معترك الأقران في إعجاز القرآن

الوجه الثامن والعشرون من وجوه إعجازه (احتواؤه على الخبر والإنشاء)
وأهل البيان قاطبة على انحصار الكلام فيهما، وأنه ليس له قسم ثالث.
وادعى قوم انقسامه إلى خبر وطلب وإنشاء، قالوا: لأن الكلام إما أن
يحتمل التصديق والتكذيب أم لا: الأول الخبر، والثاني إن اقترن معناه بلفظه فهو الإنشاء، وإن لم يقترن بل تأخر عنه فهو الطلب.
والمحققون على دخول الطلب في الإنشاء، وأن معنى " اضْرِبْ " مثلاً - وهو
طلب الضرب - مقترن بلفظه.
وأما الضرب الذي يوجد بعد ذلك فهو متعلق الطلب لا نفسه.
وقد اختلف الناس في حد الخبر، فقيل: لا يحد لعسْره.
وقيل: لأنه ضروري، لأن الإنسان يفرق بين الإنشاء والخبر ضرورة، ورجَّحه الإمام في المحصول.
والأكثر على حدّه، فقال القاضي أبو بكر والمعتزلة: الخبر الذي يدخله
الصدق والكذب، فأورِد عليه خبر الله تعالى، فإنه لا يكون إلاَّ صادقاً.
، أجاب القاضي بأنه يصح دخوله لغة.
وقيل: الذي يدخله التصديق والتكذيب، وهو سالم من الإيراد المذكور.
وقال أبو الحسن البصري: كلام يفيد بنفسه نسبة، فأورِد عليه نحو: قمْ، فإنه يدخل في الحد، لأن القيام منسوب والطلب منسوب.

(1/319)


وٍ قيل: الكلام المفيد بنفسه إضافةَ أمر من الأمور إلى أمر من الأمور نفياً أو
إثباتا.
وقيل: القول المقتضي بتصريحه نسبةَ معلوم إلى معلوم بالنفي أو الإثبات.
وقال بعض المتأخرين: الإنشاء ما يحصل مدلوله في الخارج بالكلام، والخبر
خلافه.
وقال مَنْ جعل الأقسام ثلاثة: الكلام إن أفاد بالوضع طلباً فلا يخلو إما أن
يطلب ذكر الماهية، أو تحصيلها، أو الكفّ عنها، والأول الاستفهام.
والثاني الأمر.
والثالث النهي.
وإن لم يفِدْ طلباً بالوضع فإن لم يحتمل الصدق والكذب
سمِّيَ تنبيهاً وإنشاء، لأنك نبَّهْتَ به على مقصودك، وأَنشأته، أي ابتكرته، من غير أن يكون موجوداً في الخارج، سواء أفاد طلباً لازماً، كالتمنّي والترجّي والنداء والقسم، أم لا، كأنتِ طالق، وإن احتملهما من حيث هو فهو الخبر.
فصل
القصد بالخبر إفادة المخاطب.
وقد يرد بمعنى الأمر، نحو: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ) .
(والمطَلَّقاث يَتَرَبّصْنَ) .
وبمعنى النهي، نحو: (لا يمَسّه إلا المطَهَّرون) .
وبمعنى الدعاء، نحو: (وإياك نَستَعِين) .
ومنه: (تَبتْ يَدَا أبي لهَب) ، فإنه دعاء عليه.
وكذا: (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) .
(غلَّتْ أيديهم ولُعِنوا بما قَالوا) .
وجعل منه قوم: (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) .
قالوا: هو دعاء عليهم بضيق صدورهم عن قتال أحَد.
ونازع ابن العريي في قولهم: إن الخبر يرد بمعنى الأمر أو النهي، فقال في قوله
تعالى: (فلا رَفَثَ ولا فسوق) ، - ليس نفياً لوجود الرفث، بل لنفي مشروعيته، فإن الرفث يوجد من بعض الناس، وأخبار الله لا يجوز أن

(1/320)


تقع بخلاف مخبره، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعاً لا إلى وجوده محسوساً، كقوله: (والمطَلَّقَات يترتصْنَ) ، ومعناه مشروعاً لا محسوساً.
فإنا نجد مطلقات لا يتربصن، فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود
الحسّي.
وكذا: (لا يمسهُ إلا المطهَّرون) ، أي لا يمسه أحد منهم شرعاً، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع.
قال: وهذه الدقيقة التي فاتت العلماء، فقالوا: إن الخبر يكون بمعنى النهي وما وُجِد ذلك قط، ولا يصح أن يوجد، فإنهما مختلفان حقيقة متباينان وضعاً. انتهى.
فرع
من أقسامه على الأصح التعجب.
قال ابن فارس: وهو تفضيل لشيء على أضرابه.
وقال ابن الصائغ: استعظام صفة، خرج بها المتعجَّب منه عن نظائره.
وقال الزمخشري: معنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين، لأن
التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله.
وقال الرّماني: المطلوب في التعجب الإبهام، لأن من شأن الناس أن يتعجبوا مما لم يُعرف سببه، فكلما استبهم السبب كان التعجب أحسن.
قال: وأصل التعجب إنما هو للمعنى الخفي سببه.
والصيغة الدالة عليه تسمى تعجباً مجازاً، قال: ومن أجل الإبهام لم تعمل
" نعم " إلا في الجنس من أجل التفخيم، ليقع التفسير على نحو التفخيم بالإضمار قبل الذكر.
تم قد وضعوا للتعجب صيغاً من لفظه، وهي ما أفعل، وأفعل به، وصيغاً
من غير لفظه، نحو (كَبر) ، كقوله تعالى: (كَبُرَتْ كلمةً تخرجُ من أفواههم) .
(كبر مَقْتاً عند الله) .
(كيف تكفرونَ بالله) .

(1/321)


قاعدة
قال المحققون: إذا ورد التعجب من الله صرِف إلى المخاطب، كقوله تعالى:
(فما أَصْبَرَهم على النار) ، أي هؤلاء يجب أن يتعجب منهم.
وإنما لا يوصف تعالى بالتعجب، لأنه استعظام يصحبه الجهل، وهو تعالى منزه
عن ذلك، ولهذا تُعَبِّر جماعة بالتعجيب بدله، أي أنه تعجيب من الله
للمخاطبين.
ونظير هذا مجيء الدعاء والترجي منه تعالى، إنما هو بالنظر إلى ما
تفهمه العرب، أي هؤلاء مما يجب أن يقال لهم: عندكم هذا.
ولهذا قال سيبويه في قوله تعالى: (لعله يتذكّر أو يَخْشَى) .
المعنى اذهبا على رجائكما وطمعكما.
وفي قوله: (وَيْلٌ للمطفّفين) .
(ويْلٌ يومئذٍ للمكذِّبين) .
لا نقول هذا دعاء، لأن الكلام بذلك قبيح، ولكن العرب إنما تكلموا بكلامهم، وجاء القرآن على لغتهم وعلى ما يعنونه، فكأنه قيل لهم: "ويل للمطففين "، أي هؤلاء ممن وجب هذا القول لهم، لأن هذا الكلام إنما يقال لصاحب الشر والهلَكة، فقيل: هؤلاء ممن دخل في الهلكة.
فرع
من أقسام الخبر الوعد والوعيد، نحو: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) .
(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) .
وفي كلام ابن قتيبة ما يوهم أنه إنشاء.
فرع
من أقسام الخبر النفي، بل هو شطر الكلام كله.
والفرق بينه وبين الجَحْد أن النافي إن كان صادقاَ سمّي كلامه نفياً، ولا يسمى جحداً.
وإن كان كاذباً سمي نفياً وجحداً أيضاً، فكل جحد نفي، وليس كل نفي جحداً.
ذكره أبو جعفر النحاس وابن الشجَري وغيرهما.

(1/322)


مثال النفي: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ) .
ومثال الجَحْد نفي فرعون وقومه آيات موسى، قال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) .
وأدوات النفي: لا، ولات، وليس، وما، وإنْ، ولم، ولمَّا، وستأتي في
حروف المعجم.
ونورد هنا فائدة زائدة، قال الخُوَيّي: أصل أدوات النفي لا، وما، لأن
النفي إما في الماضي وإما في المستقبل، والاستقبال أكثر من الماضي أبدًا، ولا
أخفّ من ما، فوضعوا الأخف للأكثر.
ثم إن النفي في الماضي إما أن يكون نفيًا واحدًا مستمرا، أو نفياً فيه أحكام
متعددة، وكذلك النفي في المستقبل، فصار النفي على أربعة أقسام.
واختاروا له أربع كلمات: ما، ولم، ولن، ولا، فأما إن ولمّا فليسا بأصلين، فما ولا في الماضي والمستقبل متقابلان.
ولم كأنه مأخوذ من لا وما، لأن لم نفي للاستقبال لفظا
والمضِيّ معنى، فأخذ اللام من لا التي هي لنفي المستقبل والميم من " ما "التي
هي لنفي الماضي، وجمع بينهما إشارة إلى أن في "لم " إشارة إلى المستقبل
والماضي، وقدم اللام على اليم إشارة إلى أن " لا " هي أصل النفي، ولهذا يُنفى بها في أثناء الكلام، فيقال لم يفعل زيد ولا عمرو.
أما لما فتركيب بعد تركيب، كأنه قال: لم وما لتوكيد معنى النفي في الماضي.
وتفيد الاستقبال أيضاً، ولهذا تفيد لما الاستمرار.
تنبيهات
الأول: زعم بعضهم أن شرط صحة النفي عن الشيء صحة اتصافِ النفي
عنه بذلك الشيء، وهو مردود بقوله: (وما ربّك بغافل عما يعملون) .
(وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) .
(لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ) ، ونظائره.

(1/323)


والصواب أن انتفاء الشيء عن الشيء قد يكون لكونه لا يمكن منه عقلا.
وقد يكون لكونه لا يقع منه مع إمكانه.
الثاني: نفي الذاتِ الموصوفة قد يكون نفيًا للصفة دون الذات، وقد يكون
نفياً للذات أيضاً.
من الأول: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ) .
أي بل هم جسد يأكلونه.
ومن الثاني: (لا يسألونَ النَّاسَ إلحافاً) .
أي لا سؤال لهم أصلاً، فلا يحصل منهم إلحاف.
(مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) .
أي لا شفيع لهم أصلاً.
(فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) .
أي لا شافعين لهم تنفعهم شفاعتهم، بدليل: (فما لنا من شافعِين) .
ويسمى هذا النوع عند أهل البديع نفي الشيء بإيجابه.
وعبارة ابن رشيق في تفسيره: أن يكون الكلام ظاهره إيجاب الشيء وباطنه نفيه، بأن ينفي ما هو من سببه، كوصفه، وهو المنفي في الباطن.
وعبارة غيره: أن تنفي الشيء مقيداً والمراد نفيه مطلقاً مبالغة في النفي
وتأكيداً له.
ومنه: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) ، فإن الإله مع الله لا يكون إلا عن غير برهان.
(وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) ، فإن قَتْلهم لا يكون إلا بغير حق.
(رفَع السماواتِ بغير عَمَدٍ ترونها) .
فإنها لا عمد لها أصلاً.
الثالث: قد ينفي الشيء أصلاً لعدم كمال وصفه، أو انتفاء ثمرته، كقوله في
صفة أهل النار: (لا يموت فيها ولا يحيىَ) .
فنفى عنه الموت، لأنه ليس بموت صريح، ونفى عنه الحياة لأنها ليست بحياة طيبة ولا نافعة.
(وتَرَاهم ينْظُرون إليكَ وهم لا يُبْصرون) .
فإن المعزلة احتجّوا بها على نفي الرؤية، فإن النظر في قوله: (إلى رَبِّها نَاظِرة) ، لا يستلزم الإبصار.

(1/324)


وردّ بأن المعنى أنها تنظر إليه بإقبالها عليه، وليست تبصر شيئا.
(وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) .
فإنه وصفهم أولاً بالعلم على سبيل التوكيد القَسَمِي، تم نفاه آخراً عنهم لعدم جريهم على موجب العلم، قاله السكاكي.
الرابع: المجاز.
قالوا: يصح نفيه بخلاف الحقيقة.
وأشكل على ذلك: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) .
فإن المنفي فيه الحقيقة.
وأجيب بأن المراد بالرمي هنا المرتَّب عليه، وهو وصوله إلى الكفار، فالوارد
عليه النفي هنا مجاز لا حقيقة، والتقدير: وما رميت خلقاً إذ رميت كسباً.
أو ما رميت انتهاء إذ رميت ابتداءً.
الخامس: نفي الاستطاعة قد يراد به نفي القدرة والإمكان، وقد يراد به
نفي الامتناع، وقد يراد به الوقوع بمشقَّة وكلفة.
من الأول: (فلا يستطيعون تَوْصِيَةً) .
(فلا يستطيعون ردَّها) .
(فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) .
ومن الثاني: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) .
على القراءتين، أي هل يفعل، أو هل تجيبنا إلى أن نسأل، فقد علموا أنَ الله قادر على الإنزال، وأن عيسى قادر على السؤال.
ومن الثالث: (إنك لن تَسْتَطِيع مَعِي صَبْرا) .
قاعدة
نفى العام يدل على نفي الخاص، وثبوتُه لا يدل على ثبوته، وثبوث الخاص
يدل على ثبوت العام، ونفيه لايدل على نفيه.
ولا شك أن زيادة المفهوم من اللفظ توجب الالتذاذ به، فلذلك كان نفي العام أحسنَ من نفي الخاص، وإثبات الخاص أحسن من إثبات العام.
فالأول كقوله:

(1/325)


(فلمّا أضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذهب اللَّهُ بِنورِهم) ، ولم يقل بضوئهم بعد قوله: أضاءت، لأن النور أعم من الضوء، إذ يقال على القليل والكثير، وإنما يقال الضوء على النور الكثير.
ولذلك قال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا) .
ففي الضوء دلالةٌ على النور، فهو أخص منه، فعدمه يوجب عدم الضوء
بخلاف العكس.
والقصدُ إزالة النور منه أصلاً، ولذلك قال عَقِبَه: (وتركهم في ظلمات لا يُبْصِرون) .
ومنه: (لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ) ، ولم يقل ضلال، كما قالوا: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) .
لأنها أعم منه، فكان أبلغ في نفي الضلال.
وعبَّر عن هذا بأن نَفْيَ الواحد يلزم منه نفي الجنس ألبتَّة، وبأن نفي
الأدنى يلزم منه نفي الأعلى.
والثاني كقوله: (وجَنَّةٍ عَرْضها السماوات والأرضُ) .
- ولم يقل طولها، لأن العرض أخصّ، إذ كلّ ما له عَرْض فله طول ولا ينعكس.
ونظير هذه القاعدة أن نفي المبالغة في الفعل لا يستلزم نفي أصل الفعل.
وقد أشكل على هذا آيتان: قوله تعالى: (وما رَبُّكَ بظلاَّمٍ للعَبِيد) .
وقوله: (وما كان ربك نَسِيًّا) . م
وأجيب عن الآية الأولى بأجوبة:
أحدها: أن ظلاّماً، وإن كان لِلْكثرة، جيء به في مقابلة العبيد الذي هو
جَمْع كثرة، ويرشّحه أنه تعالى قال: (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ، فقابل صيغة فعَّال
بالجمع.
وقال في آية أخرى: (عَالِم الغَيْبِ) - فقابل صيغة فاعل الدال على
أصل الفعل بالواحد.
الثاني: أنه نفَى الظلم الكثير، فينتفي القليلُ ضرورة، لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم، فإذا ترك الكثير مع زيادة نَفْعه فلأن يترك القليل أولى.
الثالث: أنه على النسبة، أي بذي ظلم.
حكاه ابنُ مالك عن المحققين.

(1/326)


الرابع: أنه أتى بمعنى فاعل لا كثرة فيه.
الخامس: أن أقلَّ القليل لو ورد منه تعالى لكان كثيراً، كما يقال: زَلّة العالم كبيرة.
السادس: أنه أراد ليس بظالم، ليس بظالم، تأكيدا للنفي، فعبّر عن ذلك
بقوله: ليس بظلام.
السابع: أنه أراد جواباً لمن قال: ظلاَّم، والتكرار إذا ورد جواباً لكلامٍ
خاصّ لم يكن له مفهوم.
الثامن: أن صيغة المبالغة وغيرها من صفات الله سواء في الإثبات، فجرى
النفي على ذلك.
التاسع: أنه قصد التعريض بأن ثَمَّ ظلاّماً للعَبِيد مِنْ وُلاَة الْجَوْر.
ويجاب عن الثانية بهذه الأجوبة، وبعاشر - وهو مناسبة رؤوس الآيات.
فائدة
قال صاحب الياقوتة: قال ثعلب والمبرد: العرب إذا جاءت بين الكلامين
بجَحْدَيْن كان الكلام إخباراً، نحو: (وما جعَلْنَاهمْ جَسداً لا يأكلونَ الطَّعَامَ) .
المعنى إنا جعلناهم جسداً يأكلون الطعام.
وإذا كان الجحد في أول الكلام كان جَحْدا حقيقياً، نحو: ما زيد بخارج.
وإذا كان في أول الكلام جَحدان كان أحدهما زائداً، وعليه: (فِيمَا إنْ مكنّاكم فيه) ، في أحد الأقوال.
فصل
من أقسام الإنشاء الاستفهام، وهو طلب الْفَهم، وهو بمعنى الاستخبار.
وقيل الاستخبار ما سيق أولاً ولم يفهم حقَّ الفهم، فإذا سألت عنه ثانياً كان
استفهاماً، حكاه ابن فارس في فقه اللغة.

(1/327)


وأدواته: الهمز ة، وهل، وما، ومَنْ، وأيّ، وكم، وكيف، وأين، وأنّى، ومتى، وأيّان، وستأتي في حروف المعجم.
قال ابن مالك في المصباح: وما عدا الهمزة نائب عنها، ولكونه طلب ارتسام
صورة ما في الخارج في الذهن لزم أن يكون حقيقة من شاكّ مصدق بإمكان
الإعلام، فإن غير الشاكّ إذا استفهم يلزم عليه تحصيلُ الحاصل، وإذا لم يصدق بإمكان الإعلام انتفت عنه فائدة الاستفهام.
قال بعض الأئمة: وما جاء في القرآن على لفظ الاستفهام فإنما يقع في خطاب
الله تعالى على معنى أن المخاطَبَ عنده علم ذلك الإثبات أو النفي حاصل.
وقد تُستعمل صيغة الاستفهام في غيره مجازاً.
وألّف في ذلك العلامة شمس الدين بن الصائغ كتاباً سماه " روض الأفهام في أقسام الاستفهام ".
قال فيه: قد توسّعَتِ العرب فأخرجت الاستفهام عن حقيقته لمعان أو أشْرَبَتْة تلك المعاني.
ولا يختص التجوُّز في ذلك بالهمزة خلافاً للصفّار.
الأول: الإنكار، والمعنى فيه على النفي، وما بعده منفي، ولذلك تصحبه
" إلا "، كقوله: (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35) .
(وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) .
وعطف عليه المنفي كقوله: (فمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضلَّ اللَّهُ وما لهم مِنْ ناصِرين) ، أي لا يهدي.
ومنه: (أَنؤْمِن لك واتّبعك الأرْذَلون) .
(أنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْن مِثلنا) .
أي لا نؤمن.
(أمْ لَهُ البناتُ ولكمُ البَنُون) .
(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) .
أي لا يكون هذا.
(أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) ، أي ما شهدوا ذلك.
وكثيراً ما يصحبه التكذيب، وهو في الماضي بمعنى لم يكن، وفي المستقبل
بمعنى لا يكون، نحو: (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) .
أي لم يفعل ذلك.
(أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) .
أي لا يكون هذا الإلزام.

(1/328)


الثاني: التوبيخ، وجعله بعضهم من قبيل الإنكار، إلا أن الأول إنكار
إبطال، وهذا الإنكار توبيخ.
والمعنى أن ما بعده واقع جدير بأن يُنفى، فالنفي
هنا قصديّ، والإثبات قصدي، عكس ما تقدم.
ويعبر عن ذلك بالتقريع أيضاً، نحو: (أفعصَيْتَ أمْرِي) .
(أتَعْبُدونَ ما تنْحِتُون) .
(أتَدْغونَ بَعْلاً وتَذَرُون أحسنَ الخالقين) .
وأكثر ما يقع التوبيخ في أمر ثابت وبِّخَ على فعله، كما يقع على ترك فعل
ينبغي أن يقع، كقوله: (أوَلمْ نعَمِّرْكم ما يَتَذكّر فيه مَنْ تَذَكَّر) .
(أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) .
الثالث: التقرير، وهو حمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر
عنده.
قال ابن جني: ولا يستعمل ذلك بهل، كما يستعمل بغيرها من أدوات
الاستفهام.
وقال الكندي: ذهب كثير من العلماء في قوله: (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ)
إلى أنَّ (هل) تشارك الهمزة في معنى التقرير والتوبيخ، إلا أني رأيت أبا عليٍّ أنكر ذلك، وهو معذور، فإن ذلك من قبيل الإنكار.
ونقل أبو حيان عن سيبويه أن استفهام التقرير لا يكون بهل، إنما يستعمل في
الهمزة.
ثم نقل عن بعضهم أن (هل) تأتي تقريراً كما في قوله: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) .
والكلام مع التقرير موجب، ولذلك يعطف عليه صريح الموجب، ويعطف على صريح الموجب.
فالأول: كقوله تعالى: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) .
(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) .
(أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) .
والثاني: (أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا) ، على ما قرره الجرجاني من جعلها مثل: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) .

(1/329)


وحقيقة استفهام التقرير أنه استفهام إنكار.
والإنكار تفْيٌ، وقد دخل على النفي، ونفي النفي إثبات.
ومن أمثلته: (ألَيْسَ الله بكافٍ عَبْدَه) .
(أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) .
وجعل منه الزمخشري: (ألم تعلم أنَّ اللهَ على كل شيء قدير) .
الرابع: التعجب أو التعجيب، نحو: (كيف تَكْفرونَ باللَّهِ) .
(مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ) .
وقد اجتمع هذا القِسْم وسابقاه في قوله: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) .
قال الزمخشري: الهمزة للتقرير مع التوبيخ والتعجيب من حالهم.
ويحتمل التعجبَ والاستفهام الحقيقي: (ما وَلاَّهم عن قِبْلَتِهمْ) .
الخامس: العتاب، كقوله: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) .
قال ابن مسعود: ما كان بين إسلامهم وبين أن عوتبوا بهذه الآية إلا أربع سنين. أخرجه الحاكم.
ومن ألطف ما عاتب الله به خَيْرَ خلقه بقوله: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) ، ولم يتأدّب الزمخشريُّ بأدب الله في هذه الآية على عادته في سوء أدبه.
السادس: التذكير.
وفيه نوع اختصار، كقوله: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) .
(ألم أَقلْ لكم إني أعلم غَيْبَ السماواتِ والأرضِ) .
(هل علمْتم ما فعلْتم بيوسف وأخيه) .
السابع: الافتخار، نحو: (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) .
الثامن: التفخيم، نحو: (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) .

(1/330)


التاسع: التهويل والتخويف، نحو: (الحاقّة ما الحاقة) .
(القارعةُ ما القارِعة) .
العاشر: عكسه، وهو التسهيل والتخفيف، نحو: (وماذَا عليهم لو آمَنُوا) .
الحادي عشر: التهديد والوعيد، نحو: (ألم نُهْلِكِ الأوّلين) .
الثاني عشر: التكثير، نحو: (فكأيِّن مِنْ قَرْيةٍ أهلكناها) .
الثالث عشر: التسوية، وهو الاستفهام الداخل على جملة يصح حلول الصدر محلها، نحو: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) .
الرابع عشر: الأمر، نحو: (أأسْلَمْتُم) ، أي أسلموا.
(فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ، أي انتهوا.
(أتصبرون) ، أي اصْبِروا.
الخامس عشر: التنبيه، وهو من أقسام الأمر، نحو: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) ، أي انظر.
(ألم تَرَ أن الله أنزل من السماء ماء فتُصْبِحُ الأرْضُ مخْضَرَّة) .
ذكره صاحب الكشاف عن سيبويه، ولذلك رفع الفعل في جوابه.
وجعل منه قوم: (فأين تذهبون) ، للتنبيه على الضلال، وكذا: (ومَنْ
يَرْغَبُ عن ملّة إبراهيم إلاَّ مَنْ سفِهَ نَفْسَه) .
السادس عشر: الترغيب، نحو: (مَنْ ذا الّذِي يُقْرِضُ اللَهَ قَرْضاً حَسَناً) .
(هل أدلكم على تجارةٍ تنْجِيكم) .
السابع عشر: النهي، نحو: (أتَخْشَوْنَهُم فاللَهُ أحقّ أن تَخْشوه) .
بدليل قوله ة (فلا تخْشَوا الناسَ واخْشَونِ) .
(مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) ، أي لا تغتر به.

(1/331)


الثامن عشر: الدعاء، وهو كالنهي، إلا أنه من الأدنى إلى الأعلى، نحو:
(أتهْلِكنَا بما فعل السّفَهَاءُ منّا) ، أي لا تهلكنا.
التاسع عشر: الاسترشاد، نحو: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا) .
العشرون: التمني، نحو: (فهل لنا مِنْ شفَعاء) .
الحادي والعشرون: الاستبطاء، نحو: (متى نَصْرُ الله) .
الثاني والعشرون: العرض، نحو: (ألا تحِبّونَ أن يَغْفِرَ الله لكم) .
الثالث والعشرون: التحضيض، نحو: (ألا تقَاتلون قَوْماً نَكَثوا أيْمَانَهم) .
الرابع والعشرون: التجاهل، نحو: (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا) .
الخامس والعشرون: التعظيم، نحو: (مَنْ ذا الّذِي يَشْفَعُ عنده إلا بإذنه) .
السادس والعشرون: التحقير، نحو: (أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) .
(أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) .
ويحتمله وما قبله قراءة: (مَنْ فِرْعَوْن) .
السابع والعشرون: الاكتفاء، نحو: (أليْسَ في جهَنَّم مَثْوًى للمتَكبِّرِين) .
الثامن والعشرون: الاستبعاد، نحو: (أنَّى لهم الذِّكْرَى) .
التاسع والعشرون: الإيناس، نحو ة (وما تلْكَ ييَمِينكَ يا موسى) .

(1/332)


الثلاثون: التهكم والاستهزاء، نحو: (أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ) .
(أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) .
الحادي والثلاثون: التأكيد لما سبق من معنى أداة الاستفهام قبله، كقوله:
(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) .
قال الموفق عبد اللطيف البغدادي: أي مَنْ حقّ عليه كلمة العذاب فإنك لا تنْقِذه فَمنْ للشرط، والفاء جواب الشرط، والهمزة في أفأنت معادة مؤكَّدة لطول الكلام.
وهذا نوع من أنواعها.
قال الزمخشري: الهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد.
الثاني والثلاثون: الإخبار، نحو: (أفِي قلُوبهم مَرَضٌ أم ارْتَابُوا) .
(هل أتى على الإنسان) .
تنبيهات
الأول: هل يقال إن معنى الاستفهام في هذه الأشياء موجود وانضم إليه
معنى آخر، أو تجرّد عن الاستفهام بالكلية.
قال في عروس الأفراح: محل نظر.
والذي يظهر الأول.
قال: ويساعده قول التنوخي في الأقصى القريب: إن لعل تكون للاستفهام مع بقاء الترجّي.
قال: ومما يرجحه أن الاستبطاء في قولك: كم أدعوك؟ معناه أن الدعاء وصل إلى حد لا أعلم عدده، فأنا أطلب أن أعلم عدده، والعادة تقضي بأن الشخص إنما يستفهم عن عدد ما صدر منه إذا كثُر فلم يعلمه، وفي طلب فَهْم عدده ما يُشعر بالاستبطاء.
وأما التعجب فالاستفهام معه مستمر، فمن تعجَّب من شيء فهو بلسان الحال
سائل عن سببه، وكأنه يقول: أي شيء عرض لي في حال عدم رؤية الهدهد، وقد صرح في الكشاف ببقاء الاستفهام في هذه الآية.

(1/333)


وأما التنبيه على الضلال فالاستفهام فيه حقيقي، لأن المعنى أين تذهب.
أخبرني إلى أي مكان تذهب، فإني لا أعرف ذلك.
وغاية الضلال لا يُشْعَر بها إلى أين تنتهي.
وأما التقرير فإن قلنا: المراد به الحكم بثبوته فهو خبر بأنّ المذكور عَقِب
الأداة واقع، أو طلب إقرار المخاطب به مع كون السائل يعلم، فهو استفهام
يقرر المخاطَب، أي يطلب منه أن يكون مقرًّا به، وفي كلام أهل الفن ما
يقتضي الاحتمالين.
والثاني أظهر.
وفي الإيضاح تصريح به ولا بِدْعَ في صدور الاستفهام، ممن يعلم المستفهم منه، لأنه طلب الفهم، إما طلب فَهْم المستفهم أو وقوع فهم لمن لم يفهم كائنا من كان.
وبهذا تنحلُّ إشكالات كثيرة في مواقع الاستفهام ويظهر بالتأمل بقاء معنى الاستفهام مع كل أمر من الأمور المذكورة. انتهى ملخصاً.
الثاني: القاعدة أن المبهم يجب أن يَليَ الهمزة.
وأشكل عليها قوله تعالى: (أَفأَصفَاكمْ رَبُّكمْ بِالْبَنِين) .
فإن الذي يليها هنا الإصفاء بالبنين، وليس هو المنكر، وإنما المنكر قولهم: إنه اتخذ من الملائكة إناثا.
وأجيب بأن لفظ الإصفاء يشعر بزعم أن البنات لغيرهم، أو بأن المراد مجموع
الجملتين، وينحلُّ منهما كلام واحد.
والتقدير أجمع بين الإصفاء بالبنين واتخاذ البنات.
وأشكل منه قوله تعالى: (أتأمرونَ الناسَ بالبِرّ وَتنْسَوْنَ أنفسكم) .
ووجْهُ الإشكال أنه لا جائز أن يكون المنكر أمر الناس بالبر فقط، كما
تقتضيه القاعدة المذكورة، لأن أمر البر ليس مما ينكر، ولا نسيان النفس فقط، لأنه يصير ذكْر أمر الناس بالبر لا مدخل له، ولا مجموع الأمرين، لأنه يلزم أن تكون العبادة جزء المنكر، ولا نسيان النفس بشرط الأمر، لأن النسيان منكر مطلقاً، ولا يكون نسيان النفس حال الأمر أشدَّ منه حال عدم الأمر، لأن المعصية لا تزداد بشاعتها بانضمامها للطاعة، لأن جمهور العلماء على أن الأمر

(1/334)


بالبِرّ واجب، وإن كان الإنسان ناسياً لنفسه وأمره لغيره بالبر كيف يضاعف
معصية نسيان النفس، ولا يأتي الخير بالشر.
قال في عروس الأفراح: ويجاب بأن فعل المعصية مع النهي عنها أفحش.
لأ بها تجعل حال الإنسان كالتناقض، وتجعل القول كالمخالف للفعل، ولذلك
كانت المعصية مع العلم أفحش منها مع الجهل.
قال: ولكن الجواب على أن الطاعة الصرفة كيف تضاعف المعصية المقارنة لها مع جنسها، فيه دقَّة.
فصل
من أقسام الإنشَاء الأمْرُ
وهو طلب فعل غير كفّ، وصيغته افعَلْ وليِفْعل.
وهي حقيقة في الإيجاب، نحو: (أقيموا الصلاة) (فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ) .
وترد مجازاً لمعان أخر، منها:
الندب: نحو: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) .
والإباحة، نحو: (فكاتِبوهم) .
نصّ الشافعيّ على أن الأمر فيه للإباحة.
ومنه: (وإذا حلَلْتمْ فاصطَادوا) .
والدعاء من السافل للعالي، نحو: (رَبِّ اغْفِرْ لي) .
والتهديد، نحو: (اعْمَلُوا ما شِئْتم) ، إذ ليس المرادُ الأمر بكل عمل شاءوا.
والإهانة، نحو: (ذقْ إنكَ أنْتَ العزير الكريم) .
والتسخير، أي التذليل، نحو: (كونوا قِردةً) .
وعبَّر به عن نَقْلهم من حالة إلى حالة إذلالاً لهم، فهو أخص من الإهانة.
والتعجيز، نحو: (فأتُوا بسورة منْ مِثْله) .
إذ ليس المراد طلب ذلك منهم، بل إظهار عجزهم.

(1/335)


والامتنان، نحو: (كلوا مِنْ ثَمَرِه إذا أثمر) . ا
والعجب، نحو: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ) .
والتسوية، نحو: (فاصْبِروا أو لا تصْبِروا) .
والإرشاد، نحو: (وأشْهدوا إذا تبايعْتم) .
والاحتقار، نحو، (ألقوا ما أنتم مُلْقُون) .
والإنذار، نحو: (قل تمتَّعوا) .
والإكرام، نحو: (ادخلُوها بسلام) .
والتكوين - وهو أعم من التسخير، نحو: (كن فيَكون) .
والإنعام، أي تذكير النعمة، نحو: (كلُوا ممّا رزقكم الله) .
والتكذيب، نحو: (قل فأتوا بالتّوْرَاةِ فاتْلُوهَا) .
(قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا) .
والمشورة، نحو: (فانْطرْ ماذا تَرَى) .
والاعتبار، نحو: (انطروا إلى ثَمَره إذا أثمر) .
والتعجب، نحو: (أسْمِعْ بهم وأبْصِر) .
ذكره السكاكي في استعمال الإنشاء بمعنى الخبر.
فصل
ومن أقسامه النهي
وهو طلب الكف عن فِعْل.
وصيغته " لا تَفْعَل "، وهي حقيقة في التحريم.
وترد مجازاً لمعان، منها:
الكراهة: نحو: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا) .

(1/336)


والدعاء، نحو: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) .
والإرشاد، نحو: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) .
والتسوية، نحو: (فاصْبِروا او لا تَصْبِروا) .
والاحتقار والتقليل، نحو: (ولا تَمدَّنّ عينَيْكَ) .
أي فهو قليل حقير.
وبيان العاقبة، نحو: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) .
أي عاقبة الجهاد الحياة لا الموت.
واليَأس، نحو: (لا تَعتَذِروا اليومَ) .
والإهانة، نحو: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) .
فصل
ومن أقسامه التمني
وهو طلب حصول شيء على سبيل المحبة، ولا يشترط إمكان التمنَّى بخلاف
المترجَّى، لكن نُوزع في تسمية تَمَنِّي المحال طلباً، بأن ما لا يتوقَّع كيف يُطلب.
قال في عروس الأفراح: فالأحسن ما ذكره الإمام وأتباعه من أن التمني
والترجي والنداء والقسم ليس فيها طلب، بل هو تنبيه.
ولا بِدْع في تسميته إنشاء. انتهى.
وقد بالغ قوم فجعلوا التمنَي من أقسام الخبر، وأن معناه النفي، والزمخشري
ممن جزم بخلافه، تم استشكل دخول التكذيب في جوابه في قوله: (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) ...
إلى قوله: (وإنَّهم لكاذِبون) .
وأجاب بتضمّنه معنى العِدة فتعلق به التكذيب.

(1/337)


وقال غيره: التمني لا يصح فيه الكذب، وإنما الكذب في التمنَّى الذي يترجح عند صاحبه وقوعه، فهو إذاً وارد على ذلك الاعتقاد الذي هو ظن، وهو خبر صحيح.
قال: وليس المعنى في قوله: (وإنهم لكاذبون) أن ما تمتوا ليس
بواقع، لأنه ورد في معرض الذم لهم، وليس في ذلك التمنى ذم، بل التكذيب.
ورد على إخبارهم عن أنفسهم أنهم لا يكذبون وأنهم يؤمنون.
وحرف التمني الموضوع له (ليت) ، نحو: (يا ليتنا نُرَدُّ) .
(يا ليْتَ قَوْمي يعْلَمون) .
(يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)) .
وقد يتمنّى بهل حيث يُعْلَم فَقْدُهُ، نحو: (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا) .
أَو بـ لَو، نحو: (فلو أنَّ لنا كَرّة فنكون) .
ولذا نصِب الفعل في جوابها.
وقد يُتَمنّى بـ لعل في البعيد، فيعطي حكم ليت في نَصْبِ الجواب: نحو:
(لَعَلِّي أبلُغُ الأسبابَ أسبابَ السماوات فأطَّلِعَ.
ومن أقسامه الترجّي
نقل القَرافي في " الفُروق " الإجماع على أنه إنشاء، وفرّق بينه وبين التمني بأنه في الممكن، والتمني فيه وفي المستحيل، وبأن الترجي في القريب، والتمني في البعيد، وبأن الترجي في المتوقَّع والتمني في غيره، وبأن التمني في المعشوق للنفس، والترجي في غيره.
وسمعت شيخنا الكافيجي يقول: الفرق بين التمني وبين العَرْض هو الفرق
بينه وبين الترجي.

(1/338)


وحرف الترجي: لعل، وعسى، وقد ترِد مجازا لتوقع محذور، ويسمى
الإشفاق، نحو: (لعل الساعةَ قَرِيب) .
فصل
ومن أقسامه النداء
وهو طلب إقبال المدعوّ على الداعي بحرفٍ نائب مناب أدعو، ويصحب في
الأكثر الأمر والنهي.
والغالب تقدمه، نحو: (يا أيُّها الناسُ اعبدوا ربَّكم) .
(يا عِبَادِ فاتّقون) .
(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) .
(ويا قَوْم استَغْفروا ربّكم) .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) .
وقد يتأخّر، نحو: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) .
وقد يصحب الجملة الخبرية فتعقبها جملة الأمر، نحو (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) . الحج: 73.
(يا قَوْم هذه ناقةُ اللهِ لكم آيةً فذَرُوها) .
وقد لا تعقبها، نحو: (يا عباَدِ لا خَوْفٌ عليكم) .
(يا أيها الناس أنْتُم الفُقَرَاء) . ف
(يا أبت هذا تأوِيلُ رُؤياي) .
وقد تصحبه الاستفهامية، نحو: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ) .
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) .
(وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ) .
وقد ترد صورة النداء لغيره مجازًا، كالإغراء والتحذير، وقد اجتمعا في
قوله: (ناقةَ اللهِ وسقْيَاها) . ا
والاختصاص، كقوله: (رحمةُ اللهِ وبركاتهُ عليكم أهْلَ البيت) .

(1/339)


والتنبيه، كقوله: (أَلاَّ يسجدوا) .
والتعجب، نحو: (يا حسرة على العبادِ) .
والتحسّر، كقوله: (يا ليتني كنْتُ ترَابا) .
قاعدة
أصل النداء بـ يا أن يكون للبعيد حقيقة أو حكماً، وقد ينادى بها القريب
لنكتة، منها إظهار الحرص في وقوعه على إقبال المدعوّ، نحو: (يا موسى أَقْبِل ولا تَخَفْ) .
ومنها كون الخطاب المتلوّ معتنًى به، كقوله: (يا أيها الناسُ اعبُدوا ربَّكم) .
ومنها قصد تعظيم شأن المدعوّ، نحو: (يا ربِّ) .
وقد قال تعالى: (فإنّي قَرِيب) .
ومنها قصد انحطاطه، كقول فرعون: (وإني لأظنّك يا موسى مَسْحُورا) .
فائدة
قال الزمخشري وغيره: كرر في القرآن النداء ب " يا أيها " دون غيره، لأن فيه أوجهاً من التأكيد، وأسباباً من المبالغة.
منها ما في " يا " من التأكيد والتنبيه وما في " ها " من التنبيه، وما في التدرج
من الإبهام في " أي " إلى التوضيح، والمقام يناسب المبالغة والتأكيد، " لأن " كل ما نادى الله عباده من أوامره ونواهيه، وعِظَاته وزوَاجره، ووعْدِه ووعيده، ومن اقتصاص أخبار الأمم الماضية، وغير ذلك مما أنطق الله به كتابه أمور عظام وخطوبٌ جسام، ومعان واجب عليهم أن يتيقَّظوا لها، ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها وهم غافلون، فاقتضى الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ.

(1/340)


فصل
ومن أقسامه القَسَم
نقل القَرَافي الإجماع على أنه إنشاء، وفائدته تأكيد الجملة الخبرية وتحقيقها
عند السامع.
ومن أقسامه الشرط.
*******
الوجه التاسع والعشرون من وجوه إعجازه (إقسامه تعالى في مواضع لإقامة الحجة وتأكيدها)
وقد أفرده ابن القيم في مجلد سماه " التبيان ".
فإن قلت: ما معنى القسم منه تعالى، فإنه إن كان لأجل المؤمن فالمؤمن
مصدِّق بمجرد الإخبار من غير قسم، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده.
وأجيب بأن القرآن نزل بلغة العرب، ومن عادتها القسم إذا أرادت أن تؤكد
أمراً، حتى جعلوا مثل: (والله يشهَد إنَّ المنافقين لكَاذِبون) .
- قَسماً، وإن كان فيه إخبار بشهادة، لأنه لما جاء توكيداً للخبر سمي قسماً.
قال أبو القاسم القشَيْري: وذلك لأن الحكم يفصَل باثنين، إما بالشهادة.
وإما بالقَسَم، فذكر تعالى في كتابه النوعين، حتى لا تبقى لهم حجة، فقال:
(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ) .
وقال: (قل إي ورَبّي إنه لَحَقُّ) .
وعن بعض الأعراب أنه لما سمع قوله تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) .
صاح وقال: من الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين.
ولا يكون القسم إلا باسم معظّم.
وقد أقسم اللَّهُ تعالى بنفسه في القرآن في

(1/341)


سبعة مواضع: الآية المذكورة، بقوله: (قلْ إي ورَبّي) .
(قل بلى ورَبي لتبْعَثنَّ) .
(فَوَرَبِّك لنحشرَنّهمْ والشياطِينَ) .
(فَوَرَبِّكَ لنسأَلَنَّهم أجمعين) .
(فلا ورَبِّك لا يؤْمِنون) .
(فلا اقسم بربِّ المشارِقِ والمغارب) .
والباقي كله قَسَم بمخلوقاته، كقوله: (والتين والزيتون) .
(والصافّات) .
(والليل) .
(والشمس) .
(والضَّحى) .
(فلا أقسم بالخنس) .
فإن قيل: كيف أقسم بما يَخْلُق، وقد ورد النهي عن القسم بغير الله؟
قلت: أجيب عنه بأجوبة:
أحدها: أنه على حذف مضاف، أي ورب التَين، ورب الشمس، وكذا
الباقي.
الثاني: أن العرب كانت تعظم هذه الأشياء وتقْسم بها، فنزل القرآن على ما
يعرفون.
الثالث: أن الأقسام إنما تكون بما يعظمه المقسم أو محبه، وهو فوقه، والله
تعالى ليس شيء فوقه.
فأقسم تارة بنفسه، وتارة بمصنوعاته، لأنها تدل على أنه بارئ صانع.
قال ابن أبي الإصبع - في أسرار الفواتح: القَسم بالمصنوعات يستلزم القسم
بالصانع، لأن ذكر المفعول يستلزم ذكر الفاعل، إذ يستحيل وجود مفعول من غير فاعل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن، قال: إن الله يقسم بما شاء من خلقه، وليس لأحد أن يُقسم إلا بالله.
وقال العلماء: أقسم الله تعالى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (لَعَمْرُكَ) ، ليعرف الناس عظمتَه عند الله ومكانته لديه.
أخرج ابن مَرْدويه عن ابن عباس، قال: ما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ نفساً

(1/342)


أكرم عليه من محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا سمعت الله أقسم بحياة مخلوق غيره، قال: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) .
وقال أبو القاسم القشيري: القسم بالشيء لا يخرج عن وجهين: إما لفضيلة، أو لمنفعة، فالفضيلة كقوله: (وطور سِينِينَ، وهذا البَلَد الأمين) والمنفعة.
نحو: (والتين والزيتون) .
وقال غيره: أقسم تعالى بثلاثة أشياء: بذاته كالآيات السابقة، وبفِعْله نحو:
(والسماء وما بَنَاهَا، والأرْضِ وما طَحَاها، ونفس وما سوّاهَا) .
وبمفعوله نحو: (والنجْم إذا هوى) .
(والطور. وكتابٍ مسطور) .
والقسم إما ظاهر كالآيات السابقة.
وإما مضمر، وهو قسمان: قَسَم دلّت عليه اللام نحو: (لتبْلَوُنَّ في أموالكم وأنفسكم) .
وقسم دل عليه المعنى، نحو: (وإنْ منكم إلاَ وَارِدها) .
تقديره: والله.
وقال أبو علي الفارسي: الألفاظ الجارية مجرى القسم قسمان:
أحدهما ما تكون كغيرها من الألفاظ التي ليست بقَسم، فلا تجاب بجوابه.
كقوله: (وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) .
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) . البقرة: 63.
(فيَحْلِفون له كما يَحْلِفون لكم) .
وهذا ونحوه يجوز أن يكون قسماً، وأن يكون حالاً لخلوّه من الجواب.
والثاني ما يتلقى بجواب القَسَم في قوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) .
(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ) .
وقال غيره: أكثر الأقسام في القرآن المحذوفة الفعل لا تكون إلا بالواو.
فإذا ذكرت الباء أتي بالفعل، كقوله: (وأقسموا بالله جَهْدَ أيمانهم) .
(يحلِفُونَ بالله) .
ولا تجد الباء مع حذف الفعل.

(1/343)


ومِن ثَمَّ كان خطأ مَنْ جعل قسماً باللَه: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) .
(ادع لنا ربكَ بما عهِد عِنْدَك) .
(بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ) .
وقال ابن القيّم: اعلم أنه سبحانه يقسم بأمور على أمور، وإنما يقسم بنفسه
المقدسة الموصوفة بصفاته أو بآياته المستلزمة لذاته وصفاته، وإقسامُه ببعض
المخلوقات دليل على أنه من عظيم آياته.
فالقَسَم إما على جملة خبرية، وهو الغالب، كقوله: (فَوَرَبِّ السماء والأرض إنَّه لَحق) .
وإما على جملة طلبية، كقوله: (فوَرَبِّك لَنَسْألنَّهمْ أجمعين) .
مع أن هذا القسم قد يراد به تحقيق المقسم عليه، فيكون من باب الخبر، وقد يراد به تحقيق المقسم، فالقسم عليه يُراد بالقسم توكيده وتحقيقه، فلا بد أن يكون مما نحن فيه، وذلك كالأمور الغائبة الخفيّة، إذا أقسم على ثبوتها.
فأما الأمور المشهودة الظاهرة، كالشمس، والليل، والنهار، والسماء، والأرض - فهذه يقسم بها ولا يُقْسَم عليها.
وما أقسم عليه الرب فهو من آياته، فيجوز أن يكون مقسَماً
به، ولا ينعكس.
وهو سبحانه يذكر جواب القسم تارة وهو الغالب، ويحذفه أخرى كما
يحذف جواب " لو " كثيراً للعلم.
ولما كان القسم يكثر في الكلام اختصر، فصار فعل القسم يحذف ويكتفى
بالباء، تم عوّض من الباء الواو في الأسماء الظاهرة، والتاء في اسم الله، كقوله: (وتاللهِ لأَكيدَنَّ أصْنَامَكم) .
قال: ثم هو سبحانه يقسم على أصول الإيمان التي يجب على الخلق صرفتها، وتارة يقسم على التوحيد، وتارة يُقسم على أن القرآن حق، وتارة على أن الرسول حق، وتارة على الجزاء والوعد والوعيد، وتارة على حال الإنسان.
فالأول كقوله: (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) ...
إلى قوله: (إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) .

(1/344)


والثاني كقوله: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)
والثالث كقوله: (يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) .
(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) .
والرابع كقوله: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) .
(وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) .
والخامس كقوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) .
(وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) .
(وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) .
(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) .
(لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) .
قال: وأكثر ما يُحْذف الجواب إذا كان في نفس المقْسم به دلالة على القسم
عليه، فإن المقصود يحصل بذكره، فيكون حذْف المقسم عليه أبلغ وأوجز.
كقوله: (ص، والقرآن ذي الذِّكر) ، فإن في المقْسَم به من تعظيم القرآن ووصفه بأنه ذو الذكر المتضمن لتذكير العباد ما يحتاجون إليه، والشرف والقدر - ما يدل على المقسم عليه، وهو كونه حقاً من عند الله غير مفْتَرًى كما يقوله الكافرون، ولهذا قال كثيرون: إن تقدير الجواب: إن القرآن لحقّ، وهذا مطَّرد في كل ما شأنه ذلك، كقوله: (ق، والقرآن المجيد) .
وقوله: (لا أقسم بيوم القيامة) ، فإنه يتضمن إثبات المعاد.
وقوله: (والفجر ... ) الآيات، فإنها أزمان تتضمن أفعالاً عظيمة من المناسك وشعائر الحج التي هي عبودية محضة لله، وذلٌّ وخضوعٌ لعظمته، وفي ذلك تعظيم ما جاء به محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام.
قال: ومن لطائف القسم قوله: (والضحى. والليل إذا سجَى) .
أقسم تعالى على إنعامه على رسوله وإكرامه له، وذلك متضمِّن لتصديقه له، فهو

(1/345)


قسم على صحة نبوءته، وعلى جزائه في الآخرة، فهو قسم على النبوءة والمعَاد.
وأقسم بآيتين عظيمتين من آياته.
وتأمّل مطابقة هذا القسم وهو نور الضحى الذي هو يوافي بعد ظلام الليل للمقسَم - عليه، وهو نور الوَحْي الذي وافاه بعد احتباسه عنه، حتى قال أعداؤه: ودع محمدًا ربُّه، فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل على ضوء الوحي ونوره بعد ظلمة احتباسه واحتجابه.
*******