معاني القرآن للفراء

فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)

ومن سورة الدخان
قوله عز وجل: يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) .
أَمْراً (5) هو منصوب بقوله: يفرق، على معنى يفرق كل أمر فرقَا وأمرا «1» وكذلك.
قوله: رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ (6) ، يفرق ذلك رحمة من ربك، ويجوز أن تنصب الرحمة بوقوع مرسلين عليها، تجعل الرحمة هى النبي صلّى الله عليه.
وقوله: رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ (7) .
«2» خفضها الْأَعْمَش وأصحابه، ورفعها أهل المدينة، وَقَدْ «3» خفضها الْحَسَن أيضًا عَلَى أن تكون تابعة لربك رب السموات.
ومن رفع «4» جعله تابعًا لقوله: «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ، ورفع أيضًا آخر «5» عَلَى الاستئناف كما قَالَ: «وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ» «6» .
وقوله: تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ «7» هذا عَذابٌ (11) .
كان النبي صلّى الله عليه دعا عليهم، فَقَالَ: اللهم أشدد وطأتك عَلَى مضمر، اللهم سنين كَسِنيِ يُوسف، فأصابهم جوعٌ، حتّى أكلوا العظام «8» والميتة، فكانوا يرون فيما بينهم وبين السماء دخانا.
__________
(1) فى نصب «أمرا» أوجه: أحدها: هو مفعول منذرين، كقوله: لينذر بأسا شديدا. والثاني: هو مفعول له، العامل فيه: أنزلناه، أو منذرين، أو يفرق.
والثالث: هو حال من الضمير فى حكيم، أو من أمر لأنه قد وصف (ثم انظر العكبري فى إعراب القرآن 2/ 120)
(2، 3) ساقط فى ح.
(4) عاصم وحمزة والكسائي يخفضونها بدلا من ربك، أو صفة، وافقهم ابن محيصن والحسن. والباقون بالرفع على إضمار مبتدأ أي هو رب، أو مبتدأ خبره: لا إله إلا هو (الإتحاف 388) .
(5) فى ش ورفع آخر أيضا.
(6) سورة النبأ آية 37. [.....]
(7) لم يثبت (يغشى الناس) فى غير الأصل.
(8) فى (ج) الطعام وهو تحريف.

(3/39)


إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)

وقوله: يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) .
يراد بِهِ ذَلِكَ عذاب، وَيُقَال: إن النَّاس كانوا يقولون: هَذَا الدخان عذاب.
وقوله: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) .
يُقال: عائدون إلى شرككم، وَيُقَال: عائدون إلى عذاب الآخرة.
وقوله: يَوْمَ نَبْطِشُ (16) .
يعنى: يوم بدر، وهى البطشة الكبرى.
[172/ ب] وقوله: رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) .
أي عَلَى ربه كريم «1» ، ويكون كريم من قومه «2» لأنَّه قَالَ «3» : ما بعث نبي إلا وهو فِي شرف «4» قومه.
وقوله: أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ (18) .
يَقُولُ: ادفعوهم إليَّ، أرسلوهم معي، وهو قوله: «فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ» .
ويقال: أن أدّوا إلىّ يا عباد اللَّه، والمسألة الأولى نصب فيها العباد بأدوا.
وقوله: أَنْ تَرْجُمُونِ (20) .
الرجم هاهنا: القتل وقوله: وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) .
يَقُولُ: فاتركون لا عليّ، ولا لي وقوله: فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ «5» قَوْمٌ (22) .
تفتح (أنَّ) ، ولو أضمرت القول فكسرتها لكان صوابا.
__________
(1) سقط فى ح، ش.
(2) فى ب من قوله
(3) فى ح: قل.
(4) فى ب: سرا والسرا بفتح السين: الشرف، والفعل ككرم ودعا.
(5) فى ب: قومى، والقراءة (قوم) .

(3/40)


وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)

وقوله: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً (24) .
يَقُولُ: ساكنًا، قَالَ: وأنشدني أَبُو ثروان:
كأنما أهلُ حجر ينظرون مَتى ... يَرَونَني خارجًا طير تَنَادِيد «1»
طيرٌ رأَتْ بازيًا نَضْخُ «2» الدماء بِهِ ... أَوْ أمةٌ «3» خرجَتْ رهوًا «4» إلى عيد
وقوله: وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) .
يقال: منازل حسنة، ويقال: المنابر.
[حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ] «5» حَدَّثَنَا الْفَرَّاءُ قَالَ: حَدَّثَنِي أبو شعيب عن منصور ابن المعتمر عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ جبير في قوله: «فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ» (29) قال: يبكي على المؤمن من الأرض مصلَاه، ويبكي عليه من السماء مصعد عمله.
قال الفراء: وكذلك ذكره حِبَّانُ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عباس «6» .
وقوله: مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) وفي حرف عبد الله: «مِنْ عَذَابِ المُهين» «7» .
وهذا مما أضيف إلى نفسه لاختلاف الاسمين مثل قوله: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ «8» مثل قوله: «9» «وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» وهي فِي قراءة عَبْد اللَّه: «وَذَلِكَ الدينُ القَيِّمة» «10» .
__________
(1) فى هامش ب متفرقة. وانظر اللسان ح 3/ 42.
(2) فى ح، ش: نضح بالحاء المهملة، والنضخ: الأثر.
(3) فى ش: وأمة، وهو تحريف.
(4) فى هامش (ا) رهوا، أي على سكون، وفى هامش ب: رهوا ساكنة على رسل.
(5) زيادة فى ش.
(6) في ح، ش: عن عباس، سقط.
(7) جاء فى البحر المحيط 8/ 37: وقرأ عبد الله: «من عذاب المهين» ، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته، كبقلة الحمقاء. [.....]
(8) سورة يوسف الآية 109.
(9) فى ح، ومثل له: «ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» . وفى ش: ومثل قوله: «ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» سورة البينة الآية 5.
(10) جاء فى تفسير الطبري: وأضيف الدين إلى القيمة، والدين هو القيم، وهو من نعته لاختلاف لفظيهما، وهى فى قراءة عبد الله فيما أرى فيما ذكر لنا: وذلك الدين القيمة. فأنث القيمة، لأنه جعل صفة للملة كأنه قيل: وذلك الملة القيمة هون اليهودية والنصرانية ح 30/ 145.

(3/41)


وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)

وقوله: وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) .
يريد: نعم مبينّة، منها: أن أنجاهم من آل فرعون، وظللهم بالغمام، وأنزل عليهم المنَّ والسلوى، وهو كما تَقُولُ للرجل: إن بلائي عندك لحسن، وَقَدْ قيل فيهما: إن البلاء عذاب، وكلٌّ صواب.
وقوله: فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) .
يخاطبون النبي- صلى الله عليه- وحده، وهو كقوله: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ» «1» فِي كَثِير من كلام العرب، أن تجمع العرب فعل الواحد، مِنْهُ قول اللَّه عزَّ وجل: «قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ» «2» .
وقوله: إِلَّا بِالْحَقِّ (39) .
يريد: للحق.
وقوله: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) .
يريد: الأولين والآخرين، ولو نصب (ميقاتهم) لكان صوابًا يجعل «3» اليوم صفة، قَالَ: أنشدني بعضهم:
لو كنت أعلم أنّ آخر عهدكم «4» ... يوم الرحيل فعلت «5» ما لم أفعل
فنصب: يوم الرحيل، عَلَى أَنَّهُ صفة «6» .
وقوله: إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ (42) .
فإن المؤمنين يشفّع بعضهم فِي بعض، فإِن شئت فاجعل- من- فِي موضع رفع، كأنك قلت:
لا يقوم أحد إلا فلان، وإن شئت جعلته نصبًا عَلَى الاستثناء والانقطاع عنْ أول الكلام تريد:
اللهم إلَّا من رحمت.
__________
(1) سورة الطلاق الآية: 1
(2) سورة المؤمنون الآية: 99.
(3) فى ب: فجعل.
(4) فى ش عهدهم.
(5) سقط (فعلت) فى ش.
(6) فى ش فصه، وهو خطأ من الناسخ.

(3/42)


طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)

وقوله: طَعامُ الْأَثِيمِ (44) .
يريد: الفاجر.
وقوله: كَالْمُهْلِ تَغْلِي (45) قرأها كَثِير من أصحاب عَبْد اللَّه: «تغلى» ، وَقَدْ ذُكرت عنْ عَبْد اللَّه، وقرأها أهل المدينة كذلك، وقرأها الْحَسَن «يَغْلِي» «1» . جعلها للطعام أَوْ للمهل، ومن أنثها ذهب إلى تأنيث الشجرة.
ومثله قوله: «أَمَنَةً نُعاساً» «2» تغشى ويغشى فالتذكير للنعاس، والتأنيث للأمَنَة، ومثله:
«أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ تُمْنَى» «3» التأنيث للنطفة، والتذكير من المنى.
وقوله: فَاعْتِلُوهُ (47) .
قرأها بالكسر عاصم والأعمش، وقرأها أهل المدينة: «فَاعْتِلُوهُ» . بضم التاء «4» .
وقوله: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) .
قرأها القراء بكسر الألف حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا «5» الْفَرَّاءُ قَالَ: حَدَّثَنِي شَيْخٌ عَنْ حُجْرٍ «6» عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ «7» عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ:
«ذُقْ إِنَّكَ» بِفَتْحِ الْأَلِفِ «8» . وَالْمَعْنَى فِي فَتْحِهَا: ذُقْ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي قُلْتَهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَنْ كَسَرَ حَكَى قوله، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ لقى النبي- صلّى الله عليه- قال: فأخذه النبي صلّى الله عليه فَهَزَّهُ، ثُمَّ قَالَ [لَهُ] «9» : أَوْلَى لَكَ يَا أَبَا جَهْلٍ أَوْلَى «10» فَأَنْزَلَهَا «11» اللَّهُ كَمَا قَالَهَا النبي صلّى الله
__________
(1) جاء فى الاتحاف (388) : واختلف فى «تغلى» . فابن كثير وحفص ورويس بالياء على التذكير، وفاعله يعود إلى الطعام، والباقون بالتأنيث، والضمير للشجرة.
(2) سورة آل عمران الآية: 154.
(3) سورة القيامة الآية 37.
(4) قال الأزهرى: وهما لغتان فصيحتان.
(5) الزيادة من ب. [.....]
(6) سقط فى ح، وفى ش: حدثنى شيخ حجر.
(7) فى ب سمعت الحسن بن على رحمهما الله.
(8) جاء فى الاتحاف 389: واختلف فى «ذق أنك» . فالكسائى بفتح الهمزة على العلة، أي لأنك. وافقه الحسن، والباقون بكسرها على الاستئناف المفيد للعلة فيتحدان، أو محكى بالقول المقدر، أي: اعتلوه، وقولوا له:
كيت وكيت.
(9) زيادة من ب.
(10) سقط فى ج، ش.
(11) فى ب فأنزل.

(3/43)


إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)

عليه. ورد عليه أبو جهل، فقال: [و] «1» الله مَا تَقْدِرُ أَنْتَ وَلَا رَبُّكَ عَلَيَّ، إِنِّي لَأَكْرَمُ أَهْلِ الْوَادِي عَلَى قَوْمِهِ، وَأَعَزُّهُمْ فَنَزَلَتْ كَمَا قَالَهَا قَالَ: فَمَعْنَاهُ- فِيمَا نَرَى وَاللَّهُ أعلم-: انه توبيخ أي [173/ ب] ذُقْ فَإِنَّكَ كَرِيمٌ كَمَا زَعَمْتُ. وَلَسْتَ كَذَلِكَ.
وقوله: فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) .
قرأها الْحَسَن والْأَعْمَش وعاصم: (مَقامٍ) ، وقرأها أهل المدينة (فِي مُقام) بضم الميم «2» .
والمَقام بفتح الميم أجود فى العربية لأن المكان، والمُقام: الإقامة وكلٌّ صواب.
وقوله: وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) وفي قراءة عَبْد اللَّه: «وَأَمْدَدْناهُمْ بِعِيسٍ عين» ، والعيساء: البيضاء. والحوراء كذلك.
وقوله: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى (56) .
يَقُولُ القائل: كيف استثنى موتًا فِي الدنيا قَدْ مضى من موت فِي الآخرة، فهذا مثل قوله: «وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ» «3» . فإلا فِي هَذَا الموضع بمنزلة سوى، كأنه قَالَ: لا تنكحوا، لا تفعلوا سوى ما قَدْ فعل آباؤكم، كذلك قوله: «لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ» .
سوى الموتة الأولى، ومثله: «خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ» «4» «5» أي سوى ما شاء ربك «6» لهم من الزيادة عَلَى مقدار الدنيا من الخلود. وأنت قائل فِي الكلام: لَكَ عندي ألفٌ إلَّا ما لَك من قِبَل فلان، ومعناه: سوى مالك عليّ من قِبَل فلان، وإلا تكون عَلَى أنها حطٌّ مما قبلها وزيادة عليها فما ذكرناه لَكَ من هَذِهِ الآيات فهو زيادة عَلَى ما قبل إلا، والحط مما قبلَ إلا قولُك: هَؤُلَاءِ ألفٌ إلَّا مائةً «7» فمعنى هَذِهِ ألف ينقصون مائة.
وقوله: وَوَقاهُمْ «8» عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا (57) .
أي فعله تفضلا مِنْهُ، وهو ممَّا لو جاء رفعا لكان صوابًا أي: ذلك فضل من ربك.
__________
(1) كذا فى ح، ش، وفى ا، ب. الله بنصب لفظ الجلالة.
(2) جاء فى البحر المحيط 8/ 40: وقرأ عبد الله بن عمر، وزيد بن على، وأبو جعفر، وشيبة، والأعرج، والحسن، وقتادة، ونافع، وابن عامر «فى مقام» بضم الميم. وأبو رجاء وعيسى ويحيى والأعمش وباقى السبعة بفتحها.
(3) سورة النساء الآية 22.
(4) سورة هود الآية 107.
(5، 6) ساقط فى ش.
(7) فى (ا) : هو ألف إلا مائة، وما أثبتناه من ب، ح، ش، وهو أبين.
(8) في ش: «وقاهم» ، والقراءة: «ووقاهم» .

(3/44)


وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)

ومن سورة الجاثية
قوله عزَّ وجلَّ: وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ (4) .
يَقُولُ: فِي خَلَقَ الآدميين وسواهم من كل ذي روح «1» آيات. تقرأ: الآيات بالخفض عَلَى تأويل النصب. يرد عَلَى قوله: «إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ» . ويقوّى الخفض فيها «2» أنها فِي قراءة عَبْد اللَّه: (لآيات) . وفي قراءة أُبي: لآيات لآياتٍ لآيَاتٍ «3» ثلاثهن. والرفع قراءة النَّاس عَلَى الاستئناف فيما بعد أن، والعرب تَقُولُ: إن لي عليك مالًا، وعلى أخيك مال كَثِير.
فينصبون الثَّاني ويرفعونه.
وفي قراءة عَبْد اللَّه: «وفي اختلافِ اللّيل والنهارِ» . فهذا يقوي خفض الاختلاف، ولو رفعه رافع فَقَالَ: واختلاف الليل والنهار آيَاتٌ أيضًا يجعل الاختلاف آياتٍ، ولم نسمعه من أحد من القراء قَالَ: ولو رفع رافع الآيات، وفيها اللام كَانَ صوابًا. قَالَ: أنشدني الكِسَائِيّ:
إنّ الخلافة بعدهم لذميمة ... وخلائف طرف لمما أحقر «4»
فجاء باللام، وإنما هِيَ جواب لأنّ، وَقد رفع لأن الكلام مبني عَلَى تأويل إنّ.
وقوله: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا (14) .
معناه فِي الأصل حكاية بمنزلة الأمر، كقولك: قل للذين آمنوا اغفروا فإذا ظهر الأمر مصرحًا فهو مجزوم لأنَّه أمر، وإذا كَانَ عَلَى الخبر مثل قوله: «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا» ، «وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا «5» ) و «قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ «6» » ، فهذا مجزوم بالتشبيه بالجزاء والشرط
__________
(1) فى ب: من كل ذى زوج أو روح، وفى ش: من كل ذوى روح. [.....]
(2) في ب: ويقوى الخفض أنها.
(3) الثالثة فى قوله بعد آية (وفى خلقكم) : (واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض من بعد موتها وتصريف الرياح آيات) .
(4) فى (ا) أخفر.
(5) سورة الإسراء الآية 53.
(6) سورة إبراهيم الآية 31.

(3/45)


كأنه قولك: قم «1» تصب خيرًا، وليس كذلك «2» ، ولكن العرب إِذَا خرج الكلام فِي مثال غيره وهو مقارب لَهُ عرّبوه بتعريبه، فهذا من ذلك، وَقَدْ ذكرناه فِي غير موضع، ونزلت قوله:
«قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ» فِي المشركين قبل أن يؤمر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتال أهل مكَّة.
وقوله: لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) قرأها يَحيى بْن وثاب: لنجزى بالنون «3» ، وقرأها النَّاس بعد «لِيَجْزِيَ قَوْماً» »
بالياء وهما سواء بمنزلة قوله: «وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ» «5» ، «وَقَدْ خلقناك من قبل» «6» وَقَدْ قَرَأَ بعض القراء فيما ذُكر لي: ليُجزَى قَوْمًا، وهو فِي الظاهر لحن، فإن كَانَ أضمر فِي «يجزي» فعلا يقع بِهِ الرفع كما تَقُولُ: أُعطِيَ ثوبا ليُجزى ذَلِكَ الجزاء قوما فهو وجه.
وقوله: عَلى شَرِيعَةٍ (18) .
عَلَى دين وملة ومنْهاج كل ذَلِكَ يقال «7» .
وقوله: وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) .
ترفع اللَّه، وهو وجه الإعراب إِذَا جاء الاسم بعد إنَّ، وخبر فارفعه كَانَ معه فعل أَوْ لم يكن.
فأما الَّذِي لا فعل معه فقوله: «أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ» «8» وأمّا الَّذِي معه فعل فقوله جل وعز: «وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ» «9» .
__________
(1) فى (ا) ثم، والتصويب عن ب، ح، ش.
(2) في (ب) كذاك.
(3) جاء فى الإتحاف 390: واختلف فى «لنجزى قوما» فنافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويعقوب بالياء مبقيا للفاعل، أي: ليجزى الله، وافقهم اليزيدي والحسن والأعمش.
وقرأ أبو جعفر بالياء المضمومة، وفتح الزاى مبنيا للمفعول مع نصب قوما. والباقون بنون العظمة مفتوحة مبنيا للفاعل.
(4) لم يثبت فى ح، ش: (ليجزى قوما) .
(5) سورة مريم الآية 9.
(6) وهى قراءة حمزة والكسائي بنون مفتوحة، وألف على لفظ الجمع، وافقهم الأعمش. والباقون بالتاء المضمومة بلا ألف على التوحيد (الإتحاف 298 وانظر النشر 2/ 317) .
(7) انظر اللسان مادة شرع.
(8) سورة التوبة الآية 3.
(9) سورة الجاثية الآية 19. [.....]

(3/46)


أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)

وقوله: وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها (32) ترفع الساعة وهو وجه الكلام، وإن نصبتها فصواب، قَرَأَ بذلك حمزة الزيات «1» ، وفي قراءة عَبْد اللَّه: «وَإذَا قِيلَ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حقُّ وإن السَّاعةَ لا رَيْبَ فيها» «2» ، فقد عرفت الوجهين، وفسّرا «3» فى غير هذا الموضع.
وقوله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ
(21) الاجتراح: الاقتراف، والاكتساب.
وقوله: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
«4» 21) تنصب سواء، وترفعه، والمحيا والممات فِي موضع رفع بمنزلة قوله: رَأَيْت القومَ سواء صغارهم وكبارهم [174/ ب] ، تنصب سواء لأنك تجعله فعلا لما عاد عَلَى النَّاس من ذكرهم، وما عاد عَلَى القوم وجميع الأسماء بذكرهم، وَقَدْ تقدم فعله، فاجعل الفعل معربًا بالاسم الأول. تَقُولُ: مررت بقوم سواء صغارهم وكبارهم «5» ، ورأيت قوما سواء صغارهم وكبارهم «6» .
وكذلك الرفع- وربما جعلت العرب: (سواءً) فِي مذهب اسم بمنزلة حسبك، فيقولون: رَأَيْت قوما سواء صغارهم وكبارهم، فيكون كقولك: مررت برجل حسبك أخوه «7» ولو جعلت مكان سواء مستوٍ لم ترفع، ولكن تجعله متبعا لما قبله، مخالفا لسواء لأن مستويا من صفة القوم، ولأن سواء- كالمصدر، والمصدر اسم.
ولو نصبت: المحيا والممات- كَانَ وجها تريد أن تجعلهم سواء فِي محياهم ومماتهم.
وَقوله: وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً (23) .
__________
(1) جاء فى إعراب القرآن العكبري (2/ 122) قوله تعالى: «وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها» يقرأ بالرفع على الابتداء وما بعده الخبر، وقيل: هو معطوف على موضع إن، وما عملت فيه، ويقرأ بالنصب عطفا على اسم إن.
(2) انظر المصاحف للسجستانى ص: 70.
(3) فى ش وفسر.
(4) لم يثبت فى ب: (ومماتهم) .
(5، 6) سقط فى ح.
(7) فى ب، ح، ش: حسبك أبوه.

(3/47)


وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)

قرأها «1» يَحيى بْن وَثاب (غَشْوَة) «2» بفتح الغين، وَلا يلحق «3» فيها ألفا، وَقرأها النَّاس (غِشاوَة) «4» ، كأن غشاوَة «5» اسم، وَكأن غشوة «6» شيء غشيها فِي وَقعة واحدة، مثل: الرجفة، وَالرحمة، وَالمرَّة.
وقوله: نَمُوتُ وَنَحْيا (24) .
يَقُولُ القائل: كيف قَالَ: نموت ونحيا، وهم مكذبون «7» بالبعث؟ فإنما أراد نموت، ويأتي بعدنا أبناؤنا، فجعل فعل أبنائهم كفعلهم، وهو فِي العربية كَثِير.
وقوله: وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ (24) .
يقولون: إلّا طول الدهر، ومرور الأيام والليالي والشهور والسنين.
وفي قراءة عَبْد اللَّه: «وما يُهْلِكُنا إلّا دَهْرٌ» ، كأنه: إلّا دهر يمر.
وقوله: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً 28.
يريد: «8» كلّ أهل دين جاثية يَقُولُ: «9» مجتمعة للحساب، ثُمَّ قَالَ: «كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا» (28) . يَقُولُ إلى حسابها، وهو من قول اللَّه: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ» «10» و «بشماله» «11» .
وقوله: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) .
الاستنساخ «12» : أن الملكين يرفعان عمل الرجل صغيرهِ وكبيره، فيثبت الله من عمله ما كان
__________
(1) فى (ا) وقرأها.
(2) فى ب عسوة بفتح العين، وهو تصحيف.
(3) فى ب ولم يلحق.
(4) جاء فى الاتحاف 390: واختلف فى «غشاوة» ، فحمزة والكسائي وخلف بفتح الغين وسكون الشين بلا ألف، وافقهم الأعمش، وعنه أيضا كسر الغين، والباقون بكسر الغين وفتح الشين وألف بعدها لغتان.
(5) سقط فى ح: كأن غشاوة.
(6) فى ب عشوة، تصحيف.
(7) فى ب يكذبون.
(8، 9) ساقط فى ح. [.....]
(10) سورة الانشقاق الآية 7، وسورة الحاقة الآية 19.
(11) سورة الحاقة الآية 25.
(12) فى ا، ح، ش: والاستنساخ.

(3/48)


قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)

لَهُ ثواب أَوْ عقاب، ويطرحَ مِنْهُ اللغو الَّذِي لا ثواب فِيهِ ولا عقاب، كقولك: هلُمَّ، وتعال، واذهب، فذلك الاستنساخ.
وقوله: وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ (31) .
أضمر القول فيقال: أفلم، ومثله: «فَأَمَّا «1» الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ» «2» معناه، فيقال: أكفرتم، والله أعلم. وذلك أنّ أما لا بد لها من أن تجاب بالفاء، ولكنها سقطت لما سقط الفعل الَّذِي أضمر.
وقوله «3» : وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ (34) .
نترككم فِي النار كما نسيتم لقاء يومكم هَذَا، يَقُولُ: كما تركتم العمل للقاء يومكم هَذَا.
وقوله: فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) .
يَقُولُ: لا يراجعون الكلام بعد دخولهم النار.
[175/ ا]