معترك الأقران في إعجاز القرآن الوجه الثلاثون من
وجوه إعجازه (اشتماله على جميع أنواع البراهين والأدلة)
وما من برهان ودلالة وتقسيم وتحديد يبْنَى من كليات العلومات
المعقلية
والسمعية إلا وكتاب الله قد نطق به، لكن أورده على عادة العرب
دون دقائق طرق المتكلمين، لأمرين:
أحدهها: بسبب ما قاله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا
بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) .
والثاني: أن المائل إلى دقيق المحاجَّة هو العاجز عن إقامة
الحجة بالجليل من
الكلام، فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون لم
ينحط إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأَقلّون، ولم يكن
ملْغِزاً، فأخرج تعالى مخاطباته في محاجة خَلْقه في أجلى صورة،
ليفهم العامة من جليلها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة، وتَفْهَم
الخواص من أثنائها ما يربي على ما أدركه فهم الخطباء.
وقد أفرد جدل القرآن بالتصنيف نجم الدين الطوفي.
قال ابن أبي الإصبع: زعم الجاحظ أن المذهب الكلامي لا يوجد منه
شيء في
القرآن، وهو مشحون به، وتعريفه أنه احتجاج المتكلم على ما يريد
إثباته بحجةٍ تقطع المعاندة فيه على طريقة أرباب الكلام.
ومنه نوع منطقي تستنتج منه النتائج الصحيحة من المقدمات
الصادقة، فإن الإسلاميين من أهل هذا العلم ذكروا أنَّ من أول
سورة الحج إلى قوله: (وأنَّ اللَهَ يبعث مَنْ في القبور)
- خمس نتائج تستنتج من عشر مقدمات:
(1/346)
قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ
الْحَقُّ) ، لأنه قد ثبت عندنا بالخبر المتواتر أنه تعالى أخبر
بزلزلة الساعة معظماً لها، وذلك مقطوع بصحته، لأنه خبر أخبر به
مَنْ ثبت صِدقه عمن ثبتت قدرته، منقول إلينا بالتواتر، فهو حق،
ولا يخبر بالحق عما سيكون إلا الحق، فهو الولي.
وأخبر تعالى أنه يحي الموتى، لأنه أخبر عن أهوال الساعة بما
أخبر، وحصول
فائدة هذا الخبر موقوفة على إحياء الموتى ليشاهدوا تلك الأهوال
التي يعلمها الله مِنْ أجلهم.
وقد ثبت أنه قادر على كل شيء، ومن الأشياء إحياء الموتى، فهو
يحي
الموتى.
وأخبر تعالى أنه على كل شيء قدير، لأنه أخبر أنه من يتبع
الشياطين، ومن
يجادل في الله بغير علم - يذِقْه من عذاب السعير، ولا يقدر على
ذلك إلا من هو على كل شيء قدير، فهوعلى كل شيء قدير.
وأخبر أن الساعة آتيةٌ لا رَيْبَ فيها، لأنه أخبر بالخبر
الصادق أنه خلق
الإنسان من تراب إلى قوله: (لكيْلاَ يَعْلَمَ مِن بعد علم
شيئاً) .
وضرب لذلك مثلاً بالأرض الهامدة التي ينزل عليها الماء فتهتزّ
وتَرْبو، وتنْبِت
من كل زَوْج بَهِيج.
ومن خَلق الإنسان على ما أخبر به فأوجده بالخلق ثم أعدمه
بالموت، ثم يعيده بالبعث، وأوجد الأرض بعد العدم فأحياها
بالخلق ثم أماتها
بالمَحْل، تم أحياها بالخصب، وصدق خَبَره في ذلك كله بدلالة
الواقع المشاهد على التوقع الغائب، حتى انقلب الخبر عيانا -
صدق خبره في الإتيان بالساعة، ولا يأتي بالساعة إلا من يبعث
مَنْ في القبور، لأنها عبارة عن مدة تقوم فيها الأموات
للمجازاة، فهي آتية لا ريب فيها، وهو سبحانه يَبْعَث مَنْ في
القبور.
وقال غيره: استدل سبحانه على المعاد الجسماني بضروب:
أحدها: قياس الإعادة على الابتداء، قال: (كَمَا بَدَأَكُمْ
تَعُودُونَ) .
(كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) .
(أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) .
(1/347)
ثانيها: قياس الإعادة على خلق السماوات
والأرض بطريق الأولى، قال:
(أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر) .
ثالثها: قياس الإعادة على إحياء الأرض بعد موتها بالمطر
والنبات.
رابعها: قياس الإعادة على إخراج النار من الشجر الأخضر.
وقد روى الحاكم وغيره أن أبي بن خلف جاء بعَظْمٍ ففَتَّه،
فقال: أَفَيحِيي اللهُ
هذا بعد ما بليَ ورَمَّ، فأنزل الله: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي
أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ
(79) .
فاستدل سبحانه بردِّ النشأة الأخرى إلى الأولى والجمع بينهما
بعلة الحدوث.
ثم زاد في الحجاج بقوله: (الذي جعل لكم من الشّجَر الأخضر
ناراً) .
وهذه في غاية البيان في رد الشيء إلى نظيره، والجمع بينهما من
حيث تبديل الأعراض عليها.
خامسها: في قوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى
وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا) .
وتقريرها أن اختلاف المختلفين في الحق لا يوجب انقلابَ الحق في
نفسه، وإنما تختلف الطرق الموصلة إليه، والحقُّ في نفسه واحد،
فلما ثبت أن ها هنا حقيقة موجودة لا محالة، وكان لا سبيل لنا
في حياتنا إلى الوقوف عليها وقوفاً يوجب الائتلاف ويرفع عنا
الاختلاف، إذ كان
الاختلاف مركوزا في فِطَرِنا، وكان لا يمكن ارتفاعه وزواله إلا
بارتفاع هذه
الجِبِلّة، ونقلها إلى صورة غيرها - صح ضرورة أن لنا حياة أخرى
غير هذه
الحياة، فيها يرتفع الاختلاف والعناد، وهذه هي الحالة التي وعد
الله بالمصير
إليها، فقال: (ونَزَعْنَا ما في صدورِهم مِنْ غِلّ إخوانا) .
فقد صار الخلاف الموجود، كما ترى، أوضح دليل على كَوْن البعث
الذي ينكره المنكرون، كذا قرره ابن السيّد.
ومن ذلك الاستدلال على أنَّ صانع العالم واحد، بدلالة التمانع
المشار إليها في قوله: (لو كان فيهما آلهة إلاَّ الله
لفَسَدَتا) .
لأنه لو كان للعالم صانعان لكان لا يجري تدبيرهما على نظام،
ولا يتسق على إحكام، ولكان
(1/348)
العَجْز يلحقهما أو أحدهما، وذلك لأنه لو
أراد أحدهما إحياء جسم وأراد
الآخر إماتته فإما أن تنفذ إرادتهما فيتناقض، لاستحالة تجزيء
الفعل إن
فرض الاتفاق، أو لامتناع اجتماع الضدين إن فرض الاختلاف، وإما
ألا تنفذ إرادتهما فيؤدي إلى عجزهما، أو لا تنفذ إرادة أحدهما
فيؤدي إلى عَجْزه، والإله لا يكون عاجزاً.
فصل
من الأنواع المصطلح عليها في علم الجدل السّبْر والتقسيم.
ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ
الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) .
فإن الكفار لما حَرَّموا ذكورَ الأنعام تارة وإناثها أخرى رد
تعالى ذلك عليهم بطريق السَّبْر والتقسيم، فقال: إن الخلق لله،
خلق من كل زَوْج مما ذكر ذكرأ وانثى، فمِمَّ جاء تحريم ما
ذكرتم، وما علته، لا يخلو إما أن يكون من جهة الذكورة أو
الأنوثة، أو اشتمال الرحم الشامل لهما، أو لا يدرى له علة، وهو
التعبّدي، بأنْ أخذ ذلك عن الله، والأخذ عن الله إما
بوحْي، أو إرسال رسول، أو سماع كلامه ومشاهدة تلقّي ذلك عنه،
وهو في معنى قوله: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ
اللَّهُ بِهَذَا) ..
فهذه وجوه التحريم لا تخرج عن وَجْهٍ منها:
والأول: يلزم عليه أن تكون جميع المذكور حراماً.
والثاني: يلزم عليه أن تكون جميع الإناث حراماً.
والثالث: يلزم عليه تحريم الصنفين معاً، فبطل ما فعلوه من
تحريم بعضٍ في
حالة وبعضٍ في حالة، لأن العلة، على ما ذكر، تقتضي إطلاق
التحريم، والأخذ عن الله بلا واسطة باطل ولم يدَّعوه، وبواسطة
رسول كذلك، لأنه لم يأت إليهم رسولٌ قبل النبي - صلى الله عليه
وسلم -.
وإذا بطل جميع ذلك ثبت المدَّعَى، وهو أن ما قالوه افتراء على
الله وضلال.
(1/349)
ومنها القول بالموجب، قال ابن أبي الإصبع:
وحقيقته ردّ كلام الْخصم من
فحوى كلامه.
وقال غيره: هو قسمان:
أحدهما: أن تقع صفةٌ في كلام الغير كناية عن شيء أثبت له حُكم،
فيثبتها
لغير ذلك الشيء، كقوله تعالى: (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا
إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا
الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ) .
فالأعزّ وقعت في كلام المنافقين كناية عن فريقهم، والأذل كناية
عن فريق المؤمنين، وأثبت المنافقون لفريقهم إخراجَ المؤمنين من
المدينة، فأثبت الله في الرد عليهم صفةَ العزة لغير فريقهم،
وهو اللَّهُ ورسوله والمؤمنون، وكأنه قيل: صحيح ذلك ليخرجنَّ
الأعز منها الأذل، لكن هم الأذل المخْرَج، والله ورسوله الأعز
المُخْرِج.
والثاني: حَمْل لفظٍ واقع في كلام الغير على خلاف مراده مما
يحتمله، بذكد
متعلَّقه، ولم أر مَنْ أورد له مثالاً من القرآن.
وقد ظفرت بآية منه، وهي قوله تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ
خَيْرٍ لَكُمْ) .
ومنها التسليم، وهو أن يفرض الْمُحال إما منفيًّا أو مشروطاً
بحرف
الامتناع، ليكون المذكور ممتنعَ الوقوع لامتناع وقوع شرطه، ثم
يسلَّم وقوع ذلك تسليما جَدَلياً، ويدل على عدم فائدة ذلك على
تقدير وقوعه، كقوله تعالى: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ
وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ
بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) .
المعنى ليس مع الله من إله، ولو سلِّم أن مع الله إلهاً لزم من
ذلك التسليم ذهاب كل إله من الاثنين بما خلق، وعلوّ بعضهم على
بعض، فلا يتم في العالم أمر، ولا ينفذ حكم، ولا تنتظم أحواله.
والواقع خلاف ذلك، ففَرض إلهين فصاعداً محال، لا يلزم عليه من
المحال.
ومنها الإسْجَال، وهو الإتيان بألفاظ تسجِّل على المخاطب وقوعَ
ما خوطب
به، نحو قوله تعالى: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى
رُسُلِكَ) .
(1/350)
(رَبّنا وأَدْخلهم جنَّاتِ عَدْن التي
وعَدْتَهمْ) .
فإن في ذلك إسجالاً بالإيتاء والإدخال، حيث وصِفا بالوعد من
الله الذي لا يخْلِف وَعْدَه.
ومنها الانتقال، وهو أن ينتقل المستدلّ إلى استدلال غير الذي
كان آخذاً
فيه، لكَوْن الخصم لم يفهم وَجْهَ الدلالة من الأول، كما جاء
في مناظرة الخليل الجبار لما قال له: (رَبِّي الذي يُحْيى
ويميت) ، فقال الجبار:
أنا أحيي وأميت، ثم دعا بمَنْ وجب عليه القَتْل فأعتقه، ومن لا
يجب عليه القتل فقتله، فعلم الخليل أنه لم يفهم معنى الإحياء
والإماتة، أو علم بذلك وغالط بهذا الفعل، فانتقل عليه السلام
إلى استدلال لا يجد له الجبار وجهاً يتخلص به منه، فقال: (إنّ
اللَهَ يَأتي بالشَّمْسِ من الْمَشْرِق فأتِ بها من المغرب) .
فانقطع الجبار وبهِت، ولم يمكنه أن يقول: أنا الآتي بها من
المشرق، لأن
من هو أسنّ منه يكذبه.
ومنها المناقضة، وهي تعليق أمر على مستحيل إشارة إلى استحالة
وقوعه.
كقوله تعالى: (وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ
الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) .
ومنها مجاراة الخصم ليَعثُرَ، بأن يسلم بعض مقدماته حيث يراد
تبكيته
وإلزامه، كقوله تعالى: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا
تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا) .
فقوله: (إن نحن إلا بَشر مثلكم) فيه اعتراف الرسل بكونهم
مقصورين على البشرية، فكأنهم سلموا انتفاءَ الرسالة عنهم، وليس
مراداً، بل هو من مجاراة الخصم ليعثر، فكأنهم قالوا: ما
ادّعيتم مِن كوننا
بَشَراً حقّ لا ننكره، ولكن هذا لا ينافي أن يَمُنَّ الله
علينا بالرسالة.
*******
الوجه الحادي والثلاثون من وجوه إعجازه (ضَرْب الأمثَالِ فيهِ
ظاهرة ومضْمَرة)
وقد أفرده بالتصنيف الإمام أبو الحسن الماوردي رحمه الله
تعالى.
قال تعالى: (ولقد صَرَّفْنَا للناس في هذا القرآن مِنْ كلِّ
مثَلٍ) .
وقال: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا
يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) .
(1/351)
وأخرج البيهقي عن أبي هريرة، قال: قال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: إن القرآن نزل على خمسة أوجه:
حلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فاعملوا بالحلال،
واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا
بالأمثال.
قال الماوردي: من أعظم علم القرآن علم أمثاله، والناس في غفلة
عنه لاشتغالهم بالأمثال وإغفالهم الممثلات، والمثل بلا ممثل
كالفرس بلا لجام، والناقة بلا زمام.
وقال غيره: وقد قال الشافعي: مما يجب على المجتهد معرفته من
علوم القرآن
معرفةُ ما ضُرِب فيه من الأمثال الدوالّ على طاعته، البينة
لاجتناب معصيته.
وقال الشيخ عز الدين: إنما ضَرَب الله الأمثال في القرآن
تذكيراً ووعظاً، فما اشتمل منها على تفاوت في ثواب أو على
إحباط عمل، أو على مدح أو ذم أو نحوه - فإنه يدل على الأحكام.
وقال غيره: ضَرْبُ الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور كثيرة:
التذكير.
والوعظ، والحث والزجر، والاعتبار والتقرير، وتقريب المراد
للعقل، وتصويره بصورة المحسوس، فإن الأمثال تصوَر المعاني
بصورة الأشخاص، لأنها أثبت في الأذهان لاستعانة الذهن فيها
بالحواس.
ومن ثمَّ كان الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجليِّ، والغائب
بالمشاهد.
وتأتي أمثال القرآن مشتملةً على بيان تفاوت الأجر، وعلى المدح
والذم، وعلى الثواب والعقاب، وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره، وعلى
تحقيق أمرٍ أو إبطاله، قال تعالى: (وضَرَبْنَا لَكُمُ
الأَمثال) ، فامتَنَّ علينا بذلك، لما
تضمنت من الفوائد.
قال الزركشي في البرهان: ومن حكمته تعليم البيان، وهو من خصائص
هذه
الشريعة.
وقال الزمخشري: التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعاني، وإدناء
التوهّم من
المشاهد، فإن كان المتمثل له عظيماً كان المتمثل به مثله، وإن
كان صغيراً كان المتمثل به كذلك.
(1/352)
وقال الأصبهاني: لضَرْب العرب الأمثال،
واستحضار العلماء المثالَ والنظائر، شيء ليس بالخفيّ في إبراز
خفيّات الدقائق، ورَفْع الأستار عن الحقائق، تريك به المتخيل
في صورة المتحقّق، والمتوهّم في معرض المتيقّن، والغائب كأنه
مشاهد، وفي ضَرْب الأمثال تبكيتٌ للخَصْمِ الشديد الخصومة،
وقمع لسَوْرَةِ الجامح الأبيّ، فإنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثر
وصف الشيء في نفسه، ولذلك أكَثْرَ الله تعالى في كتابه وفي
سائر كتبه الأمثال، ومن سور الإنجيل سورةٌ تسمى سورة الأمثال.
وفشَتْ في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي كلام
الأنبياء والحكماء.
أمثال القرآن، قسمان:
ظاهر مصرّح به، وكامِن لا ذِكْر للمثَل فيه، فمن أمثلة الأول:
(مَثَلُهم
كَمَثَلِ الذي استَوقَد ناراً) .
ضرب الله فيها للمنافقين مثلين، مثلاً بالنار، ومثلاً بالمطر.
أخرج ابن أبي حاتم وغيره، من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن
عباس.
قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين، كانوا يعتزون بالإسلام
فيناكحهم
المسلمون، ويوارثونهم، ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم
الله العز، كما سُلب صاحب النار ضوءه.
(وتركهم في ظلمات) يقول: في عذاب.
أو كصَيِّبٍ - وهو المطر - ضرب مثله في القرآن.
فيه ظلماتٌ - يقول ابتلاء، ورَعْد وبرق، وتخويف.
يكاد البرق يخطف أبصارهم، يقول: يكاد محكم القرآن يدل على
عورات المنافقين.
كلما أضاء لهم مشوا فيه، يقول: كلما أصاب المنافقون في
الإسلام عِزَا اطمأنّوا، فإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا
إلى الكفر.
كقوله: (ومِنَ الناس مَنْ يعبُدُ اللهَ على حَرْف) .
ومنها قوله تعالى: (أَنزل مِنَ السماءِ ماءً فسالَتْ أَوْدِية
بِقَدَرِها) .
(1/353)
أخرج ابن أبي حاتم من طريق علي، عن ابن
عباس، قال: هذا مَثَلٌ ضربه الله احتملت منه القلوب على قدر
يقينها وشكها، فأمَّا الزَّبد فيذهب جفَاء وهو
الشك، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، وهو اليقين، كما
يجْعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خَبَثه في النار، كذلك
يقبل الله اليقين ويترك الشك.
وأخرج عن عطاء، قال: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر.
وأخرج عن قتادة قال: هذه ثلاثة أمثال ضربها الله في مثَل واحد،
يقول: كما اضمحل هذا الزَّبد فصار جفاء لا ينتفع به ولا ترْجى
بركته، كذلك يضمحل الباطل عن أهله، وكما مكث هذا الماء في
الأرض فأمْرَعَتْ ونمت بركَته، وأخرجت نباتها، وكذلك الذهب
والفضة حين أدخل النار، وذهب خبثه، كذلك يبقى الحق لأهله.
وكما اضمحل خبث هذا الذهب والفضة حين أدخل النار كذلك يضمحل
الباطل عن أهله.
ومنها قوله تعالى: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ
بِإِذْنِ رَبِّهِ) .
أخرج ابن أبي حاتم، من طريق علي، عن ابن عباس، قال: هذا مثل
ضربه
الله للمؤمن.
يقول: هو طيب وعملة طيب، كما أن البلد الطيب ثمرها طيب.
والذي خبث ضرِب مثلاً للكافر، كالبلد السبخة المالحة، والكافر
هو الخبيث وعمله خبيث.
ومنها قوله تعالى! (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ
جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ
الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ
فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ) .
أخرج البخاري، عن ابن عباس، قال: قال عمر بن الخطاب يوماً
لأصحاب
النبي - صلى الله عليه وسلم -: فيمن تَرَوْن نزلت هذه الآية:
(أيَودّ أحدكم) ، قالوا: الله ورسوله أعلم.
فغضب عمر فقال: قولوا نعم أو لا نعم.
فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء.
فقال: يا بن أخي، قل ولا تحقر نفسك.
قال ابن عباس: ضرِبَتْ مثَلا لعمل.
(1/354)
قال عمر: أي عمل، قال ابن عباس: لعملِ رَجل
غنيّ يعمل بطاعة الله.
ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله.
وأما الكامنة فقال الماوردي: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب
بن
إبراهيم يقول: سمعت أبي يقول: سألت الحسين بن الفضل، فقلت: إنك
تخرج أمثال العرب والعجم من القرآن، فهل تجد في كتاب الله: "
خَيْرُ الأمور أوساطها "، قال: نعم.
في أربعة مواضع: قوله: (لا فَارِضٌ ولا بِكْر عَوانٌ بيْنَ
ذلك) .
وقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ
يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) .
وقوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى
عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) .
وقوله: (وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا
وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) .
قلت: فهل تجد في كتاب الله: "مَن جهل شيئاً عاداه "، قال: نعم،
في
موضعين: (بل كذَّبوا بما لم يحِيطُوا بعلْمِه) .
(وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ
قَدِيمٌ (11) .
قلت: فهل تجد في كتاب الله: " احذَرْ شَرَّ من أحسنْتَ إليه "،
قال: نعم:
(وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
مِنْ فَضْلِهِ) .
قلت: فهل تجد في كتاب الله: " ليس الخبر كالعيان "، قال: في
قوله: (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ
لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) .
قلت: فهل تجد: " في الحركات البركات "، قال: في قوله: (وَمَنْ
يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ
مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) .
قلت: فهل تجد: " كما تَدِين تدَان "، قال: في قوله تعالى:
(مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) .
قلت: فهل تجد فيه قولهم: " حين تَقْلِي تدري "، قال: (وَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا
(42) .
(1/355)
قلت: فهل تجد فيه: " لا يلدغ المؤمِن من
جحْر مرّتين "، قال: (قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا
كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) .
قلت: فهل تجد فيه: "من أعان ظالما سلّط عليه "، قال: (كُتِبَ
عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ
وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) .
قلت: فهل تجد فيه قولهم: " لا تلد الحية إلا الحيَّة"، قال:
(ولا يَلِدوا إلا
فاجراً كَفّارا) .
قلت: فهل تجد فيه قولهم: " للحيطان آذان "، قال: (وفيكم
سمَّاعونَ لهم) .
قلت: فهل تجد فيه قولهم: " الجاهل مرزوق والعالم محروم "، قال:
(قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ
الرَّحْمَنُ مَدًّا) .
قلت: فهل تجد فيه: " الحلال لا يأتيك إلا قوتاً، والحرام يأتيك
جُزَافاً ".
قال: (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ
شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ) .
فائدة
عقد جعفر بن محمد شمس الخلافة في كتاب "الآداب " باباً في
ألفاظ من
القرآن جارية مَجرى المثل، وهذا هو النوع البديعي المسمَّى
بإرسال المثل، وأورد من ذلك قوله سبحانه: (ليس لها مِنْ دونِ
اللهِ كاشفَةٌ) .
(لَنْ تنالوا البرَّ حتى تُنفقوا مما تحِبّون) .
(الآن حَصْحَصَ الحقُّ) .
(وضرب لنا مثَلاً ونَسِيَ خَلْقَه) .
(ذلكَ بما قَدّمَتْ يَدَاك) .
(1/356)
(قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) .
(أَلَيْسَ الصّبْحُ بقَرِيب) .
(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ) .
(لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) .
(وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) .
(قلْ كلِّّ يَعْمَلُ على شاكِلَتِه) .
(وعسى أنْ تكرهُوا شيئاً وهو خَيْرٌ لكم) .
(كلّ نَفْسٍ بما كسبَتْ رَهِينَة) .
(ما على الرسول إلاّ البلاغ) .
(ما على المحسنين مِنْ سَبيل) .
(هل جزَاءُ الإحسانِ إلا الإحسان) .
(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً
بِإِذْنِ اللَّهِ) .
(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) .
(تحسَبُهم جميعاً وقلوبُهم شتّى) .
(وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) .
(كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)) .
(وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ) .
(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) .
(لا يكلَفُ اللهُ نَفساً إلاَّ وُسعَها) .
(لا يستوي الخبيثُ والطّيِّب) .
(ظَهَرَ الفساد في البر والبحر) .
(ضَعُفَ الطالبُ والمطْلُوب)
(لمِثْل هذا فلْيَعْمَلِ العامِلُون) .
(وقلِيلٌ ما هُمْ) .
(فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) .
في ألفاظ أخر.
******* |