معترك الأقران في إعجاز القرآن الوجه العشرون من وجوه إعجازه (الروعة التي
تلحق قلوبَ سامعيه وأسماعهم عند سماعه) ، والهيْبَة التي
تعْتَريهم عند تلاوته لقوة حاله وإبانة خطره، وهي على المكذبين
به أعظم حتى كانوا
(1/182)
يستثقلون سماعه، ويزيدهم نفوراً، كما قال
تعالى، ويودّون انقطاعه لكراهتهم له، ولذا قال عليه السلام: إن
القرآن صعب مستَصْعَب على من كرهه وهو الحكم.
وأما المؤمن فلا تزال روعته به وهيبته إياه مع تلاوته توليه
انجذاباً، وتكسبه
هشاشة لميل قلبه إليه، وتصديقه به، قال تعالى: (تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) .
وقال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ)
.
ويدل على هذا شيء خُصّ به أنه يعتريه من لا يفهم معانيه، ولا
يعلم
تفاسيره، كما روي عن نصراني أنه مر بقارئ فوقف يبكي، فقيل له:
مِمّ
بكيت، قال: للشجاعة والنظم.
وهذه الروْعة قد اعترف بها جماعة قبل الإسلام وبعده، فمنهم من
أسلم لها
لأول وهْلة وآمن به، ومنهم من كفر، فحكي في الصحيح عن جُبير بن
مطعم، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب:
والطور ... )
فلما بلغ هذه الآية: (أم خُلِقُوا من غَيْرِ شيء أمْ هُمُ
الخالقون) ...
إلى قوله: (المصيطرون) .
كاد قلبي أن يطير.
وفي رواية: وذلك أول ما دخل الإيمانُ قلبي.
وعن عتبة بن ربيعة، أنه علم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما
جاء به من خلاف قومه، فتلا عليهم. (حم فصلت) ...
إلى قوله: (صاعقة مثْلَ صاعقةِ عادٍ وثمود) .
فأمسك عُتبة بيده على في النبي - صلى الله عليه وسلم -، وناشده
الرحم أن يكف.
وفي رواية: فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ وعتبة
مُصْغ ملْق يديه خلف ظهره معتمداً عليهما حتى انتهى إلى
السجدة، فسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقام عتبة لا يدري
بما يراجعه، ورجع إلى أهله، ولم يخرج إلى قومه حتى أتوه فاعتذر
لهم، وقال: لقد كلمني بكلام والله ما سمعَتْ أذُنَاي بمثله قط،
فما دريتُ ما أقول له.
وقد حكي عن غير واحد ممن رام معارضته أنه أعترته روعة وهيبة
كفَّ بها
عن ذلك.
فروي أن ابن المقفع طلب ذلك ورامه، وشرع فيه، فمر بصبي يقرأ:
(1/183)
(وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ) .
فرجع ومحا ما عمل، وقال: أشهد أن هذا لا يعارض، وما هو من كلام
البشر.
وكان أفصح أهل وقته.
وكان يحيى بن حكيم الغزال بليغَ الأندلس في زمنه، فحكي أنه رام
شيئاً من
هذا، فنظر في سورة الإخلاص، ليحذو على مثالها وينسج - بزعمه -
على منوالها، قال: فاعترتني خشيةٌ ورقَّة حملتني على التوبة
والأوبة.
وحكي عن بعضهم أنه كان إذا أخذ المصحف بيده يغشى عليه من
هيبته.
*******
الوجه الحادي والعشرون من وجوه إعجازه (أن سامِعَه لا يمجه
وقارئه لا يَملة فتلذ له الأسماع وتشغف له القلوب)
فلا تزيده تلاوته إلا حلاوة، ولا ترديده إلا محبة، ولا يزال
غضًّا طريًّا، وغيره من الكلام - ولو بلغ في الحسن والبلاغة
مبلغه - يمَلّ مع الترديد، ويعادى إذا أعيد، لأن إعادة الحديث
على القلب أثقل من الحديد، وكتابنا بحمد الله يستلذّ به في
الخلوات، ويؤنس به في الأزمات، وسواه من الكتب لا يوجد فيها
ذلك، حتى أحدث لها أصحابها لحوناً وطربا يستجلبون بتلك اللحون
تنشيطهم على قراءتها، ولهذا وصف رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - القرآن بأنه لا يَخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عبره،
ولا تَفْنَى عجائبه، ليس بالهزل، لا يشبع منه العلماء، ولا
تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، هو الذي لم تنْتَه
الجن حين سمعته أن قالوا:
(إنّا سمعْنَا قرآناً عَجَباً يَهْدِي إلى الرشْدِ فآمَنّا به)
.
مَنْ قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج، ومن قسم به
أقسط، ومن عمل به أجِر، ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم، ومن
طلب الهدى من غيره أضله الله، ومن حكم بغيره قصمه الله، هو
الذكر الحكيم، والنور المبين، والصراط المستقيم، وحَبْل الله
المتين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه،
ولا يعوج فيقوَّم، ولا يزيغ فيستعتب.
(1/184)
ونحوه عن ابن مسعود، وقال فيه: ولا يختلف ولا يُتَشَانأ، فيه
نبأ الأولين
والآخرين.
وفي الحديث: قال الله لمحمد عليه السلام: إني مُنَزل عليك
توراةً حديثة، تفتَحُ به أعْيُناً عمياً، وأذُنآ صُمًّا،
وقلوباً غلفًا، فيها ينابيع العلم، وفهم الحكمة.
******* |