معترك الأقران في إعجاز القرآن

الوجه الخامس من وجوه إعجَازه افتتاح السور وخواتمها
وهو من أحسن البلاغة عند البيانيين.
وهو أنْ يتأتقَ فىِ أول الكلام، لأنه
أول ما يقرع السمع، فإن كان محرراً قِبَل السامع قَبِلَ الكلام ووعاه، وإلا
أعرض عنه، وإن كان في نهاية الحسن، فينبغي أن يُؤتى فيه بأعذب اللفظ
وأرقّه، وأجزله وأسلسه، وأحسنه نظماً وسبكاً، وأصحه معنى وأوضحه، وأخلاه من التعقيد والتقديم والتأخير الملْبِس، أو الذي لا يناسب.
قالوا: وقد أتت فواتح جميع السور على أحسن الوجوه وأكملها، كالتحميدات، وحروف النداء، والهجاء، وغير ذلك.
ومن الابتداء الحسن نوع أخص منه يسمى براعة الاستهلال، وهو أن
يشتمل أول الكلام على ما يناسب الحال المتلكم فيه، ويشير إلى ما سبق الكلام لأجله، والعَلَم الأسنى في ذلك سورة الفاتحة التي هي مطلع القرآن! فإنها مشتملة على جميع مقاصده، لأنه افتتح فيها فنبه في الفاتحة على جميع مقاصد القرآن.
وهذا هو الغاية فىِ براعة الاستهلال، مع ما اشتملت عليه من الألفاظ الحسنة، والمقاطع المستحسنة وأنواع البلاغة.
وخواتم السور مثل الفواتح فىِ الحسن، فلهذا جاءت متضمنة للمعاني البديعة، مع إيذان السامع بانتهاء الكلام، حتى لا يبقى معه للنفوس تشوّق إلى ما يذكر بعد، لأنها بين أدعية ووصايا، وفرائض، وتحميد وتهليل ومواعظ، ووعد ووعيد، إلى غير ذلك، كتفصيل جملة المطلوب في خاتمة الفاتحة، إذ المطلوب الأعلى الإيمان المحفوظ من المعاصي السبّبة لغَضَبِ الله والضلال، ففصّل جملة

(1/58)


ذلك بقوله: الذين أنعمت عليهم.
والمراد المؤمنون، ولذلك أطلق الإنعام ولم يقيده ليتناول كلَّ إنعام، لأنَّ مَنْ أنعم الله عليه بنعمة الإيمان فقد أنعم عليه بكل نعمة، لأنها مسببة لجميع النعم، ثم وصفهم بقوله: غير المغضوب عليهم ولا الضالِّين.
يعني أنهم جعوا بين النعم المطلقة - وهي نعمة الإيمان - وبين السلامة من
غضب الله والضلال المتسبّبَيْن عن معاصيه وتعدي حدوده، وكالدعاء الذي
اشتملت عليه الآيتان من آخر سورة البقرة، وكالوصايا التي
ختمتنها سورة آل عمران، والفرائض التي ختمت بها سورة النساء، وحَسُنَ
الخَتْم بها لما فيها من أحكام الموت الذي هو آخر كل امرئ حي، والآخر ما
نزل من الأحكام وكالتبجيل والتعظيم الذقي خُتِمَتْ به المائدة.
وكالوعد والوعيد الذي ختمت به الأنعام.
وكالتحريض على العبادة بوصف حال الملائكة الذي ختمت به الأعراف.
وكالحض على الجهاد وصلة الأرحام الذي ختمت به الأنفال.
وكوصف الرسول ومدحه والتهليل الذي ختمت به براءة.
وتسليته عليه السلام التي ختم بها سورة يونس.
ومثلها خاتمة هود.
ووصف القرآن ومدحه الذي ختم به يوسف.
والرد على من كذّب يوسف والرد على من كذب الرسول الذي ختم به الرعد.
ومن أوضح ما آذن بالختام خاتمة إبراهيم: (هذا بلاغ للناس) .
ومثلها خاتمة الأحقاف، وكذلك خاتمة الحجر: (واعْبُدْ رَبَّكَ حتى يَأتيكَ
اليَقين) ، وهو مُفَسّر بالموت، وهو في غاية البراعة.
وانظر إلى سورة الزّلْزَلة كيف بدئت بأحوال القيامة، وختمت بقوله:
(فَمَنْ يعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يرَه) .
وانظر إلى براعة آخر آية نزلت، وهي قوله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) ، وما فيه من الإشعار بالآخرية المستلزمة للوفاة.
وكذا آخر سورة نزلت، وهي سورة النَّصْرِ، فيها الإشعار بالوفاة، كما قال ابن عباس، كأنه قال له: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) .
فذلك علامة أجَلك.
(فسبِّحْ بحمده رَبِّكَ واستَغْفِرْه إنه كان تواباً) ، ووافقه عمر على ذلك.

(1/59)


فإن قلت: ما الحكمة في ختم هذا القرآن العظيم بالمعوّذتين؟
والجواب ما قاله ابن جرير في تفسيره عن شيخه ابن الزبير: لثلاثة أمور:
الأول: لما كان القرآن العظيم من أعظم نعم الله على عباده، والنعم مظنّة
الحسد، فختم بما يطفىء الحسد من الاستعاذة بالله.
الثاني: إنما ختم بهما لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فيهما: أنْزِلَتْ عليَّ آيات لم أرَ مِثْلَهن قط، كما قال في فاتحة الكتاب: لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها، فافتتح القرآن بسورة لم ينزل مثلها، واختتم بسورتين لم ير مثلهما، ليجمع حسن الافتتاح والاختتام.
ألا ترى أن الخطَب والقصائد وغير ذلك من أنواع الكلام إنما يُنظر فيها إلى
حسن افتتاحها واختتامها.
الثالث: أنه لما أمر القارىء أن يفتتح قراءته بالتعوذ من الشيطان الرجيم ختم
القرآن بالمعوذتين لتحصُلَ الاستعاذة بالله عند أول القراءة وعند آخر ما يقرأ من القرآن، فتكون الاستعاذة اشتملت على طرفي الابتداء والانتهاء، ليكون القاريء محفوظاً بحفظ الله الذي استعاذ به من أول الأمر إلى آخره.
قال البيهقي في شعب الإيمان: أخبرنا أبو القاسم بن حبيب، حدثنا محمد بن
صالح بن هانيء، حدثنا الحسين بن الفضل، حدثنا عفان بن مسلم، عن الربيع بن صبيح، عن الحسن، قال: أنزل الله مائة وأربعة كتب أودع علومه منها أربعة: التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، ثم أودع علم التوراة والإنجيل والزبور في الفرقان، ثم أودع علوم القرآن في المفصل، ثم أودع المفصل فاتحة الكتاب، فمن علم تفسيرها كان كمن علم جميع الكتب المنزلة.
وقد وُجّه ذلك بأن العلوم التي احتوى عليها القرآن وقامت بها الأديان
أربعة: علم الأصول، ومداره على معرفة الله وصفاته، وإليه الإشارة برب العالمين الرحمن الرحيم.
ومعرفة النبوات، وإليه الإشارة بالذين أنعمت عليهم.

(1/60)


ومعرفة المعاد، وإليه الإشارة بـ مالِكِ يوْم الدين.
وعلم العبادات، وإليه الإشارة بـ إيّاكَ نَعْبد.
وعلم السلوك، وهو حَمْلَ النفس على الآداب الشرعية، والانقياد لرب
البرية، وإليه الإشارة بإياك نستعين، اهْدِنا الصِّرَاط المستقيم.
وعلم القصص، وهو الاطلاع على أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية، ليعلم المطلع على ذلك سعادة من أطاع الله وشقاوة من عصاه، وإليه الإشارة بقوله: صراط الذين أنعمت عليهم غَيْر المغضوب عليهم ولا الضالين.
فنَبَّه في الفاتحة على جميع مقاصد القرآن، وهذا هو الغاية في براعة الاستهلال
- مع ما اشتملت عليه من الألفاظ الحسنة والمقاطع المستحسنة وأنواع البلاغة.
وكذلك أول سورة اقْرَأ لكونها أول ما نزل من القرآن، فإن فيها الأمر
بالقراءة والبداءة فيها باسم الله، وفيها الإشارة إلى علم الأحكام، وفيها ما يتعلق بتوحيد الرب، وإثبات ذاته وصفاته، من صفات ذات وصفة فعل، وفي هذا الإشارة إلى أصول الدين.
وفيها ما يتعلق بالأخبار من قوله: (عَلّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يعْلَمْ) .
ولهذا قيل: إنها جديرة أن تُسمى عنوان القرآن، لأن
عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله.
والكلام في هذا الوجه عريض، أفرده بالتأليف ابن أبي الإصبع في كتاب
سماه " الخواطر السوانح في أسرار الفواتح "، وهأنا ألخص هنا ما ذكره مع زوائد من غيره، طالبا ممن نظر فيه دعوة خالصة في وقت استجابةٍ أن ينفعنا بهذا القرآن العظيم بجاه نبيه عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم:
اعلم أن الله تعالى افتتح القرآن بعثصرة أنواع من الكلام لا يخرج شيء من
السور عنها:
الأول: الثناء عليه تعالى، والثناء قسمان: إثبات لصفات المدح، ونفي وتنزيه عن صفات النقص.
فالأول التحميد في خمس سور، و (تبارك) في سورتين.
والثاني: التسبيح في سبع سور.
قال الكِرْماني في متشابه القرآن: التسبيح كلمة استأثر الله بها، فبدأ بالمصدر

(1/61)


في بني إسرائيل، لأنه الأصل، ثم بالماضي في الحديد والحشر، لأنه أسبق
الزمانين، ثم بالضارع في الجمعة والتَّغَائن، ثم بالأمر في الأعلى، استيعابا لهذه
الكلمة من جميع جهاتها.
الثاني: حروف التهجي في تسع وعشرين سورة، وسيأتي الكلام عليها في وجه تشابهه، ومضى في وجه مناسبة سوره.
الثالث: النداء في عشر سور، خمس بنداء الرسول - صلى الله عليه وسلم -: الأحزاب، والطلاق، والتحريم، والمزَّمّل، والمدَّثّر.
وخمس بنداء الأمة: النساء، والمائدة، والحج، والحجرات، والممتحنة.
الرابع: الجمل الخبرية، نحو: (يسألونك عن الأنفال) .
(برَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسولِه) .
(أتى أمْر اللهِ) .
(اقترب للناسِ حِسابهم) .
(قد أفلح المؤمنون) .
(سورَةٌ أنزلناها) .
(تَنْزِيل الكتَاب) .
(الذين كفَروا) .
(إنَّا فَتَحْنَا) .
(اقْتَرَبَتِ الساعة) .
(الرحمن علَّم القرآن) .
(قد سَمِع)
(الحاقَّةُ) .
(سأل سائل) .
(إنا أرسلنا نوحاً) .
(لا أقْسم) في موضعين القيامة، والبلد.
(عبس) .
(إنا أنزلناه) .
(لم يكن)
(القارعة) .
(ألهاكم) .
(إنا أعطيناك) .
فتلك ثلاثٌ وعشرون سورة.
الخامس: القَسَم في خمس عشرة سورة أقسم فيها بالملائكة وهي: والصافّات. وسورتان بالأفلاك: البروج، والطارق.
وست سور بلوازمها: في النجم أقسم بالثريا.
والفجر بمبدأ النهار.
والشمس بآية النهار.
والليل بشطر الزمان.
والضحى بشطر النهار.
والعصر بالشطر الآخر، أو بجملة الزمان.
وسورتان بالهواء الذي هو أحد العناصر: والذاريات، والمرسلات.
وسورة بالتربة التي هي منها أيضاً، وهي الطور.
وسورة بالنَّبَاتِ وهي: والتين.
وسورة بالحيوان الناطق، وهي: والنازعات.
وسورة بالبهائم، وهي: والعاديات.

(1/62)


السادس: الشرط في سبع سور: الواقعة.
والمنافقون. والتكوير. والانفطار. والانشقاق. والزّلْزَلَة. والنَّصْر.
السابع: الأمر في ست سور: (قل أوحى) .
(اقرأ) (قل يا أيها الكافرون) والإخلاص. والمعوِّذتين.
الثامن: الاستفهام في ست: (هل أتى) . (عَمَّ يتساءلون) . (هل أتاك)
(ألم نشرح) . (ألم تر) . (أرأيت)
التاسع: الدعاء في ثلاث: (وَيْلٌ لِلْمُطَففِين) .
(وَيْلٌ لِكلّ همزة) .
(تَبَّتْ يَدَا) .
العاشر: التعليل في: (لإيلَافِ فريش) .
هكذا جمع أبو شامة، قال وما ذكرناه في قسم الدعاء يجوز أن يذكر مع الخبر، وكذا الثناء كله خبر إلا سبّح
فإنه يدخل في قسم الأمر، وسبحان يحتمل الأمر والخبر، ثم نظم ذلك في بيتين:
أثنى على نَفْسِهِ سبحانه بثبو ... ت الحمد والسلب لَمَّا استفتح السّوَرَا
والأمرُ شرط النِّدا التعليل والقَسَم ال ... عما حروف التهجِّي استفهمِ الْخَبَرا
وسئل الشيخ الإمام تاج الدين السبكي عن الحكمة في افتتاح سورة الإسراء
بالتسبيح، والكهف بالتحميد.
فأجاب بأن التسبيح حيث جاء مقدم على
التحميد، نحو: فسبح بحمد ربك.
سبحان الله والحمد لله.
وأجاب ابن الزَّمْلكاني بأن سورة سبحان لما اشتملت على الإسراء الذي
كذّب المشركون به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتكذيبه تكذيبٌ لله تعالى - أتى بسبحان لتنزيه الله عما نُسب إليه ولنَبِيِّه من الكذب.
وسورة الكهف لما أنزلت بعد سؤال المشركين عن قصة أصحاب الكهف
وتأخير الوحي نزلت مبيّنَةً أنَّ الله تعالى لم يقطع نعمته عن نبيه ولا عن المؤمنين، بل أتم عليهم النعمة بإنزال الكتاب، فناسب افتتاحها بالحمد على هذه النعمة.
وفي تفسير الحوفي: افتتحت الفاتحة بقوله: الحمد للهِ رب العالين، فوصف بأنه

(1/63)


مالك جميع المخلوقين.
وفي الأنعام والكهف وسبأ وفاطر لم يوصَف بذلك، بل
بفرد من أفراد صفاته وهو خلقُ السماوات والأرض، والظلمات والنور في
الأنعام، وإنزال الكتاب في الكهف، ومالك ما في السماوات وما في الأرض في سبأ، وخلقهما في فاطر، لأن الفاتحةَ أمّ القرآن ومطلعه، فناسب الإتيان فيها بأبلغ الصفات وأعمها وأشملها.
قال الأستاذ ابن الزبير: وأما مناسبة الوصف الوارد في سورة الأنعام فمن
حيث ما وقع فيها من الإشارة إلى مَنْ عبد الأنوار، وأعاد سبحانه ذكر ما فيه
الدلالة البينة على بُطلان مذهب مَنْ عَبد النَّيِّرات أو شيئاً منها في قوله تعالى:
(وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) الآية.
فقال: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا) .
ثم قال عليه السلام على جهة الفَرْض وإقامة الحجة على قومه: " هذا رَبّي " فلما أفل قال: لا أحِبُّ الآفلين.
ثم قال في الشمس والقمر مستدلاّ بتغيُّرهما وتقلبهما في الطلوع
والغروب على أنهما حادثين مربوبين مسخرين طالعين لموجدِهما المنَزّه عن سمات التغير والحدوث، فقال عليه السلام عند ذلك لقومه: (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) .
فأخبر عن حاله قبل هذا الاعتبار وبعده.
قال تعالى: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا) .
وفي طيّ قوله: وما كان من المشركين تنزيهه عن عبادة النيرات وغيرها مما
سواه تعالى، وبانَ من هذا كله ما افتتحت به السورة من انفراده تعالى بخلق
السماوات والأرض، والظلمات والنور، فوضح التلازمُ والتناسب.
وأما سورة الكهف فإنها لما انطوت على التعريف بقصة أهل الكهف، ولقاء
موسى عليه السلام والخضر، وما كان من أمرهما، وذكر الرجل الطّواف وبلوغه مطلع الشمس ومغربها، وبنيانه سدَّ يَأجُوج ومأجوج، وكل هذا إخبار بما لا مجال للعقل فيه، ولا تُعْرَف حقيقته إلا بالوحي والإنباء بالصدق الذي لا عِوَج فيه ولا امْتِراءَ ولا زيْغ - ناسب ذكر افتتاح السورة المعرّفة بذلك بالوحي

(1/64)


المقطوع به قوله تعالى: (الحمد لله الذي أنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتَابَ ولم يجعل له
عِوجاً) .
والتناسب في هذا أوضح من أن يتوقف فيه.
وأما سورة سبأ فلما تضمنت ما منح سبحانه داود عليه السلام من تسخير
الجبال والطير والريح وإلانةِ الحديد ناسب ما به افتتحت السورة من أن الكل
ملكه وخلقه، فهو المسخّر لها والتصرف في الكل بما شاء، فقال تعالى:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) .
وهذا أوضح التناسب.
وأما سورة الملائكة فمناسبة وصفِه تعالى باختراع السماوات والأرض لما ذكره
من خلق عامّ في السماوات من الملائكة وجعلهم رسلاً أولي أجنحة، وإمساكه
السماوات والأرض أنْ تَزولا - أبْين شيء وأوْضَحه، وليس شيء من هذه
الأوصاف العليّة بمناسب لغير موضعه لمناسبته موضعه الوارد منه.
فقد بان مجيء كلّ منها في موضعه ملائماً لما اتصل به.
والله أعلم.
قال الكَرْمَاني في العجائب: إن قيل كيف جاء يسألون أربع مرات بغير واو.
(يسألونك عن الأهِلَّةِ) .
(يسألونك ماذا ينْفِقُون) .
(يسألونك عن الشَّهْرِ الحَرَام) .
(يسألونك عن الخمر) .
ثم جاء ثلاث مراتٍ بالواو:
(ويسألونك ماذا يُنْفقون) (ويسألونك عن اليَتَامَى) .
(ويسألونك عن المحِيض) .
قلنا: لأن سؤالهم عن الحوادث الأوَل وقع متفرقاً، وعن الحوادث الأخَر وقع في وقت واحد، فجيء بحرف الجمع دلالة على ذلك.
فإن قيل: كيف جَاء: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)
، وعادة القرآن مجيء قل في الجواب بلا فاء؟
أجاب الكرماني بأن التقدير لو سئلت عنها فَقُلْ.

(1/65)


فإن قيل: كيف جاء: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) ، وعادة السؤال يجيء جوابه في القرآن بِقُلْ.
قلنا: حُذِفت للإشارة إلى أن العبد في حالة الدعاء في أشرف المقامات، ولا
واسطة بينه وبين مولاه.
ورد في القرآن سورتان، أولهما يا أنها الناس في نصفه الأول، وهي تشتمل
على شرح البدأ، والتي في النصف الثاني على شرح المعاد.
*******
الوجه السادس من وجوه إعجازه (مُشْتَبِهات آياته)
وذلك أن القصة الواحدة ترد في سوَرٍ شتَّى وفواصل مختلفة بأن يأتي في
موضع واحد مقدماً وفي آخر مؤخراً، كقوله في البقرة: (وادخُلُوا البَابَ
سُجَّداً وقولُوا حِطَّة) . البقرة: 58.
وفي الأعراف: (وقولوا حِطّة وادْخُلُوا البابَ سُجّداً) . الأعراف: 161.
وفي البقرة: (وما أهِل بهِ لغَيْرِ اللهِ)
وسائر القرآن: (وما أهِلّ لغَيْرِ الله به) .
وفي موضع بزيادةٍ وفي موضع بدونها، نحو: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) .
وفي يس: (وَسَوَاء) . يس: 10، وفي البقرة: (ويَكونَ الدِّينُ للَهِ) البقرة: 163.
وفي الأنفال: (كُلّه لله) الأنفال: 39.
وفي موضع معرفاً وفي آخر منكراً.
أو مفرداً وفي آخر جمعاً.
أو بحرف وفي آخر بحرف آخر.
أو مدغماً أو مفككاً.
وهذا النوع يتداخل مع نوع المناسبات.
وقد أفرده بالتصنيف جماعة أولهم فيما أحسب الكسائي، ونظمه السخاوي، وألف في توجيهه الكرماني كتابه "البرهان في متشابه القرآن".
وأحسن منه درة التنزيل وغرة التأويل" لأبي عبد الله الرازي (1) .
وأحسن منها كلها "ملاك التأويل في متشابه التنزيل" لأبي جعفر بن الزبير.
وللقاضي بدر الدين بن جماعة في ذلك كتاب لطيف سماه "كشف المعاني عن متشابه المثاني".
وفي كتابي أسرار التنزيل المسمى
__________
(1) الراجح نسبة الكتاب إلى الخطيب الإسكافي رحمه الله، وقد نقل عنه الكرماني في "البرهان في متشابه القرآن" بعض الأجوبة، - ناسبا الكتاب - للخطيب الإسكافي، ومعلوم أن الكرماني متقدم على الرازي. والله أعلم.

(1/66)


قطف الأزهار في كشف الأسرار من ذلك الجمّ الغفير، لَكنَّا "نُشِير هنا إلى توجيه أمثلة منها تتميما للفائدة:
قوله في البقرة: (هُدًى للمتَّقين) البقرة: 2) ، لأنه لما ذكر هنا جموع
الإيمان ناسب المتقين، ولما ذكر في لقمان الرحمة ناسبه: هدى ورحمةً للمحسنين.
وإنما ذكر في البقرة: (وكُلاَ) . البقرة: 35، بالواو، وفي الأعراف:
(فَكُلاَ) . الأعراف: 19، - بالفاء، لأن المراد بالسكنى في البقرة الإقامة.
وفي الأعراف اتخاذ المسكن، فلما ناسب القول إليه تعالى: (وقُلْنَا يَا آدَم)
البقرة: 35، ناسب زيادة الإكرام بالواو الدالة على الجمع بين السكنى
والأكل، ولذا قال فيه رغداً، وقال: حيث شئتما، لأنه أعلم.
وأتى في الأعراف: يا آدم، فأتى بالفاء الدالة على ترتيب الأكل على السكنى المأمور باتخاذها، لأن الأكل بعد الاتخاذ، ومن حيث لا يعطي عموم " حيث شئتما ".
قوله في البقرة: (ولا يُقْبَل منها شَفَاعَةٌ) ، وقال بعد ذلك:
(ولا يقْبَلُ منها عَدْلٌ ولا تَنْفَعُهَا شفاعةٌ) ، ففيه تقديم
وتأخير، والتعبير بقبول الشفاعة تارة وبالنفي أخرى، وذكر في حكمته أن
الضمير في منها راجع في الأولى إلى النفس الأولى، وفي الثانية إلى النفس الثانية، فبيّن في الأولى أن النفس الشافعة الجازية عن غيرها لا تُقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عَدْل، وقدمت الشفاعة لأن الشافع يقدم الشفاعة على بَذْل العدل عنها.
وبيّن في الثانية أن النفس المطلوبة بجُرمها لا يقبل منها عدل عن نفسها، ولا
تنفعها شفاعة شافع فيها، وقدم العدل لأن الحاجة إلى الشفاعة إنما تكون عند
رده، ولذلك قال في الأولى: لا يقبل منها شفاعة، وفي الثانية: ولا تنفعها
شفاعة، لأن الشفاعة إنما تقبل من الشافع، وإنما تنفع المشفوع له.
قوله تعالى في البقرة: (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ) .
وفي إبراهيم: (وَيُذَبِّحُونَ) ، بالواو، لأن الأولى من كلامه تعالى لهم فلم يعدد

(1/67)


عليهم المحن تكريما في الخطاب.
والثانية من كلام موسى فعددها في الأعراف:
(يُقَتّلون) ، وهو من بديع الألفاظ المسمى بالتفنن.
قوله تعالى: (وإذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذه القَرْية) ، وفي آية الأعراف اختلاف ألفاظ، ونكتته أن آية البقرة في معرض ذكر النعم عليهم
حيث قال: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) .
فناسب نسبة القول إليه تعالى، وناسب قوله رغداً، لأن النعم به
أتم، وناسب تقديم: وادخلوا الباب سجداً، وناسب خطايا، لأنه جمع كثرة، وناسب الواو في: وسنزيد الحسنين لدلالتها على الجمع بينهما، وناسب الفاء في فكلوا، لأن الأكل قريب من الدخول.
وآية الأعراف افتتحت بما به توبيخهم، وهو قوله: (اجعَلْ لنا إلهاً كما لَهُمْ
آلهة) . الأعراف: 138.
ثم اتخاذهم العجل، فناسب ذلك: وإذا قيل لهم، وناسب ترك " رَغَدا " والسكنى تجامع الأكل فقال: وكلوا، وناسب تقديم مغفرة
الخطايا، وترك الواو في سنزيد.
ولما كان في الأعراف تبعيض الهادين بقوله:
(وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) ، ناسب تبعيض الظالمين بقوله: الذين ظلموا منهم، ولم يتقدم في البقرة إشارة إلى سلامة غير الذين ظلموا لتصريحه بالإنزال على المتصفين بالظلم.
والإرسال أشد وقعاً من الإنزال، فناسب سياق ذكر النعمة البقرة ذلك، وختم آية البقرة بـ يفسقون.
ولا يلزم منه الظلم، والظلم يلزم منه الفسق، فناسب كل لفظ منها سياقه.
كذا في البقرة " فانفجرت " وفي الأعراف: انبجست، لأن الانفجار أبلغ في
كثرة الماء، فناسب ذكر النعم التعبير به.
قوله تعالى في البقرة: (وقالوا لَنْ تَمَسّنَا إلا أيّاماً معدودةً)
وفي آل عمران (معدودات) .
قال ابن جماعة: لأن قائلي ذلك فرقتان من اليهود: إحداهما قالت إنما نُعذب
بالنار سبعة أيام عدد أيام الدنيا.
والأخرى قالت: إنما نُعذب أربعين يوماً، عدة

(1/68)


أيام عبادة آبائهم العجل، فآية البقرة تحتمل قَصْدَ الفرقة الثانية حيث عبر بجمع الكثرة، وآل عمران الفرقة الأولى حيث أتى بجمع القلة.
وقال أبو عبد الله الرازي: إنه من باب التفنن.
قوله في البقرة: (إنَّ هُدَى اللهِ هو الهدَى) .
وفي آل عمران: (إنّ الهدَى هُدَى الله) ، لأن الهدى في البقرة
المراد به تحويل القبلة، وفي آل عمران المراد به الدّين، لتقدم قوله: " لِمَنْ تَبعَ دِينَكم"، ومعناهُ دين الإسلام.
قوله تعالى في البقرة: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) .
وفي إبراهيم عرّفه، لأن الأول دعا به قبل مصيره بلدا عند ترك هاجر
وإسماعيل به وهو واد، فدعا بأن يصير بلدا.
والثاني دعا به بعد عوده وسكنى جرْهم به ومصيره بلداً فدعا بأمنه.
وقيل: لأن النكرة إذا تكررت صارت معرفة.
وقيل تقديره في البقرة: هذا البلد بلداً آمناً، فخذف البلد اكتفاء
بالإشارة، فتكون الآيتان سواء، وهذا يقتضي أنه دعا بهذا الدعاء مرتين.
والظاهر أنه مرة حكى لفظه فيها على وجهين.
قوله تعالى: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) البقرة:
120، فجعل الذي مكان قوله فما بعد: (ما) ، وزاد (من) البقرة:
145، والرعد 37، لأن العلم في الآية الأولى علم بالكمال الذي ليس وراءه علم، لأن معناه بعد الذي جاءك من العلم بالله وصفاته، فكان لفظ الذي أليق به من لفظ " ما "، لأنه في التعريف أبلغ وفي الوصف أقعد، لأن " الذي " تعرّفه صلته ولا يتنكر قط، ويتقدمه أسماء الإشارة، نحو قوله: (أمَّن هذا الذي هُوَ جُنْدٌ لكم) ، (أمَّن هذا الذي يرْزُقكم) .
فيكتنفه بيانان: الإشارة والصلة ويلزمه الألف واللام، ويثنى ويجمع، وليس لـ " ما " شيء من ذلك، لأنه يتنكر مرة ويتعرَّفُ اخرى، ولا يقع وصفاً لأسماء الإشارة، ولا يدخله الألف واللام، ولا يثنَّى ولا يجمع.

(1/69)


وخص الثاني بما لأن المعنى من بعد ما جاءك من العلم بأن قبلة الله هي
الكعبة، وذلك قليل من كثير من العلم.
وزيد معه " من " التي هي لابتداء الغاية، لأن تقديره من الوقت الذي جاءك العلم فيه بالكعبة، لأن القبلة الأولى نُسخت بهذه الآيات، وليس الأول موقتاً بوقت.
وقال في سورة الرعد: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ)
، فعبّر بما، ولم يزد من هنا لأن العلم ها هنا هو الحكم العرفي، أي
القرآن، فكان بعضاً من الأول ولم يزد من لأنه غير موقت.
وقريب من معنى القبلة ما في آل عمران: (مِنْ بَعْدِ ما جاءكَ من العلم) .
قوله تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ) ، وفي آل عمران: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا) .
لأن الأولى خطاب للمسلمين، والثانية خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (قُلْ آمنّا بالله) ، و"إلى" ينتهى به من كل جهة، و"على" لا ينتهى به إلا من جهة واحدة وهي العلو.
والفرقان يأتي المسلمين من كل جهة يأتي مبلغه إياهم.
وإنما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة العلو خاصة، فناسب قوله (علينا) ، ولهذا أكثر ما جاء في جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعلَى، وأكثر ما جاء في جهة الأمة بإلى.
قوله تعالى في البقرة: (وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) .
وحذف ما في آل عمران
لأنه تقدم فيها ذكر ذلك: قوله تعالى: (لَمَا آتيْتُكم) .
قوله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) .
إنما كرر هذه الآيات ثلاث مرات، لأن الأولى لنسخ القبلة، والثانية للسبب، وهو قوله: وإنه للْحَق مِنْ ربك.
والثالثة للعلة وهي قوله: (لئلا يكونَ للناس عليكم حُجّة) .
وقيل الأولى في مسجد المدينة، والثانية خارج المسجد، والثالثة خارج البلد.

(1/70)


وقيل في الآية خروجان: خروج إلى مكان ترى فيه الكعبة، وخروج إلى
مكان لا ترى أي الحالتين فيه سواء.
قوله تعالى: (إلا الذينَ تَابوا وأصْلَحُوا) . البقرة: 160.
إنما لم يزد هنا (من بعد ذلك) كما في غيرها.
لأن قبله من بعد ما بيناه للناس في الكتاب، فلو أعاده لالْتَبَسَ.
قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) ، لأنه ذكر في البقرة الاتباع مَنْفِيّا بما هو دون العلم
لتكون كل دعوى منفيا بما يُلائمه.
ولما ذكر في المائدة، ادعاءهم النهاية بلفظ "حَسْبُنا" نفى ذلك بالعلم الذي هو أبلغ درجة من العقل، ولهذا جاز وصفه تعالى بالعلم، ولم يجز وصفه بالعقل، ولكن لما كان دعواهم في المائدة أبلغ لقولهم: (حَسْبُنَا ما وَجَدْنَا) ، وكذلك في سورة لقمان، لأن وجدت يتعدى مرة إلى مفعول واحد، تقول: وجدت الضالة، ومرة إلى مفعولين: وجدت زيداً جالساً، فأتى في آية البقرة بألفيت، لأنه يتعدى إلى مفعولين، تقول ألفيت زيدا
قائما، وأتى في المائدة بما هو أعلم.
قوله تعالى: (ومَا اهِلَّ يهِ لِغَيْرِ الله) البقرة: 173.
فقدم ضمير المجرور في البقرة، وأخَّره في المائدة، والأنعام، والنحل، لأن تقديم الباء الأصل بأنه يجري مجرى الألف والتشديد في التعدي، فكان كحرف من الفعل، وكان الموضع الأول أوْلى بما هو الأصل، ليعم ما يقتضيه اللفظ.
وأما ما عدا هذه السورة فأخّر به لأنه قدم ما هو المستنكر وهو الذبح لغير الله، وتقدم ما هو بالغرض أولى، ولهذا جاز تقديم المفعول على الفاعل، والحال على ذي الحال، والظرف على العامل فيه، إذا كان أكثر الغرض في الإخبار، وزاد في هذه السورة: فلا إثم عليه، وفي السور الثلاث تضميناً، لأن قوله: " غفور رحيم " يدل على أنه لا إثم عليه.
وإنما ختم في الأنعام بذكر الرب، لأنه تكرر فيها مرات.
فكان لفظ الرب بها أليق.
قوله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فلا تقْرَبُوها) . البقرة: 187.
وقال بعد

(1/71)


ذلك: (فلا تَعْتَدوها) ، لأن الأولى وردت بعد نواهٍ، فناسب
النهي عن قربانها، والثانية بعد أوامر، فناسب النهي عن تعديها وتجاوزها بأن
يوقف عندها.
قوله تعالى: (نَزّلَ عَلَيْكَ الكتَاب) آل عمران: 3.
وقال: (وأنزل التوراةَ والإنْجِيل) آل عمران: 3) ، لأن الكتاب أنزل منجماً، فناسب الإتيان بنزل الدالة على التكرير، بخلافهما فإنهما أنزلا دفعة واحدة.
قوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ) .
وفي الإسراء: (خَشْيَةَ إمْلاَق) ، لأن الأولى خطاب للفقراء المقلين، أي لا تقتلوهم من فقركم، نحن نرزقكم ما يزول به إملاقُكم، ثم قال: وإياهم.
والثانية خطاب للأغنياء، أي خشية فقر يحصل لكم بسببهم، ولهذا
حسن: نحن نرزقهم وإياكم.
قوله تعالى: (فاستَعِذْ باللهِ إنهُ سَمِيعٌ عَلِيم) الأعراف: 200.
وفي فُصّلت: (السميع العليم) فصلت: 36) ، لأنها نزلت ثانيا فحسن التعريف، أي هو السميع العليم الذي تقدم ذكره عند نزوغ الشيطان.
قوله تعالى: (المنافقون والمنافقاتُ بعضُهم مِنْ بَعْض) .
وقال في المؤمنين: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) ، وفي الكفار: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) ، لأن المنافقين ليسوا
متناصرين على دين معين وشريعة ظاهرة، وكان بعضهم يهوداً وبعضهم
مشركين، فقال: من بعض، أي في الشك والنفاق.
وكان المؤمنون متناصرين على دين الإسلام.
وكذلك الكفار المعلنون بالكفر كلهم أعوان بعضهم
ومجتمعون على التناصر بخلاف المنافقين، كما قال تعالى: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) .
فهذه أمثلة يستضاء بها، ويأتي منها كثير في وجه التقديم والتأخير، وتقدم في
نوع الفواصل، وهذا بحر لا ساحل له، فلنرجع إلى المقصود.
*******

(1/72)


الوجه السَّابع من وجوه إعجَازه (ووود مشكله حتى يوهم التعارض بين الآيات)
وكلامه تعالى منزة عن ذلك، بل فيه إعجاز للكلام كما صنف في الحديث.
وبيان ذلك الجمع بين الأحاديث المتعارضة، وقد تكلم في ذلك ابن عباس.
وحكي عنه التوقف في بعضها.
قال عبد الرزاق في تفسيره: أخبرنا معمر عن رجل عن المنهال بن عمرو عن
سعيد بن خبير، قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أرأيت أشياء تختلف عليَّ من القرآن؟ فقال ابن عباس: ما هو، أشك، قال: ليس بشك، ولكنه اختلاف.
قال: هات ما اختلف عليك من ذلك.
قال: أسمع الله يقول: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) .
وقال: (ولا يكتمون اللهَ حديثاً) . النساء: 42، فقد كتَمُوا.
وأسمعه يقول: (فَلاَ أنْسَابَ بينهم يومئذٍ ولا يتَسَاءَلُون) المؤمنون: 101.
ثم قال: (وأقْبَلَ بعضُهم على بعض يتساءلون) الصافات: 27.
والطور: 25.
وقال: (أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) ، حتى بلغ: (طائِعين) ، ثم قال في الآية الأخرى: (أم السماء بنَاها) .
ثم قال: (والأرض بعد ذلك دَحَاها) .
وأسمعه يقول: (كان الله) ، ما شأنه يقول: (وكان الله) ؟
فقال ابن عباس: أما قوله: ثم لم تكن فتنتهم فإنهم لما رأوا العذاب يوم
القيامة، وأن الله يغفر لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يغفر شركا، ولا
يتعاظمه ذنب أن يغفره، جحده المشركون رجاء أن يغفر لهم، فقالوا: والله ربنا ما كُنَّا مشركين.
فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا
يعملون، فعند ذلك يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تُسَوَّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً.

(1/73)


وأما قوله: فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون - فإنه إذا نفخ في الصور
فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم عند ذلك، ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون.
وأما قوله: "خلق الأرض في يومين" فإن الأرضَ خُلقت قبل السماء، وكانت
السماء دخانا فسواهنّ سغ سموات في يومين بعد خلق الأرض.
وأما قوله: "والأرض بعد ذلك دحاها": يقول: جعل فيها جبالا، وجعل فيها أنهاراً، وجعل فيها أشجارا، وجعل فيها بحارا.
وأما قوله: كان الله فإن الله كان ولم يزل كذلك، وهو كذلك عزيز حكيم
عليم قدير، ثم لم يزل كذلك، فما اختلف عليك من القرآن فهو يشبه ما ذكرْتُ لك، وإن الله لم ينزل شيئاً إلا وقد أصاب به الذي أراد، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وأخرجه الحاكم في المستدرك وصححه، وأصله في الصحيح.
قال ابن حجر في شرحه: حاصل ما فيه السؤال عن أربعة مواضع:
الأول: نفي المسألة يوم القيامة وإثباتها.
الثاني: كتمان المشركين حالهم وإفشاؤه.
الثالث: خلق السماء والأرض أيهما تقدم.
الرابع: الإتيان بحرف " كان " الدالة على المضي مع أن الصفة لازمة.
وحاصل جواب ابن عباس عن الأول أن نفي المساءلة فيما قبل النفخة الثانية
وإثبانها فما بعد ذلك.
وعن الثاني أنهم يكتمون بألسنتهم فتنطق أيديهم وأرجلهم.
وعن الثالث أنه بدأ خلق الأرض في يومين غير مدحوّة، ثم خلق السماوات، فسوّاهن في يومين، ثم دحا الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرواسي وغيرها في
يومين، فتلك أربعة أيام للأرض.

(1/74)


وعن الرابع: بأن " كان " وإن كانت للمضي لكنها لا تستلزم الانقطاع، بل
المراد أنه لم يزل كذلك.
فأما الأول فقد جاء فيه تفسير آخر: إن نفي المساءلة عند تشاغلهم بالصعق
والمحاسبة والجواز على الصراط، وإثباتها فما عدا ذلك، وهو منقول عن السدي.
أخرجه ابن جرير من طريق علي بن طلحة عن ابن عباس أن نفي المساءلة عند
النفخة الأولى، وإثباتها بعد النفخة الثانية.
وقد تأول ابن مسعود نفي المساءلة على معنى آخر، وهو طلب بعضهم من بعض العفو، فأخرج ابن جرير من طريق زادان، قال: أتيت ابن مسعود فقال: يؤخذ بيد العبد يوم القيامة فينادى هذا فلان ابن فلان، فمن كان له حق قِبلَه فليأت.
قال: فتودُّ المرأة يومئذ أن يكون لها حق على أبيها أو ابنها أو أخيها أو زوجها، فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون.
ومن طريق آخر قال: لا يسأل يومئذ أحد بنسب شيئاً، ولا يتساءلون به ولا
يمتّ برحم.
وأما الثاني فقد ورد بأبسط منه فيما أخرجه ابن جرير عن الضحاك بن
مُزَاحم: أن نافع ابن الأزرق أتى ابن عباس فقال: قول الله: ولا يكتمون الله
حديثاً، وقوله: واللَه ربنا ما كُنَّا مشركين.
فقال: إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت لهم: آتي ابن عباس ألْقِي عليه متشابه القرآن، فأخبِرْهُم أن الله إذا جمع الناس يوم القيامة قال المشركون: إن اللهَ لا يَقْبَل إلا مِمَّنْ وحَّدَه، فيسألهم فيقولون: واللَه ربنا ما كُنَّا مشركين.
قال: فيختم على أفواههم ويستنطق جوارحهم.
ويؤيده ما أخرجه مسم من حديث أبي هريرة في أثناء حديث، وفيه: ثم يلقى
الثالث فيقول: يا رب، آمنت بك وبكتابك ورسولك، ويثْني ما استطاع.
فيقول: الآن نبعث عليك شاهداً، فيقول في نفسه: من الذي يشهد عليّ! فيختم على فيه وتنطق جوارحه.

(1/75)


وأما الثالث ففيه أجوبة أخر، منها: أن ثم بمعنى الواو، فلا إيراد.
وقيل: المراد ترتيب الخبر لا المخبر به، كقوله: (ثم كان من الذين آمنوا) . وقيل على بابها، ولكي لتفاوت ما بين الخلقتين لا للتراخي في الزمان.
وقيل خلق بمعنى قَدَّر.
وأما الرابع وجواب ابن عباس عنه فيحتمل كلامه أنه أراد سَمّى نفسه
غفوراً رحيما، وهذه التسميةُ مضَتْ، لأن التعلق انقضى.
وأما الصفتان فلا تزالان كذلك لا تنقطعان، لأنه إذا أراد المغفرة أو الرحمة في الحال أو الاستقبال وقع مراده، قاله الشمس الكرماني، قال: ويحتمل أن يكون ابن عباس أجاب بجوابين:
أحدهما أن التسمية هي التي كانت وانقضت، والصفة لا نهاية
لها، والآخر أن معنى كان للدوام، فإنه لا يزال كذلك، ويحتمل أن يحمل
السؤال على مسلكين والجواب على دفعهما، كأن يقال هذا اللفظ يُشعرِ بأنه في الزمان الماضي كان غفورا رحيما مع أنه لم يكن هناك من يغفر له أو يرحم، وبأنه ليس في الحال كذلك لما يشعر به لفظ " كان ".
والجواب عن الأول بأنه كان في الماضي تسمّى به.
وعن الثاني بأن " كان " تعطي معنى الدوام.
وقد قال النحاة: كان لثبوت خبرها ماضياً دائماً أو منقطعا.
وقد أخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس أن يهودياً قال: إنكم
تزعمون أن الله كان عزيزا حكيماً، فكيف هو اليوم، فقال: إنه كان في نفسه عزيزاً حكيماً.
موضع آخر توقف فيه ابن عباس: قال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل عن أيوب.
عن ابن أبي مُلَيْكة، قال: سأل رجل ابن عباس عن (يَوْم كانَ مِقْدَاره ألف
سنة) .
وقوله: (يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) .
فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما الله في كتابه، والله أعلم بهما.

(1/76)


وأخرجه ابن أبي حاتم من هذا الوجه، وزاد: ما أدري ما هما، وأكره أن
أقول فيهما ما لا أعلم.
قال ابن أبي مليكة: فضرب الدهر حتى دخلت على سعيد بن المسيب فَسُئل
عن ذلك فلم يدر ما يقول.
فقلت: ألاَ أخْبِرك بما حضرت عن ابن عباس.
فأخبرته.
فقال ابن المسيب للسائل: هذا ابن عباس قد اتَّقَى أنْ يقول فيها، وهو
أعلمُ مني.
وروي عن ابن عباس أيضاً أن يوم الألف هو مقدار سَيْرِ الأمرِ وعروجه
إليه، ويوم الألف في سورة الحج أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات.
ويوم الخمسين ألفاً هو يوم القيامة، فأخرج ابن أبي حاتم من طريق سماك عن
عكرمة عن ابن عباس أن رجلاً قال له: حدثني ما هؤلاء الآيات: في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
(وإن يَوماً عند ربك كألْفِ سنة) . الحج: 47.
فقال: يوم القيامة حساب الخمسين ألف سنة.
والسماوات في ستة أيام كل يوم يكون ألف سنة.
(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) .
قال ذلك مقدار السير.
وذهب بعضهم إلى أن المراد بهما يوم القيامة، وأنه باعتبار حال المؤمن
والكافر، بدليل قوله: يوم عسير على الكافرين غير يسير.
فصل
قال الزركشي في "البرهان": للاختلاف أسباب:
أحدها: وقوع الخبر به على أحوال مختلفة وتطورات شتى، كقوله في خلق
آدم مرة: (مِنْ ترَاب) آل عمران: 59) ، ومرةً: (مِنْ حَمَأ مَسْنون)
الحجر: 26) ، ومرة: (مِنْ طِين لازِبِ) الصافات: 11) ، ومرة -: (مِنْ
صَلْصَال كالفَخَّار) . الرحمن: 14) ، فهَذه ألفاظ مختلفة ومعانيها في أحوال
مختلفة، ً لأن الصلصال غير الحمأ والحمأ غير التراب، إلا أن مرجعها كلها إلى جوهر وهو التراب، ومن التراب تدرجت هذه الأحوال.

(1/77)


وكقوله: (فإذا هي ثعْبَانٌ) ، في موضع.
وفي موضع: (تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ) ، والجان الصغيرُ من الححَّاتِ، والثعبان الكبير منها، وذلك لأن خَلْقَهَا خلقُ الثعبان العظيم، واهتزازها وحركتها وخفتها كاهتزاز الجان وحركته وخفّته.
الثاني: لاختلاف الموضوع، كقوله: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) .
وقوله: (فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) .
- مع قوله: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) .
قال الحليمي: فتحمل الآية الأولى على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل.
والثانية على ما يستلزمه الإقرار بالنبوءات من شرائع الدين وفروعه.
وحمله غيره على اختلاف الأماكن، لأن في القيامة مواقف كثيرة، ففي موضع: يسألون، وفي موضع آخر: لا يسألون.
وقيل: إن السؤال المثبت سؤال تبكيت وتوبيخ والمنفي
سؤال المعذرة وبيان الحجة.
وكقوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) ، مع قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) .
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: الآية الأولى على التوحيد، بدليل قوله بعدها: (ولا تموتنَ إلا وأَنْتمْ مسلمون) .
والثانية على الأعمال.
وقيل: بل الثانية ناسخة للأولى.
وكقوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) .
مع قوله: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) .
فالأولى تفهم إمكان العدل، والثانية تنفيه.
والجواب أن الأولى في توفية الحقوق.
والثانية في الميل القلبي، وليس في قدرة البشر.
وكقوله: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) ، مع قوله:

(1/78)


(أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا) .
فالأولى في الأمر الشرعي، والثانية في الأمر الكوني بمعنى القضاء والتقدير.
الثالث: لاختلافهما في جهتي الفعل، كقوله: (فَلَمْ تَقْتلوهم ولكنَّ اللهَ
قتَلَهم وما رَمَيْتَ إذ رميت ولكنَّ اللهَ رمى) .
فأضاف الفعل إليهم والرمي إليه - صلى الله عليه وسلم - على جهة الكسب والمباشرة، ونفاه عنهم وعنه باعتبار التأثير.
الرابع: لاختلافهما في الحقيقة والمجاز، كقوله: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى) .
أي سكارى من الأهوال مجازاً، لَا منَ الشراب حقيقة.
الخامس: بوجهين واعتبارين، كقوله: (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) .
مع قوله: (خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) .
قال قطْرب: فبصرك اليوم، أي عِلْمك ومعرفتك بها قوية.
من قوله: بَصرَ بكذا أي علم، وليس المراد رؤية العين.
قال الفارسي: ويدل على ذلك قوله: (فكشَفْنَا عنكَ غطاءك) .
وكقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ) .
مع قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) .
فقد يظنّ أن الوجل خلاف الطمأنينة.
وجوابه أن الطمأنينة تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد.
والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى فتوجل القلوب لذلك، وقد جمع بينهما في قوله: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) .
وممّا استشكلوه قوله تعالى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) .

(1/79)


فإنه يدل على حصر المانع من الإيمان في أحد هذين الشيئين.
وقال في آية أخرى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) .
فهذا حصر آخر في غيرهما.
وأجاب ابن عبد السلام بأن معنى الآية: وما منع الناس أن يؤمنوا إلا إرادة
أن تأتيهم سنة الأولين من الخسف أو غيره، أو يأتيهم العذاب قبلاً في الآخرة.
فأخبر أنه أراد أن يصيبهم أحد الأمرين.
ولا شك أن إرادة الله مانعة من وقوع ما ينافي المراد، فهذا حصر في السبب الحقيقي، لأن الله هو المانع في الحقيقة.
ومعنى الآية الثانية: وما منع الناس أن يؤمنوا إلا استغراب بعثه بشرا رسولاً، لأن قولهم ليس مانعاً من الإيمان، لأنه لا يصلح لذلك، وهو يدل على
الاستغراب بالتزام، وهو المناسب للمانعية، واستغرابهم ليس مانعاً حقيقيا، بل عادياً، لجواز وجود الإيمان معه بخلاف عادة الله، فهذا حصر في المانع العادي، والأول حصر في المانع الحقيقي، فلا تنافي ... انتهى.
ومما استشكل قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) .
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ) .
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ) .
إلى غير ذلك من الآيات.
ووجهه أن المراد هنا بالاستفهام النفي، والمعنى لا أحد أظلم، فيكون خبراً.
وإذا كان خبراً وأخِذت الآيات على ظاهرها أدى إلى التناقض.
وأجيب بأوجه: منها تخصيص كل موضع بمعنى صلته، أي لا أحد من
المانعين أظلم ممن منع مساجد الله.
ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله.
وكذا باقيها، وإذا تخصص بالصِّلات زال التناقض.
ومنها: أن التخصيص بالنسبة إلى السبق لَمّا لم يسبق أحد إلى مثله حكم
عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سِالكاً طريقهم، وهذا يؤول معناه إلى ما قبله، لأن المراد السبق إلى المانعية والافترائية.

(1/80)


ومنها - وادعى أبو حيان أنه الصواب: أن نفي الأظلمية لا يستدعي نفي
الظالمية، لأن نفي المقيد لا يدل على نفي المطلق، وإذا لم يدل على نفي الظالمية لم يلزم التناقض، لأن فيها إثبات التسمية في الأظلمية، ثم لم يكن أحد وصف بذلك يزيد على الآخر، لأنهم يتساوون في الأظلمية، وصار المعنى لا أحد أظلم ممن افترى، وممن منع ونحوها، ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية، ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر، كما إذا قلت لا أحد أفقه منهم ... انتهى.
وحاصل الجواب أن نفي التفضيل لا يلزم منه نفي المساواة.
وقال بعض المتأخرين: هذا استفهام مقصود به التهويل والتفظيع من غير
قصد إثبات الأظلمية للمذكور حقيقة، ولا نفيها عن غيره.
وقال الخطابي: سمعت ابن أبي هريرة يحكي عن أبي العباس بن سريج، قال:
سأل رجل بعض العلماء عن قوله: (لا أقسم بهذا البلد) .
فأخبر أنه لا يقسم به، ثم أقسم به في قوله: (وهذا البلد الأمين) التين: 3) ، فقال: أيّهما أحبّ إليك أجيبك ثم أقطعك، أو أقطعك ثم أجيبك، فقال: أقطعني ثم أجبْني.
فقال له: اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحضرة رجال وبين ظهراني قوم، وكانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مَغْمَزا وعليه مطْعناً، فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلقوا به وأسرعوا بالرد عليه، ولكن القوم علموا وجهلت، فلم ينكروا منه ما أنكرت، ثم قال له: إن العرب قد تدخل لا في أثناء كلامها وتلغي معناها وأنشد فيه أبياتاً.
ومما استشكلوه أيضاً قوله تعالى في سورة سبحان: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) .
وفي سورة فصلت: (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) .
ومن لوازم الإياس نفي مطلق الدعاء، وأثبته في سورة فصلت.

(1/81)


وقد رام بعض المتأخرين الجمع بينهما في تأليف بديع) ، مقتضاه أن الدعاء
العريض في أول الأمر والإياس في ثاني الحال.
تنبيه:
قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني، إذا تعارضت الآي وتعذر فيها الترتيب
والجمع طلب التاريخ، وترك المتقدم بالمتأخر، ويكون ذلك نسخا.
وإن لم يعمل، وكان الإجماع على العمل بإحدى الآيتين علم بإجماعهم أن الناسخ ما أجمعوا على العمل بها.
قال: ولا يوجد في القرآن آيتان متعارضتان تخلوان عن هذين الوصفين.
قال غيره: وتعارض القراءتين بمنزلة تعارض الآيتين، نحو: (وَأَرْجُلَكُمْ)
، بالنصب والجر، ولهذا جمع بينهما بحمل النصب على الغسل، والجر
على مسح الخف.
وقال الصيرفي: جماع الاختلاف والتناقض أن كل كلام صحّ أن يضاف
بعض ما وقع الاسم عليه إلى وجه من الوجوه فليس فيه تناقض، وإنما التناقض في اللفظ ما ضاده من كل جهة، ولا يوجد في الكتاب والسنة شيء من ذلك أبدا، وإنما يوجد فيه النسخ في وقتين.
وقال القاضي أبو بكَر: لا يجوز تعارض آي القرآن والآثار.
وما يوجبه العقل.
فلذلك لم يجعل قوله: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) .
معارضا لقوله: (وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا) ، (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) .
لقيام الدليل العقلي أنه لا خالق له غير الله، فتعين تأويل ما عارضه.
فيؤوّل تخلقون على تكذبون، وتخلق على تصور.
وذكر الكرماني عند قوله تعالى: (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) .

(1/82)


الاختلاف على وجهين:
اختلاف تناقض، وهو ما يدعو فيه أحد الشيئين إلى خلاف الآخر، وهذا هو الممتنع على القرآن.
واختلاف تلازم، وهو ما يوافق الجانبين، كاختلاف وجوه القراءات واختلاف مقادير السور والآيات، واختلاف الأحكام من الناسخ والمنسوخ، والأمر والنهي، والوعد والوعيد.
*******