معترك الأقران في إعجاز القرآن

الوجه الثالث من وجوه إعجازه
حُسْن تأليفه، والتئام كلمه، فصاحتها، ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة عادةَ
العرب الذين هم فرسانُ الكلام وأربابُ هذا الشأن.
فجاء نطقه العجيب، وأسلوبه الغريب مخالفاً لأساليب كلام العرب ومنهاج نظمها ونثرها الذي جاءت عليه، ووقفت عليه مقاطع آياته، وانتهت إليه فواصلُ كلماته، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له.
قال ابن عطية: الصحيح والذي عليه الجمهور والحذاق في وجوه إعجازه أنه
بِنَظْمِهِ وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه، وذلك أن الله أحاط بكل شيء
علماً، وأحاط بالكلام كلِّه علماً، فإذا ترتبَت اللفظة من القرآن علم بإحاطته أىَّ لفظة تصلح أن تلي الأولى وتبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره.
والبشَرُ محل الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم ضرورة أن أحدًا من البشر
لا يحيط بذلك، فلذلك جاء نظمُ القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا يبطل قول من قال: إن العرب كان في قدرتها الإتيانُ بذلك، فصُرِفوا عن ذلك.
والصحيح أنه لم يكن في قدرة أحد قط، ولهذا ترى البليغ ينقّح القصيدة أو
الخطبة حَوْلاً، ثم ينظر فيها، ثم يغير فيها، وهلمّ جرّا.
وكتابُ الله سبحانه لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد، ونحن تتبين لنا البراعة في أكثره، ويخفَى علينا وجهها في مواضع، لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة.
وقامت الحجةُ على العالم بالعرب، إذ كانوا أرباب الفصاحة وفطنة المعارضة، كما كانت الحجة في معجزة موسى بالسحرة، وفي معجزة.
عيسى بالأطباء، فإن الله إنما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير أبدع ما تكون في زمان النبي الذي أراد إظهاره، فكان السحر في مدة موسى إلى غايته، وكذلك الطب في زمان عيسى، والفصاحة في زمان محمد - صلى الله عليه وسلم -

(1/23)


وقال حازم في منهاج البلغاء: وجه الإعجاز في القرآن من حيث استمرت
الفصاحة والبلاغة فيه في جميع أنحائها في جميعه استمرارا لا يوجد له فترة، ولا
يقدِرُ عليه أحد من البشر.
وكلام العرب ومَنْ تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة في جميع أنحائها في العالي منه إلا في الشيء اليسير المعدود، ثم تعترض
الفترات الإنسانية، فينقطع طيب الكلام ورونقهُ، فلا تستمر لذلك الفصاحة في جميعه، بل توجد في تفاريق وأجزاء منه.
قال الجَعْبَرِي: لمعرفة فواصل الآي طريقان: توقيفي وقياسي، أما التوقيفي
فما ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - وقف عليه دائماً تحققنا أنه فاصلة، وما وصله دائماً تحققنا أنه ليس بفاصلة، وما وقف عليه مرة ووصله أخرى احتمل الوقف أن يكون لتعريف الفاصلة أو لتعريف الوقف التام أو للاستراحة.
والوصلُ أن يكون غير فاصلة، أو فاصلة وصلها لتقدم تعريفها.
وأما القياسي فهو ما ألحق من المحتمل غير المنصوص بالمنصوص لمناسب، ولا
محذورَ في ذلك، لأنه لا زيادة فيه ولا نقصان، وإنما غايته أنه محل فَصْل أو
وصل.
والوقف على كل كلمة جائز، ووصل القرآن كله جائز، فاحتاج القياسي
إلى طريق تعرفه، فنقول: فاصلة الآية كقرينة السجع في النثر، وقافية البيت في الشعر.
ومما يذكر من عيوب القافية من اختلاف المد والإشباع والتَّوْجيه، فليس
بعيب في الفاصلة، وجاز الانتقال في الفاصلة والقَرِينة وقافية الأرجوزة من نوع إلى آخر بخلاف قافية القصيدة.
ومن ثم ترى "يرجعون" مع "عليم" و"الميعاد"
مع "الثواب"، و"الطارق" مع "الثاقب".
والأصل في الفاصلة والقرينة المتجردة في الآية والسجعة المساواة، ومِنْ ثمَّ
أجمع العادُّون على تَرْك عَدّ: (ويَاْتِ بآخرين) النساء: 133.
(ولا الملائكةُ الْمُقَرَّبُون) النساء: 172، و (كَذَّب بها الأوَّلُون)
الإسراء: 59، و (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) : 97، بمريم)

(1/24)


و (لعلهم يتَّقون) 113، بطه - و (مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)
و (أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : 11، 12، بالطلاق حيثُ لم
ئشاكل طرفيه.
وعلى ترك عَدّ: (أفَغَيْرِ دِين اللهِ يبْغُون) آل عمران: 83.
(أفَحُكْمَ الجاهلية يبْغون) المائدة.
وعدوا نظائرها للمناسبة، نحو: الأولي (الألباب) آل عمران: 190، بآل عمران.
و (على اللهِ كَذِبا) الكهف: 15، بالكهف.
و (السَّلْوَى) : 80، بِطَه.
وقال غيره: تقع الفاصلة عند الاستراحة في الخطاب لتحسين الكلام بها.
وهي الطريقة التيْ يبايِنُ القرآن بها سائر الكلام، وتسمى فواصل، لأنه ينفصل عندها الكلامان، وذلك أن آخر الآية فصل ما بينها وبين ما بعدها، وأخْذا من قوله تعالى: (كتاب فصِّلَتْ آيَاتُه) فصلت: 3.
ولا يجوز تسميتها قوافي إجماعاً، لأن الله تعالى لما سلب عنه اسْمَ الشعر وجب
سلْبُ القافية عنه أيضاً، لأنها منه وخاصةٌ به في الاصطلاح.
وكما يمتنع استعمال القافية فيه يمتنع استعمال الفاصلة في الشعر، لأنها صفة لكتاب الله فلا تتعداه.
وهل يجوزُ استعمال السجع في القرآن، خلاف: الجمهور على المنع، لأن أصله من سجع الطّيْرُ، فَشُرفَ القرآن أن يستعار لشيء منه لفظ أصله مهمل، ولأجل تشريفه عن مشاركة غيره من الكلام الحادث في وصفه بذلك، ولأن القرآن من صفاته تعالى، فلا يجوز وصْفُه بصفة لم يرد الإذن بها.
قال الرماني في إعجاز القرآن: ذهب الأشعرية إلى امتناع أن يقول في القرآن
سجع، وفرَّقُوا بينهما بأن السجع هو الذى يقصد في نفسه ثم مجال المعنى عليه، والفواصل التي تَتْبَع المعاني، ولا تكون مقصودة في نفسها.
قال: ولذلك كانت الفواصل بلاغة والسجع عيباً، وتبعه على ذلك أبو بكر الباقلاني.
وقال الخفاجي في سر الفصاحة: قول الرماني: إن السجعَ عَيْب والفواصل
بلاغة غلط، فإنه إن أراد بالسجع ما يَتْبَعُ المعنى - وهو غير مقصود فذلك

(1/25)


بلاغة، والفواصل مثله.
وإن أراد به ما تقع المعاني تابعة له - وهو مقصود متكلف - فذلك عيب.
والفواصل مثله.
قال: وأظن الذي دعاهم إلى تسمية كل ما في القرآن فواصل، ولم يسموا ما
تماثلت حروفه سجعاً - رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من
الكلام المروي عن الكهنة وغيرهم، وهذا غَرَضٌ في التسمية قريب.
والحقيقة ما قلناه.
قال: والتحرير أن الأسجاع حروف متماثلة في مقاطع الفواصل.
قال: فإن قيل: إذا كان عندكم أن السجع محمود فَهلا وَرَدَ القرآنُ كله
مسجوعاً، وما الوجه في ورود بعضه مسجوعا وبعضه غير مسجوع، قلنا، إن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى عُرْفهم وعادتهم، وكان الفصيح منهم
لا يكون كلامُه كله مسجوعاً، لما فيه من أمارات التكللف والاستكراه لاستماع طول الكلام، فلم يَرِدْ كله مسجوعاً جرياً منهم على عُرْفِهم في اللطيفة الغالبة من كلامهم، ولم يخل من السجع، لأنه يحسن في بعض الكلام على الصفة السابقة.
وقد ألف الشيخ شمس الدين بن الصائغ الحنفي كتاباً سماه " إحكام الراي في
أحكام الآي " قال فيه: إن المناسبة أمر مطلوب في اللغة العربية يُرتكب بها
أمور من مخالفة الأصول.
قال: وقد تتبعت الأحكام التي وقعت في آخر الآي مراعاة للمناسبة فعثرت
منها على ما ينيف على الأربعين حكماً:
1 - تقديم المعمول إما على العوامل نحو: (أهؤلاء إياكم كانوا يعْبُدون)
قيل: ومنه: (وَإيّاك نستعين) .
أو معمول آخر أصله التقديم، نحو: (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتنَا الْكبْرَى) .
إذا أعربنا (الكبرى) مفعول نرِي.
أو على الفاعل، نحو: (ولقد جاء آل فرعون النّذُر) .
ومنه تقديم خبر كان على اسمها، نحو: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) .

(1/26)


2 - تقديم ما هو متأخر في الزمان، نحو: (فَلِلّهِ الآخِرَةُ والاْولى) .
ولولا مراعاة الفواصل لقُدمت " الأولى"، كقوله: (لهُ الْحَمْدُ في الأولى
والآخرة) . القصص: 70.
3 - تقديم الفاضل على الأفضل، نحو: (برَبِّ هَارون ومُوسى) .
وتقدم ما فيه.
4 - تقديم الضمير على ما يفسره، نحو: (فأوْجَسَ في نَفْسِه خِيفَة مُوسى) .
5 - تقديم الصفة الجملة على الصفة المفرد، نحو: (وَنُخْرجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُورا) . الإسراء: 13.
6 - حذف ياء المنقوص العرّف، نحو: (الكبِير المتعال) الرعد: 10.
(يوم التناد) . المؤمن: 32.
7 - حذف ياء الفعل غير المجزوم، نحو: (واللّيْلِ إذَا يَسْرِ) .
8 - حذف ياء الإضافة، نحو: (فكيف كان عَذَابي ونُذُر) . القمر 18.
(فكيف كان عقاب) الرعد: 32.
9 - حرف المد، نحو: الظنُونَا، والرسولا، والسبيلا.
ومنه إبقاؤه مع الجازم، نحو: (لا تخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى) أطه: 77.
(سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) .، على القول بأنه نَهْي.
10 - صرف ما لا ينصرف، نحو: (قَوَاريرا. قَوَاريرا) . الإنسان: 15.
16.
11 - إيثار تذكير الجنس، كقوله: (أعجاز نَخْلٍ مُنْقَعِرْ) .
12 - إيثار تأنيثه، نحو: (أعجاز نَخْل خَاوية) . الحاقة: 7، ونظيرُ هذين

(1/27)


قوله في القمر: (وكلّ صَغِير وَكَبير مستَطِر) . القمر: 53.
وفي الكهف: (لا يُغادِرُ صَغِيرة ولا كَبِيرة إِلاَّ أحصَاها) . الكهف: 49.
13 - الاقتصار على أحد الوجهين الجائزين اللذين قرىء بهما في السبع في غير ذلك، كقوله: (فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا) الجن: 14) ، ولم يجئْ رشداً في
السبع، وكذا: (وهَبْ لَنَا مِنْ أمْرِنَا رَشَدا) . الكهف: 10) ، فإن الفواصل
في السورتين محركة الوسط، وقد جاء في: (وإن يَرَوْا سَبِيل الرّشْد) الأعراف: 146.
وبهذا يبطل ترجيح الفارسي قراءة التحريك بالإجماع عليه فيما تقدم.
ونظير ذلك قراءة: (تَبّتْ يَدَا أبِي لَهَب) بفتح الهاء وسكونها، ولم
يقرأ: (سيصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَب) المسد: 3.
إلا بالفتح لمراعاة الفاصلة.
14 - إيراد الجملة التي ورد بها ما قبلها على غير وجه المطابقة في الاسمية
والفعلية، كقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بالله وَباليَوْمِ الآخر ومَا
هَمْ بمؤمِنين) البقرة: 8، لم يطابق بين قولهم " آمنّا" وبين ما ردّ به فيقول: لم
يؤمنوا، أو ما آمَنوا لِذَلك.
15 - إيراد أحد القسمين غير مطابق للآخر كذلك، نحو: (فليعلمنَّ الله
الذين صدقوا ولَيَعْلَمَنَّ الكاذبين) العنكبوت: 3.
ولم يقل الذين كذبوا.
16 - إيراد أحد جزأى الجملتين على غير الوجه الذي أورد نظيرها من
الجملة الأخرى، نحو: (أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتَّقُون) البقرة:
177.
17 - إيثار أغرب اللفظتين، نحو: (قِسْمَةٌ ضِيْزَى) . النجم: 22) ، ولم
يقل جائرة.
و (لَيُنْبَذَنَّ في الحُطَمَة) . الهمزة: 4) ، ولم يقل جهنم أو النار.
وقال في المدثر: (سَأصْليهِ سَقَر) . المدثر: 26.
وفي سأل (إِنَّهَا لَظَى (15) .
وفي القارعة: (فأمهُ هَاوِية) . لمراعاة فواصل كل سورة.
18 - اختصاص كل من المشتركين بموضع، نحو: (وليذكَّر أولو الألباب)

(1/28)


وفي سورة طه: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) .
19 - حذف المفعول، نحو: (فأمَّا مَنْ أعطَى واتَّقَى) . الليل: هـ.
(ما وَدَّعَكَ ربُّكَ ومَا قَلَى) الضحى: 2.
ومنه حذف متعلق أفعل التفضيل، نحو: (يَعْلَم السَرَّ وأخْفَى) ، (خَيْر وأبقى) .
20 - الاستغناء بالإفراد عن التثنية، نحو: (فلا ئخْرِجَتكمَا من الجنة
فتَشْقَى) .
21 - الاستغناء به عن الجمع، نحو: (واجْعَلْنَا للِمُتَّقِين إماماً) . ولم يقل أئمة، كما قال: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا)
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) ،: أي أنهار.
22 - الاستغناء بالتثنية عن الإفراد، نحو: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) .
قال الفراء: أراد جنة، كقوله: (فإن الجنةَ هي المأوَى) .
فثنى لأجل الفاصلة.
قال: والقوافي تحتمل من الزيادة والنقصان ما لا يحتمله سائر الكلام.
ونظير ذلك قول الفراء أيضاً في قوله: (إذ انْبَعَثَ أشْقَاهَا) ، فإنهما رجلان فدَار وآخر معه ولم يقل أشقياها للفاصلة.
وقد أنكر ذلك ابن قتيبة وأغلظ فيه، وقال: إنما يجوز في رؤوس الآي زيادة
هاء السكت أو الألف أو حذف همزة أو حرف، فأما أن يكون الله وعد جنتين فيجعلهما جنة واحدة لأجل رؤوس الآى فمعاذ الله! وكيف هذا وهو يصفهما بصفات الاثنين.
قال: (ذَوَاتَا أفْنَان) الرحمن: 48) ، ثم قال: " فيهما".
وأما ابن الصائغ فإنه نقل عن الفراء أنه أراد جنات، فأطلق الاثنين على
الجمع لأجل الفاصلة، ثم قال: وهذا غير بعيد.
قال: وإنما أعاد الضمير بعد ذلك بصيغة التثنية مراعاة للفظ، وهذا هو الثالث والعشرون.

(1/29)


24 - الاستغناء بالجمَع عن الإفراد، نحو: (لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ)
، أى ولا خُلّة، كما في الأخرى، وجمع مراعاة للفاصلة.
25 - إجراء غير العاقل مجرى العاقل، نحو: (رَأيْتُهُمْ لي ساجدين) .
(كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) .
26 - إمالة ما لا يمال، كآى طه والنجم.
27 - الإتيان بصيغة المبالغة، كقدير، وعليم، مع ترك ذلك في نحو: (هو
القادر) ، و (عالم الغيب) .
ومنه: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) .
28 - إيثار بعض أوصاف المبالغة على بعض، نحو: (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) .
أوثر على عجيب لذلك.
29 - الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، نحو: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) .
30 - إيقاع الظاهر موقع المضمر، نحو: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) .
وكذا آية الكهف.
31 - وقوع مفعول موقع فاعل، كقوله: (حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
(إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) .
أي ساتراً، وآتياً.
32 - وقوع فاعل موقع مفعول، نحو (عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) .
(ماءٍ دافق) .
33 - الفصل بين الموصوف والصفة، نحو: (أخرج المرعَى فجعلَهُ غثَاءً
أحْوَى) . الأعلى: 5، 6، إن أعْرِب أحوى صفة للمرعى، أي حالاً.
34 - إيقاع حرف مكان غيره، نحو: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) .
والأصل إليها.

(1/30)


35 - تأخير الوصف غير الأبلغ عن الأبلغ.
ومنه: الرحمن الرحيم.
رؤوف رحيم، لأن الرأفة أبلغ من الرحمة.
36 - حذف الفاعل ونيابة المفعول نحو: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) .
37 - إثبات هاء السكت، نحو: مالِيَه. سُلْطَاييَه. مَا هِيَه.
38 - الجمع بين المجرورات، نحو: (ثم لا تَجِدُوا لكم عَلَيْنَا به تَبِيعا)
، فإن الأحسن الفصل بينهما، إلا أن مراعاة الفاصلة اقتضت
عدمه.
39 - العدول عن صيغة المضي إلى صيغة الاستقبال، نحو: (فَفَرِيقاً كذَّبتم
وفريقاً تَقْتُلون) ، الأصل قتلتم.
40 - تغيير بنْية الكلمة، نحو: (وطورِ سينين) التين: 2.
والأصل طور سيناء.
قال ابن الصائغ: لا يمتنعُ في توجيه الخروج عن الأصل في الآيات المذكورة
أمور أخرى مع وجه المناسبة، فإن القرآن العظيم - كما جاء في الأثر - لا تنقضي عجائبه.
وقال ابن أبي الإصبع: لا تخرج فواصل القرآن عن أحد أربعة أشياء:
التمكين، والتصدير، والتوشيح، والإيغال.
والتمكين - ويسمى ائتلاف القافية: أن يمهد الناثرُ للقرينة أو الشاعر للقافية
تمهيداً تأتي به القافية أو القرينة متمكنة في أماكنها مستقرة في قرارها، مطمئنة
في مواضعها، غير نافرة ولا قلقة، ومتعلقا معناها بمعنى الكلام كله تعلقاً تاما، بحيث لو طُرِحَت لاختل المعنى واضطرب الفهم، وبحيث لو سكت عنها كمّله السامع بطبعه.
ومن أمثلة ذلك قوله: (يا شُعَيْبُ أصَلاتُكَ تأمُرُكَ) .

(1/31)


لما تقدم في الآية ذكر العبادة وتلاه ذكر التصرف في الأموال اقتضى ذلك ذكر الحلم والرشد على الزتيب، لأن الحلم يناسب العبادات، والرشد يناسب الأموال.
وقوله: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) ... إلى قوله: (أفلا يُبْصرُون) السجدة: 26، 27) .
فأتى في الآية الأولى بـ يهْدِ لهم، وختمها بِ "يَسْمَعُون "، لأن الموعظة فيها مسموعة وهي أخبار القرون.
وفي الثانية بـ يروا، وختمها بـ "يبصرون" لأنها مرئية.
وقوله: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) .
فإن اللطيف يناسب ما لا يدرك بالبصر، والخبير يناسب ما يدركه.
وقوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ...
إلى قوله: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ، فإن في هذه الفاصلة التمكين التام المناسب لما قبلها.
وقد بادر بعض الصحابة حين نزل أول الآية إلى ختمها بها قبل أن يسمع
آخرها، فأخرج ابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن زيد بن ثابت، قال: أمْلَى
عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ... إلى قوله: خلقاً آخر - قال معاذ بن جبل: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له معاذ: مِمَّ ضحكْتَ يا رسول الله، قال: بها خُتِمت.
وحكي أن أعرابياً سمع قارئاً يقرأ: " فإنْ زَللْتُمْ من بعد ما جاءتكم البيناتُ
فاعلموا أن الله غفور رحيم ".
ولم يكن يقرأ القرآن، فقال: إن هذا ليس بكلام الله، لأن الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل، لأنه إغراء عليه.
تنبيهات
الأول - قد تجتمع فواصل في موضع واحد، ويخالف بينها، كأوائل النحل.
فإنه تعالى تبدأ بذكر الأفلاك، فقال: (خلَقَ السَّماواتِ والأرضَ بالحقِّ)

(1/32)


ثم ذكر خلق الإنسان (من نطْفَة) ، ثم ذكر خلق " الأنعام "، ثم عجائب النبات، فقال: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ) الآية.
فجعل مقطع هذه الآية التفكر، لأنه استدلال بحدوث الأنواع
المختلفة من النبات على وجود الإله القادر.
ولما كان هنا مظنة سؤال، وهو أنه: لِمَ لا يجوز أن يكون المؤثر فيه طبائع
الفصول وحركات الشمس والقمر، وكان الدليل لا يتم إلا بالجواب عن هذا السؤال - كان مجال التفكر والنظر والتأمل باقياً، فأجاب عنه تعالى من وجهين:
أحدهما - أن تغييرات العالم السفلي مربوطة بأحوال حركات الأفلاك، فتلك
الحركات كيف حصلت، فإن كان حصولها بسبب أفلاك أخرى لزم التسلسل، وإن كان من الخالق الحكيم فذلك إقرار بوجود الإله تعالى، وهو المراد بقوله: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) .
فجعل مقطع هذه الآية العقل، وكأنه قيل: إن كنًت عاقلاً فاعلم أن التسلسل باطل، فوجب انتهاء الحركات إلى حركة يكون مُوجِدها غير متحرك، وهو الإله القادر المختار.
والثاني: أن نسبة الكواكب والطبائع إلى جميع أجزاء الورقة الواحدة والحبة
الواحدة - واحدة، ثم إنا نرى الورقة الواحدة من الورد أحد وجهيها في غاية
الحمرة والآخر في غاية السواد، فلو كان المؤثر موجباً بالذات لامتنع حصولُ
هذا التفاوت في الآثار، فعلمنا أن المؤثر قادر مختار.
وهذا هو المراد من قوله: (وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) .
كأنه قال: اذكر ما يرسخ في عقلك أن الواجب بالطبع والذات
لا يختلف تأثيره، فإذا نظرت حصول هذا الاختلاف علمت أن المؤثر ليس هو الطبائع، بل الفاعل المختار، فلهذا جعل مقطع الآية التذكر.
ومن ذلك قوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) الآيات.

(1/33)


فإن الأولى ختمت بقوله: (لعلكم تعقلون)
والثانية بقوله: (لعلكم تذكرون) ، والثالثة بقوله: (لعلكم تتّقون)
لأن الوصايا التي في الآية الأولى إنما يحمل على تركها عدم العقل الغالب على الهوى، لأن الإشراك بالله لعدم استعمال العقل الدال على توحيده وعظمته.
وكذلك عقوق الوالدين لا يقتضيه العقلُ لسبق إحسانها إلى الولد بكل طريق.
وكذلك قتل الأولاد من الإملاق مع وجود الرازق الحي الكريم، وكذلك إتيان الفواحش لا يقتضيه عقل.
وكذلك قتل النفس لغيظ أو غضب في القاتل، فحَسُنَ بعد ذلك يعقلون.
وأما الثانية، فلتعلقها بالحقوق المالية والقولية، فإن من علم أن له أيتاماً يخلفهم من بعده لا يليق به أن يعامل أيتام غيره إلا بما يجب أن يعامَل به أيتامه.
ومن يكيل أو يزن أو يشهد لغيره لو كان ذلك الأمر له لم يحب أن يكون فيه خيانة ولا بَخْس.
وكذا من وعد له وعد لم يحب أن يُخْلَف، ومن أحب ذلك عامل
الناس به ليعاملوه بمثله، فترك ذلك إنما يكون لغفلته عن تدبر ذلك وتأمله.
فلذلك ناسب الختم بقوله: لعلكم تذكرون.
وأما الثالثة فلأن ترك اتباع شرائع الله الدينية يؤدي إلى غضبه وإلى عقابه
فحسُنَ (لعلكم تتقون) ، أى عقاب الله بسببه.
ومن ذلك قوله تعالى في الأنعام أيضاً: (وهو الذي جعل لكم النّجومَ ... )
الآيات، فإنه ختم الأولى بقوله: (لقومٍ يعلمون) ، والثانية بقوله: (لقوم
يَفْقَهون) ، والثالثة بقوله: (لقوم يؤمنون) .
وذلك لأن حساب النجوم والاهتداء بها يختص بالعلماء من ذلك، فناسب ختمه بـ يعلمون.
وإنشاء الخلائق من نفس واحدة ونقلهم من صلب إلى رحم ثم إلى
الدنيا ثم إلى حياة وموت، والنظر في ذلك والفكر فيه أدق، فناسب ختمه
بـ يفقهون، لأن الفقه فهم الأشياء الدقيقة.
ولما ذكر ما أنعم به على عباده من سعة الأقوات والأرزاق والثمار وأنواع ذلك ناسب ختمه بالإيمان الداعي إلى شكره تعالى على نعمه.

(1/34)


ومن ذلك قوله تعالى: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) .
حيث ختم الأولى بـ "تُؤْمِنُونَ"
والثانية بـ "تَذَكَّرُونَ".
ووجهه أن مخالفة القرآن لنظم الشعر ظاهرة وواضحة لا تخفى
على أحد، فقول من قال شعر عناد وكُفْر محض، فناسب ختمه بقوله: قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) .
وأما مخالفته لنظم الكهان وألفاظ السجع فتحتاج إلى تدبّر وتذكّر، لأن
كلاًّ منهما نثر، فليست مخالفته لهما في وضوحها لكل أحد كمخالفة الشعر، وإنما تظهر بتدبر ما في القرآن من الفصاحة والبلاغة والبدائع والمعاني الأنيقة فحسن ختمه بقوله: قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) .
ومن بديع هذا النوع اختلاف الفاصلتين في موضعين والمحدَّث عنه واحد
لنكتة لطيفة، كقوله تعالى في سورة إبراهيم: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) .
ثم قال في سورة النحل: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) .
قال ابن المنيِّر: كأنه يقول: إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت آخذها وأنا مُعْطيها، فحصل لك عند أخذها وصفان: كونك ظلوما، وكونك كفارا، يعني لعدم وفائك بشكرها، ولي عند إعطائها وصفان، وهما أني غفور رحيم، أقابل ظلمك بغفراني، وكفرك برحمتي، فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوقير، ولا أجازي جفاك إلا بالوفاء.
وقال غيره: إنما خص سورة إبراهيم بوصف المنعم عليه، وسورة النحل
بوصف النعم، لأنه في سورة إبراهيم في مساق وصف الإنسان.
وفي سورة النحل في مساق صفات الله وإثبات ألوهيته.
ونظيره قوله في الجاثية: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) .
وفي فصّلَت ختم بقوله: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) .
ونكتةُ ذلك أن قبل الآية الأولى: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) ، فناسب الختام بفاصلة البعث، لأن

(1/35)


قبله وصفهم بإنكاره.
وأما الثانية فالختام بما فيها مناسب، لأنه لا يضيّع عملاً صالحاً ولا يزيد على من عمل سيئا.
وقال في سورة النساء: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) .
ثم أعادها وختم بقوله: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) .
ونكتة ذلك أن الأولى نزلت في اليهود، وهم الذين افتروا على الله ما ليس
في كتابه، والثانية نزلت في المشركين ولا كتاب لهم وضلالهم أشد.
وقوله في المائدة: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) .
ثم قال في الثانية: (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) .
ثم قال في الثالثة: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) .
ونكتته أن الأولى نزلت في حكام المسلمين.
والثانية، في اليهود، والثالثة، في النصارى.
وقيل الأولى فيمن جحد ما أنزل الله، والثانية فيمن خالفه
مع علمه ولم ينكره، والثالثة، فيمن خالفه جاهلاً.
وقيل الكافر والظالم والفاسق
كلها بمعنى واحد، عبّر عنه بألفاظ مختلفة لزيادة الفائدة واجتناب التكرار.
وعكس هذا اتفاق الفاصلتين والمحدَّث عنه مختلف، كقوله في سورة النور:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ... إلى قوله: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) .
ثم قال: (وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) .
التنبيه الثاني: من مشكلات الفواصل: قوله تعالى: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) .
فإن قوله: "وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ" يقتضي أن تكون الفاصلة الغفور الرحيم.
وكذا نقلت عن مصحف أبيّ، وبها قرأ ابن شَنْبوذ، وذكر في حكمته أنه لا يغفر لمن استحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه، فهو العزيز أي الغالب

(1/36)


والحكيم هو الذي يضع الشيء في محله.
وقد يخفى وجهُ الحكمة على بعض الضعفاء
في بعض الأفعال فيتوهَّمُ أنه خارجِ عنها، وليس كذلك، فكان في الوصف
بالحكيم احتراس حكيم حسن، وإنْ تغْفِرْ لهم مع استحقاقهم العذاب فلا يعترض عليك أحد في ذلك، والحكمةُ فما فعلته.
ونظير ذلك في سورة التوبة قوله: (أولئك سيرحَمُهمُ الله إنَّ الله عزيز
حكيم) .
وفي سورة الممتحنة: (واغفر لنَا رَبّنَا إنّك أنْتَ العزيزُ الحكيم) .
وفي النور: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) .
فإن باديَ الرأي يقتضي تواب رحيم، لأن الرحمة مناسبة للتوبة، لكن عبّر به إشارة إلى فائدة مشروعية اللعان وحكمته، وهي الستر عن هذه الفاحشة العظيمة.
ومن خفيِّ ذلك أيضاً قوله تعالى في سورة البقرة: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) .
وفي آل عِمْران: (قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) .
فإن المتبادر إلى الذهن في آية البقرة الخَتْمُ بالقدرة، وفي آل عمران الختم بالعلم.
والجواب أن آية البقرة لما تضمنت الإخبار عن خلق الأرض وما فيها على
حسب حاجات أهلها ومنافعهم ومصالحهم، وخلق السماوات خلقاً مستوياً محكماً من غير تفاوت، والخالقُ على الوصف المذكور يجب أن يكون عالماً بما فعله كلياً وجزئياً، جملاً ومفصّلاً - ناسب ختمها بصفة العلم.
وآية آل عمران لما كانت في سياق الوعيد على موالاة الكفار، وكان التعبير بالعلم فيها كناية عن المجازاة بالثواب والعقاب ناسب ختمها بصفة القدرة.
ومن ذلك قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) .
فالختم بالحلم والمغفرة عقب

(1/37)


تسابيح الأشياء غيْرُ ظاهر في بادي الرأي، وذكر في حكمته أنه لما كانت
الأشياء كلها تسبح ولا عصيان في حقها وأنتم تعصون ختم بها مراعاةً للمقدر في الآية وهو العصيان، كما جاء في الحديث: لولا بهائم رُتّع، وشيوخٌ ركع، وأطفال رُضّع لَصُبَّ عليكم البلاء صبّا.
وقيل: التقدير: حليما عن تفريط المسبحين غفوراً لذنوبهم.
وقيل: حليما عن المخاطبين الذين لا يفقهون التسبيح بإهمالهم النظر في الآيات والعبر ليعرفوا بالتأمل فما أودع في مخلوقاته مما يوجب تنزيهه.
التنبيه الثالث: من الفواصل ما لا نظير له في القرآن، كقوله عقب الغض في
سورة النور: (إنَّ الله خَبيرٌ بما يَصْنَعُون) .
وقوله عقب الأمر بالدعاء والاستجابة: (لعلهم يَرْشُدُون) .
وفيه تعريض بليلة القدر حيث ذكر ذلك عقب ذكر رمضان، أي لعلهم يرشدون إلى معرفتها.
وأما التصدير فهو أن تكون تلك اللفظة بعينها تقدمت في أول الآية، ويسمى
أيضأ رد العجز على الصدر.
وقال ابن المعتز هو ثلاثة أقسام:
الأول: أن يوافق آخرُ الفاصلة آخر كلمة في الصدر، نحو: (أنزله بعلمه
والملائكة ُ يشهدون وكفى بالله شهيدا) . النساء: 66.
والثاني: أن يوافق أول كلمة منه، نحو: (وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) .
(قال إني لِعملكمْ مِنَ القَالِين) الشعراء: 168.
الثالث: أن يوافق بعض كلماته، نحو: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) .
(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) .
(قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ ...
إلى قوله: (وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) .

(1/38)


وأما التوشيح فهو أن يكون في أول الكلام ما يستلزم القافية.
والفرق بينه وبين التصدير أن هذا دلالته معنوية، وذلك لفظية، كقوله تعالى: (إنّ اللهَ اصْطَفَى آدم ... ) . آل عمران: 33، الآية، فإن اصطفى يدلُّ على أن الفاصلة العالمين لا باللّفظ، لأن " العالمين " غير لفظ " اصطفى "، ولكن بالمعنى، لأنه يعلم أن من لوازم اصطفاء شيء أن يكون مختاراً على جنسه، وجنس هؤلاء المصطفين "العالمين".
وكقوله: (وآيةٌ لَهُمُ الليلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَار ... ) الآية.
قال ابن أبي الإصبع: فإن من كان حافظاً لهذه السورة متَفَطِّناً إلى أن
مقاطع آيها النون المردفة، وسمع في صدر الآية انسلاخ النهار من الليل علم أن الفاصلة " مظلمون "، لأن من انسلخ النهار عن ليله أظلم، أي دخل في الظلمة، ولذلك سمي توشيحا، لأن الكلام لما دل أوله على آخره نزّل المعنى منزلة الوشاح، ونُزل أول الكلام وآخره منزلة العاتق والكشْح اللذين يجول.
عليهما الوشاح.
وقسم البديعيون السجع ومثله الفواصل إلى أقسام: مطرَّف، ومتَواز، ومتوازن، ومرصّع، ومتماثل.
فالمطرف: أن تختلف الفاصلتان في الوزن ويتفقا في حروف السجع، نحو:
(مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) .
والمتوازي: أن يتفقا وزنا وتقفية، ولم يكن ما في الأولى مقابلاً لما في الثانية
في الوزن والتقفية، نحو: (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) .
والتوازن: أن يتفقا في الوزن دون التقفية، نحو: (وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) .
والمرصع: أن يتفقا وزناً وتقفية، ويكون ما في الأولى مقابلاً لما في الثانية
وذلك، نحو: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) .
(إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) .

(1/39)


والمتماثل: أن يتساويا في الوزن دون التقفية، ويكون أفراد الأولى مقابلة لما في الثانية، فهو بالنسبة إلى المرصّع كالمتوازن بالنسبة إلى المتوازي، نحو: (وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) .
فالكتاب والصراط متوازنان، وكذا المستبين والمستقيم، واختلفا في الحرف
الأخير.
(فصل)
بقي نوعان بديعيان متعلقان بالفواصل: أحدهما التشريع، وسماه ابن أبي
الإصبع التوأم، وأصله أن يبني الشاعر بيته على وزنين من أوزان العروض، فإذا سقط منهما جزء أو جزآن صار الباقي بيتاً من وزن آخر، ثم زعم قوم اختصاصه
وقال آخرون: بل يكون في النثر بأن يبني على سجعتين لو اقتصر على الأولى
منهما كان الكلام تاماً مفيداً، وإن ألحقت به السجعة الثانية كان في التمام
والإفادة على حاله مع زيادة معنى ما زاد في اللفظ.
قال ابن أبي الإصبع: وقد جاء من هذا الباب معظم سورة الرحمن، فإن آياتها
لو اقتصر فيها على أولى الفاصلتين دون (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)
لكان الكلام تاماً مفيداً، وقد كمل بالثانية، فأفاد معنى زائداً من التقرير والتوبيخ.
قلت: التمثيلُ غير مطابق، والأولى بأن يمثل بالآيات التي في أثنائها ما يصلح
أن يكون فاصلة، كقوله: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) .
الثاني: الالتزام، ويسمى لزوم ما لا يلزم، وهو أن يُلتزم في الشعر أو النثر
حرفٌ أو حرفان فصاعداً قبل شرط الروي بشرط عدم الكلفة، مثال التزام
حرف: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) .
التزم الهاء قبل الراء ومثله: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) .
الآي التزم

(1/40)


فيها الراء قبل الكاف.
(فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) .
التزم فيها النون المشددة قبل السين.
(وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) .
ومثال التزام حرفين: (وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) .
(مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) .
(بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) .
ومثال التزام ثلاثة أحرف: (تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) .
تنبيهات
الأول: قال أهل البديع: أحسن السجع ما تساوت قرائنه، نحو: (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) .
ويليه ما طالت قرينته الثانية نحو: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) .
والثالثة نحو: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) .
وقال ابن الأثير: الأحسن في الثانية المساواة، وإلا فأطول قليلاً، وفي الثالثة
أن تكون أطول.
وقال الخفاجي: لا يجوز أن تكون الثانية أقصر من الأولى.
الثاني: قالوا: أحسن السجع ما كان قصيراً، لدلالته على قوة المنشىء، وأقله كلمتان نحو: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) .
و (الْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) .
(وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) .
و (الْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) .

(1/41)


والطويل - ما زاد على العشرة كغالب الآيات، وما بينهما متوسط كآيات سورة القمر
الثالث: قال الزمخشري في كشافه القديم: لا تحسن المحافظةُ على الفواصل
لمجردها إلا مع بقاء المعاني على سردها على المنهج الذي يقتضيه حسن النظم
والقوافي، فأما أن تهمل المعاني ويُهتمّ بتحسين اللفظ وحده، غير منظور فيه إلى مؤداه، فليس من قبيل البلاغة، وبني على ذلك أنَّ التقديم في: (وبالآخرة هم يُوقِنون) - ليس لمجرد الفاصلة، بل لرعاية الاختصاص.
الرابع: مبنى الفواصل على الوقف، ولهذا ساغ مقابلة المرفوع بالمجرور، وبالعكس، كقوله: (إنا خلقناهم مِنْ طِين لاَزِب) ، مع قوله: (عَذَابٌ وَاصِبٌ) ، و (شَهَابٌ ثاقبٌ) ، وقوله: (بماءٍ منْهَمِر) ، مع قوله: (قَدْ قُدِرَ) (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) .
وقوله: (وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) ، مع قوله: (وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) .
الخامس: كثر في القرآن ختم الفواصل بحروف المد واللين وإلحاق النون.
وحكمته وجود التمكن مع التطريب بذلك، كما قال سيبويه: إنهم إذا ترنموا
يلحقون الألف والياء والنون، لأنهم أرادوا مد الصوت، ويتركون ذلك إذا لم يترنموا، وجاء القرآن على أسهل موقف وأعظم مقطع.
السادس: حروف الفواصل إما متماثلة، وإما متقاربة، فالأول مثل:
(وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) . والثاني مثل: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) .
(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) .
قال الإمام فخر الدين وغيره: إن فواصل القرآن لا تخرج عن هذين

(1/42)


القسمين، بل تنحصر في المتماثلة والمتقاربة، قال: وبهذا يترجح مذهب الشافعي على مذهب أبي حنيفة في عد الفاتحة سبع آيات من البسملة وجعل صراط الذين ... إلى آخرها آية، فإن مَنْ جعل آخر الآية: (أنعمت عليهم) مردود بأنه لا يشابه فواصل سائر آيات السورة لا بالمماثلة ولا بالمقاربة، ورعاية المتشابه في الفواصل لازمة.
السابع: كثر في الفواصل التضمين والإيطاء، لأنهما ليسا بعيبين في النثر وإن
كانا عيبين في النظم.
فالتَّضمين أن يكون ما بعد الفاصلة متعلقاً بها، كقوله تعالى: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) .
والإيطاء تكرر الفاصلة بلفظها، كقوله تعالى: في الإسراء:
(هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) .
وختم بذلك الآيتين بعدها.
*******
الوجه الرابع من وجوه إعجازه.
مناسبة آياته وسوره وارتباط بعضها ببعض، حتى تكون كالكلمة الواحدة، متسقة المعاني، منتظمة المباني.
وقد ألف عماؤنا في أسرارها تواليف كثيرة منهم العلامة أبو جعفر بن الزبير
شيخ أبي حيان في كتاب سمَّاه " البرهان " في مناسبة ترتيب سور القرآن.
ومن أهل العصر الشيخ برهان الدين البقاعي في كتاب سمَّاه نظم الدرر في تناسب الآي والسور.
وكتابي الذي صنفته في أسرار التنزيل كافل بذلك، جامع لمناسبات
السور والآيات مع ما تضمَّنه مرتباً من جميع وجوه الإعجاز وأساليب البلاغة، وقد لخصت منه مناسبات السور خاصة في جزء لطيف سميته تناسق الدرر في
تناسب السور.
وعلم المناسبة علم شريف قلّ اعتناء المفسرين به لدقته، وممن أكثر منه الإمام
فخر الدين، وقال في تفسيره: أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط.
وأول من سبق إلى هذا العلم الشيخ أبو بكر النيسابوري، وكان كثير العلم في

(1/43)


الشريعة والأدب وكان يقول على الكرسي إذا قرئت عليه الآية: لم جُعلت هذه الآية إلى جنب هذه، وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة، وكان يزري على علماء بغداد، لعدم علمهم بالمناسبة.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: المناسبة علم حسن، لكن يشترط في
حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متّحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على
أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط.
ومَنْ ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث، فضلاً عن أحسنه، فإن القرآن نزل في نَيّف وعشرين سنة في أحكام مختلفة، شرعت لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربْطُ بعضه ببعض.
وقال الشيخ ولي الدين الملوي: قد وَهِمَ من قال: لا يطلب للآية الكريمة
مناسبة، لأنها على حسب الوقائع المتفرقة.
وفصلُ الخطاب أنها على حسب الوقائع
تنزيلاً، وعلى حسب الحكمة ترتيباً، وتأصيلاً، فالصحف على وفق اللوح
المحفوظ مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف، كما أنزل جملة إلى بيت العزة.
ومن المعجز البين أسلوبه، ونظمه الباهر، والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شيء عن كونها تكملة لما قبلها أو مستقلة، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها، ففي ذلك علم جم.
وهكذا في السور يطلب وجْه اتصالها بما قبلها وما سيقت له.
وقال الإمام الرازي في سورة البقرة: ومَنْ تفكر في لطائف نظم هذه السورة
وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف
معانيه فهو أيضاً معجز بسبب ترتيبه ونظم آياته، ولعل الذين قالوا إنه معجز
بسبب أسلوبه أرادوا ذلك، إلا أني رأيت جمهور المفسرين معرضين عن هذه
اللطائف، غير منتبهين لهذه الأسرار، وليس الأمر في هذا الباب إلا كما قيل:
والنجم تستصغر الأبصارُ صورتَه ... والذنْبُ للطرف لا لِلنَّجْمِ في الصغَر
المناسبة في اللغة المشاكلة والمقاربة، ومرجعها في الآيات ونحوها إلى معنى
رابط بينهما عام أو خاص، عقلي أو حسي أو خيالي، أو غير ذلك من أنواع

(1/44)


علاقات التلازم الذهنيّ، كالسبب والمسبب، والعلة والمعلول، والنظيرين
والضدين ونحوه.
وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذاً بأعناق بعض، فيقوى بذلك
الارتباط، ويصير التأليف حالته حال البناء المحكم التلائم الأجزاء فنقول:
ذكر الآية بعد الأخرى إما أن يكون ظاهر الارتباط لتعلق الكلام بعضه
ببعض وعدم تمامه في الأولى، فواضح، وكذلك إذا كانت الثانية للأولى على
وجه التأكيد أو التفسير أو الاعتراض أو البدل، وهذا القسم لا كلام فيه.
وإما ألا يظهر الارتباط، بل يظهر أن كل جملة مستقلة عن الأخرى، وأنها
خلاف النوع المبدوء به، فإما أن تكون معطوفة على الأولى بحرف من حروف العطف المشركة في الحكم، أو لا.
فإن كانت معطوفة فلا بد أن يكون بينهما جهة جامعة على ما سبق تقسيمه، كقوله تعالى: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا) .
وقوله: (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) .
للتضاد بين القبض والبصط، والولوج والخروج، والنزول والعروج، وشبه التضاد بين السماء والأرض.
ومما العلاقة فيه التضاد ذكر الرحمة بعد ذكر العذاب، والرغبة بعد الرهبة.
وقد جرت عادة القرآن العظيم إذا ذكر أحكاماً ذكر بعدها وعداً أو وعيدا.
لتكون باعثاً على العمل بما سبق، ثم يذكر آيات توحيد وتنزيه، ليعلم عِظَم الآمر الناهي.
وتأمَّلْ سورة البقرة والنساء والمائدة تجده كذلك.
وإن لم تكن معطوفة فلا بد من دعامة تؤْذن باتصال الكلام، وهي قرائن
معنوية تؤذن بالربط.
وله أسباب:
أحدها: التنظير، فإن إلحاق النَّظير بالنَّظير من شأن العقلاء،

(1/45)


كقوله: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) - عَقِب قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ) ، فإنه تعالى أمر رسوله أن يمضيَ لأمره في الغنائم على
كُرْهٍ من أصحابه، كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العِير أو القتال
وهم له كارهون، والقصدُ أن كراهتهم لما فعله من قسم الغنائم ككراهتهم
للخروج.
وقد تَبَين في الخروج الخير من النصر والظفر والغنيمة وعزّ الإسلام.
فكذا يكون فيما فعله في القسمة، فليطيعوا ما أمروا ويتركوا هَوَى أنفسهم.
الثاني: المضادة، كقوله في سورة البقرة: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ) .
فإن أول السورة كان حديثاً عن القرآن، وأن من شأنه الهدايةَ للقوم الموصوفين بالإيمان.
فلما أكمل وصف المؤمنين عقب بحديث الكافرين، فبينهما جامع وهميّ بالتضاد من هذا الوجه، وحكمته التشويق والثبوت على الأول، كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء.
فإن قيل: هذا جامع بعيد، لأن كونه حديثاً عن المؤمنين بالعَرَض لا
بالذات، والمقصود بالذات الذي هو مساق الكلام إنما هو الحديث عن القرآن، لأنه مفتتح القول.
قيل: لا يشترط في الجامع ذلك، بل يكفي التعلق على أي وجه كان، ويكفي في وجه الربط ما ذكرنا، لأن القصد تأكيد أمر القرآن، والعمل به، والحثّ على الإيمان، ولهذا لما فرغ من ذلك قال: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) . - فرجع إلى الأول.
الثالث: الاستطراد: كقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ) .
قال الزمخشري: هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقب ذكر بدوّ
السَّوْءات، وخَصْف الورق عليها، إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العراء وكشف العورة من المهانة والفضيحة، وإشعاراً بأن الستر باب عظيم من أبواب التقى.

(1/46)


وقد خرجت على الاستطراد قوله تعالى: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) ، فإن أول الكلام ذكر فيه الرد
على النصارى الزاعمين بنوّة المسيح، ثم استطراد الرد على العرب الزاعمين بنوة الملائكة.
ويقرب من الاستطراد حتى لا يكادان يفترقان حسن التخلص، وهو أن
ينتقل مما ابتدأ به الكلام إلى المقصود على وجه سهل يختلسه اختلاساً دقيق
المعنى، بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع عليه الثاني لشدة الالتئام بينهما.
وقد غلط أبو العلاء بن غانم في قوله: لم يقَعْ منه في القرآن شيء لما فيه من
التكلف، وقال: إن القرآن إنما وقع رداً كل الاقتضاب الذي هو طريق العرب من الانتقال إلى غير ملائم.
وليس كما قال، ففيه من التخلصات العجيبة ما يحيّر العقول.
وانظر إلى سورة الأعراف كيف ذكر فيها الأنبياء والقرون الماضية والأمم السالفة، ثم ذكر موسى إلى أن قص حكاية السبعين رجلا ودعائه لهم ولسائر أمته بقوله: (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) .
وجوابه تعالى عنه، ثم تخلص بمناقب سيد المرسلين بعد تخلصه بقوله لأمته: (قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) ، من صفاتهم كيت وكيت، وهم الذين يتبعون الرسول النبي الأمي، وأخذ في صفاته الكريمة وفضائله.
وفي سورة الشعراء حكى قول إبراهيم: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) .
فتخلص منه إلى وصف المعاد بقوله: (ييَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) .
وفي سورة الكهف حكى سدّ " ذو القرنين " بقوله: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ) ، فتخلَّص منه إلى وصف حالهم بعد ذكر الذى

(1/47)


هو من أشراط الساعة ثم النفخ في الصور، وذكر الحَشْر، ووصف حال الكفار والمؤمنين.
وقال بعضهم: الفرق بين التخلص والاستطراد أنك في التخلص تركت ما
كنتَ فيه بالكلية، وأقبلت على ما تخلصت إليه.
وفي الاستطراد تمر بذكر الأمر الذي استطردت إليه مروراً كالبرق الخاطف ثم تتركه إلى ما كنت فيه، كأنك لم تقصده، وإنما عرض عروضاً.
قال: وبهذا يظهر أن ما في سورة الأعراف والشعراء من باب الاستطراد لا
التخلص، لعَوْدِه في الأعراف إلى قصة موسى بقوله: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ) .
وفي الشعراء إلى ذكر الأنبياء والأمم.
ويقرب من حسن التخلص الانتقال من حديث إلى آخر تنشيطاً للسامع
مفصولاً بهذا كقوله في سورة ص - بعد ذكر الأنبياء: (هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) .
قال: هذا القرآن نوع من الذكر لَمّا انتهى ذكر الأنبياء، وهو نوع من التنزيل، أراد أن يذكر نوعاً آخر وهو ذكر الجنة
وأهلها، تم لما فرغ قال: (هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) .
فذكر النار وأهلها.
قال ابن الأثير: هذا في هذا المقام من الفصل هو أحسن من الوصل، وهي
علاقة وكيدة بين الخروج من كلام إلى آخر.
ويقرب منه أيضاً حسن الطلب.
قال الزنجاني والطيبي: وهو أن يخرج إلى الغرض بعد تقدمة الوسيلة، كقولك: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) .
قال الطيبي: وما اجتمع فيه حسن التخلص والمطلب معا قوله تعالى - حكاية
عن إبراهيم: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي) ...
إلى قوله (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) .

(1/48)


قاعدة
لبعض المتأخرين: الأمر الكلي المفيد لعرفان مناسبة الآيات في جميع القرآن
هو أنك تنظر الغرض الذي سيقت له السورة، وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات، وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات في القرْب والبعْد من المطلوب، وتنظر عند انجرار الكلام في مقدمات إلى ما تستتبعه من استشراف، نَفْس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له التي تقتضي البلاغة شفاء الغليل بدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها، فهذا هو الأمر الكلي المعين على حكم الربط بين جيع أجزاء القرآن، فإذا فعلْتَه بيَّن لك وجه النظم مفصلاً بين كل آية وآية في كل سورة وسورة.
تنبيه:
من الآيات ما أشكلت مناسبتها لما قبلها، من ذلك قوله تعالى في سورة
القيامة: (لا تحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ به ... ) . القيامة: 16، الآيات، فإن
وجه مناسبتها لأول السورة وآخرها عسير جداً، فإن السورة كلها في أحوال
القيامة، حتى زعم بعض الرافضة أنه سقط من السورة شيء، وحتى زعم القَفّال فيما حكاه الفخر الرازي إلى أنها نزلت في الإنسان المذكور قبل، في قوله: (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) ..
قال: يعرض عليه كتابه، فإذا أخذ في القراءة تلجلج خوفاً، فأسرع في القراءة، فيقال له: لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا أن نجمع عملك وأن نقرأ عليك، فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالإقرار بأنك فعلت، ثم إن علينا بيانَ أمرِ الإنسان وما يتعلق بعقوبته.
وهذا يخالف ما ثبت في الصحيح أنها نزلت في تحريك النبي - صلى الله عليه وسلم - لسانَه حالة نزول الوحي.
وقد ذكر الأئمة لها مناسبات:
منها: أنه تعالى لما ذكر القيامة، وكان من شأن من يقصّر عن العمل لها حبّ العاجلة، وكان من أصل الدين أن المبادرة إلى

(1/49)


أفعال الخير مطلوبة، فنبه على أنه قد يعترِض على هذا المطلوب ما هو أجل منه، وهو الإصغاء إلى الوحي وتفهم ما يراد منه، والتشاغل بالحفظ قد يصدّ عن ذلك، فأمر بألا يُبادر إلى التحفظ، لأن تحفيظه مضمون على ربه، وليصغي إلى ما يرد عليه إلى أن يقضى، فيتّبع ما اشتمل عليه.
ثم لما انقضت الجملةُ المعترضة رجع الكلام إلى ما يتعلق بالإنسان المبدأ بذكره، ومن هو من جنسه، فقال: (كلا) . القيامة، 20، وهي كلمة رَدعْ، كأنه قال: بل أنتم يا بني آدم لكونكم خلقتم من عَجَل تعجلون في كل شيء، ومن ثم تحبون العاجلة.
ومنها أن عادة القرآن إذا ذكر الكلام المشتمل على عمل العبد حيث يعرض
يوم القيامة أردفه بذكر الكتاب المشتمل على الأحكام الدينية في الدنيا التي تنشأ عنها المحاسبة عملاً وتركاً، كما قال في الكهف: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) ... ، إلى أن قال: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) .
وقال في طه: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) .
إلى أن قال: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) .
ومنها أن أول سورة القيامة لما نزل إلى: (ولَوْ ألْقَى مَعَاذِيره) القيامة:
15، صادف أنه اعمط في تلك الحالة بادر إلى تحفظ الذي نزل، وتحرك به لسانه من عجلته خشيةً من تفلته، فنزل: لا تحرك به لسانك ...
إلى قوله: ثم إن علينا بيانه، ثم عاد الكلام إلى تكملة ما ابتدىء به.
قال الفخر الرازي: ونحوه ما لو ألقى المدرس على الطالب مسألة فتشاغل
الطالب بشيء عرض له، فقال له: ألق إليّ بالك، وتفهم ما أقول.
ثم كمل المسألة، فمن لا يعرف السبب يقول: ليس هذا الكلام مناسباً للمسألة بخلاف مَنْ عرف ذلك.
ومنها أن " النفس" لما تقدم ذكرها في أول السورة عدل إلى ذكر نفس

(1/50)


المصطفى، كأنه قال: هذا شأن النفوس، وأنت يا محمد نفسك أشرف النفوس، فلتأخذْ بأكمل الأحوال.
ومن ذلك قوله تعالى: (يسألونك عن الأهِلَّةِ) .
فقد قيل: أي رابط بين أحكام الأهلّة وبين حكم إتيان البيوت من أبوابها؟
وأجيب بأنه من باب الاستطراد، لما ذكر أنها مواقيت للحج، وكان هذا من
أفعالهم في الحج - كما ثبت في سبب نزولها - ذكر معه من باب الزيادة في الجواب على ما في السؤال على حد: سئل عن ماء البحر، فقال: هو الطَّهُورُ ماؤُه الحِلّ مَيْتَته.
ومن ذلك قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) .
فقد يقال: ما وجه اتصاله بما قبله، وهو قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) .
فقال الشيخ أبو محمد الجويني في تفسيره: سمعت أبا الحسن الدهان يقول: وجه اتصاله هو أن تخريب بيت المقدس قد سبق، أي فلا يَجْرِمَنَّكم ذلك واستقبلوه، فإن لله المشرق والمغرب.
فصل
من هذا النوع مناسبة السور.
وقد أفردت فيه جزءاً لطيفاً سميته مراصد المطالع في تناسب المقاطع والمطالع.
وانظر إلى سورة القصص كيف بدئت بأمر موسى ونصرته، وقوله: (فلَنْ
أكُونَ ظَهيراً لِلْمُجْرِمين) القصص: 17.
وخروجه من وطنه.
وختمت بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بألا يكون ظهيراً للكافرين، وتسليته عن إخراجه من مكة، ووعده بالعود إليها، لقوله في أول السورة: (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) القصص: 7.
قال الزمخشري: وقد جعل الله فاتحة سورة المؤمنون: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) .
وأورد في خاتمتها: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) .
فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة.

(1/51)


وذكر الكَرْمَاني في العجائب مثله، وقال في سورة ص: بدأها بالذكر
وختمها بقوله: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) .
وفي سورة ن بدأها بقوله: (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) .
وختمها بقوله: (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) .
ومنه مناسبة فاتحة السورة لخاتمة التي قبلها، حتى إن منها ما يظهر تعلقها به
لفظاً، عما في: (فجعلهم كعَصْفٍ مَأكول) .
(لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) .
فقد قال الأخفش: اتصالها به من باب قوله: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) .
وقال الكواشي في تفسير المائدة: لما ختم سورة النساء أمراً بالتوحيد والعدل
بين العباد أكد ذلك بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .
وقال غيره: إذا اعتبرت افتتاح كل سورة وجدته في غاية المناسبة لما ختم به
السورة قبلها، ثم هو يخفى تارة ويظهر أخرى، كافتتاح سورة الأنعام بالحمد، فإنه مناسب لختام المائدة من فصل القضاء، كما قال تعالى: (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) .
وكافتتاح سورة فاطر بالحمد أيضاً، فإنه مناسب لختام ما قبلها من قوله
تعالى: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) .
كما قال تعالى: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) .
وكافتتاح سورة الحديد بالتسبيح، فإنه مناسب لختام سورة الواقعة بالأمر به.
وكافتتاح سورة البقرة بقوله تعالى: (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ) .
فإنه إشارة إلى الصراط في قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) .
كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط قيل لهم: ذلك الصراط المستقيم الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب.

(1/52)


وهذا معنى حسن يظهر فيه ارتباط سورة البقرة بالفاتحة.
ومن لطائف سورة الكوثر أنها كالمقابلة التي قبلها، لأن السابقة وصف الله
المنافق فيها بأربعة أمور: البخل، وترك الصلاة، والرياء فيها، ومنع الزكاة، فذكر فيها في مقابلة البخل: إنا أعطيناك الكوثر، أي الخير الكثير.
وفي مقابلة ترك الصلاة فصلِّ، أي فَدمْ عليها.
وفي مقابلة الرياء لربك أي لرضاه لا للناس.
وفي مقابلة منع الماعون وانْحَر، وأراد به التصدق بلحم الأضاحي.
وقال بعضهم: لترتيب وضع السور في الصحف أسباب تُطْلِعُ على أنه توقيفي
صادر عن حكيم:
أحدها: بحسب الحروف، كما في الخواتيم.
الثاني: لموافقة أول السورة لآخر ما قبلها، كآخر الحمد في المعنى وأول
البقرة.
الثالث: للوزان في اللفظ، كآخر " تبّت" وأول " الإخلاص ".
الرابع: لمشابهة جملة السورة لجملة أخرى كالضحى و" ألم نشرح ".
قال بعض الأئمة: وسورة الفاتحة تضمنت الإقرار بالرّبوبية والالتجاء إليه في
دين الإسلام، والصيانة عن دين اليهودية والنصرانية.
وسورة البقرة تضمنت قواعد الدين.
وآل عمران تكملة المقصود، فالبقرة بمنزلة إقامة الدين على
الحكم، وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم، ولهذا ورد فيه ذكر
المتشابه لما تمسك به النصارى.
وأوجب الحج في آل عمران.
وأما في البقرة فذكر أنه مشروع وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه، وكان خطاب النصارى في آل عمران أكثر، كما أن خطاب اليهود في البقرة أكثر، لأن التوراة أصل والإنجيل فرع لها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم، وكان جهاده للنصارى في
آخر الأمر، كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب، ولهذا كانت السور الكلية فيها الدين الذي اتفق عليه الأنبياء، فخوطب به جميعُ الناس، والسور المدنية فيها خطاب من أقر بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين، فخوطبوا بأهل الكتاب، يا بني إسرائيل، يا أيها الذين آمنوا.

(1/53)


وأما سورة النساء فتضمنت أحكام الأسباب التي بيْنَ الناس، وهي نوعان:
مخلوقة لله تعالى، ومقدرة لهم، كالنسب والصهر، ولهذا افتتحت بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) .
ثم قال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ.
فانظر هذه المناسبة العجيبة بالافتتاح وبراعة الاستهلال، حيث تضمنت الآية المفتتح بها نظير السورة في أحكامه من نكاح النساء ومحرماته، والمواريث المتعلقة بالأرحام، وإن ابتداء هذا الأمر كان بخلق آدم ثم بخلق زوجه منه، ثم بثّ منهما رجالاً كثيرا ونساء في غاية الكثرة.
وأما المائدة فقد تضمنت بيان تمام الشرائع، وتكملات الدين، والوفاء بعهود
الرسول، وما أخذ على الأمة، وبهما تم الدين، فهي سورة التكميل، لأن فيها تحريم الصيد على المحرم الذي هو من تمام الإحرام، وتحريم الخمر الذي هو من تمام حفظ العقل والدين، وعقوبة المعتدين من السراق والمحاربين الذي هو من تمام حفظ الدماء والأموال، وإحلال الطيبات الذي هو من تمام عبادة الله، ولهذا ذكر فيها ما يختص بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، كالوضوء، والتيمم، والحكم بالقرآن على كل ذي دين، ولهذا أكثر فيها من لفظ الإتمام والإكمال، وذكر فيها أن من ارتد عَوضَ الله بخير منه، ولا يزال هذا الدين كاملاً، ولهذا ورد فيها أنها آخر ما نزل، لما فيها من إشارات الختم والتمام.
وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات من أحسن الترتيب.
وقال أبو جعفر بن الزبير: حكى الخطابي أن الصحابة لما اجتمعوا على جمع
القرآن، ووضعوا سورة " القَدْر " عقِبَ " العَلَق "، استدلوا بذلك على أن المراد بذلك الكناية في قوله: (إنا أنزلناه في ليلةِ القَدْرِ) الإشارة إلى قوله اقْرَأ.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهذا بديع جداً.

(1/54)


قال في البرهان: ومن ذلك افتتاح السور بالحروف المقطعة واختصاص كل
واحدة بما بدئت به، حتى لم تكن ترد آلم في موضع آلر ولا حم في موضع طس.
قال: وذلك أن كل سورة بدئت بحرف منها، فإن أكثر كلماتها وحروفها مماثل له، فحق لكل سورة منها ألا يناسبها غير الوارد فيها، فلو وضع " ق " موضع " ن "، لم يمكن، لعدم التناسب الواجب مراعاته في كلام الله.
وسورة " ق " بدئت به لما تكرر فيها من الكلمات بلفظ القاف، من ذلك القرآن، والخلق، وتكرير القول، ومراجعته مراراً، والقرب من ابن آدم، وتلقي الملكين، وقول العتيد والرقيب، والسابق، والإلقاء في جهنم، والتقدم بالوعد، وذكر المتقين، والقلب، والقرون، والتنقيب في البلاد، وتشقق الأرض، وحقوق الوعيد، وغير ذلك.
وقد تكررت الراء في سورة يونس من الكلام الواقع فيها إلى مائتي كلمة أو
أكثر، فلهذا افتتحت بالراء.
واشتملت سورة " ص " على خصومات متعددة، فأولها خصومة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الكفار وقولهم: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا) .
ثم اختصام الخَصْميْن مع داود، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام المَلَأِ الأعْلَى، ثم تخاصم إبليس في شأن آدم، ثم في شأن بنيه وإغوائهم.
والم جمعت الخارج الثلاثة الحلق واللسان والشفتين على ترتيبها، وذلك إشارة
إلى البداية التي هي بدء الخلق والنهاية التي هي المعاد والتوسط الذي هو المعاش من التشريع بالأوامر والنواهي.
وكل سورة افتتحت بها فهي مشتملة على الأمور الثلاثة.
وسورة الأعراف زيد فيها الصاد على الم لما فيها من شرح القصص: قصة آدم فمن بعده من الأنبياء، ولما فيها من ذكر: (فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ)
، ولهذا قال بعضهم: معنى الص: ألم نشرح لك صدرك.

(1/55)


وَزِيد في الرعد لأجل قوله: (رَفَعَ السَّمَاوَاتِ) ، ولأجل ذكر
الرعد والبرق وغيرهما.
واعلم أن عادة القرآن العظيم في ذكر هذه الحروف أن يذكر بعدها ما يتعلق
بالقرآن، كقوله تعالى: (الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ) .
(نَزَّل عليكَ الكتابَ) .
(المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) .
(المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) .
(مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) .
(طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) .
(يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) .
(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) .
(حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) .
(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) .
إلا في ثلاث سور: العنكبوت، والرّوم، ون، ليس فيها ما يتعلق به، وقد ذكرتُ حكمة ذلك في أسرار التنزيل.
وقال الحرالي: في معنى حديث: أنزل القرآن على سبعة أحرف: زاجر.
وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال.
اعلم أن القرآن نزل عند انتهاء الخلق، وكمال كل الأمر بَدْءاً، فكان التخلق به جامعاً لانتهاء كل خلق، وكمال كل أمر، فكذلك هو قيم الكون، وهو الجامع الكامل، ولذلك كان خاتماً وكتابه كذلك.
وبدأ المعاد من حين ظهوره، فاستوفى هذه الجوامع الثلاث التي قد خلت في الأولين بداياتها، وتممت عنده غاياتها، بعثت لأتَمِّمَ مكارم الأخلاق، وهي صلاح الدين والمعاد التي جمعها قوله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمةُ أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها
معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي.
وفي كل صلاح إقدام وإحجام، فتصير الجوامع الثلاثة ستة هي حروف القرآن الستة، ثم وهب حرفاً جامعاً شائعاً فردا لا زوج له، فتمت سبعة.
فأدنى تلك الحروف هو صلاح الدنيا، فلها حرفان: حرف الحرام الذي لا
تصلح النفس والبدن إلا بالتطهر منه، لبعده عن تقويمها.
والثاني حرف الحلال

(1/56)


الذي تصلح النفس والبدن عليه لوافقته تقويمها، أصل هذين الحرفين في التوراة، وتمامهما في القرآن.
ويلي ذلك حَرْفَا صلاح المعاد: أحدهما حرف الزجر والنهي
الذي لا تصلح الآخرة إلا بالتطهر منه لبعده عن حسناها، والثاني حرف الأمر الذي لا تصلح الآخرة إلا عليه لتقاضيه لحسناها، وأصل هذين الحرفين في الإنجيل وتمامهما في القرآن.
ويلي ذلك حرفا صلاح الدين: أحدها حرف المحكم
الذي بان للعبد فيه خطابُ ربه، والثاني حرف المتشابه الذي لا يتبين للعبد فيه خطاب ربه من جهة قصور عقله عن إدراكه، فالحروف الخمسة للاستعمال، وهذا الحرف السادس للوقوف والاعتراف بالعجز، وأصل هذين الحرفين في الكتب المتقدمة كلهما، وتمامهما في القرآن.
ويختص القرآن بالحرف السابع، وهو حرف المثل المبين للمثل الأعلى.
ولما كان هذا الحرف هو الحمد افتتح الله به القرآن، وجمع فيه جوامع
الحروف السبعة التي بثها في القرآن، فالآية الأولى تشتمل على حرف الحمد
الشائع، والثانية تشتمل على حَرْفَي الحلال والحرام اللذين أقامت الرحمانية بها الدنيا والرحيمية الآخرة.
والثالثة تشتمل على أمر الملك القيم على حرفي الأمر والنهي اللذين يبدو أمرها في الدين.
والرابعة تشتمل على حرفي الحكم في قوله: إيّاك نَعْبُد، والمتشابه في قوله:
وإياك نستعين.
ولما افتتح أم القرآن بالسابع الجامع الموهوب ابتدئت البقرة
بالسادس المعجوز عنه، وهو المتشابه.
انتهى كلام الحرالي.
والمقصود منه هو الأخير.
على أني أقول: المناسبة في ابتداء البقرة بـ "الم" أحسن مما قال، وهو أنه لما ابتدئت الفاتحة بالحرف المحكم الظاهر لكل أحد الذي لا يُعْذَر أحد في فهمه - ابتدئت البقرة بمقابله، وهو الحرف المتشابه البعيد التأويل أو المستحيلة.
ومن هذا النوع مناسبة أسماء السور لمقاصدها.
وفي العجائب للكَرْماني: إنما سُميت السور السبع " حم " على الاشتراك في

(1/57)


الاسم لما بينهنَّ من التَّشَاكُل الذي اختصت به، وهو أن كل واحدة منها
استفتحت بالكتاب أو صِفَة الكتاب، مع تفاوت المقادير في الطول، والقِصَر، وتشاكل الكلام في النظام.
*******