معترك الأقران في إعجاز القرآن الوجه الثامن من
وجوه إعجازه (وقوع ناسخه ومنسوخه)
وهو مما خصت به هذه الأمة لِحكَم، منها التيسير.
وقد أجمع المسلمون على جوازه! وأنكره اليهود ظنًّا منهم أنه
بداء كالذي يرى الرأي ثم يبدو له أنه باطل، لأنه بيان مدة
الحكم، كالإحياء بعد الإماتة وعكسه، والمرض بعد الصحة، وعكسه،
والفقر بعد الغنى وعكسه، وذلك لا يكون بَدَاءً، فكذا الأمر
والنهي.
واختلف العلماء فقيل: لا ينسخ القرآن إلا بقرآن، لقوله تعالى
(مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) .
قالوا: ولا يكون مثلَ القرآن وخيراً منه إلا قرآن.
وقيل: بل ينسخ القرآن بالسنة، لأنها أيضاً من عند الله، قال
تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) .
وجعل منه آية الوصية الآتية.
والثالث إذا كانت السنة بأمر الله من طريق الوحي نَسخت، وإن
كانت
باجتهاد فلا.
حكاه ابن حبيب النيسابوري في كتابه التفسير.
وقال الشافعي: حيث وقع نسخ القرآن بسنة فمعها قرآن عاضد لها،
وحيث وقع نسخ السنة بالقرآن فمعه سنة عاضدة له، ليتبين توافق
القرآن والسنة.
وقد بسطت هذه المسألة في شرح منظومة جمع الجوامع في الأصول.
وقد أفرد بالتصنيف في هذا الفن خلائق لا تحصى، منهم: أبو عبيد
القاسم
ابن سلام
(1/83)
، وأبو داود السجستاني، وأبو جعفر النحاس،
وابن الأنباري، ومكي.
وابن العربي، وآخرون.
لكن في هذا النوع مسائل:
الأولى: يَرِد النسخ بمعنى الإزالة، ومنه قوله: (فَيَنْسَخُ
اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ
آيَاتِهِ) .
وبمعنى التبديل، ومنه: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ
آيَةٍ) .
وبمعنى التحويل، كتناسخ المواريث، بمعنى تحويل الميراث من واحد
إلى
واحد.
وبمعنى النقل من موضع إلى موضع، ومنه نسخت الكتاب: إذا نقلت ما
فيه
حاكياً للفظه وخطه.
قال مكي: وهذا الوجه لا يصح أن يكون في القرآن.
وأنكر على النحاس إجازته ذلك محتجّاً بأن الناسخ فيه لا يأتي
بلفظ المنسوخ.
وأنه إنما يأتي بلفظ آخر.
وقال السعيدي: يشهد لما قاله النحاس قوله: (إنّا كُنّا
نَسْتَنْسِخُ ما كنتُم
تَعْمَلُون) الجاثية: 29.
وقال: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ
حَكِيمٌ (4) .
ومعلوم أن ما نزل من الوحي نجوماً جميعه في أم الكتاب، وهو
اللوح
المحفوظ، كما قال تعالى: (فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا
يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) .
الثانية: لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي، ولو بلفظ الخبر،
أما الخبر الذي
ليس بمعنى الطلب فلا يدخله النسخ، ومنه الوعد والوعيد.
وإذا عرفت ذلك عرفت فساد صُنْع من أدخل في كتاب النسخ كثيراً
من آيات الإخبار والوعد والوعيد.
(1/84)
الثالث: النسخ أقسام:
أحدها: نسخ المأمور به قبل امتثاله، وهو النسخ على الحقيقة،
كآية النجوى.
الثاني: ما نُسخ مما كان شرعاً لمن قبلنا كآية شرع القصاص
والدية.
أو كان أمر به أمراً جملياً، كنسخ التوجه إلى بيت القدس
بالكعبة، وصوم عاشوراء برمضان، وإنما يسمى هذا نسخاً تجوزا.
الثالث: ما أمِرَ به لسبب ثم يزول السبب، كالأمر - حين القلة
والضعف -
بالصبر والصلح، ثم نسخ بإيجاب القتال، وهذا في الحقيقة ليس
نسخاً، بل من قسم المنْسَأ، كما قال تعالى: (أو نُنْسِها) ،
فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون.
وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى، وبه
يضعف ما لَهجَ به كثيرون من أن الآيات في ذلك منسوخة بآية
السيف، وليس كذلك، بل هي من المنسأ، بمعنى أن كل أمر ورَدَ يجب
امتثاله في وقت ما لعلة تقتضي ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك
العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة للحكم حتى
لا يجوز امتثاله.
وقال مكي: ذكر جماعة أن ما ورد من الخطاب مُشعراً بالتوقيت
والغاية مثل
قوله في البقرة: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ
اللَّهُ بِأَمْرِهِ)
محكم غير منسوخ، لأنه يؤجّل بأجل، والمؤجل بأجل لا نسخ فيه
الرابعة: قال بعضهم: سور القرآن باعتبار الناسخ والمنسوخ
أقسام: قسم ليس فيه ناسخ ولا منسوخ، وهي ثلاث وأربعون سورة:
الفاتحة، ويوسف، ويس، والحجرات، والرحمن، والحديد، والصف،
والجمعة، والتحريم، والملك، والحاقة، ونوح، والجن، والمرسلات،
وعم، والنازعات، والانفطار، وثلاث بعدها، والفجر وما بعدها إلى
آخر القرآن، إلا التين والعصر والكافرون.
وقسم فيه الناسخ والمنسوخ، وهو خمس وعشرون: البقرة، وثلاث
بعدها،
(1/85)
والحج، والنور، وتالياها، والأحزاب، وسبأ،
والمؤمن، والشورى، والذاريات، والطور، والواقعة، والمجادلة،
والمزمل، والمدثر، وكوّرت، والعصر.
وقسم فيه الناسخ فقط، وهو ستة: الفتح، والحشر، والمنافقون،
والتغابن، والطلاق، والأعلى.
وقسم فيه المنسوخ فقط، وهو الأربعون الباقية، كذا قال.
وفيه نظر يُعرف مما يأتي.
الخامسة: قال مكي: الناسخ أقسام: فرضٌ نَسَخَ فَرْضاً، ولا
يجوز العمل
بالأول، كنسخ الحبس للزَّوَاني بالحد.
وفرض نسخ فرضاً، ويجوز العمل بالأول كآية المصابرة.
وفرض نسخ ندباً، كالقتال، كان ندباً ثم صار فرضا.
وندب نسخ فرضاً، كالقيام نسِخَ بالقراءة في قوله: (فَاقْرَءُوا
مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) .
السادسة: النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب: أحدها ما نسخ تلاوته
وحكمه معاً، قالت عائشة: كان فما أنزل عشر رضعات معلومات فنسخن
بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي فما
يقرأ من القرآن.
ورواه الشيخان.
وقد تكلموا في قولها: وهي مما يقرأ من القرآن، فإن ظاهره بقاء
التلاوة، وليس كذلك.
وأجيب بأن المراد قارب الوفاة، وأن التلاوة نسخت أيضاً، ولم
يبلغ ذلك
كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوفي
وبعض الناس يقرؤها.
قال أبو موسى الأشري: نزلت ثم رفعت.
وقال مكي: وهذا المثال فيه المنسوخ غير المتلوّ، والناسخ أيضاً
غير متلوّ، ولا أعلم له نظيراً.
الضرب الثاني: ما نسخ حكمه دون تلاوته، وهذا الضرب هو الذي فيه
(1/86)
الكتب المؤلفة، وهو على الحقيقة قليل جداً،
وإنْ أكثر الناس من تعديد الآيات فيه، فإن المحققين منهم
كالقاضي أبي بكر بن العربي ميز ذلك وأتقنه.
والذي أقوله: إن الذي أورده المكثرون أقسام:
قسم ليس من النسخ في شيء، ولا من التخصيص، ولا له علاقة بهما
بوجه
من الوجوه، وذلك مثل قوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ (3) .
(أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) .
ونحو ذلك، قالوا: إنه منسوخ بآية الزكاة، وليس كذلك، بل هو
باق.
أما الأولى فإنها خبر في معرض الثناء عليهم
بالإنفاق، وذلك يصلح أن يفسر بالزكاة وبالإنفاق على الأهل
وبالإنفاق في
الأمور المندوبة، كالإعانة والضيافة، وليس في الآية ما يدل على
أنها نفقة واجبة غير الزكاة.
والآية الثانية تصح كلها على الزكاة، وقد فسرت بذلك.
وكذا قوله: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8.
قيل: إنها مما نسخ بآية السيف، وليس كذلك، لأنه تعالى أحكم
الحاكمين أبدا، لا يقبل هذا الكلام النسخ، وإن كان معناه الأمر
بالتفويض وترك المعاقبة.
وقوله في البقرة: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) .
عده بعضهم من المنسوخ بآية السيف.
وقد غلطه ابن الحَصَّار بأن الآية حكاية عما أخذه على بني
إسرائيل من الميثاق، فهو خبر، فلا نسخ فيه.
فقس على ذلك.
وقسم هو من قسم المخصوص لا من قسم المنسوخ.
وقد اعتنى ابن العربي بتجريده، فأجاد، كقوله: (إنَّ الإنسان
لفي خسْر.
إلا الذين آمَنوا)
(وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) .
(إلا الذين آمنوا) . الشعراء: 224، 227.
(فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) .
وغير ذلك من الآيات التي خصت باستثناء أو غاية.
وقد أخطأ من أدخلها في المنسوخ،
(1/87)
ومنه قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) .
قيل نسخ بقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) .
وإنما هو مخصوص به.
وقسم رَفع ما كان عليه من الأمر في الجاهلية أو في شرائع من
قبلنا، أو في
أول الإسلام ولم ينزل في القرآن، كإبطال نكاح نساء الآباء،
ومشروعية
القصاص، والدية، وحصر الطلاق في الثالث.
وهذا إدخاله في قسم الناسخ قريب، ولكن عدم إدخاله أقرب، وهو
الذي رجّحه مكي وغيره، ووجهوه بأن ذلك لوْ عدّ في الناسخ لعد
جميع القرآن منه، إذ كله أو أكثره رافع لما كان عليه الكفار
وأهل الكتاب.
وقالوا: وإنما حق الناسخ والمنسوخ أن تكون آية نسخت آية ...
انتهى.
نعم النوع الآخر منه - وهو رافع ما كان في أول الإسلام -
إدخاله أوجب من القسمين قبله.
إذا علمت ذلك فقد خرج من الآيات التي أوردها المكثرون من الجمّ
الغفير
مع آيات الصلح والعفو إن قلنا إن آية السيف لم ينسخها، وبقي ما
يصلح لذلك عدد يسير.
وقد أفردته بأدلته في تأليف لطيف، وها أنا أورده هنا محرراً:
من البقرة قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ) .
قيل منسوخة بآية الميراث، وقيل بحديث: لا وصية لوارث.
وقيل بالإجماع، حكاه ابن العربي.
قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ) .
قيل منسوخة بقوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ) .
وقيل محكمة و" لا " مقَدّرَة.
قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ
إِلَى نِسَائِكُمْ) .
ناسخة لقوله: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)
،
(1/88)
لأن مقتضاها الموافقة فما كان عليهم من
تحريم الأكل والوطء بعد النوم.
ذكره ابن العربي، وحكى قولاً آخر أنه نسخٌ لما كان بالسنة.
قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ) .
منسوخة بقوله: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) .
أخرجه ابن جرير عن عطاء ابن ميسرة.
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجًا) .
إلى قوله: (متاعاً إلى الحَوْلِ) .
منسوخة بآية: (أربعة أشْهُر وعَشْراً) .
والوصيةُ منسوخة بالميراث.
والسكنى ثابتة عند قوم منسوخة عند آخرين بحديث: ولا سكنَى.
قوله تعالى: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) .
منسوخة بقوله بعده: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا
وُسْعَهَا) .
ومن آل عمران قوله تعالى: (اتَقُوا الله حقَّ تُقَاته) .
قيل إنه منسوخ بقوله: (فاتَقُوا اللَهَ ما استَطَعْتُمْ) .
وقيل: لا، بل هو محكم، وليس فيها آية يصح فيها دعوى النسخ غير
هذه الآية.
ومن النساء قوله تعالى: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) .
منسوخة بقوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى
بِبَعْضٍ) .
قوله تعالى: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) .
منسوخة. وقيل: لا، ولكن تهاون الناس في العمل بها.
قوله تعالى: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ) .
منسوخة بآية النور.
ومن المائدة قوله تعالى: (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ) .
منسوخة بإباحة القتال فيه.
(1/89)
قوله تعالى: (فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) .
منسوخة بقوله: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ) .
قوله تعالى: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) .
منسوخ بقوله: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) الطلاق:
2.
ومن الأنفال قوله تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ
صَابِرُونَ) .
منسوخة بالآية بعدها.
ومن بَرَاءَةَ قوله تعالى: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا) .
منسوخة بآية العذر، وهي قوله: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى
حَرَجٌ) .
وقوله: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ) ... . التوبة: 91،
الاآيتين
وبقوله: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) .
ومن النور قوله تعالى: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا
زَانِيَةً) .
منسوخ بقوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) .
قوله تعالى: (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ) .
قيل: منسوخة.
وقيل: لا، ولكن تهاون الناس في العمل بها.
ومن الأحزاب قوله تعالى: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ
بَعْدُ) .
منسوخة بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا
أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ) .
ومن المجادلة قوله تعالى: (إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ
فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) .
منسوخة بما بعدها.
ومن الممتحنة قوله تعالى: (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ
أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا) .
قيل منسوخ بآية السيف.
وقيل بآية الغنيمة.
وقيل محكم.
ومن المزمل قوله تعالى: (قُمِ اللَّيْلَ إلا قليلا) . المزمل:
2.
منسوخ بآخر السورة، ثم نسخ الآخر بالصلوات الخمس.
(1/90)
فهذه إحدى وعشرون آية منسوخة على خلافٍ في
بعضها لا يصح دعوى
النسخ في غيرها.
والأصح في آية الاستئذان والقسمة الإحكام، فصارت تسع عشرة.
ويضم إليها قوله تعالى: (فأيْنَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ
اللهِ) البقرة: 165.
على رأي ابن عباس أنها منسوخة بقوله: (فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ
السجدِ الحرام) .
فتتم عشرين.
وقد نظمتها فقلت:
قد أكثر الناسُ في المنسوخ من عدد ... وأدخلوا فيه آياً ليْسَ
تنحصِرُ
وهاك تحرير آي لا مزيدَ لها ... عشرينَ حرَّرَها الحُذّاقُ
والكُبَرُ
آي التوجّه حيث المرء كان وأن ... يُوصي لأهليه عند الموت
محتَضر
وحرمة الأكل بعد النوم مع رفَث ... وفدية لمُطيق الصوم مشتهر
وحقّ تقواه فما صحّ في أثر ... وفي الحرام قتالٌ للألي كفروا
والاعتداد بحَوْل مَعْ وصيتها ... وأن يدَان حديثُ النفس
والفكر
والحلف والحبس للزاني وترك ألي ... كُفر، وإشهادهم والصبر
والنّفَر
ومنع عقدٍ لزان أو لزانيةٍ ... وما على المصطفى في العقد محتظر
ودفع مهر لمن جاءَتْ وآية نجـ ... واه كذاك قيامُ الليل
مُسْتَطِرُ
وزيد آية الاستئذان من ملكت ... وآية القسمة الفضلى لمن
حَضَرُوا
فإن قلت: ما الحكمة في رفع الحكم وإبقاء التلاوة، فالجواب من
وجهين:
أحدهما: أن الفرقان كما يتلى ليعرف الحكم منه والعمل به فيُتلى
لكونه كتاب الله، فيثاب عليه، فتركت التلاوة لهذه الحكمة.
والثاني: أن النسخ غالباً يكون للتخفيف.
فأبقيت التلاوة تذكيراً للرحمة ورفع الشقة.
وأما ما ورد في القرآن ناسخاً لما كان عليه الجاهلية، أو كان
في
شرع من قبلنا، أو في أول الإسلام، فهو أيضاً قليل العدد، كنسخ
استقبال بيت المقدس بآية القبلة، وصوم عاشوراء بصوم رمضان، في
أشياء أخر حررتها في كتابي المشار إليه.
(1/91)
قال بعضهم: ليس في القرآن ناسخ إلا
والمنسويخ قبله في الترتيب إلا آيتين:
آية العِدَّة في البقرة، وقوله: (لا يَحِلّ لكَ النساء) ، كما
تقدم.
وزاد بعضهم ثالثة، وهي آية الحشر في الفيء على رأي من قال إنها
منسوخة
بآية الأنفال: (واعْلَموا أنما غَنِمْتم مِنْ شَيْء) .
وزاد قوم رابعة، وهي قوله: (خُذِ العَفْوَ) . الأعراف: 198، -
يعني
الفضْل من أموالهم على رأي من قال إنها منسوخة بآية الزكاة.
وقال ابن العربي: كل ما في القرآن من الصفح عن الكفار والتولي
والإعراض
والكف عنهم فهو منسوخ بآية السيف، وهي: (فَإِذَا انْسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ) .
نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية، ثم نسخ آخرها أولها.
وقال أيضاً: من عجيب المنسوخ قوله تعالى: (خذِ العَفْوَ) .
فإن أولها وآخرها - وهو: وأعرض عن الجاهلين - منسوخ، ووسطه
محكم، وهو: وأمر با لعرْف.
وقال: من عجيبه أيضاً آية أولها منسوخ وآخرها ناسخ، ولا نظير
لها، وهي
قوله: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ
إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) المائدة: 105.
- يعني بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا ناسخ لقوله:
(عليكم
أنفسكم) المائدة: 105.
وقال السعدي: لم يمكث منسوخٌ مدة أكثر من قوله تعالى: (قُلْ
مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) .
مكثت ست عشرة سنة حتى نسخها أول الفتح عام الحديبية.
وذكر هبة الله بن سلامة الضرير أنه قال في قوله تعالى:
(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا
وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) .
أن المنسوخ من هذه
(1/92)
الجملة وأسيراً، والمراد بذلك أسير
المشركين، فقريء عليه الكتاب وابنته تسمع، فلما انتهى إلى هذا
الموضع قالت له: أخطأت يا أبت.
قال: وكيف، قالت: أجمع المسلمون على أن الأسير يطعَم ولا يقتل
جوعا.
فقال: صدقت.
وقال شَيْذَلة في البرهان: يجوز نسخ الناسخ فيصير منسوخاً،
كقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) .
نسخها قوله: (فاقْتُلُوا المشركين) .
ثم نسخ هذه بقوله: (حتى يعْطُوا الْجِزْيَةَ) .
كذا قال، وفيه نظر من وجهين:
أحدهما ما تقدمت الإشارة إليه.
والآخر أن قوله: (حتى يعْطُوا الْجِزْيَةَ)
- مخصِّص للآية لا ناسخ، نعم يمثل له بآخر سورة المزمل، فإنه
ناسخ لأولها
منسوخ بفرض الصلوات الخمس.
وقوله: (انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا) ، ناسخ لآية الكفّ،
منسوخ بآية العُذْر.
وأخرج أبو عبيد عن الحسن وأبي ميسرة، قالا: ليس في المائدة
منسوخ.
ويشكل بما في المستدرك عن ابن عباس أن قوله: (فاحْكمْ بينهم أو
أعْرِضْ
عنهم) المائدة: 42، - منسوخ بقوله: (وأنِ احكم بينهم بما أنزل
الله) .
وأخرج أبو عبيد وغيره، عن ابن عباس، قال: أول ما نسخ من القرآن
شأن القبلة.
وأخرج أبو داود في ناسخه من وجه آخر عنه، قال: أول آية نسخت من
القرآن القبلة، ثم الصيام الأول.
قال مكي: وعلى هذا فلم يقع في المكي ناسخ.
قال: وقد ذكر أنه وقع فيه في آيات، منه قوله تعالى في سورة
غافر: (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) . غافر: 7.
فإنه ناسخ لقوله تعالى: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي
الْأَرْضِ) الشورى: هـ.
(1/93)
قلت: أحسن من هذا نسخ قيام الليل في أول
سورة المزمل بآخرها، أو بإيجاب الصلوات الخمس، وذلك بمكة
اتفاقاً.
تنبيه:
قال ابن الحصّار: إنما يرجع في النسخ إلى نقل صريح عن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أو عن صحابي يقول: آيةُ كذا نسخت
كذا.
وقال: قد يحكم به عند وجود التعارض المقطوع به مع علم التأويل،
ليعلم
المتقدم والمتأخر.
قال: ولا يعتمد في النسخ قول عوام المفسرين، بل ولا اجتهاد
المجتهدين من
غير نقل صريح ولا معارضة بينة، لأن النسخ يتضمن رفع حكم وإثبات
حكم تقرر في عهده - صلى الله عليه وسلم -، فالمعتمد فيه النقل
والتاريخ دون الرأي والاجتهاد.
قال: والناس في هذا بين طرفي نقيض، فمن قائل: لا يقْبَلُ في
النسخ أخبار
آحاد العدول، ومن متساهل يكتفي فيه بقول مفسر أو مجتهد.
والصواب خلاف قولهما.
الضرب الثالث: ما نسخ تلاوته دون حكمه.
وقد أورد بعضهم فيه سؤالاً.
وهو: ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم، وهلاّ أبقيت
التلاوة ليجتمع
العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟.
وأجاب صاحب الفنون بأن ذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في
المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق
مقطوع
به، فيسرعون بأيسر شيء، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام،
والنائم أدنى طريق الوحي.
وأمثلة هذا الضرب كثيرة، قال أبو عبيد: حدثنا إسماعيل بن
إبراهيم، عن
أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لا يقولَنَّ أحدكم قد أخذت
القرآن كله
(1/94)
وما يدريه ما كله، قد ذهب منه قرآن كثير،
ولكن ليقل قد أخذت منه ما
ظهر.
قال: حدثنا ابن أبي مريم، عن أبي لهيعة، عن أبي الأسود، عن
عُروة بن
الزبير، عن عائشة، قالت: كانت سورة الأحزاب تُقرأ في زمان
النبي - صلى الله عليه وسلم - مائتي آية، فلما كتب عثمان
المصاحف لم يقدر إلا على ما هو الآن (1) .
وقال: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن المبارك بن الفضالة، عن عاصم
بن أبي
النجود، عن زِرّ بن حبيش، قال: قال لي أبَيّ بن كعب: كأيّن تعد
سورة
الأحزاب، اثنتين وسبعين آية، أو ثلاثاً وسبعين آية، قال: إن
كانت لتعدل
سورة البقرة، وإن كُنَّا لنقرأ فيها آية الرجم.
قلت: وما آية الرجم، قال: إذا زنى الشيخ والشيخة فارجوهما
ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم.
وقال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث، عن خالد بن يزيد، عن
سعيد
ابن أبي هلال، عن مروان بن عثمان، عن أبي امامة بن سهل - أن
خالته قالت: لقد أقرأنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية
الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجوهما ألبتة بما قضيا من
اللذة.
وقال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، أخبرني ابن أبي حميد، عن حميدة
بنت
أبي يونس، قالت: قرأ عليَّ أبي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف
عائشة: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا
صلوا عليه وسلموا تسليما.
وعلى الذين يصلون الصفوف الأول - قالت قبل أن يغيّر عثمان
المصاحف.
وقال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن هشام بن سعد، عن زيد بن
أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي واقد الليثي، قال: كان رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أوحي إليه أتيناه فعلّمنا مما
أوحي إليه.
قال: فجئت ذات يوم فقال: إن الله يقول إنا أنزلنا
المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو أن لابن آدم واديا لأحب
أن يكون إليه
الثاني، ولو كان له الثاني لأحبّ أن يكون له الثالث، ولا يملأ
جوفَ ابن آدم
إلا التراب، ويتوب الله على من تاب.
__________
(1) رواية لا تصح ولا تثبت، وهي تتعارض مع قوله تعالى (إِنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ،
وهل يعقل أن يتواطأ الصحابة على ترك كتابة بعض آيات القرآن،
"سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ" وشتان بين نظم هذه
الرواية وما يذكر بعدها من روايات، وبين نظم القرآن الكريم.
فتأمل ولا تكن من الغافلين. والله أعلم.
(1/95)
وأخرج الحاكم في المستدرك، عن أبيّ بن كعب،
قال: قال لي رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -: إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن،
فقرأ: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، ومن
بقيتها: لو أن ابن آدم سأل وادياً من مال فأعطيه سأل ثانياً،
وإن سأل ثانيا سأل ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب،
ويتوب الله على من تاب، وإن ذات الدين عند الله الحنيفية
السمحة غير اليهودية ولا النصرانية، ومن يعمل خيراً فلن يكفره.
وقال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن
أبي
حرب، عن أبي الأسود، عن أبي موسى الأشعري قال: نزلت سورة نحو
براءة، ثم رفعت، وخفظ منها: إن الله سيؤيد هذا الدين بأقوام لا
خَلاق لهم، ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى ثالثا، ولا
يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي موسى الأشعري، قال: كُنَّا نقرأ
سورة نشبِّهها بإحدى المسبِّحات، فأنسيناها، غير أنى حفظت
منها: يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون، فتكتب
شهادة في أعناقكم، فتسألونَ عنها يَوْمَ القيامة.
قال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، عن عدي
بن
عدي، قال: قال عمر: كُنَّا نقرأ لا ترغبون عن آبائكم فإنه كفر
بكم، ثم قال لزيد بن ثابت: كذلك، قال: نعم.
قال: وحدثنا - ابن أبي مريم، عن نافع بن عمر الجمحي، حدثنا ابن
أبي
مليكة، عن المِسْوَر بن مَخْرمة، قال: قال عمر لعبد الرحمن بن
عوف: ألم تجد فيما أنزل علينا: أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة،
فإنا لا نجدها، قال: أسقطت فيما أسقط من القرآن.
وقال: حدثنا ابن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو
المُعَافِري، عن
أبي سفيان الكَلاعي - أن مسلمة بن مخَلّد الأنصاري، قال لهم
ذات يوم:
أخبروني بآيتين من القرآن لم يكتبا في المصحف، فلم يخبروه
وعندهم أبو الكنود
(1/96)
سعد بن مالك، فقال مسلمة، إن الذين آمنوا
وهاجَروا وجاهَدُوا في سبيلِ اللهِ بأموالهم وأنفسهم، ألا
فأبْشِروا أنتم أيها المفلحون.
والذين آووْهم ونصَرُوهم وجادَلوا عنهم القوم الذين غَضِب
اللَهُ عليهم أولئك لا تعلم نفس ما أخفِيَ لهم من قرَّةِ أعْين
جزاءً بما كانوا يعْمَلون.
وأخرج الطبراني في الكبير، عن ابن عمر، قال: قرأ رجلان سورة
أقرأهما
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكانا يقرآن بها، فقاما ذات
ليلة يصليان، فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غادِيَيْنِ على
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرا ذلك له، فقال: إنها
مما نسخ فالهوا عنها.
وفي الصحيحين عن أنس في قصة أصحاب بئر معونة الذين قتلوا: وقنت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو على قاتليهم.
قال أنس: ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رُفع:
أنْ بلّغوا عنّا قَوْمَنا أن قد لقينا ربَّنا فَرَضِيَ عنَّا
وأرْضَانَا.
وفي المستدرك عن حذيفة، قال: ما تقرأون ربعها - يعني براءة.
قال أبو الحسين بن المنادي في كتابه الناسخ والمنسوخ: ومما رفع
رسمة من
القرآن ولم يرفع حفظه من القلوب سورة القنوت في الوتر، وتسمى
سورة الخلع والحفد.
تنبيه:
حكى القاضي أبو بكر في الانتصار عن قوم، إنكار هذا الضرب، لأن
الأخبار فيه أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه
بأخبار آحاد لاحجة فيها.
وقال أبو بكر الرازي: نسخ الرسم والتلاوة إنما يكون بأن ينسيهم
الله إياه.
ويرفعه من أوهامهم، ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكَتْبه في
الصحف.
فيندرس على الأيام كسائر كتب الله القديمة التي ذكرها في كتابه
في قوله: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ
إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19) .
(1/97)
ولا يعرف اليوم منها شيء، ثم لا يخلو ذلك
من أن يكون في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى إذا
توفي لا يكون مَتْلُوّاً من القرآن، أو يموت وهو متلو موجود
بالرسم، ثم ينسيه الله الناس ويرفعه من أذهانهم.
وغير جائز نسخ شيء من القرآن بعد وفاة النبي - صلى الله عليه
وسلم -.
انتهى.
وقال في البرهان في قول عمر: لولا أن يقول الناس: زاد عمر في
كتاب الله
لكتبتها - يعني آية الرجم، ظاهره أن كتابتها جائزة، وإنما منعه
قول الناس.
والجائز في نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه، وإذا كانت جائزة
لزم أن تكون
ثابتة، لأن هذا شأن المكتوب.
وقد يقال: لو كانت التلاوة باقية لبادر عمر ولم يعَرِّج على
مقالة الناس، لأن
مقال الناس لا يصلح مانعاً.
وبالجملة فهذه الملازمة مشكلة، ولعله كان يعتقد أنه خبر واحد،
والقرآن لا
يثبت به وإن ثبت لا يحكم.
ومن هنا أنكر ابن ظَفَر في " الينبوع " عدَّ هذا مما نسخ
تلاوته، قال: لأن خبر الواحد لا يثبت به القرآن.
قال: وإنما هذا من المنسأ لا النسخ، وهما مما يلتبسان، والفرق
بينهما أن
المنْسَأَ لَفْظُه قد يعلم حكمه. انتهى.
وقوله: لعله كان يعتقد أنه خبر واحد مردود، فقد صح أنه تلقاها
من النبي
- صلى الله عليه وسلم -، فأخرج الحاكم من طريق كثير بن
الصَّلْت، قال: كان زيد بن ثابت وسعيد بن العاصي يكتبان
المصحف، فمرّا على هذه الآية فقال زيد: سمعت رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يقول: إذا زنيا الشيخ والشيخة، فارجوهما
ألبتّة.
فقال عمر: لما نزلت أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت:
أكتبا، فكأنه كَرِهَ ذلك.
فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد، وأن الشاب
إذا زنى وقد أحصن رُجِمَ.
قال ابن حجر في شرح البخاري: فيستفاد من هذا الحديث السبب في
نسخ
تلاوتها لكون العمل على غير الظاهر من عمومها.
قلت: وخطر لي في ذلك نكتة حسنة، وهو أن سببه التخفيف على الأمة
(1/98)
بعدم اشتهار تلاوتها وكتابتها في المصحف
وإن كان حكمها باقياً، لأنه أثقل
الأحكام وأشدها، وأغلظ الحدود، وفيه الإشارة إلى ندب الستر.
وأخرج النسائي أن مروان بن الحكم قال لزيد بن ثابت: ألا تكتبها
في
المصحف، قال: لا، ألا ترى أن الشابين الثَّيِّبَيْن يرجمان،
وقد ذكرنا ذلك، فقال عمر: وأنا أكفيكم، فقال: يا رسول الله،
أكتبني آية الرجم.
قال: لا أستطيع.
قوله: أكتبني، أي ائْذَنْ لي في كتابتها، ومكنّي من ذلك.
وأخرج ابن الضرَيْس في فضائل القرآن، عن يعلى بن حكيم، عن زيد
بن
أسلم، أن عمر خطب الناس، فقال: لا تشكوا في الرجم، فإنه حق،
وقد هممت أن أكتبه في المصحف، فسألت أبيّ بن كعب، فقال: ألست
أتيتني وأنا أستقرئها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدفعت
في صدري وقلت تستقرىء آية الرجم وهم يَتَسَافَدون تسافُدَ
الحمر.
قال ابن حجر: وفيه إشارة إلى بيان السبب في رفع تلاوتها، وهو
الاختلاف.
تنبيه:
قال الأئمة: لا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف
منه الناسخ
والمنسوخ، وجميع هذه الأوجه، مع علم اللغة والنحو والتصريف
وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات، ويحتاج لمعرفة أسباب
النزول.
قال علي رضي الله عنه لقاض: أتعرف الناسخ من المنسوخ، قال: لا.
قال: هلكت وأهلكت.
قال الخوَيِّي: علم التفسير علم غير يسير، أما عسره فظاهر من
وجوه، أظهرها أنه كلام متكلم لم يصل الناس إلى مراده بالسماع
منه، ولا إمكان الوصول إليه، بخلاف الأمثال والأشعار ونحوها،
فإن الإنسان يمكن علمه منه إذا تكلم بأن يسمع منه.
وأما القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يُعلم إلا بأن يسمع من
الرسول
- صلى الله عليه وسلم -، وذلك متعذر إلا في آيات قلائل، فالعلم
بالمراد مستنبط بأمارات ودلائل.
والحكمة فيه أن الله أراد أن يتفكر عباده في كتابه فلم يأمر
نبيّه بالتنصيص
على المراد في جميع آياته.
(1/99)
وقد كان الصحابة يتحاشون عن تفسير القرآن
بالرأي، ويتوقّفون عن أشياء
لم يبلغهم فيها شيء من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقد ظهر لي تفصيلٌ حسن أخذته مما رواه ابن جرير عن ابن عباس،
موقوفاً من طريق، مرفوعاً من أخرى:
التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا
يعرفه
أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله،
فما كان عن
الصحابة مما هو من الوجهين الأولين فليس بمرفوع، لأنهم أخذوه
من معرفتهم
بلسان العرب، وما كان من الوجه الثالث فهو مرفوع إذ لم يكونوا
يقولون في القرآن بالرأي.
وأخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس في
قوله:
(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ) .
قال: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه
ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله.
وأخرج ابن مردويه من طريق جويبر، عن الضحاك، عن ابن عباس -
مرفوعاً: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ.
قال: القرآن.
قال ابن عباس: يعني تفسيره فإنه قد قرأه البَرُّ والفاجر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة، قال: ما مررت بآية لا
أعرفها إلا
أحزنتْني، لأني سمعت الله يقول: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ
نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ
(43) .
قال ابن عباس: الذي يقرأ القرآن ولا يحسن تفسيره كالأعرابي
يهذّ الشِّعْرَ
هذًّا.
وأخرج أبو عبيد، عن الحسن، قال: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب
أن يعلم
فِيْمَ أنْزلت، وما أراد بها.
وأخرج ابن الأنباري عن أبي بكر الصديق، قال: لأنْ أعرب آية من
القرآن
أحب إليّ من أن أحفظ آية.
(1/100)
وأخرج أيضاً عن عبد الله بن بُريدة عن رجل
من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لو أعلم أني إذا
سافرت أربعين ليلة أعربت آية من كتاب الله لفعلت.
وأخرج أيضاً من طريق الشعبي، قال: قال عمر: من قرأ القرآن
وأعربه كان له عند الله أجر شهيد.
قلت: معنى هذه الآثار عندي إرادة البيان والتعبير، لأن إطلاق
الإعراب
على الحكم النحوي اصطلاح حادث، ولأنه كان في سليقتهم لا
يحتاجون إلى
تعليمه، ثم رأيت ابن النقيب جنح إلى ما ذكرته وقال بجواز أن
يكون المراد
الإعراب الصناعي، وفيه بعْدٌ.
وقد يستدل له بما أخرجه السّلَفي في الطيوريات من حديث ابن عمر
-
مرفوعاً: أعربوا القرآن يدلكم على تأويله.
وقد أجمعوا على أن التفسير من فروض الكفاية، وأجَلُّ العلوم
الشرعية.
قال الأصبهاني: أشرف صناعة يتعاطاها الإنسان تفسير القرآن،
بيان ذلك
أن شرف الصنعة إما لشرف موضوعها مثل الصياغة، فإنها أشرف من
الدباغة، لأن موضوع الصياغة الذهب والفضة، وهما أشرف من موضوع
الدباغة الذي هو جلد الميْتَة.
وإما بشرف غرضها، مثل صناعة الطب، فإنها أشرف من صناعة
الكِنَاسة، لأن غرض الطب إفادة الصحة، وغرض الكناسة تنظيف
المستراح.
وإما بشدة الحاجة إليها، كالفقه، فإن الحاجة إليه أشد من
الحاجة إلى الطب، إذ ما من واقعة في الكون من أحد من الخلق إلا
وهي مفتقرة إلى الفقه، لأن به انتظام صلاح أحوال الدنيا
والدين، بخلاف الطب فإنه يحتاج إليه بعضُ الناس في بعض
الأوقات.
إذ عُرِف ذلك فصناعة التفسير قد حازت الشرف من الجهات الثلاثة،
أما
من جهة الموضوع فلأن موضوعه كلام الله تعالى الذي هو ينبوع كل
حكمة.
ومَعْدِنُ كل فضيلة، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما
بينكم، لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه.
(1/101)
وأما من جهة الغرض فلأن الغرض منه هو
الاعتصام بالعروة الوثقى، والوصول إلى السعادة الحقيقية التي
لا تفنى.
وأما من جهة شدة الحاجة فلأن كل كمال ديني أو دنيويّ عاجلي أو
آجلي
مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية، وهي متوقفة على
العلم بكتاب الله.
والكلام هنا عريض تكفّل بجمعه أئمتنا رضي الله عنهم.
وإنما ذكرتُ في هذا المجموع بعض ما يحتاج إليه بعد تقرير
قاعدة، وهي
أن كل من وَضَع من البشر كتاباً فإنما وضعه ليُفْهَمَ بذاته من
غير شرح، وإنما
احتيج إلى الشرُوح لأمور ثلاثة:
أحدها: كمال فضيلة كلام المصنف، فإنه لقوته العلمية يجمع
المعاني الدقيقة
في اللفظ الوجيز، فربما عَسُرَ فَهْمُ مراده، فقصد بالشرح ظهور
تلك المعاني
الخفية، ومن هاهنا كان شرح بعض الأئمة تصنيفه أدل على المراد
من شرح
غيره.
وثانيها: إغفاله بعض تتمّات المسائل، أو شروط لها، اعتماداً
على وضوحها، أو لأنها من علم آخر، فيحتاج الشارح لبيان المحذوف
ومراتبها.
وثالثها: احتمال اللفظ لمعان، كما في المجاز، والاشتراك،
ودلالة الالتزام، فيحتاج الشارحُ لبيان غرض المصنف وترجيحه.
وقد يقع في التصانيف ما لا يخلو عنه بَشَر من السهو والغلط، أو
تكرار
الشيء، أو حذف المهم، أو غير ذلك، فيحتاج الشارح للتنبيه على
ذلك.
وإذا تقرر هذا فنقول: إن القرآن إنما نزل بلسان عربي في زمان
أفصح
العرب، وكانوا يعلمون ظاهره، وأحكامه، أما دقائق باطنه فإنما
كان يظهر لهم بعد البحث والنظر مع سؤالهم النبي - صلى الله
عليه وسلم - في الأكثر، كسؤالهم لما نزل: (وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) الأنعام: 82) ، فقالوا: وأينَا لم يظلم
نفسه، ففسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشرْك، واستدل
عليه بقوله: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) .
(1/102)
وكسؤال عائشة عن الحساب اليسير، فقال: ذلك
العرض.
وكقصة عدي بن حاتم في الخيط الأسود والأبيض، وغير ذلك مما
سألوا عن
آحاد منه، ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه وزيادة على
ذلك مما لم
يحتاجوا إليه من أحكام الظواهر، لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة
بغير تعلم، فنحن أشد الناس احتياجا إلى التفسير.
ومعلوم أن تفسير بعضه يكون من قبيل بسط الألفاظ وكشف معانيها.
وبعضه من قبيل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض.
فإن قلت: قد قلتم إنه يقع النسخ إلى غير بدل.
وقد قال تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) .
وهذا إخبار لا يدخله خلف.
فالجواب ما قاله ابن الحصار: كل ما ثبت الآن من القرآن ولم
ينسخ فهو بدل
مما نُسخت تلاوته، فكل ما نسخه الله من القرآن مما لا نعلمه
الآن فقد أبدله الله مما علمناه وتواتر إلينا لفطه ومعناه.
*******
الوجه التاسع من وجوه إعجازه
(انقسامه إلى محكم ومتشابه)
فهو محكم لا يتطرق النقصُ إليه والاختلاف، ويشبه بعضُه بعضاً
في الحق
والصدق والإعجاز.
وقد اختلف علماؤنا في التعبير عن المحكم والمتشابه على أقوال
كثيرة، وألفوا
فيه تواليف منيرة، وقصدنا في هذه النبذة اختصار ما فيها.
فقيل: الحكم ما عرف المراد منه، إما بالظهور وإما بالتأويل.
والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه، كقيام الساعة، وخروج الدجال،
ويأجوج ومأجوج، والحروف المقطعة في أوائل السور.
وقال الماوردي: المحكم ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً.
والمتشابه بخلافه.
(1/103)
وقيل المحكم ما كان معقول المعنى،
والمتشابه بخلافه كأعداد الصلوات واختصاص الصيام برمضان دون
شعبان.
وقيل: المحكم ما استقل بنفسه، والمتشابه: ما لا يستقل بنفسه
إلا بردّه إلى غيره.
وأخرج الحاكم وغيره عن ابن عباس قال: الثلاث آيات من آخر سورة
الأنعام محكمات:: (قل تَعَالَوْا) ، والآيتان بعدها.
وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس في قوله تعالى:
(فيه آيات
محْكَمَات) .
قال: من هاهنا: (قل تَعَالَوْا) إلى ثلاث آيات.
من هاهنا: (وقضى ربك ألاَّ تعبدوا إلاّ إياه) ، إلى ثلاث آيات
بعدها.
قال ابن أبي حاتم: وقد روي عن عكرمة وقتادة وغيرهما أن المحكم
الذي
يعمل به، والمتشابه الذي يؤمن به ولا يعمل به.
واختلف أيضاً هل المتشابه مما يمكن الاطلاع على علمه أو لا
يعلمه إلا الله
على قولين، منشؤهما الاختلاف في قوله تعالى: (والرَّاسِخُونَ
في العلم يقولون) ، هل هو معطوف ويقولون حال، أو مبتدأ خبره
يقولون
والواو للاستئناف.
وعلى الأول طائفة يسيرة، منهم مجاهد وهو رَاوِيهِ عن ابن
عباس: فأخرج ابن المنذر من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله:
(وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ) - قال: أنا ممن يعلمُ تأويله.
وأخرج عبيد بن حميد عن مجاهد في قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ) - قال: يعلمون تأويله ... ويقولون آمنّا له.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: الراسخون في العلم يعلمون
تأويله.
ولو لم يعلموا تأويله لم يعلموا ناسخه من منسوخه، ولا حلاله من
حرامه، ولا محكمه من متشابهه.
واختار هذا القول النووي، فقال في شرح مسم: إنه الأصح، لأنه
يَبْعُدُ أن
يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته.
(1/104)
وقال ابن الحاجب: إنه الظاهر.
وأما الأكثرون من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم خصوصاً
أهل السنة فذهبوا إلى الثاني، وهو أصح الروايات عن ابن عباس.
قال ابن السمعاني: لم يذهب إلى القول الأول إلا شرذمة قليلة.
واختاره الغنيمي.
قال: وقد كان يعتقد مذهب أهل السنة، لكنه سقط في هذه المسألة.
قال: ولا غَرْو فإن لكل جَوَاد كبوة، ولكل عالم هفوة.
قلت: ويدلّ لصحة مذهب الأكثرين ما أخرجه عبد الرزاق في تفسيره
والحاكم في مستدركه عن ابن عباس - أنه كان يقرأ: وما يعلم
تأويله إلا
الله.
ويقول الراسخون في العلم آمنّا به، فهذا يدل على أن الواو
للاستئناف، لأن هذه الرواية وإن لم تثبتْ بها القراءة فأقل
درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن، فيقدم
كلامه في ذلك على مَنْ دونه.
ويؤيد ذلك أن الآية دلت على ذم متّبِعي المتشابه، ووصفهم
بالزَّيْغِ وابتغاء
الفتنة، وعلى مدح الذين فوّضوا العلم إلى الله وسلموا إليه،
كما مدح الله المؤمنين بالغيب.
وحكى الفَرَّاء أن في قراءة أبي بن كعب أيضاً: ويقول الراسخون.
وأخرج ابن أبي داود في المصاحف من طريق الأعمش، قال في قراءة
ابن
مسعود: وإنْ تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون
آمنا به.
وأخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت: تلا رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - هذه الآية: (هو الذي أنزل عليكَ الكتاب ...
إلى قوله: (أولو الألباب) ، قالت: قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين
سمّى الله فاحذرهم.
وأخرج الطبراني في الكبير عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا أخاف على أمَّتي إلاّ
ثلاث خِلاَل: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيَقْتَتِلوا.
وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله، وما يعلم
تأويله إلا
الله ... الحديث.
(1/105)
وأخرج ابن مَرْدَويه من حديث عمرو بن شعيب،
عن أبيه، عن جده عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن القرآن لم ينزل
ليكذّب بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه
فآمنوا به.
وأخرج الحاكم، عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -،
قال: كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل
القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال،
وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحِلّوا حلاله وحرِّموا
حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نُهيتم عنه، واعتبروا
بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: (آمنّا به
كلّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) .
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العَوْفيِّ، عن ابن عباس، قال:
نُؤمن
بالمحكم، وندين به، ونؤمن بالمتشابه، ولا ندين به، وهو من عند
الله كله.
وأخرج أيضاً عن عائشة، قالت: كان رسوخهم في العلم أن آمنوا
بمتشابهه ولا يعلمونه.
وأخرج الدارمي في مسنده، عن سليمان بن يسار - أن رجلا يقال له
صَبِيغ
قدم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر -
وقد أعد له عراجين النخل، فقال: من أنت، قال: أنا عبد الله
صبيغ، فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين فضربه حتى أدمى رأسه.
وفي رواية عنده: فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دَبِراً، ثم تركه
حتى برأ، فدعا به ليعود، فقال: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً
جميلاً، فأذن له إلى أرضه.
وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يجالسه أحد من المسلمين.
وأخرج الدارمي، عن عمر بن الخطاب - أنه قال: إنه سيأتيكم ناس
يجادلونكم بمشتبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن
أعلم بكتاب الله.
(1/106)
فهذه الآثار تدل على أن المتشابه مما لا
يعلمه إلا الله، وأن الخوض فيه
مذموم، وسيأتي قريباً زيادة على ذلك.
قال الطيبي: المراد بالمحكم ما اتضح معناه، والمتشابه خلافه،
لأن اللفظ الذي يقبل معنى إما أن يحتمل غيره أوْ لا.
والثاني النص.
والأول إما أن يكون دلالته على ذلك الغير أرجح أم لا، والأول
هو الظاهر.
والثاني إما أن يكون مساويه أم لا.
والأول هو المجمل والثاني المؤول.
فالمشترك هو النص، والظاهر هو المحكم، والمشترك من المجمل،
والمؤول هو المتشابه.
ويؤيد هذا التقسيم أنه تعالى أوقع المحكم موضع المتشابه،
فالواجب أن يفسَّر
الحكم بما يقابله، ويعضد ذلك أسلوب الآية، وهو الجمع مع
التقسيم، لأنه تعالى فرق ما جمع في معنى الكتاب بأن قال:
(مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ
مُتَشَابِهَاتٌ) ، وأراد أن يضيف إلى كل منهما ما يشاء، فقال
أولاً: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ... إلى أن
قال: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ)
.
وكان يمكن أن يقال: وأما الذين في قلوبهم استقامة فيتبعون
المحكم، لكنه
وضع موضع ذلك: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ، لإتيان لفظ
الرسوخ، لأنه لا يحصل إلا بعد التتبع العام والاجتهاد البليغ،
فإذا استقام القلب
على طرق الرشاد، ورسخ القدم في العلم أفصح صاحبه النطق بالقول
الحق.
وكفى بدعاء الراسخين في العلم: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ
قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) .
شاهداً على أن الراسخين في العلم مقابل لقوله: (الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) .
وفيه إشارة إلى أن الوقف على قوله: (إِلَّا اللَّهُ) تام، وإلى
أن علم بعض
المتشابه مختص بالله تعالى، وأنه من حاول معرفته هو الذي أشار
إليه في الحديث بقوله: " فاحْذَروهم ".
وقال بعضهم: العقل مبتلى باعتقاد حقيقة المتشابه، كابتلاء
البدن بأداء
العبادة، وكمن صنف كتاباً أجملَ فيه أحياناً فيكون موضع خضوع
المتعلم
لأستاذه، وكالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يطلعه على سره.
(1/107)
وقيل: لو لم يبتل العقل الذي هو أشرف البدن
لاستمر العالم في أبهة العلم على التمرد، فبذلك يستأنس إلى
التذلل بعز العبودية، والتشاغل به هو موضع خضوع العقول لبارئها
استسلاما واعترافاً بقصورها.
وفي ختم الآية بقوله تعالى: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو
الْأَلْبَابِ) ، تعريض بالزائغين، ومدح للراسخين - يعني من لم
يتذكر ويتعظ ويخالف هواه فليس من ذوي العقول، ومن ثم قال
الراسخون: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ
هَدَيْتَنَا ... )
إلى آخر الآية، فخضعوا لبارئهم لاستنزال العلم اللَّدني بعد أن
استغاثوا به من الزيغ النفساني.
وقال الخطابي: المتشابه على ضربين: أحدها ما إذا رد إلى الحكم
واعتُبر به
عرف معناه.
والآخر ما لا سبيل إلى الوقوف على حقيقته، وهو الذي يتبعه أهل
الزيغ فيظنون تأويله، ولا يبلغون كُنْهَه، فيرتابون به
فيفْتَتِنون.
وقال ابن الحصار: قسّمَ اللهُ آيات القرآن إلى محكم ومتشابه،
وأخبر عن
المحكمات أنها أم الكتاب، لأنه إليها تردّ المتشابهات، وهي
التي تُعتمد في فهم
مراد الله من خلقه، أي في كل ما تعبّدهم به من معرفته وتصديق
رسله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.
وبهذا الاعتبار كانت أمهات.
ثم أخبر عن الذين في قلوبهم زيغ أنهم هم الذين يتبعون ما تشابه
منه.
ومعنى ذلك أن من لم يكن على يقين من المحكمات، وفي قلبه شك
واسترابة
كانت راحته في تتبع المشكلات المتشابهات، ومراد الشارع منا
التقدم إلى فهم المحكمات، وتقديم الأمهات، حتى إذا حصل اليقين،
ورسخ العلم لم تبال بما أشكل عليك.
ومراد هذا الذي في قلبه زيغ التتبع إلى المشكلات، وفهم
المتشابه قبل فهم
الأمهات، وهو عكس المعقول والمعتاد والشروع، ومثَلُ هؤلاء من
المشركين
الذين يقترحون على رسلهم آيات غير الآيات التي جاءو بها،
ويظنون أنهم لو
جاءتهم آياتٌ أخر آمنوا عندها جهلاً منهم، وما علموا أن
الإيمان بإذن الله
تعالى. انتهى.
(1/108)
وقال الراغب في مفردات القرآن: الآيات عند
اعتبار بعضها ببعض ثلاثة
أضرب: محكم على الإطلاق.
ومتشابه على الإطلاق.
ومحكم من وجه ومتشابه من وجه.
فالمتشابه بالجملة ثلاثة أضرب:
متشابه من جهة اللفظ فقط، ومن جهة المعنى فقط، ومن جهتهما.
فالأول ضربان: أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة، إما من جهة
الغرابة.
نحو: اللازب وينزفون.
أو الاشتراك كاليد والعين.
وثانيهما يرجع إلى جملة الكلام المركب، وذلك ثلاثة أضرب:
ضرب لاختصار الكلام، نحو: (وإن خِفْتمْ ألاَّ تقْسِطُوا في
اليَتَامَى
فانْكِحوا مَا طَابَ لكمْ مِنَ النساء) .
وضَرْبٌ لبَسْطه، نحو: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) .
لأنه لو قيل: ليس مثله شيء كان أظهر للسامع.
وضرب لنظم الكلام، نحو: (أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ
وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا) .
تقديره: أنزل على عَبْدِه الكتاب قَيِّماً، ولم يجعل له عوجاً.
والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى، وأوصاف القيامة،
فإن تلك
الصفات لا تتصور لنا إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم
نحسه، أو ليس
من جنسه.
والمتشابه من جهتها خمسة أضرب:
الأول - من جهة الكمية، كالعموم والخصوص، نحو: (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) .
والثاني - من جهة الكيفية، كالوجوب والندب، نحو: (فَانْكِحُوا
مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) .
(1/109)
والثالث - من جهة الزمان، كالناسخ
والمنسوخ، نحو: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) .
والرابع - من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها، نحو:
(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ
ظُهُورِهَا) ، (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ)
.
فإن مَنْ لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه
الآية.
والخامس - من جهة الشروط التي يصح بها الفعل ويفسد، كشروط
الصلاة
والنكاح.
قال: وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون في
تفسير
المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم.
ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب:
ضرب لا سبيل إلى الوقوف عليه، كوقت الساعة، وخروج الدابة، ونحو
ذلك.
وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته، كالألفاظ الغريبة، والأحكام
الغلقة.
وضرب متردد بين الأمرين يختص بصرفته بعض الراسخين في العلم،
ويَخفَى
على مَنْ دونهم، وهو المشار إليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -
لابن عباس: اللهم فقِّهْهُ في الدين، وعلمه التأويل.
وإذا عرفت هذه الجملة عرفت أن الوقوف على قوله: (وما يَعْلَم
تأويلَه إلا
اللهُ) ، ووصله بقوله: (والراسخون في العِلْمِ) - جائزان، وأن
لكل واحد منهما وجهاً حسبما دل عليه التفصيل المتقدم. انتهى.
وقال الإمام فخر الدين: صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد
فيه من
دليل منفصل، وهو إما لفظي وإما عقلي.
والأول لا يمكن اعتباره في المسائل الأصولية، لأنه لا يكون
قاطعا، لأنه موقوف على انتفاء الاحتمالات العشرة
(1/110)
المعروفة، وانتفاؤها مظنون، والموقوف على
المظنون مظنون، والظني لا يكتفى به في الأصول.
وأما العقلي فإنه يفيد صرف اللفظ عن ظاهره لكون الظاهر محالاً.
وأما إثبات المعنى المراد فلا يمكن بالعقل، لأن طريق ذلك ترجيح
مجاز على مجاز وتأويل على تأويل، وذلك الترجيح لا يمكن إلا
بالدليل اللفظي، والدليل اللفظي في الترجيح ضعيف لا يفيد إلا
الظن، والظن لا يعوَّل عليه في المسائل الأصولية القطعية فلهذا
اختار الأئمة المحققون من السلف والخلف - بعد إقامة الدليل
القاطع على أن حمل اللفظ على ظاهره محال - تركَ الخوض في تفسير
التأويل. انتهى.
وحسبك بهذا الكلام من الإمام.
فصل
من المتشابه آيات الصفات.
ولابن اللبان فيها تصنيف مفرد، نحو: (الرَّحْمَنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوَى) .
(كلّ شيء هالك إلا وجْهَه) .
(يَدُ اللهِ فَوْقَ أيديهم) ، ونحوها.
وجمهور أهل السنة منهم السلف وأهل الحديث على الإيمان بها،
وتفويض
معناها المراد إلى الله تعالى، ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن
حقيقتها.
أخرج أبو القاسم اللّالكَائي من طريق في السنة، عن الحسن، عن
أمه، عن أم سلمة في قوله: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوَى) ، قال: الكيف غير
معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به من الإيمان والجحود
به كفر.
وأخرج أيضاً عن محمد بن الحسن، قال: اتفق الققهاء كلهم من
الشرق إلى
الغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه.
وقال الترمذي في الكلام على حديث الرؤية: المذهب في هذا عند
أهل العلم
من الأئمة - مثل سفيان الثوري، ومالك، وابن المبارك، وابن
عيينة، ووَكيع،
(1/111)
وغيرهم - أنهم قالوا: نروي هذه الأحاديث
كما جاءت ونؤمن - بها، ولا يقال كيف، ولا نفسر ولا نتَوَهّم.
وذهبت طائفة من أهل السنّة أنّا نؤوّلها على ما يليق بجلاله
تعالى، وهذا
مذهب الخلف.
وكان إمام الحرمين يذهب إليه، ثم رجع عنه، فقال في الرسالة
النظامية: الذي نرتضيه دينا وندين الله به عقداً اتباع سلف
الأمة، فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعانيها.
وقال ابن الصلاح: وعلى هذه الطريقة مضى صَدْر الأمة وساداتها،
وإياها
اختار أئمة الفقهاء وقادتها، وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه،
ولا أحد من
المتكلمين من أصحابنا يَصْدف عنها ويأباها.
واختار ابن بَرْهان مذهب التأويل، قال: ومنشأ الخلاف بين
الفريقين: هل
يجوز أن يكون في القرآن شيء لم يُعلم معناه أم لا، بل يعلمه
الراسخون.
وتوسّط ابن دَقِيق العيد، فقال: إذا كان التأويل قريبا من لسان
العرب لم
ينكَر، أو بعيدا توقفنا عنه، وآمنا بمعناه على الوجه الذي
أرِيد به التنزيه.
قال: وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهراً مفهوماً من تخاطب
العرب قلنا به من غير توقيف، مما في قوله: (يَا حَسْرَتَا
عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ)
فنحمله على حق الله وما يجب له.
وكذا استواؤه على العرش بالعدل والقهر، كقوله: (قائماً
بالقِسْطِ) ، فقيامه بالقسط والعدل هو استواؤه، ويرجع معناه
إلى أنه أعطى
كل شيء خلقه موزوناً بحكمته المبالغة.
وقد أكثر بعض الناس في جواب هذه الآية حتى أنهاه إلى عشرين
حذفناها
للإطالة.
ومن ذلك قوله تعالى: (تعلم ما في نَفْسي) .
خرج على سبيل المشاكلة، مراداً به الغيب، لأنه مستتر كالنفس.
(1/112)
وقوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)
، أي عقوبته، وقيل إياه.
وقال السُّهَيْلي: النفس عبارة عن حقيقة الوجود دون معنى زائد.
وقد استعمل من لفظها النفاسة، والشيء النفيس، فصلحت للتعبير
عنه سبحانه.
وقال ابن اللبان: أوَّلَهَا العلماء بتأويلات، منها أن النفس
عبّر بها عن الذات، قال: وهذا وإن كان سائغاً في اللغة، ولكن
تعدي الفعل إليها بفي المفيد للظرفية محال عليه تعالى.
وقد أوّلها بعضهم بالغيب، أي ولا أعلم ما في غيبك وسرك.
قال: وهذا حسن، لقوله آخر الآية: إنك أنْتَ علاّم الغيوب.
ومن ذلك " الوجه "، وهو مؤَوَّل بالذات.
وقال ابن اللبان - في قوله: (يريدون وَجْهَه) .
(إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ) الدهر: 9.
(ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) .
المراد إخلاص النية.
وقال غيره في قوله: (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ، أي الجهة التي
أمر بالتوجه إليها.
ومن ذلك "العَيْن"، وهي مؤولة بالبصر أو الإدراك، بل قال
بعضهم: إنها
حقيقة في ذلك، خلافاً لتوهم بعض الناس أنها مجاز، وإنما المجاز
في تسمية
العضو بها.
وقال ابن اللبان: نسبة العين إليه تعالى اسم لآياته المبصرة،
بها سبحانه ينظر
للمؤمنين وبها ينظرون إليه.
قال: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً) .
نسب البصر للآيات على سبيل المجاز تحقيقاً لأنها المرادة
المنسوبة إليه.
وقال: (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ
أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا)
قال: فقوله: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ
بِأَعْيُنِنَا) .
أي بآياتنا تنظر إليها بنا وننظر بها إليك، قال: ويؤيد أن
المراد بالأعين الآيات
(1/113)
كونها علّل بها الصبر لحكم ربه صريحاً في
قوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) .
قال: وقوله في سفينة نوح:
(تجري بأعيننا) ، أي بآياتنا، بدليل قوله: (وَقَالَ ارْكَبُوا
فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) .
وقال: و (لتُصْنَعَ على عَيْني)
أي على حكم آيتي التي أوحَيْتُها إلى أمّك: (أَنْ أَرْضِعِيهِ
فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) . انتهى.
وقال غيره: المراد في الآيات كلاءته وحفظه.
ومن ذلك اليد في قوله تعالى: (لما خَلَقْتُ بيديّ) .
(يَدُ الله فوق أيديهم) ، (مما عملت أيدينا) .
(وأن الفضل بيد الله) ، وهي مؤولة بالقدرة.
وقال السهيلي: اليد في الأصل كالمصدر عبارة عن صفة لموصوف،
ولذلك
مدح سبحانه بالأيدي مقرونة مع الأبصار في قوله: (أُولِي
الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) .
ولم يمدحهم بالجوهار، لأن المدح إنما يتعلق بالصفات لا
بالجواهر.
قال الأشعري: إن اليد صفة ورد بها الشرع.
والذي يلوح من معنى هذه الصفة أنها قريبة من معنى القدرة، إلا
أنها
أخص، والقدرة أعم، كالمحبة مع الإرادة والمشيئة، فإن في اليد
تشريفاً لازماً.
وقال البغوي في قوله: (بيديّ) : في تحقيق الله التثنية في اليد
دليل على أنها
ليست بمعنى القدرة والقوة والنعمة، وأنهما هنا صفتان من صفات
ذاته.
وقال مجاهد: اليد هاهنا صفة وتأكيد، لقوله: (ويَبقَى وَجْهُ
رَبِّك) .
قال البغوي: وهذا تأويل غير قوي، لأنها لو كانت صفة لكان
لإبليس أن
يقول: إن كنت خلقته فقد خلقتني، وكذلك في القدرة والنعمة لا
يكون لآدم في الخلق مزِيَّة على إبليس.
(1/114)
وقال ابن اللبان: فإن قلت: فما حقيقة
اليدين في خلق آدم، قلت: الله أعلم بما أراد، ولكن الذي
استفسرته من تدبر كتابه أن اليدين استعارة لنور قدرته القائم
بصفة فضله ولنوره القائم بصفة عدله، ونبه على تخصيص آدم
وتكريمه بأن جمع له في خلقه بين فضله وعدله، قال: وصاحبة الفضل
هي اليمين التي ذكرها في قوله: (والسماواتُ مَطْوِيًاتٌ
بيمينه) .
ومن ذلك قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) .
ومعناه عن شدة وأمر عظيم، كما يقال: قامت الحرب على ساق.
وأخرج الحاكم في المستدرك من طريق عكرمة، عن ابن عباس - أنه
سئل عن قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) .
قال: إذا خَفِي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر، فإنه
ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر:
اصبر عَنَاق إنه شَرّ باقْ ... قد سنَّ لي قَوْمُك ضَرْبَ
الأعناقْ
وقَامَتِ الحربُ بِنَا على ساقْ
قال ابن عباس: هذا يوم كرب وشدة.
ومن ذلك صفة الفوقية في قوله: (وهو القاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ)
.
(يخافُون رَبهُمْ مِنْ فَوْقهم)
المراد بها العلو من غير جهة.
وقد قال فرعون: (وإنا فَوْقَهُم قَاهِرون) .
ولا شك أنه لم يرد العلو المكاني.
ومن ذلك صفة المجيء في قوله: (وجاء ربُّك) الفجر: 23.
أو يأتي رَبُّك، أي أمره، لأن الملك مجيء بأمره أو بتسليطه،
كما قال تعالى: (وهم بأمره يَعْمَلُون) ، فصار كما لو صرح به.
وكذا قوله: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا
هَاهُنَا قَاعِدُونَ)
: أي اذهب بربك، أي بتوفيقه وقربه.
ومن ذلك صفة الحب في قوله: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) .
(فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) .
(1/115)
وصفة الغضب في قوله: (غَضِبَ اللَّهُ) .
وصفة الرضا في قوله: (رضي اللَّهُ عنهم) .
وصفة العجب في قوله: (بل عجِبْتُ ويَسْخَرُون) الصافات: 11، -
بضم
التاء (1) .
وقوله: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) .
وصفة الرحمن في آيات كثيرة.
وقد قال العلماء: كل صفة يستحيل حقيقتها على الله تفسَّر
بلازمها.
قال الإمام فخر الدين: جميع الأعراض النفسانية - أعني الرحمة،
والفرح.
والسرور، والغضب والحياء والكره والاستهزاء لها أوائل ولها
غايات، مثاله
الغضب، فإن أوله غليان القلب، وغايته إرادة إيصال الضرر إلى
المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو
غليان دم القلب، بل على غرضه الذي هو إرادة الإضرار.
وكذلك الحياء له أول، وهو انكسار يحصل في النفس، وله غرض وهو
ترك
الفعل، فلفظ الحياء في حق الله يحمل على ترك الفعل لا على
انكسار النفس.
انتهى.
وقال الحسين بن الفضل: العجب من الله إنكار الشيء وتعظيمه.
وسئل الجنيد
عن قوله: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) فقال: إن الله
لا يعجب من شيء.
ولكن الله وافق رسوله، فقال: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ
قَوْلُهُمْ) ، أي هو كما تقول.
ومن ذلك لفظة "عند " في قوله: (عِنْدَ رَبِّك) الأعراف: 206.
و (من عنده) المائدة: 52، ومعناها الإشارة إلى التمكين
والزّلْفَى والرفعة.
ومن ذلك قوله: (وهو معكم أين ما كُنْتُمْ) الحديد: 4) ، أي
بعلمه.
وقوله: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ
يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) .
قال البيهقي: الأصح أن معناه أنا المعبود في السماوات وفي
الأرض، مثل قوله: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي
الْأَرْضِ إِلَهٌ) . الزخرف: 84.
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (عجبت) الآية 12 فحمزة والكسائي وخلف بتاء المتكلم
المضمومة أي قل يا محمد بل عجبت أنا أو أن هؤلاء من رأى حالهم
يقول عجبت لأن العجب لا يجوز عليه تعالى على الحقيقة لأنه
انفعال النفس من أمر عظيم خفي سببه وإسناده له تعالى في بعض
الأحاديث مؤول بصفة تليق بكماله مما يعلمه هو كالضحك والتبشبش
ونحوهما فاستحالة إطلاق ما ذكر عليه تعالى محمولة على تشبيهها
بصفات المخلوقين وحينئذ فلا إشكال في إبقاء التعجب هنا على
ظاهره مسندا إليه تعالى على ما يليق به منزها عن صفات المحدثين
كما هو طريق السلف الأسلم الأسهل وافقهم الأعمش والباقون
بفتحها والضمير للرسول أي بل عجبت من قدرة الله تعالى هذه
الخلائق العظيمة وهم يسخرون منك مما تريهم من آثار قدرة الله
تعالى أو من إنكارهم البعث مع اعترافهم بالخالق. اهـ (إتحاف
فضلاء البشر فى القراءات الأربعة عشر. 1/ 472)
(1/116)
وقال الأشعري: الظرف متعلق بيعلم، أي عالم
بما في السماوات والأرض.
ومن ذلك قوله تعالى: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ
(31) .
أي نقصد جزاءكم.
قال ابن اللبان: ليس من المتشابه قوله تعالى: (إِنَّ بَطْشَ
رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)
لأنه فسره بعده بقوله: (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)
.
تنبيهاً على أن بطشه عبارة عن تصرفه في بدئه وإعادته، وجميع
تصرفاته في مخلوقاته.
ومن المتشابه أوائل السور.
والمختار فيها أنها أيضاً من الأسرار التي انفرد الله بعلمها.
وقد كثرت الأقوال فيها، ومرجعها كلها إلى قول واحد، وهو أنها
حروف مقطعة، كل حرف منها مأخوذ من اسم من أسمائه تعالى.
والاكتفاء ببعض الكلمة معهود من العربية، قال الشاعر:
قُلْت قِفِي فقالت قافْ
أي وقفت.
وقال:
بالخير خيراتٍ وإن شرّا فا ... ولا أريدُ الشرَّ إلا أنْ تَا
قالوا جميعاً كلهم ألا فا
أراد ألا تركبوا ألا فاركبوا.
وهذا القول اختاره الزجاج.
وقال: العرب تنطق بالحرف الواحد تدل على الكلمة التي هو منها.
وقيل: إنها الاسم الأعظم، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها، وكذا
نقله ابن
عطية.
وأخرج ابن جرير بسند صحيح عن ابن مسعود، قال: هو اسم الله
الأعظم.
قال السهيلي: لعل عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف
المكرر
للإشارة إلى مدة بقاء هذه الأمة.
قال ابن حَجَر: وهذا باطل لا يُعتمد عليه، فقد ثبت عن ابن عباس
الزجر
(1/117)
عن عد " أبي جاد " والإشارة إلى أن ذلك من
جملة السحر، وليس ذلك ببعيد، فإنه لا أصل له في الشريعة.
وقد قال القاضي أبو بكر بن العربي في فوائد رحلته: ومن الباطل
علم
الحروف المقطعة في أوائل السور.
وقد تحصّل لي فيها عشرون قولا، وأزيد، ولا أعرف واحدا يحكم
عليها بعلم، ولا يصل فيها إلى فهم.
والذي أقول إنه لولا أن العرب كانوا يعرفون أن لها مدلولاً
متداولاً بينهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي - صلى الله
عليه وسلم -.
بل تلا عليهم حم فصلت وص وغيرهما فلم ينكروا ذلك، بل
صرحوا بالتسليم له في البلاغة والفصاحة مع تشوفهم إلى عثرة،
وحرصهم على زلة، فدل على أنه كان أمراً معروفاً عندهم لا إنكار
فيه.
وقيل: هي تنبيهات كما في النداء - عده ابن عطية مغايراً للقول
بأنها فواتح.
والظاهر أنه معناه.
قال أبو عبيدة: الم افتتاح كلام.
وقال الحوفي: القول بأنها تنبيهات جيد، لأن القرآن كلام عزيز
وفوائده غزيرة، فيريد أن يرد على سمع متنبه، فكان من الجائز أن
يكون الله قد علم في بعض الأوقات كونَ النبي - صلى الله عليه
وسلم - في عالم البشر مشغولاً، فأمر جبريل بأن يقول عند نزوله
الم، والر، وحم، ليسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - صوت
جبريل، فيقبل عليه ويصغي إليه، وإنما لم يستعمل
الكلمات المشهورة في التنبيه كألاَ وأمَا، لأنها من الألفاظ
التي يتعارفها الناس في كلامهم، والقرآن كلام لا يشبه الكلام،
فناسب أن يؤتي فيه بألفاظ تنبيه لم تعهد ليكون أبلغ في قَرْع
سمعه.
وقيل: إن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه، فأنزل الله
هذا النظم
البديع ليعجبوا منه ويكون تعجبهم منه سبباً لاستماعهم،
واستماعهم له سبب لاستماع ما بعده، فترقّ القلوب وتلين
الأفئدة.
عدّ هذا جماعة ٌ قولاً مستقلاً.
والظاهر خلافه، وإنما يصلح هذا مناسبة
لبعض الأقوال لا قولا في معناه، إذ ليس فيه بيان معنى.
وقيل: إن هذه الحروف ذكرت لتدل على أن القرآن مؤلف من الحروف:
(1/118)
ألف، ب، ت، ث، فجاء بعضها مقطعاً مؤلفاً،
ليدل القوم الذي نزل القرآن بلغتهم أنه بالحروف التي يعرفونها،
فيكون ذلك تقريعاً لهم، ودلالة على عجزهم أن يأتوا بمثله، بعد
أن علموا أنه منزل بالحروف التي يعرفوبها، ويبنون كلامهم
عليها.
وفي المحتسب لابن جنّي أن ابن عباس قرأ حم عسق، بلا عين ويقول:
السين كل فرقة تكون، والقاف كل جماعة تكون.
قال ابن جني: وفي هذه القراءة دليل على أن الفواتح فواصل بين
السور، ولو كانت أسماء لله لم يجزْ تحريف شيء منها.
وقال الكرْماني في غرائبه: في قوله: (الم: أحسِبَ الناس) ،
الاستفهام هنا يدل على انقطاع الحروف عما بعدها في هذه السورة
وفي غيرها.
فإن قلت: هل للمحكم على المتشابه مزية أم لا، فإن قلتم بالثاني
فهو خلاف الإجماع، أو بالأول فقد نقضتم أصلكم في أن جميع كلامه
سبحانه سواء، وأنه منزل بالحكمة.
وأجاب أبو عبد الله البكرَاباذِي بأن المحكم كالمتشابه من وجه،
ويخالفه من
وجه، فيتفقان في أن الاستدلال بهما لا يمكن إلا بعد معرفة حكمة
الواضع، وأنه لا يختار القبيح.
ويختلفان في أن المحكم بوضع اللغة لا يحتمل إلا الوجه الواحد.
فمن سمعه أمكنه أن يستدل به في الحال.
والمتشابه محتاج إلى فكرة ونظر، ليحمله على الوجه المطابق،
ولأن المحكم أصل، والعلم بالأصل أسبق، ولأن المحكم يعلم مفصلا،
والمتشابه لا يعلم إلا مجملاً.
فإن قلت: وقد أراد الحق البيانَ والهدى لعباده، وأمر بذلك
رسوله في قوله:
لئبَيِّنَ للناس ما نزَل إليهم.
والجواب أن له فوائد:
أحدها الحث للعلماء على النظر فيه الموجب للعلم بغوامضه والبحث
عن
دقائقه، فإن استدعاء الهمم لمعرفة ذلك من أعظم القرب إن كان
مما يمكن علمه.
(1/119)
وثانيها إظهار التفاضل وتفاوت الدرجات، إذ
لو كان القرآن كله محكماً لا
يحتاج إلى تأويل ونظر لاستوت منازل الخلق، ولم يظهر فضل العالم
على غيره.
وإن كان مما لا يمكن علمه فله فوائد:
منها ابتلاء العباد بالوقوف عنده والتوّقف فيه، والتفويض
والتسليم، والتعبّد بالاشتغال به من جهة التلاوة كالمنسوخ، وإن
لم يجز العمل بما فيه.
وإقامة الحجة عليهم، لأنه لو أنزل بلسانهم ولغتهم وعجزوا عن
الوقوف على معناه مع بلاغتهم وإفهامهم دل على أنه نزل من عند
الله، وأنه الذي أعجزهم عن الوقوف.
وقال الإمام فخر الدين: من الملحدة من طعن في القرآن لأجل
اشتماله على
المتشابهات، وقال: إنكم تقولون إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا
القرآن إلى يوم القيامة، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به صاحب كل
مذهب على مذهبه، فالْجَبْرِي يتمسك بآيات الجبر، كقوله:
(وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ
وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) .
والقدري يقول: هذا مذهب الكفار، بدليل أنه تعالى
حكى ذلك عنهم في معرض الذم لهم في قوله: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا
فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا
وَقْرٌ) .
وفي موضع آخر: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ) .
ومنكر الرؤية يتمسك بقوله: (لا تدْرِكه الأبصار) .
ومثبت الجهة يتمسك بقوله: (يخافون رَبهمْ مِنْ فَوْقهم) .
(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) .
والنافي يتمسك بقوله: (ليس كَمِثْلِهِ شَيءٌ) .
ثم يسمي كل واحد الآيات الموافقة لمذهبه محكمة، والآيات
المخالفة له متشابهة، وإنما آل في ترجيح بعضها على البعض إلى
ترجيحات خفية، ووجوه ضعيفة، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب
الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى يوم القيامة هكذا.
قال: والجواب أن العلماء ذكروا لوقوع المتشابه فوائد لوجوه:
منها أنه يوجب مزيد الشقة في الوصول إلى المراد منه، وزيادة
المشقة توجب
مزيدَ الثواب.
(1/120)
ومنها أنه لو كان القرآن كله محكماً لما كان مطابقاً إلا لمذهب
واحد، وكان
بصريحه مبطلاً لما سوى ذلك المذهب، وذلك مما ينَفِّر أرباب
سائر المذاهب عن قبوله، وعن النظر فيه، والانتفاع به، فلما كان
مشتملاً على المحكم والمتشابه طمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما
يؤيد مذهبه وينصر مقالته، فينظر فيه جميع أرباب المذاهب،
ويجتهد في التأمل فيه صاحب كل مذهب، وإذا بالغوا في ذلك صارت
المحكمات مفسرة للمتشابهات، وبهذا الطريق يتخلص المبطل من
باطله، ويتوصل إلى الحق.
ومنها أن القرآن إذا كان مشتملاً على المتشابه افتقر إلى العلم
بطريق
التأويلات، وترجيح بعضها على بعض، وافتقر في تعلم ذلك إلى
تحصيل علوم كثيرة من علم اللغة والنحو والمعاني والبيان وأصول
الفقه، ولو لم يكن الأمر كذلك لم يحتج إلى تحصيل هذه العلوم
الكثيرة، فكان في إيراد المتشابه هذه الفوائد الكثيرة.
ومنها أن القرآن مشتمل على دعوة الخواصّ والعوامّ، وطبائع
العوامّ تنفر في
أكثر الأمر عن درك الحقائق، فمن سمع من العوام في أول الأمر
إثبات موجود
ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي، فوقع في
التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطَبوا بألفاظ دالة على بعض ما
يناسب ما توهموه وتخيلوه، ويكون ذلك مخلوطاً بما يدل على الحق
الصريح.
فالقِسْم الأول هو الذي يخاطبون به في أول الأمر من التشابهات.
والقسم الثاني هو الذي يكشف لهم في آخر الأمر
من المحكمات.
******* |