معترك الأقران في إعجاز القرآن

الوجه السادس عشر من وجوه إعجازه (الاستدلال بمنطوته أو بمفهومه)
وهو ما دل عليه اللفظ في محل النطق، فإن أفاد معنى لا يحتمل غيره فالنص، نحو: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)
، وقد نقل عن قوم من المتكلمين أنهم قالوا بندور النص جداً في
الكتاب والسنة.
وقد بالغ إمام الحرمين وغيره في الرد عليهم، قال: لأن الغرض من النص
الاستقلال بإفادة المعنى على قطع، مع انحسام جهات التأويل والاحتمال، وهذا
وإن عزّ حصوله بوضع الصيغ رداً إلى اللغة فما أكثره مع القرائن الحالية والمقالية. انتهى.
أو مع احتمال غيره احتمالاً مرجوحاً، فالظاهر، نحو: (فَمَنِ اضْطُرّ غير باغ
ولا عَادٍ) .
فإن الباغي يطلق على الجاهل وعلى الظالم، وهو فيه أظهر وأغلب.
ونحو: (ولَا تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ) ، َ فإنه يقال الانقطاع ظاهره الوضوء والغسل، وهو في الظاهر أظهر.
وإن حمل على المرجوح لدليل فهو تأويل، ويسمى المرجوح المحمول عليه
مؤولاً، وهو كقوله: (وهو مَعَكمْ أيْنَ ما كنتُم) ، فإنه يستحيل
حمل المعيّة على القُرب بالذات، فتعين صَرْفُه عن ذلك، وحمله على القدرة والعلم، أو على الحفظ والرعاية.

(1/169)


وكقوله: (واخْفِض لهما جَنَاحَ الذّل من الرحمة) .
على الظاهر، لاستحالة أن يكون للإنسان أجنحة، فيُحمل على الخضوع وحسن الخلق.
وقد يكون مشتركا بين حقيقتين أو حقيقة ومجاز ويصلح حمله عليهما جميعاً.
فيُحمل عليهما سواء، فلهذا قلنا هل يجوز استعمال اللفظ في معنييه أم لا، ووجهه على هذا أن يكون اللفظ قد خوطب به مرتين: مرة أريد هذا، ومرة أريد هذا
ومن أمثلته أيضاً: (ولا يُضَارّ كاتِبٌ ولا شَهيد) ، فإنه يحتمل ولا يضار الكاتبُ والشهيد صاحبَ الحق بجوْرٍ في الكتابة والشهادة، ولا يضارر -
بالفتح: أي لا يضرهما صاحبُ الحق بإلزام ما لا يلزم وإجبارهما على الكتابة والشهادة.
ثم إن توقفت صحة دلالة اللفظ على إضمارٍ سميت دلالة اقتضاء، نحو:
(واسأل القرية) ، أي أهلها، وإن لم تتوقف ودل اللفظ على ما
لم يقصد به سميت دلالة إشارة، كدلالة قوله تعالى: (أحِلّ لكم ليلةَ الصيام
الرّفَث إلى نسائكم) - على صحة صَوْم من أصبح جُنُباْ، إذ
إباحة الجماع إلى طلوع الفجر تستلزم كونه جنباً في جزء من النهار.
وقد حكي هذا الاستنباط عن محمد بن كعب القُرَظي.
فصل
والمفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق، وهو قسمان: مفهوم موافقة.
ومفهوم مخالفة.
فالأول: ما يوافق حكمه المنطوق، فإن كان أولى سُمّي فحوى الخطاب.
كدلالة: (فلا تَقُلْ لهما أفّ) - على تحريم الضرب لأنه أشد.
وإن كان مساوياً سمّي لحن الخطاب، أي معناه، كدلالة: (إن الذين يأكلون
أموالَ اليتامَى ظلْماً) - على تحريم الإحراق، لأنه مساوٍ للأكل في
الإتلاف.

(1/170)


واختلف هل دلالة ذلك قياسية أو لفظية، مجازية أو حقيقية، على أقوال
بيناها في كتبنا الأصولية.
والثاني: ما يخالف حكمه المنطوق، وهو أنواع: مفهوم صفة، نعتاً كان أو
حالا أو ظرفاً أو عددا، نحو: (إنْ جَاءَكم فاسقٌ بِنَبَأ فَتَبيَّنُوا) .
مفهومه أن غير الفاسق لا يجب التبين في خبره، فيجب قبول خبر الواحد
العدل.
(وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) .
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) ، أي فلا يصح الإحرام به في غيرها.
(فاذكروا الله عند المشْعَرِ الحرام) ، أي فالذكر عند غيره
ليس محصلاً للمطلوب.
(فاجْلِدُوهم ثمانين جَلْدَةً) ، أي لا أقل ولا أكثر.
وشرط نحو: (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ) .
أي فغير أولات الحمل لا يجب الإنفاق عليهن.
وغاية، نحو: (فلا تَحِلُّ له مِنْ بَعْدُ حتى تنكحَ زَوْجاً غَيْرَه) ، أي فإذا نكحته تحل للأول بشرطه.
وحصر، نحو: (لا إله إلا الله) .
(إنما إلهكم إله واحد) ، أي فغيره ليس بإله.
(فالله هو الولي) أي فغيره ليس بولي.
(لَإلى اللهِ تُحْشَرُون) أي لا إلى غيره.
(إياك نعبد) ، أي لا غيرك.
واختلف في الاحتجاج بهذه المفاهيم على أقوال كثيرة.
والأصح في الجملة أنها
كلها حجة بشروط:
منها: ألا يكون المذكور خرج للغالب، ومن ثَمّ لم يعتبر الأكثرون مفهومَ
قوله: (ورَبَائِبكم اللاتي في حُجوركم) ، فإن الغالب كون الربائب في حجور الأزواج، فلا مفهوم له، لأنه إنما خُص بالذكر لغلبة حضوره في الذهن.
وألا يكون موافقاً للواقع، ومن ثَمّ لا مفهوم لقوله:

(1/171)


(ومن يدْعُ مع اللهِ إلهاً آخَرَ لا برْهَانَ له) .
وقوله: (لا يتَّخِذ المؤمنون َالكافرين أولياءَ مِنْ دون المؤمنين) .
وقوله: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) .
والاطلاع على ذلك من فوائد معرفة أسباب النزول.
فائدة
قال بعضهم: الألفاظ إما أن تدل بمنطوقها، أو بفَحْواها، أو بمفهومها، أو
باقتضائها وضرورتها، أو بمعقولها المستنبط منها، حكاه ابن الحصار، وقال: هذا كلام حسن.
قلت: فالأول دلالة المنطوق.
والثاني دلالة المفهوم.
والثالث دلالة الاقتضاء.
والرابع دلالة الإشارة.
*******
الوجه السابع عشر من وجوه إعجازه (وجوه مخاطباته)
وهي ثلاثة أقسام: قسم لا يصلح إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقسم لا يصلح إلا لغيره، وقسم يصلح لهما.
قال بعض الأقدمين: أنزل القرآن على ثلاثين نحواً، كل نحو منه غير صاحبه.
فمن عرف وجوهها ثم تكلم في الدين أصاب ووُفِّق، ومن لم يعرفها وتكلم في
الدين كان الخطأ إليه أقرب، وهي: المكي والمدني، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والتقديم والتأخير، والمقطوع والموصول، والسبب والإضمار، والخاص والعام، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، والحدود والأحكام، والخبر والاستفهام، والأبّهة والحروف الصرفة، والإعذار والإنذار، والحجة والاحتجاج، والمواعظ والأمثال، والقسم.
قال: والمكي مثل: (واهجُرْهم هجْراً جيلاً) .
والمدني مثل: (وقاتلوا في سبيل الله) -
والناسخ والمنسوخ واضح.

(1/172)


والمحكم مثل: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) .
(إن الذين يَأكُلُون أموالَ اليتامى ظُلْما) ، ونحوه مما أحكمه الله وبيَّنَه.
والمتشابه مثل: ("يا أيُّها الذين آمَنُوا لا تَدْخُلوا بيوتاً غَيْرَ بيوتِكم حتى
تَسْتَأنِسُوا) .
ولم يقل: (ومن يفعل ذلك عدْوَاناً وظلماً فسوف نُصْلِيه نارا) ، كما قال في المحكم.
وقد ناداهم في هذه الآية بالإيمان ونهاهم عن المعصية ولم يجعل فيها وعيداً
فشُبّه على أهلها ما يفعل الله بهم.
والتقديم والتأخير مثل: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ) .، التقدير: كتب عليكم الوصية إذا حضر أحدكم الموت.
والمقطوع والموصول مثل: (لا أقسِمُ بيوم القيامة) .
فلا مقطوع من لا أقسم، وإنما هو في المعنى أقسم بيَوم القيامة (ولا اقسم بالنَّفْسِ اللوَّامة) ، ولم يقسم.
والسبب والإضمار، مثل: (واسْألِ القريةَ) ، أي أهل القرية.
والخاص والعام، مثل: (يا أيها النبي)
فهذا في المسموع خاصا - (إذا طلقَتُم النساءَ) ، فصار في المعنى عاما.
والأمر وما بعده إلى الاستفهام، أمثلتها واضحة.
والأبّهة نحو: (إنّا أرْسلنا) . القمر: 19، 31، 34.
(نحن قسَمْنا) الزخرف: 32.
عبّر بالصيغة الموضوعة للجماعة للواحد تعالى، تفخيما وتعظيما
وأبهة.
والحروف المصرفة، كالفتنة تطلق على الشرك، نحو: (حتى لا تكون فِتْنَة) .
وعلى المعذرة، نحو: (ثم لم تكن فِتْنَتُهم)

(1/173)


أي معذرتهم.
وعلى الاختيار نحو: (قد فَتَنَّا قَوْمَك مِنْ بعْدِك) .
والإعذار نحو: (فبما نَقْضِهم مِيثَاقَهم لَعَنَّاهم) .
اعتذر أنه لم يفعل ذلك بهم إلاَّ بمعصيتهم.
والبواقي أمثلتها واضحة.
قال ابن الجوزي في كتابها "النفيس": الخطاب في القرآن على خمسة عشر
وجهاً.
وقال غيره: على أكثر من ثلاثين وجها.
أحدها: خطاب العام، والمراد به العموم، كقوله: (الله الذي خلقَكُم) .
والثاني: خطاب الخاص والمراد به الخصوص، كقوله: (أكفَرْتُم بعد
إيمانكم) .
(يا أيُّها الرسولُ بَلِّغْ) .
الثالث: خطاب العام والمراد به الخصوص، كقوله: (يا أيها الناسُ اتَّقوا
ربكم) .
لم يدخل فيه الأطفال والمجانين.
الرابع: خطاب الخاص والمراد به العموم، كقوله: (يا أيها النبي إذا
طلّقْتُم) .
افتتح الخطاب بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد سائر مَنْ يملك
الطلاق.
وقوله: (يا أيها النبي إنَّا احْلَلْنَا لكَ أزواجك) .
قال أبو بكر الصيرفي: كان ابتداء الخطاب له، فلما قال في الموهوبة:
(خالصةً لكَ من دون المؤمنين) - علم أن ما قبلها له ولغيره.
الخامس: خطاب الجنس، كقوله: (يا أيها الناس) .
السادس: خطاب النوع، نحو: (يا بني إسرائيل) .
السابع: خطاب العين، نحو: (يا آدم اسْكنْ أنْت وزَوْجكَ الجنَّةَ) .
(يا نوح اهْبطْ) .
(يا إبراهيم قد صدَّقْتَ الرؤيَا) .
(يا موسى لا تخَفْ) .
(يا عيسى إني متَوَفِّيك) .
ولم يقع في القرآن الخطاب بيا محمد.
بل بـ يا أيها النبي، يا أيها الرسول، تعظيما له وتشريفا
وتخصيصاً له بذلك عمَّن سواه وتعليما للمؤمنين ألا ينادوه باسمه.

(1/174)


الثامن: خطاب المدح، نحو: (يا أيها الذين آمنوا) ، ولهذا وقع خطاباً
لأهل المدينة: والذين آمنوا وهاجروا.
أخرج ابن أبي حاتم عن خَيْثَمة قال: ما تقرأون في القرآن (يا أيها الذين
آمنوا) ، فإنه في التوراة يا أيها المساكين.
وأخرج البيهقي وأبو عُبيد وغيرهما، عن ابن مسعود، قال: إذا سمعتَ الله
يقول: (يا أيها الذين آمنوا) - فأوْعِها سَمْعَك، فإنه خير يأمر به أو شر ينْهَى
والتاسع: خطاب الذم، نحو: (يا أيها الذين كفروا لا تعتَذِرُوا اليوم)
(قل يا أيها الكافرون) .
ولتضمنه الإهانة لم يقع في القرآن في غير هذين الموضعين.
وكثر الخطاب بيا أيها الذين آمنوا على الموَاجهة، وفي جانب الكفار جيء بلفظ الغيبة، إعراضاً عنهم، كقوله: (إنَّ الذين كفَرُوا) .
(قل للذين كفروا) .
العاشر: خطاب الكرامة، كقوله: (يا أيها النبي) .
(يا أيها الرسول) .
قال بعضهم:
وتجد الخطاب بالنبي في محل لا يليقُ به الرسول، وكذلك العكس، كقوله في
الأمر بالتشريع العام: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) .
وفي مقام الخاص: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) .
وقد يعبر بالنبي في مقام التشريع العام، لكن مع قرينة إرادة التعميم.
كقوله: (يا أيها النبي إذا طلّقْتُم النساءَ) .
ولم يقل طلقت.
الحادي عشر: خطاب الإهانة، كقوله: (فإنّك رَجِيم) .
(اخْسَئُوا فيها ولا تُكلمون) .
الثاني عشر: خطاب التهكم، نحو: (ذُقْ إنّكَ أنْتَ العزيزُ الكريم) .

(1/175)


الثالث عشر: خطاب الجمع بلفظ الواحد، كقوله: (يا أيها الإنسانُ ما
غَرّكَ بربك الكريم) .
الرابع عشر: خطاب الواحد بلفظ الجمع، نحو: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ ... إلى قوله: (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) .
فهو خطاب له - صلى الله عليه وسلم - وحده، إذ لا نبي معه ولا بعده، وكذا قوله: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا) .
خطاب له - صلى الله عليه وسلم - وحده، بدليل قوله: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ) .
وكذا قوله: (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ) ، بدليل قوله: (قل فأتُوا) .
وجعل منه بعضُهم: (قال رَبّ ارْجِعون) ، أي ارجعني.
وقيل رب خطاب له تعالى، وارجعون للملائكة.
وقال السهيلي: هو قول من حضرته الشياطين وزبانية العذاب، فاختلط، فلا يدري ما يقول من الشطط، وقد اعتاد أمراً يقوله في الحياة مِنْ ردّ الأمر إلى المخلوقين.
الخامس عشر: خطاب الواحد بلفظ الاثنين، نحو: (ألْقِيَا في جهنَّم) .
والخطاب لمالك خازن النار، وقيل لخزنة جهنم والزبانية، فيكون من
خطاب الجمع بلفظ الاثنين، وقيل للملكين الموكلين به في قوله: (وجاءَتْ كلُّ نَفْس معها سائق وشَهيد) .
فيكون على الأصل.
وجعل المهدوي من هذا النوع: (قال قد أجِيبَتْ دعوتكما) .
قال: الخطاب لموسى وحده، لأنه الداعي.
وقيل لهما، لأن هارون أمّن على دعائه والمؤمِّن أحد الداعين.
السادس عشر: خطاب الاثنين بلفظ الواحد، كقوله: (فمَنْ ربُّكما يا
موسى) ، أي ويا هارون.
وفيه وجهان:
أحدهما: أنه أفرده بالنداء لإدْلاله عليه بالتربية.
والآخر: أنه صاحب الرسالة والآيات، وهارون تَبَع له، ذكره ابن عطية،

(1/176)


وذكر في الكشاف آخر، وهو أن هارون لما كان أفصح لساناً من موسى نكب فرعون عن خطابه حذراً من لسانه.
ومثله: (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) .
قال ابن عطية: أفرده بالشقاء لأنه المخاطب أولاً، والمقصود في الكلام.
وقيل: لأن الله تعالى جعل الشقاء في معيشة الدنيا في جانب الرجال.
وقيل إغضاء عن ذكر المرأة، كما قيل من الكرم سَتْرُ الحرم.
السابع عشر: خطاب الاثنين بلفظ الجمع، كقوله: (أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)
الثامن عشر: خطاب الجمع بلفظ الاثنين، كما تقدم في " ألْقِيَا ".
التاسع عشر: خطاب الجمع بعد الواحد، كقوله: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا) .
قال ابن الأنباري: جمع في الفعل الثالث ليدل على أن الأمة داخلون مع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومثله: (يا أيها النبي إذا طلّقْتم النساء) .
العشرون: عكسه نحو: (وأقيموا الصلاة) .
(وبَشِّر المؤمنين) .
الحادي والعشرون: خطاب الاثنين بعد الواحد، نحو: (أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ) .
الثاني والعشرون: عكسه، نحو: (فمن رَبُّكما يا موسَى) .
الثالث والعشرون: خطاب العَيْن، والمراد به الغير، نحو: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) .
الخطاب له - صلى الله عليه وسلم -، والمرَاد أمته - صلى الله عليه وسلم -، لأنه كان تقيًّا، وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - من طاعة الكفار.
ومنه: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ) .
والمراد بالخطاب التعريض بالكفار.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: لم يشك - صلى الله عليه وسلم -.

(1/177)


ومثله: (واسالْ مَنْ أرسلنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسلنا) .
(فلا تكوننَّ من الجاهلين) ، وأنحاء ذلك.
الرابع والعشرون: خطاب الغير والمراد به العين، نحو: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ) .
الخامس والعشرون: الخطاب العام الذي لم يُقصد به مخاطب معين، نحو:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) .
(وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) ، (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ) .
ولم يُقصد بذلك خطاب معين، بل كل أحد، وأخرج في صورة الخطاب لقصد العموم، يريد أن حالهم تناهت في الظهور بحيث لا يختص بها راءٍ دون راء، بل كل من أمكن منه الرؤية داخلٌ في ذلك الخطاب.
السادس والعشرون: خطاب الشخص ثم العدول إلى غيره، نحو: (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) ، خوطب به النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال للكفار: (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ) ، بدليل: (فهَلْ أنتُم مسلمون) .
ومنه: (إنّا أرْسَلنَاكَ شاهداً) إلى قوله: (لِتُؤْمِنُوا بالله) الفتح: 8، 9.
إن قرئ بالفوقية.
السابع والعشرون: خطاب التلوين، وهو الالتفات.
الثامن والعشرون: خطاب الجمادات خطابَ مَنْ يعقل، نحو: (فقال لَهَا
ولِلأرْضِ ائتِيَا طَوْعاً أو كَرْهاً) .
التاسع والعشرون: خطاب التهييج، نحو: (وعلى الله فتوكَّلُوا إنْ كنتُم
مُؤمنين) .
الثلاثون: خطاب التحنّن والاستعطاف، نحو: (يا عبادِىَ الذين أسْرَفوا
على أنْفُسِهم) .
الحادي والثلاثون: خطاب التحبّب، نحو: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ) .

(1/178)


(يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) .
(يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي) .
الثاني والثلاثون: خطاب التعجيز، نحو: (فأتُوا بسورةٍ) .
الثالث والثلاثون: خطاب التشريف، وهو كل ما في القرآن مخاطبة بقل.
فإنه تشريف منه تعالى لهذه الأمة بأن يخاطبها بغير واسطة لتفوز بشرف
المخاطبة.
الرابع والثلاثون: خطاب المعدوم، ويصح ذلك تبعاً لموجود، نحو: (يَا بَنِي آدَمَ) ، فإنه خطاب لأهل ذلك الزمان ولكل مَنْ بعدهم.
قال ابن القيم: تأمل خطاب القرآن تجد مَلِكًا له الملك كله، وله الحمد كله، أزمّةُ الأمور كلها بيده، ومصدرها منه، ومردها إليه، مستوياً على العرش، لا تخفى عليه خافية من أقطار مملكته، عالما بما في نفوس عباده، مطلعاً على
أسرارهم وعلانيتهم، منفرداً بتدبير المملكة، يسمع ويرى، ويعطي ويمنع.
ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، ويخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويقدر ويقضي، ويدبر الأمور، نازلة من عنده دقيقها وجليلها، وصاعدة إليه لا تتحرك ذَرّة إلا بإذنه، ولا تسقط من ورقة إلا بعلمه، فتأمل كيف تجده يثني على نفسه، ويمجد نفسه، ويحمد نفسه، وينصح عباده، ويدلهم على ما فيه سعادتهم وفلاحهم، ويرغّبهم فيه، ويحذرهم مما فيه هلاكهم، ويتعرف إليهم بأسمائه وصفاته، ويتحبب إليهم بنعمه عليهم، ويأمرهم بما يستوجبون به تمامها، ويحذرهم من نقمه، ويذكرهم بما أعد لهم من الكرامة إن أطاعوه، وما أعد لهم من العقوبة إن عصوه، ويخبرهم بصنعه في أوليائه وأعدائه، وكيف كانت عاقبة هؤلاء وهؤلاء، ويثني على أوليائه بصالح أعمالهم وأحسن أوصافهم، ويذم أعداءه بسيء أعمالهم وقبيح صفاتهم، ويضرب الأمثال، وينوِّعُ الأدلة والبراهين، ويجيب عن شُبَه أعدائه أحسن الأجوبة، ويصدق الصادق، ويكذب الكاذب، ويقول الحق، ويهدي السبيل، ويدعو إلى دار السلام، ويذكر أوصافها وحسنها ونعيمها،

(1/179)


ويحذر من دار البوار، ويذكر عذابها وقُبْحها وألمها، ويذكّر عباده فقرهم إليه، ولشدة حاجتهم إليه من كل وجه، وأنهم لا غنى لهم عنه طرفة عين، ويذكرهم غناه عنهم وعن جميع الموجودات، وأنه الغنيّ بنفسه عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه بنفسه، وأنه لا ينال أحد ذرةً من الخير فما فوقها إلا بعدله وحكمته، ونشهد من خطابه عتابه لأحبابه ألطف عتاب، وأنه مع ذلك يقيل عثراتهم، ويغفر زَلّاتهم، ويقبل أعذارهم، ويصلح فسادهم. والمدافع عنهم، والمحامي عنهم، والناصر لهم، والكفيل بمصالحهم، والمنجي لهم من كل كرب، والموفي لهم بوعده، وأنه وليُّهم الذي لا ولي سواه، فهو مولاهم الحق. وينصرهم على عدوهم، فنعم المولى ونعم النصير.
وإذا شهدت القلوب من القرآن مَلِكاً عظيما رحيما جليلاً هذا شأنه، فكيف لا تحبه، وتنافس في القرب منه، وتنفق أنفاسها في التودد إليه، ويكون أحب إليها من كل ما سواه، ورضاه أشهى عندها من رضا كل مَنْ سواه، وكيف لا تلهج بذكره، وتصيِّر حُبه والشوق إليه والأنس به هو غذاؤها، وقوتها ودواؤها، بحيث إن فقدت ذلك فسدت وهلكت ولم تنتفع بهياكلها.
*******