معترك الأقران في إعجاز القرآن الوجه الرابع عشر من
وجوه إعجازه (عموم بعض آياته وخصوص بعضها)
وهو لفظ يستغرق الصالح له من غير حصر، وصيغته (كل) مبتدأة نحو:
(كلّ مَنْ عليها فَان) الرحمن: 26.
أو تابعة، نحو: (فسجد الملائكة ُ كلّهم أجمعون) الحجر: 30.
والذي والتي وتثنيتهما وجعهما، نحو: (والذي قال لوَالِدَيه أف
لكما)
، فإن المراد به كل من صدر منه هذا القول، بدليل قوله بعد
(أولئك الذين حقَّ عليهم القولُ في أمم) الأحقاف: 18.
(والذين آمَنُوا وعَمِلوا الصالحاتِ أولئك أصحابُ الجنَّةِ هم
فيها خالدون) .
(للّذين أحسَنُوا الخسْنى وزِيادة) .
(للّذين اتَّقوا عند ربِّهم جنّاتٌ) .
(واللائي يَئِسْنَ من الحيض) .
(واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا) .
(واللّذانِ يَأتِيَانِها منكم فآذُوهما) .
وأي. وما. ومن - شرطاً أو استفهاماً أو موصولاً، نحو: (أَيًّا
مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) .
(إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ
جَهَنَّمَ) .
(مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) .
والجمع المضاف، نحو: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) .
والمعرَّف بأل، نحو: (قد أفلح المؤمنون) ، (واقتلوا المشركين)
.
واسم الجنس المضاف، نحو: (فليَحْذَرِ الذين يخالِفونَ عن أمره)
.
أي كلَّ أمرٍ لله.
والصرَّف بأل نحو: (وأحلَّ اللهُ البَيْعَ) ، أي كل بيْع.
(إن الإنسان لفي خُسْرٍ) ، أي كل إنسان، بدليل: (إلاَّ الذين
آمنوا) .
والنكرة في سياق النفي والنهي، نحو: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ)
(1/156)
(ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) .
(فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) .
(فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) .
وفي سياق الشرط، نحو: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) .
وفي سياق الامتنان، نحو: (وأنزلنا من السماء ماء طَهورا) .
فصل
العام على ثلاثة أقسام:
الأول: الباقي على عمومه، قال القاضي جلال الدين البُلقيني:
ومثاله عزيز، إذْ مَا مِنْ عامّ إلا ويتخيّل فيه التخصيص،
فقوله: (يا أيها الناس اتَّقُوا
ربكم) قد يخص منه غير المكلف.
وحُرِّمَتْ عليكم الميتَة خص منه حالة الاضطرار وميتة السمك
والجراد.
وحرم الربا - خص منه العرايا.
وذكر الزركشي في البرهان: أنه كثير في القرآن، وأورد منه:
(إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا) .
(وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) ..
(اللهُ الذي خلقَكُمْ ثم رَزَقكُم ثم
يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) .
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) .
(اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا) .
قلت: هذه الآيات كلها في غير الأحكام الفرعية، فالظاهر أن مراد
البُلقيني
أنه عزيز في الأحكام الفرعية.
ولقد استخرجت من القرآن بعد الفكر آية فيها.
وهي قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) .
فإنه لا خصوص فيها.
الثاني: العام المراد به الخصوص.
(1/157)
الثالث: العام المخصوص، وللناس بينهما
فروق:
منها: أن الأول لم يرد شموله لجميع الأفراد، لا من جهة تناول
اللفظ، ولا
من جهة الحكم، بل هو ذو أفراد استعمل في فرد منها.
والثاني أريد عمومه وشمولُه لجميع الأفراد من جهة تناول اللفظ
لها، لا من جهة الحكم.
ومنها أن الأول مجاز قطعاً لنقل اللفظ عن موضوعه الأصلي، بخلاف
الثاني.
فإن فيه مذاهب أصحها أنه حقيقة، وعليه أكثر الشافعية وكثير من
الحنفية وجميع الحنابلة، ونقَله إمام الحرمين عن جميع الفقهاء.
وقال الشيخ أبو حامد: إنه مذهب الشافعي وأصحابه، وصححه السبكي.
لأن تناول اللفظ للبعض الباقي بعد التخصيص كتناوله بلا تخصيص،
وذلك
التناول حقيقي اتفاقاً، فليكن هذا التناول حقيقياً أيضاً.
ومنها أن قرينة الأول عقلية، والثاني لفظية.
ومنها أن قرينة الأول لا تنفك عنه، وقرينة الثاني تنفك عنه.
ومنها أن الأول يصح أن يراد به واحد اتفاقاً، وفي الثاني خلاف.
ومن أمثلة العام المراد به الخصوص قوله تعالى: (الَّذِينَ
قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ
فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا) .
والقائل واحد نعيم بن مسعود الأشجعي أو أعرابي من خزَاعة، كما
أخرج ابن مردويه من حديث أبي رافع، لقيامه مقام كثير في تثبيطه
المؤمنين عن ملاقاة أبي سفيان.
قال الفارسي: ومما يقوي أن المراد به واحد: (إنّها ذَلِكم
الشيطانُ) .
فوقعت الإشارة بقوله: (ذلكم) إلى واحد بعينه، ولو كان
المعنيُّ به جمعا لقال: إنما أولئكم الشيطان، فهذه دلالة ظاهرة
في اللفظ.
ومنها قوله تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا
آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) .
أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجمعه ما في الناس من
الخصال الحميدة.
(1/158)
ومنها قوله: (ثم أفِيضُوا مِنْ حَيْثُ
أفاضَ الناسُ) .
أخرج ابن جرير من طريق الضحاك، عن ابن عباس، في قوله: (مِنْ
حَيْثُ أفاضَ الناسُ) ، قال إبراهيم: ومن الغريب قراءةُ سعيد
بن جُبير: من حيث أفاض الناسي قال في المحتسب: يعني آدم،
لقوله: (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) .
ومنها قوله: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ
يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) ، أي جبريل، كما في قراءة ابن
مسعود.
وأما المخصوص فأمثلته في القرآن كثيرة جداً، وهي أكثر من
المنسوخ، إذ ما
من عام فيه إلا وقد خص، ثم المخصص له إما متصل، وإما منفصل،
فالمتصل خمسة وقعت في القرآن:
أحدها: الاستثناء، نحو: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً
أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ
تَابُوا) . النور: 4.
(وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ
أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) .
(وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) ... إلى قوله:
(إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ) .
(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ) .
(كلّ شيء هالكٌ إلاَّ وَجْهَه) .
الثاني: الوصف، نحو: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي
حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ
فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) .
الثالث: الشرط، نحو: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ
مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ
فِيهِمْ خَيْرًا) .
(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ
تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ) .
الرابع: الغاية، نحو: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا
حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) .
(1/159)
(ولا تقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْن) .
(وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ) .
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) .
الخامس: بدل البعض من الكل نحو: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ
حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) ..
والمخصص آية أخرى في محل آخر، أو حديث، أو إجماع، أو قياس.
فمن أمثلة ما خص بالقرآن قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) .، خص
بقوله: (إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا
لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) .
وبقوله: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ) .
وقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ
الْخِنْزِيرِ) .
خص من الميتة السمك بقوله: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ
وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ) .
ومن الدم الجامد بقوله: (أو دَماً مَسفوحاً) .
وقوله: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا
مِنْهُ شَيْئًا) .
خص بقوله: (فلا جُنَاحَ عليهما فما افتدَتْ به) .
وقوله: (الزَّانية والزاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائةَ جلدة)
.
خص بقوله: (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ
مِنَ الْعَذَابِ) .
وقوله: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) .
خص بقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) .
ومن أمثلة ما خص بالحديث قوله تعالى: (وأحَلَّ اللهُ البَيْعَ)
.
خص منه البيوع الفاسدة، وهي كثيرة، بالسنّة.
وحرم الربا. خص العرايا منه بالسنة.
وآيات المواريث خص منها القاتل والمخالف في الدين بالسنة.
وآية تحريم الميتة خص منها الجراد بالسنة.
وآية ثلاثة قروء خص منها الأمَة بالسنة.
وقوله: ماءً طَهوراً، خص منه المتغير بالسنّة.
وقوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ)
خص منهما مَنْ سرق دون ربع دينار بالسنة.
(1/160)
ومن أمثلة ما خص بالإجماع آية المواريث، خص
منها الرقيق فلا يرث
بالإجماع، ذكره مكي.
ومن أمثلة ما خص بالقياس آية الزنا: (فاجلدوا كل واحدٍ منهما
مائة
جَلْدَة) ، خص منه العبد بالقياس على الأمة المنصوصة في قوله:
(فَعَليْهنّ نصْفُ ما على المحصَنَاتِ من العذاب) ، المخصص
لعموم
الآية، ذكره مكيّ أيضاً.
فصل
من خاص القرآن ما كان مخصصاً لعموم السنَّة، وهو عزيز.
ومن أمثلته قوله
تعالى: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ) .
خص عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: أُمِرْتُ أنْ أقَاتلَ
النَّاسَ حتى يقولوا لا إله إلا الله.
وقوله: (حافِظُوا على الصَّلَوَاتِ والصلاةِ الوُسْطَى) .
البقرة: 238.
خص عموم نهيْه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في الأوقات
المكروهة بإخراخ الفرائض.
وقوله: (ومِنْ أصوافها وأوْبارها) .
خص عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ما أبين مِنْ حَيّ فهو
ميتة.
وقوله: (والعامِلِينَ عليها والمؤلَّفَةِ قلوبُهم) .
خص عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا تحلّ الصدقةُ لغَنِيّ
ولا لذي مِرّة سويّ.
وقوله: (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى
أَمْرِ اللَّهِ) .
خص عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا الْتَقَى المسلمان
بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار.
(فروع منثورة تتعلق بالعموم
والخصوص)
الأول: إذا سِيقَ العام للمدح أو الذم فهل هو باق على عمومه،
فيه
مذاهب:
(1/161)
أحدها: نعم، إذ لا صارف عنه، ولا تنافي بين
العموم وبين المدح أو الذم.
والثاني: لا، لأنه لم يسَقْ للتعميم، بل للمدح أو الذم.
والثالث: وهو الأصح: التفصيل، فيعم إن لم يعارضه عام آخر لم
يُسق
لذلك، ولا يعلم إن عارضه ذلك جمعاً بينهما.
مثاله، ولا مُعَارِض، قوله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي
نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) .
ومع المعارض قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
(5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) .
فإنه سِيق للمدح، وظاهِرُهُ يعُمُّ الأخْتَيْن بملك اليمين
جمعاً، وعارضه في ذلك: (وأن تَجْمَعوا بين الأختين) ، فإنه
شامل لجمعهما بملك اليمين، ولم يُسَق
للمدح، فحمل الأول على غير ذلك بأن لم يرد تناوله له.
ومثاله في الذم: (والذين يَكنِزُونَ الذهبَ والفضّة) .
الآية - فإنه سيق للذم، وظاهره يعم الحلي المباح.
وعارضه في ذلك حديث جابر: ليس في الحلي زكاة، فحمل الأول على
غير ذلك.
الثاني: اختلف في الخطاب الخاص به - صلى الله عليه وسلم -،
نحو: (يا أيها النبي) ، (يا أيها الرسول) ، هل يشمل الأمّة،
فقيل: نعم، لأن أمر القدوة أمر لأتباعه معه عرفاً.
والأصح في الأصول المنع لاختصاص الصفة به.
الثالث: اختلف في الخطاب ب (يا أيها الناس) ، هل يشمل الرسول -
صلى الله عليه وسلم - على مذاهب:
أصحها: وعليه الأكثرون: نعم، لعموم الصفة له، أخرج ابن أبي
حاتم عن
الزهري، قال: إذا قال الله: يا أيها الذين آمنوا افعلوا،
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - منهم.
والثاني: لا، لأنه ورد على لسانه لتبليغ غيره، ولما له من
الخصائص.
والثالث: إن اقترن بقُلْ لم يشمله، لظهوره في التبليغ، وذلك
قرينةُ عدم
شموله، وإلا فيشمله.
(1/162)
الرابع: الأصح في الأصول أن الخطاب ب " يا
أيها الناس " يشمل الكافر والعبد، لعموم اللفظ.
وقيل: لا يعم الكافر بناء على عدم تكليفه في الفروع، ولا العبد
لصَرْف منافعه لسيده شرعاً.
الخامس: اختلف في " مَنْ " هل يتناول الأنثى، فالأصح: نعم،
خلافاً
للحنفية، لأن قوله تعالى: (ومَنْ يعمَلْ من الصالحات مِنْ ذكر
أو أنثى)
- فالتفسير بهما دالّ على تناول (مَنْ) لهما.
وقوله: (ومن يَقْنتْ مِنْكنّ للَهِ ورسوله) .
واختلف في جمع المذكر السالم هل يتناولها، فالأصح لا.
وإنما يدخلن فيه بقرينة.
أما المكسّر فلا خلاف في دخولهن فيه.
السادس: اختلف في الخطاب ب " يا أهل الكتاب "، هل يشمل
المؤمنين.
فالأصحًّ لا، لأن اللفظ قاصر على من ذكر.
وقيل: إن شركوهم في المعنى شملهم وإلا فلا.
واختلف في الخطاب ب " يا أيها الذين آمنوا " - هل يشمل أهل
الكتاب.
قيل: لا - بناء على أنهم غير مخاطبين بالفروع.
وقيل: نعم -، واختاره ابن السمعاني.
وقيل قوله: يا أيها الذين آمنوا خطاب تشريف لا تخصيص.
*******
الوجه الخامس عشر من وجوه إعجازه (ورود بعض آياته مجملة وبعضها
مبيّنة)
وفي ذلك من حسن البلاغة ما يعجز عنه أولو الفصاحة، لكن هل يجوز
بقاؤه
مجملاً أم لا، أقوال.
أصحها لا يبقى المكلف بالعمل به بخلاف غيره.
وللإجمال أسباب:
أحدها: الاشتراك، نحو: (والليل إذا عَسْعَس) .
فإنه موضوع لأقبل وأدبر.
(ثلاثة قُروء) ، فإن القُرْءَ موضوع
(1/163)
للْحَيْض والطهر.
(أو يَعْفُو الذي بيده عُقدة النكاح) .
يحتمل الزوج والوليّ، فإن كلاًّ منهما بيده عقدة النكاح.
وثانيها: الحذف، نحو: (وترغَبونَ أنْ تنكحُوهنَّ) .
يحتمل في، وعَنْ.
وثالثها: اختلاف مرجع الضمير، نحو: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) .
يحتمل عود ضمير الفاعل في يرفعه إلى ما عاد عليه ضميرُ إليه،
وهو الله، ويحتمل عَوْده على العمل.
والمعنى إن العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيب.
ويحتمل عوده إلى الكلم الطيب، أي أن الكلم الطيب - وهو التوحيد
- يرفع العمل الصالح، لأنه لا يصح العمل إلا مع الإيمان.
ورابعها: إجمال العطف والاستئناف، نحو: (إِلَّا اللَّهُ
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ) .
وخامسها: غرابة اللفظ، نحو: (فلا تعْضُلُوهنّ) .
وسادسها: عدم كثرة الاستعمال، نحو: (يلْقُونَ السَّمعَ) .
أي يسمعون.
(ثاني عِطْفِه) ، أي متكبِّراً.
(فأصبح يقَلِّبُ كفَّيْه) ، أي نادماً.
وسابعها: التقديم والتأخير، نحو: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ
مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى) .
أي: ولولا كلمة وأجَل مسمى لكان لزاماً.
(يسألونك كأنك حَفِيٌّ عنها) ، أي يسألونك عنها كأنك حَفِيٌّ.
وثامنها: قلب المنقول، نحو (طورِ سِيْنِين) ، أي: سيناء
(على إلْ يَاسين) ، أي إلياس.
وتاسعها: التكرير القاطع لوصل الكلام في الظاهر، نحو:
(للّذِينَ
استضْعِفُوا لمن آمَنَ منهم) .
(1/164)
فصل
قد يقع التبيين متصلا، نحو: (من الفَجْر) . البقرة: 187، بعد
قوله:
(الخيْط الأبيض من الخيْطِ الأسود) . البقرة: 187.
ومنفصلاً في آية أخرى، نحو: (فإنْ طلَّقَها فلا تحلَّ له مِنْ
بعْدُ حتى تنْكحَ زَوْجاً غيره) ، بعد قوله: (الطلاقُ مرّتان)
، فإنها بينت أن المراد به الطلاق الذي تملك الرّجْعة بعده،
ولولاهما لكان الكل منحصراً في الطلْقَتَيْن.
وقد أخرج أحمد وأبو داود في ناسخه، وسعيد بن منصور وغيرهم، عن
ابن
سعيد الأسدي، قال: قال رجل: يا رسول الله، الطلاق مرتان، فأين
الثالثة، قال: أو تسريح بإحسان.
وأخرج ابن مردويه عن أنس، قال: قال رجل: يا رسول الله، ذكر
الله
الطلاق مرتين، فأين الثالثة، قال: (إمساك بمعروف أو تسريح
بإحسان) .
وقوله: (وُجُوهٌ يَوْمئذٍ ناضِرَةٌ، إلى ربّها ناظِرَةٌ) .
دال على جواز الرؤية، ويفسر أن المراد بقوله: لا تدركه
الأبصار: لا تحيط به دون لا تراه.
وقد أخرج ابن جرير من طريق العَوْفي، عن ابن عباس، في قوله:
(لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) ، قال: لا تحيط به.
وأخرج عن عكرمة أنه قيل له عند ذكر الرؤية: أليس قد قال: (لَا
تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) ، فقال: أفلست ترى السماء أفكلها
تُرى.
وقوله تعالى: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا
مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) .
فسره قوله: (حُرمَتْ عليكم الميْتَةُ) .
وقوله: (مالك يوْمِ الدين) .
فسره قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ
مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ
نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا) .
(1/165)
وقوله: (فتلَقّى آدمُ مِنْ رَبِّهِ كلماتٍ)
.
فسره قوله: (قالا ربنا ظَلَمْنَا أنْفُسَنا) .
وقوله: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ
مَثَلًا) .
فسره قوله في آية النحل: (بالأنثى) .
وقوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) .
قال العلماء: بيانُ هذا العهد قوله: (لئن أقَمْتُم الصلاةَ
وآتيْتُم الزكاةَ وآمنتُم بِرُسلي) .
فهذا عهده. وعهدكم: (لأكفرنّ عنكم سيِّئاتكم) .
وقوله: (صراطَ الذين أنعمْتَ عليهم) .
بيّنه قوله: (فأولئك مع الذين أنْعَمَ اللهُ عليهم من النبيين)
.
وقد يقع التبيينُ بالسنّة، مثل: وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة.
ولله على الناس حِجّ البيت.
وقد بينت السنّةُ أفعال الصلاة والحج ومقادير نُصب الزكاة في
أنواعها.
تنبيه:
اختلف في آيات، هل هي من قبيل المجمل أم لا؟.
منها السرقة، قيل: إنها مجملة في اليد، لأنها تطلق على العضو
إلى الكوع، وإلى المرفق، وإلى المنكب.
وفي القطع، لأنه يطلق على الإبانة، وعلى الجرح، ولا ظهور لواحد
من ذلك.
وإبانة الشارع إلى الكوع تبيّن أن المراد ذلك.
وقيل لا إجمال فيها، لأن القطع ظاهر في الإبانة.
ومنها: (وامسحوا برؤوسكم) .
قيل إنها مجملة، لترددها بين مسح الكل والبعض، ومسح الشارع
الناصية مُبينٌ لذلك.
(1/166)
وقيل: لا، وإنما هي لمطلق المسح الصادق
بأقل ما ينطلق عليه الاسم ويفيده.
ومنها: (حُرمَتّ عليكم أمهاتكم) .
قيل: إنها مجملة، لأن إسناد التحريم إلى العين لا يصح، لأنه
إنما يتعلق بالفعل، فلا بد من تقديره، وهو محتمل لأمور لا حاجة
إلى جميعها ولا مرجح لبعضها.
وقيل: لا، لوجود المرجح، وهو العرف، فإنه يقْتضِي بأن المراد
تحريم
الاستمتاع بوطء أو نحوه، ويجري ذلك في كل ما يجري فيه التحريم
والتحليل
بالأعيان.
ومنها: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) .
قيل: إنها مجملة، لأن الربا الزيادة، وما من بيع إلا وفيه
زيادة، فافتقر إلى بيان ما يحل وما يحرم.
وقيل: لا، لأن البيع منقول شرعاً، فحمل على عمومه، ما لم يقم
دليل
التخصيص.
وقال الماوردي: للشافعي في هذه الآية أربعة أقوال:
أحدها: أنها عامة، فإن لفظها لفظُ عموم يتناول كل بيع، ويقتضي
إباحة
جميعها إلا ما خصه الدليل.
وهذا القول أصحها عند الشافعي وأصحابه، لأنه
عليه الصلاة والسلام نهى عن بيوع كانوا يعتادونها ولم يبين
الجائز، فدل على أن الآية تناولت إباحةَ جميع البيوع إلا ما خص
منها، فبيَّن - صلى الله عليه وسلم - المخصوص.
قال: فعلى هذا في العموم قولان:
أحدهما أنه عموم أريد به العموم وإن دخله التخصيص.
والثاني: أنه عموم أريد به الخصوص، قال: والفرق بينهما أن
البيان في الثاني متقدم على اللفظ، وفي الأول متأخر عنه ومقترن
به.
قال: وعلى القولين يجوز الاستدلال بالآية في المسائل المختلف
فيها ما لم يَقُمْ دليل تخصيص.
والقول الثاني أنها مُجْمَلة لا يعقل منها صحةُ بَيع مِنْ
فساده إلا ببيان النبي
- صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: هل هي مجملة بنفسها أم بعارض
ما نُهي عنه من البيوع؟
وجهان.
(1/167)
وهل الإجمال في المعنى المراد دون لفظها،
لأن لفظ البيع اسم لغوي
معناه معقول، لكن لما قام بإزائه من السنّة ما يعارضه تدافع
العمومان ولم يتعين المراد إلا ببيان السنة، فصار مجملاً لذلك
دون اللفظ، أو في اللفظ أيضاً، لأنه لما لم يكن المراد منه ما
وقع عليه الاسم وكانت له شرائط غير معقولة في اللغة كان مشكلاً
أيضاً، وجهان.
قال: وعلى الوجهين لا يجوز الاستدلالُ بها على صحة بَيْع ولا
فساده، وإن
دلت على صحة البيع من أصله.
قال: وهذا هو الفرق بين العموم والمجمل حيث
جاز الاستدلال بظاهر العموم ولم يجز الاستدلال بظاهر المجمل.
والقول الثالث أنها عامة جملة معاً، قال: واختُلِف في وجه ذلك
على أوجه:
أحدها: أن العموم في اللفظ، والإجمال في المعنى، فيكون اللفظ
عاماً
مخصوصاً، والمعنى مجملاً لَحِقَه التفسير.
والثاني: أن العموم في: وأحلَّ اللهُ البَيْعَ، والإجمال في:
وحرّم الربا.
والثالث: أنه كان جملاً، فلما بيَّنه النبي - صلى الله عليه
وسلم - صارَ عامًّا فيكون داخلا في المجمل قبل البيان، وفي
العموم بعد البيان، فعلى هذا يجوز الاستدلال بظاهرها في البيوع
المختلف فيها.
والقول الرابع: أنها تناولت بيعاً معهوداً، ونزلت بعد أن أحل
النبي - صلى الله عليه وسلم - بيوعاً وحرم بيوعاً، فاللام
للعهد، فعلى هذا لا يجوز الاستدلال بظاهرها.
ومنها الآيات التي فيها الأسماء الشرعية، نحو: (وأقيموا
الصلاةَ وآتوا
الزكاة) .
(فمن شهدَ منكم الشَّهْر فَلْيَصُمْه) .
(وللهِ على الناس حِج البيتِ مَنِ استطاع إليه سبيلا) .
قيل: إنها مجملة لاحتمال الصلاة لكل دعاء، والصيام لكل إمساك،
والحج
لكل قَصْد، والمراد بها لا تدل عليه اللغة، فافتقرت إلى
البيان.
وقيل: لا، بل تُحمل على كل ما ذكر إلا ما خص بدليل.
(1/168)
تنبيه:
قال ابن الحصّار: من الناس من جعل المجمل والمحتمل بإزاء شيء
واحد.
والصواب أن المجمل المبهم الذي لا يُفهم المراد منه.
والمحتمل اللفظ الواقع باللفظ الأول على معنيين مفهومين
فصاعداً، سواء كان حقيقة في كلها أو في بعضها.
فالفرق بينهما أن المجمل يدل على أمور معروفة، واللفظ مشترك
متردد
بينها.
والمبهم لا يدل على أمر معروف مع القطع بأن الشارع لم يفْضِ
لأحد
ببيان المجمل، بخلاف المحتمل.
******* |