معترك الأقران في إعجاز القرآن

الوجه السابع والعشرون من وجوه إعجازه (وقوع البدائع البليغة فيه)
وقد أنهاها بعضهم إلى مائتي نوع.
وهو علم يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية المطابقة ووضوح الدلالة.
وقد أفرده بالتصنيف ابن أبي الإصبع، وقد قدمنا منها في نوع الفواصل
والمناسبات والفواتح والخواتم وفي الوَجْه الذي قبل هذا ما لا مزيدَ لذكره.
ونذكر هنا بعضَها لتطَّلِع بذلك على أسرار هذا الكلام الذي أعجز عقول ذوي الأفهام عن إدراك عجائبه التي لا تنقضي، لأنه في أحسن نظام، فإن أيقظ المتكلم به أحدَ هذه الأمة المحمدية للنظر في هذا الكتاب فلا يغفل عن أجرة الدلال الموصل له هذه الذخائر التي يعجز عنها كثير من الطلاب - بالدعاء له بمجاورة الموصّل لنا هذا بعد الصلاة والسلام عليه وعلى جميع الآل والأصحاب.
وإن لم يفتح الله له جملة - وهذا ظني لوصف الخلق بأوصاف البَطَلة - فنرده إلى الله ورسوله، ونسأله بمعاقد العز مِنْ عرشه، ومنتهى الرحمة من كتابه واسمه الأعظم أن يجعله لنا وجميع ما ألَّفْنا وقاية وشفيعا من جميع المكلاره ديناً ودنيا، لأنه وليّ ذلك والقادر عليه.
فمن ألقاب علوم البديع:
الإيهام: ويدعى التّورية: أن يُذكر لفظ له معنيان، إما بالاشتراك، أو
التواطؤ، أو الحقيقة، أو المجاز: أحدهما قريب والآخر بعيد، وئقصد البعيد
وئورّى عنه بالقريب، فيتوهمه السامع في أول وهلة.
قال الزمخشري: لا ترى بابا في البيان أدق ولا ألطفَ من التورية، ولا أنفع
ولا أعون على تعاطي تأويل المتشابهات في كلام الله ورسوله.
قال: ومن أمثلته:
(الرحمنُ على العرش اسْتَوَى) ، فإنَّ الاستواء على معنيين: الاستقرار
في المكان - وهو المعنى القريب المورَّى به الذي هو غير مقصود لتنزيهه تعالى
عنه.

(1/283)


والثاني الاستيلاء والملك، وهذا المعنى البعيد المقصود الذي ورّى عنه
بالقريب المذكور. انتهى.
وهذه التورية تسمى مجردة، لأنها لم يذكر فيها شيء من لوازم المورَّى به ولا
المورَّى عنه.
ومنها ما تسمى مرشَّحة، وهي التي ذُكر فيها شيء من لوازم هذا أو هذا.
كقوله تعالى: (والسماء بَنَيْنَاها بأيْدٍ) ، فإنه يحتمل الجارحة
وهو المورَّى به، وقد ذكر من لوازمه على جهة الترشيح البُنْيان.
ويحتمل القدرة والقوة، وهو البعيد المقصود.
وقال ابن أبي الإصبع في كتابه الإعجاز: ومنها: (قالوا تاللهِ إنَّكَ لفي
ضَلاَلِكَ القديم) .
فالضلال يحتمل الحب وضد الهدى، فاستعمله
أولادُ يعقوب ضد الهدى تورية عن الحب.
(فاليَوْمَ ننَجِّيك بِبَدَنِكَ) .
على تفسيره بالدرع، فإن البدن يطلق عليه وعلى الجسد، والمراد
البعيد وهو الجسد، قال: ومن ذلك قوله تعالى - بعد ذكر أهل الكتاب من
اليهود والنصارى حيث قال: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) .
ولما كان الخطاب لموسى من الجانب الغربي، وتوجهت إليه اليهود، وتوجهت
النصارى إلى المشرق كانت قبلةُ الإسلام وسطاً بين القبلتين، قال تعالى:
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) ، أي خياراً، فظاهر اللفظ
يوهم التوسط مع ما يعضده من توسط قبلة المسلمين - صدق على لفظة " وسط " ها هنا أن يسمي تعالى به لاحتمالها المعنيين.
ولما كان المراد أبعدهما - وهو الخيار - صلحت أن تكون من أمثلة التورية.
قلت: وهي مرشحة بلازم الموري عنه، وهو قوله: (لتكونوا شهداءَ على
الناس) ، فإنه من لوازم كونهم خِيَاراً، أى عدولا، والإتيان قبله من قسم
المجردة.

(1/284)


وفي ذلك قوله: (والنَّجْمُ والشَّجَرُ يَسْجُدَان) ، فإن النجم يطلق على الكوكب، ويرشحه له ذكر الشمس والقمر، وعلى ما لا ساق له من
النبات، وهو المعنى البعيد له وهو المقصود في الآية.
ونقلتُ من خط شيخ الإسلام ابن حَجَر أن التّوْرِية في القرآن قوله تعالى:
(وما أرسلْنَاكَ إلاَّ كافةً للناس) ، فإن كافة بمعنى مانع، أي
يكفُّهم عن الكفر والمعصية والهاء للمبالغة، وهذا معنى بعيد، والمعنى القريب
المتبادر أن المراد جامعة، أي جميعاً، لكن منع مِنْ حمله على ذلك أن التأكيد
يتراخى عن المؤكد، فكما لا تقول رأيت جميعاً الناس لا تقول رأيت كافة
الناس.
ومنها الاستخدام، وهو والتورية أشرفُ أنواع البديع، وهما سيّان، بل فضَّله بعضهم عليها، وله فيه عبارتان:
إحداهما: أن ئؤتى بلفظ له معنيان فأكثر مراداً به أحد معانيه، ثم يؤتى
بضميره مرادآَ به المعنى الآخر، وهذه طريقة السكاكي وأتباعه.
والأخرى أن يؤتى بلفظ مشترك ثم بلفظين يُفهم من أحدهما أحد المعنيين.
ومن الآخر الآخر، وهذه طريقةُ بدر الدين بن مالك في المصباح، ومشى عليه ابن أبي الإصبع، ومثّل له بقوله تعالى: (للِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) .
فلفظ كتاب يحتمل الأمَدَ المحتوم والكتاب المكتوب، فلفظُ
(أجل) يخدم المعنى الأول، " ويمحو " يخدم المعنى الثاني.
ومثّل غيره بقوله تعالى: (لا تقْرَبُوا الصلاةَ وأنتم سُكَارى) .
فالصلاةُ يُحتمل أن يراد بها فعلها وموضعها.
وقوله تعالى: (حتى تعلَمُوا ما تَقُولون) ، يخدم الأولى، و (إلاَّ عابِري سبيل)
يخدم الثاني.
قال: ولم يقع في القرآن على طريقة السكاكي.
قلت: وقد استخرجتُ بفكري آيات على طريقته:

(1/285)


منها قوله: (أتَى أمْرُ اللهِ) .
فأمر الله يُراد به قيام الساعة
والعذاب وبعثة - صلى الله عليه وسلم -، وقد أريد بلفظه الأخير، كما أخرج ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس في قوله: (أتى أمْرُ اللهِ) - قال: محمد، وأعيد الضمير عليه في (تستعجلوه) مُراداً به قيام الساعة والعذاب.
ومنها - وقد أريد بلفظه أظهرها - قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) .، فإن المراد به آدم، ثم أعيد الضمير عليه مراداً به ولده، فقال: (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) .
ومنها قوله تعالى: (لا تسألُوا عن أشياءَ إنْ تُبْدَ لكم تَسُؤْكم) ، ثم قال.
(قد سألها قوم مِنْ قَبْلكم) .
أي أشياء أخر، لأن الأولين لم يسألوا عن الأشياء التي سألوا عنها، فَنُهُوا عن سؤالها.
ومنها الالتفات، وهو نقل الكلام من أسلوب، إلى آخر، أعني من التكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى آخر منها بعد التعبير بالأول، هذا هو المشهور.
وقال السكاكي: إما ذلك أو التعبير بأحدهما فما حقُّه التعبير بغيره.
وله فوائد، منها: تَطْرية الكلام، وصيانة السمع عن الضجَر والملل، لِمَا
جُبِلت عليه النفوس من حب التنقلات، والسآمة من الاستمرار على مِنْوَال
واحد.
هذه فائدته العامة.
ويختص كل موضع بنُكَت ولطائف باختلاف محله كما سنبيِّنُه.
مثالُه من التكلم إلى الخطاب، ووجهه حثّ السامع وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه، وأعطاه فضل عناية وتخصيص بالواجهة - قولُه تعالى: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) .
الأصل: وإليه أرجع.
فالتفت من التكلُّم إلى الخطاب.
ونكتته أنه أخرج الكلام في موضع مُنَاصحته لنفسه، وهو يريد نُصْحَ قومه تلطفاً وإعلاماً أنه يريد لهم ما يريد لنفسه، ثم التفت لكونهم في مقام تخويفهم ودعوتهم إلى الله، كذا جعلوا هذه الآية من

(1/286)


الالتفات، وفيه نظر، لأنه إنما يكون منه إذا قصد الإخبارَ عن نفسه في كلا
الجملتين، وهنا ليس كذلك، لجواز أن يريد بقوله: (وإليه ترجعون)
المخاطبين لا نفْسه.
وأجيب بأنه لو كان المراد ذلك لما صح الاستفهام الإنكارى، لأن رجوع
العَبْد إلى مولاه ليس بمستلزم أن يُعيده غير ذلك الراجع، فالمعنى كيف لا أعبد من إليه رُجوعي، وإنما عدل عن "وإليه أرجع" إلى: (وإليه ترجعون) .
لأنه داخل فيهم، ومع ذلك أفاد فائدة حسنة، وهي تنبيههم على أنه مثلُهم في وجوب عبادة مَنْ إليه الرجوع.
ومن أمثلته أيضاً قوله: (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ) .
ومثاله من التكلم إلى الغَيْبَةِ - ووَجْهه أن يفهم السامع أن هذا غلَطَ المتكلم
وقَصْده من السامع حضر أو غاب، وأنه في كلامه ليس ممن يتلوّن ويتوجه
ويبدي في الغيبة خلافَ ما يبديه في الحضور - قوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) .
والأصل ليغفر لك.
(إنا أعطيناكَ الكوْثَر فصَل لربِّك)
والأصل لنا.
(أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) .
والأصل منا.
(إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) .
والأصل وبي، وعدل عنه لنُكتَتين:
إحداهما دفْعُ التهمة عن نفسه بالعصبية لها.
والأخرى تنبيههم على استحقاقه الاتّباع بما اتصف به من الصفات المذكورة والخصائص المتلوّة.
ومثاله من الخطاب إلى التكلم لم يقع في القرآن، ومثَّل له بعضهم بقوله:
(فاقْضِ ما أنْتَ قاض) .
ثم قال: (إنا آمنّا بربِّنا) .
وهذا المثال لا يصح، لأن شرط الالتفات أن يكون المراد به واحداً.
ومثاله من الخطاب إلى الغيبة:

(1/287)


(وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) .
والأصل بكم، ونكتةُ العدول عن خطابهم إلى حكاية
حالهم لغيرهم التعجّبُ من كفرهم وفعلهم، إذ لو استمر على خطابهم لفاتت
تلك الفائدة.
وقيل: لأن الخطاب أولاً كان مع الناس مؤمنهم وكافرهم، بدليل:
((هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ، فلو كان: وجَرَيْن بكم
للزم الذم للجميع، فالتفت عن الأول للإشارة إلى اختصاصه بهؤلاء الذين شأنهم ما ذكره عنهم في آخر الآية عدولا من الخطاب العام إلى الخطاب الخاص.
قلت: ورأيتُ عن بعض السلف في توجيهه عكسَ ذلك، وهو أن الخطاب
أوله خاص وآخره عام، فأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه قال في قوله: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) - قال: ذكر الحديثَ عنهم، ثم حدث عن غيرهم، ولم يقل: " وجَرَيْنَ بكم"، لأنه قصد أن يجمعهم وغيرهم وجَرَيْن بهؤلاء وغيرهم من الخلق، هذه عبارته.
فلله درُّ السلف، ما كان أوقعهم على المعاني اللطيفة التي يَدْأب المتأخرون فيها زماناً طويلاً، ويُفنون فيها أعمارهم، ثم غايتهم أنْ يحومُوا حول الحمى.
ومما ذُكر في توجيههم أيضاً أنهم وقت الركوب حضروا لأنهم خافوا الهلاكَ
وغلبة الريح، فخاطبهم خطاب الحاضرين، ثم لما جرت الرياح بما تشتهي السفن، وأمنوا الهلاك، لم يبق حضورُهم كما كان، على عادة الإنسان أنه إذا أمن غاب قلبه عن ربه، فلما غابوا ذكرهم الله بصيغة الغيبة، وهذه إشارة صوفية.
ومن أمثلته أيضاً: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) .
(وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) .
(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ) .
والأصل عليكم، ثم قال: (وأنْتُم فيها خالدون) ، فكرر الالتفات.
ومثاله من الغَيْبَة إلى التكلم: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ) .
(وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا) .

(1/288)


(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا) ... إلى قوله: (بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَ) .
ثم التفت ثانياً إلى الغيبة فقال: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) .
وعلى قراءة الحسن ليريه - بالغيبة يكون التفاتاً ثانياً من (باركنا) .
وفي آياتنا التفات ثالث، وفي إنه التفات رابع.
قال الزمخشري: فائدته في هذه الآيات وأمثالها التنبيه على التخصيص بالقدرة، وأنه لا يدخل تحت قدرة أحد.
ومثاله من الغيبة إلى الخطاب: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) .
(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) .
(وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً) .
(إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) .
ومن محاسنه ما وقع في سورة الفاتحة، فإنَّ العَبْدَ إذا ذكر الله تعالى وحْدَه، ثم
ذكر صفاته التي كلُّ صفة منها تبعث على شدة الإقبال، وآخرها: (مالكِ يوْم الدين) ، المفيد أنه مالك للأمر كله في يوم الجزاء - يجد من نفسه حاملاً لا يقدر على دَفعه على خطاب مَنْ هذه صفاته بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمات.
وقيل: إنما اختير لفظُ الغيبة للحمد، وللعبادة الخطاب، للإشارة إلى أن
الحمد دون العبادة في الرتبة، لأنك تحمد نظيرك ولا تعبده، فاستعمل لفظ الحمد مع الغيبة ولفظ العبادة مع الخطاب، لينسبَ إلى العظيم حالَ المخاطبة والمواجهة ما هو أعلى رتبة، وذلك على طريق التأدب.
وعلى نحوٍ من ذلك جاء آخر السورة.
فقال: (الذين أنعمْتَ عليهم) ، مصرِّحاً بذكر المنْعِم وإسناد الإنعام إليه لفظاً، ولم يقل صراط المنعم عليهم.
فلما صار إلى ذكر الغضب زوى عنه لفظه، فلم ينسبه إليه لفظاً، وجاء باللفظ منحرفاً عن ذكر الغاضب، فلم يقل: غير الذين
غضبت عليهم، تأدباً عن نسبة الغضب إليه في اللفظ حال المواجهة.
وقيل: إنه لما ذكر الحَقيق بالحمد، وأجرى عليه الصفات العظيمة من كونه

(1/289)


رب العالمين، ورحماناً ورحيما، ومالكا ليوم الدين - تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن، حقيق بأن يكون معبوداً دون غيره، مستعاناً به، فخُوطب بذلك لتميزه بالصفات المذكورة، تعظيما لشأنه، حتى كأنه قيل: إياك يا مَنْ هذه صفاته نَخُص بالعبادة والاستعانة، لا غيرك.
قيل: ومن لطائفه التنبيه على أن مبتدأ الخلق الغيبةُ منهم عنه سبحانه.
وقصوركم عن محاضرته ومخاطبته، وقيامُ حجاب العظمة عليهم، فإذا عرفوه بما هو له وتوسّلوا للقرب بالثناء عليه، وأقرّوا بالمحامد له، وتعبَّدوا له بما يليق بهم
- تأهلوا لمخاطبته ومناجاته، فقالوا: إياكَ نعبدُ وإياك نستعين.
تنبيهات:
الأول: شرط الالتفات أن يكون الضمير في المنتقَل إليه عائداً في نفس
الأمر إلى المنْتَقل عنه، وإلا يلزم عليه أن يكون في: أنت صديقي - التفات.
الثاني: شرطه أن يكون في جملتين، صرح به صاحب الكشاف وغيره.
الثالث: ذكر التنوخي في الأقصى القريب، وابن الأثير وغيرهما، نوعاً غريباً
من الالتفات، وهو بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله أو تكلمه، كقوله: (غير المغضوب عليهم) بعد (أنعمتَ) ، فإن المعني غير الذين غضبتَ عليهم.
وتوقّف فيه صاحب عروس الأفراح.
الرابع: قال ابن أبي الإصبع: جاء في القرآن من الالتفات قسم غريب جدّاً لم
أظفر في الشعر بمثاله، وهو أن يقدم المتكلم في كلامه مذكورين مرتين، ثم يخبر عن الأول منهما، وينصرف عن الإخبار عنه إلى الإخبار عن الثاني، ثم يعود إلى الإخبار عن الأول، كقوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) .
انصرف عن الإخبار عن الإنسان إلى الإخبار عن ربه تعالى، ثم قال منصرفاً عن الإخبار عن ربه إلى الإخبار عن نفسه: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) .

(1/290)


قال: وهذا يحسن أن يسمَّى التفات الضمائر.
الخامس: يقرب من الالتفات نَقْلُ الكلام من خطاب الواحد أو الاثنين أو
الجمع إلى الخطاب الآخر، ذكره التنوخي وابن الأثير، وهو ستة أقسام أيضاً:
مثاله من الواحد إلى الاثنين: (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ) .
وإلى الجمع: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) .
ومن الاثنين إلى الواحد: (فمَنْ ربُّكما يا موسى) .
(فلا يُخْرِجنّكُمَا مِنَ الجنة فتَشْقَى) .
وإلى الجمع: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) .
ومن الجمع إلى الواحد: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) .
وإلى الاثنين: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) ... إلى قوله: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) .
السادس: ويقرب منه أيضاً - الالتفات من الماضي أو المضارع أو الأمر إلى
آخر: مثاله من الماضي إلى المضارع: (أرْسل الريَاحَ فتُثِير سَحَاباً) .
(خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْ) .
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) .
وإلى الأمر: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ)
(وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ) الحج: 130.
ومن المضارع إلى الماضي: (ويوم يُنْفَخُ في الصُّورِ فَفَزع) .
(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ) .

(1/291)


وإلى الأمر (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) .
ومن الأمر إلى الماضي: (واتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إبراهيم مُصلى وعَهدْنا) .
وإلى المضارع: (وأنْ أقِيمُوا الصلاَةَ واتَّقُوه وهو الذي إليه تُحْشَرون) .
الإطراد
وهو أن يذكر المتكم أسماء آباء المدوح مرتبة على حكم ترتيبها في الولادة.
قال ابنُ أبي الإصبع: ومنه في القرآن قوله تعالى - حكاية عن يوسف: (واتّبعْتُ ملّةَ آبائي إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ) - قال: وإنما لم يأت به
على الترتيب الألوف، فإن العادة الابتداء بالأب ثم بالجد ثم الجد الأعلى، لأنه لم يُرد هنا مجرد ذكر الآباء، وإنما ذكرهم ليذكر ملتهم التي اتبعها، فبدأ بصاحب الملة، ثم بمن أخذها عنه أولاً فأولاً على الترتيب.
ومثله قول أولاد يعقوب: (نَعْبُد إلهكَ وإلهَ آبائك إبراهيم وإسماعيلَ وإسحاق) .
الانسجام
هو أن يكون الكلام لخلوّه عن العَقَدةِ متحدّراً كتحدّر الماء المنسجم، ويكاد
لسهولة تركيبه وعذوبة ألفاظه أن يسيل رقّةْ.
والقرآن كله كذلك.
قال أهل البديع: وإذا قوي الانسجام في النثر جاءت فقراته موزونة بلا
قصد، لقوة انسجامه.
ومن ذلك ما وقع في القرآن موزوناً، فمنه من بحر الطويل: (فَمنْ شاءَ فليُؤْمِنْ ومَنْ شاءَ فلْيَكفُر) .
ومن المديد: (واصْنَعِ الفُلكَ بأعْيُننا) .

(1/292)


ومن البسيط: (فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ) .
ومن الوافر: (ويُخْزِهم ويَنْصُرْكُم عليهم ويَشْفِ صدُورَ قوم مُؤْمنين) .
ومن الكامل: (واللهُ يَهْدِي مَنْ يشاءُ إلى صراط مستقيم) .
ومن الهزَج: (فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا) .
ومن الرَّجَز: (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) .
ومن الرمَل: (وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ) .
ومن السريع: (أو كالّذِي مَرّ على قَرْيةٍ وهي خاوِيةٌ على عُروشها) .
ومن المنْسَرح: (إنّا خلَقْنَا الإنسانَ مِنْ نُطْفَة أمْشَاج نَبْتَلِيه) .
ومن الخفيف: (لا يَكَادُون يَفْقَهُون حديثاً) .
ومن المضارع: (يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) .
ومن المقتضب: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) .
ومن الْمُجْتَث: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) .
ومن المتقارب: (وأُمْلِي لهم إنَّ كَيْدِي مَتِين) .
الإدماج
قال ابن أبي الإصبع: هو أن يدمج المتكلم غرضاً في غرض، أو بديعاً في
بديع، بحيث لا يظهر في الكلام إلا أحد الغرضين أو أحد البديعين، كقوله:
(وله الحَمْدُ في الأولى والآخِرة) .
أدمجت المطابقة في المبالغة،

(1/293)


لأن انفراده تعالى بالحمد في الآخرة - وهي الوقت الذي لا يُحْمد فيه سواه - مبالغةٌ في الوصف بالانفراد بالحمد، وهو وإنْ خرج مخرج المبالغة في الظاهر فالأمرُ فيه حقيقة في الباطن، فإنه ربّ الحمد والمنفرد به في الدارين.
انتهى.
قلت: والأوْلى في هذه أن يقال: إن الآية من إدماج غرض في غرض، فإن
الغرض منها تفرّده تعالى بوصف الحمد، فأدمج فيه الإشارة إلى البعث والجزاء.
الافتنان
هو الإتيان في كلام بفتنين مختلفين، كالجمع بين الفخر والتعزية في قوله
(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) .
فإنه تعالى عزَّى جميع المخلوقات من الإنس والجن والملائكة وسائر
أصناف ما هو قابل للحياة، وتمدّح بالبقاء بعد فناء الموجودات في عشر
لفظات، مع وصفه تعالى ذاتَه وانفراده بالبقاء بالجلال والإكرام سبحانه.
ومنه: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) .
جمع فيها بين هناء وعزاء.
الاقتدار
هو أن يُبرز المتكلم المعنى الواحد في عدة صور، اقتداراً منه على نظم الكلام
وتركيبه، وعلى صياغة قوالب المعاني والأغراض، فتارة يأتي به في لفظ
الاستعارة، وتارة في صورة الإرداف، وحينا في مخرج الإيجاز، ومرة في قالب
الحقيقة.
قال ابن أبي الإصبع: وعلى هذا أتت جميع قصص القرآن، فإنك ترى القصة
الواحدة التي لا تختلف معانيها تأتي في صور مختلفة وقوالبَ من الألفاظ متعددة، حتى لا تكاد تشتبه في موضعين منه، ولا بد أن تجد الفرقَ بين صورها ظاهراً.

(1/294)


ائتلاف اللفظ مع اللفظ وائتلافه مع المعنى
الأول: أن تكون الألفاظ يلائم بعضها بعضاً، بأن يقرَن الغريب بمثله.
والمتداوَل بمثله، رعاية الفاصلة لحسن الجواب والمناسبة.
والثاني: أن تكون ألفاظ الكلام ملائمة للمعنى المراد، فإن كان فخما كانت
ألفاظه فخمة، أو جزلاً فجزلة، أو غريباً فغريبة، أو متداولة فمتداولة، أو
متوسطاً بين الغرابة والاستعمال فكذلك.
فالأول كقوله تعالى: (تاللهِ تَفْتَأ تذكرُ يوسفَ حتى تكونَ حَرَضاً) .
أتى بأغرب ألفاظ القسم وهي التاء، فإنها أقل استعمالاً، وأبعدُ
من أفهام العامة بالنسبة إلى الباء والواو، وبأغرب صيغ الأفعال التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار، فإن " تزال " أقرب إلى الأفهام، وأكثر استعمالاً منها، وبأغرب ألفاظ الهلاك وهو الحرض، فاقتضى حسنُ الوضع في النظم أن تجاور كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة تَوَخيا لحسن الجوار ورغبة في ائتلاف المعاني بالألفاظ، ولتتعادل الألفاظ في الوضع، وتتناسب في النظم.
ولما أراد غير ذلك قال: (وأقسموا باللهِ جهْدَ أيمانهم) .
فأتى بجميع الألفاظ متداولة لا غرابة فيها.
ومن الثاني قوله تعالى: (ولا ترْكَنُوا إلى الّذينَ ظلمُوا فَتَمَّسكُم النارُ) .
لما كان الركون إلى الظالم، وهو الميل إليه، والاعتماد عليه، دون
مشاركته في الظلم.
وجب أن يكون العقاب عليه دون العقاب على الظالم، فأتى
بالمَسّ الذي هو دون الإحراق والاصطلام.
وقوله: (لها ما كَسَبَتْ وعَليها ما اكتسبَت) .
أتى بلفظ الاكتساب المشْعِر بالكلفة والمبالغة في جانب السيئة لثقلها.
وكذا قوله: (فكبْكبُوا فيها هم والغَاوُونَ) ا.
فإنه أبلغ من كبّوا للإشارة إلى أنهم يكبون كَبّاً عنيفاً فظيعاً

(1/295)


(وهم يَصْطَرِخُون فيها) .
فإنه أبلغ من يصرخون للإشارة إلى أنهم يصرخون صراخا
منكراً خارجاً عن الحدّ المعتاد.
(أخْذَ عزيزٍ مُقْتَدِر) .
فإنه أبلغ من قادر، للإشارة إلى زيادة التمكن في القدرة، وأنه لا رادّ له ولا معقّب.
ومثل ذلك: (واصْطَبِرْ) ، فإنه أبلغ من اصبر.
و (الرحمن) أبلغ من الرحيم، فإنه مشعر باللطف والرفق، كما أن الرحمن مشعر بالفخامة والعظمة.
ومنه الفرق بين سقى وأسقى، فإن سقى لما لا كُلْفة معه في السقيا، ولذا
أورده تعالى في شراب الجنة، فقال: (وسقَاهم رَبّهم شرَاباً طَهُوراً) .
وأسقى لما فيه كلفة، ولهذا أورده تعالى في شراب أهل الدنيا، فقال:
(وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) .
(لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) .
لأن السقي في الدنيا لا يخلو من كلفة أبدًا.
الاستدراك والاستثناء
شرط كونهما من البديع أن يتضمّنا ضرباً من المحاسن زائداً على ما يدل عليه
المعنى اللغوي، مثال الاستدراك قوله تعالى: (قالت الأعرابُ آمَنَّا قل لم تؤْمِنُوا ولكن قولُوا أسلَمْنَا) .
فإنه لو اقتصر على قوله: (لم تُؤمنوا) لكان منفِّراً لهم، لأنهم ظنوا الإقرار بالشهادتين من غير اعتقاد إيمانا، فأوجبت البلاغة ذكْرَ الاستدراك، ليعلم أن الإيمان موافقة القلب اللسان، وإن انفرد اللسان بذلك يسمى إسلاما، ولا يسمى إيماناً.
وزاد ذلك أيضاً بقوله: (ولَمّا يدخل الإيمانُ في قلوبكم) .
فلما تضمّن الاستدراك إيضاح ما عليه ظاهر الكلام من الإشكلال عُدَّ من المحاسن.
ومثال الاستثناء: (فلَبِثَ فيهم ألْفَ سنةٍ إلا خمسين عاما) ، فإن الإخبار عن هذه المدة بهذه الصيغة يمهد عذر نوح في دعائه على قومه
بدعوةٍ أهلكتهم عن آخرهم، إذ لو قيل: فلبث فيهم تسعمائة وخمسين عاماً لم يكن فيه من التهويل ما في الأول، لأن لفظة الألف في الأول أولُ ما يطرق السمع

(1/296)


فيشتغل بها عن سماع بقية الكلام.
وإذا جاء الاستثناء لم يبق له بعد ما تقدمه وَقْعٌ
يزيل ما حصل عنده من ذكر الألف.
الاقتناص
ذكره ابن فارس: وهو أن يكون كلامٌ في سورة مقتنصا من كلام في سورة
أخرى أو تلك السورة، كقوله تعالى: (وآتيْنَاه أجْرَهُ في الدنيا وإنّه في الآخرة
لمِنَ الصَّالحين) .
والآخرةُ دار ثواب لا عمل فيها، فهذا مقتنصٌ من قوله: (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) .
ومنه: (ولولا نِعْمَةُ رَبّي لكنْتُ من الْمُحضَرين) .
مأخوذ من قوله: (فأولئك في العذاب مُحْضَرون) .
وقوله: (ويوم يقومُ الأشهاد) .، - مقتنص من أربع آيات.
لأن الأشهاد أربعة: الملائكة في قوله: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) .، والأنبياء في قوله: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) .
وأمة محمد في قوله: (لتكونُوا شُهَدَاء على الناس) .
والأعضاء في قوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ) .
وقوله: (ويوم التَّنَادِ) .
قرىء مخففا ومشدداً، فالأول مأخوذ من قوله: (ونادَى أصحابُ الجنةِ أصحَاب النار) .
والثاني من قوله: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) .
الإبدال
هو إقامة بعض الحروف مقام بعض، وجعل منه ابن فارس: (فَانْفَلَقَ) .
أي فانفرق، ولذا قال: (فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) .
فالراء واللام يتعاقبان.

(1/297)


وعن الخليل - في قوله: (فجَاسوا خِلاَلَ الديار) .
أنه أريد فحاسوا، فقامت الجيم مقام الحاء، وقد قرىء بالحاء أيضاً.
وجعل منه الفارسي: (إنيْ أحبَبْتُ حُبَّ الخير) ، أي الخيل.
وجعل منه أبو عبيدة: (إلاّ مُكاءً وتَصْدِية) .، أي تصددة.
تاكيد المدح بما يشبه الذم
قال ابن أبي الإصبع: هو في غاية العِزَّة في القرآن.
قال: ولم أجد منه إلا آية واحدة، وهي قوله: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ) .
فإن الاستثناء بعد الاستفهام الخارج مخرج التوبيخ على ما عابوا به المؤمنين من الإيمان - يوهم أن ما يأتي بعده مما يوجب أن ينقم على فاعله، مما يُذَم به، فلما أتى بعد الاستثناء ما يوجب مَدْحَ فاعله كان الكلام
متضمنا تأكيد المدح بما يشبه الذم.
قلت: ونظيرها قوله: (وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) .
وقوله: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) .
فإن ظاهر الاستثناء أن ما بعده حق يقتضي الإخراج.
فلما كان صفةَ مدح تقتضي الإكرام لا الإخراج كان تأكيداً للمدح بما يشبه
الذم.
وجعل منه التنوخي في الأقصى القريب: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) .
استثنى (سَلَامًا سَلَامًا) الذي هو ضد اللغو والتأثيم، فكان ذلك مؤكداً لانتفاء اللغو والتأثيم.

(1/298)


التفويف
هو إتيان المتكلم بِمَعَان شتى، من المدح، والوصف، وغير ذلك من الفنون.
كلّ فن في جملة منفصلةٍ عن أختها، مع تساوي الجمل في الزِّنَة، ويكون في الجمل المتوسطة والطويلة والقصيرة.
فمن الطويلة: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) .
ومن المتوسطة: (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) .
قال ابن أبي الإصبع: ولم يأت المركب من الجمل القصيرة في القرآن.
التقسيم
هو استيفاء أقسام الشيء الموجودة، لا الممكنة عقلاً، نحو: (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) .
إذ ليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار، ولا ثالث لهذين القسمين.
وقوله: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) ، فإن العالم لا يخلو من هذه الأقسام الثلاثة، إما عاص ظالمَ لنفسه.
وإما سابق مبادر للخيرات، وإما متوسط بينهما مقتصد فيهما.
ونظيرها: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) .
وكذا قوله تعالى: (لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ) .
استوفى أقسام الزمان، ولا رابع.

(1/299)


وقوله: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ) .
استوفى أقسام الْخَلْق في المشي.
وقوله: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) .
استوفى جميع هيئات الذاكرين.
وقوله: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا) .
استوفى جميع أحوال المتزوجين، ولا خامس لها.
التدبيج
هو أن يذكر المتكمُ ألواناً يقصد التوريَة بها والكناية، قال ابن أبي الإصبع:
كقوله: (وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) .
قال: المراد بذلك - والله أعلم - الكنايةُ عن المشتبه والواضح من
الطرق، لأن الجادة البيضاء هي الطريق التي كثر السلوك عليها جداً، وهي
أوضح الطرق وأبْينُها، ودونها الحمراء، ودون الحمراء السوداء، كأنها في الخفاء والالتباس ضد البيضاء في الوضوح والظهور.
ولما كانت هذه الألوانُ الثلاثة في الظهور للعين طرفين وواسطة، فالطرف الأعلى في الظهور والبياض، والطرف الأدنى في الخفاء والسواد، والأحمر بينهما على وَضْع الألوان في التركيب، وكانت ألوان الجبال لا تخرج عن هذه الألوان الثلاثة، والهداية بكل عَلَم نصب للهداية منقسماً هذه القسمة - أتت الآية الكريمة منقسمةً كذلك، فحصل فيها التدبيج وصحة التقسيم.
التنكيت
هو أن يقصد المتكم إلى شيء بالذكر دون غيره، مما يسد مسدَّه، لأجل نكتة
في المذكور ترجِّح مجيئه على سواه، كقوله تعالى، (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) .
- خص الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم،

(1/300)


وهو تعالى ربُّ كل شيء، لأن العربَ كان ظهر فيهم رجل يعرف بابن أي كبْشَة عَبَد الشًعْرَى، ودعا خلقاً إلى عبادتها، فانزل الله: (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) .، التي ادَّعيتَ فيها الربوبية.
التجريد
هو أن ينتزع من أمرٍ ذي صفة آخر مثله، مبالغة في كمالها فيه، نحو: لي من
فلان صديق حميم.
جرّد من الرجل الصديق آخر مثله متّصفا بصفة الصداقة.
ونحو: مررتُ بالرجل الكريم، والنَّسمة المباركة.
جرَّدوا من الرجل الكريم آخر مثله متصفاً بصفة البركة، وعطفوه عليه، كأنه غيره، وهو هو.
ومن أمثلته في القرآن: (لهم فيها دَارُ الْخُلْدِ) .
ليس المعنى أن الجنة فيها غير دار الخلد، ودار الخلد، بل نفسها دار الخلد، فكأنه جرَّد من الدار داراً - ذكره في المحتسب.
وجعل منه: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) ، على أن المراد بالميت النطفة.
قال الزمخشري: وقرأ عبيد بن عُمَيْر: (فكانَتْ وردةٌ كالذهان)
بالرفع، بمعنى حصلت منها وردة.
قال: وهو من التجريد.
وقرئ أيضاً: (يرِثُني وارِثٌ مِنْ آل يَعْقُوب) .
قال ابن جني: هذا هو التجريد، وذلك أنه يريد: وهَبْ لي من لدنك وَلِيّاً يرثني منه وارث من آل يعقوب، وهو الوارث نفسه، فكأنه جرد منه وارثاً.
التعديد
هو إيقاع الألفاظ المفردة على سياق واحد، وأكثرُ ما يوجد في الصفات.
كقوله: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) .
الاَوة وقوله: (التائبُون العابدُون الحامِدون) .
وقوله: (مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ) .

(1/301)


الترديد
هو أن يورد أوصافَ الموصوف على ترتيبها في الخلقة الطبيعية، ولا يُدْخل
فيها وصفاً زائداً، ومثَّله عبد الباقي اليمني بقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا) .
وبقوله: (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا) .
التضمين
يطلق على أشياء:
أحدها: إيقاع لفظٍ موقع غيره، لتضمنه معناه، وهو نوع من المجاز تقدم
فيه.
الثاني: حصول معنى فيه من غير ذكرٍ له باسم هو عبارة عنه، وهذا نوع من
الإيجاز تقدم أيضاً.
الثالث: تعلُّق ما بعد الفاصلة بها، وهذا مذكور في نوع الفواصل.
الرابع: إدراج الغير في أثناء الكلام لقصد تأكيد المعنى، أو ترتيب النظم.
وهذا هو النوع البديعي.
قال ابن أبي الإصبع: ولم أظفر في القرآن بشيء منه إلا
في موضعين تضمَّنا فصلين من التوراة والإنجيل: قوله: (وكتَبْنَا عليهم أن
النفْسَ بالتفْسِ) .
وقوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) .
ومثلَّه ابن النقيب وغيره بإبداع حكايات المخلوقين في القرآن، كقوله تعالى
- حكاية عن الملائكة: (أتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها ويَسْفِكُ الدماءَ) .
وعن المنافقين: (أنُؤْمِن كما آمَنَ السفهاء) ..
وقالت اليهود، وقالت النصارى.
قال: وكذلك ما أودع فيه من اللغات الأعجمية.

(1/302)


الجناس
هو تَشَابهُ اللفظين في اللفظ، قال في كنز البراعة: وفائدته الميل إلى الإصغاء
إليه، فإن مناسبة الألفاظ تُجَدّد ميلاً وإصغاء إليها، ولأن اللفظ المشترك إذا
حُمل على معنى، ثم جاء والمراد به آخر، كان للنفس تشوق إليه.
وأنواع الجناس كثيرة، منها التام: بأن يتفقا في أنواع الحروف وأعدادها
وهيئتها، كقوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) .
قيل: ولم يقع منه في القرآن سواه.
واستنبط شيخ الإسلام ابن حجر موضعاً آخر، وهو: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) .
وأنكر بعضهم كَوْنَ الآية الأولى من الجناس، وقال: الساعة في الموضعين
بمعنى واحد، والتجنيس أن يتفق اللفظ ويختلف المعنى ولا يكون أحدهما حقيقة والآخر مجازاً، بل يكونان حقيقتين، وزمان القيامة وإن طال لكنه عند الله في حكم الساعة الواحدة، فإطلاقُ الساعة على القيامة مجاز، وعلى الآخر حقيقة، وبذلك يخرج الكلام عن التجنيس، كما لو قلت: لقيت حماراً وركبت حماراً - تعني بليداً.
ومنها: المصحَّف، ويسمى جناسَ الخط، بأن تختلف الحروف في النقط.
كقوله: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) .
ومنها: المحرّف، بأن يقع الاختلافُ في الحركات.
، كقوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) .
ولقد اجتمع التصحيف والتحريف في قوله تعالى: (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) .

(1/303)


ومنها: الناقص، بأن يختلفا في عدد الحروف، سواء كان الحرف المزيد أولاً
أو وسطاً أو آخراً، كقوله: (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) .
(كلِي مِن كل الثَّمَرَاتِ) .
ومنها: المذَيل بأن يزيد أحدهما أكثر من حرف في الآخر أو الأول، وسمى
بعضهم الثاني بالمتوَّج، كقوله: (وانْظُرْ إلى إلهكَ) .
(ولكنَّا كُنّا مُرْسِلين) .
(مَنْ آمَنَ باللهِ) .
(إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) .
(مُذَبْذَبِين بَيْنَ ذَلك) .
ومنها: المضارع، وهو أن يختلفا بحرف مقارب في المخرج، سواء كان في
الأول أو الوسط أو الآخر، كقوله تعالى: (وهم يَنْهَوْن عنه ويَنْأَون عنه) .
ومنها: اللاَّحق، بأن يختلفا بحرف غير مقارب فيه، كقوله تعالى: (ويلٌ
لكلِّ هُمَزةٍ لُمَزة) .
(وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) .
(ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) .
(وإذا جاءهم أمْرٌ من الأمْنِ) .
ومنها: المرْفُوّ، وهو ما تركب من كلمة وبعض أخرى، كقوله: (جُرُفٍ
هَارٍ فانْهَارَ) .
ومنها: اللفظي، بأن يختلفا بحرف مناسب للآخر مناسبة لفظية، كالضاد
والظاء، كقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) .
ومنها: تجنيس القلب، بأن يختلفا في ترتيب الحروف، نحو: (فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) .
ومنها: تجنيس الاشتقاق، بأن يجتمعا في أصل الاشتقاق، ويسمى المقتضب.
نحو: (فَرَوْحٌ ورَيْحانٌ) .
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) .
(وجَّهْتُ وَجْهيَ) .

(1/304)


ومنها: تجنيس الإطلاق، بأن يجتمعا في المشابهة فقط، كقوله: (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ) .
(قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) .
(لِيُرِيَه كيف يوَارِي) .
(وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ) .
(اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) .
(وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى ... إلى قوله: (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) .
تنبيه:
لكون الجناس من المحاسن اللفظية لا المعنوية ترِك عند قوة المعنى، كقوله
تعالى: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) .
قيل: ما الحكمة في أنه لم يقل وما أنت بمصدِّق، فإنه يؤدي معناه مع رعاية التجنيس؟
وأجيب بأن في مؤمن لنا من المعنى ما ليس في مصدق، لأن معنى قولك: فلان مثلاً مصدّق لي: قال لي صدقتَ.
وأما مؤمن فمعناه مع التصديق إعطاء الأمن، ومقصودهم التصديق وزيادة، وهو طلب الأمن، فلذلك عبّر به.
وقد زلَّ بعض الأدباء فقال في قوله: (أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) .
لو قال: وتَدَعون لكان فيه مجانسة.
وأجاب الإمام فخر الدين: بأن فصاحة القرآن ليست لأجل رعاية هذه
التكليفات، بل لأجل قوة المعاني، وجزالة الألفاظ.
وأجاب غيره بأن مراعاة المعاني أولى من مراعاة الألفاظ.
ولو قيل: أتَدْعون وتَدَعون لوقع الالتباس على القاريء، فيجعلهما بمعنى واحد تصحيفاً.
وهذا الجواب غير ناضج.
وأجاب ابن الزّمَلْكاني بأن التجنيس تحسين، وإنما يستعمل في مقام الوعد
والتوعد والإحسان لا في مقام التهويل.
وأجاب الخويّي بأن " يَدع " أخص من يذَر، لأنه بمعنى ترك الشيء مع

(1/305)


اعتنائه بشهادة الاشتقاق، نحو الإيداع، فإنه عبارة عن ترك الوديعة مع الاعتناء بحالها، ولهذا يُختار لها مَنْ هو مؤتمن عليها.
ومن ذلك الدَّعة بمعنى الراحة.
وأما تذر فمعناه الترك مطلقاً، والترك مع الإعراض والرفض الكليّ.
قال الراغب: يقال فلان يذَرُ الشيء: أي يقذفه لقلة الاعتداد به.
ومنه الوَذْرة قطعة من اللحم لقلة الاعتداد بها.
ولا شك أن السياق إنما يناسب هذا دون الأول، فأريد هنا تشنيع حالهم في الإعراض عن ربهم، وأنهم بلغوا الغاية في الإعراض. انتهى.
الجمع
هو أن يجمع بين شيئين أو أشياء - متعددة في حكم، كقوله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) .
جمع المال والبنون في الزينة.
وكذا قوله: (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) .
الجمع والتفريق
هو أن يجمع بين شيئين في معنى واحد ويفرق بين جهتي الإدخال.
وجعل منه الطيبي قوله تعالى: (اللَهُ يَتَوفى الأنْفسَ حِيْنَ مَوْتها) .
جمع النفسين في حكم التوفي، ثم فرق بين جهتي التوفي بالحكم بالإمساك والإرسال، أي الله يتوفى بالإمساك والإرسال، أي الله يتوفى الأنفس التي تُقْبَض والتي لم تُقْبَض، ويمسك الأولى، ويرسل الأخرى.
الجمع والتقسيم
وهو جمع متعددٍ تحت حكم، ثم تقسيمه، كقوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) .

(1/306)


الجمع والتفريق والتقسيم
كقوله تعالى: (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) .
فالجمع في قوله: (لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ، لأنها متعددة
معنى، إذ النكرة في سياق النفي تعم.
والتفريق في قوله: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) .
والتقسيم في قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) .
(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) .
جع المؤتلف والمختلف
هو أن يريد التسوية بين ممدوحين، فيأتي بمعان مؤتلفة في مدحها.
ويروم بعد ذلك ترجيح أحدهما على الآخر بزيادة فضل لا يُنقص الآخر، فيأتي لأجل ذلك بمعان تخالف معنى التسوية، كقوله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) .
سوَّى في الحكم والعلم، وزاد في فَضْل سليمان بالفهم.
حسن النسق
وهو أن يتكلم المتكلم بكلمات متواليات معطوفات متلاحمات تلاحما سليما
مستحسنا، بحيث إذا أفردت كل جملة منها قامت بنفسها، واستقل معناها
بلفظها، ومنه قوله تعالى: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) .
فإنها جمل معطوف بعضها على بعض بواو النسق على الترتيب الذي
تقتضيه البلاغة من الابتداء بالأهم الذي هو انحسار الماء عن الأرض المتوقف
عليه غاية مطلوبِ أهل السفينة، من الإطلاق من سِجنها، ثم انقطاع مادة السماء المتوقف عليه تمام ذلك، من دَفْع أذاه بعد الخروج، ومنع إخلاف ما كان بالأرض، ثم الإخبار بذهاب الماء بعد انقضاء المادتين الذي هو متأخر عنه قطعاً، ثم بقضاء الأمر الذي هو هلاك مَنْ قدّر هلاكه ونجاة من سبق نجاته، وأخر عما قبله لأن علم ذلك لأهل السفينة بعد خروجهم منها، وخروجهم موقوف على ما تقدم، ثم أخبر باستواء السفينة واستقرارها المفيد ذهاب الخوف، وحصول الأمن

(1/307)


من الاضطراب، ثم ختم بالدعاء على الظالمين، لإفادة أن الغرق وإن علم الأرض فلم يشمل إلا من استحق العذاب لظلمه.
عتاب المرء نفسه
ومنه: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) .
وقوله: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) .
العكس
هو أن يُؤْتى بكلام يقدَّم فيه جزء ويؤخَّر آخر، ثم يقدم المؤخر ويؤخر
المقدم، كقوله تعالى: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) .
(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) .
(وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) .
(هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) .
(لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) .
وقد سئل عن الحكمة في عكس هذا اللفظ، فأجاب ابن المنيِّر بأن فائدته
الإشارة إلى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.
وقال الشيخ بدر الدين بن الصاحب: الحقُّ أن كل واحد من فعل المؤمنة
والكافر منفيّ عنه الحل، أما فعل المؤمنة فيحرم لأنها مخاطبة، وأما فعل الكافر
فنفي عنه الحل باعتبار أن هذا الوطء مشتمل على المفسدة، فليس الكفار مورد الخطاب، بل الأئمة، ومن قام مقامهم مخاطبون بمنع ذلك، لأن الشرع أمر بإخلاء الوجود من المفاسد، فاتضح أن المؤمنة نفي عنها الحل باعتبارٍ، والكافر نفي عنه الحل باعتبارٍ.
قال ابن أبي الإصبع: ومن غريب أسلوب هذا النوع: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) .

(1/308)


فإن نظم الآية الثانية عكس نظم الأولى، لتقديم العمل في الأولى عن
الإيمان، وتأخيره في الثانية عن الإسلام.
ومنه نوع يسمى القلب والمقلوب المستوي، وما لا يستحيل بالانعكاس، وهو أن تُقرأ الكلمة من أولها إلى آخرها، كما تُقرأ من آخرها إلى أولها، كقوله: (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) .
(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) .
ولا ثالث لهما في القرآن.
العنوان
قال ابن أبي الإصبع: هو أن يأخذ المتكلم في غَرَض، فيأتي لقصد تكميله
وتأكيده بأمثلة في ألفاظ تكون عنواناً لأخبار متقدمة، وقصص سالفة.
ومنه نوع عظيم جداً، وهو عنوان العلوم، بأن يُذْكر في الكلام ألفاظ تكون مفاتيح لعلوم ومداخل لها، فمن الأول قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا) .
فيها عنوان قصة بلعام.
ومن الثاني قوله تعالى: (انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) .
فيها عنوان علم الهندسة، فإن الشكل المثلث أول الأشكال، فإذا نُصب في الشمس على أي ضلع من أضلاعه لا يكون له ظل لتحديد رؤوس زواياه، فأمر الله تعالى أهل جهنم بالانطلاق إلى ظل هذا الشكل تهكلماً بهم.
وقوله: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) .
فيها عنوان علم الكلام، وعلم الجَدَل، وعلم الهيئة.
الفرائد
وهو مختص بالفصاحة دون البلاغة، لأنه الإتيان بلفظة تتنزل منزلة الفريدة
من العقد، وهي الجوهرة التي لا نظير لها - تدل على عظم فصاحة هذا الكلام وقوة عارضته، وجزالة منطقه، وأصالة عربيته، بحيث لو أسقطت من الكلام عزّتْ على الفصحاء.
ومنه: حَصْحَصَ الحقّ - في قوله: (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) .

(1/309)


والرفث في قوله: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) .
ولفظة "فُزِّعَ" في قوله: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) .
وخائنة في قوله: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ) .
وألفاظ كقوله: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) .
وقوله: (فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) .
القسم
هو أن يريد المتكلم الحلف على شيء فيحلف بما يكون فيه فخر له، أوتعظيم، أو تنويه لقدره، أو ذمٌّ لغيره، أو جاريا مجرى الغزل والترقق، أو خارجاً مخرج الموعظة والزهد، كقوله: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) .
أقسم سبحانه بقسم يوجب الفخر، لتضمنه التمدح بأعظم قدرة وأجل عظمة.
(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) .
أقسم سبحانه بحياة نبيه - صلى الله عليه وسلم - تعظيما لشأنه وتنويهاً بقدره.
وسيأتي في وجه الأقسام أشياء تتعلق بذلك.
اللف والنشر
هو أن يُذكر شيئان أو أشياء إما تفصيلا بالنص على كل واحد أو إجمالاً.
بأن يؤتى بلفظة تشتمل على متعدد، ثم يذكر أشياء على عدد ذلك، كل واحد يرجع إلى واحد من التقدم، ويفوّض إلى عقل السامع ردّ كل واحد إلى ما يليق به.
فالإجمالي كقوله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) ، أي قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا اليهود، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا النصارى.
وإنما سوع الإجمال في اللف ثبوت العناد بين اليهود والنصارى، فلا يمكن أن يقول أحد الفريقين بدخول الفريق الآخر الجنة.
فوثق بالعقل في أنه يرد كل قول إلى فريقه لأمن اللبس.
وقائل ذلك يهود المدينة ونصارى نجران.

(1/310)


قلت: وقد يكون الإجمال في اللف لا في النشر، بأن يُؤْتى بمتعدد، ثم بلفظٍ
يشتمل على صفة تصلح لهما، كقوله تعالى: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) .
على قول أبي عبيدة: إن الخيط الأسود أريد به الفجر الكاذب لا الليل.
وقد بيّنْتهُ في أسرار التنزيل.
والتفصيلي قسمان:
أحدهما: أن يكون على ترتيب اللفظ، كقوله تعالى: (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) ، فالسكون راجع إلى الليل، والابتغاء راجع إلى النهار.
وقوله: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) .
فاللوم راجع إلى البخل، ومحسوراً راجع إلى الإسراف، لأن معناه منقطعا لا شيء عندك.
وقوله: (ألم يَجِدْكَ يَتِما) ... الآيات.
فإن قوله: (فأمَّا اليتيمَ فلا تقْهَر) - راجع إلى قوله: (ألم يَجدْكَ يتما فآوَى) .
وقوله: (فأما السائل فلا تنهر) - راجع إلى: (ووجدَك ضالاَّ) ، فإن المراد السائل عن العلم، كما فسره مجاهد وغيره.
(وأما بنعمة ربك فحدِّث) راجع إلى قوله: (ووجدك عائلاً فأغنى) .
رأيت هذا المثال في شرح الوسيط للنووي المسمى بالتنقيح.
والثاني: أن يكون على عكس ترتيبه، كقوله تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) ... الآيات.
وجعل منه جماعة قوله تعالى: (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) .
قالوا: متى نَصْر الله: قَوْلُ الذين آمنوا، و (ألا إن نَصْرَ الله قريب) قول الرسول.
وذكر الزمخشري له قسماً آخر، كقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) .
قال: هذا من باب اللف، وتقديره: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار.
إلا أنه فصَل بين منامكم

(1/311)


وابتغاؤكم بالليل والنهار، لأنهما زمانان، والزمان والواقع فيه كشيء وقع مع إقامة اللف على الاتحاد.
المشاكلة
ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقاً أو تقديرا، فالأول كقوله
تعالى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) .
(ومكَروا ومكَرَ اللَهُ) .
فإطلاق النفس والمكر في جانب الباري تعالى إنما هو لمشاكلة ما معه.
وكذا قوله: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) ..
لأن الجزاء حق لا يوصف بأنه سيئة.
(فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) .
(الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) .
(فيَسْخَرونَ مِنهم سَخِر اللَهُ منهم) .
(إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) .
ومثال التقديري: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً) .
فقوله: صبغة الله أي تطهير الله، لأن الإيمان يطهر النفوس.
والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية، ويقولون: إنه تطهير لهم، فعبر عن الإيمان بصبغة الله للمشاكلة بهذه القرينة.
المزاوجة
أن يزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء، أو ما جرى مجراهما، كقوله:
إذا ما نهى الناهي فلجّ بِيَ الْهَوَى ... أصاخَتْ إلى الواشي فلجّ بها الهجْر
ومنه في القرآن: (آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) .

(1/312)


المبالغة
أن يذكر المتكلم وصفاً يزيد فيه حتى يكون أبلغ في المعنى الذي قصده، وهي
ضربان:
مبالغة في الوصف، بأن يخرج إلى حد الاستحالة.
ومنه: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) .
و (لا يدخلون الجنّةَ حتى يَلِجَ الجملُ في سَمِّ الخِياطِ) .
ومبالغة في الصيغة، وصيغ المبالغة فَعْلان، كالرحمن.
وفَعِيل، كالرّحيم.
وفَعَّال، كالتوّاب والغَفّار والقَهّار.
وفَعول، كغَفور، وشَكور، ووَدود.
وفَعِل، كحذِر وأَشِر وفَرِح.
وفعَال بالتخفيف، كعجاب، وبالتشديد ككلبّار.
وفُعَل كلُبَد وكبَر.
وفُعْلى كالعُليا، والحسنى، والشورى، والسُّوأى
فائدة
الأكثر على أن فعلان أبلغ من فعيل، ومن ثم قيل الرحمن أبلغ من الرحيم.
وفسره السهيلي بأنه ورد على صيغة التثنية، والتثنية تضعيف، فكأن البناء تضاعف فيه الصفة.
وذهب ابن الأنباري إلى أن الرحيم أبلغ من الرحمن.
ورجحه ابن عسكر
بتقديم الرحمن عليه، وبأنه جيء به على صيغة الجمع، كعبيد، وهو أبلغ من صيغة التثنية.
وذهب قُطرب إلى أنهما سواء.
فائدة
ذكر البرهان الرشيدي أن صفات الله تعالى التي على صفة المبالغة كلها مجاز.
لأنها موضوعة للمبالغة، ولا مبالغة فيها، لأن المبالغة أن يثبت للشيء أكثر مما
له، وصفاته تعالى متناهيةٌ في الكمال لا تمكن المبالغة فيها.
وأيضاً فالمبالغة تكون

(1/313)


في صفاتٍ تقبل الزيادة والنقصان، وصفات الله منزهة عن ذلك.
واستحسنه الشيخ تقي الدين السبكي.
وقال الزركشي في البرهان: التحقيق أن صيغ المبالغة قسمان:
أحدهما: ما تحصل المبالغة فيه بحسب زيادة الفعل.
والثاني: بحسب تعدد المفعولات.
ولا شك أن تعددها لا يوجب للفعل زيادة، إذ الفعل الواحد قد يقع على جماعة متعددين، وعلى هذا القسم تنزل صفاته تعالى، ويرتفع الإشكال.
ولهذا قال بعضهم - في " حكيم ": معنى المبالغة
فيه تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع.
وقال في الكشاف: المبالغة في التوّاب للدلالة على كثرة مَن يتوب عليه من
عباده، أو لأنه بليغ في قبول التوبة، نزّل صاحبها منزلة من لم يذنب قط لسعة كرمه.
، قد أورد بعض الفضلاء سؤالاً على قوله: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
وهو أن قديرًا من صيغ المبالغة، فيستلزم الزيادة على معنى قادر.
والزيادةُ على معنى قادر محال، إذ الإيجاد من وجد لا يمكن فيه التفاضل
باعتبار كل فرد.
وأجيب بأن المبالغة لما تعذَّر حملها على كل فرد وجب صرفها إلى جموع
الأفراد التي دل السياق عليها، فهي بالنسبة إلى كثرة التعلق لا الوصف.
المطابقة
وتسمى الطباق: الجمع بين المتضادين في الجملة، وهو قسمان: حقيقي.
ومجازي.
والثاني: يسمى التكلافؤ، وكل منهما إما لفظي أو معنوي، وإما طباق
إيجاب أو سلب.
فمن أمثلة ذلك: (فليضحَكُوا قليلاً ولْيَبْكُوا كثيرا) .
(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) .

(1/314)


(لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) .
(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ) .
ومن أمثلة المجازي: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) ، أي ضالاَ فهديناه.
ومن أمثلة طباق السلب: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) .
(فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) .
ومن أمثلة المعنوي: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) .
معناه إن ربنا يعلم إنا لصادقون.
(جعل لكم الأرضَ فِرَاشاَ والسماء بِنَاءً) .
قال أبو علي الفارسي: لما كان البناء رافعاً للمبنيّ قوبل بالفراش الذي هو خلاف البناء.
ومنه نوع يسمى الطباق الخفيّ، كقوله: (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا) ، لأن الغرق من صفات الماء، فكأنه جمع بين الماء والنار.
قال ابن منقذ: وهي أخفى مطابقة في القرآن.
وقال ابن المعتز: مِنْ أملح الطباق وأخفاه قوله تعالى: (ولكم في القِصَاصِ
حَيَاة) .، لأن معنى القصاص القتل، فصار القتل سبب الحياة.
ومنه نوع يسمى ترصيع الكلام، وهو اقتران الشيء بما يجتمع معه في قَدْر
مشترك، كقوله: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) .
جاء بالجوع مع العري، وبابه أن يكون مع الظمأ، وبالضحَى مع الظمأ، وبابه أن يكون مع العري، لكن الجوع والعري اشتركا في الخلو، فالجوع خُلوّ البطن من الطعام.
والعري خلو الظاهر من اللباس.
والضحى والظمأ اشتركا في الاحتراق، فالظمأ احتراق الباطن من العطش.
والضَّحى احتراق الظاهر من حر الشمس.
ومنه نوع يسمى المقابلة، وهو أن يُذكر لفظان فأكثر ثم أضدادها على
الترتيب.

(1/315)


قال ابن أبي الإصبع: والفرق بين الطباق والمقابلة من وجهين:
أحدهما: أن الطباق لا يكون إلا في ضدين فقط.
والمقابلة لا تكون إلا بما زاد على الضدين من الأربعة إلى العشرة.
والثاني: أن الطباق لا يكون إلا بالأضداد، والمقابلة بالأضداد وبغيرها.
قال السكاكي: ومن خواص المقابلة أنه إذا شرط في الأول أمرا شرط في
الثاني ضده، كقوله تعالى: (فأمّا مَنْ أعطى واتَّقَى وصدَّق بالحسنى) .
قابل بين الإعطاء والبخْل، والاتقاء والاستغناء، والتصديق والتكذيب، واليسرى والعسرى، ولا جعل التيسير في الأول مشتركاً
بين الإعطاء والاتقاء والتصديق جعل ضده - وهو التعسير - مشتركاً بين
أضدادها.
وقال بعضهم: المقابلة إما لواحد بواحد، وذلك قليل جدّا، كقوله تعالى:
(لا تأخذه سِنَة ولا نَوْم) .
أو اثنين باثنين كقوله تعالى: (فلْيَضحَكُوا قليلاً ولْيَبْكُوا كثيراً) .
أو ثلاثة بثلاثة كقوله: (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) .
(واشْكُروا لي ولا تَكْفرون) .
أو أربعة بأربعة كقوله: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) .
أو خمسة بخمسة كقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) .
قابل بين بعوضة، فما فوقها.
وبين فأمَّا الذين آمَنُوا والذين كفروا.
وبين يضل ويهدي، وبين ينقضون وميثاقه، وبين يقطعون وأن يوصل.
أو ستة بستة، كقوله تعالى: (زيًنَ للناس حبَّ الشهواتِ من النساء والبنين) .
الآيات، ثم قال: (قل أونبّئكم بِخَيْر مِنْ ذلكم) .
قابل الجنّات، والأنهار، والخلد، والأزواج، والتطهير، والرضوان، بإزاء النساء، والبنين، والذهب، والفضة، والخيل المسوَّمة، والأنعام، والحرث.
وقسّم آخر المقابلة ثلاثة أنواع: نظيري، ونقيضي، وخلافي، مثال الأول

(1/316)


مقابلة السنَة بالنوم في الآية الأولى، فإنهما جميعاً من باب الرقاد المقابَل باليقظة في آية، (وتَحْسَبهم أَيقاظاً وهم رقود) .
وهذا مثال الثاني، فإنهما نقيضان.
ومثال الثالث مقابلة الشر بالرشد في قوله: (وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) .
فإنهما خلافان لا نقيضان، فإن نقيض الشر الخير، والرشد الغي.
المواربة
براء مهملة وباء موحدة: أن يقول المتكلم قولاً يتضمن الإنكار عليه، فإذا
حصل الإنكار استحضر بحذْقه وجهاً من الوجوه يتخلص به، إما بتحريف
كلمة، أو تصحيفها، أو زيادة أو نقص.
قال ابن أبي الإصبع: ومنه قوله تعالى
حكاية عن أكبر أولاد يعقوب: (ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) ، فإنه قُرِئ إن ابنك يسرِّق ولم يسرق، فأتى بالكلام
على الصحة بإبدال ضمة من فتحة وتشديد في الراء وكسرها.
المراجعة
قال ابن أبي الإصبع: هي أن.
يحكي المتكلم مراجعةً في القول جرت بينه وبين محاور له بأوجز عبارة، وأعدل سَبك، وأعذب ألفاظ، ومنه قوله تعالى: (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) .
جمعت هذه القطعة - وهي بعض آية - ثلاث مراجعات فيها
معاني الكلام، من الخبر والاستخبار، والأمر والنهي، والوعد والوعيد، بالمنطوق والمفهوم.
قلت: أحسن من هذا أن يُقال جمعت الخبر والطلب، والإثبات والنفي، والتأكيد والحذف، والبشارة والنذارة، والوعد والوعيد.

(1/317)


النزاهة
هي خلوص ألفاظ الهجاء من الفحْش حتى يكون - كما قال أبو عمرو بن
العلاء - وقد سئل عن أحسن الهجاء: هو الذي إذا أنشدته العذراء في خدرها لا يقبح عليها.
ومنه قوله تعالى: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) .
ثم قال: (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) .
فإن ألفاظ ذم هؤلاء الخْبَر عنهم بهذا الخبر أتت منزهة عما يقع في الهجاء من
الفحش.
وسائر هجاء القرآن كذلك.
الإبداع
بالباء الموحَّدة: وهو أن يشتمل الكلام على عدة ضروب من البديع.
قال ابن أبي الإصبع: ولم أر في الكلام مثل قوله تعالى: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) .
فإن فيها عشرين ضرباً، وهي سبع عشرة لفظة، وذلك للمناسبة التامة في (ابلعي) و (أقلعي) ، والاستعارة فيهما، والطباق بين الأرض والسماء، والمجاز في قوله: (يَا سَمَاءُ) ، فإن الحقيقة يا مطر السماء، والإشارة في: وغيض الماء، فإنه عبر به عن معان كثيرة، لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء وتبلع الأرض ما يخرج منها من عيون الماء، فينقص الحاصل على وَجْه الأرض من الماء.
والإرداف في: (واستوت) ، والتمثيل في: (وقضي الأمر) .
والتعليل، فإنَّ (غِيضَ الْمَاءُ) عِلّة الاستواء.
وصحة التقسيم، فإنه استوعب فيه أقسام الماء حالة نقصه، إذ ليس إلا احتباس ماء السماء، والماء النابع من الأرض، وغَيْض الماء الذي على ظهرها.
والاحتراس في الدعاء لئلا يتوهَّم أن الغرق لعمومه شمل مَن لا يستحق الهلاك، فإنَ عَدله تعالى يمنع أن يدعو على غير مستحق.
وحسن النسق، وائتلاف اللفظ مع المعنى.
والإيجاز، فإنه تعالى قص القصة مستوعبة بأخصر عبارة.
والتسهيم، لأن أول الآية يدل على آخرها.
والتهذيب، لأن مفرداتها موصوفة بصفات الحسن، كل لفظة سهلة مخارج

(1/318)


الحروف، عليها رونق الفصاحة، مع الخلو من البشاعة وعقادة التركيب.
وحسن البيان من جهة أن السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام، ولا يشكل عليه شيء منه.
والتمكين، لأن الفاصلة مستقرة في محلها، مطمئنة في مكانها، غير قلقة ولا
مستدعاة، والانسجام.
هذا ما ذكره ابن أبي الإصبع.
وفي بديعة الصفيّ منها مائة وخمسون، فتأملها.
*******