معترك الأقران في إعجاز القرآن الوجه الثاني
والعشرون من وجوه إعجازه (تيسيره تعالى حفظه وتقريبه على
متحفظيه)
قال تعالى: (ولقد يسّرْتا القرآنَ للذِّكْر) ، وسائر الأمم لا
يحفظ كتبها الواحدُ منهم، فكيف الجمّ على مرور السنين عليهم،
والقرآن ميسر
حفظه للغلمان في أقرب مدة، حتى إن منهم من حفظه في المنام.
وحكي أنه رفع إلى المأمون صبي ابن خمس سنين وهو يحفظ القرآن.
قال ابن عطية: يسّر بما فيه من حسن النظم، وشرف المعاني، فله
لَوْطة
بالقلوب، وامتزاج بالعقول، وهذا مشاهد بالعيان، فلا يحتاج فيه
إلى برهان.
وأعظم من هذا أن الله يُقْدِرُ بعض خلقِه على خَتْمه في آن
واحد مرات
كثيرة.
قال بعضهم: كنت أستغربه حتى شاهدت بعضهم خَتَمَهُ في دورة
الطواف
بالبيت الحرام، فحققته مشاهدة.
قال الشيخ ولي الله المرجاني: وذلك أن الله أطلق كل شعرة في
الجسد لقراءته. والله أعلم.
وهذ، أحوال يهبها الله لمن يشاء من عباده.
قال أبو عمران: من الناس من أقدره الله على أن يختم القرآن في
الليلة الواحدة أربع مرات ثم يغتسل.
وكان من الصحابة من يختمه مرة، ومنهم من يختمه
مرتين، ومنهم من يختمه ثلاثاً.
*******
(1/185)
الوجه الثالث
والعشرون من وجوه إعجازه (وقوع الحقائق والمجاز فيه)
وقد أنكر قوم وقوع المجاز فيه، وقالوا: إنه أخو الكذب،
والقرآنُ منزّه
عنه، وإن المتكلم لا يعدل إليه إلا إذا ضاقت الحقيقة فيستعير،
وذلك محال على الله تعالى.
وهذه شبهة باطلة، ولو سقط المجاز من القرآن سقط منه شَطْرُ
الحسن، فقد
اتفق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة، ولو وجب خلو
القرآن عن المجاز
وجب خلوه من الحذف والتوكيد وتكنية القصص وغيرها.
وقد أفرده بالتصنيف الإمام عز الدين بن عبد السلام، ولخصته مع
زيادات
كثيرة في كتاب سميته " مجاز الفرسان إلى مجاز القرآن ".
وهو قسمان:
الأول: المجاز في التركيب، ويسمى مجازَ الإسناد، والمجاز
العقلي، وعلاقته
الملابسة، وذلك أن يسند الفعل أو شبهه إلى غير ما هو له أصالة
لملابسته له، كقوله تعالى: (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ
آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) .:
نسبت الزيادة، وهي فعل الله تعالى، إلى الآيات لكونها سببا
لها.
(يُذَبِّح أبناءهم)
(يا هَامَانُ ابْنِ لي) ، نسب الذبح، وهو فعل الأعوان، إلى
فرعون، والبناء وهو فعل العملة، إلى هامان، لكونهما آمرين به.
وكذا قوله: (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) .
نسب الإحلال إليهم لتسببهم في كفرهم بأمرهم إياهم به.
ومنه قوله تعالى: (يَوْماً يجعلُ الوِلْدَان شِيبا) .
نسب الفعل إلى الظرف لوقوعه فيه.
(عِيشَةٍ راضية) . أي مرضيّة.
(فإذا عزم الأمر) : أي عزم عليه، بدليل: (فإذا عزَمْتَ)
(1/186)
وهذا القسم أربعة أنواع:
أحدها: ما طرفاه حقيقيان، كالآية المصدّر بها، وكقوله:
(وأخرجَتِ
الأرضُ أثقالَها) .
والثاني: مجازيان، نحو: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) ، أي
ما ربحوا فيها.
وإطلاق الربح والتجارة هنا مجاز.
ثالثها ورابعها: ما أحد طرفيه حقيقي دون الآخر، إما الأول أو
الثاني.
كقوله: (أم أنْزَلنَا عليهم سُلْطاناً) ، أى برهاناً.
(كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16)
تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) .
فإن الدعاء من النار مجاز.
وكقوله: (حتى تضَعَ الحرْبُ أوْزَارَها) .
(تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ) .
(فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) ، فاسم الأم هاوية مجاز، أى أن الأم
كافلة
لولدها ملجأ له، كذلك النار للكافرين كافلة ومأوى ومرجع.
القسم الثاني: المجاز في المفرد، ويسمى المجاز اللغوي، وهو
استعمال اللفظ في غير ما وضع له أولاً، وأنواعه كثيرة:
أحدها، الحذف، وسيأتي مبسوطاً في نوع الإيجاز، فهو به أجدر،
خصوصاً
إذا قلنا: إنه ليس من أنواع المجاز.
الثاني: إطلاق اسم الجزء على الكل، نحو: (وَيَبْقَى وَجْهُ
رَبِّكَ) ، أي ذاته.
(فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ، أي ذواتكم، إذ الاستقبال
يجب بالصدر.
(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) ، (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) .
عبّر بالوجوه عن جميع الأجساد، لأن التنعم والنصب حاصل
لكليهما.
(ذلك بما قدَّمَتْ يدَاكَ) .
(فَبِما كسبَتْ أيديكم) ، أى قدمتم وكسبتم.
نسب ذلك إلى الأيدى، لأن أكثر الأعمال تتناول بها.
(قُمِ اللَّيْلَ) ، (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) .
(وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) .
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) .
أطلق كلاًّ من القراءة
(1/187)
والقيام والركوع والسجود على الصلاة وهو
بعضها.
(هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) ، أي الحرم كله، بدليل أنه لا
يذبح فيها.
الثالث: إطلاق اسم الكل على الجزء، نحو: (يَجْعَلُونَ
أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ)
، أي أناملهم، ونكتة التعبير عنها بالأصابع الإشارةُ إلى
إدخالها
على غير المعتاد، مبالغة من الفرار، فكأنهم جعلوا فيها
الأصابع.
(وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ) ، أي وجوههم،
لأنه لم ير جملتهم.
(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) .
أطلق الشهر، وهو اسم لثلاثين ليلة، وأراد جزءاً منه، كذا أجاب
به الإمام فخر الدين عن استشكال أن الجزء إنما يكون بعد تمام
الشرط، والشرط أن يشهد الشهر، وهو اسم لكله حقيقة، فكأنه أمر
بالصوم بعد مضي الشهر، وليس كذلك.
وقد فسره علي وابن عباس وابن عُمر على أن المعنى من شهد أول
الشهر فليصم جميعه، وإن سافر في أثنائه.
أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما، وهو أيضاً من هذا
النوع، ويصلح
أن يكون من نوع الحذف.
تنبيه:
ألحق بهذين النوعين شيئان:
أحدهما: وصف البعض بصفة الكل، كقوله: (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ
خَاطِئَةٍ (16) .
والخطأ صفة الكل، وُصف به الناصية.
وعكسه: كقوله: (إنّا منكم وَجِلُون) ، والوجل صفة القلب.
(ولَمُلِئْتَ مِنْهُم رُعْبا) .
والرعب إنما يكون في القلب.
والثاني: إطلاق لفظ بعض مرادا به الكل، ذكره أبو عبيدة وخرّج
عليه
قوله: (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ
فِيهِ) ، أي كله.
(وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ)
.
(1/188)
وتعقب بأنه لا يجب على النبي بيان ما اختلف
فيه، بدليل الساعة والروح ونحوهما، وبأن موسى كان وعدهم بعذاب
ذكره في الدنيا والآخرة، فقال: يصبكم بعذاب في الدنيا - وهو
بعض الوعيد - من غير نفي عذاب الآخرة.
ذكره ثعلب.
قال الزركشي: ويحتمل أيضاً أن يقال: إن الوعيد مما لا يستنكر
ترك جميعه.
فكيف بعضه، ويؤيد ما قاله ثعلب قوله: (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ
بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا
يُرْجَعُونَ (77) .
الرابع: إطلاق اسم الخاص على العام، نحو، (إِنَّا رَسُولُ
رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) .
الخامس: عكسه، نحو: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ)
، أي للمؤمنين، بدليل قوله: (ويستَغْفِرُون للَّذِين آمنوا) .
السادس: إطلاق اسم الملزوم على اللازم.
السابع: عكسه، نحو: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ
عَلَيْنَا مَائِدَةً) ، أي هل يفعل - أطلق اسم الاستطاعة على
الفعل، لأنها لازمة له.
الثامن: إطلاق السبب على السبب، نحو: (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ
السَّمَاءِ رِزْقًا) .
(قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا) ، أي مطراً يتسبب عنه
الرزق واللباس.
(لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا) ، أي مؤونة من مَهْرٍ ونفقةٍ وما لا
بد للمتزوج منه.
التاسع: عكسه، وهو نحو: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ
السَّمْعَ) ، أي القبول والعملَ به، لأنه متسبب عن السمع.
تنبيه:
من ذلك نسبةُ الفعل إلى سبب السبب، كقوله: (فَأَخْرَجَهُمَا
مِمَّا كَانَا فِيهِ) .
(كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) ، فإن المخرج
في الحقيقة هو الله، وسبب ذلك أكل الشجرة، وسبب الأكل وسوسةُ
الشيطان.
(1/189)
العاشر: تسمية الشيء باسم ما كان عليه،
نحو: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ)
، أي الذين كانوا يتامى، إذ لا يُتمْ بعد البلوغ.
(فلاَ تَعْضُلُوهنَّ أنْ يَنْكحْنَ أزواجَهنّ) ، أي الذين
كانوا اْزواجهن.
(من يأتِ ربَّه مُجْرِماً) .
سماه مجرما باعتبار ما كان عليه في الدنيا من الإجرام.
الحادي عشر: تسميته باسم ما يؤول إليه، (إني أراني أعْصِرُ
خَمْراً) .
أي عنباً يؤول إلى الخمرية.
(وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) ، أي صائراً
إلى الكفر والفجور.
(حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) .
سماه زوجاً لأن العقد يؤول إلى زوجية لأنها لا تنكح في حال
كونها زوجاً.
(فبشّرْنَاه بغُلام حليم) .
(نُبَشِّرُكَ بغلام عَليم) .
وصفه في حال البشارة بما يؤول إليه من العلم والحلم.
الثاني عشر: إطلاق اسم الحال على المحل، نحو: (فَفِي رَحْمَةِ
الله هم فيها
خالدون) ، أي في الجنة، لأنها محل الرحمة.
(بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) ، أي في الليل.
(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا) ، أي
عيْنك، على قول الحسن.
الثالث عشر: عكسه، نحو: (فليَدع نادِيَه) ، أى أهل ناديه، أي
مجلسه.
ومنه التعبير باليد عن القدرة، نحو: (بِيَدِهِ الملْك) .
وبالقلب عن العقل، نحو: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ
بِهَا) ، أي عقول.
وبالأفواه عن الألسن، نحو: (وتقولون بأفْوَاهِكم) .
وبالقرية عن ساكنيها، نحو: (واسألِ القريةَ) .
وقد اجتمع هذا النوع وما قبله في قوله تعالى: (خُذُوا
زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) ، فإن أخذَ الزينة غير
ممكن، لأنها مصدر، فالمراد محلّها، فأطلق عليه اسم الحال.
وأخذها للمسجد نفسه لا يجب، فالمراد به الصلاة، فأطلق اسم
المحل على الحال.
(1/190)
الرابع عشر: تسمية الشيء باسم آلته، نحو:
(واجعلْ لي لسانَ صِدْق في
الآخِرين) ، أى ثناء حسناً، لأن اللسان آلته.
(وما أرسلنا مِنْ رسولٍ إلاَّ بِلِسانِ قَوْمه) ، أى بلغة
قومه.
الخامس عشر: تسمية الشيء باسم ضده، نحو: (فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)
، والبشارة حقيقة في الخبر السار.
ومنه تسمية الداعي إلى الشيء باسم الصارف عنه، ذكره السكاكي
وخرَّج
عليه قوله تعالى: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) .
يعني ما دعاك إلى ألا تسجد.
وسَلِمَ بذلك من دعوى زيادة لا.
السادس عشر: إضافة الفعل إلى ما لا يصح منه تشبيهاً، نحو:
(جِدَاراً
يُريدُ أن يَنقَضَّ) ، وصفَه بالإرادة، وهي من صفات الحي
تشبيهاً لميله للوقوع بإرادته.
السابع عشر: إطلاق الفعل والمراد مشارفته ومقاربته وإرادته،
نحو: (فإذا
بَلَغْنَ أجلَهُنَّ فأمْسكوهُنّ) ، أي تاربن بلوغ الأجل، أي
انقضاء
العدة، لأن الإمساك لا يكون بعده، وهو في قوله: (فبلغْنَ
أجلهنّ فلا
تَعْضُلُوهنّ) - حقيقة.
(فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا
يَسْتَقْدِمُونَ) ، أي فإذا قرب مجيئه.
وبه يندفع السؤال المشهور فيها: إنه عند مجيء الأجل لا يتصور
تقديم ولا تأخير.
(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ) ، أي لو
قاربوا أن يتركوا خافوا.
لأن الخطاب للأوصياء، وإنما يتوجه إليهم قبل الترك، لأنهم بعده
أموات.
(إذا قُمْتُم إلى الصّلاَة فاغْسِلوا) ، أي أردتم القيام.
(فإذا قرأتَ القرآنَ فاسْتَعِذْ) ، أي أردت القراءة، لتكون
الاستعاذة
قبلها.
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا) ،
أى أردنا إهلاكها، وإلا لم يصح العطف بالفاء.
وجعل منه بعضهم قوله: (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ
الْمُهْتَدِي) ، أي من يرد الله هدايته، وهو حسن جداً لئلا
يتحد الشرط والجزاء.
(1/191)
الثامن عشر: القلب، وهو إما قلب إسناد،
نحو: (إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ) ، أى لتَنوء
العصبةُ بها.
(لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) .
أي لكل كتاب أجل.
(وحرَّمْنَا عليه المراضِعَ من قبْلُ) ، أي حرمناه على
المراضع.
(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) ، أي
تعرض النار عليهم، لأن المعروض عليه هو الذي له الاختيار.
(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) .
أي وإن حبه للخير.
(وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) ، أي يريد بك الخير.
(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) ، لأن المتلقي
حقيقة هو آدم، كما قرئ
بذلك أيضاً.
أو قلب عطف، نحو: (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ) ، أي
فانظر ثم تولَّ.
(ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) .، أي تدلى فدنا، لأنه بالتدلي مال
إلى الدنو.
أو قلب تشبيه، وسيأتي في نوعه.
التاسع عشر: إقامة صيغة مقام أخرى، وتحته أنواع كثيرة:
منها: إطلاق المصدر على الفاعل، نحو: (فإنهم عَدُو لي) ، ولهذا
أفرده.
وعلى المفعول، نحو: (ولا يُحِيطون بشيء من عِلْمِه) ، أي من
معلومه.
(صُنْعَ اللهِ) ، أي مصنوعه.
(وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) ، أي مكذوب فيه،
لأن الكذب من صفات الأقوال لا الأجسام.
ومنه إطلاق البُشرى على المبشّر به، والهوى على المهوي، والقول
على القول.
ومنها إطلاق الفاعل على المصدر، نحو: (لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا
كَاذِبَةٌ) ، أي تكذيب.
وإقامة المفعول مقام المصدر، نحو: (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ)
، أي الفتنة، على أن الباء غير زائدة.
ومنها: إطلاق فاعل على مفعول، نحو: (مَاءٍ دَافِقٍ) ، أي
مدفوق.
(1/192)
(لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ
اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) ، أي لا معصوم.
(جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا) ، أي مأموناً فيه.
وعكسه، نحو: (إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) ، أي آتياً.
(حِجَابًا مَسْتُورًا) ، أي ساتراً.
وقيل: هو علي بابه، أي مستوراً عن العيون لا يحس به أحد.
ومنها: إطلاق فعيل بمعنى مفعول، نحو: (وَكَانَ الْكَافِرُ
عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) .
ومنها: إطلاق واحد من المثنى والمفرد والجمع على آخر منها.
مثال إطلاق المفرد على المثنى، نحو: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) .
أي يرضوهما، فأفرد لتلازم الرضاءين.
وعلى الجمع (إن الإنسانَ لفي خُسْر) ، أي الأناس، بدليل
الاستثناء منه.
(إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا) ، بدليل: (إِلَّا
الْمُصَلِّينَ) .
ومثال إطلاق المثنى على المفرد: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ) ،
أي ألق.
ومنه كل فعل نُسب إلى شيئين، وهو لأحدهما فقط، نحو: (يَخْرُجُ
مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) ، وإنما يخرج من أحدهما
وهو الملح دون العَذْب.
ونظيره: (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا
وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَ)
، وإنما تخرج الحلية من الملح.
(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا) .، أي في إحداهن.
(نَسِيَا حُوتَهما) ، والناسي يوشع.
بدليل قوله لموسى: (فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) ، وإنما أضيف
النسيان إليهما معاً.
لسكوت موسى عنه.
(فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) .
والتعجيل في اليوم الثاني.
(عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) .
قال الفارسي: أي من إحدى القريتين.
وليس منه: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) .
وإن المعنى جنة واحدة، خلافاً للفراء.
وفي كتاب " ذا القدّ " لابن جنّي: أن منه:
(1/193)
(أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي
وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) .
وإنما المتخذ إلهاً عيسى دون مريم.
ومثال إطلاقه على الجمع: (ثم ارْجع البَصَر كرَّتين) ، أي
كرات، لأن البصر لا يحسر إلا بها.
وجعل منه بعضهم: (الطلاقُ مرَّتان) .
ومثال إطلاق الجمع على المفرد: (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) ، أي
ارجعني.
وجعل منه ابن فارس: (فناظِرةٌ بِمَ يَرْجع المرسلون) .
والرسول واحد، بدليل: ارجع إليهم.
وفيه نظر، لأنه يحتمل أنه خاطب رئيسهم، لا سيما وعادة الملوك
جارية ألا يرسلوا واحداً.
وجعل منه: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ) .
(يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ) ، أي جبريل.
(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) . والقاتل
واحد.
ومثال إطلاقه على المثنى: (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) ف.
(قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ) .
(فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) ، أي
أخوان.
(فقد صَغَتْ قلوبُكما) ، أي قلباكما.
(وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ)
... إلى قوله:
(وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) .
ومنها إطلاق الماضي على المستقبل لتحقق وقوعه، لمحو: (أتى
أمْرُ اللَهِ)
، أي الساعة، بدليل: (فلا تستعجلوه) .
(ونُفِخَ في الصّورِ فصعِقَ مَنْ في السماوات ومَنْ في الأرضِ)
.
(وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ
قُلْتَ لِلنَّاسِ) .
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا) .
(وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ) .
وعكسه لإفادة الدوام والاستمرار، فكأنه وقع واستمر، نحو:
(أتأمُرون
الناسَ بالبِرِّ وتنْسَوْنَ أنفُسَكم) .
(وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ
سُلَيْمَانَ)
أي قلت.
(1/194)
(ولقد نعْلَمُ) ، أي علمنا.
(قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) ، أي علم.
(فلِمَ تقتلونَ أنبياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ) ، أي قَتلْتُم.
وكذا: (فريقاً كذَّبْتُم وفريقاً تقْتُلون) .
(ويقول الذين كفروا لسْتَ مُرْسلاً) ، أي قالوا.
ومن لواحق ذلك التعبير عن المستقبل باسم الفاعل أو المفعول،
لأنه حقيقة في
الحال لا في الاستقبال، نحو: (وإنّ الدينَ لواقع) .
(ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) .
ومنها إطلاق الخبر على الطلب أمراً أو نهياً أو دعاء، مبالغة
في الحث عليه.
حتى كأنه وقع وأخبر عنه.
قال الزمخشري: ورودُ الخبر، والمراد به الأمر أو النهي أبلغ من
صريح الأمر أو النهي كأنه سورع فيه إلى الامتثال، وأخبر عنه،
نحو: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ) .
(والمطققَاتُ يتربَّصن) .
(فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) -
على قراءة الرفع.
(وما تُنْفِقون إلا ابتغًاءَ وجْه الله) ، أي لا تنفقوا إلا
ابتغاء وجه الله.
(لا يمسّه إلا المطَهّرون) .
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا
تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) ، أي لا تعبدوا، بدليل قوله:
(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) .
(لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ)
، أي اللهم اغفر لهم.
وعكسه، نحو: (فليَمْدُدْ له الرْحمنُ مَدًّا) ، أي يمد.
(اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ) ، أي ونحن
حاملون، بدليل: (وإنهم لكاذِبون) . والكذِبُ إنما يرِدُ على
الخبر.
(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا) .
وقال الكواشي في الآية الأولى: الأمر بمعنى الخبر أبلغ من
الخبر، لتضمّنه
اللزوم، نحو: إن زرتنا فلنكرمك، يريدون تأكيد إيجاب الإكرام
عليهم.
وقال ابن عبد السلام: لأن الأمر للإيجاب فأشبه الخبرية لإيجابه
(1) .
__________
(1) قال العلامة الدمياطي:
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وكذا أبو جعفر ويعقوب () فلا رفث ولا
فسوق () بالرفع والتنوين وافقهم ابن محيصن واليزيدي والحسن
وقرأ أبو جعفر ولا جدال كذلك بالرفع والتنوين وافقه الحسن ووجه
رفع الأولين مع التنوين أن الأول اسم لا المحمولة على ليس
والثاني عطف على الأول ولا مكررة للتأكيد ونفي الاجتماع وبناء
الثالث على الفتح على معنى الإخبار بانتفاء الخلاف في الحج لأن
قريشا كانت تقف بالمشعر الحرام فرفع الخلاف بأن أمروا أن يقفوا
كغيرهم بعرفة وأما الأول فعلى معنى النهي أي لا يكونن رفث ولا
فسوق
وقرأ الباقون الثلاثة بالفتح بلا تنوين على أن لا لنفي الجنس
عاملة عمل أن مركبة مع اسمها كما لو انفردت. اهـ (إتحاف فضلاء
البشر. 1 / 176 ـ 177) .
(1/195)
ومنها: وضع النداء موضع التعجب، نحو: (يَا
حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ) .
قال الفراء: معناه يا لها من حسرة.
وقال ابن خالويه: هذه من أصعب مسألة في القرآن، لأن الحسرة لا
تنادى، وإنما ينادى الأشخاص، لأن فائدته التنبيه، ولكن المعنى
على التعجب.
ومنها: وضع مجموع القلة موضع الكثرة، نحو: (وهم في الغُرفَاتِ
آمِنُون) .
وغرف الجنة لا تحصى.
(هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ) .
ورتب الناس في علم الله أكثر من العشرة لا محالة.
(يتوفى الأنْفُس) ، (أياماً مَعْدُودات) .
ونكتة التقليل في هذه الآية التسهيل على المكلفين.
وعكسه، نحو: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ
قُرُوءٍ) .
ومنها: تذكير المؤنث على تأويله بمذكر، نحو: (فمن جاءه موعظةٌ
من ربه) ، أي وعظ.
(وأحْيَيْنَا به بلدةً مَيْتاً) ، على تأويل البلدة بالمكان.
(فلما رأى الشمس بازِغَة قال هذا ربي) ، أى الشمس أو الطالع.
(إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) .
قال الجوهري: ذُكّرت على معنى الاستحسان.
وقال الشريف المرتضى قوله: (وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ
(118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) : إن
الإشارة للرحمة، وإنما لم يقل " ولتلك " لأن تأنيثها غير
حقيقي، ولأنه يجوز أن يكون في تأويل أن يرحم.
ومنها: تأنيث المذكر، نحو: (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) .
أنث الفردوس - وهو مذكر - حملاً على معنى الجنة.
(مَنْ جاءَ بالحسنة فله عَشْرُ أمثالها) ، أنث عشراً حيث حذف
الهاء
مع إضافتها إلى الأمثال وواحدها مذكر، فقيل لإضافة الأمثال إلى
مؤنث، وهو ضمير الحسنات، فاكتسب منها التأنيث.
وقيل: هو من باب مراعاة المعنى، لأن الأمثال في المعنى مؤنثة،
لأن مثل الحسنة حسنة، والتقدير: فله عشر حسنات أمثالها.
وسيأتي في آخر الكتاب في القواعد المهمة قاعدة في التذكير
والتأنيث.
(1/196)
ومنها: التغليب، وهو إعطاء شيء حكم غيره.
وقيل ترجيح أحد المغلوبين على الآخر، وإطلاق لفظه عليهما،
إجراء للمختلفين مجرى المتفقين، نحو: (وكانت من الْقَانتين) .
(إلا امرأته كانتْ مِن الغابرين) .
والأصل من القانتات والغابرات، فعدت الأنثى من الذكر بحكم
التغليب.
(بل أنتم قومٌ تجْهَلون) ، أتى بتاء الخطاب تغليباً لجانب أنتم
على جانب قوم.
والقياس أن يؤتى بياء الغيبة، لأنه صفة لقوم، وحسَّن العدول
عنه وقوع الموصوف خبراً عن ضمير المخاطبين.
(اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ
جَزَاؤُكُمْ) ، غّلب في الضمير المخاطبين
وإن كان (منْ تبعك) يقتضي الغيبة، وحسنّه لأنه لما كان الغائب
تبعا
للمخاطب في المعصية والعقوبة جُعل تبعاً له في اللفظ أيضاً.
وهو من محاسن ارتباط اللفظ بالمعنى.
(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ) ، غلّب غير العاقل حيث أتى "بما" لكثرته.
وفي آية أخرى عبّر بمَنْ، فغلب العاقل لشرفه.
(لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ
مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) .
أدخل شعيب في "لَتَعُودُنَّ" بحكم التغليب، إذ لم يكن في ملتهم
أصلا حتى يعود فيها.
وكذا قوله: (إنْ عُدْنا في مِلَّتِكم) .
(فسجد الملائكة ُ كلهم أجمعونَ إلا إبليس) .
عُدّ منهم بالاستثناء تغليبا لكونه كان بينهم.
(يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) ، أي
الشرق والمغرب.
قال ابن الشجري: وغلب المشرق لأنه أشهر الجهتين.
(مَرجَ البَحْرَيْنِ) ، أي الملح والعذب، والبحر خاص بالملح،
فغلّب لكونه أعظم.
(ولكل درجاتٌ) ، أي من المؤمنين والكفار، والدرجات للعلو
والدركات للسفل، فاستعمل الدرجات في القسمين تغليباً للأشرف.
قال في البرهان: وإنما كان التغليب من باب المجاز، لأن اللفظ
لم يستعمل فيما وضع له، ألا ترى أن القانتين موضوع للذكور
الموصوفين بهذا الوصف، فإطلاقه على الذكور والإناث إطلاق على
غير ما وُضع له، وكذا باقي الأمثلة.
(1/197)
ومنها: استعمال حروف الجر في غير معانيها
الحقيقية كما تقدم.
ومنها: استعمال صيغة أفعل لغير الوجوب وصيغة " لا تفعل" لغير
التحريم.
وأدوات الاستفهام لغير طلب التصور أو التصديق، وأدوات التمني
والترجي
والنداء لغيرها، كما سيأتي.
ومنها: التضمين، وهو إعطاء الشيء معنى الشىء، ويكون في الحروف
والأفعال والأسماء، وسيأتي في حروف الجر.
وأما الأفعال فإنه تضمين فعل معنى فعل آخر، ويكون فيه معنى
الفعلين معاً، وذلك بأن يأتي الفعل متعدياً بحرفٍ ليس من عادته
التعدي به، فيحتاج
إلى تأويله أو تأويل الحرف ليصح التعدي به، الأول تضمين الفعل،
والثاني
تضمين الحرف.
واختلفوا أيهما أولى، فقال أهل اللغة وقوم من النحاة: التوسع
في الحرف.
وقال المحققون: التوسع في الفعل، لأنه في الأفعال أكثر، مثاله:
(عَيْناً يشربُ بها عبادُ الله) .
فيشرب إنما يتعدى بمن، فتعديتُه بالباء إما على تضمينه معنى
يروى ويلتذ، أو بتضمين الباء معنى من.
(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى
نِسَائِكُمْ) .
فالرفث لا يتعدى بإلى إلا على تضمين معنى الإفضاء.
(هل لك إلى أنْ تزكّى) .
والأصل في، أو تضمين معنى أدعوك.
(يقْبَلُ التوبةَ عن عباده) .
عُدّيت بعَنْ لتضمينها معنى العفو والصفح.
وأما في الأسماء فإنه تضمين اسم معنى اسم لإفادة معنى الاسمين
معاً، نحو
(حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا
الْحَقَّ) ، ضمّن (حَقِيقٌ) معنى حريص، ليفيد أنه محقوق يقول
الحق وحريص عليه، وإنما كان التضمين
مجازا، لأن اللفظ لم يوضع للحقيقة والمجاز معا، فالجمع بينهما
مجاز.
(1/198)
فصل في أنواع مختلف
في عدها من المجاز
وهي ستة:
أحدها: الحذف، فالمشهور أنه من المجاز، وأنكره بعضهم، لأن
المجاز
استعمال اللفظ في غير موضعه، والحذف ليس كذلك.
وقال ابن عطية: حذف المضاف هو عين المجاز ومعظمه، وليس كل حذف
مجازاً.
وقال الفراء: في الحذف أربعة أقسام:
قسم يتوقف عليه صحة اللفظ ومعناه من حيث الإسناد، نحو (واسأل
القَرْيَة) ، أي أهلها، إذ لا يصح إسناد السؤال إليها.
وقسم يصح بدونه، لكن يتوقف عليه شرعا كقوله: (فَمَنْ كَانَ
مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ) .
أي فأفطر فعدة.
وقسم يتوقف عليه عادة لا شرعًا، نحو: (اضرِبْ بِعَصاكَ
البَحْرَ فانْفَلَق) .
أي فضربه.
وقسم يدل عليه دليل غير شرعي ولا هو عادة، نحو: (فقبضْتُ قبضةً
من
أثر الرسول) ، دلّ الدليل على أنه إنما قبض قبضة من أثر حافر
فرس الرسول.
وليس في هذه الأقسام مجاز إلا الأول.
وقال الزنجاني في المعيار: إنما يكون مجازًا إذا تغير حكم،
فأما إذا لم يتغير
كحذف خبر المبتدأ المعطوف على جملة فليس مجازًا، إذ لم يتغير
حكم ما بقي من الكلام.
وقال القزويني في الإيضاح: من تغيَّر إعراب الكلمة بحذف أو
زيادة فهو
مجاز، نحو: (واسأل القرية) .
(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) .
(1/199)
فإن كان الحذف والزيادة لا يوجب تغيُّر
الإعراب، نحو: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) ، (فَبِمَا
رحمةٍ) ، فلا توصف الكلمة بالمجاز.
الثاني: التأكيد، زعم قوم أنه مجاز، لأنه لا يفيد إلا ما أفاده
الأول.
والصحيح أنه حقيقة.
قال الطرطوسي في العمدة: ومَنْ سماه مجازاً قلنا له: إذا كان
التأكيد بلفظ
الأول، نحو: عجل عجل ونحوه، فإن جاز أن يكون الثاني مجازاً جاز
في الأول، لأنهما في لفظ واحد، إذا بطل حمل الأول على المجاز
بطل حمل الثاني عليه، لأنه مثل الأول.
الثالث: التشبيه: زعم قوم أنه مجاز، والصحيح أنه حقيقة.
قال الزنجاني في " المعيار ": لأنه معنى من المعاني، وله ألفاظ
تدل عليه وضعا
فليس فيه نقلُ اللفظ عن موضوعه.
وقال عز الدين: إن كان بحرف فهو حقيقة أو بحذف فهو مجاز بناء
على أن
الحذف من باب المجاز.
الرابع: الكناية، وفيها أربعة مذاهب:
أحدها: أنها حقيقة.
قال ابن عبد السلام: وهو الظاهر، لأنها استعملت فيما وضعت له،
وأريد به الدلالة على غيره.
الثاني: أنها مجاز.
الثالث: أنها لا حقيقة ولا مجاز، وإليه ذهب صاحب التلخيص لمنعه
في
المجاز أن يراد المعنى الحقيقي مع المجازي وتجويزه ذلك فيها.
الرابع: وهو اختيار الشيخ تقي الدين السبكي أنها تنقسم إلى
حقيقة ومجاز، فإن استعملْتَ اللفظ في معناه مراداً منه لازم
المعنى أيضاً فهو حقيقة، وإن لم
يرد المعنى، بل عبّر بالملزوم عن اللازم فهو مجاز لاستعماله في
غير ما وُضع له.
(1/200)
والحاصل أن الحقيقة منها أن يُستعمل اللفظ
فيما وضع له ليفيد غير ما وضع
له، والمجاز منها أن يريد بها غير موضوعها استعمالاً وإفادة.
الخامس: التقديم والتأخير: عده قوم من المجاز، لأن تقديم ما
رتبته التأخير
كالمفعول، وتأخير ما رتبته التقديم كالفاعل - نقْلٌ لكل واحد
منهما عن رتبته وحقه.
قال في البرهان: والصحيح أنه ليس منه، فإن المجاز نقل ما وضع
إلى ما لم
يوضع له.
السادس: الالتفات، قال الشيخ بهاء الدين السبكي: لم أر مَنْ
ذكر هل هو
حقيقة أو مجاز.
قال: وهو حقيقة حيث لم يكن معه تجريد.
فصل فيما يوصف بأنه حقيقة أو مجاز
باعتبارين
هو الموضوعات الشرعية، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، فإنها
حقائق بالنظر إلى الشرع مجازات بالنظر إلى اللغة.
فصل في الواسطة بين الحقيقة
والمجاز
قيل بها في ثلاثة أشياء -:
أحدها: اللفظ قبل الاستعمال، وهذا القسم مفقود في القرآن،
ويمكن أن
يكون منه أوائل السور على القول بأنها للإشارة إلى الحروف التي
يتركب منها
الكلام.
ثانيها: الأعلام.
ثالثها: اللفظ المستعمل في المشاكلة، نحو: (ومَكرُوا ومَكر
الله) ، (وجَزَاء سيِّئةٍ مِثْلها) .
ذكر بعضهم أنها
(1/201)
واسطة بين الحقيقة والمجاز، قال: لأنه لم يوضع فيما استعمل
فيه، فليس حقيقة، ولا علاقة معتبرة، فليس مجازًا، كذا في شرح
بديعية ابن جابر لرفيقه.
قلت: والذي يظهر أنها مجاز، والعلاقة المصاحبة.
خاتمة
لهم مجاز المجاز، وهو أن يُجْعل المجاز المأخوذ عن الحقيقة
بمثابة الحقيقة
بالنسبة إلى مجاز آخر، فيتجوّز بالمجاز الأول عن الثاني لعلاقة
بينهما، كقوله
تعالى: (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا) ، فإنه مجاز عن
مجاز، فإن الْوَطْء تجوز عنه بالسر، لكونه لا يقع غالبا إلا في
السر، وتجوز به عن العقد، لأنه مسبب عنه، فالمصحح للمجاز الأول
الملازمة والثاني السببية.
والمعنى لا تواعدوهن عقد نكاح.
وكذا قوله: (ومَنْ يكفر بالإيمانِ فقد حَبِطَ عَمَله) ، فإن
قول: (لا إله إلا الله) مجاز عن تصديق القلب بمدلول هذا اللفظ،
والعلاقة السببية، لأن توحيد اللسان مسبب عن توحيد الجنان،
والتعبير بلا إله إلا الله
عن الوحدانية من مجاز التعبير بالقول عن المقول فيه.
وجعل منه ابن السيد قوله: (أنزلنا عليكم لِبَاساً) ، فإن
المنزل عليهم ليس هو نفس اللباس، بل الماء المنبت للزرع المتخذ
منه الغزل المنسوج منه اللباس.
******* |