب» .
(1/65)
وقد وقع ما قبلها عليها، فصرفوا الفعل إلى
فعل لأن الحزم لا يستبين فِي فعل، فصيروا حدوث اللام- وإن كانت
لا تُعِّرب شيئًا- كالذي يُعَرِّب، ثُمَّ صيروا جواب الجزاء
بما تُلْقي به اليمين- يريد تستقبل به- إما بلامٍ، وإما ب «لا»
، وإما «إن» وإمّا ب «ما» فتقول فِي «ما» : لئن أتيتني ما ذلك
لك بضائع، وفي «إن» : لئن أتيتني إن ذلك لمشكور لك- قال
الفراء: لا يكتب لئن إلا بالياء ليفرق بينها وبين لأن «1» -
وفي «لا» : «لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ» «2»
وفى اللام «وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ»
«3» وإنما صيروا جواب الجزاء كجواب اليمين لأن اللام التي دخلت
فِي قوله: «وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ» وفي قوله:
«لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ» «4» وفى قوله:
«لَئِنْ أُخْرِجُوا» إنما هِيَ لام اليمين كان موضعها فِي آخر
الكلام فلما صارت فِي أوله صارت كاليمين، فلقُيت بما يُلْقَى
به اليمين، وإن أظهرت الفعل بعدها على يفعل جاز ذلك وجزمته
فقلت: لئن تقم لا يقم إليك، وقال الشاعر «5» :
لئن تَكُ قد ضاقْت عليكم بيوتُكم ... ليعلم ربّى أنّ بيتي واسع
__________
(1) ما بين الخطين ساقط من ج، ش.
(2، 3) آية 12 سورة الحشر. [.....]
(4) آية 81 من سورة آل عمران: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ
النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ
جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ
وَلَتَنْصُرُنَّهُ» اللام للابتداء وتوكيد معنى القسم الذي فى
ضمن أخذ الميثاق، وجواب القسم جملة «لتؤمنن به» و «ما» جعلها
الفراء شرطية، والأولى أن تكون موصولا مبتدأ خبره محذوف. وقال
العكبري: وفى الخبر وجهان أحدهما أنه «من كتاب وحكمة» أي الذي
أوتيتموه من الكتاب، والنكرة هنا كالمعرفة. والثاني أن الخبر
جملة القسم المحذوف وجوابه الذي هو جملة «لتؤمنن به» . وراجع
السمين والزمخشري فى الآية.
(5) البيت للكميت بن معروف، وهو شاعر مخضرم، والشاهد فيه أن
فعل الشرط المحذوف جوابه قد جاء مضارعا فى ضرورة الشعر،
والقياس «لئن كانت» . وفيه شاهد آخر وهو أن المضارع الواقع
جوابا للقسم إن كان للحال لا للمستقبل وجب الاكتفاء فيه
باللام، وامتنع توكيده بالنون كما هنا فإن المعنى: ليعلم الآن
ربى.
(1/66)
وأنشدني بعضُ «1» بني عقيل:
لئِن كَانَ ما حُدِّثْتُهُ اليومَ صادِقًا ... أَصُمْ فِي نهار
الْقَيْظِ للشَّمسِ بادِيَا
وأَرْكَبْ حمارًا بين سرجٍ وفروةٍ ... وأعْرِ من الخاتام
صُغْرَى شماليا «2»
فألقى جواب اليمين من الفعل، وكان الوجه فِي الكلام أن يقول:
لئن كان كذا لاتينك، وتوهم إلغاء اللام كما قال الآخر «3» :
فَلا يَدْعُنِي قَوْمِي صَرِيحًا لِحُرَّةٍ ... لئنْ كُنتُ
مقتولا ويَسْلَمُ عامِرُ
فاللام فِي «لئن» ملغاة، ولكنها كثرت فِي الكلام حَتَّى صارت
بمنزلة «4» «إن» ، ألا ترى أن الشاعر قد قال:
فَلئِنْ قومٌ أصابُوا غِرَّةً ... وأَصَبْنا من زمانٍ رَقَقَا
«5»
لَلَقدْ كانوا لدى أزماننا ... لصنيعين لبأس وتقى «6»
__________
(1) يريد امرأة منهم. ويقول الفراء فى سورة الإسراء فى هذين
البيتين: «وأنشدتنى امرأة عقيلية فصيحة» .
(2) الشاهد أنه جاء الفعل «أصم» جوابا مجزوما لإن الشرطية بعد
تقدم القسم المشعر به اللام الموطئة، وهو قليل فى الشعر. وقيل
إن اللام زائدة. و «ما» عبارة عن الكلام. والقيظ:
شدة الحر. والبادي: البارز. وركوب الحمار بين الفروة والسرج
هيئة من يندد به ويفضح بين الناس.
وأعر: مضارع أعراه أي جعله عاريا. والخاتام لغة فى الخاتم.
وصغرى الشمال خنصرها فإن الخاتم يكون زينة للشمال، واليمين لها
فضيلة اليمين. يقول: إن كان ما نقل لك عنى من الحديث صحيحا
فجعلنى الله صائما فى تلك الصفة الشاقة، وأركبنى حمارا للخزى
والفضيحة وجعل شمالى عارية من حسنها وزينتها بقطعها.
(خزانة الأدب ج 4: 538) .
(3) قائله قيس بن زهير العبسي، وتقدير البيت: لئن قتلت و
«عامر» سالم من القتل فلست بصريح النسب حر الأم وأراد عامر بن
الطفيل. و «يسلم» على القطع والاستئناف، ولو نصب بإضمار «أن»
لأن ما قبله من الشرط غير واجب لجاز. (هامش سيبويه ج 1: 427) .
وقال ابن مالك: وقد يستغنى بعد «لئن» عن جواب لتقدم ما يدل
عليه فيحكم بأن اللام زائدة، فمن ذلك قول عمر بن أبى ربيعة:
ألمم بزينب إن البين قد أفدا ... قل الثواء لئن كان الرحيل غدا
ومثله: فلا يدعنى قوم ... البيت. وقال فى شرح الكافية: لا قسم
فى مثل هذه الصورة، فلا يكون إلا شرط.
(4) فى ج، ش: «كأنها» .
(5) «غرة» فى شعراء ابن قتيبة 1/ 47:
«عزة» . الرقق: رقة الطعام وقلته، وفى ماله رقق أي قلة، وذكره
القراء بالنفي فقال: يقال ما فى ماله رقق، أي قلة.
(6) كذا. والمعنى غير واضح. وقد يكون الأصل: للقد أ ... ...
(1/67)
فأدخل على «لقد» لا ما أخرى لكثرة ما تلزم
العرب اللام فِي «لقد» حَتَّى صارت كأنها منها. وأنشدني بعض
بْني أسد:
لددتهم النصيحة كل لَدٍّ ... فمجوا النصح ثُمَّ ثنوا فقاءوا
فلا والله لا يلفى لما بي ... ولا للمابهم أبدًا دَواءُ «1»
ومثله قول الشاعر:
كما ما امرؤ في معشر غير رهطه ... ضعيف الكلام شخصه متضائل
قال: «كما» ثُمَّ زاد معها «ما» أخرى لكثرة «كما» فِي الكلام
فصارت كأنها منها. وقال الأعشى:
لَئِنْ مُنِيتَ بِنا عَن غِبِّ مَعْرَكةٍ ... لا تُلْفِنَا مِن
دِماءِ القومِ نَنْتَفِلُ «2»
فجزم «لا تلفنا» والوجه الرفع كما قال اللَّه: «لَئِنْ
أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ» «3» ولكنه لما جاء بعد
حرفٍ يُنْوى به الجزمُ صُيِّر جزما جوابا للمجزوم وهو فِي معنى
رفع. وأنشدني القاسم بْن مَعْنٍ (عن العرب) «4» :
__________
(1) البيتان من قصيدة طويلة لمسلم بن معبد الوالبي. والشاهد فى
قوله: «للما» حيث كررت فيه اللام للتأكيد وهى حرف واحد بدون
ذكر مجرور الأولى، وهو على غاية الشذوذ والقلة، والقياس (لما
بهم لما بهم) . ولددتهم هنا بمعنى ألزمتهم يقول: ألزمتهم
النصيحة كل الإلزام فلم يقبلوا، ولا يوجد شفاء لما بي من الكدر
ولا لما بهم من داء الحسد. ويروى عجز البيت:
وما بهم من البلوى دواء وانظر الخزانة 1/ 364.
(2) منيت: أي بليت وقدر لك. و «عن غب معركة» «عن» بمعنى بعد،
والغب: العاقبة.
وانتقل من الشيء: انتفى منه وتنضل. والشاهد فى البيت أن الشرط
قد يجاب مع تقدم القسم عليه، وهو قليل خاص بالشعر.
وقال ابن هشام: إن اللام فى «لئن» زائدة وليست موطئة كما زعم
الفراء.
(3) . 12 آية سورة الحشر.
(4) سقط فى أ.
(1/68)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا
انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ
مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
حلفت له إن تدلج الليل لا يزل ... أمامك
بيت من بيوتى سائر «1»
والمعنى حلفت له لا يزال أمامك بيتٌ، فلما جاء بعد المجزوم صير
جوابا للجزم. ومثله فِي العربية: آتيك كى (إن تحدّثنى «2»
بحديث أسمعه منك، فلما جاء بعد المجزوم جزم) .
وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا
وَقُولُوا انْظُرْنا ... (104)
هُوَ «3» من الارعاء والمراعاة، (وفي) «4» قراءة عَبْد اللَّه
«لا تقولوا راعُونا» وذلك أنها كلمة باليهودية شتم، فلما سمعت
اليهود أصحاب مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلم يقولون:
يا نبي اللَّه راعنا «5» ، اغتنموها فقالوا: قد كُنَّا نسبه
فِي أنفسنا فنحن الآن قد أمكننا أن نظهر له السَّبَّ، فجعلوا
يقولون لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: راعِنا، ويضحك
بعضهم إلى بعض، ففطن لها رَجُل «6» من الأنصار، فقال لهم:
والله لا يتكلم بها رجل
__________
(1) البيت شاهد على جزم «لا يزل» فى ضرورة الشعر بجعله جواب
الشرط وكان القياس أن يرفع ويجعل جوابا للقسم، لكنه جزم
للضرورة، فيكون جواب القسم محذوفا مدلولا عليه بجواب الشرط.
وتدلج: مضارع أدلج أي سار الليل كله. وأراد بالبيت جماعة من
أقاربه يقول: إن سافرت بالليل أرسلت جماعة من أهلى يسيرون
أمامك يخفرونك ويحرسونك إلى أن تصل إلى مأمنك.
(2) فى ج، ش: «إن تحدث بحديث أسمعه منك، فلما جاء بعد الجزم
جزم» . [.....]
(3) فى ج: «وهو» .
(4) فى ج: «وهو فى» .
(5) راعنا: أمر من المراعاة وهى الحفظ. وفى الصحاح: «أرعيته
سمعى أي أصغيت إليه، ومنه قوله تعالى: «راعِنا» قال الأخفش:
«هو فاعلنا من المراعاة على معنى أرعنا سمعك، ولكن الياء ذهبت
للأمر» . والأقرب أن المراعاة هنا مبالغة فى الرعي أي حفظ
المرء غيره، وتدبير أموره. وقراءة عبد الله بن مسعود «راعونا»
على إسناد الفعل إلى ضمير الجمع للتوقير.
(6) هو سعد بن معاذ الأنصاري الأوسى رضى الله عنه وكان يعرف
لغتهم. شهد بدرا وأحدا، وتوفى سنة خمس من الهجرة بسبب جرح
أصابه فى غزوة الخندق.
(1/69)
إلا ضربت عنقه، فأنزل اللَّه «1» «لا
تَقُولُوا راعِنا» ينهى المسلمين «2» عَنْهَا إذ كانت سبا عند
اليهود. وقد قرأها الْحَسَن الْبَصْرِيّ: «لا تَقُولُوا
راعِنا» بالتنوين، يقول:
لا تقولوا حُمْقا، وينصب بالقول كما تقول: قَالُوا خيرا وقالوا
شرا.
وقوله: وَقُولُوا انْظُرْنا أي انتظرنا. وانْظُرْنا: أخِّرنا،
(قال اللَّه) «3» :
« [قالَ] أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» يريد «4»
أخّرنى، وفى سورة الحديد [يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ
وَالْمُنافِقاتُ] «لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ
مِنْ نُورِكُمْ» «5» خفيفة الألف على معنى الانتظار. وقرأها
حمزة الزيات: «لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا» على معنى
التأخير.
وقوله: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
وَلَا الْمُشْرِكِينَ ... (105)
معناه: ومن المشركين «6» ، ولو كانت «المشركون» رفعًا مردودة
على «الَّذِينَ كَفَرُوا» كان صوابا [تريد ما يود الذين كفروا
ولا المشركون] «7» ، ومثلها فى المائدة: [يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا
دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً] مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ «8» ،
قرئت بالوجهين: [والكفار، والكفار] «9» ، وهي فِي قراءة عَبْد
اللَّه: «ومن الكفار أولِياء» . وكذلك قوله:
__________
(1) فى ش، ج زيادة قبل الآية: «ينهى المسلمين» .
(2) فى نسخة أ: «ينهى المسلم» .
(3) فى أ: «كقوله» .
(4) فى ج، ش: «يقول» .
(5) آية 13 من السورة المذكورة.
(6) «ومن المشركين» ساقط من أ.
(7) ما بين المربعين ساقط من أ.
(8) آية 57 من السورة المذكورة.
(9) ساقط من أ.
(1/70)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ
تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ
وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ
سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ
كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى
يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ (109)
«لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ» «1» فِي موضع خفض على
قوله:
«مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» : ومن المشركين، ولو كانت رفعا كان
صوابا ترد على الذين كفروا.
وقوله: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ ... (108)
أَمْ (فِي المعنى) «2» تكون ردا على الاستفهام على جهتين
إحداهما: أن تفرق «3» معنى «أي» ، والأخرى أن يستفهم بها.
فتكون «4» على جهة النسق، والذي يُنوى بها الابتداء إلا أنه
ابتداء متصل بكلام. فلو ابتدأت كلاما ليس قبله كلامٌ، ثُمَّ
استفهمت لم يكن إلا بالألف أو بهل ومن ذلك قول اللَّه: «الم
تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ» «5» ، فجاءت «أَمْ» وليس قبلها
استفهام، فهذا دليل على أنها استفهام مبتدأ على كلامٍ قد سبقه.
وأما قوله:
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ فإن شئت جعلته
على مثل هذا، وإن شئت قلت: قبله استفهام فرد عليه وهو قول
اللَّه: «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ» . وكذلك قوله: «مَا لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا
نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ. أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا
أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ» «6» فإن شئت جعلته استفهاما
مبتدأ قد سبقه كلامٌ، وإن شئت جعلته مردودا على قوله: «ما لَنا
لا نَرى رِجالًا»
وقد قرأ بعض
__________
(1) آية 1 سورة البينة. [.....]
(2) سقط فى أ.
(3) فى الطبري: «تعرّف» .
(4) هذا إيضاح لجهتى (أم) . فهى فى الجهة الأولى أداة نسق، وفى
الجهة الثانية ليست أداة نسق بل ينوى بها الابتداء على ما وصف.
(5) آية 3 سورة السجدة.
(6) آية 62، 63 سورة ص.
(1/71)
القرّاء: «أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا»
يستفهم فى «أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا» بقطع الألف لينسّق
عليه «أَمْ» لأن أكثر ما تجىء مع الألف وكل صواب. ومثله:
«أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِي» ثُمَّ قال: «أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا» والتفسير
فيهما واحد. وربما جعلت العرب «أَمْ» إذا سبقها استفهام لا
تصلح أي فِيهِ على جهة بل فيقولون: هَلْ لك قبلنا حق أم أنت
رَجُل معروفٌ بالظلم.
يريدون: بل أنت رجلٌ معروف بالظلم وقال الشاعر:
فو الله ما أدْرِي أَسَلْمَى تَغَوّلَتْ «1» ... أَمِ
النَّوْمُ أَمْ كُلُّ إِلَيّ حَبِيبٌ
معناه [بل كل إلى حبيب] «2» .
وكذلك تفعل العرب فِي «أو» فيجعلونها نسقًا مفرقة لمعنى ما
صلحت فِيهِ «أحَدٌ» ، و «إحدى» كقولك: اضرب أحدهما زيدا أو
عمرا، فإذا وقعت فِي كلام لا يراد به أحدٌ وإن صلحت جعلوها على
جهة بل كقولك فِي الكلام:
اذهب إلى فلانٍ أو دع ذلك فلا تبرح اليوم. فقد دلك هذا على أن
الرجل قد رجع عن أمره الأول وجعل «أو» فِي معنى «بل» ومنه قول
اللَّه:
«وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ» وأنشدني
بعض العرب «3» :
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشمس فِي رونق الضحى ... وصورتها أو أنت
فِي العين أملح «4»
يريد: بل أنت.
__________
(1) تغوّلت المرأة: تلونت.
(2) الزيادة من تفسير الطبري.
(3) آية 147 سورة والصافات.
(4) قرن الشمس: أعلاها. «وصورتها» بالجرّ عطف على قرن. وأملح:
من ملح الشيء (بالضم) ملاحة أي بهج وحسن منظره. والبيت نسبه
ابن جنى فى المحتسب إلى ذى الرمة، ولم نجده فى ديوانه.
(1/72)
وَقَالُوا لَنْ
يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى
تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)
وقوله: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ
(108) و «سَواءَ» «1» فِي هذا الموضع قصد، وقد تكون «سَواءَ»
«2» فِي مذهب غير كقولك للرجل: أتيت سواءك.
وقوله: كُفَّاراً ... (109)
هاهنا «3» انقطع الكلام، ثم قال: حَسَداً كالمفسر لم ينصب على
أنه نعت للكفار «4» ، إنما هُوَ كقولك للرجل: هُوَ يريد بك
الشر حسدا وبغيا.
وقوله: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ... (109)
من قبل أنفسهم لم يؤمروا به فِي كتبهم.
وقوله: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ
هُوداً أَوْ نَصارى ... (111)
يريد يهوديًّا، فحذف الياء الزائدة ورجع إلى الفعل من
اليهودية. وهي فِي قراءة أَبِي وعبد اللَّه: «إلا من كان
يهوديًّا أو نصرانيّا» وقد يكون أن تجعل اليهود جمعًا واحده
هائد (ممدود «5» ، وهو مثل حائل ممدود) «6» - من النوق- وحُول،
وعائط «7» وعُوط وعيط وعوطط.
__________
(1) فى ج: «سواء للسبيل» .
(2) كذا فى أ، وفى ج: «على» .
(3) «هاهنا» ساقط من أ.
(4) فى القرطبي: «حسدا» مفعول له أو مصدر دل ما قبله على
الفعل.
(5) فى أ: «وهود، مثل حائل» . [.....]
(6) الناقة الحائل: التي حمل عليها الفحل فلم تلقح.
(7) العائط من النوق: الحائل.
(1/73)
وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ
أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا
خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا
فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا
فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ
الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ
تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا
الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ
بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ
الْجَحِيمِ (119)
وقوله: أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ
يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ (114) هذه «1» الروم كانوا غزوا
بيت المقدس فقتلوا وحرقوا وخربوا المسجد. وإنما أظهر اللَّه
عليهم المسلمين فِي زمن عُمَر- رحمه اللَّه- فبنوه، (ولم) «2»
تكن الروم تدخله إلا مستخفين، لو علم بهم لقتلوا.
وقوله: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ ... (114)
يقال: إن مدينتهم الأولى أظهر اللَّه عليها المسلمين فقتلوا
مقاتلهم، وسبوا الذراري والنساء، فذلك الخزي.
وقوله: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) يقول
فيما وعد اللَّه المسلمين من فتح الروم، ولم يكن بعد «3» .
وقوله: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) يريد مطيعون، وهذه خاصة
لأهل الطاعة ليست بعامة.
وقوله: فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) رفع ولا
يكون نصبا، إنما «4» هى مردودة على «يَقُولُ» [فإنما يقول
فيكون] «5» .
وكذلك قوله: «وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ
الْحَقُّ» «6» رفعٌ لا غير. وأما التي فِي النحل: «إِنَّما
قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ» فإنها نصب «7» ،
__________
(1) فى ج: «فهذه» .
(2) فى ج: «فلم» .
(3) فى ج، ش: «ولما يكن بعد» .
(4) فى ج، ش: «إنها مردودة» .
(5) ما بين المربعين من ج، ش.
(6) آية 73 سورة الأنعام.
(7) قوله: «نصب» هذا فى قراءة ابن عامر والكسائي عطفا على «أن
نقول» . والباقون بالرفع على معنى فهو يكون.
(1/74)
وَاتَّقُوا يَوْمًا
لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ
مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ
يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً
لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ
مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ
طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ
رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ
الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ
أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ
وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً
لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
وكذلك التي فِي «يس» نصبٌ لأنها مردوةٌ على
فعل قد نُصب بأن، وأكثر القراء على رفعهما. والرفع صوابٌ، وذلك
أن تجعل الكلام مكتفيا عند قوله:
«إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ» فقد تم الكلام،
ثُمَّ قال: فسيكون ما أراد اللَّه.
وإنه لاحب الوجهين إليّ، وإن كان الكسائي لا يُجيز الرفع فيهما
ويذهب إلى النّسق.
وقوله: تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ... (118)
يقول: تشابهت قلوبهم «1» فِي اتفاقهم على الكفر. فجعله
اشتباها. ولا يجوز تشابهت بالتثقيل لأنه لا يستقيم دخول تاءين
زائدتين فِي تفاعلت ولا فِي أشباهها.
وإنما يجوز الادغام إذا قلت فِي الاستقبال: تتشابه (عن قليل)
«2» فتدغم التاء الثانية عند الشين.
وقوله: وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) قرأها
ابن عَبَّاس [وأبو جَعْفَر] «3» مُحَمَّد بْن علىّ بن الحسين
جزما، وقرأها بعض أَهْل المدينة جزما، وجاء التفسير بِذَلِك،
[إلا أن التفسير «4» ] على فتح التاء على النهى.
والقراء [بعد] «5» على رفعها على الخبر: ولست تسئل، وَفِي
قراءة أبي «وما تسئل» وَفِي قراءة عَبْد اللَّه: «ولن تسال»
وهما شاهدان «6» للرفع.
وقوله: وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ ... (123)
يقال: فدية.
__________
(1) سقط فى أ.
(2) كأنه يريد: عن قليل من العرب أو من القرّاء، وهو متعلق
بقوله:
«يجوز الإدغام ... » .
(3) ساقط من أ.
(4، 5) ما بين المربعين ساقط من أ.
«بعد» ساقط من أ.
(6) فى ج، ش: «وكلاهما يشهد» . [.....]
(1/75)
وقوله: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ
بِكَلِماتٍ ... (124)
يقال: أمره بخلالٍ عشرٍ من السنة خمس فِي الرأس، وخمس فِي
الجسد فأما اللاتي فِي الرأس فالفرق «1» ، وقص الشارب،
والاستنشاق، والمضمضة، والسواك.
وأما اللاتي فِي الجسد فالختان، وحلق العانة، وتقليم الأظافر،
ونتف الرفغين يعني الإبطين. قال الفرّاء: ويقال للواحد رفع «2»
والاستنجاء.
فَأَتَمَّهُنَّ: عمل بهن فقال اللَّه تبارك وتعالى: إِنِّي
جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً:
يهتدى بهداك ويستنّ بك، فقال: ربّ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي على
المسألة «3» .
وقوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ... (124)
يقول: لا يكون للمسلمين إمام مشرك. وفي قراءة عَبْد اللَّه:
«لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِون» . وقد فسر هذا لأن «4» ما
نالك فقد نلته، كما تقول: نلت خيرك، ونالني خيرك.
وقوله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ ...
(125)
يثوبون إليه- من المثابة والمثاب- أراد: من كل مكان. والمثابة
«5» فِي كلام العرب كالواحد مثل المقام والمقامة.
__________
(1) أي فرق الشعر. وهو تفريقه فى وسط الرأس، لا يترك جملة
واحدة، ليكون ذلك أعون على تسريحه وتنظيفه.
(2) ما بين النجمتين ساقط من ج، ش.
(3) أي مسألة من إبراهيم ربه، سأله إياها أن يكون من ذرّيته
مثاله: من يؤتم به ويقتدى به ويهتدى بهديه.
(4) كذا والأحسن: «بأن» .
(5) المثابة فى اللغة: مجتمع الناس بعد تفرقهم كالمثاب،
والموضع الذي يئاب إليه أي يرجع إليه مرة بعد أخرى. وقوله:
«كالواحد» يريد به المثاب. وهو يريد الردّ على من زعم أن تأنيث
مثابة لمعنى الجماعة كالسيارة. وانظر تفسير الطبري.
(1/76)
وقوله: وَأَمْناً ... (125)
يقال «1» : إن من جنى جناية أو أصاب حدّا ثُمَّ عاذ بالحرم لم
يُقَم عليه حده حَتَّى يخرج من الحرم، ويؤمر بأَلا يخالط ولا
يبايع، وأن يضيق عليه (حَتَّى يخرج) «2» ليقام عليه الحد، فذلك
أمنه. ومن جنى من أهل الحرم جناية أو أصاب حدّا أقيم عليه فِي
الحرم.
وقوله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ...
(125)
وقد قرأت القراء بمعنى «3» الجزم [والتفسير مع أصحاب الجزم]
«4» ، ومن قرأ «وَاتَّخِذُوا» ففتح الخاء كان خبرا يقول «5» :
جعلناه مثابة لهم واتخذوه مصلى، وكل صواب إن شاء اللَّه.
وقوله: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ ... (125)
يريد: من الأصنام ألا «6» تعلق فِيهِ.
وقوله: لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ ... (125)
يعنى أهله وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ يعنى أهل الإسلام.
__________
(1) فى أ: «يقول» .
(2) فى ج: «فيخرج» .
(3) فى ج، ش: «بعد بالجزم» يريد بالجزم الأمر.
(4) ما بين المربعين فى ج، ش.
(5) فى أ: «أي» .
(6) كذا فى ج. وفى أ: «لا» وقوله: «ألا تعلق» أي إرادة ألا
تعلق.
(1/77)
وقوله: وَمَنْ كَفَرَ ... (126)
من قول الله تبارك وتعالى فَأُمَتِّعُهُ على الخبر. وفي قراءة
أَبِي «وَمَن كَفَرَ فَنُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُ
إِلَى عَذَابِ النَّارِ» (فهذا وجه) «1» . وكان ابن عَبَّاس
يجعلها متصلة بمسئلة إبراهيم «2» صلى الله عليه على معنى: رب
«وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ»
(منصوبة موصولة) «3» . يريد ثُمَّ أَضْطَرِرْه فإذا تركت
التضعيف نصبت، وجاز فِي هذا المذهب كسر الراء فِي لغة الَّذِين
يقولون مُدِّهِ. وقرأ يحيى بْن وَثَّاب:
«فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ» بكسر الألف كما
تقول: أَنَا أعلم ذاك.
وقوله: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ
الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ (127) يقال هى إساس «4» البيت.
واحدتها قاعدة، ومن النساء «5» اللواتي قد قعدن عن المحيض قاعد
بغيرها. ويقال لامرأة الرجل قعيدته.
وقوله: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا ... (127)
يريد: يقولان ربنا. وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه «ويقولان ربنا»
.
__________
(1) سقط فى أ.
(2) فى الطبري: كان ابن عباس يقول: ذلك قول إبراهيم يسأل ربه
أن من كفر فأمتعه قليلا بتخفيف التاء وسكون العين وفتح الراء
من اضطره، وفصل ثم اضطره بغير قطع همزتها على وجه الدعاء من
إبراهيم ربه لهم والمسألة.
(3) (منصوبة) أي مفتوحة الراء، و (موصولة) أي بهمزة الوصل لا
بهمزة القطع. [.....]
(4) هو جمع أس، بضم الهمزة. وهذا الضبط عن اللسان فى قعد. وضبط
فى أ: «آساس» وهو جمع أس أيضا.
(5) يريد: والواحدة من النساء ... أي الواحدة من القواعد بهذا
المعنى.
(1/78)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ
مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ
اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ
لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
وقوله: وَأَرِنا مَناسِكَنا ... (128)
وفى قراءة عبد الله: «وأرناهم مناسكهم» ذهب إلى الذرية.
«وَأَرِنا» ضمهم إلى نفسه، فصاروا كالمتكلمين عن أنفسهم يدلك
على ذلك قوله: وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا رجع إلى الذرية
خاصة.
وقوله: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ... (130)
العرب توقع سفه على (نفسه) وهي معرفة. وكذلك قوله: «بَطِرَتْ
مَعِيشَتَها» «1» وهي من المعرفة كالنكرة، لأنه مفسر، والمفسر
فِي أكثر الكلام نكرة كقولك:
ضِقت به ذَرْعا، وقوله: «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ
مِنْهُ نَفْساً» «2» فالفعل للذرع لأنك تقول: ضاق ذرعي به،
فلما جعلت الضيق مسندا إليك فقلت: ضقت جاء الذّرع مفسرا لأن
الضيق فِيهِ كما تقول: هُوَ أوسعكم دارا. دخلت الدار لتدل على
أن السعة فيها لا فِي الرجل وكذلك قولهم: قد وجعت بطنك، ووثقت
رأيك- أو- وفقت، [قال أَبُو عَبْد اللَّه «3» : أكثر ظني وثقت
بالثاء] «4» إنما الفعل للأمر، فلما أسند الفعل إلى الرجل صلح
النصب فيما عاد بذكره على التفسير ولذلك لا يجوز تقديمه، فلا
يقال: رأيه سفه زيدٌ، كما لا يجوز دارا أنت أوسعهم لأنه وإن
كان معرفة فإنه فِي تأويل نكرة، ويصيبه النصب فِي موضع نصب
النكرة ولا يجاوزه.
__________
(1) آية 58 سورة القصص.
(2) آية 4 سورة النساء.
(3) هو محمد بن الجهم السمري مستملى الفراء وراوى الكتاب عنه.
(4) ما بين الخطين ساقط من ج، ش- هذا- وجاء فى اللسان مادة
«وفق» : «وفق أمره يفق قال الكسائي يقال رشدت أمرك ووفقت رأيك،
ومعنى وفق أمره وجده موافقا، وقال اللحيائى:
وفقه وفهمه» .
(1/79)
وَوَصَّى بِهَا
إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ
يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ
مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
وقوله: وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ
... (132)
فِي مصاحف أهل المدينة «وأوصى» وكلاهما صوابٌ كثير فى الكلام.
وقوله: وَيَعْقُوبُ ... (132)
أي ويعقوب وصى بهذا أيضا. وَفِي إحدى القراءتين قراءة عَبْد
اللَّه أو «1» قراءة أُبَيٍّ: «أن يا بني إن اللَّه اصطفى لكم
الدين» يوقع وصى على «أَنْ» يريد وصاهم «بأن» ، وليس فِي
قراءتنا «أن» ، وكل صواب. فمن ألقاها قال: الوصية قول، وكل
كلام رجع إلى القول جاز فِيهِ دخول أن، وجاز إلقاء أن كما قال
اللَّه عز وجل فِي النساء «2» : «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» لأن
الوصية كالقول وأنشدني الكسائي:
إني سأُبدي لك فيما أبدى ... لي شجنان شجن بنجد
وشجن لي ببلاد السِنْد لأن الإبداء فِي المعنى بلسانه ومثله
قول اللَّه عز وجل «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً» «3» لأن العدة
قول. فعلى هذا يبنى ما ورد من نحوه.
وقول النحويين: إنما أراد: أن فألقيت ليس بشيء لأن هذا لو كان
لجاز إلقاؤها مع ما يكون فِي معنى القول وغيره.
__________
(1) أو هنا للشك. فقد كان المؤلف حين الكتابة لهذا غير متثبت
من الأمر، وفى الحق أن هذه قراءة الرجلين معا، كما فى البحر
والقرطبىّ.
(2) آية 11 منها.
(3) آية 29 سورة الفتح.
(1/80)
وإذا كان الموضع فِيهِ ما يكون معناه معنى
القول ثُمَّ ظهرت فِيهِ أن فهي منصوبة الألف. وإذا لم يكن ذلك
الحرف يرجع إلى معنى القول سقطت أن من الكلام.
فأما الَّذِي يأتي بمعنى القول فتظهر فِيهِ أن مفتوحة فقول
اللَّه تبارك وتعالى:
«إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ
قَوْمَكَ» «1» جاءت أن مفتوحة لأن الرسالة قول.
وكذلك قوله «فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ. أَنْ لا
يَدْخُلَنَّهَا» «2» والتخافت قول. وكذلك كل ما كان فِي
القرآن. وهو كثير. منه قول اللَّه «وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ» «3» .
ومثله: «فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ
[عَلَى الظَّالِمِينَ] » «4» الأذان قول، والدعوى قول فِي
الاصل.
وأما ما ليس فِيهِ معنى القول فلم تدخله أن فقول اللَّه
«وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ
رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا» «5» فلمّا لم يكن فى
«أَبْصَرْنا» كلام يدل على القول أضمرت القول فأسقطت أن لأن ما
بعد القول حكاية لا تحدث معها أن. ومنه قول اللَّه
«وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا
أَنْفُسَكُمُ» «6» . معناه: يقولون أخرجوا. ومنه قول اللَّه
تبارك وتعالى: «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ
الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا» . معناه
يقولان «رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا» وهو كثير. فقس بهذا ما ورد
عليك.
__________
(1) آية 1 سورة نوح.
(2) آية 23- 24 سورة القلم.
(3) آية 10 سورة يونس.
(4) آية 44 سورة الأعراف.
(5) آية 12 سورة السجدة. [.....]
(6) آية 93 سورة الأنعام.
(1/81)
وَقَالُوا كُونُوا
هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا
أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى
وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ
بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً
وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
[وقوله: ... قالوا نعبد إلهك وإله ءابائك
إبراهيم وإسمعيل وإسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون 133] .
قرأت القرّاء نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ، وبعضهم قرأ
«وإله أبيك» واحدا. وكأن الَّذِي قال: أبيك (ظن أن العم لا
يجوز فِي الآباء) «1» فقال «وإله أبيك إِبْرَاهِيم» ، ثُمَّ
عدد بعد الأب العم. والعرب تجعل الأعمام كالآباء، وأهل الأم
كالأخوال. وذلك كثير فِي كلامهم.
وقوله: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ... (135)
أمر اللَّه محمدا صلى اللَّه عليه وسلم. فإن نصبتها ب (نكون)
«2» كان صوابا وإن نصبتها بفعل مضمر كان صوابا كقولك بل نتّبِع
«مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» ، وإنما أمر اللَّه النَّبِيّ محمدا صلى
اللَّه عليه وسلم فقال «قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ» .
وقوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ... (136)
يقول لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض كما فعلت اليهود
والنصارى
وقوله: صِبْغَةَ اللَّهِ ... (138)
نَصْب، مردودة «3» على المِلَّة، وإنما قيل «صِبْغَةَ اللَّهِ»
لأن بعض النصارى كانوا إذا وُلد المولود جعلوه فِي ماء لهم
يجعلون ذلك تطهيرا له كالختانة. وكذلك
__________
(1) فى ج، ش: «ظن أن العرب لا تجوز إلا فى الآباء» . وليس له
معنى.
(2) كذا فى البحر. أي نكون ذوى ملة إبراهيم. وفى نسخ الفراء:
«بيكون» ولعل المراد إن صحت: يكون ما تختاره، مثلا:
(3) يريد أنها بدل من «مِلَّةِ إِبْراهِيمَ» .
(1/82)
وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى
النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا
جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا
لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ
عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى
الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ
إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ
(143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ
فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ
وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ
أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا
تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ
وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ
اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
هِيَ فِي إحدى القراءتين. قل «صِبْغَةَ
اللَّهِ» وهي الختانة، اختتن إِبْرَاهِيم صلى اللَّه عليه وسلم
فقال: قل «صِبْغَةَ اللَّهِ» يأمر بها مُحَمَّدا صلى اللَّه
عليه وسلم فجرت الصبغة على الختانة لصبغهم الغلمان فِي الماء،
ولو رفعت الصبغة والملة كان صوابا كما تقول العرب: جدك لا كدك،
وجدك لا كدك. فمن رفع أراد: هِيَ ملة إِبْرَاهِيم، هِيَ صبغة
الله، هو جدّك. ومن نصب أضمر مثل الَّذِي قلت لك من الفعل.
وقوله: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ... (143)
يعنى عدلا «1» لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ يقال: إن
كل نبي يأتي يوم القيامة فيقول: بلغت، فتقول أمته: لا، فيكذبون
الأنبياء، «2» (ثُمَّ يجاء بأمة مُحَمَّد صلى اللَّه عليه وسلم
فيصدقون الأنبياء ونبيهم) ، ثُمَّ يأتي النَّبِيّ صلى اللَّه
عليه وسلم فيصدق أمَّته، فذلك قوله تبارك وتعالى: لِتَكُونُوا
شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيداً، ومنه قول اللَّه: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ
أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً] »
«3» .
وقوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ... (143)
أسند الإيمَان إلى الأحياء من المؤمنين، والمعنى فيمن مات من
المسلمين قبل أن تحول القبلة. فقالوا للنبي صلى اللَّه عليه
وسلم: كيف بصلاة إخواننا الذين ماتوا على القبلة الأولى؟ فأنزل
اللَّه تبارك وتعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ
__________
(1) كذا فى أصول الكتاب بالإفراد. ووجه ذلك أن عدلا فى الأصل
مصدر، فيصلح للفرد والجمع.
وفى غير هذا الكتاب: «عدولا» .
(2) سقط ما بين القوسين فى أ.
(3) آية 41 من سورة النساء.
(1/83)
يريد إيمانهم لانهم داخلون معهم فِي الملة،
وهو كقولك للقوم: قد قتلناكم وهزمناكم، تريد: قتلنا منكم،
فتواجههم بالقتل وهم أحياء.
وقوله: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ... (144)
يريد: نحوه وتلقاءه، ومثله فِي الكلام: وَلِّ وجهك شطره،
وتلقاءه، وتُجَاهه.
وقوله: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ
آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ... (145)
أجيبت (لئن) بما يجاب به لو. ولو فِي المعني ماضية، ولئن
مستقبلة، ولكن الفعل ظهر فيهما بفعل فأُجيبتا بجواب واحدٍ،
وشُبِّهت كل واحدة بصاحبتها. والجواب فى الكلام فى (لئن)
بالمستقبل مثل قولك: لئن قمت لأقومنَّ، ولئن أحسنت لتُكرمنّ،
ولئن أسأت لا يُحْسَنْ إليك. وتجيب لو بالماضي فتقول: لو قمت
لقمت، ولا تقول: لو قمت لأقومنَّ. فهذا الَّذِي عليه يُعمل،
فإذا أُجيبت لو بجواب لئن فالذي قلت لك من لفظ فعليهما بالمضي،
ألا ترى أنك تقول: لو قمت، ولئن قمت، ولا تكاد ترى (تفعل تأتي)
«1» بعدهما، وهي جائزة، فلذلك قال «وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً
فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا» «2» فأجاب (لئن) بجواب (لو)
، وأجاب (لو) بجواب (لئن) فقال «وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا
وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ» «3»
الآية
__________
(1) كذا فى ش. وفى أ: «يفعل يأتى» وعلى هذا فقوله بعد: «وهى»
راعى فيها الكلمة، فلذلك أنث.
(2) آية 51 سورة الروم.
(3) آية 103 سورة البقرة.
(1/84)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ
فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ
وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ
مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
وقوله: وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ
لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ
مِنْ رَبِّكَ ... (147)
المعنى أنهم لا يؤمنون بأن القبلة التي صرف إليها مُحَمَّد صلى
اللَّه عليه وسلم قبلة إِبْرَاهِيم صلى اللَّه عليه وسلم وعلى
جميع الأنبياء، ثم استأنف (الحقّ) فقال: يا مُحَمَّد هُوَ
«الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» ، إنها قبلة إِبْرَاهِيم فَلا
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ: فلا تشكن فِي ذلك. والممتري:
الشاك.
وقوله: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ ...
(148)
يعنى قبلةوَ مُوَلِّيها
: مستقبلها، الفعل لكلٍ، يريد: مولٍ وجهه إليها.
والتولية فِي هذا الموضع إقبال، وفي «يُوَلُّوكُمُ
الْأَدْبارَ» «1» ، «ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ» «2»
انصراف. وهو كقولك فِي الكلام: انصرف إلى، أي أقبل إلى، وانصرف
إلى أهلك أي اذهب إلى أهلك. وقد قرأ ابن عَبَّاس وغيره «هُوَ
مُوَلاها» ، وكذلك قرأ أبو «3» جَعْفَر مُحَمَّد بْن علي، فجعل
الفعل واقعا عليه. والمعنى واحد. والله أعلم.
وقوله: يْنَ ما تَكُونُوا ...
(148)
إذا رأيت حروف الاستفهام قد وصلت ب (ما) ، مثل قوله: أينما،
ومتى ما، وأي ما، وحيث «4» ما، وكيف ما، و «أَيًّا مَا
تَدْعُوا» «5» كانت جزاء ولم تكن استفهاما.
فإذا لم توصل ب (ما) كان الاغلب عليها الاستفهام، وجاز فيها
الجزاء.
__________
(1) آية 111 سورة آل عمران.
(2) آية 25 سورة التوبة.
(3) هو الإمام الباقر، لقب بذلك لأنه بقر العلم، أي شقه وعرف
ظاهره وخفيه. وانظر طبقات القراء لابن الجزرىّ الترجمة رقم
3254
(4) كذا فى الأصول، ولا تعرف هذه الأداة فى أدوات الاستفهام.
[.....]
(5) آية 110 سورة الإسراء.
(1/85)
فإذا كانت جزاء جزمت الفعلين: الفعل
الَّذِي مع أينما وأخواتها، وجوابه كقولهَ يْنَ ما تَكُونُوا
يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ»
«1» فإن أدخلت الفاء فِي الجواب رفعت الجواب فقلت فِي مثله من
الكلام: أينما تكن فآتيك. كذلك قول اللَّه- تبارك وتعالى-
«وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ» .
فإذا كانت استفهاما رفعت الفعل الَّذِي يلي أَيْنَ وكيف، ثُمَّ
تجزم الفعل الثاني ليكون جوابا للاستفهام، بمعنى الجزاء كما
قال اللَّه تبارك وتعالى: «هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ
تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ» «2» ثُمَّ أجاب الاستفهام
بالجزم فقال- تبارك وتعالى- «يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ» «3»
.
فإذا أدخلت فِي جواب الاستفهام فاءً نصبت كما قال اللَّه-
تبارك وتعالى- «لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ
فَأَصَّدَّقَ» «4» فنصب.
فإذا جئت إلى العطوف التي تكون فى الجزاء وقد أجبته بالفاء كان
لك فِي العطف ثلاثة أوجه إن شئت رفعت العطف مثل قولك: إن تأتني
فإني أهل ذاك، وتُؤْجَرُ وتحمد، وهو وجه الكلام. وإن شئت جزمت،
وتجعله كالمردود على موضع الفاء. والرفعُ على ما بعد الفاء.
وقد قرأت القراء «مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ
وَيَذَرُهُمْ» «5» . رفع وجزم. وكذلك «إِنْ تُبْدُوا
الصَّدَقاتِ
__________
(1) آية 148 سورة البقرة.
(2) آية 10 سورة الصف.
(3) آية 12 سورة الصف.
(4) آية 10 سورة المنافقين. وقد عدّ لولا فى أدوات الاستفهام،
وهذا المعنى ذكره الهروي، كما فى المغني، ومثل له بالآية. وقال
الأمير فى كتابته على المغني: «الاستفهام هنا بعيد جدّا» أي
والقريب فى الآية معنى العرض أو التحضيض.
(5) آية 186 سورة الأعراف.
(1/86)
فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ»
«1» جزم ورفع. ولو نصبت على ما تنصب عليه عطوف الجزاء إذا
استغنى لأصبت كما قال الشاعر «2» :
فإن يهلك النعمان تعر مطِيَّةٌ ... وتُخْبَأَ فِي جوفِ
العِيابِ قُطُوعُها «3»
وإن جزمت عطفا بعد ما نصبت ترده على الأول، كان صوابا كما
قَالَ بعد هَذَا البيت:
وتنحط حصان آخر اللّيل نحطه ... تقصم منها- أو تكاد- ضلوعها
«4»
وهو كثير فِي الشعر والكلام. وأكثر ما يكون النصب فِي العطوف
إذا لم تكن فِي جواب الجزاء الفاءُ، فإذا كانت الفاءُ فهو
الرفع والجزم.
وإذا أجبت الاستفهام بالفاء فنصبت فانصب العطوف، وإن جزمتها
فصواب. من ذلك قوله فِي المنافقين «لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى
أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ» «5» رددت «وَأَكُنْ»
على موضع الفاء لأنها فِي محل جزمٍ إذ كان الفعل إذا «6» وقع
موقعها بغير الفاء جزم. والنصب على أن ترده على ما بعدها،
فتقول:
«وأكون» وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود
«وأكون» بالواو، وقد قرأ بها بعض «7» القراء. قال: وأرى ذلك
صوابا «8» لأن الواو ربما حذفت من الكتاب
__________
(1) آية 271 سورة البقرة.
(2) هو النابغة الذبيانىّ. وانظر الديوان له وشرحه فى مجموعة
الدواوين الخمسة. وهذا الشعر يقوله فى مدح النعمان بن الحارث
الأصغر الغساني.
(3) القطوع: جمع قطع. وهو كالطنفسة. والعياب: جمع عيبة وهو ما
يوضع فيه الثياب. يقول: إن هلك النعمان ترك كل وافد الرحلة ولم
يستعمل مطيته وخبأ فى جوف العياب الطنفسة التي توضع على الرحل
استعدادا للرحيل.
(4) تنحط: تزفر من الحزن. والحصان: المرأة العفيفة. يقول: إذا
تذكرت الحصان معروفه هاج لها حزن وزفرات تنكسر لها ضلوعها أو
تكاد تنكسر. وخص آخر الليل لأنه وقت الهبوب من النوم.
(5) آية 10 سورة المنافقين.
(6) سقط فى أ.
(7) يريد أبا عمرو بن العلاء، وانظر البيضاوي، والبحر 8/ 275
(8) يريد دفع ما يرد على قراءة أبى عمرو أنها مخالفة لرسم
المصحف إذ ليس فيه: «أَكُونَ» بالواو. فذكر أن الواو قد تحذف
فى الرسم وهى ثابتة فى اللفظ. [.....]
(1/87)
وهي تراد لكثرة ما تنقص وتزاد فِي الكلام
ألا ترى أنهم يكتبون «الرحمن» وسليمن بطرح الألف والقراءة
بإثباتها فلهذا جازت. وقد أسقطت الواو من قوله «سَنَدْعُ
الزَّبانِيَةَ» «1» ومن قوله «وَيَدْعُ الْإِنْسانُ
بِالشَّرِّ» «2» الآية، والقراءة على نيَّة إثبات الواو.
وأسقطوا من الايكة ألفين فكتبوها فِي موضع ليكة «3» ، وهي فِي
موضع آخر الايكة «4» ، والقراء «5» على التمام، فهذا شاهد على
جواز «وأكون من الصالحين» .
وقال بعض الشعراء «6» :
فأَبلُوني بَلِيَّتَكُم لَعَلِّي ... أصلكم وأَسْتَدْرِجْ
نَوَيّا
فجزم (وأستدرج) ، فإن شئت رددته إلى موضع الفاء المضمرة فِي
لعلى، وإن شئت جعلته فِي موضع رفع فسكنت الجيم لكثرة توالي
الحركات. وقد قرأ بعض القراء «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ
الْأَكْبَرُ» بالجزم وهم ينوون الرفع، وقرءوا
«أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ» والرفع أحبّ
إلىّ من الجزم.
__________
(1) آية 18 سورة القلم.
(2) آية 11 سورة الإسراء.
(3) كما فى آية 176 من الشعراء، وآية 13 من ض.
(4) كما فى آية 78 من الحجز، وآية 14 من ق.
(5) قرأ الحرميان: ابن كثير ونافع، وابن عامر: ليكة بفتح اللام
وسكون الياء وفتح التاء، فى الموضعين اللذين سقط فيها الألفان،
وكأن الفرّاء ينكر هذه القراءة كما أنكرها بعض النحويين. وانظر
البحر 7/ 37
(6) هو أبو داود الإيادىّ، كما فى الخصائص 1/ 176، يقوله فى
قوم جاورهم فأساءوا جواره، ثم أرادوا مصالحته. وقوله:
«فأبلونى» من أبلاه إذا صنع به صنعا جميلا. والبلية اسم منه.
و «نويا» يريد نواى، والنية: الوجه الذي يقصد. و «أستدرج» :
أرجع أدراجى من حيث كنت. يقول: أحسنوا الصنيع بي واجبروا ما
فعلتم معى، فقد يكون هذا حافزا لى أن أصالحكم أو أرجع إلى ما
كنت عليه. وانظر التعليق على الخصائص فى الموطن السابق طبعة
الدار.
(1/88)
وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي
وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
(150)
وقوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ...
(150)
يقول القائل: كيف استثنى الذين ظلموا فِي هذا الموضع؟
ولعلهم توهّموا أن ما بعد إلا يخالف ما قبلها فإن كان ما قبل
إلا فاعلا كان الَّذِي بعدها خارجا من الفعل الَّذِي ذكر، وإن
كان قد نفى عما قبلها الفعل ثبت لما بعد إلا كما تقول: ذهب
الناس إلا زَيْدًا، فزيد خارج من الذهاب، ولم يذهب الناس إلا
زَيْدُ، فزيد ذاهب، والذهاب مثبت لزيد.
فقوله «1» «إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا» [معناه «2» : إلا الذين
ظلموا منهم] ، فلا حجة لهم «فَلا تَخْشَوْهُمْ» وهو كما تقول
فِي الكلام: الناس كلهم [لك] «3» حامدون إلا الظالم لك المعتدي
عليك، فإن ذلك لا يعتد بعداوته ولا بتركه الحمد لموضع العداوة.
وكذلك الظالم لا حجة له. وقد سمي ظالما.
وقد قال بعض النحويين «4» : إلا فى هذا الموضع بمنزلة الواو
كأنه قال: «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ»
ولا للذين ظلموا. فهذا صواب فِي التفسير، خطأ فِي العربية إنما
تكون إلا بمنزلة الواو إذا عطفتها على استثناء قبلها، فهنالك
تصير بمنزلة الواو كقولك: لي على فلان ألف إلا عشرة إلا مائة،
تريد: (إلّا) الثانية أن ترجع على الألف، كأنك أغفلت المائة
فاستدركتها فقلت: اللهمّ
__________
(1) هذا أخذ منه فى الردّ على الاعتراض السابق وكأن هنا سقطا
فى الكلام. وفى هامش أفى هذا الموطن سطران لم تحسن قراءتهما.
وكأن فيهما هذا السقط.
(2) زيادة من اللسان فى إلا فى آخر الجزء العشرين.
(3) زيادة من اللسان فى الموطن السابق.
(4) القائل بهذا أبو عبيدة، وقد أبطل الزجاج والفراء هذا
القول.
(1/89)
إلا مائة. فالمعنى له على ألف ومائة، وأن
تقول: ذهب الناس إلا أخاك، اللهم إلا أباك، فتستثني الثاني،
تريد: إلا أباك وإلا أخاك كما قال الشاعر «1» :
ما بالمدينة دار غير واحدةٍ ... دار الخليفة إلا دار مروانا
كأنه أراد: ما بالمدينة دار إلا دار الخليفة ودار مروان.
وقوله: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ ...
(148)
العرب تقول: هذا أمر ليس له وجهة، وليس له جهة، وليس له وجه
وسمعتهم يقولون: وجه الحجر، جهة ماله، ووجهة ماله، ووجه ماله.
ويقولون:
ضعه غير هذه الوضعة، والضِّعة، والضَعَة. ومعناه: وجه الحجر
فله جهة وهو مثل، أصله فِي البناء يقولون: إذا رَأَيْت الحجر
فِي البناء لم يقع موقعه فأدره فإنك ستقع على جهته «2» . ولو
نصبوا على قوله: وجهه جهته لكان صوابا.
وقوله: وَاخْشَوْنِي ... (150)
أثبتت فيها الياء ولم تثبت فِي غيرها، وكل ذلك صواب، وإنما
استجازوا حذف الياء لأن كسرة النون تدل عليها، وليست تهيب
العرب حذف الياء من آخر الكلام إذا كان ما قبلها مكسورا، من
ذلك «رَبِّي أَكْرَمَنِ- وأَهانَنِ» فى سورة «الفجر» «3»
وقوله: «أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ» «4» ومن غير النون «الْمُنادِ»
«5» و «الدَّاعِ» «6» وهو كثير، يكتفي من الياء بكسرة ما
قبلها، ومن الواو بضمة ما قبلها مثل قوله:
__________
(1) نسب فى كتاب سيبويه 1/ 373 إلى الفرزدق. وانظر فى تخريج
إعرابه السيرافي على الكتاب 3/ 306 من التيمورية.
(2) وهذا المثل أورده الميدانىّ فى حرف الواو، وقال بعد أن
أورد نحو ما ذكر هنا: «يضرب فى حسن التدبير، أي لكل أمر وجه،
لكن الإنسان ربما عجز ولم يهتد إليه» .
(3) آيتا 15، 16 من السورة.
(4) آية 126 سورة النمل. [.....]
(5) آية 41 سورة ق.
(6) آيتا 6، 8 سورة القمر.
(1/90)
«سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ» «1» - «وَيَدْعُ
الْإِنْسانُ» «2» وما أشبهه، وقد تسقط العرب الواو وهي واو
جماع، اكتفى بالضمة قبلها فقالوا فِي ضربوا: قد ضرب، وفي
قَالُوا: قد قال ذلك، وهى فى هوازن وعليا قيس أنشدني بعضهم:
إذا ما شاء ضروا من أرادوا ... ولا يألو لهم أحد ضرارا «3»
وأنشدني الكسائي:
مَتَى تقول خلت من أهلها الدار ... كأنهم بجناحي طائر طاروا
وأنشدني بعضهم:
فلو أن الأطباء كان عندي ... وكان مع الأطباء الأساة «4»
وتفعل ذلك فِي ياء التأنيث كقول عنترة:
إن العدو لهم إليك وسيلة ... إن يأخذوك تكحلي وتخضب «5»
يحذفون (ياء التأنيث) «6» وهي دليل على الأنثى اكتفاء بالكسرة.
__________
(1) آية 18 سورة العلق.
(2) آية 11 سورة الإسراء.
(3) أورده البغدادىّ فى شرح شواهد المغني 2/ 859 وقال: «وهذا
البيت مشهور فى تصانيف العلماء، ولم يذكر أحد منهم قائله» .
(4) بعده:
إذا ما أذهبوا ألما بقلبي ... وإن قيل: الأساة هم الشفاة
والأساة جمع آس، وهو هنا من يعالج الجرح. وانظر الخزانة 2/
385.
(5) نسب هذا البيت فى أبيات أخر الجاحظ فى البيان 3/ 176 وفى
الحيوان 4/ 363 إلى خزز بن لوذان، وكذلك رجّح صاحب الأغانى 10/
180 طبعة الدار نسبتها إلى خزز. وذكر صاحب الخزانة 3/ 11 عن
الصاغاني أن الشعر فى ديوانى الرجلين. وانظر اللسان (نعم) .
(6) نسخة أ: (الياء) . والحق أن لا حذف فى البيت لأن القافية
مطلقة، والياء ثابتة فى اللفظ، كما يجب أن تثبت فى الكتابة.
نعم هناك طريقة فى الإنشاء تقطع الترنم، فتسكن الياء. وقد روى
أحد الأبيات التي منها هذا بالإسكان. وانظر سيبويه 2/ 302.
(1/91)
فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
وقوله: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ ... (150)
جواب لقوله: (فاذكرونى أذكركم) : كما أرسلنا، فهذا جواب (مقدم
ومؤخر) «1» .
وفيها وجه آخر: تجعلها من صلة ما قبلها لقوله: «أَذْكُرْكُمْ»
ألا ترى أنه قد جعل لقوله: «فَاذْكُرُونِي» جوابا مجزوما،
(فكان فِي ذلك دليل) «2» على أن الكاف التي فى (كما) لما قبلها
لأنك تقول فِي الكلام: كما أحسنت فأحسن. ولا تحتاج إلى أن
تشترط ل (أحسن) لأن الكاف شرط، معناه افعل كما فعلت. وهو فِي
العربية أنفذ «3» من الوجه الأول مما جاء به التفسير وهو صواب
بمنزلة جزاء يكون له جوابان مثل قولك: إذا أتاك فلان فأته
ترضه. فقد صارت (فأته) و (ترضه) جوابين.
وقوله: وَاشْكُرُوا لِي ... (152)
العرب لا تكاد تقول: شكرتك، إنما تقول: شكرت لك، ونصحت لك.
ولا يقولون: نصحتك، وربما قيلتا قال بعض الشعراء:
هُمْ جمعوا بؤسى ونعمى عليكم ... فهلا شكرت القوم إذ لم تقاتل
وقال النابغة:
نصحت بني عوفٍ فلم يتقبلوا ... رسولي ولم تنجح لديهم وسائلي
__________
(1) أي مقدّم فى اللفظ، مؤخر فى النية. والعبارة فى الطبرىّ 2/
22: «وزعموا أن ذلك من المقدّم الذي معناه التأخير» .
(2) فى ج، وش «فكان ذلك دليلا» .
(3) فى ج، وش: «أقعد» .
(1/92)
وَلَا تَقُولُوا
لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ
وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ
مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ
وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
وقوله: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ ... (154)
رفع بإضمار مكنى من أسمائهم كقولك: لا تقولوا: هُمْ أموات بل
هُمْ أحياء.
ولا يجوز فِي الأموات النصب لأن القول لا يقع على الاسماء إذا
أضمرت وصوفها أو أظهرت كما لا يجوز قلت عَبْد اللَّه قائمًا،
فكذلك لا يجوز نصب الأموات لأنك مضمر لاسمائهم، إنما يجوز
النصب فيما قبله القول إذا كان الاسم فِي معنى قولٍ من ذلك:
قلت خيرا، وقلت شرا. فترى الخير والشر منصوبين لانهما قول،
فكأنك قلت: قلت كلاما حسنا أو قبيحا. وتقول: قلت لك خيرا، وقلت
لك خير، فيجوز، إن جعلت الخير قولا نصبته كأنك قلت: قلت لك
كلاما، فإذا رفعته فليس بالقول، إنما هُوَ بمنزلة قولك: قلت لك
مال.
فابن على ذا ما ورد عليك من المرفوع قوله: «سَيَقُولُونَ
ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ» «1» و «خَمْسَةٌ» و
«سَبْعَةٌ» ، لا يكون نصبا لأنه إخبار عَنْهُمْ فِيهِ أسماء
مضمرة كقولك:
هُمْ ثلاثة، وهم خمسة. وأمّا قوله- تبارك وتعالى-:
«وَيَقُولُونَ طاعَةٌ» «2» فإنه رفع على غير هذا المذهب. وذلك
أن العرب كانوا يقال لهم: لا بد لكم من الغزو فِي الشتاء
والصيف، فيقولون: سمع وطاعة معناه: منا السمع والطاعة، فجرى
الكلام على الرفع. ولو نصب على: نسمع سمعا ونطيع طاعة كان
صوابا.
وكذلك قوله تبارك وتعالى فى سورة مُحَمَّد صلى اللَّه عليه
وسلم: «فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ» «3» .
عيّرهم وتهدّدهم بقوله: «فَأَوْلى لَهُمْ» ، ثُمَّ ذكر ما
يقولون فقال: يقولون إذا أمروا «طاعَةٌ» . «فَإِذا عَزَمَ
الْأَمْرُ» نكلوا
__________
(1) آية 22 سورة الكهف.
(2) آية 81 سورة النساء.
(3) آية 21 من السورة. [.....]
(1/93)
وكذبوا فلم يفعلوا. فقال اللَّه تبارك
وتعالى «فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ» ،
وربما قال بعضهم: إنما رفعت الطاعة بقوله: لهم طاعة، وليس ذلك
بشيء.
والله أعلم. ويقال أيضا: «وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ» و
«طاعَةٌ» فأضمر الواو، وليس ذلك عندنا من مذاهب العرب، فإن يك
موافقا للتفسير فهو صواب.
وقوله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ
وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ
وَالثَّمَراتِ ... (155)
ولم يقل (بأشياء) لاختلافها. وذلك أن من تدل على أن لكل صنف
منها شيئًا مضمرًا: بشيء من الخوف وشيء من كذا، ولو كان بأشياء
«1» لكان صوابًا.
وقوله: قالُوا إِنَّا لِلَّهِ ... (156)
لم تكسر العرب (إنا) «2» إلا فِي هذا الموضع مع اللام فِي
التوجع خاصة. فإذا لم يقولوا (لله) فتحوا فقالوا: إنا لزيد
محبّون، وإنا لربّنا حامدون عابدون.
وإنما كسرت فى «إِنَّا لِلَّهِ» لأنها استعملت فصارت كالحرف
الواحد «3» ، فأشير إلى النون بالكسر «4» لكسرة اللام التي فِي
«لِلَّهِ» كما قالوا: هالك وكافر، كسرت الكاف
__________
(1) قرأ الضحاك (بأشياء) على الجمع، كما فى الطبري.
(2) المراد بالكسر هنا إمالة النون من (إنا) إلى الكسر كما فى
النحاس عن الكسائي: إن الألف ممالة إلى الكسرة، وأما على أن
تكسر فمحال لأن الألف لا تحرك البتة، وإنما أميلت فى «إنا لله»
لكسرة اللام فى لله إلخ. وكذا الكلام على ما يأتى فى هالك
وكافر من أن الكسر فى الألف إمالته مع الكاف.
(3، 4) يريد أن (نالله) كالكلمة الواحدة، فوقعت الألف فى (نا)
قبل الكسرة (كسرة لام لله) متصلّة، وهذا سبب من أسباب الإمالة
نحو عالم وكاتب، وإن كان (نا) مما عد مشبها للحرف الذي لا
إمالة فيه لأنه مبنىّ أصلىّ فهو اسم غير متمكن، ولكنهم استثنوا
من المشبه للحرف (ها) للغائبة، (نا) للتكلم المعظم نفسه أو معه
غيره خاصة، فإنهم طردوا الإمالة فيهما لكثرة استعمالهما إذا
كان قبلهما كسرة أو ياء، فقالوا: مرّ بنا وبها، ونظر إلينا
وإليها، بالإمالة لوقوع الألف مسبوقة بالكسرة أو الياء مفصولة
بحرف.
(1/94)
إِنَّ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ
أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ
بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ
عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا
مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ
لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ
وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)
من كافر لكسرة الألف لأنه حرف واحد، فصارت
«إِنَّا لِلَّهِ» كالحرف الواحد لكثرة استعمالهم إياها، كما
قَالُوا: الحمد لله.
وقوله: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ
عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ... (158)
كان المسلمون قد كرهوا الطواف بين الصفا والمروة لصنمين كانا
عليهما، فكرهوا أن يكون ذلك تعظيما للصنمين، فأنزل اللَّه
تبارك وتعالى: (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ
اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ
عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) وقد قرأها بعضهم «1» «ألا
يطوف» وهذا يكون على وجهين أحدهما أن تجعل «لا» مع «أن» صلة
على معنى الالغاء كما قال: «ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ
أَمَرْتُكَ» والمعنى: ما منعك أن تسجد. والوجه الآخر أن تجعل
الطواف بينهما يرخص فِي تركه.
والأول المعمول به.
وقوله: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً ... (158)
تنصب على (جهة فعل) «2» . وأصحاب عَبْد اللَّه «3» وحمزة «ومن
يطوع» لأنها فِي مصحف «4» عَبْد اللَّه «يتطوع» .
وقوله: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ
اللَّاعِنُونَ (159) قال ابن عَبَّاس: «اللَّاعِنُونَ» كل شيء
على وجه الأرض إلا الثقلين.
[و] «5» قال عبد الله بن مسعود: إذا تلا عن الرجلان فلعن
أحدهما صاحبه وليس أحدهما
__________
(1) فى القرطبي: «روى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ (فلا جناح عليه
ألا يطوف بهما) وهى قراءة ابن مسعود» .
(2) يريد فتح العين فى «تطوع» على أنه فعل ماض. وفى أ: «جهة
ومن تطوع خيرا فعل» .
(3) لا ندرى ماذا يريد بأصحاب عبد الله، فإن قراءة «يطوع» تنسب
لحرة والكسائي.
(4) فى ج، ش: مصاحف.
(5) زيادة خلت منها الأصول.
(1/95)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ
لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
(161)
مستحق اللعن رجعت اللعنة على المستحق لها،
فإن لم يستحقها واحد منهما رجعت على اليهود الذين كتموا ما
أنزل اللَّه تبارك وتعالى. فجعل اللعنة من المتلاعنين من الناس
على ما فسر.
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) ف «الْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ» فى
موضع خفض تضاف اللعنة إليهم على معنى: عليهم لعنة اللَّه ولعنة
الملائكة ولعنة الناس. وقرأها الْحَسَن «لعنة اللَّه والملائكة
والناس أجمعون» وهو جائز فِي العربية وإن كان مخالفا للكتاب
«1» . وذلك أن قولك (عليهم لعنة اللَّه) كقولك يلعنهم اللَّه
ويلعنهم الملائكة والناس. والعرب تقول: عجبت من ظلمك نفسك،
فينصبون النفس لأن تأويل الكاف رفع. ويقولون: عجبت من غلبتك
نفسك، فيرفعون النفس لأن تأويل الكاف نصب. فابن على ذا ما ورد
عليك.
ومن ذلك قول العرب: عجبت من تساقط البيوت بعضها على بعض،
وبعضها على بعض. فمن رفع رد البعض إلى تأويل «2» البيوت لأنها
رفع ألا ترى أن المعنى: عجبت من أن تساقطت بعضها على بعض. ومن
خفض أجراه على لفظ البيوت، كأنه قال: من تساقط بعضها على بعض.
وأجود ما يكون فِيهِ الرفع أن يكون الأول الَّذِي فِي تأويل
رفع أو نصب قد كنى عَنْهُ مثل قولك: عجبت من تساقطها. فتقول
هاهنا: عجبت من
__________
(1) أي رسم المصحف. وفى القرطبىّ 2/ 190: «وقراءة الحسن هذه
مخالفة للصاحف» .
(2) أي محلها فى الإعراب.
(1/96)
إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا
يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ
مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ
فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ
وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ
كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ
وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ
أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعَذَابِ (165)
تساقطها بعضها على بعض لأن الخفض إذا كنيت
عَنْهُ قبح أن ينعت بظاهر، فرد إلى المعنى الَّذِي يكون رفعا
فِي الظاهر، والخفض جائز. وتعمل فيما تأويله النصب بمثل هذا
فتقول: عجبت من إدخالهم بعضهم فِي إثر بعض تؤثر النصب فِي
(بعضهم) ، ويجوز الخفض.
وقوله: وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ ... (164)
تأتي مرة جنوبا، ومرة شمالا، وقبولا، ودبورا. فذلك تصريفها.
وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ... (165)
يريد- والله أعلم- يحبون الأنداد، كما يحب المؤمنون اللَّه.
ثُمَّ قال:
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ من أولئك
لأندادهم.
وقوله: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ
الْعَذابَ ... (165)
يوقع «يَرَى» على «أن القوّة لله وأن الله» وجوابه متروك.
والله أعلم.
(وقوله) «1» : «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ
الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ» «2» وترك الجواب فِي القرآن كثير
لأن معاني «3» الجنة والنار مكرر «4» معروف. وإن شئت كسرت إن
وإن وأوقعت «يَرَى» على «إِذْ» فِي المعنى. وفتح إن وإن مع
الياء أحسن من كسرها.
ومن قرأ «ولو ترى الذين ظلموا» بالتاء كان وجه الكلام أن يقول
«أَنَّ الْقُوَّةَ ... » بالكسر «وَأَنَّ ... » لأن «ترى» قد
وقعت على (الذين ظلموا)
__________
(1) يبدو أن هنا سقطا، والأصل: ومنه قوله. وهذا سقط فى ش.
(2) آية 31 سورة الرعد.
(3) فى ش: «معنى» . وكأنها مصلحة عن «معانى» .
(4) أي أمر مكرر. [.....]
(1/97)
|