معترك الأقران في إعجاز القرآن

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: معترك الأقران في إعجاز القرآن
ويُسمَّى (إعجاز القرآن ومعترك الأقران)
المؤلف: الإمام الحافظ / جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي
(المتوفى 911 هـ)
دار النشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان
الطبعة الأولى: 1408 هـ - 1988 م
الجزء الثالث

(3/2)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
حرف الفاء
(فسق) :
أصله الخروج، وتارة يرد بمعنى الكفر، وبمعنى العِصْيان، وكلُّ خارج عن أمر الله فهو فاسق.
يقال فسقت الرّطَبَة إذا خرجت عن قشرها.
(فما فَوْقَها) :
الضمير راجع للبعوضة.
ولما ذكر الله في القرآن الذباب والنمل والعنكبوت عاب الكفّار ذلك.
فأنزل الله: (إنَّ الله لا يستحيي أن يضربَ مَثَلاً ما بعوضةً فما فوقها) .
قال قطْرب: الحروف المقطعة والأمثال وضعها الله لإطفاء شغَف الكفار
حيث قالوا: (لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فيه) ، فوضع الله
هذه الحروف والأمثال يسمعونها، لأنها عربية لم يسمعوها قبل ذلك، ثم يبلغ
الرسول رسالته بعد ذكرها ذلك.
(فأَزَلهما الشيطان عنها) ، أي عن الجنة أو عن الشجرة، والزلل متعد من زلل القدم.
وأزلهما بالألف من الزوال، وضمير التثنية لآدم وحواء، وكذا (فأخرجهما مما كانا فيه) .
والصحيح كما قدمنا أن آدَم أكل منها نسياناً، وحلف له إبليس، فظنّ أنه
لا يحلف أحد بالله كاذباً، فجعل الله له الأكل من الشجرة سبباً في إخراجه من الجنة، لِحكَمٍ -، منها:
أنه كان في حكمةِ الحكيم أن يكون خليفةً في الأرض، ويقوم فيها، فأراد

(3/3)


آدم أن يقيم في الجنة، فجعل الله بأكل إخنطة وتناولها سببا لخروجه من الجنة!
لينفذَ ما قضى وقدّر.
وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يكونَ مقامه بمكة، وكان في حِكمَة الحكيم أن يمكث في المدينة مدةً، ويعلي كلمتَه فيها، فجعل جفاء المشركين سبباً لخروجه منها، لسَبقِ مقاديره إلى مواقيتها.
كذلك العَبْد المخلص يريد أن يكون في طاعة ربه، ولا يقع في مخالفته.
وكان في حكمة الحكيم أن يكون كفوراً وغافرًا وغفَّاراً، فجعل خذلان العاصي سبباً لخروجه عن أمره، ثم يمنُّ عليه بالتوبة، فيتداركه برحمته، فيظهر حكمته وتقديره، ويبدي للعالمين غفرانه.
ومنها لكون الكفَّار في صلبه إذ لم تكن الجنة محلاً للكافرين، وكذلك المؤمن
يخرجه من النار لكون المعرفة في قلبه، إذ ليست النار محلاَّ للعارفين.
ومثال المؤمن والكافر في صلب آدم كتاجر أخفى المسك في وسط البُحْدُق
حتى لا يحسَّ به قاطع الطريق، فإذا بلغ الْمَأمَن كان المسك قد أخذ بطرف من رائحة البُحْدُق، وكذلك البُحْدُق تعلق به شيءٌ من رائحة المسك، فيبسطهما على بساط فتهحت الرياح فتتلاشى الروائح المستعارة، كلّ رائحة تعود إلى أَصْلها، فيبقى الأصل على ما خُلق عليه.
فكذلك الكافر والمؤمن في صلْب آدم، فأصاب الكافر رائحةً من المؤمن، فيعمل منها الحسنات، وأصاب المؤمن رائحةً من الكافر فيعمل منها السيئات، فإذا كان يوم القيامة يجمعهم اللَّهُ في بساطٍ واحد، فتهب رياح القيامة، فترجع حسنات الكافر إلى المؤمن، ويرثُ بها منزله في الجنة، وسيئات المؤمن إلى الكافر ويرث بها منزلَه في النار فتتلاشى العواري، وتبقى الأصول على ما قُدر وقُضى، قال تعالى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) .
وقال: (وليَحمِلُنَّ أَثقالهم وأثقالاً مع أَثْقالهم) .
ومنها أنه كان في خروجه من الجنة رحمة من الله له وإكراماً بالنبوءة والتكاليف.

(3/4)


والفائدةُ فيه أنه يرحم مَنْ عصاه في جواره، فالأوْلى ألا يعاقب مَنْ
عصاه في جوار إبليس.
قيل: إنه قال: يا رب، إني أستحيي من ولد محمد.
فقال له: سأمَهّد له عُذرك، فقال: (ولم نَجِد له عَزْماً) ، أي لم يعتقد الذنب، ولم يثبتْ عليه، بل اعتذر وندم.
وكذلك مهَّد الله عُذْر هذه الأمة المحمدية بقوله: (للذين عَملوا السّوءَ بجهالةِ) .
وقال: (وخُلق الإنسان ضعيفا) .
(خلق الإنسان من عَجَل) .
أدبك بأوامر ولم يرض أن يعاتبك غيرةً منه إليك، فاعتذر منك إليك.
(فتلقى آدمُ من ربِّه كلماتٍ) ، أي أخذ، قيل، على قراءة الجماعة وقرأ ابنُ كثير بنصب آدمَ ورَفْع الكلمات، فتلقى على هذا من اللقاء، والكلمات هي قوله: (ربَّنا ظلَمنا أنْفسنا) ، بدليل ورودها في الأعراف.
وقيل غير ذللك.
وهذه إحدى الخصائص التي خصّ الله آدم بها، خلقه الله بيده، ونفخ فيه
من رُوحه، وأسجد له ملائكته، وأمرهم بحَمله إلى الجنة على أكتافهم، وعلّمه أسماءَ كل شيء، تم عرضهم على الملائكة، وأدخله الجنة بغير عملٍ إلا أمْره بالصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلمه مواجهة.
ولما عطس قال: الحمد للهِ، فأجابه الله بقوله: يرحمك الله، يا آدم لهذا خلقْتك.
فهذا معنى قوله تعالى: (ولولا كلمة سَبَقَتْ مِنْ ربِّكَ) .
(فإما يَأتينَّكم مني هدًى) :
إن شرطية، وما زائدة للتأكيد.
والهدى هنا يراد به كتاب الله ورسالتُه.
(فمن تَبع) ، شرط، وهو جواب الشرط الأول.
وقيل: (فلا خوف) جواب الشرطين.
واعلم أن الكتابَ كتابان: كتاب من الله إليكَ، وكتاب منك إليه بيد
الْحفَظَة، فإذا قبلتَ كتابه الذي فيه الأمْر والنهي، والوَعد والوعيد، ونزول

(3/5)


البلاء عليك، ووجود الرضا منك، وإن كان فيه ما يخالف هواكَ، أفتراه لا
يقبل كتابك في يوم القيامة وإن كان مملوءا زَلاَّت، وهي لا تضرّه، ألا تراه
يقول في إبراهيم: (ولقد اصْطَفَيْنَاه في الدّنيا وإنّه في الآخِرة لمِنَ الصّالحين) ، واصطفاك أنتَ بكتابه، قال تعالى: (ثم أوْرَثْنا الكتابَ الذين اصطَفَينا مِنْ عبادنا) .
والاصطفاءُ فعْل الله، وفعل الله مبنيّ على الابتداء، قال تعالى: (كما بدأكُمْ
تَعُودون) .
والصلاح فعل العبد، وفعل العبد مبني على الخواتيم، قال - صلى الله عليه وسلم -: "الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ".
واعلم أنَّ مَنْ سأل الله شيئاً سأل الله منه، فمن لا يقوم للَه فما سأل منه لا
يعطيه ما يسأل، ومَنْ قام للهِ فما سأل منه أعطاه بلا مؤونة، ألا ترى أن الله أعطى لإبراهيم المالَ في الدنيا والولد والمعجزات بغير سؤال، فلما سأل إبراهيم بقوله: (إِني ذاهب إلى ربّي سيهْدِين) - سأل منه الكلّ فقال له:
أسلم، أي الكل إلى الكل، إنْ أردْتَ الوصول إلى الكل.
ولما سأل منه إحياء الموتى سأل الله منه إماتة الحى، ألا ترى أنه قال: (فلمَا أسْلَما) .
يعني وضع السكين على حَلْقه قال: إلهي بكَ ولَكَ وإليْكَ، أي بك
الصبر على فراقه، ومنكَ إعطاؤه، ولكَ الحكم فيه، وإليك يرجع الأمر كله.
فإن قلت: ما الحكمة في جزعَ إبراهيم وصَبر إسماعيل؟ (1)
والجواب: إسماعيل عَرف - برؤية المعرفة - أن إبراهيم إنما ابْتلي بذبحه، لأنه
التفت بقلبه عن الله، فلو أنَّ الولد التفت بقلبه لابْتُلي كما ابتلي إبراهيم.
وأيضاً جزع إبراهيم على مفارقة حبيبٍ لم يكن له وصلة في ذلك الوقت إلى مَنْ هو أحب إليه منه.
وإبراهيم لم يجزَعْ، لأنه وصل إلى الحبيب المجازي.
وقيل لما وضع السكين على حَلْقه أراه الله نوراً من أنواره أنساه ما يجِد من
الألم لوجود لذة ذلك النور، كنساءِ مِصْرَ اللواتي قطّعْنَ أيديهن برؤية يوسف.
__________
(1) معاذ الله أن يجزع الخليل - عليه السلام - وأين ذلك الجزع المزعوم؟؟!!! هذا خلاف ما حكاه عنه القرآن بقوله (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) ، (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) .

(3/6)


وقيل إن اللَهَ قال له: يا إبراهيم، جزعتَ على مفارقة حبيب زائل عنك.
وضاق ذَرعك به، فكيف بمفارقة الحبيب الباقي، فكان جزعه لهذا السبب لا
لِلوَلد.
(فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) ، أي عالم أهلِ زمانهم، لأنه يجب الاعتقاد بتفضيل هذه الأمةِ المحمدية لفَضل نبيهم.
قيل: أعطى اللَّهُ الكليمَ عشر معجزات، وأكْرَمَ قَوْمَه بعشر كرامات، وشكى عليهم بعشر شكيات، وعاقبهم بعشر عقوبات:
أما المعجزات: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ) ، والعصا، واليد، والحجر، والألواح، والصّحف.
وأما الكرامات: (وإذ أنجيناكم) ، (وإذ فرقنا بكم البحر) .
(ثم بعثناكم من بعد موتكم) .
(وظللْنا عليكم الغَمام وأنزلْنَا عليكم المنَّ والسّلْوَى) .
(ثم عفونا عنكم مِنْ بعد ذلك فتاب عليكم) .
(يغفر لكم خطاياكم) .
(قد علم كلّ أناس مَشْرَبهم) .
(وإذ آتينا موسى الكتاب) .
والشكيات: (ثم اتخذتم العِجْل) .
(قالوا أرِنَا الله جَهْرة) .
(فبدّل الذين ظلموا قَوْلا) .
(ادع لنا ربك) .
(ثم يحرّفونه) .
(ثم قست قلوبكم من بعد ذلك) .
(فبما نَقْضِهم ميثاقَهم وكُفْرهم بآيات الله وقَتْلهم الأنبياءَ بغير حق) .
والعقوبات: (ضربت عليهم الذلَّة والمسكنة) .
والجِزْية (وباءوا بغضبٍ من الله) .
(فاقتلوا أنفسكم) .
(يذَبِّحون أبناءكم ويستحيون نساءكم) .
(كونوا قردةً خاسئين) .
(فأرسلنا عليهم رِجزاً من السماء) .
(واللَه مخْرِج ما كنتم تَكْتمون) .
(فَرقنا بكم البَحرَ) ، أي جعلناه فرقاً، اثني عشر طريقاً على عدد الأسبَاط.
والبحر المراد به القلزم.
(فاقتلوا أنفسكم) :
روي أنَّ من لم يعبد العجل قتل من عبده حتى بلغ القتل فيهم سبعين ألفاً، فعفا الله عنهم.

(3/7)


(فتاب عليكم) :
قبله محذوف لدلالة الكلام عليه، وهو فَحْوى الخطاب، أي فعلتم ما أمرتم به من القَتْل فتاب عليكم.
(فانفجرَتْ) :
قبله محذوف تقديره: فضربه فانفجرت، أي سالتْ.
ومنه انفجر، وكان هذا الاستسقاء في فحص التِّيه، وكان الحجر من
جبَل الطور، وهو المشهور، لأنه أبلغ في الإعجاز، ولهذا كانوا يجدونه في كل مَرْحلة.
ولا خلاف أنه كان حجراً مربّعا منفصلا له أربع جهات كانت تنبع من
كلّ جهة ثلاث عيون إذا ضربه موسى عليه السلام، وإذا استغنوا عن الماء
ورحلوا جفَّت العيون.
وقيل إن هذا الحجر هو الذي وضع موسى ثوبه عليه ففرَّ بثوبه، ومرَّ على
مَلأ من بني إسرائيل حين رموه بالأُدْرَة، فلما وقف أتاه جبريل عليه السلام.
فقال له: إن الله تعالى يقول لك: ارفع هذا الحجر، فإنَّ لي فيه قدرةً، ولك فيه معجزة، فرفعه ووضعه في مِخْلاته.
وكان موسى ضربه اثنتي عشرة ضربة، فيظهر بكل ضربة مثل ثَدْي المرأة فيعرفه فتنفجر الأنهار منه، ثم يسيل الماء.
فإن قلت: هل الانفجار والانبجاس بمعنى واحد، لأنه اختلف التعبير بهما؟
والجواب أنَّ الانبجاس أقل من الانفجار، لأن الانفجار انصباب الماء
بكثرة، والانبجاس ظهور الماء.
فالواقع هنا طلب موسى عليه السلام من ربه، قال تعالى: (وإذ استَسْقَى موسى لقَوْمِه) .
فطلبهم ابتداء فقيل - إجابة لطلبه: فانفجرت، مناسبة لذلك.
وفي الأعراف طلب بنو إسرائيل من موسى عليه السلام السقي، قال تعالى: (وأوحينا إلى موسى إذ استَسْقَاه قَوْمه) ، فقيل - جواباً لطلبهم: فانبجست، فناسب الابتداء الابتداء والغاية الغايةَ.
واعلم أنَّ اللَهَ تعالى وضع الدولة على ثلاثة أحجار، والقدرة في ثلاثة أحجار، والملك في ثلاثة أحجار، أما الدولة فوضعها في الكعبة، وجعلها موضعَ طواف المؤمنين.

(3/8)


وجعل مقامَ إبراهيم قبلةً للمؤمنين.
والحجر الأسود جعله بينه وبين خَلقِه عَهْداً وشهيدًا.
وأما القدرة فوضعها الله في حجر موسى، وحجر ناقة صالح، وحجر موسى
الذي برّأَه الله بسببه مما قالوا.
وأما الملك ففي خاتم سليمان، وصخرة بيت القدس، وحجر داود.
وبالقدرة يخرج من الحجر الماء والذهب والنار.
(فكلوا) :
خطاب لبني إسرائيل، وجاء هنا بالفاء التي للترتيب، لأن الأكل بعد الدخول فيها، وجاء في الأعراف بالواو بعد قوله: (اسْكنوا) ، لأنَ الأكلَ مقارن للسكنى.
(فارض) : مسِنًة.
وبِكْر: صغيرة.
(فاقِعٌ) : شديد الصفرة.
(فآدَّارَأتم فيها) ، أي اختلفتم، وهو من الْمدارأة، أي المدافعة.
(فذَبحوها) ، من الذبح الذي هو قَطْع الْحلقوم والوَدَجين.
وبهذا استدل مَنْ قال بذبح البقرة ولا يجزئ غيره.
(فَأَتمهنَّ) : يعني وَفَى بهن.
ولما ادَّعَى محبةَ الله تعالى ابتلاه بعشر: خمس في الرأس، وخمس في الجسد، فأتمهن، أي وفى بهن.
وقال بعض: هو على الظاهر، وتحت كلّ واحدة منهن إشارة.
وقيل أراد بالكلمات الدعوات، وهي قوله: (رَبَّنا إني أسكنت) .
(ولا تخْزِني) .
وقيل ابتلي بالنار، فقال: حسبي الله.
وقيل: لما وضع السكين على حَلْق إسماعيل قال: منك ما أَرى، ومنِّي ما
ترى، فأنجاه الله بهذه الكلمات.
وقيل غير هذا.

(3/9)


قال بعضهم: ابتلى الله خليلَه بعشرة أشياء، ثم أثْنَى عليه بعشرة، ثم أعطاه
عشرة.
أما الابتلاء فهو مناظرة النّمْرُود، والكوكب والقمر والشمس، وبكسر
الأصنام، ومناظرة الأب، وبالهجرة، وبنار النّمْرود، وبذبح الولد، وبالإخلاص
في قول الله له: (أَسْلِمْ) .
وبالعشر كلمات، وبالملائكة الذين بعثهم الله إليه شبه المجوس يعرض عليهم الإيمان.
وأما الثناء عليه فسمّاه (أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا) ، شاكراً لأنْعمه، وفيًّا صديقاً
نبيئا قيما أَوّاباً مُنيباً.
واصطفاه بالاجتباء والاهتداء، والبركة والبِشارة بإسحاق، والحجة على
قومه، والإمامة والمقام، ونسبة الأمة المحمدية، على جميعهم السلام، والخلّة في قوله تعالى: (واتّخذ الله إبراهيم خَلِيلاً) .
(فمن عُفي له من أخيه شيء) .
فيها تأويلان.
أحدهما أن المعنى مَن قتل فعُفِي عنه فعليه أداء الدية بإحسان، وعلى أولياء
المقتول اتباعه بها بمعروف، فعلى هذا " من " كناية عن القاتل، وأخوه هو
المقتول أو وَليّه.
وعُفي من العَفْو عن القصاص.
وأصله أن يتعدى بعن، وإنما تعدى هنا باللام، لأنه كقولك: تجاوزت لفلان عن ذنبه.
والثاني أنَّ المعنى إِنّ مَن أَعطيته الدية فعليه اتباع بمعروف، وعلى القاتل أداء
بإحسان، فعلى هذا " منْ " كناية عن أولياء المقتول، وأخوه هو القاتل أو
عاقِلَته، وعفي بمعنى يسر، كقوله: (خذ العَفْو) ، أي تيَسَّر.
ولا إشكال.
في تعدّي عفِي بإلى على هذا المعنى.

(3/10)


(فمن اعْتَدَى بعد ذلكَ فَلَه عذَابٌ أليم) ، أي قتَلَ قاتلَ وليه بعد أخذ الدية منه فله القصاص منه.
وقيل عذاب الآخرة.
(فمن تطَوَّع) ، أي صام ولم يأخذ بالفطر والكفارة.
وذلك على القول بالنسخ.
وقيل تطوّع بالزيادة في مقدار الطعام، وذلك على القول بعدم النسخ.
(فمن شَهِد منكم الشهرَ فلْيَصمه) ، أي كان حاضراً غير مسافر.
والشهر منصوب على الظرفية.
والمراد به شهر رمضان المتقدم.
(فَلْيَسْتَجِيبوا لي) ، أي فيما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعة
(فاعْتَدوا عليه) :
تسمية العقوبة باسم الذنب، أي قاتلوا من قاتلكم، ولا تبالوا بحرمة صدّكم عن مكة.
(فما اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي) :
وأقلّ ذلك شاة تذبحونها.
(فمَنْ كان مِنْكم مَرِيضاً) :
نزلَت في كَعب بن عُجْرَة لما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لعلك تؤْذيك هوَامّ رأسك، فقال: نعم.
فقال له - صلى الله عليه وسلم -، احلق رأسك، وصمْ ثلاثة أيام، أو أطْعِم ستة مساكين، أو انْسك بشاةٍ.
فمعنى الآية: إنَّ مَنْ كان في الحج واضطره مرضٌ أو قمل إلى حَلْق رأسه قبل
يوم النَّحْر جاز له حَلْقه، وعليه صيامٌ، أو صدقة، أو نسك، حسبما فسّر في الحديث.
وقاس الفقهاء على حَلْق الرأس سائرَ الأشياء التي يمنع الحج منها، إلا الصيد
ووَطء النساء.
وقاس الظاهرية ذلك على حلق الرأس، ولا بد في الآية من مضْمَر لا يستقلّ
الكلام دونه، وهو المسمى فَحْوى الخطاب، وتقديره: (فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى مِنْ رأسه) فَحَلَق رأسه فعليه فِدْية.

(3/11)


(فاَذْكُروني أَذْكرْكمْ) : قد قدمنا مرارا أنَّ منزلة العبد
من الله حيث أنزله العبد، ولهذا لما قال داود: يا رب، كنْ لسليمان كما كنْتَ لي.
فأَوحى اللَهُ إليه: قل له يكون لي كما كنْتَ لي أكون له كما كنتُ لك.
وقد أمرنا الله بهذا في آياتٍ من كتابه، قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) .
(فافسَحُوا يَفْسح الله لكم) .
(إنْ تَنْصُروا الله ينصركم) .
(يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) .
(هل جزاءُ الإحسانِ إلا الإحسان) .
وقد اختلفت الأقاويل في قوله: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) - نحواً من أربعين قولاً، فإن ذكرته بالإيمان يذكرك بالجنة، لقوله: (وعد الله المؤمنين) .
وإن ذكرته بالاسترجاع يذكرك بالرحمة.
وإن ذكرته بالاستغفار يذكرك بالمغفرة.
وإن ذكرته بالإنفاق يذكرك بالْخَلَف.
وإن ذكرته بالشكر يذكرك بالزيادة.
وإن ذكرته بالصبر يذكرك بالأجر.
وإن ذكرته بالتقوى يذكرك بالفرج.
وإن ذكرته بالتوكّل يذكرك بالكفاية.
وإن ذكرته بالتوبة يذكرك بالقبول.
وإن ذكرتَه بالدعاء يذكرك بالإجابة.
وإن ذكرته بالمجاهدة يذكرك بالهداية.
وإن ذكرته بالطاعة يذكرك بالمودة.
وإن ذكرته بالسجود يذكرك بالقرب.
وإن دْكرته بالإحسان يذكرك بالرحمة.
وإن ذكرته بالاستقامة يذكرك بالأمْن.
وإن دْكرته بالقَرْض يذكرك بالتضعيف.
وإن ذكرته بالفرائض يذكرك بالفلاح.
وإن ذكرته بالخشية يذكرك بالفوز.
وإن ذكرته بالاعتصام يذكرك بالنصر.
وإن ذكرته في نفسك ذكرك في نفسه.
وإن ذكرتَه في مَلَأ دْكرك في ملأ خير مِنْ ملَئك.
وإن ذكرته بالنوافل ذكرك بالمحبة.
وإن تقرَّبت إليه شِبْراً تقرّب منك باعاً.
وإن أتيته مَشْياً أتاك هَرْوَلة.
وإن أتَيتَه بقرَاب الأرض خطيئة ولم تشرِك به أتاك بمثلها مغفره، وهو الغفور الرحيم.
وفي التوراة: يا ابن آدم أظهرتَ الذنوب معي وأخفيتها عن الخلق، وأبديت
الحسنات لِخَلْقي ولم تخْلِصْها لي، وأكلْتَ رزقي ولم تشكرني، وبارزتَني بالمعاصي ولم تَستَحِ منّي، ولم تحذرني، أمّا ما أظهرت من الذنوب فقد غفرتها لك،

(3/12)


وما أتيْتَ من الحسنات بغير إخلاص فقد قبلْتها منك، وما أكلت من رزقي ولم تشكرني فلم أَحرمك الزيادة، وما بارزتني به ولم تستح مني فأنا أستحي أن أعذِّبك بعد شهادتك لي بوَحْدانيتي، وأنا الغفور الرحيم.
فتأَمَّلْ أَيها العاصي هذه الكرامات التي أكرمك بها، دعاك أولاً بنفسه بقوله:
(واللَهُ يدعو إلى دار السلام) ، من دارٍ أولها بكاء، وأوسطها عَناء، وآخرها فَناء، إلى دارِ أولها عطاء، وآخرها لقاء، وهي أحسن البنيان المسدس، فإن اللهَ خلقك مسَدَّساً! فخمسة منها يدعوك إلى خمس جهات واللَه سادسهم: يدعوك من تلك الجهات كلِّها إليه، فالأمَل يدعوك من بين يديك، والشيطان يدعوك من خَلْفك، والهوى يدعوك عن يسارك، والشهوة عن يمينك، والدنيا تَحْتَك! والله من فوقك، فذلك قوله: (ولا خمسة إلا هو سادِسهم) .
فإن كانت همتك في دار الأشجار والبساتين والأنهار فقد دعاكَ لذلك
بقوله: (جنات عَدْن تجري مِنْ تحتها الأنهار) .
وإن كانت همتك الطعام والشراب فقد دعاك لذلك بقوله: (كلوا واشْربوا) .
(يُطَافُ عليهم بصِحافٍ مِنْ ذَهَب) .
(ولَحْمِ طَيْرٍ مما يشتهون) .
وإن كانت همتك التمتع بالنسوان فقد دعاك لذلك بقوله:
(وحورٍ عِين كأمثال اللؤلؤ المكنون) ، لو تفلَتْ إحداهنّ على البحر لعَذب.
ولو اطلعت إحداهن على الدنيا لأضاء ما فيها.
وإن كانت همتك اللباس فقد رغبك بقوله: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ) .
وإن كانت همتكَ الغلمان والولدان فقد رَغبَك بقوله: (وِلْدَان مخَلَّذونَ) .
(غلمان لهم كأنّهم لؤلؤ مَكْنون) .
وإنْ كانت في الشرب والخمور فقد ذكر لكَ أنَّ فيها أنهاراً من خَمْرٍ لذة
للشاربين.
وإن كانت همتك رضاه والنظر إليه فقد دعاك في مواضع من كتابه.
وحرَّضكَ عليه، فما ظنّك بربٍّ كريم يدعوكَ للضيافة وتقبّل دعوته، أتراه لا
يرضيك، وقد بعث إليكَ الملائكة تبشِّرك حين نَزْعك، وأعطاك في حياتك

(3/13)


مراكب الجمال إلى بيتك، وأعناق الرجال إلى قَبْرِك، والبراق إلى حَشْرك، قال تعالى: (يوم نَحْشُر الْمُتَّقِينَ إلى الرحمن وَفْداً) .
(فعِدةٌ من أيام أخَر) :
هذا من رحمة الله بهذه الأمة، حيث أباح لها التفريقَ في قضاء رمضان، وهو من خصائص هذه الأمة، قال تعالى: (يأيها الذين آمنوا كتِبَ عليكم الصيامُ كما كتِب على الذين من قبلكم) .
فإن قلت: قد قلتم: إنَّ هذا الصيام من خصائص هذه الأمة، فما معنى
الصيام على غيرها؟
فالجواب أنه اختلف: فقِيلَ ثلاثَة أيام مِنْ كلِّ شهر.
وقيل: عاشوراء، ففي هذه الآية الشريفة نرى عذْرَين ونهيين ونسْخَين ورحمتين وكرامتين.
أما العذْران فقوله: (كما كُتِب على الذين مِن قَبْلكم) .
والثاني: (أيَّاماً معدودات) ، أي قليلة تمضي سريعاً.
وأما النسْخان فقوله: (وعلى الذين يطيقونه فِديَةٌ طعام مسكين) ، أي في
بَدءِ الإسلام إن مَنْ لم يصم ثم أطعم لم يكن له بذلك.
والثاني أن المجامعة كانت حراماً في ليالي رمضان، فأباح الله لهم بسبب عمَر
قوله: (أحِل لكم ليلةَ الصيامِ الرَّفَث إلى نِسائكم) يعني الجماع.
وأما الأمران فقوله: (ولتكمِلوا العِدة) ، وقوله: (ولتكَبروا اللهَ على ما هَدَاكم) .
وأما النهْيان ففي المؤاكلة والمجامعة بالنهار، وهو قوله: (ثم أتِمّوا الصيامَ
إلى الليل) .
وأما الرحمتان: (فمَن كان مِنْكم مَرِيضاً أو على سفر فعدَة مِنْ أيام
أخر) ، فرخص له في الإفطار والقضاء بأيام أخر.

(3/14)


وأما الكرامتان فقوله: (شَهْر رَمَضان) .
وليلة القَدْر التي هي خَيْرٌ من أَلْفِ
شهر، فالصيام أفضل الطاعات، لأنه يصوم بأمر، ويفطر بأمر: (كلوا واشْرَبُوا) .
والجوع والعطش وغير التمتّع مِنْ عذابِ أهل النار، والله لا يجمَع على الصائم عذابَين، ويعطون الغرف في الجنة بصبرهم، قال تعالى: (أولئك يجْزَون الغرفَة بما صَبَروا) .
وكلّ عمل لا يخلو من وجهين: إما طاعة مع الغَفْلة، أو مَعصِية مع الشهوة، فجعل الله قبول الطاعة بالصوم قوله: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ، وجعل غُفْرانَ المعصية بالصوم، قال تعالى: (ومَنْ قتل مؤمناً. . . فصيام شهرين. . .) .
وانتهاء المناهي أفضل من ائتمار الأوامر، ألا ترى أنه قال: (مَنْ جاء بالحسنة
فله عشر أمثالها) .
قال: (ونهى النَّفْس عن الْهَوَى) .
والصوم من انتهاء المناهي، والزّهد في الحلال أفضل من الزهد في الحرام، والصوم من الزهد في الحلال، وفي نداء عباده تعالى بالإيمان من اللطائف والفضائل ما لا يحيط بها إلا هو، كأنه سبحانه يقول: يا مَنْ أقْرَرْتم بوَحْدَانيتي، وعرفْتم دَيموميتي، لا تَقْنَطوا من رحمتي.
قال بعضهم: النداء على عشرين وجهاً:
خمس من الله في الدنيا، وخمس للآدميين في الدنيا، وخمس من الملائكة في
الدنيا، وخمس من الملائكة في الآخرة.
أما الذي من الله فنداء الجنس: (يا أيها الناس) .
ونداء النسبة: (يا بني آدم) .
(يا بني إسرائيل) .
ونداء المدحة: (يأيها الذين آمنوا) ، لأن الله جمع أوصافَ المؤمنين
ونُعوتهم ومعانيهم في هذا النداء، لأنه لم تَبْقَ حسنة إلا دخلت تحته، كما أن الله عَلَم على ذاته القدسية، ومَن ذكره فكأنما ذكر جميع أسمائه التي هي ألفُ اسم ثلاثمائة في التوراة، وثلاثمائة في الإنجيل، وثلاثمائة في الزَّبور، وواحد في صُحف إبراهيم، وتسع وتسعون في القرآن، فأوَّل جميع الكتبِ اللهُ.
ونداء المذمة: (يأيها الذين كفروا لا تَعتَذِروا اليوم) .

(3/15)


ونداء الإضافة: (يا عباديَ الذين آمَنوا) .
(يا عبادي الذين أَسرفوا) .
وأما الذي للآدميِّين: نداء الشريعة، وهو لإبراهيم حيث قال له: (وأذنْ في
الناس بالحج) .
ونداء العتاب ليولسف: (يا أيها العزيز مَسَّنَا وأَهلَنا الضرُّ) .
ونداء الإيمان لمحمد - صلى الله عليه وسلم - قوله: (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا)
ونداء الجمعة للمؤمنين: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودِي للصلاة مِنْ يَوْمِ الجمعة) .
ونداء الجماعة للمنافقين.
وأما الذي للملائكة في الدنيا: فملك ينادي في كل صباح: يا أبناء الثلاثين.
لا تَغْتَرّوا بالشباب.
يا أبناء الأربعين، لا تجترئوا.
يا أبناء الخمسين، أَلاَ تستحيون.
يا أبناء الستين، قد دَنا حصادكم.
يا أبناء السبعين، الرحيل الرحيلَ.
ومَلك ينادي بالمقابر كل يوم: يا أهْلَ القبور، من تغبطون اليوم، قالوا: نغبط أَهلَ المساجد الذين يذكرون اللَهَ ولا نَذْكر، ويصلُّون ولا نصلي، ويصومون ولا نصوم، وملك ينادي عند رأس قَبْرِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا مَنْ زال عن سنّة صاحب هذا القبر فقد برئ من شفاعته.
وملك ينادي في الموقف: مَنْ حَجَّ وكسْبه حرام ردَّ الله حجَّهُ.
وأما الذي من الملائكة في الآخرة فأوله عند البعث: أيتها العظام البالية.
والأجساد النخِرة، هَلمّوا إلى الحساب عند ربّكم.
وملك عند الحساب: أبشروا يا أمة محمد! فإنَّ رحمة الله قريبٌ منكم.
وملك عند المحاسبة يقول: أيْنَ فلان ابن فلان، هلمَّ إلى العَرْض على الرحمن.
وملك ينادي عند الفراغ من الحساب:
ألاَ إنَّ فلانَ ابن فلان سعِدَ سعادة لا يشقى بعدها أبداً.
وملك آخر على أَهل الشقاوة ينادي: ألا إن فلانِ ابن فلان شقي شقاوة لا يسعَد بعدها أبداً.
أعاذنا اللَه من ذلك بمنه.
(فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) :
يعني بقبولهم ورحمتهم، لا بقُرب المسافة.
وسببُ نزول هذه الآية أنه عليه الصلاة والسلام سئل أين ربنا، فَوْقنا أو

(3/16)


تحتنا، أو يميننا أو يسارنا، أو خلفنا أو قدّامنا، فأنزل الله: (وإذا سألكَ عبادِي عَنّي فإني قَريب) .
يعني وحاجتكم أنا، لا المكان، فإن وجدتموني فما تصنعون
بالمكان وأنا منَزَهٌ عن المكان.
وفي رواية: إن اليهود سألوه عليه السلام أقريب ربّنا فننَاجيه أم بعيد
فنُنَادِيه، فأنزل الله: (ونحن أقرب إليه مِنْ حَبْلِ الوَرِيد) .
يعني بالعلم والقدرة والإجابة لا بالذات، فادْعوني سِرًا أو جَهْرًا، فإني قريب
أجيب، إنْ سألني العاصي غفرت له، وإن سألني المحسن أعطيته سؤلَه.
فهنيئاً لكم أيتها الأمة المحمدية، نسبكم إلى آدم في قوله: (يا بني آدم) .
وبالشريعة إلى نوح في قوله: (شرعَ لكم من الدِّين ما وصَّى به نوحاً) .
وبالملّة إلى إبراهيم.
وبالأمة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبالعبوديّة إلى نفسه، والحكمة فيه حتى يشفع آدم فيكم، فيقول: يا رب، هم أولادي، ويقول
نوح: أهل شريعتي.
ويقول إبراهيم: أَهل مِلَّتي.
ويقول محمد: أمَّتي.
ويقول الله: عبادي وخواصِّي، فالذي نسبك إليه أَترى أنه يريد معاقَبتك.
وقد قال لنوح لَما أراد عقوبة ولده: إنه ليس من أَهلِك.
أو الرسول الذي بعِث إليك يريد تعذيبَ أمته، وهو لم ينْسَهم في الأربعة مقامات: مقام التحية لولاه في قوله: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين".
ومقام الشكر في قوله: (والمؤمنون كلّ آمَنَ بالله وملائكته) .
ومقام الحاجة سأل من الله عشر حاجات، فأعطاه ما سأل قوله
تعالى: (غفرانكَ ربَّنا وإليكَ الْمَصِير) . . . إلى آخر السورة.
ومقام الشفاعة: (ولسوف يعْطِيكَ ربّكَ فَتَرْضَى) .
أفترى أنه يرضى بقاء أمته في النار وهو في الجنة، ولذلك يقول له جبريل:
أنت منعَّم، وأمتك في النار، فيستأذن في الشفاعة فيهم في حديثٍ طويل.
وقد عاتبه الله يوم بَدْر لما كان في العَرِيش وأصحابه في الشمس، فقال: يا
محمد، أنْتَ في الظل وأصحابك في الشمس، أهكذا هي الصحبة! فسبحان
اللطيف بعباده وخصوصاً بهذه الأمة (1) .
__________
(1) لا أصل لهذه الرواية، وأين هذا الكلام من قول بعض الصحابة - رضي الله عنهم - كُنَّا إذا اشتد الوطيس اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم.
روى مسلم:
3309 - حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ حَدَّثَنِي سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ح وحَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَاللَّفْظُ لَهُ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنِي أَبُو زُمَيْلٍ هُوَ سِمَاكٌ الْحَنَفِيُّ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ
لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ وَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ}
فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ.

(3/17)


وفي الحديث: أن جميع الأنبياء قالوا ربَّنا، كما قال آدم: (ربَّنَا ظلَمْنا أنْفُسَنا) .
وإبراهيم: (رَبّنا واجعلْنَا مسْلمَيْن لك) . وغيرهما.
فلما بلغ الأمرُ إلى أمة محمد هابُوا أن يضيفوه إلى أنفسهم، فيقولوا: ربنا، فسكتوا، فأضاف الله نَفْسَه إليهم بقوله: (وقال ربكم ادْعُوني أسْتَجِبْ لكم) .
وكان جميع الأمم لم يكن لهم جراءة على أن يدعوا ربَّهم، ولكن كانوا يقولون: (ادع لنا ربك) .
(هل يستطيعُ ربُّك) .
وهذه الأمةُ رفع الله الواسطةَ بينهم وبينه، وأمرهم بالدعاء، فإن لم يدعوه
فهو يدعوهم ليغفر ذنوبهم.
وتأمل قوله تعالى: (فإنّي قَرِيب) ، ولم يقل هو كما قال: (يسألونك ماذا
ينفقون قل العَفْو) .
(قل هو أذًى) .
(قل إصلاح لهم خير) .
وقال: (فلْيَسْتَجِيبوا لي) إذا دعوتهم إلى المغفرة، فإن دعوني بلا غفلة أجَبْتُهم بلا مهملة، وإن دعوني بالصفاء أجبتهم بالعطاء، وإن دعوني بلسان الشهادة أجبْتُهم بإعطاء الولاية.
وإن دعوني بالنعمة أجبتهم بالشهادة، وإن دعوني بجميع الجوارح أجبتهم إجابةَ ناصح، وإن دعَوْني بالإخلاص أجبتهم بالخلاص، وإن دعَوْني بالمغفرة أجبتهم بتبديلها بعشرة، وإن دعَوْني بالخوف والرجاء أجبتهم بالرحمة والجزاء.
وإن دعَوْني بالاضطرار أجبتهم بالافتخار.
وإن دعوني بأسمائي الْحسْنَى أجبْتهم بالعطية الكبرى.
فانظروا أيها الأمة ما أرْحَمه بنا! وقد رآيناه أجاب الذاكرين بقوله:
(أذكركم) .
وأجاب المتفكرين: (بل الله يَمنُّ عليكم) .
وأجاب الداعين: (أستَجِبْ لكم) .
وأجاب الخائفين: (ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا) .
وأجاب المقربين بالوصلة: (فقد استَمْسكَ بالغرْوَة الوثقى) .
وأجاب المستغفرين بالمغفرة: (إنه كان غَفَّارًا) .
وأجاب المتضَرّعين بقوله: (يوم لا يخْزِي الله النبي) .
فإن قلت: قد رأينا مَنْ يَدْعو ولا يستجيب له؟
والجواب إذا وقع الدعاءُ من المضطرّ حصل جوابه على كل حال.

(3/18)


ومَنْ وُفّق للدعاء لم يُحرم الإجابة.
ومن وفّق للتوبة لم يحرم القبول.
ومن وفّق للشكر لم يحرَم المزيد.
ومن وفق للصبر لم يحرم الجزاء.
ومن وفق للتوكّل لم يحرم الكفاية.
ومن وفق للعمل الصالح لم يحرم المودةَ عند الله وعِنْد خَلْقه.
ومِصداق هذا كله قوله تعالى، (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ) .
(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) .
(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) .
(وجزاهمْ بما صَبَروا) .
(ومَنْ يتوكَّلْ على الله فهو حَسْبُه) .
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) .
فإن قلت: بيِّن لنا الاضطرار وشروط الدعاء؟
فالجواب: أنَّ الاضطرار ألاَّ تبقى فيك علاقة مع غيره سبحانه، وإن
أخلصتَ له في الدعاء وتضرعت، ورجوتَ وخِفْتَ، واستغَثْتَ به، فلا بد من إجابتك إما عاجلا فتبلغ سؤْلك أو يكفّر لك به من ذنوبك، أو يؤَخَّر لك
لمصلحتك، أو يرفع درجتك، ولعلّه يعطيك سؤْلك فتغفل عنه، وهو يحبُّ
المُلِحِّين في الدعاء.
ألاَ تسمعه سبحانه يقول لبعض الداعين: أعطوه سؤْله، فإني أكره صوته، فإجابة الدعاء في الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد.
ورحم الله القائل:
اللهُ يَغْضب إن تَرَكْتَ سؤَاله ... وابن آدَمَ حين يُسْأل يَغْضَبُ
وقد وعدنا الله تعالى بالكرامة على أنواع من الطاعات، فأكرم الساجد
بالقربة، ودخول البيت الحرام بالأمن.
والجهاد بالجنة.
والصدقة بأضعافها.
والزكاة بالفَلاَح.
والدعاء بالإجابة، لكن العلّة منا وإلينا، وشؤْمَ نفوسنا عائدٌ
علينا، كما قال إبراهيم بن أدْهم لما قالوا له: يا أبا إسحاق، الله يقول: (ادْعوني أَسْتَجِبْ لكم) ، ونحن نَدْعوه ولا يَستَجِيب لنا، فأطْرق ساعة وقال: لأنَ قلوبَكم ماتَتْ في عشرة أشياء، فقالوا: هاتها.
قال: عرفْتمِ الله ولم تؤدّوا حقّه، وقرأتم كتابه ولم تعملوا به، وعرفتم رسولَه وتركتم سُنَّته.
وقلتم الشيطان لنا عدوّ فَوَافَقْتموه، وادعَيْتم حبّ الجنة ولم تعملوا لها.
وقلتم نخافُ النار ووهبتم لها أبدانكم.

(3/19)


وقلتم: الموت حقّ ولم تتهيئوا له.
وانتبهتم من النوم واشتغلتم بعيوب إخوانكم.
وأَكلْتم رزْقَه ولم تشكروه.
ودفنتم موتاكم ولم تعتبروا بهم، فأنَّى يُستجابُ لكم!
وفي الحديث ما يعضده قوله: "مَطْعَمه حَرامٌ، وملْبَسه حرام، ويقول: يا
رب، يا رب، فأَتى يُستجاب له! "
وصدق الصادق المصدوق، فإن الدعاء مثل الطائر، وكيف يطير مقصوص
الجناح.
فاجتهد في إخلاص المطعم والملبس، وتَخَيَّرْ أوقات الإجابة وأماكنها المفضّلة
في الحصن الحصين لابن الجزري، وخصوصاً بعد الأذان، وقبل الإقامة، وبعد الصلوات، وخصوصاً صلاة الجمعة، والسَّحَر أسرع إجابة لخلوّك بالمحبوب.
وبعضهم ترك الدعاء لِعِلْمِه بأن الله لا يغفلُ عنه، واشتغل بذكره، للحديث
القُدسي: "من شغله ذِكْري عن مسألتي أعطيته أفضلَ ما أعطي السائلون"، ولهذا أشار ابن عطاء الله بقوله: "طلَبك منه اتهامٌ له". . . الخ.
وبعضهم لم يرفع رَأسَه للدعاء حياءً منه.
وبعضهم قال: الدعاءُ تحكم على الله، وقد سبق تقديره قَبْل وجودي، فإن سبق سعادتي فأناله، وإن لم يسبق فكيف اطلب منه ما لم يرد (1) .
وبعضهم دعاه في الشدة، وأعرض عنه في الرخاء، وهذا حالنا كما قال سبحانه: (فإذا مَسَّ الإنسانَ ضرّ دَعَانَا) .
وبعضهم قال: لا أقولُ نحن، لأن الملائكة قالت: (نحن نسبِّح بحمدك) ، فلم يرْضَ الله منهم، وإبليس قال: أنا، فلعنه الله.
وفرعون قال: (أَليس لي ملْك مصر) ، فأغرقه الله.
وقارون قال: عندي، فخسف الله به الأرض.
وأعلى من هؤلاء من امتثل أمْرَ ربه في الدعاء، ورأى نفسه عَبْداً مملوكاً لا
يقدر على شيء، وإنما قام بحقّ الربوبية، فطلبه لمحبَّته في الطلب، وفوّضَ الأمر له، كما قال بعضهم لما قيل له: سَلْ تُعْطَ، فقال: عالم من جميع الوجوه يقول لجاهل من جميع الوجوه: سَلْ تُعْطَ، لا أعلم ما يصلح بي، ولكن يختار هوَ لي.
__________
(1) بل الدعاء مطلوب ومأمور به على الدوام (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) .

(3/20)


ولهذا قال ابن عطاء الله: لا يكن طلبك تسبّباً إلى العطاء منه، فيقلّ فَهْمك عنه، وليكن طلبك لإظهار العبودية، وقياماً بحقوق الربوبية.
فإن قلت: إذا سبق العطاء منه فما فائدة الطلب، وقد أعطانا بغير سؤال؟
فالجواب إذا سبق في أَزَلِه العطاء وفَّق عَبْدَه لطلبه، فيجيب، ويفرح العبد
بذلك، ولو أعطاك بغير سؤال لطمع الكافر والمؤمن.
وهذه أسباب ووسائط يوفّق الله العبدَ إليها في أي وقت شاء على يد من يشاء
(لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) .
والكلامُ هنا طويل، وقد ألَّفت فيه تأليفاً عجيباً سميته مفاتح الطلب.
فانظره إن ظفرتَ به، وإلا ففي هذه النبذة كفاية إن شاء الله.
(فإذَا أَمِنْتم) :
الخطاب للمحْرمين مِنْ أَهل مكة وغيرهم.
ومعناه: إذا كنتم بحال أَمْنٍ، سواء تقدَّم مرض أو خوف عدوّ، أو لم يتقدم.
(فَمَنْ تَمَتَّعَ بالعمْرَة) : والتمتع هو أَنْ يعتمر الإنسان في أشهر الحج ثم يحج من عامه، فقد تمتّع بإسقاط أحد السفَرين للحج أو العمرة.
وقال عبد الله بن الزبير: التمتّع هو أن يحْصَر عن الحج بعدو حتى يفوته
فيعتمر عمْرةً يتحلل بها من إحرامه، ثم يحج مِنْ قابل قضاءً لحاجته، فهو قد
تمتع بفعل الممنوعات للحج من وقت تحلله بالعمرة إلى الحجّ القابل.
وقيل: التمتع هو قِران الحجِّ والعمرة.
(فمَنْ لم يَجِدْ فصِيام ثلاثةِ أيامٍ في الحجّ وسبْعَةٍ إذا رجَعْتم) :
يعني من لم يجد الشاةَ فليصمْ ثلاثة أيام، وقْتها من إحرامه إلى يوم
عرفة، فإن فاته صام أيام التَّشْريق وسبعة إذا رجع إلى بلاده.
(فمَنْ فَرض فيهنَ الحجَّ) .
أي أَلزم الحجَّ نفسه في شوال وذو القعدة وذو الحجة.
(فلا رَفَثَ) ، وهو الجماع،

(3/21)


(ولا فسوقَ) ، وهي المعاصي، إذْ علامةُ قبول الحج ترك المعاصي، ولا جزاء له إلا الجنة، كما صح.
(فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) ، لأن الإنسان كثيراً ما يذكر أباه.
والعارفُ يذكر الله أكثر، لأنه مخترعه وخالِقه كيف شاء، ورازِقه من أين شاء، وممِيته متى شاء، ويحييه إذا شاء، فكيف يغفل عمن هذه صفته، وقد دعا الْخَلق إلى نفسه، فالسابق منهم همّه اسمه، فدعاه بلفظ الرب، وقال: (وأنِيبوا إلى رَبِّكم) .
(فَفِرّوا إلى الله) .
والمقتصد منهم همه الرزق، فدعاه بقوله: (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ) ، وقال: (يرزق مَنْ يشاء بغير حساب) .
والظالم همه غفران ذنوبه، فدعاه بقوله: (وسارِعوا إلى مغفرةٍ مِنْ رَبِّكم) .
فعلى كل حال العبد لا يغفل عن سيده.
ولما كانت العرب تذكر أباها كثيراً مفاخرة عند الجمرة أمر الله بذكره
عوضاً عن ذلك، لأنه الضارُّ النافع.
(فَضْلاً مِنْ رَبِّكم) :
التجارة في أيام الحج أباحها الله لعباده، ولا يضر نيتها، ولا تفسد العبادة بها خلافاً لبعض الصوفية.
والصحيح أن النيةَ الصحيحة تقلِب القبيح حسناً، والحسن قبيحاً.
وتشريك النية الصالحة جائزة، بل مطلوبة في الأفعال، ورضي الله عن السيد الذي دق عليه، فقال لبعض التلامذة: قمْ حلّ له الباب.
فقام، فقال بعد رجوعه: بأي نيّةٍ قمْتَ له.
فقال: نيًة فتْح الباب.
فقال: هلاّ نوَيْت قضاء حاجته إن احتاج، والسلام عليه ومصافحته، وصار يعدد له سبْعَ نيات.
هكذا كانوا رضي الله عنهم يشركون أفعالهم لتضعيف حسناتهم، ونحن بالضدّ مِنْ هذا، فليس لنا نية ألبتَّة.
فلا تتحرك أيها الأخ حركةً إلا للَه تكثراً بنيتك، كلبْثِك بالمسجد بغية

(3/22)


الزيارة لله، وانتظار الصلاة، وكفّك عما نهيت، وعكوفك على الطاعة وسلامةِ الناسِ من شرِّك، وتعَلّم وتعليم واستفادة أخ، ونحوها.
وبدخولك الأسواق: ذكر الله تعالى، والسلام على إخوانك، وشهادة البقاع لك، ومَنْع الشيطان وطَرْده، وتغيير ما رأيتَ من المناكر إن قدرت صيانة، وأمرك بالمعروف صدقة، ورؤية نعمة فراغك وتوفيقك.
وقد علمت ذاكر اللَه في الغافلين كالمجاهد خَلْف الفارّين، ولا تشغلك رؤية شهوةٍ، فتصدَّقْ بقدميْك لزيارة إخوةٍ لئلا تحوجهم لزيارتك، وقضاء حاجتهم، ورد السلام على مَنْ سلّم منهم، وسماحاً في بَيْع، ورؤية صالح، ورؤية آياته تعالى: من تصرّف الخلق في معايشهم وحركاتهم وألوانهم، وما جبلوا عليه من حبِّ الدنيا، واختلاف أغراضهم، وتَصَرّفهم في المأكل والملابس، واختلاف السلع.
والكلام هنا طويل.
والقصد منه أنه يجب علم حقيقة النية، وتخليصها من كل
حظّ دنيوي حتما، ومن كل حظ أخرويّ ندْباً، وهي تمييز الأغراض بعضها من بعض، (وما يَعْقِلها إلا العالمون) .
ومتى حصلت الحركة وعَقَبها باعثٌ واحد فنيَّةٌ خالصة، وإيثارُ الراجح
اختيار، واقترانها بحكم فقضاء وبما له مقدار، أو عني بشيء خاص فعناية.
وتصميم الإرادة عَزْم وهَمّ ومشيئة.
وللحنفية: إنَّ المشيئة مشتقّ من الشيء، وفي كتب اللغة أنها إرادة لا فعل.
صح: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.
ومَنْ قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهوَ في سبيل الله، ومن هَمَّ بحسنةٍ ولم يعملها كتبت له حسنة، وإِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ، ونظره تعالى إلى القلب للنية، والنية والعلم وغيرها مما ينسب للقلب، وهو قائم بالنفس، والعقل في القلب.
وتأمَّل قوله تعالى: (لَهمْ قلوب يعْقِلونَ بها) .
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) .

(3/23)


فتأمَّل أيها الأخ صُنْع الله في هذا المؤمن، حيث جعل له داخل ضميره شمساً
ساكناً في وسط الأحشاء أضْوَأ من الشمس اللامعة، حتى جاز الهوى، وملَك
طريق السماء، فلم يسكن على شيء دون الرّبّ جَلّ جلالُه، فصار حاله في الضمير كعود نصِب له في الأرض، فإذا اتَّصل بالأرض، والأرض به، نبتت المعرفة به، فصارت نزهةً للعارفين، ثم الشهادة عطاء المحبين، ثم المحبة على السابقين.
(فمن تَعَجَّلَ في يومين فلا إثْمَ عليه) :
قد قدمنا أنَّ هذه الآية أباحت التعجّل والتأخر.
وقيل: إنه إخبار عن غفْران الإثم، وهو الذنب للحاجِّ، سواء تعجّل أو تأخر.
وعلى الأول فيكون (لمن اتَّقَى) أنْ يَأثَم في التعجُّل والمتأخر لا إثم عليه.
وعلى الثاني أنَّ الغفران إنما هو (لمن اتَّقَى) الله في حَجِّه.
للحديث: "مَنْ حَجّ هذا البيت فلم يَرْفُث ولم يفسق خرج من ذُنوبه كيوم ولدَتْه أمه".
فاللام متعلقة إما بالغفران أو بالإباحة المفهومَيْن من الآية.
(فحَسبه جَهَنَّم) :
الضمير يعود على مَنْ لا يطيع من يأمره بالتقوى تكبراً وطغْياناً، وهو الذي يُقال له: اتَّق الله، فتأخذه العزَّةُ بالإثم.
والباء يحتمل أن تكون سببية، أو بمعنى مع.
وقال الزمخشري: هي كقولك: أخذ الناس الأمير بكذا، أي ألزمهم إياه.
فالمعنى حملته العزةُ على الإثم.
(فاعلَموا أَن اللهَ عَزِيزٌ حكيم) :
تهديد لمن زَلّ بعد البيان.
ويحتمل أن يكون الخطاب بقوله: (ادخلوا في السِّلْم) لأهل الكتاب، على معنى الأمر لهم بالدخول في الإسلام.
ولما سمع بعض الأعراب قارئاً يقرأ: (فاعلموا أن الله غفورٌ رحيم) - قال له: أخطأت.
فقال: من أين علمت، قال: أَيغريهم على المعصية.
(فلِلوَالدين والأقربين) :
بيان مَصْرف نفقَة التطوّع.
وتقدم في الترتيب الأهمّ فالأهمّ، وإن أريد بالنفقة الزكاة المفروضة فذلك
منسوخ.
(فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ) :
أي اجتنبوا جِمَاعَهُنّ في

(3/24)


الفرج، لا فيما عداه من أعكانها وبين فخذيْها، والاستمناء بيدها.
وقد فسر ذلك الحديث بقوله: لتشد عليها إزارها وشأنك بأعلاها.
(فاءُوا) ، أي رجعوا إلى الوطْءِ، وكفّروا عن اليمين.
فإن الله يغفر ما في الإيلاءِ من الإضرار بالمرأة.
(فنِصفُ ما فَرَضْتمْ) ، يعني من الصداق لمن طلّق قبل الدخول، فإن كان لم يفرض لها صداقاً، وذلك في نكاح التفويض، فلا شيء
عليه من الصداق، ويؤمر بالمتعة، لقوله: (ومَتِّعوهُنَّ) .
(فإذا أَمِنْتم فَاذْكروا اللهَ) :
قيل المعنى إذا زال الخوف فصلّوا الصلاةَ التي عُلِّمتموها وهي التامة.
وقيل: إذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم هذه الصلاة التي تجزيكم في حال الخوف، فالذكر على القول الأول بمعنى الصلاة.
وقد ذكر الله للصلاة اثني عشر اسماً: القرآن: (إن قرآنَ الفَجْرِ كان مَشهوداً) .
والأَمانة: (إنّا عَرَضْنا الأمانةَ) .
والحسنات: (إنَّ الحسناتِ يذهِبنَ السيئات) .
قال ابن عباس: إن الصلوات الخمس يكفرنَ الخطايا.
والتوبة: (ذلكَ ذِكْرَى للذَّاكِرين) يعني توبةً للتائبين.
والبقاء: (والباقيات الصالحات) .
والذكر: (الذين يذكرون الله) .
والاستغفار: (والمستغفرين بالأَسحار) .
والتسبيح: (فَسبْحانَ الله حين تمسون) .
والركوع: (واركَعوا مع الراكعين) ، أي صَلّوا مع المصلّين.
والسجود.
وعلى القول الثاني فمعنى الذكر الشكر، وعلى كلاَ القولين فالواجب على
الإنسان أن يذكر الله على كل حال.
والذكر على سبعة أوجه: ذِكْر اللسان، وهو الحمد للَه والثناء، وذكر الْجَنان وهو التسليم والرضا، وذكر الأبْدَان وهو الجهد والعناء.
وذكر العينيْن، وهو

(3/25)


العبرة والبكاء، وذكر اليدين وهو السخاء والعطاء، وذكر الرِّجْلين وهو المشي إلى الحج، وثبات النفس لِلِّقاء.
وذكر الروح وهو الخوف والرجاء.
(فإنْ خَرَجْنَ) :
الضمير يعود على الْمعْتَدّات اللواتي يُتَوَفَّى أزواجهن ألاَّ يخرجن من ديارهنَّ أربعة أشهر وعشراً، وليس لأولياء الأزواج إخراجهنَّ، فإذا كان الخروج من قِبَلهن فلا جناح على أحد فيما فعَلْنَ في أنفسهن من تزوُّجٍ وزِينة.
(فمَنْ شَرِب مِنْه فليس مِنِّي) :
هذا من قول طالوت لَما جاز على نهر فلسطين اختبر طاعتهم بمنعهم من الشرب.
(فشَرِبوا منه إلا قليلاً منهم) ، وكانوا ثمانين ألفاً، ولم يشرب منهم إلا ثلاثمائة وبضعة عشر عدد أصحاب بَدْر، فأما مَنْ شرب فاشتدَّ عليه العطش، وأما من لم يشرب فلم يعطش.
(فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) :
يعني أنَّ الله فضّل الأنبياء والرسل على بعضٍ من غَيْر تعيين الفاضل على المفضول، لكن الإجماع على تفضيل أولي العزْم منهم.
واختلف فيما بينهم، فقيل آدم لأنه أبو البشر.
وقيل نوح، لأنه أول رسول بعث في الأرض.
وقيل إبراهيم، لأنه خليل الله.
وقيل موسى، لأنه كليم الله.
وقيل عيسى، لأنه روح الله.
والإجماع على أنَّ نبيّنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - سيدهم وإمامهم، والمبعوث إليهم، وإلى الملائكة، لا يختلف في هذا القول إلا جاحد ومَنْ لا خَلاَقَ لَه.
فإن قلت: ما معنى قوله عليه السلام: " لا تفَضّلوني على يونس بن مَتى "؟
فالجواب أنه قال ذلك على وَجْه التواضع والانبساط، والتنبيه للمخاطب على أَلاّ يتعرض لأنبياء اللْهِ ورسله بالغَيْبة.
أو قال ذلك قبل أن يعلم بفَضْلِه على سائر أنبيائه ورسله.
وانظر كيف يكون حال مَنْ يتعرض بالنَّقْصِ لهم من هؤلاء القصَّاص

(3/26)


والمؤرخين بنسبه الذَّنب لهم، كآدم، وداود، ويونس، وغيرهم، ورَضِيَ اللَه عن الإمام عليٍّ حيث يقول: "مَنْ حَدَّث بما يقول هؤلاء القصَّاص جلَدْته حدَّين لما ارتكب مِنْ صَرْف.
ومن رفع الله محلّه هذا في الجملة، فكيف بمن تنقَّصَ أو عاب سيّدهم وإمامهم، والذي عليه مدار أمْرِهم.
قال - صلى الله عليه وسلم -: " كنت نبيئاً، وآدم بين الماءء والطين "، ويظهر لك تفضيله على أولي العزم من الرسل في قوله تعالى:
(وإذ أخَذْنا من النبيّين ميثاقَهم ومِنْكَ ومِنْ نوح) ، فقدّمه
على أولي العَزْم منهم، تنبيهاً لكَ على أنك لا تعلم حقيقته هنا، إنما يظهر كمال شرفه إذ يستشرف من شرف المحشر، فيشرف بالشفاعة، فآدم ومَنْ سِوَاه تحت لوائه، وكلهم يقول: نفسي نفسي، وهو صلى الله عليه يُسْلِم نفسه لصاحب النفس، ويقول: لا أسألُك نفسي ولا فاطمة ابنتي، وإنما أسألُكَ أُمَّتي، أُمَّتي يا مَنْ لا يخْلِف الميعاد.
وقد وعدتني ألاَ تخْزِيني فيهم.
فأقسم عليك يا سيد الأولين والآخرين بمن أعطاك هذه الكرامة والْمَنْزِلة الرفيعة، لا تَنسَ عَبدَك في ذلك اليوم العظيم، بل في الدنيا، ينْقذني مِنْ شرِّ هوَاي وشهوتي، ويُقبل بي عليه وعلى طاعته، ويستعملني في خدمته، ولست بأهلٍ لذلك، إن لم تكن نفحةٌ من بحر جودك، وإلاّ فأنا متعلق بذَيْلِك، متوستل لك بمدحك والصلاة عليك، وهي من أعظم الوسائل
عندك، للَه دَرُّك من محبوب! ما أعْذَبَ ذِكْرك! كم غَرَّت غرتك من غِرّ جاء
ليغرف عند مشاهدتك.
قال: ما هذا وجه كذّاب، غاية جمال يوسف أن أفْتَنَ نسوةً، وجمالك قد أفتن الكونين، كم عاداك من عاد إليك، كل قلْب قَلاك فأقْلَبه
القدَرُ فانقلب إليك، ما طاب عيش عباده الأنبياء حتى صليت بهم في صوامع
السموات، ما جلا عروس رسالتك ليلةَ الإسراء على منصب قاب قوسين
إلاّ ليعلم عُذَّال: (أتجعل فيها مَنْ يفْسِد فيها) ، ما حوت صدفة
آدم من يتيمة الوجود، اجتمع في مدرسة درس رئيس الملائكة، يسأل ما
الإسلام، وما الإيمان، وما الإحسان، ومِن خواص الجنّ من غلبهم التعجّب، فقالوا: (إنا سمِعْنا قرآناً عَجَباً) .
ومن فضلاء الإنس من كان به الأنس كـ (ثَانِيَ اثنين إذْ هما في الغار) .
إن كانت شمس

(3/27)


السماء تظهر الظاهر فشمس شرْعك تُظهر الغيب.
اتَقُوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله، إذا كان في النجوم هدى للسالك في السالك، فكم بنجوم آياتك من مهتدٍ إلى الحق.
(فأماتَه الله مائةَ عامٍ ثم بعثه) :
الضمير يعود على عزَير.
وقيل: على الخضْر، وذلك أنه مرّ على قرية، وهي بيت المقدس لما خرَّبَها
بخْت نَصّر، وقيل قرية الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فسأل عن كيفية إحيائهم، فأراه الله ذلك عياناً في نفسه، ليزدادَ بصيرة، وأماته مائةَ عام ثم بعثه، وذلك أنه أماته غدوة يومٍ، ثم بعثه قبل الغروب من يومِ آخر بعد مائة عام، فظنَّ أنه يوم واحد.
ثم رأى بقيَّةً من الشمس، فخاف أن يَكذب، فقال: (يوماً أو بعض يوم) .
وروي أنه قام شابًّا على حالته، فوجد أولاده وأولادهم شيوخاً.
وكذلك قصة أصحاب الكهف، لما بعثهم قال بعضهم لبعض: (كم لبِثْتُم) .
وكذلك يسألون في القيامة: (كم لبثتم) (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ) ، كل ذلك دلالة على أنَّ الدنيا كلها كثيرهاَ كقليلها، ولا يلبث الإنسان فيها إلا كنَفَس واحد.
وهذا مشاهد، وليس الخبر كالعيان.
(فلما تبَيَّن له) ، أي تبيَّنَ له كيفية الإحياء، فأراه الله في نفسه ذلك.
ولذلك قال: (انظر إلى طعامِكَ وشرابك لم يتَسنَّه) ، أي يتغير.
وانظر إلى حمارك كيف تركْتَه مربوطا بحبل من ليف، ولم يتغير.
قال: (أعلم أن الله على كل شيء قدير) - بهمزة قطع وضم الميم - اعترافاً.
وقرئ بألف وَصْل والجزم على الأمر، أي قال له الملك ذلك.
فإن قلت: ما الحكمة في أنَّ عزيراً سأل الإحياء، فعاقبه، وإبراهيم سأل مثل
ذلك فأجابه؟
فالجواب أن عزَيراً سأل عن القدرة، فقال: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)

(3/28)


وإِبراهيم سأل عن كيفية القدرة، فقال: (كيف تحيى الموتى) ، لأن قوله (أنى) بمعنى كيف، إذ لا يشكّ في الله في القدرة، فسؤاله إنما كان على جهة الاستخبار لا الإنكار، كما زعمه بعضهم.
وقيل: إن إبراهيم عرف بالقلب، فأراد أن يرى بالعَيْن، وذلك أنه لما قال
النمرود: (أنا أُحيي وأميت) ، فقتل رجلاً وأحيا آخر، فقال إبراهيم:
(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى) ، لأني أعلم أنه ليس فعلك كفعله، فأراه
الله ذلك في أربعةٍ من الطير، وفَرَّق أجزاءَها، وجعل جزءاً من الحمام مع جزءٍ من الدّيك، وخلط بعضَها مع بعض، ليكون أبلغ في القدرة حيث رجع كلّ جزء إِلى صاحبه، فاطمأنّ قلْبُه كما طلب، ولهذا كانت هذه الطير طير العبرة، وطير المحنة الطاوس الذي كان سبب خروج آدم من الجنة.
وطير التجربة الحمار الذي كان لنوح في السفينة حتى دخل إبليس بين قوائمه.
وطير الفتنة لداود حيث تسوّرَ له في المحراب.
وطير الهلكة لسليمان.
وطير الحجة لعيسى حيث صوَّره من طين، ونفخ فيه، فصار طائراً بإذن الله.
وطير الكرامة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
وطير اللعنة للنمرود حيث دخل في خياشيمه وهي البعوض، وأمهله ثلاثةَ أيام، لعله يتوب.
وطير الهلكة للحبشة لما أرادوا هَدْم الكعبة، فأرسل الله عليهم طَيراً أَبَابِيل
تَرميهم بحجارة من سِجِّيل، على كل واحد اسم صاحبه.
وطير المعرفة للعارفين يطير حتى يتعلق بالمولى سبحانه (1) .
(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) .
أي إن لم تنتهوا عن الربا حورِبْتم.
ومعنى (فَأْذَنُوا) : فاعلموا.
وقرئ بالمد، أي أعْلِموا غيركم.
(فاكْتُبوه) :
ذهب قوم إلى أنَ كتابةَ الدَّيْن واجبة بهذه الآية.
وقال قوم: إنها منسوخةٌ بقوله: (فإنْ أمِنَ بعضكم بعضاً) .
وقال قوم: إنها على الندب.
(فرَجلٌ وامْرَآتان) :
قال قوم: لا تجوز شهادةُ المرأتين إلاَّ مع عدم الرجال.
__________
(1) كلام يفتقر إلى سند صحيح، وفي بعضه من الإسرائيليات ما فيه.

(3/29)


وقالوا: معنى الآية: (إن لم يكونا) ، أي لم يوجدا.
وأجازه الجمهور، لأن المعنى إن لم يستشهد رجلان فرجل وامرأتان، وارتفاع رَجل بفعل مضمر، تقديره فليكن رجلٌ، فهو فاعل.
أو تقديره فليستشهد رجل، فهو مفعول لم يسمَّ فاعله، أو بالابتداء، تقديره: فرجل وامرأتان يشهدون.
(فإنّه فسوقٌ بكم) .
أي إن وقعتم في الإضرار المتقدّم في قوله: (ولا يُضَارَّ كاتِبٌ ولا شَهيد) .
(فرِهَانٌ مَقْبُوضَة) :
بهذا احتجّ الشافعيّ على صحة الرهن.
واحتج مالك بأنه شرط كمالٍ.
وأجمع العلماء على صحة قبض المرتهن وقبض وكيله.
وأجاز الجمهور وَضْعه على يد عدل.
(فإنْ أَمِنَ بعضُكم بَعْضاً) .
أي أمن صاحب الحق المَدِين لحسن ظنه به، فليستَغْن عن الكتابة، وعن الرهن، فأمر أوّلاً بالكتابة ثم بالرهن، تم بالائتمان، فالدين ثلاثة أحوال.
ثم أمر المَدِين بأداء الأمانة، ليكون عند ظن صاحبه به.
(فإنه آثِم قَلْبُه) :
معناه قد تعلّق به الإثم اللاحق عن المعصية في كِتمان الشهادة، وارتفع آثم بأنه خَبَرُ إن، وقلبه فاعل به.
ويجوز أن يكون (قَلْبُه) مبتدأ و (آثم) خبره.
وإنما أسند الإثم إلى القلب وإن كانت جملة المكاتم هي الآثمة، لأن الكتمان من فعل القَلْب، إذ هو يضمرها، ولئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان.
(فيَغفر لِمَنْ يشاء ويعذِّبُ مَنْ يَشَاء) :
قرئ بالجزم فيهما عطفاً على (يحاسبكم) ، وبرفعهما على تقدير فهو يَغفر.
(فَإِنْ حَاجُّوكَ) ، أي جادَلُوك.
والضمير يعود على نصارى نَجْران، أو اليهود.
(فإنما عليكَ البَلاَغ) ، أي إنما عليك تبليغُ رسالة ربّك، فإذا بلَغتها فعلْتَ ما عليك.
وقيل إنها موادعة منسوخة بالسيف.

(3/30)


(فتقَبَّلَها رَتها بقَبُول حَسَن) : الضمير يعود على مريم.
وفيه وجهان:
أحدهما - أن يكون مصدرا على غير الضمير.
والآخر - أن يكون اسماً لا يقبّل به، كالسَّعوط اسم لما يستَعط به، يعني أن
اللَه رضِيها للمسجد مكان الذَّكَر، لأنها قالت: (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) ، يعني لخدمته.
(فأنْفُخ فيه فيكون طائراً بإذْن الله) ، وقرئ (طيْراً) بياء ساكنة على الجمع.
قيل: هو الَخفّاش، لأنه أكمل الطير خَلْقاً، ولها أسنان وثَدي، وهي تَحيض.
قال وهب: كان يطير ما داموا ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط
ليعلم أن الكمال للهِ تعالى، وأنَّ فِعْلَ الخالق مخالفٌ لفعل المخلوق.
وذكر: (بإذن الله) ، ليرفَعَ وَهْمَ من توهَّم في عيسى الربوبية.
وأراد على قراءة نافع بالألف النوع.
فإن قلت: ما وَجْهُ تذكير الضمير هنا وتأنيثه في المائدة في قوله: (فتنفخ
فيها) ، وهل يجوز أن يكون كلّ واحد منهما مكان الآخر؟
والجواب أنه أنّث الضمير في المائدة، لأنه يعود على الهيئة، وذَكَره هنا، لأنه
يعود على الطير، أو على الكاف من (كهيئة) ، وإنما خصّه بالتذكير هنا، لأنه إخبار قبل الفعل، وفي المائدة خطاب الله له في القيامة.
قال الزمخشري: في الأولى الضمير للكاف، أي في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير، فيكون طيرا، أي فيصير طيرا كسائر الطيور.
وقال في قوله: (فتنفخ فيها) الضمير للكاف، لأنها صفة الهيئة
التي يخلقها عيسى، وينفخ فيها، ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها، لأنها ليست من خلقه ولا نفْخِه في شيء.
قال: وكذلك الضمير في تكون. . . انتهى كلامه.
وهو في غاية الوضوح.
(فَوْرهم) :
الضمير للملائكة، أي من ساعتهم.
وقيل المعنى من شَرِّهم (1) .
والمعنى أنَّ الله أمدَّ المسلمين بهذا العدد، ليزيدهم قوة.
__________
(1) أي من غضبهم.

(3/31)


فإن كان في يوم بَدْر فقد قاتلت فيه الملائكة، وإن كان في يوم أحد فقد شرط
أن تصبروا وتتقوا، فلما خالفوا الشرط لم تنزل الملائكة.
(فما وهَنوا) ، الضمير للربيين على إسناد القتل للنبىء، وهو لمن بغى منهم على إسناد القتل إليهم.
(فأثابَكمْ غَمًّا بغَمٍّ) ، أي جازاكم غَمًّا بسبب الغم
الذي أدخلتموه على رسول اللَه - صلى الله عليه وسلم - وعلى المؤمنين، إذ عصيتم وتنازَعتم.
وقيل: أثابكم غمّاً متصلاً بغم، وأَحَد الغَمَّين ما أصابهم من القتل والجراح، والآخر ما أرجف من قَتْل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(فَشَلْتم) : أي جَبنْتم.
(فَزَادهم) :
الفاعل ضمير القول، وهو أنَ الناس قد جمعوا لكم.
والصحيح أَن الإيمان يزيد وينقص، فمعناه هنا قَوَّى إيمانهم وثقتهم بالله.
(فانقلبوا) ، أي رجعوا بنعمة السلامة وفَضْل الأجْر.
(فلا تَخَافوهم وخافونِ) :
يعني أنَّ الشيطان يخوِّفُ أولياءَه فيخوفونكم أيها المؤمنون، فلا تخافوهم.
وقراءة ابن عباس وابن مسعود: يخوفكم أولياءه.
وقيل المعنى: يخوف المنافقين، وهم أولياؤه من كفّار قريش، فالمفعول الثاني على هذا محذوف.
(فلا تحسبنّهم) : بالتاء وفتح الباء خطاباً للنبي - صلى الله عليه وسلم -
وبالياء وضمّ الباء، أسند الفعل للذين يفرحون، أي لا يحسبون أنفسهم.
(فإن آنسْتم منهم رشداً) :
الخطاب لأولياء الأيتام أن يدفَعوا إليهم أموالَهم إذا رشدوا، وهو المعرفة بمصالحه وتدبير ماله، وإن لم يكن من أهل الدّين.
واشترط قومٌ الدين، واعتبر مالك البلوغَ والرشد.
وحينئذ يدفع المال.
واعتبر أبو حنيفة البلوغ وحده ما لم يظهر سفَه.
وقوله مخالف للقرآن.

(3/32)


(فَليَسْتَعْفف) :
أمر الوصيَّ الغنِيَّ أن يستعفف عن مال اليتيم
ولا يأكل منه شيئاً، وإنْ كان فقيراً فليأكل بالمعروف من غير إسراف.
وقيل: المراد أن يكون له أجرة بقَدرِ عمله وخدمته.
وقيل نسخها: (إن الذينَ يأْكلُونَ أموالَ اليتامى ظُلْماً) .
قال عمر بن الخطاب: لا بأس للوصيّ الفقير أن يستسلف من مال محجور له، فإذا أيسر ردَّه.
(فانْكحوا ما طابَ لكم من النساءِ) ، أي ما حلّ.
وإنما قال " ما " ولم يقل " من "، لأنه أراد الجنس.
وقال الزمخشري: لأن الإناث من العقلاء يجري مجرى غير العقلاء، ومنه قوله تعالى: (أو ما ملكَتْ أيْمَانُكم) .
(فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) .
إباحة للأزواج أو للأولياء على ما تقدم من الخلاف - أن يأخذوا ما دفعه النساء من صدقاتهن عن طِيبِ أنفسهن.
وقد قال بعضهم: مَنْ أصابه ألم فليأخذ مِنْ صَدَاق زوجه أربعةَ دراهم، ويشتري بدرهمين عسلاً وبدرهمين زيتاً ويشربها بماء مطر، فإن الله يعافيه، لأن الله قال في الزيت مباركاً، وفي المطر مباركا، وفي العسل شفاء، وفي الصداق الهناء -.
وإن أضاف إليها آيةً من كتاب الله ففيه الشفاء أيضاً.
(فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً) ، إنما أنّثَ ضمير الجماعة في (كن) ، لأنه قصد الإناث.
وأصله أن يعود على الأولاد، لأنه يشمل الذكور والإناث.
وقيل: يعود على المتروكات.
وأجاز الزمخشري أن تكون كان تامة، والضمير مبْهَم، ونساء تفسير.
(فوق اثنَتَين) :
ظاهره أكثر من اثنتين، ولذلك جمع على أن للثلاث فما فوقهن الثلثين، وأما البنتان فاختلف فيهما، فقال ابن عباس: لهما النصف كالبنت الواحدة.
وقال الجمهور: لهما الثلثان.
وتأولُوا فوق اثنتين فما فوقهما.
وقال قوم: إن فوق زائدة كقوله: (فاضرِبوا فوق الأعناق) .

(3/33)


وهذا ضعيف.
وقال قوم: إنما وجب لهما الثلثان بالسنّة لا بالقرآن.
وقيل بالقياس على الأختين.
(فلها النصف) :
نصّ على أنَّ للبنت النصف إذا انفردت، ودليلٌ على أن للابن جميعَ المال إذا انفرد، لأن للذكر مثل حظّ الأنثيين.
(فلأمه الثلث) :
لم يجعل الله للأم الثلث إلا بشرطين:
أحدهما عدم الولد.
والآخر إحاطة الأبوين بالميراث، ولذلك دخلت الواو
لِتَعْطِفَ أحدَ الشرطين على الآخر.
وسكت عن حظ الأب استغناء بفهمه، لأنه لا يبقى بعد الثلث إلا الثلثان ولا وارث إلا الأبوان، فاقتضى ذلك أنَ الأب يأخذ بقيّته وهو الثلثان.
(فإن كان له إخوة فلأمَه السّدس) :
أجمع العلماء على أن ثلاثة من الإخوة يردّونَ الأم إلى السدس.
واختلفوا في الإثنين، فمذهب الجمهور أنهما يردانها إلى السدس.
ومذهب ابن عباس أنهما لا يردانها إليه، بل هما كالأخ الواحد.
وحجَّته أنَّ لفْظَ الإخوة لا يقع على الإثنين، لأنه جمعٌ لا تثنية.
وأقلّ الجمع ثلاثة.
وقال غيره: إن لفظ الجمع قد يقَع على الإثنين، كقوله: (وكُنا لِحكمِهِم شاهِدين) .
و (تسوَّروا المحراب) .
(وأطرَاف النهار) .
واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الاثنان فصاعدا جماعة ".
وقال مالك: مضت السنة أن الإخوة اثنان فصاعداً.
ومذهبه أن أقلّ الجمع اثنان، فعلى هذا يحجب الأخَوان فصاعداً الأم عن الثلث إلى السدس، سواء كانا شقيقين، أو لأب، أو لأم، أو مختلفين، وسواء كانا ذَكَرَيْن أو أنثيين، أو ذكراً وأنثى، فإن كان معهما أبٌ ورث بقية المال، ولم يكن للإخوة شيء عند الجمهور، فهم يحجبون الأمَّ ولا يرثون.
وقال قوم: يأخذون السدس الذي حَجَبوا عنه الأم، وإن لم يكن أب ورثوا.

(3/34)


(فهم شرَكاء في الثّلث) :
يعني إن كان الإخوةُ للأم اثنين فأكثر فلهم الثلث بالسواء بين الذكر والأنثى، لأن قوله: (شركاء) يقتضي التسوية بينهم، ولا خلاف في ذلك.
ولما وقع النزاع بين فَقِيهَيْنِ في أقل الجمع، هل هو اثنان أو ثلاثة، رأى
أحدهما رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فاشتكى إليه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: كلّ منكم مصيبٌ، فإن أقلً جمع التثنية اثنان.
وأقل جَمْع الإفراد ثلاثة.
فانظر كيف أَرضماهما ظولف بقوله.
(فاستَشْهِدوا عليهنَّ أربعةً منكم) ، إنما جعل شهداء الزنى
أربعة تغليظاَ على المدعي، وسَتْرًا على عباده، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "هَلاَّ سترتَه بردائك".
وفي حديث آخر: "من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستترْ عنا بستر
الله، ومن أبدى لنا صَفْحَة وجهه أقمنا عليه الحدَّ".
وقيل: ليكون شاهدان على كل واحد من الزانيين.
(فأَمسكوهن في البيوت) : كانت عقوبةُ الزنى الإمساك في
البيوت، تم نُسخ ذلك بالإيذاء المذكور والتوبيخ.
وقيل إن الإمساك في البيوت للنساء، والإيذاء للرجال، فلا نَسخ بينهما.
ورجَّحه ابن عطية والزمخشري وابن الغرس بقوله في الإمساك: من نسائكم، وفي الإيذاء: منكم، ثم نسخ الإمساك والإيذاء بالرجم للمحصَن، وبالجلد لغير المحصَن.
واستقر الأمرُ على ذلك،فأما الجلد فمذكور في سورة النور، وآما الرجم فقد كان في القرآن ثم نسخ لفظه، وبَقِي حكمه.
وقد رجم - صلى الله عليه وسلم - ماعزاً الأسلمي وغيره.
(فأَعرِضوا عنهما) :
لما أمر بالإيذاء للزاني أمر بالإعراض عنه إذا تاب، وهو تَركُ الإيذاء، وفيه ترجية للتائب.
وقد أخبرنا الله في أربع آيات من كتابه أنه يتوب على المؤمنين، قال تعالى: (لقد تاب الله على النبي) .
(ويتوبَ اللَهُ على المؤمنين) .
(والله يريد أن يتوبَ عليكم) .
(إنما التوبة على الله) .
وأخبرنا في ثلاث آيات أنه يقبل توبتهم،

(3/35)


قال تعالى: (ألم يعلموا أن اللهَ هو يَقْبَل التوبةَ عن عباده) .
(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) .
(وقابل التَّوْبِ) .
وذكر لنا أنه يغفر لهم في ثلاث آيات، قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) .
و (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) .
(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) .
وأخبرنا في آيتين أنا إنْ رجَعْنا إليه قَبلنا، قال تعالى: (وأنِيبوا إلى رَبكم) .
وقال: (فَفِرُّوا إلى اللهِ) .
وقد قدمنا أن في هاتين الآيتين إشارةً إلى فلاح التائب ومحبته له.
وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) .
فقدم محبةَ التائب على التطهر، وما ذلك إلآ أنَ التائبَ تقَع ندامته واستغفاره، وطلب العذْر والدعاء من مولاه، ولذلك كان المعصوم على الإطلاق يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من مائة مرة.
وقال الصحابي: إنْ كُنّا لنعدّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد: رب اغفر لي وتُبْ عليَّ - أكثر من سبعين مرة، فكيف بك أنها الغَرِيقُ! ولا يخلصك من ذلك إلا بكثرة الاستغفار، والصلاة على النبي المختار - صلى الله عليه وسلم -، فإنهما يَمْحَقان الذنوب مَحْقاً.
قال - صلى الله عليه وسلم -: " التائب من الذنب كمن لا ذَنْبَ له ".
وإذا لأَمًلْتَ الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، تجد فيها محبةَ الله للتائب
والمستغفر، ألا ترى أن اللَهَ قدّمه في آيات من كتابه، كقوله تعالى: (التّائبُون
العابِدُون الحامدون) .
(فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مُقْتَصِد) .
وفي الحديث: " طُوبَى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً ".
وقد قرن اللهُ صحبةَ التائبين مع الصابرين، والمجاهدين والمحسنين.
والمتوكلين والْمُتَقين والمقاتلين في سبيله، والمتّبعين لنبيه، فما أشرفَها من خصلة إن وفَّقَك الله إليها! ويا لها من نعمة يجب عليك شكرُها! وكيف لا تشكره عليها

(3/36)


والشكر نعمةٌ أخرى، لكنه سبحانه يعطي الكثير، ويَرْضى باليسير.
، فاللسان ترجمان القلب.
ولو جعل الله في قلبك رؤية هذه النعم لحركته فما يدفَع عنك
النَقَم، أعجبتكَ نفسك، فرضيت أفعالها! ألم تعلم أنَّ أصْل كلِّ معصية الرضا عن النفس.
سرحت لسانك في أعراض إخوانك، وهل خلقه لك إلا لتسبِّحه، أو
تذكر نِعَمه، أو تستغفر من ذنوبك الصادرة منك! فإنّا للَه وإنّا إليه راجعون
على مصابنا وعدم اهتبالنا بما كسبته جوارِحُنا، نسأله سبحانه السلامة والعافيةَ في ديننا ودنيانا، بجاه نبينا وحبيبنا.
(فاحشة ومَقْتاً) .
قد قدمنا أن الفاحشةَ معناها الزنى، وزاد في هذه الآية (مَقْتاً) ، لأنَ تزوّجَ الرجل زوجة أبيه أشدّ من الزنى.
(فَتَيَاتكم المؤمنات) : هنَّ الإماء.
ويجوز نكاحهن إذا لم يجد طَوْلاً للمحصنات.
(فانكحوهنَّ بإذْن أهلهن) ، أي ساداتهنَّ المالكين لهن.
(فإذا أُحْصِنَّ) .
معناها إذا زنت الأمَة بعد أن أحصنت فعليها نصف حدّ الحرة.
(فَتِيلا) : هو الخيط الذي في شقّ نواة التمرة.
وقيل: ما يخرج بين إصبعيك وكفّيك إذا فتلتهما، وهو تمثيل وعبارة عن أقل الأشياء، فيدل على الأكثر بطريق الأولى.
(فَردوه إلى الله والرسول) :
الردُّ إلى الله هو النظر في كتابه.
والرد إلى الرسول هو سؤائه في حياته، والنظر إلى سنَّته بعد وفاته.
(فَمِنْهمْ مَنْ آمَن به) .
معناها أنَّ مِنَ اليهود مَنْ آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو بالقرآن المذكور في قوله: (مصدّقاً لما معكم) .
أو بما ذكر من حديث إبراهيم.
فهذه الضمائر في (به) .
وقيل منهم، أي من آل إبراهيم، ومنهم من كفر كقوله: (فمنهم مهْتَدٍ وكثير منهم فاسقون)

(3/37)


(فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) .
معناها: كيف يكون حالُهم إذا عاقبهم الله بذنوبهم، ويقولون: لم نرد إلا
مُوافَقتك يا محمد، مع أنهم كاذبون في قولهم، فانظر هذه الملاطفة الواقعة مِنْ أمْرِ اللَه لرسوله في شأنهم.
(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) :
لا هنا مؤكدة للنفي الذي بعدها.
ومعنى الآية أنهم لا يؤمنون حتى يرضوا بحكم النبي - صلى الله عليه وسلم.
ونزلت بسبب المنافقين الذين تخاصموا.
وقيل بسبب خصام الزبير مع الأنصاريّ في الماء الذي قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أن كان ابن عمتك ".
وحكمها عام.
(فأولئك مع الَّذِين أَنْعَمَ اللَّهُ عليهم.. .) .
أشار بها إلى أنَّ مَنْ أطاع الله ورسوله يحشر معهم.
وهي مفسرة لقوله: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) .
(فانْفِروا ثُبَاتٍ) ، أي اخرجوا للجهاد جماعات متفرقين، أو جماعات.
وفيها إشارةٌ إلى السرايا، وأنَ مَنْ خرج بها فهو كالمجاهد، ولا يُقال إنَّ المجاهد لا يكون إلاَّ مع الإمام، وقد صحّ أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لولا أن أشقّ على أمتي ما قعدْتُ خِلاَف سَرِيّة ".
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يبعث السرايا ويحرِّض عليها.
وقد وصف من تخلّف عنها بأنه من المسْتهزئين.
(فبما نَقْضِهم ميثاقَهم) :
(ما) زائدة للتأكيد، والباء تتعلق بمحذوف تقديره: بسبب نقضهم فعلنا ما فعلنا، والباء تتعلق بقوله: (حَرَّمْنَا عليهم) ، ويكون (فبِظُلمٍ) على هذا بدلاً من قوله (فبما نَقْضِهم) .
(فآمِنُوا خَيراً لكم) :
انتصب (خيراً) هنا، وفي قوله: (انتهوا خيراً لكم) - بفعل مضمر تقديره: وأْتُوا إيماناً خيراً لكم.
هذا مذهب سيبويه، وعلى هذا فنصبُه على النعت لمصدر محذوف.
وقال بعض الكوفيين: هو خبر كان المحذوفة، تقديره يكن الإيمان خيراً لكم.

(3/38)


(فمن اضْطرَّ) :
راجع إلى المحرمات المذكورة قَبْلَ هذا: أباحها اللَّهُ عند الاضطرار.
(فاغْسِلوا وجوهَكم وأَيدِيَكُمْ إلى المرافق) :
ذكر الله في هذه الآية صفةَ الوضوء، وذكر فيها أربعة أعضاء: اثنان محدودان وهما اليدان والرجلان، واثنان غير محدودَيْن وهما الوجه والرأس.
فأما الحدودان فتغسل اليدان إلى المرفقين، والرِّجلان إلى الكعبين وجوباً بإجماع، فإنَّ ذلك الحد هو الذي جعل الله لهما.
واختلف هل يجب غسل المرفقين مع اليدين وغسل الرجلين مع الكعبين أم
لا، وذلك مبني على معنى إلى، فمن جعل إلى بمعنى مع في قوله: (إلى المرافق)
و (إلى الكعبين) - أوجب غسلهما، ومن جعلها بمعنى الغاية لم يوجب غَسْلهما.
واختلف في الكعبين: هل هما اللذان عند معقد الشِّراك لذكرهما بلفظ
الجمع، كما ذكر المرافق، لأنه على ذلك في كل رجل كعب واحد.
وأما غير المحدودين فاتّفق على وجوب إيعاب الوَجه، وحَدّه طولا مِنْ أَوَّل
منابت الشعر إلى آخر الذقن واللحية، وحدّه عَرْضاً من الأذن إلى الأذن.
وقيل من العِذار إلى العِذَار.
وأما الرأس فمذهب مالك وجوب إيعابه كالوجه.
ومذهب كثير من العلماء جواز الاقتصار على بعضه، لما روي في الحديث أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على ناصيته، ولكنهم اختلفوا في القَدْرِ الذي يجزئ على أقوال كثيرة.
وسِرّ الأمر في غسْل هذه الأعضاء في الوضوء أن الله أكرم هذه الأمة في
الجنة بالخواتم والخلاخل والأسورة والتِّيجان والنظر إلى الله، فأمرهم بغسل هذه الأعضاء، ليطهرهم من الذنوب الواقعة منها، فيلقوه ولا ذَنْب عليهم، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: " إني لأعرف أمتي يومِ القيامة، لأنهم غرّ محجلون من آثار الوضوء ".
فلا يحافظ عليه إلا مؤمن، لأن مفتاحَ الجنّة لا إله إلا الله، ومفتاح الصلاة

(3/39)


الوضوء: قال الله تعالى: (وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) .
فانظر كيف سوَّاهم مع رسول الله، لقوله: (إنما يريد الله ليذْهِبَ عنكم
الرِّجْسَ أَهلَ البَيت) .
(ويتم نعمته عليك) .
فإن قلت: لم مُنِع المتيمم من مسح رأسه؟
والجواب أنَّ وَضْعَ التراب على الرأس علامة الفراق من الحبيب، والله تعالى
لا يحب فراقهم، فلم يجعل لهم ما يتفاءلون به على الفراق.
(فَاطَّهَّروا) :
هذا أَمرٌ بالغسل لمن وجب عليه، وفيه إجمال، بخلاف الوضوء، فإنما فصله لأنه من خصائص هذه الأمة، ولم يكونوا يعرفونه، بخلاف الغسل، فإنما علموه مما تقدم.
وبهذا أمر الله الأمم المتقدمة، وسِره ليذوق الإنسان وبالَ ما أصابه من اللذة في الوقاع، وأن الدنيا لا تَخْلو من كَدَرِ، وفيه معنى النظافة، ولهذا لا ينبغي للإنسان أن تمرّ عليه جمعة إلا ويغتسل فيها مرةً، مع أنه يكفر السيئات، ويرفع الدرجات، وقد صحّ أنه يكفر بعدد شعر جسده من السيئات.
فإن قلت: ما معنى الحديث: " هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قَبلي " لَمّا غسل الأعضاء ثلاثاً، مع قولكم: إنه من خصائص هذه الأمة؟
والجواب أنه كان من خصوصية الأنبياء لا أممهم، لما قدمناه من أنَ الله أراد
بذلك تطهيرهم، ولهذا تقول الأنبياء والأمم يوم القيامة: كادت هذه الأمة أن تكون كلها أنبياء، فما أشرفها من أمة نبِيٍّ كريمٍ!
(فأغريْنا) ، أي أثبتنا وألصقنا، وهو مأخوذ من الغراء.
(فَترَةٍ) : سكون وانقطاع، لأنه - صلى الله عليه وسلم - بُعث بعد انقطاع
الرسل، لأنها كانت متواترة، كلّما جاء أمةً رسولها كذّبوه إلى وقت رَفْع عيسى، فانقطعت الرسل إكراماً لهذا النبي الكريم.

(3/40)


(فَلِمَ يعَذَبُكم بِذنوبِكم) :
رد عليهم، لأنهم قد اعترفوا أنهم أبناء الله وأحبّاؤه، فردّ الله عليهم أنه يعذبهم وينتقم منهم، والأبُ لا يعذّب ولده، والحبيب لا يرضى بعذاب حبيبه، ففيه تبكيتٌ لهم، وإشارة إلى أن من أحبَّه يرفع درجته، ولا يكون العبد محبوباً عند مولاه إلا بعد الإخلاص في العبودية، والقيام بحقوق الربوبية.
وأمّا من يدَّعي المحبّة وهو عَريّ عنها فهو كاذِبٌ في دَعْواه، غَيْر واصل لما
يتمنّاه.
واعلم أن العَبْدَ مع الله على ثلاثة أوجه:
حال يكون للعبد عليه.
وحال يكون للَه على العبد.
وحال يكون على رأس العبد شاء ذلك العبد أو أَبى.
فأما الحال التي تكون للعبد على الله فهي حال الشدة والمحنة، فللعبد على اللَه الأجر والعوض، قال تعالى: (ذلك بأنّهم لا يصيبهم ظَمَأ ولا نَصَب) .
وأما الحال التي تكون للَه على العبد فهي حال النعمةِ والرخاء، ولله على العبد الشكر والنعمة، قال تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) .
وقال: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) .
وأما الحال التي تكون على رَأس العبد فهي حال القضاء والقدر، قال تعالى:
(قل لَنْ يُصيبنا إلاَّ ما كتَب الله لنا) .
وإذا علمت هذا فمرادُ الله منك في حال النعمة - الشكر، ومجازيك بالزيادة: (لَئِنْ شَكَرْتمْ لأَزِيدَنكم) .
وفي حال النقمة الصبر، ومجازيك بالثواب الجزيل (وجَزَاهمْ بما صَبَروا جَنَّةً وَحَرِيرا) .
وفي حال الطاعة - الإخلاص، ومجازيك بالقَئول: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) .
وفي حال المعصية التوبة والرجوع إليه، ومجازيك بالمغفرة.

(3/41)


فمن ادَّعى محبَّته تعالى وهو غَيْرُ ممتثل لأمْرِه فهو كذاب في دعواه، غير
مدرك ما يتمنّاه.
وهذه دعوى اليهود والنصارى وهم مخالفون في أَمره، فإياك
والتشبّه بهم، فالتشبّهُ بأهل الخير فلاح.
وإذا كان سبحانه يسأل الصادقين عن صِدقهم فكيف بمَنْ لم يعمل، وقد
قالوا: عمَل بلا إخلاص كحقيقةٍ بلا روح، فلا تكثروا العملَ بالبَهْرَج، غدير صاف أنفع من خليج كَدِر.
ما أشبه حجر الْمَهَا بالْجوهر، لكن بين الثمنين بَون بعِيد.
ربح المرائي منتن يَشِين القلوب الصافية.
(فافْرُقْ بيننا وبين القوم الفاسقين) :
هو من الفرقة.
وقيل من الفَصْل، أي افصل بَيْنَنا وبينهم بحكم.
(فإنّها مُحَرَّمة عليهم أربعين سنةً) :
قد قدمنا أنَّ الله حرَّم على بني إسرائيل الأرضَ المقدَّسة أربعين سنة، مدة عبادتهم العِجْل، حتى مات كلّ مَنْ قال: (إنا لنْ نَدْخلَها) ، ولم يدخلها أحَد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالب، ومات هارون في التيه، ومات موسى بعده في التِّيه أيضاً.
وقيل إِن موسى وهارون لم يكونا في التّيه، لقوله: (فافْرُقْ بيننا وبين القوم الفاسقين) .
وخرج يوشع ببني إسرائيل بعد الأربعين سنة، وقاتلَ الجبَّارين، وفتح المدينةَ.
والعامل في أربعين محرّمة - على الأصح، فيجب وَصْله معه.
وقيل العامل فيه يتيهون، فعلى هذا يجوز الوقف على قوله: (مُحرَّمة عليهم) .
وهذا ضعيف، لأنه لا حامل على تقديم المعمول هنا، مع أنَّ القولَ الأول أكمل معنى، لأنه بيانٌ لمدة التحريم والتّيه معاً.
(فلا تأْسَ على الْقَوْمِ الفاسِقين) .
أي لا تَحْزَنْ على مَنْ فسق منهم يا محمد، لإنكارهم هذه القصص في كتابك، مع علمهم بها في كتبهم.
وقيل الخطاب لموسى.
(فكأنَّما قَتَلَ الناسَ جَمِيعاً) :
تمتيل قاتِلِ الواحدِ بقاتل الجمع يتصوَّر من ثلاث جهات:
إحداها: القِصاص في قَتْل الواحد والجمع سواء.

(3/42)


والثاني: انتهاك الحرمة، والإقدام على العصيان.
والثالث: الإثْم والعذاب الأخْرَوِي.
قال مجاهد: إنَّ الله وعد قاتل النفس بجهنّم والخلود فيها، والغضب واللعنة.
والعذاب العظيم.
فإن قَتَل جميع الناس لم يزِدْ على ذلك.
وهذا الوجه هو الأظهر، لأنَّ القصد بالآية تعظيم قَتْلِ النفس، والتشديد فيه، ليَزْدَجِر الناس عنه.
وكذلك الثواب في إحيائها كثواب إحياء الجميع، لتعظيم الأمْرِ والترغيب فيه.
وإحْياؤها هنا إنقاذها من الموت، كإنقاذ الغريق وشبهه.
وقيل بترك قَتْلها.
وقيل بالعفو إذا وجب القصاص.
(فمَنْ تاب منْ بَعْد طلْمه) :
توبة السارق هي أن يندم على ما مضى، ويُقْلِعَ فيما يستقبل، ويردّ ما سرق إلى مَنْ يستحقّه.
واختلف إذا تاب قبل أن يصل إلى الحاكم، هل يسقط عنه القَطْع، وهو
مذهب الشافعي لظاهرِ الآية، أو لا يسقط عنه، وهو مذهب مالك، لأن
الحدودَ عنده لا تسقط بالتوبة، إلا المحارب، للنصّ عليه.
(فَتَرى الذِين في قلوبهم مَرَضٌ) :
هم المنافقون، كعبد اللَه ابن أبي بن سَلول وأصحابه.
(فعسى اللَهُ أن يأتِيَ بالفتح أوْ أَمْرٍ مِنْ عنده) :
لا يكون فيه تسبّب لمخلوق.
وقيل أَمْرٌ من الله لرسوله بقَتْل اليهود.
والفَتْح: هو ظهور النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين.
(فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) :
مِنْ قَصْدِهم الاستعانة باليهود على المسلمين، وإضمار العداَوة للمسلمين.
(فسوف يَأتي اللَّهُ بقَوْم يحِبّهم ويحبّونه) : قرأ - صلى الله عليه وسلم - هذه
الآية، وقال لهم: قوم هذا، يعني أبا موسى الأشعري.
والإشارة بذلك - والله أعلم إلى أهل اليمن، لأن الأشعريين من أهل اليمن.
وقيل المراد أبو بكر الصدِّيق وأصحابه الذين قاتلوا أَهْلَ الردَّة.
ويقَوِّي ذلك ما ظهر من أبي بكر الصِّديق رضي الله عنه

(3/43)


من الجد في قتالهم، والعَزْم عليه، حتى خالف في ذلك
عزم الناس، فاشتد عزمه، ووافقوه، وأجمعوا معه حتى نَصرهم الله على أهل
الردة.
ويقوّي ذلك أيضاً أن الصفات التي وصف بها هؤلاء القوم هي في
أوصاف أبي بكر، ألا ترى قوله تعالى: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) ، وكان أبو بكر ضعيفاً في نفسه قوياً في الله.
وكذلك قوله: (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) .
إشارة إلى مَنْ خالف أبا بكر ولامة في قتال أهْلِ الردة، ولم يرجع عن عَزْمه.
فإن قيل: أين الراجع من الجزاء إلى الشرط؟
والجواب أنه محذوف، تقديره: مَن يَرتَدِدْ مِنكمْ عن دِينه فسوف يأتي الله
بقومَ.
(فَعَمُوا وَصَمُّوا) :
عبارة عن تماديهم على المخالفة والعِصيان.
(فاجتَنِبوه) : نصّ في التحريم.
والضمير يعود على الرجس الذي هو خبر عن جميع الأشياء المذكورة.
(فيقُول ماذَا أجبتم) .
أي يقول الله للرسل يوم القيامة: ماذا أجابكم الأمم من إيمان وكفر، وطاعة ومعصية.
والمقصود بهذا السؤال توبيخ مَن كفَر من الأمم، وإقامة الحجة عليهم.
وانتصب ماذا بأجبتم بانتصاب مصدره.
ولو أراد الجواب لقال: ماذا أجَبْتم.
فإن قلت: يفهم من قوله تعالى: فيقول للمرسلين (ماذا أجبتم) أنه يخاطبهم
هناك، وكذا الخطاب منه سبحانه حيث وقع، كقوله لعيسى: (أأنْتَ قُلْت
للناس) ، وقد قلتم إنَّ كلامه تعالى قديم ملازم لِلذاتِ القديمة، وقول الرسل: (لا عِلْمَ لنَا) ما معناه، لأنهم علموا بمجاوبة قولهم وإنكارهم؟
والجواب أن الله يسمعهم خطابه حينئذ، لا أنه يحْدِثه، لأنه قديم قائم

(3/44)


بذات، وهكذا نداؤه سبحانه للرسل والأمم يومئذ، كقوله: (ويَوْمَ ينادِيهم
فيقولُ ماذا أَجَبْتُم الْمُرْسَلين) .
والرّسل صلوات الله وسلامه عليهم لم يذهلوا عن جوابِ قومهم لهم في الدنيا، لأنهم آمِنون يومئذ، وإنما تأدَّبوا مع الله سبحانه لردّ العلم إليه سبحانه.
قال ابن عباس رضي الله عنه: المعنى لا علم لنا إلا ما علمتنا.
وقيل معناه عِلْمنا ساقط في جَنْب علمك.
ويقوّي هذا قولهمِ: (إنَّكَ أنْتَ عَلاَّم الغُيوب) ، لأن من علم الخفيَّات لم تَخْف عليه الظواهر.
وسؤال الله لهم مع علمه توبيخٌ واحتجاجٌ على المخالفين.
وانظر الصحابة رضي الله عنهم كيف تأدبوا بهذا الْخُلق العظيم في آخر حجَّةِ
الوداع لما قال - صلى الله عليه وسلم -: " أيُّ يوم هذا، أي شهر هذا، أي مكان هذا، فأجابوا بقولهم: الله ورسوله أعلم، مع أنهم علموا الشهر واليوم والمكان، لكنهم تأدّبوا معه - صلى الله عليه وسلم -، وتوهموا لعله أن يريد غير هذا.
(فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) .
هذه عادةُ الله سبحانه في عقاب مَنْ طلب مِنَ الرسول آيةً
فكفرها، وأصحابُ المائدة سألوها من عيسى، فقال الله: (إني مُنَزلها عليكم) ، فكفروا، فمسخهم الله قردةً وخنازير.
قال عبد اللَه بن عمر: أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة مَن كفَر من أصحاب المائدة، وآل فرعون، والمنافقون.
(فانظروا) :
أمَر الله رسولَه أن يأمر قريشاً بالسير في الأرض للاعتبار بمنازل الكفار الذين كانوا قبلهم.
فإن قلت: ما الفرق بين قوله: (فانظروا) ، و (ثم انظرُوا) ؟
والجواب أنه جعل النظر مسبَّبا عن السير في قوله: (فانظروا) ، فكأنه قال:
سيروا لأجل النظر.
وأما قوله: (قُلْ سيروا في الأرض ثم انْظروا) ، فمعناه إباحةُ السير للتجارة وغيرها من النافع، وإيجاب النظر في الهالكين.
(فإنّهم لا يكذِّبونك) .
بتشديد الذال بمعنى لا يكذبونك

(3/45)


معتقدين لكذبك، وإنما هم يجحدون الحق جمع علمهم به.
ومن قرأه بالتخفيف قيل معناه لا يجدونك كاذباً.
يقال: أكذبْت فلاناً إذا وجدته كاذباً، كما يقال
أحْمدته إذا وجدته محموداً.
وقيل هي بمعنى التشديد، يقال أكْذَب فلانٌ فلاناً، وكذّبه بمعنى واحد.
وهو الأظهر، لقوله بعد هذا: (يجحدون) .
ويؤيد هذا ما روي أنها نزلت في أبي جهل، فإنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا لا نكذِّبك، ولكن نكذب ما جئْتَ به، وإنه قال للأخنس بن شَرِيق: والله إن محمداً لصادق، ولكني أحسده على الشرف.
(فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) ، أي من الذين يجهلون أنَّ اللَه لو شاء لجمعهم على الهدى.
وقد قدمنا أن قول الله: (فَلَا تَكُونَنَّ) - بالتأكيد - لرسوله لإفراط محبته فيه، لأن العادة أن يكون الاجتهاد على قدر المحبة، بخلاف قوله لنوح: (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) ، لأنه صَفِيّ، ولا يبلغ قَدْر المحب.
(فَرَّطْنَا) ، أي ضَيَّعنا وأغفلنا.
والمراد بالكتاب في الآية اللَّوْح المحفوظ.
والكلام على هذا عامّ.
وقيل القرآن، ومعناه أن الله لم يفرط فيه من شيء، فيه هداية الْخَلق، والبيان لهم.
وقد قدمنا أنَّ جميعَ العلوم الدنيوية والدينية مستنبطةٌ منه.
(فلولا إذْ جَاءَهم بأسُنَا تَضَرَّعوا) :
في هذه الآية عرض وتحضيض على التضرع، ومدح لهم في رجوعهم إلى الله، ودليل على أن من أخذه اللَه بذنوبه فلم يرجع إليه يقسو قلبه، كما ذكر في هؤلاء الكذابين.
(فلما نَسوا ما ذكَروا به) :
أي من الشدائد، ولم يتعظوا بها، فتح عليهم أبواب الرزق والنعم، ليشكروا عليها فلم يشكروا، فأخذهم الله.
(فتَطْردهُمْ) :
هذا جواب النفي في قوله: (ما عليك) .
(فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ) :
استفهم عن المؤمنين والكافرين لعلهم يجيبون، فأجاب عن السؤال بقوله: (الذين آمَنوا ... ) .

(3/46)


وقيل إن (الذين آمنوا) استئناف، وليس من كلام إبراهيم.
(فإنْ يكْفرْ بها هؤلاء) : أي أهل مكة.
(فقد وَكَّلْنَا بها قوماً لَيْسوا بها بِكافرين) : هم الأنبياء المذكورون.
وقيل الصحابة، وقيل كلّ مؤمن.
والأول أرجح لدلالة ما بعده على ذلك.
ومعنى توكيلهم بها توفيقهم للإيمان بها، والقيام بحقوقها.
(فبِهدَاهمْ اقْتَدِه) :
استدل به مَنْ قال إنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنا شرع لنا.
وقد قدمنا أن الاختلاف إنما وقع في الفروع.
والخلاف: هل يقتدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها بمن قبله أم لا؟ والهاء في (اقْتَدِه) للوقف، فينبغي الوقف عليها، وتسقط في الوصل، ولكن من أثبتها فيه راعَى ثبونها في خط المصحف.
(فأخْرَجْنَا به) : أي بالماء.
ومنه: أي من النبات.
وذكر الله الإخراج في كتابه في خمس آيات: إخراج القدرة، وهو الصبيان.
(والله أخرجكم من بُطون أمَّهَاتِكُم) .
وإخراج النعمة كهذه، وكقوله: (فأخرج به من الَثمرات رِزْقاً لكم) .
(فأخرجنا به أزواجاً من نَبَاتٍ شتّى) ، كالحبّ والعِنَب.
وإخراج العقوبة: (فأخرجَهُمَا ممَّا كانَا فيه) .
وإخراج الهيبة: (يخرجون من الأجداث سِرَاعاً) .
وإخراج الكرامات: (يُخْرِجهم من الظَّلماتِ إلى النور) .
أي من الكفر إلى الإيمان، ومن النكرة إلى المعرفة.
فإن قلت: لم جمع الظلمات، وأفرد النور، وجمع السماوات وأفرد الأرض
حيث وقع في كلامه سبحانه؟
والجواب لما شَعَّب سبحانه الكفْرَ على شعب كثيرة جمعه بهذا الاعتبار.
والنُّور واحد أفرده وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
وكما نشاهد السماوات بعلامة الكواكب، والمنّة للهِ علينا فيها، لأن فيها منفعتنا ذكرهنَّ بلفظ الجمع، بخلاف الأرض، لأنّا لا نشاهد غير الأرض التي نحن

(3/47)


عليها، ولا منفعة لنا في غيرها، ولو كانت لنا فيها منفعة فالسموات أعظم
لخدمتهن، والاستدلال بكواكبهن، وخدمة أهلهن لنا كما قدمنا.
(فاعْبدوه) :
مسبَّب عن مضمون الجملة، أي من كان هكذا فهو المستحقُّ للعبادة وحده.
(فكلُوا مما ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عليه) :
أباحت هذه الآية أكْلَ ما ذُكر اسمُ الله عليه، والنهي عما ذبح للنّصُب وغيرها، وعن الْمَيْتَة.
وهذا النهي يقتضيه دليل الخطاب من الأمر، ثم صرح به في قوله: (ولا تَأكُلُوا مِمَّا لم يُذْكَرِ اسْم الله عليه) .
وقد استدل بذلك مَنْ أوجب التسميةَ على الذبيحة، وإنما جاء الكلام في سياق تحريم الْمَيْتَة وغيرها، فإنْ حملناه على ذلك لم يكن فيه دليل على ذلك.
وقال عطاء: هذه الآية أمْرٌ بذكر الله على الذبح والأَكل والشرب.
(فما كانَ لِشُرَكَائهم فلا يَصِلُ إلى الله) :
كانوا إذا هبّت الريح فحملت شيئاً من الذي لله إلى الذي للأصنام أقَرُّوه، وإذا حملت شيئاً من الذي للأصنام إلى الذي لله ردُّوه، وإذا أصابتهم سنَةٌ أكلوا الذي لله وتحامَوْا نصيب شُرَكائِهم، وهذا من جَهْلهم.
ولهذا رد الله عليهم بقوله: (ساء ما يَحْكمُونَ) .
(فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ البالغَةُ) :
لما أبطل حجّتهم أثبت حجة الله، ليظهر الحق، ويبطل الباطل.
(فإنْ شَهدُوا فلا تَشْهَد مَعَهُم) ، لأنهم يكذبون في شهادتهم، ونسبتهم لله ما لا يليق به، فكيف تشهد يا محمد وأنتَ على الحق.
(فَالق الحبّ والنوَى) :
أي يفرق الحبّ تحت الأرض، والحنطة لخروج النبات منها، ويفلق النوى لخروج الشجر منها.
وقيل أراد الشق الذي في النواة والحنطة.
والأول أرجح لعمومه في أصناف الحبوب.
(فالق الإصْبَاح) :
أي الصبح، فهو مصدر سُمِّي به الصبح.

(3/48)


ومعنى فَلقه إخراجه من الظلمة.
وقيل: إن الظلمة التي تنفلق عن الصبح، فالتقدير فالق ظلْمةِ الإصباح.
(فتَفَرَّقَ بكمْ عن سبِيله) :
أي تفرقكم عن سبيل الله.
والفعل مستقبل، حذفت منه المضارعة، ولذلك شدَّده.
(فرَّقوا دِينَهم وكانُوا شِيَعاً) :
جمع مَنْ فرق دينه من اليهود والنصارى وأهل البِدَع.
وقرئ: (فارَقوا) ، أي تركوا.
وفي الحديث:
" افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصَارى على اثنَتَين وسبعين.
وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلّها في النار إلا واحدة.
قيل: ما هي يا رسول الله، قال: ما أنا عليه وأصحابي ".
ولولا الإطالة لذكرت فرق هذه الأمة ومذاهبها.
وقد تكفّل بذكرها أئمتنا للاحتراز منهم، جزاهم الله عن هذه الأمة خيراً.
(فجاءَهَا بأْسنَا بيَاتاً) :
لا يصح عطْف هذه الآية بالفاء، لأن مجيء البأس قبل الإهلاك.
ويحتمل أن يكون استئنافاً على وجه التفسير للإهلاك، فلا يحتاج إلى تكلّف.
والمراد أهلكنا أهلها، فجاءهم، ثم حذف المضاف بدليل: (أوْ هم قَائلون) ، من القائلة بالنهار.
وقد أصاب العذابُ بعضَ الكفار المتقدمين بالليل، وبعضهم بالنهار.
و (أو) هنا للتنويع.
(فما كان دَعْوَاهمْ) :
أي ما كان دعاؤهم واستغاثتهم إلا الاعتراف بأنهم ظالمون.
وقيل: المعنى أن دَعْوَاهم هنا ما كانوا يدعونه من دينهم، فاعترفوا لما جاءهم العذاب بأنهم كانوا ظالمين في ذلك.
(فَلَنَقصَّنَ عليهم بِعِلْمٍ) :
أي على الرسل والأمم.
(فَبِمَا أغْوَيْتَنِي) :
الفاء للتعليل، وهو متعلِّق بفعل قسم محذوف، تقديره أقسم بالله بسبب إغوائك، لأغوينَ بني آدم، وما مصدرية.
وقيل استفهامية، ويبطله ثبوت (فَبِما) مع حرف الحر.
وفي الحديث أنه قال:

(3/49)


" لا أزال أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم ".
فقال الله:، " وعِزَّتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني، وأنا الغفور الرحيم ".
(فَعَفوا فاحِشة) :
هي ما كانت العرب تفعله من الطواف بالبيت عرايا: الرجال، والنساء.
ويحتمل عموم الفواحش.
(فمن أظلَم ممَّن افترى على الله كذباً) :
هذه الآية بالفاء، وفي الثانية من الأنعام، وفي يونس، لما فيها من المناسبة اللفظية، لأنه افتتح آية الأنعام بقوله: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) ، ثم قال: (ومَنْ أظْلَم) .
وختم الآية بقوله: (إنه لا يفلح الظالمون) .
ليكون آخر الآية لفظ أول الآية، وتتبع هذه الآية يطول ذكرها، فقِسْ ما ذكرته على ما لم نذكره.
(فَمَا كانَ لكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْل) :
هذا من قول أولاهم - وهم الرؤساء والقادة، لأُخْراهُمْ - وهم الأتباع والسفلَةُ: لم يكن لكم علينا من فَضْل في الإيمان والتقوى يُوجب أن يكون عذابنا أشدَّ من عذابكم، بل نحن وأنتم متساوون.
(فذوقوا العذابَ بما كنتم تَكسِبون) :
هذا يحتمل أن يكون من قولهم أيضاً، أو من قول الله لهم.
(فصَبْرٌ جَمِيلٌ) :
هذا وعْدٌ من يعقوب بالصبر، وارتفاعُه على أنه مبتدأ تقديره صَبْر جميل أمْثَل، أو خبر مبتدأ تقديره شأني صبر جميل.
روي أن يعقوب عليه السلام لما طال بكاؤه، واشتد حزنه، نهاه الله عن ذكر
يوسف، ثم أمر جبريل عليه السلام أن يتصور بصورة يوسف، فلما بصر به
يعقوب تأوّه، فأوحى الله إليه: قد علمتُ ما تحت أنينك، لو كان ميتاً لنشرته لحسن وفائك.
فقال: يا جبريل، ما أعلمني بحياته، فأحبّ أن أشمَّ ريحه.
فقال له: الآن بعد ما شكوته ودعوته بلسان الضرورة سأوصل إليك يوسف (1) .
وكذلك أنت يا مؤمن وعدَكَ ربُّك بالإجابة عند الاضطرار، وبغُفران
__________
(1) هذا أشبه بالإسرائيليات.

(3/50)


الذنوب عند الاستغفار، فقال: (استغفروا رَبَّكم إنه كان غَفَّاراً) .
(فَتَاها) ، أي عَبْدها.
ويقال بمعنى الشاب، والعرب تسمي المملوك شاباً كان أو شيخاً فَتًى.
فتأمل هذه الإضافة.
وفي قوله: (وراوَدَتْه التي هُوَ في بَيْتِها) : يوضّح لك أنكَ
في بيته وتحت يده، فإذا اجتنبت الكبائر وما أشبهها يعفو عنك الصغيرة، لأنك في بيته، قال تعالى: (إنْ تجتنبوا كبائِرَ ما تنْهَوْن عنه) .
كما عفا عن يوسف للنظر إليها والمخاطبة لاجتنابه الدنوَ إليها، لأنه كان في بيتها.
(فقدسرق أَخ لَه من قَبْل) :
هذا من كلام إِخْوَة يوسف، ومرادهم أنَّ هذا الأمر صدرَ مِنْ ابنٍ لأمّ لا مِنّا، وقصدوا بذلك رفع المَعَرَّة عن أنفسهم ورَمَوْا بها يوسف وشقيقه.
واختلف في السرقة التي رموا بها يوسف على ثلاثة أقوال:
الأول: أن عمّته ربَّتْه فأراد والده أن يأخذه منها، وكانت تحبّه ولا تصبر
عنه، فجعلت عليه منْطقةً لها، ثم قالت: إنه أخذها منها، فاستعبدته بذلك.
وبقي عندها إلى أن ماتت.
والثاني: أنه أخذ صنما لجدّه والدِ أمه فكسره.
والثالث: أنه كان يأخذ الطعام من دَارِ أبيه ويعطيه للمساكين (1) .
(فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ) :
الضمير للجملة التي بعد ذلك وهي قوله: (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا) .
(فتحسَّسُوا مِن يوسفَ وأخيه) ، أي تعرّفوا خبرهما.
والتحسس طلب الشيء بالحواس الأربعة: السَّمْع، والبَصَر، والشَّم، والذَّوْق.
وإنما لم يذكر الولد الثالث، لأنه بقي هناك اختياراً منه، لأن يوسف وأخاه كانا أحبَّ إليه لصغرهما.
__________
(1) لا دليل على واحد من الأوجه الثلاثة، والظاهر أنه افتراء من إخوة يوسف - عليه السلام - والله أعلم.

(3/51)


فإن قلت: أليست الحواسّ خمسة؟
قلت: الذي مشى عليه الفخر في تفسير قوله تعالى: (يوم تشهد عليهم
ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم) أن الحواسّ أربعة، فجعل الذوق واللمس واحداً، أَلا ترى أن الشم لا تكليف فيه ألبتَّة، ولا يتعلق به أمر ولا نهي، ولما كان الاسم الشريف من أربعة أحرف دلَّ على أن الحواس أربعة.
فالألف للسمع، والحاء للبصر، والميم للشم، والدال للذوق.
ووقع للفخر في سورة الحمد مناسبة اسمه - صلى الله عليه وسلم - أحمد ومحمد من الحمد، لأنه أول ما خلق الله العقل، فكان أول ما نطق به الحمْد، وآخر ما نطق به الحمد، وكان آخر الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام، فناسب الاسم أن يكون من نوع المبدأ، فاشتق له من الحمد اسمان: محمد وأحمد، فأهل السماء هو أحمدهم، وأهل الأرض هو مَحْمودهم.
(فلما دخلوا على يوسفَ) :
هنا محذوفات يدلّ عليها الكلام، وهي: فلما رحل يعقوب بأهله حين بلغه خبر يوسف - آوى إليه أبويه، أي ضَمَّهما وتعانقا، ورأى يعقوب أناساً كثيراً، فقال: يا يوسف، مَنْ هؤلاء، قال: يا أَبت، إن هؤلاء كلهم عَبيدي، وقد أعتقتهم كلَّهم لرؤيتك.
فكذلك أنتم يا أمةَ محمد، يقول الله عز وجل: يا محمد، يوسف أعتق عبيده
برؤية أبيه، وإني أعتق برؤيتك جميعَ عصاة أُمتك.
(أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ) :
هذه على القراءة بالعطف بالفاء المقتَضِية للتسبيب والتعقيب، ولا يصح العطف بالفاء، لأنَّ السبب على ثلاثة أنواع: ظاهر، وخفي، ومتوسط.
وإنما يحتاج إلى الفاء في التوسط والخفي، وأما هنا فظاهر كونه سبباً فما بعده، فلا يحتاج في عطفه إلى ما يبيّن كونه سبباً.
والآية عند بعض العلماء من باب القَلْب.
والأصل فيها: وأولئك في أعناقهم الأغلال، لأن الأغلال محيطة بأعناقهم كإحاطة الظرف بالمظروف، وأعناقهم هي المظروف.

(3/52)


وقد قالوا: إن القلب لا يجوز إلا في الضرائر أو فيما قلّ من الكلام.
وقد جعلوا منه: (ما إنَّ مَفاتِحَه لتَنوء بالعصْبَة أولي القوة) .
وفي الآية دليل على أنَّ منكِرَ البعث كافر، واشتملت على اللفظ العام
والإبهام، ثم التفسير، لأن قوله: (وأولئك الأغلال في أعناقهم) - تفسير للعذاب النازل بهم.
وهذا من باب ذكر المسبب عقب السبب، لأنَّ الكفر سبب في غلّ
الأعناق.
فإن قلت: هل هذا على التوزيع، أو كلّ واحد في عنقه أغلال؟
فالجواب أن آية الحاقّة، تدل على التوزيع لكلّ واحد غلّ واحد، أو
تكون الأغلال في رؤوسهم، وهو يقوم مقامَ سلاسل متعددة في عنق كلّ واحد من سائرهم، حتى لا يظهر منه شيء.
وقيل: إن هذا مجاز فيكونون في الدنيا ممنوعين من الإيمان، كقوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) .
والإشارة بأولئك وتكرارها للذين قالوا: (أإذا كنَّا ترابا) .
(فَاخْرج مِنها) :
الضمير يعود على الجنة، وإن لم يَجْرِ لها ذكر، أو من السماء، كما قال في آية الأعراف: (فاهْبِطْ منها) .
ويحتمل أن يعود الضمير على جملة الملائكة، وعلى هذا فيكون إبليس من
الملائكة، وهو الظاهر من القرآن، ومِنْ كثير من الأحاديث، وانتقده ابن عطية بأن الملائكة معصومون، قاله الأصوليون.
وحكى الطبري عن ابن عباس أن الله خلق ملائكةً فأمرهم بالسجود لآدم، فأبوا فأرسل الله عليهم ناراً فأحرقتهم.
ورُدَّ بثبوت العصمة للملائكة.
(فبما أغويتني) :
قد قدمنا مراراً أنَّ الإغواء هو الحَملُ على الوقوع في المعاصي، فلا يقدر على إغواء المخلصين

(3/53)


بوَجْه، لكن يزيِّن لهم فقط، لأن التزيين هو تحسين القبائح، فالإغواءُ يستلزم
الفعل، والتزيين لا يستلزمه.
فإن قلت: ما الفرق بين قسمه في الأعراف بالإغواء.
وفي (ص) : قال: (فبعزَّتِكَ لأغْوِيَنّهم) ؟
فالجواب أنه أقسم بالأول في الفعل، وفي الثاني بالصفة.
قال بعضهم: فعادَتهم يقولون: هذا مناقِضٌ لأصل الزمخشري، لأنه ينفي الصفات جملة، يقول: إن اللَه سميع لا يسمع، بصير لا يبصر، عليم لا يعلم، مريد لا بإرادة، قادر لا بقدرة، بل سميع لذاته، بصير لذاته، عالم لذاته.
(فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) :
هذا تأكيد بعد تأكيد، يتضمن الآخر ما تضمَّن الأول.
وقال غيره: لو وقف على كلهم لصلحت
للاستثناء وصلحت على معنى المبالغة، مع أن يكون البعض لم يسجد، وهذا كما يقول القائل: كلّ الناس يعرف هذا، وهذا يزيد لأن المذكور أَمر مشتهر، فلما قال (أجمعون) رفع الاحتمال بأن بعضهم لم يسجد، واقتضى الكلام أن جميعهم سجد.
وقال المبرد: لو وقف على (كلُّهم) لاحتمل أن يكون سجودهم في مواطن
كثيرة، فلما قال (أجمعون) دل على أنهم سجدوا في موطن واحد.
قال ابن عطية: واعترض على قول المبرد بأنه جعل قوله (أجمعون) حالاً بمعنى
مجتمعين، ويلزمه على هذا أن يكون أَجمعين، هذا على أَن يقرب من التنكير، إذ هو معرفة لكونه يلزم اتباع المعارف، والقراءة بالرفع تَأبى قوله.
فإن قلت: ما فائدة إتيانه في الحِجر وفي (ص) بهذا اللفظ دون غيرهما؟
فالجواب أنه لما بالغ في السورتين في الأمر بالسّجُود - وهو قوله: (فقَعُوا له
ساجدين) في السورتين بالغ في الامتثال فيهما فقيل: (فسجد الملائكة كلهم
أجمعون) ، لتقع التوفقة بين أولاها وأخراهَا.

(3/54)


(فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) :
هذا من قول إبراهيم عليه السلام على وَجْه التعجب مِنْ ولادته في كبره، أو على وَجْه الاستبعاد لذلك، حسبما قدمناه.
وقرئ بتشديد النون وكسرها على إدغام نون الجمع في نون الوقاية، وبالكسر والتخفيف على حذف أحد النونين، وبالفتح - وهو نون الجمع.
(فاسْألُوا أهْلَ الذّكْرِ) :
يعني أحبارَ اليهود والنصارى، لأن جميعهم يشهدون أن الرسل من البشر.
ويؤخذ من هذه الآية وجوبُ سؤال الجاهل عما يحتاج إليه في أمْرِ دينه، ولا
يُعذَر بجهله.
وفيها دليل على أن خَبر التواتر يفيد العلم، لأن المعنى: فاسألُوا أهلَ
الذِّكرِ لتعلموا إن كنتم لا تعلمون، فهو سؤال عمّا لم يعلم ليعْلم.
فإن كان المسؤولون بَالِغينَ عددَ التواتر فهو خَبَر تواتر، وإلا فهو خبر واحد محصل للعلم في الوجهين.
(فالذين لا يُؤْمِنُون بالآخرة قلوبهم مُنْكِرة) :
الفاء للتسبيب، وليس هو من باب ذكر اللازم، وإنما هو من باب ذكر الشيء عقيب نقيضه، لأن لازم كونه إلهاً واحدًا التصديق لا الإنكار والكفر.
(فخَرَّ عليهم السقْفُ مِنْ فَوْقِهم) :
هذا كقوله لهم: (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) .
وهل السقف إلا فوقهم.
وقد قدمنا سِرَّ التعببر من فوقهم فيما نقلناه عن ابن عطية.
(فادْخُلُوا أبوابَ جهنَّم) : حال مقدرة.
وجهنّم الطبقة الأولى من النار.
فإن قلت: كيف قال هنا: (ادخلوا أبْوَابَ جهنم) ، مع أنها مأوى العصَاة من
هذه الأمة؟
والجواب أنَّ دخولهم فيها ليس على جهة الاستقرار، وإنما هو على جهة
الدخول لما تحتها، لأن النصارى قيل في الثانية، واليهود في الثالثة.

(3/55)


ورُدَّ هذا بأنَّ الرسل مهما كثرت كانت عقوبة مكذبيها أشدّ، وقوم موسى
كفروا بموسى فقط، والنصارى كفَروا بعيسى وهو بعد موسى فعذابه أشد.
لأنه سبقه من الأنبياء كثيرون دَعَوْا إلى مثل ما دعا هو قومه.
(فتَمتَّعوا) : أي في الدنيا.
وهذا على وجه التهديد لمن عقل.
(فهو وَلِيّهم اليوم) :
فسره الزمخشري بوجوه:
منها أنَّ الضمير راجعٌ لكفار قريش، وأنه زَيّن لآبائهم أعمالهم فهو وليّ هؤلاء، لأنهم منهم، فعلى هذا يكون الألف واللام في اليوم لتعريف الحضور، وعلى الوجوه الأخر التي ذَكَر هو وغيره تكون إما لتعريف الماهية، أو لتعريف العهد.
(فأحْيَا بهِ الأرْضَ) :
الفاء للتعقيب، وخصوصا في مكة، لحرارة أرْضها كما قدمنا أنها تصبح أرضها خضراء بصب المطر أول الليل.
(فَرْثٍ ودَمٍ) :
قد قدمنا فيما نقلناه عن الزمخشري أنَّ الفرث ما في الكرش من القذر، وهذا من عجيب القُدرة أن اللبن متوسط بين الفَرْث والدم، ولا يغيِّران له لوناً ولا طعماً ولا رائحة.
قال أبو حيان: (من بين فَرْث ودم) حال من ضمير (نسقيكم) ، أي خارجا من بين فَرْث ودم.
وقيل متعلق بـ (نسقيكم) المقدر، إذ لا يتعلق مجروران بفعل واحد.
ويجوز هنا لاختلاف معناهما، لأن من الأولى للتبعيض، والثانية لابتداء الغاية.
(فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) :
في هذه الآية دلالة على الوحدانية، كأنًّ الله يقول: أنتم لا تسوُّون بين أنفسكم وبين عبيدكم، ولا تجعلونهم شركاء لكم، فكيف تجعلون عبيدي شركاء لي؟
والآخر أنها عتاب وذمّ لمن لا يحسن إلى مملوكه حتى يرد ما رزقه الله عليه، كما جاء في الحديث: " أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون ".
وفيها دليل على صحة

(3/56)


إطلاق لفظ البعض على النصف وعلى أكثر منه، لأن الفاضل أكثر رزقا من
المفضول.
وحكي الخلاف في البعض: هل يطلق على النصف أم لا؟
فإن قلت: التفاوتُ إنما هو في الرزق التكميلي الزائد على ما يُقيم الرّمَق
ويستر البدن.
وأما الحاجِيّ فهم فيه مع المماليك مستوون، فهلا قيل: فما الذين
فُضّلوا برادّي فَضْل رِزْقهم، كما قال: (والله فَضّل بعضَكم على بعض في
الرزق) ؟
والجواب: لو قيل: فما الذين فضلوا برادّي فَضْل رزقهم لكان فيه غثاثةٌ
لتكرار لفظ الفضل ثلاث مرات، وهذا يقال له في علم البيان الاستخدام، وهو أَن يعبَّر باللفظ عن غيره خوْفَ السآمة والملَل.
وأيضا فضل الرزق أخصّ من الرزق، فاستعمل الأخص في الثبوت، والأعم في النفي، لأن نفي الأعمّ يستلزم نَفْي الأخص.
فإن قلت: لفظ الردّ يقتضي سابقية: الملك والحوز، والمماليك لم يكن لهم ذلك بوجْه، فهلا قيل: فما الذين فضِّلوا بمعْطين رزقهم لما ملكت أيمانهم، وهذا نحو ما أوردوا في قوله تعالى، (أو لتعودُنَّ في مِلَّتِنا) ؟
والجواب: أنه إشارةٌ إلى تأكيد النفي، وأن هذا امتنعوا من إعطائه للمماليك
يمكن إن كان يكون للمماليك بدلا عنهم، فكانوا قابلين لأن يملكوه، لأن الذي أعطاه لسادتهم كان قادراً على إعطائه لهم دون ساداتهم بناء على أنَّ من ملك أن يملك يعدّ مالكاً، وإن فسرنا الرزق بما منعه السادات مماليكَهم في قوله: (فما الذين فُضّلوا برادّي رزقهم على ما ملكت أيمانهم) فتكون النعمة في قوله: (أَفَبِنعْمَة الله) - الرزق.
وإن جعلناه تمثيلاً، أي كما أنِفوا أن يشاركَهم أحَدٌ في رزقهم كذلك ينبغي ألاَّ يجعلوا مع الله شريكاً، فيكون المعنى أفبالدَّلائل الدالة على وحدانية الله يجحدون.
وانظر إذا ردّوا كلَّ رزقهم عليهم لا يكونون فيه سواء، وإنما يستوون معهم
بردّهم عليهم نصفَ فَضْل رزقهم، فإما أن يكونَ على حذف مضاف، أو يكون

(3/57)


الرزق مضافاً إلى ضمير ما ملكت أيمانهم، ويكون الذين فَضَّلُوا به مملوكهم هو رزق مملوكهم الذي يساوِيهم به في نفس الأمر.
(فلا تَضْرِبوا للهِ الأمْثَال) :
الضمير يعود على مَنْ عبد غير اللَه وأشركوهم في العبادة، مع أنهم لا يملكون شيئاً، فنبههم سبحانه بهذه الأمثال والمواعظ ليتنبّهوا ويرجعوا، لكن من المصيبة خطاب غير العاقل، والعاقل تكفيه الإشارة، ولا يستغرب هذا في حقهم، لأنَّا مثلهم في عدم الفهم والإدراك.
(فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) :
إما أن المراد به الكفار باعتبار من سيؤْمِنُ منهم وهم أقلّهم، فأقلهم يعلمون، وإما أن يراد به الأصنام، وعبَّر بالأكثر عن الكل، وهو بعيد.
ويحتمل أن يكون الحمد للَه من كلام الله تعالى، أثنى على نفسه بنفسه، أو
أمْرًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصا به، أو عامًّا له ولأمته: قولوا الحمد للَه على ما أنعم علينا، بأنْ هدانا ووفّقنا.
وفي قوله: (يَسْتَوُون) دليل لمن يقول: إنَّ أقلَّ الجمع اثنان كما قدمنا.
ونَفْيُ المساواة يقع في القرآن على وجهين: تارة مطلقاً كهذه الآية، وكقوله: (هل يَسْتَوي الذين يَعْلَمون والذين لا يَعْلمون) ، وتارة مع تعيّن الأرجح، كقوله: (لا يستوي أصحاب النارِ وأصحاب الجنةِ أصحابُ الجنة هم
الفائِزون) .
وكقوله: (لا يَسْتَوِي منكم مَن أنْفَق مِن قَبلِ الفَتْح) .
وإنما لم يعين هنا الأفضل لظهوره قبل، وكذلك كل أحد يعلم أنَّ أصحاب الجنة هم الفائزون.
وذلك أنَّ أصحاب النار يدخل فيهم العُصاة من المؤمنين والكفار، فهل قصد تفضيل أصحاب الجنة بالإطلاق على أصحاب النار بالإطلاق، أو على الكفار، فلما أعيد ذكر الأفضل علم أن المراد بأصحاب النار أصحابها حقيقة، وهو من حُكمَ عليه بالخلود فيها.
فإن قلت: الآية خرجت مخرج المدح لفاعل ذلك، فَهَلاَّ ذكر فيها صدقةَ
السرّ فقط، لأنها أفضل؟

(3/58)


والجواب: أنه قصد التنويه على كثرة إنفاقه ومبادرته إلى أفعال البِرّ كيفما
أمكنه، وبدأ بالسر، لأنه أفضل.
(فكفَرَتْ بأنْعُمِ الله) :
الضمير للقرية المذكورة في المثل.
واختلف فيها، فقيل مكة، لأنها كفرت بنبوءة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فأصابهم الجَدْب والخوف من غَزْو النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم.
وقيل: إنما قصد قريةً غير معينة أصابها ذلك، فضرب الله بها مثلاً، وهذا أظهر، لأن المراد وعظ أهلِ مكة بما جرى لغيرهم، والضمير في قوله: (فأذاقَها الله لِبَاسَ الجوع والخَوْف) لأهل القرية: فاعل قوله: بما كانوا يصنعون.
والإذاقة واللباس هنا مستعاران، أمّا الإذاقة فقد كثرَ استعمالها في البلايا حتى صارت كالحقيقة.
وأما اللباس فاستعير للجوع والخوْف لاشتمالهما على اللّابس ومباشرتهما له كمباشرة الثوب.
(فحقً عليها القَوْلُ) ، أي القضاء الذي قضاه الله.
والضمير يعود على القرية التي أمر مُتْرَفيها ففسقوا فيها، أي قضينا عليه بالفِسق.
وعلى قراءة مدّ الهمزة من (آمرنا) فهو بمعنى كثّرنا.
وقراءة أمَّرنا - بتشديد الميم فهو من الإمارة، أي جعلهم أمراء ففسقوا.
(فَضَلْنَا بعْضَهم على بَعْضٍ) :
أي في رزق الدنيا، ليتخذ بعضهم بعضاً سخْرياً.
(فَاسأَلْ بني إسرائيل إذْ جاءَهم) :
هذه الآية خطاب لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومعناها سلَ الْمعاصرين لكَ من بني إسرائيل عما ذكرنا من قصة موسى، لتزدادَ بذلك يقينا.
وقال الزمخشري: المعنى قلنا لموسى: سَلْ بني إسرائيل من فرعون، أي اطْلُب منه أنْ يرسلهم معك، فهو كقوله: (أرسل معي بني إسرائيل) .
أو سلهم أن يعضدوك ويكونوا معك.
وهذا أيضاً على أن يكون الخطاب لموسى.
والأول أظهر.

(3/59)


والعامل في إذ على هذا القول الأول آتينا موسى، أو فعل مضمر.
والعامل فيه على قول الزمخشري القول المحذوف.
(فَجْوَة) : متسع.
ويقال معناه أي موضع تصيبه الشمس.
(فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) :
لفظه أمْر وتخيير.
معناه أن الحق قد ظهر، فيختار كلّ إنسان لنفسه إما الحقّ الذي ينجّيه، وإما
الباطل الذي يُرْديه، ففي ضمن ذلك تهديد.
(فاختلط به نَبَات الأرْض) :
الباء سببية.
والمعنى صار به النبات مختلطاً، أي ملتفاً بعضه ببعض من شدّة تكاثفه.
(فأصبح هَشِيماً) ، أي متفتتاً، وأصبح بمعنى صار.
(فلَنْ يَهْتَدوا إذاً أبداً) :
يريد به من قضى أنه يؤمن.
(فأرَدْتُ أَن أعِيبَها) :
الضمير للسفينة.
وهذا مؤخّر في المعنى عن ذكر غَصْبها، لأن خوف الغصب سبب في أنه عابها.
وإنما قُدّم للعناية به، وأسند الإرادة هنا لنفسه، لأنها لفظ عيب فتأدّب بألا يسندها إلى الله، وذلك كقول إبراهيم: (وإذا مرضْت فهو يَشْفِين) .
فأسند المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله، تأدُّبا.
واختلف في قوله: (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا) :
هل هو مسند إلى ضمير الخضر أو إلى الله.
وقوله: (فأراد رَبُّك) .
أسندها إلى الله في هذه لأنها أمر مغيب مستأنف لا يعلمُ ما يكون منه إلا الله.
وقال بعض الصوفية: لما قال: فأردتُ، فأردنَا - تعرَّضَ له جبريل، فقال: مَنْ أنتَ وما فعلك، فأسنده في الثالثة إلى فاعل الأمور الذي بيده مقاليدها (1) .
(فأتْبعَ سَبباً) أي طريقاً يوصله.
__________
(1) كلامٌ لا دليل عليه.

(3/60)


(فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى) .
أي من تمادَى على الكفر قتله، وهو معنى قوله: (فسوف نُعَذِّبُه) .
ومَنْ أسلم أحسن إليه.
(فما اسْطَاعُوا) :
أصلُه استطاعوا، وحذفت التاء في هذا تخفيفا.
(فأوْحى إليهم) : أي أشار.
وقيل: كتب في التراب، إذ كان لا يقدر على الكلام، مع أنه سليم من الخرس، وإنما جعل الله له ذلك علامةً على حَمْل امرأته.
(فحمَلَتْهُ) : يعني في بطنها.
(فأجَاءهَا) ، معناه ألجأها، وهو منقول من جاء بهمزة التعدية.
(فإمَّا تَرَيِنَّ) :
هي إن الشرطية دخلت عليها ما الزائدة للتأكيد.
وترين فعل خوطبت به مريم، دخلَتْ عليه النون الثقيلة للتأكيد.
(فأتَتْ به قَوْمَها تَحْمِلُه) :
لما رأت الآيات ِ علمت أن الله سيبيِّنُ عذرها، قالوا لها: (يا مريم لقد جئْتِ شيئاً فَرِيًّا) .
من الفرْية، وهي الشنعة.
(فأشارَتْ إليه) ، أي إلى ولدها ليتكلَّم، وصمتت هي كما أمِرت.
فتولى الله تبرئتها، كذلك يعقوب بلغ به البلاء حتى ضاق به الأمر.
فأظهر الله له الفرج ببشارة القميص.
وكذلك موسى وعيسى، وكذلك عائشة لما ضاق بها الأمر حتى تركت العلائق، ورفعت قَلْبها عن الخلائق، فأنزل الله طهارتها، فقال لها أبوها: قومي فقبِّلي رأسَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: بحمد الله
لا بحمدكما، لأن الله طهَّرني بالآيات (1) .
كذلك أنْتَ يا محمدى، إذا ضاق بك الأمر، وتركت العلائق إلا من الله فتح
عليك باب البشارة، وأدخلك دار كرامته.
__________
(1) لفظه عند أبي داوود:
13963- أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِىٍّ الرُّوذْبَارِىُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاسَةَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ فِى قِصَّةِ الإِفْكِ ثُمَّ قَالَ تَعْنِى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم-: «أَبْشِرِى يَا عَائِشَةُ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَنْزَلَ عُذْرَكِ» . وَقَرَأَ عَلَيْهَا الْقُرْآنَ فَقَالَ أَبَوَاىَ: قُومِى فَقَبِّلِى رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: أَحْمَدُ اللَّهَ لاَ إِيَّاكُمَا.

(3/61)


(فاختلف الأحزبُ مِنْ بَيْنهم) ، أي من تلقائهم، ومن أنفسهم وأن الاختلاف لم يخرج عنهم.
والأحزاب: اليهود والنصارى، والحق خلاف أقوالهم كلِّها.
(فوَيْلٌ للذين كفروا) : قد قدمنا أنَّ الويل هو الحزن والثّبور.
ورُوي هذا الكفر الذي كفروا عن قتادة أن بني إسرائيل جمعوا من
أنفسهم أربعةَ أحبار غايةً في المكانة والجلالة عندهم، وطلبوا أن يبينوا أمر
عيسى، فقال أحدهم: هو الله نزل إلى الأرض، فأخيا من أَحيا وأَماتَ من
أمات.
تم صعد فقال له الثلاثة: ليس الأمر كذلك.
واتبعه اليعقوبية.
ثم قال أحد الثلاثة: عيسى ابن الله، فقال له الاثنان: كذبت، واتبعه
النسطورية.
ثم قال أحدهما: عيسى أحد ثلاثة: عيسى إله، وأمه إله، والله إله.
فقال له الرابع: كذبْتَ واتبعه الإسرائيلية.
فقال الرابع: عيسى عبد الله وكلمتُه ألقاها إلى مريم، فاتبع كلَّ واحد من الأربعة فريقٌ من بني إسرائيل، ثم اقتتلوا، وغلب المؤمنون، وقتلوا، وظهرت اليعقوبية على الجميع.
وروي أنه في ذلك نزلت: (إنَّ الذين يكفُرون بآيات الله) .
فإن قلت: ما الفرق بين وصفهم هنا بالكفر، وفي الزخرف بالظلم؟
فالجواب أنً الكفر أبلغ من الظلم.
وقصة عيسى في سورة مريم مشروحة فيها، ذكر نسبهم فيها إلى الله تعالى، حتى قال: (ما كان للهِ أن يتخذ مِنْ وَلَدٍ سبحانه) ، فذكر بلفظ الكفر.
وقصته في الزخرف جملة فوصفهم بلفظٍ دونه وهو الظلم.
وقيل غير هذا من الأجوبة حذفناه اختصاراً.
(فلا تَعْجَلْ عليهم) ، أي لا تستبطىء عذابهم وتطلب تعجيله، إنما نعُدّ مدة بقائهم في الدنيا.
(فلما أتاها نُودِيَ يا موسى) .
ضمير الإتيان راجع إلى النار، ولم يناده من الشجرة، وإنما ناداه عند وصوله إليها، وإنما أمره بخلع نعْليْه، لأنهما

(3/62)


كانتا من جلد حمار ميِّت، فأمر بخلع النجاسة.
واختار ابن عطية أنه إنما أمِر بخلعهما ليتأدب، ويعظّم البقعة المباركة، ويتواضع في المناجاة مع خالقه (1) .
وأين هذا المقام من مقام سيدنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - لما زُجَّ به في عالم العزَّة!
أراد أن يخلع نعلية، فإذا النداء: يا محمد، لا تخلع نعليك.
فقال: يا ربِّ سمعتك تقول لموسى: (فاخلع نعليك) .
فقال: يا محمد، لئن أمرت موسى بنزع نعليه على جبل الطور فقد أبحنا لك أن تطأ بنعليك على بساط النور، لأنك المكرَّم عندنا، والعزيز لدينا (2) .
اللهم بحرمته لديك اعف عنا واغفر لنا.
قيل أصحاب الشجرة في القرآن أربعة: آدم: (ولا تَقرَبا هذه الشجرة)
، وموسى: (نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقْعَةِ المباركة من الشجرة) .
ومريم: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) .
ومحمد - صلى الله عليه وسلم -: (إذ يبَايعونك تَحْتَ الشجرة) .
فآدم دَنا من شجرته باختيار نفسه، فصارت عليه محنة، حتى خرج منها
بسببها.
وموسى دنا من شجرته بالأمر، فصارت عليه بركة، وأوْصله بالوادي
المقدس، ونودي (إني أنا رَبُّك) .
ومريم دَتتْ من شجرتها باخْتِيار نَفْسها، فصارت عليها محنة، حتى قالوا ما قالوا، ونالها من الألم ما نالها، ولم تَصِلْ إلى رزقها إلا بالعناء.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - دنا من شَجَرته من حيث الأمر، فعادت عليه رحمةً، وبايعوه تحتها، وظهر الإسلام، واستقام الشرع.
وكذلك مثَّل الله الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة.
وقيمة الشجرة بالثمار والأنوار، وقيمة المؤمن بمعرفة الجبَّار، كأنه تعالى يقول: قلبك بموضع شجرة إنباتها معرفتي، وثمرها شهادتي، ونورها حديثي ومنها تصير يا عبدي موحِّدي.. .
آدم قصد شجرةً وفيها للعدو نصيب، - فأصابه من الذلِّ والمِحَن
والخروج من الجوار ما أصابه (3) .
والشجرة التي هي في موضع نظري ومقام معرفتي إذا قصدها الشيطان أتراني أسلمها له، وأنا أنظر إليها كل يوم ثلاثمائة وستين
__________
(1) اختيار العلامة ابن عطية - رحمه الله - أقرب إلى الصواب. والله أعلم.
(2) المعنى صحيح لكنه يحتاج إلى سند صحيح.
(3) أكثر هذا الكلام فيه نظر، ولا يخفى على أولى البصائر. والله أعلم

(3/63)


نظرة لحُرمتها، أفتراني أسلمها للشيطان إذا قصدها! بل أطرده وأكافئه كما
كافَأت آدم، حين قصد شجرة فيها للعدو نصيب أخرجته منها لنصيبه.
والشجرة التي هي نصيبى أكافئه بأن أضع ذنوبك على عنقه، وأدخلك الجنة
لنصيي فيك.
فإن قلت: قد اختلفت الألفاظ في قصة موسى، ففي موضع قال: آتاها، وفي موضع: جاءها، وفي آية: (إني أنا ربُّك) ، وفي آية: (إني أنا الله) ؟
فالجواب أن لفظ جاء وأتى بمعنى واحد، لكن كثُر هنا لفظ الإتيان، نحو:
فأتِيَاه، فلنأتينّك، ثم أتى، ثم ائْتُوا صفا.
وكثُر في النمل لفظ جاء، نحو: (فلما جاءهم) .
(وجئتك من سبَأ) .
(فلما جاء سليمان) .
وإنما أبرز الضمير في هذه الآية بقوله: ربك، لأنه خاطبه مرّتين، كل مرة
بما يليق به، ففي الأولى أظهر له النعمة في إنجائه من فرعون، وتحنّن شعيب له، وإكرامه بالكلام.
فلما تأنّس وزالت عنه الدهشة خاطبه بالألوهية الْمشْعرة
بالخوف من هذا الاسم العظيم.
فسبحان اللطيف بعباده، الْمُنْعم عليهم بنعمه: خلقهم بلا مثل، وصورهم بلا مشاورة، ورباهم بلا قوة، وهداهم بلا شفاعة، ورزقهم بلا دعوة، وأمرضهم بلا واسطة، وشفاهم بلا دَوَاء، وأماتهم بالعدل، وأحياهم بالقدرة، وغفر لهم بالرحمة.
وقد قدمنا أنَّ موسى خرج لطلب النار، فوجد الجبَّار.
ويوسف خرج للنزهة فوجد العبودية.
وبلقيس خرجت للنظر فوجدت المعرفة.
وطالوت خرج لطلب حماره فوجد الملك.
وأنت يا محمديُّ إذا خرجتَ من الدنيا لِطَلَب مَوْلاك أفتراك لا تجده وقد
خرجت لأجله! كلا، بل تجده، وينيلُك ما انتهت عيْنُك، ولذَّت نفسك.

(3/64)


ألا تراه قال لموسى لا توجّه تِلْقَاء مدين وجاع وعَيي ورفع رأسه فقال: أنا الغريب الفقير المريض - فأجابه: الغريب الذي ليس له مثلي حبيب، والفقير الذي ليس له مثلي نصيب، والمريض الذي ليس له مثلي طبيب.
فرضي بهذه الكلمات.
(فلا يَصدّنَّكَ عنها) :
الضمير للساعة، أي لا يصدنَّكَ عن الإيمان بها والاستعداد لها.
والخطاب لموسى.
وقيل لنبينا ومولانا محمد، وهو بعيد، لأنه قد استعدَّ لها.
وقيل الضمير للصلاة، وهو بعيد.
(فتَرْدَى) ، أي تهلك.
وهذا الفعل منصوب في جواب (لا يصدنَّك) .
(فألْقَاهَا فإذا هي حيَّةٌ) :
لما ذكر موسى عليه السلام المنافع التي كانت في عصاه بسؤال الله له أمره أنْ يُلْقيها ليَرَى فيها عجائب غير التي كانت فيها، ويعلمَ أن الله يؤيده وينصره ويعزّه، فألقاها امتثالاً لأمْرِ ربه، فقلب الله أوصافَها وأعراضها، فصارت حيّةً تسعى، أي تنتقل من مكان إلى مكان.
والحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى، والصغير والكبير.
وقد قدمنا أنَّ الله سمّاها بأسماء مختلفة: بالحية، والثعبان، والجان، فأراد
بالحية أول أمرها صغيرة رقيقة، ثم تتزايد وتصير كالثعبان في سرعة حركة
الجان.
وقيل: كان لها عرْف كعرف الفرس، وكان بين لَحْيَيْها أربعون ذراعاً (1) .
قال ابن عباس: انقلبت ثعباناً ذكراً يبتلعُ الحجرَ والشجر، لها كلام كالرعد
القاصف.
فلما رآها موسى كذلك خاف.
وقد قدمنا أن خوفه إنما كان ممن أجل عِلْمه أنها كانت من الشجرة التي أكل منها آدم، وقيل: لأنها كانت معجزة بالخوف منها، فخاف منها كل أحد.
فقال الله له: يا موسى، اذهب بها إلى فرعون، وخُذْها، ولا تَخَفْ، سنُعيدها سيرتها الأولى.
وموسى أمّنه الله من أربع مخاوف: من إلقاء العصا، وفرعون، وقومه، ومن
قَتْل القبطي، فأمنه الله منها جميعا.
__________
(1) من الإسرائيليات المنكرة.

(3/65)


وأنت يا محمدي إذا رجعْتَ إليه أفتراه لا يُنجيك من غمِّ الدنيا، وعند
النّزعْ، وفي القبر، وفي أهوال القيامة.
وقد قال لك: (إن الله مع المؤمنين) .
إن الله مع الصابرين) .
(إن الله مع الذين اتَّقَوْا) .
(وإن الله لَمَعَ المحسنين) .
موسى كانت في يمينه العصا، فضرب البحر بها فانفلق حتى جاوزَه هو
وقومه، والمؤمن الذي بيده كتاب ربِّه أتراه لا يضرب به بحرَ الموت فينفلق له، ويقول له: كن عليَّ رحمةً (1) فتنزع روحه نوماً برفْق كالقطر من الصفا، كما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لملك الموت: " ارفق بأمتي.
فقال له: أبشر، فإني بكل مؤمن رفيق ".
(فاقذفيه في الْيَمِّ) :
اليم: هو البحر، وأمْر الله في هذه الآية لأمّ موسى أن ترميه في بَحر النيل، لأن فرعون لما ذكر له أن هلاكَه على يد رجل من بني إسرائيل أمر بذبح كلّ ذكر يولد لهم، فألقَتْه في تابوت، وألقت التابوتَ في البحر، وكان فرعون في موضع يُشْرف على النيل، فلما رأى التابوتَ أمر به
فسِيق إليه، وامرأتُه معه، ففتحه فأشفقت عليه امرأته، وطلبت أن تتخذه ولداً، لأنها لم يكن لها ولد، فأباح لها ذلك، فذلك قوله: (وألقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً مني) .
فهذه المحبةُ نفعت امرأة فرعون، وكذلك صَفُورا نفعت محبتها لموسى، وزُليخا ليوسف، وخديجة لمحمد - صلى الله عليه وسلم.
فالمؤمن الذي يحبُّ الله ويحبُّه الله أفتراه لا تنفعه محبته، وهو يقول:
(يحبُّهم ويحبُّونَه) ، ولم تكن هذه المحبة إلا لأمّة الحبيب، لأنه كان حبيباً، وحبيبا كحبيب حبيب، ألا ترى آدم كان صفيًّا، فلم يجد أحد من قومه الصفوة، وإبراهيم كان خليلاً فلم يجد أحدٌ من قومه الخلة، وهكذا سائر الأنبياء، لكن من علامة المحبة أولها الإفلاس، وآخرها الوَسواس، ومن فَرّ منه دعاهُ بكثرة الإحسان حتى يستحيي من الله، فيرجع إليه.
(فتقول هل أدُلّكم على مَنْ يَكفُلُه) :
يعني أنَّ فرعون لما أخذه من التابوت، وأسلمه لآسية صارت ترْضعه في المراضع، فلم يَقْبَل ثَدْيَ مرْضعة.
__________
(1) قياسٌ مع الفارق، فأين نحن من سيدنا موسى - عليه السلام - اللهم احشرنا في زمرة حبيبك ومصطفاك - صلى الله عليه وسلم.

(3/66)


حتى شاع خبره، فذهبت أخته إليهم، وقالت: (هل أدلكم على من يكفُله) .
(فرَدَدْناه إلى أمِّه) :
وهذا مِنْ مِنَنِ الله عليه لما قالت لهم: أنا أدُلكمْ على أهْلِ بيت يكْفلونه لكم وهم له ناصِحون، وحَرَّضَتْهم بهذا الكلام قالوا لها: أنْت تعرفين هذا الغلام، قالت: لا، غير أني أعلم من هذا البيت الحرصَ على التقرب إلى الملكة والجدّ في خدمتها ورضاها، فتركوها وسألوها الدلالة، فجاءت بامّ موسى، فلما أخذته التْقَمَ ثَدْيهَا، ففرحت آسية لذلك، وقالت لها: تكونين معي في القصر.
فقالت لها: ما كنْتُ لأدعَ بيتي وولدي - تعني هارون.
ولكنه يكون عندي.
فأحسنت آسية إليها غايةَ الإحسان، واعتَز بنو إسرائيل بهذا الوليد السعيد، فهذا معنى رجوعه إلى أمّه، وإقرار عينها، وذهاب الحزن عنها.
وهذا كله من ثقتها بربها، وتسليم الأمْرِ إليه
بعد امتثال أمره، ولولا أن الله رَبَط على قَلْبها بالصَّبْر لكادت تُبدي به، لكن
رجعت إلى ربها، فجمع الله شَمْلَها به.
ويعقوب لما رجع في حِفْظِ يوسف إلى أولاده وقولهم له: (وإنا له لحافظون) ، واطمأن إلى حفظهم ابتلاه الله بمفارقته.
ولما زال عن حفظ إخوته ردّه الله إلى حفظه، فقهر له العبادَ والبلاد، وردّ عليه والده.
وأنْتَ يا محمدي لو رجعْتَ إلى الله وتوكلْتَ عليه لحفظك في أهلك ومالك
وولدك، وجمع بينك وبين أحبتك يوم القيامة، ولكنك أسأتَ الأدب.
واطمأنَنْتَ إلى المخلوقين، فكيف تطمع بنيل مركوبك وقد أعرضت عنه؟!
فإن قلت: أي فرق بين الرجوع في هذه الآية وفي آية القصص بالرد؟
والجواب هما بمعنى واحد ولما كان لفظ الرجوع ألطف خُصَّت به هذه الآية.
وعبَّر في القصص بالرد لمناسبة قوله: (إنا رَادُّوه إليكَ) .
(فنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغَمِّ) : لما خاف مِن قَتْلِ القبطي أمَّنه الله بقوله: (لا تخف نَجَوْت من القوم الظالمين) .

(3/67)


وكذلك المؤمن يخاف من غَمّ القيامة، فيسمع النداء: لا تخف فالمراد به
غيرك.
(فَتَنَّاكَ فُتُوناً) ، أي اختبرناك اختباراً حتى ظهر منك أنك
تصلح للنبوءة والرسالة.
وقيل: خلّصناك من محنة بعد محنة، لأنه خلصه من
الذبح، ثم من اليمّ، ثم من القصاص بالقتل.
والفتون يحتمل أن يكون مصدراً أو جمع فتنة.
(فلبثْتَ سنين في أهل مَدْين) :
يعني الأعوام العشرة التي استَأْجَره فيها شعيب لرَعْي الأغنام، فقال له شُعيب في العام الرابع: يا موسى، كلما وُلدت أنثى من الحمْلَان فهي لك في هذه السنة، فكان موسى يُلقي عصاه في الماء، ويسقي الأغنام منها، فولدت كلها أنثى في تلك السنة، فقال شعيب عليه السلام في السنة العاشرة: كلما ولدت ذكورا من الْحُمْلان فهي لك، فولدت في تلك - السنة كلها ذكورا.
فاجتمع له أغنام كثيرة، فرجع مع أهله إلى مصر، فآنس في الطريق ناراً، كما قال الله تعالى، فلما دنا منه الكلِيم صار نوراً، وكذلك نار الخليل لما دنا منها الخليلُ صارت روضة ورحمة.
وكذلك جبّ يوسف كان مملوءاً عفاريت وحيّات، فلما دنا منه الصديق صار رحمةً، وكذلك البحر لما دَنَا منه الكليم صار يبساً، وكذلك القبر موضع الوَحْشة والديدان فإذا نام فيه الحبيبُ صار عليه روضةً من رياض الجنة.
وكذلك يوم القيامة - يوم الحسرة والندامة - فإذا قام فيه الحبيب يصير يوم العز والقربة، والدنوِّ والرتبة.
وكذلك النار موضع الملامة فإذا دخل عليها الحبيب صار موضع إظهار الكرامة.
(فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ) :
ضمير التثنية يعود على موسى وهارون، وضمير الإفراد على فرعون.
يعني أن الله أمرهما بالإتيان إليه ليخْبِراه بالرجوع عما هو فيه، لِمَا في إخبارهما له بإقامة الحجة عليه.
وفي ضمن ذلك دعوتُه إلى الإيمان.
والمرادُ بإرسال بني إسرائيل معهما لإخراجهم عن ملكه، ومن دائرة حكمه.
وفي ذلك تحقير لشأنه وإبطال ما ادَّعاه من السلطان.

(3/68)


فإن قلت: لم حذف من هذه الآية اسم فرعون وأثبته في الشعراء؟
والجواب أنه تقدم ذكره في قوله: (اذْهَبَا إلى فرعون إنّه طغَى) - فلم تكن
إعادة اسمه ظاهراً مع الاتصال والقرب، إذ لم يفصل بين ظاهره ومضمره إلا
كلمتان.
أما آية الشعراء، فوَجْه إظهارِه أنه قد اجتمع فيها أمران:
أحدهما: الفصل بين مضمر الاسم وظاهره، مع إتيان الظاهر مضافاً إليه
فَضْلُه إلى ما ذكر من الفَضْل ببضع وعشرين كلمة.
والثاني: أمر موسى عليه السلام أولاً، وإنما أورد بإتيانه قوم فرعون.
قال تعالى: (وإذ نادى ربّك موسى) ، فقد يتوهم أن الجاري على هذا أن لو قيل عوض قوله: فأتيا فرعون - فأتهم - إلا أنه لم يقصد
ثانياً إلا ذكر متبِعيه، فلم يكن بدّ من الإفصاح باسمه غير مضمر.
وأما قوله تعالى في الأولى: فقولا إنا رسولا ربك - بتثنية لفظ " رسولا "
فوارد على اللغة الشهيرة.
وأما قوله في الثانية: (إنا رسول ربِّ العالمين) - فعلى لغة مَنْ يقول رسول للواحد والاثنين والجماعة والذكر والمؤنث، فورد الأول في
الترتيب الثابت على اللغة الشهيرة، والثاني على اللغة الأخرى، على ما قد تقدم في مثل هذا.
وعَكس الوارد مخالف للترتيب، ولا يناسبه.
وأما قوله: (إنّا رسولَا ربك) بإضافة اسمه تعالى إلى ضمير الخطاب فإنه يناسب من حيث ما فيه من التلطف والرفق لما تقدمه من قوله تعالى: (فقولَا لَهُ قَوْلاً ليِّناً) .
وقد تفسر هنا القول، وتبيَّن ما فيه من التلطّف في قوله تعالى في آية النازعات: (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) .
وناسب هذا ما بنيت عليه سورة طه من تَأنيس نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتأنيس موسى كليمه بقوله: (وأنَا اخْتَرْتك فاسْتَمِعْ لما يُوحَى) ، وما بعده إلى قوله: (قد أُوتِيتَ سؤْلَكَ يا موسى) ، وما بعده.
فلما كان مَبْنَى هذه السورة

(3/69)


بجملتها على التلطّف والتأنيس ناسب ذلك بما أمر موسى عليه السلام من دعاء فرعون وأنسه ولطفه، وأمر موسى عليه السلام وأخيه هارون بذلك، فقيل لهما: (فقولَا له قَوْلاً ليِّنا) .
وجرى على ذلك قوله: (إنا رسولا ربك) ، فأشعرت هذه الإضافة بالتلطف الربّاني.
ولما لم تكن سورة الشعراء مبنية على ما ذكر، وإنما تضمنت تعنيفَ فرعون
وملأه وإغراقهم، وأخذ المكذّبين للرسل بتكذيبهم، وهذا في طرف من التلطف
- ورَدَ فيها: (فقولا إنا رسول رب العالمين) ، بإضافة اسمه تعالى إلى العالمين.
لتحصيل أنه مالك الكلّ، وأنهم تحت قَهْره تعالى، وفي قبضته، وعدل عن
الإضافة إلى ضمير الخطاب، إذ لم يقصد هنا ما قدم من التلطف.
ونظير الوارد في هاتين الآيتين قوله تعالى: (ولو شاء ربّك ما فعلوه) - تأنيساً لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم ورد فيما بعد: (ولو شاء
الله ما فعَلوه) .
فقِفْ على ذلك، وقد تبين جليل النظم، وهو التناسب، وتأمل أَمرَهما الله هنا بالإخبار بأنهما رسولَا رَبِّه، وأمرهما في آية أخرى بالتلطف له في الموعظة، لأنه أعون على قَبُول النصح، وإنفاذ الدعوة، وإمالة القلوب إلى ما تدعى إليه، وهذا كقوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) .
واختلف في معنى القول اللين، فقيل: عِدَاهُ شباباً لا يهرم بعده (1) ، وملكاً لا
ينزع منه إلا بالموت، وأن تبْقى له لذة المطعم والمشرب والْمَنْكح إلى حين موته.
وقيل: لا تواجهاه بما يكره، فإن في ذلك تنفيرا له، أو لما له من حق التربية
لموسى، فقد روي أنَّ الله عزّ وجل قال: كانت لفرعون على موسى حقّ التربية، فأردت أن أكافئه بقولي: (فقُولاَ له قَولاً ليّنا) .
وقيل كنِّياه، وكان له ثلاث كنى: أبو العباس، وأبو الوليد، وأبو مرة.
وقد رُوي أن إبليس أتى إليه ودقَّ عليه الباب، فقال: مَنْ، فقال له
__________
(1) هذا الأمر لا يتحقق إلا لأهل الجنة فقط، جعلنا الله منهم بفضله وكرمه ومنِّه.

(3/70)


إبليس: من ادَّعَى الرّبوبية يعرف مَنْ أنا، فقال له فرعون: هل علمت من هو شر منّا، قال إبليس: مَنْ باع آخرته بدنْيا غيره.
فانظر هذا اللطف العظيم مع من ادَّعَى الربوبية، فكيف بمن أقر له بالعبودية
وعبده مدةً مديدة، أتراه لا يعامله بما تدهش له النفوس من العيشة الهنية.
(فمنْ ربّكمَا يا موسى) :
خطاب لهما، مع أنَّ موسى الأصل في النبوءة وهارون تابعٌ له.
(فيُسْحِتَكم) : معناه يهلككم.
وقيل سحت وأسْحَت، وقد قرئ بفتح الياء وضمها.
والمعنى متفق.
(فأَجمعوا كيْدَكمْ) ، أي اعزموا وأنفذوه.
وهذا من قول موسى على وَجْه الإسراع في مقصودهم لعِلْمه بباطلهم.
(فرجع موسى إلى قَوْمه) :
يعني بعد كمال الأربعين يوماً التي كلَّمه الله فيها في قوله: (وواعَدْنَا موسى ثلاثين ليلة) ، فتناول منها ورقةَ زيتون، فأمر بعشرة أخرى، فانظر بالله ورقة زيتون منعت متَناولها عن المراد، فكيف تنال مرادك مع تناول شهواتك، وخصوصاً إن كانت من ظلم للعباد.
(فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) .
أي في طاعتك لإبليس، فجعل المسبّب مع السبب.
فإن قلت: لم خصّ آدم بالشقاء والتوبة في قوله: فتاب عليه وهَدَى، وحوَّاء
كانت المتسببة؟
فالجواب: أن آدم كان نبيئاً وحوَّاء كانت من جملة الأولياء الذي يجب أن
يكون مأمون العاقبة، ومن شرط الولاية كثرة الْحُزن والخوف إلى آخر الزمان.
وخص آدم بالخطاب، لأنه كان المخاطب أولاً والمقصود بالكلام، وأَضاف
الإخراج إلى إبليس والإنزال إلى نفسه بقوله: (اسكنْ أنْتَ وزَوْجك الجنَّةَ)

(3/71)


لأن الضيف إذا كان كريماً لا يُخْرج ضيفَه من ضيافَتِه، فلما خرج قال له: يا آدم، أسكَنْتك في جوارِ العدو لتعصيه فيها، وتطيعني، فأقول هذا بذاك، والمحبة بيننا باقية، كذلك يوم القيامة يقول:
عبدي أنعمت عليك برضاك، وأطعتني برضائي، وعصيتني مخالفاً لأمري، دع الطاعة في مقابلة النعمة، والزّلَّة في مقابلة البليّة، والمعرفة بيننا باقية.
(فإمّا يَأْتِيَنَكم مني هدًى) :
إن الشرطية دخلَتْ عليها ما الزائدة وجوابها.
(فمن اتَّبع هدَاي فلا يَضِل ولا يشْقَى) .
أي لا يضلّ في الدنيا، ولا يَشقى في الآخرة.
(فلا تستعجلون) ، أي لا تستعجلون العذاب.
وقيل المراد هنا آدم، لأنه لما وصل الروح إلى صدره أراد أنْ يقومَ، وهذا ضعيف.
(فَعَلَهُ كَبِيرُهم هذا) :
ضمير الفعل للصنم، وذلك أنهم لما سألوه عمَّنْ كسر الأصنام قال لهم هذا القولَ، ومقصوده بذلك تبكيتهم لإقامة الحجة عليهم، كأنه يقول: إن كان إلهاً فهو قادر على أن يفعل، وإن لم يقدر فليس بإله، ولم يقصد الحقيقة الْمَحْضة.
فإن قلت: قد ورد في الحديث: أنَّ إبراهيم كذب ثلاث كذبات، إحداها هذه؟
والجواب: أن معناها قال قولاً ظاهره الكذب، وإن كان القصد به معنى
آخر.
ويدلُّ على ذلك قوله: (فَاسألوهمْ إنْ كانوا يَنْطِقون) .
وهذا التأويل أولى، لأن نفي الكذب يعارِض الحديث، والكذبُ الصراح لا
يجوز على الأنبياء عند أهل التحقيق.
وأما المعاريض فهي جائزة، وعلى تقدير جواز الكذب فإنما جاز له ذلك، لأنه فعله من أجل الله.

(3/72)


(ففَهَّمْنَاهَا سلَيْمان) :
الضمير يعود على القضية المذكورة قبل هذا في الرجلين.
(فهل أَنْتم شاكِرون) :
لفظه استفهام، ومعناه استدعاء إلى الشكر.
(فنَفخنا فيها مِنْ روحِنَا) :
عبارة عما ألقاه الحق سبحانه من أَسرار آثار أسماء الأفعال، وسرى إليها من ذلك السر، فتكوَّن الولد في رحمها، وذلك الإلقاء إما بواسطة الملك المعبَّر عنه بالرّوح أو دونه، وإضافةُ الروح إلى ضميره تعالى إضافة الملك إلى المالك.
وقد كثرت الأقاويل في الروح، حتى أنهاه بعضهم إلى أربعمائة قول، ولا يعلم حقيقته إلا الله، كما قال: (مِنْ أمْرِ رَبِّي) ، أي من عجائب ربي.
وقيل: من علم ربي.
وقيل الروح آدم، (ونفخت فيه من روحي) .
وقيل جبريل، (وأيدْنَاه بروح القدس) .
وقيل الروح: الْخَلْق العظيم الذي في عالم العزّة يأمر بما يأمره الله به جميع الملائكة، وهو خلق عظيم أعظم العوالم يسبّح كلّ يوم اثني عشر ألف تسبيحة، يخلق الله من كل تسبيحةٍ ملكاً يجيىء يوم القيامة صفاً واحداً، فذلك قوله: (يوم يقوم الرّوحُ والملائكةُ صفًّا) .
فإن قلت: لم أنث الضمير هنا وذكّره في التحريم، مع أن القصة واحدة؟
والجواب أنه لما كان المقصود في سورة " اقتربت " ذكْرها وما يؤُول إليه
أمرها حتى ظهر ابنها وصارت هي وابنها آية، وذلك لاَ يكون إلا بالنَّفْخِ في
جملتها خُصَّت بالتأنيث، وما في التحريم مقصور على ذِكْرِ إحصانها
وتصديقها بكلمات ربها، وكان النفخُ في جميعها وهو مذكَّر، فلذا قال:
(فيه) .
وأيضاً فهنا أنَّث بعد ذكر جملة من الأنبياء والرسل بخصائص عليَّة، وآياتٍ
نبوية ناسب ذلك ذكر مريم وابنها بما منحا.
وأما آية التحريم فمقصود فيها ذِكر

(3/73)


عظتين عظيمتين تبيّن بهما حكم السبقية بالإيمان أو الكفر، وهما قضية امرأتي نوح ولوط، وإن انضواءهما إلى هذين النبييْن الكريمين انضواء الزوجية التي لا أقْرب منها، ومع ذلك لم يغْنيا عنهما من الله شيئاً، وقضية امرأة فرعون وقد انضوت إلى الكافر لم يضرّها كفْره، ثم ذكرت مريم عليها السلام للالتقاء في الاختصاص وسبقية السعادة، ولم يَدعُ داعٍ إلى ذِكْر ابنها، فلا وَجْه لذكره هنا.
(الْفَزَع الأكْبَر) :
فيه أقاويل، قيل النفخ في الصور.
(ففَزعَ مَنْ في السماوات) .
وقيل: هو صوتُ القطيعة، وهو قوله لأهل النار: (اخْسَئوا فيها ولا تكَلِّمُون) .
(فإن يصْبِروا فالنار مَثْوًى لهم) .
وقيل يوم ذبح الموت بين الجنة والنار.
وقيل يوم يسمعون: (وامْتَازُوا الْيَوْمَ أيُّها الْمجْرِمون) .
وقيل يوم أمر الله آدم ابعث من ذريتك بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحدٌ إلى الجنة.
وقد سمَّى الله في كتابه ثلاثة أشياء أكبر:
هذا، (ولذِكْر اللهِ أكبر) .
(ورِضْوانٌ من الله أكبَر) .
(فَاعْبُدُون) : خصَّت هذه الآية بالعبادة، لأنه لم يرد في سورتها ذكْر لفَظ التقوى في أمرٍ ولا خبر من أولها إلى آخرها، بل ورد فيها
الأمْر بالعَبادة في قوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) .
بخلاف سورة المؤمنين، فإنه تكرر فيها ذكر التقوى في ثلاثة مواضع: في قصة نوح: (أفلا تتقون) .
والتالية لها: (أفلا تَتَقون) .
فروعي في الأولى ما تقدمها، ونُوسب بالثانية ما اكتنفها، وأيضاً فإنَّ العبادة
بها ليحصل لهم الاتّقاء، فهي مقدَّمة في الطلب لتحصل ما يتسبَّب عنها إذا كانت الإجابة.
وعلى ذلك ورد دعاءُ الخلق، قال تعالى: (يا أيها الناسُ اتَّقوا ربَّكم) ، فالاتّصاف بالتقوى ثان عن الاتصاف بالعبادة، فقيل في الأنبياء: (فاعبدون) .
وفي الثالثة: (فاتقُون) ، على مقتضى الترتيب.

(3/74)


(فَتَقطعُوا أَمرَهم بَيْنَهم) .
أي اختلفوا فيه، وهو استعارةٌ من جعل الشيء قطَعاً، والضمير للمخاطبين، والأصل تقطعتم أمْرَكم بينكم، إلا أَن الكلامَ صرِف إلى الغيبة على طريق الالتفات، كأنه يَنْعَى عليهم ما أَسدَوه إلى آخرين، ويقتح عندهم فِعلهم، ويقول هم: ألا تَرَوْن إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله، وإن اختلفوا في الدين مرجعُهم إلينا وحسابهم علينا.
فإن قلت: ما فائدة عطف هذه الآية بالفاء وزيادة (زبُراً) ؟
والجواب أن زيادته تأكيد لافتراقهم، ونصب الحال الواردة بياناً وتأكيداً
لقُبْح تفرقهم، وتشنيع مرتَكَبهم، فناسب ذلك مقصود هذه الآية لما هنا من
التخويف والإنذار، ولم يكن ليناسب آية الأنبياء، لبنائها على غيرها لما
تقدمها من تأنيس نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتعريفه بما منح سبحانه متقدمي الرسل، وما أعقبهم صبرهم على أممهم، ولذلك عطفها بواو العطف، كأنه يقول: نبَّهناهم على السؤال، وأوضحنا لهم أمر مَن تقدمهم، وعاقبة الاستجابة لمن تمسّك بهَدي المذكورين، وهم مع ذلك على عنادهم وافتراقهم، وكأن الكلام وارد مورد التعجب من أمرهم، ولم يَشُبْه شدة الوعيد، ليبقى رجاؤه.
(فَلَك) :
هو القطب الذي تدور عليه النجوم.
(فَجٍّ عمِيق) ، أي طريق بعيد.
(فكلوا منها) ، ندب للأكل من الأضحية، وهو من
خصائص هذه الأمة المحمدية، يأكلون صدقاتهم فيؤْجَرون عليها بخلاف من
تقدم، فسبحان من أنعم عليهم بنعم دنيا وأخرى، جعلنا الله ممن أحبهم.
(فاجتَنِئوا الرجسَ من الأَوثان) :
من لبيان الجنس، كأنه قال الرجس الذي هو الأوثان، والمراد النهي عن عبادتها، أو عن الذبح تقرّباً لها كا كانت العرب تفعل.

(3/75)


(فيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشيطان) :
أي فيُبْطِله، كقولك: نسخت الشمس الظلَّ.
(فلا ينَازِعنّكَ في الأمر) ، أي في الدين والشريعة، وضمير
الفاعل للكفار.
والمعنى أنهم لا ينبغي لهم منازعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن الحق قد ظهر بحيث لا يسَعُ النزاع فيه، فجاء الفعل بلفظ النهي، والمراد غير النهي.
وقيل المعنى: لا تنازعْهم فينَازِعوك، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه.
ويحتمل أن يكون نهياً لهم عن المنازعة على ظاهر اللفظ.
(فأَقِيموا الصلاة) :
الظاهر أنها المكتوبة، لاقترانها مع الزكاة، وإقامتها بإتيانها بالخضوع والحضور، إذ ما كل مصَلٍّ مقيم، ولا يكتب للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، الصلاة طهرة القلوب، واستفتاحٌ لباب الغيوب.
(فاسْلكْ فيها من كلً زَوْجين اثنين) :
لما صنع نوحٌ السفينة، وجعل الله علامةَ خروج الماء إفارةْ التنور أَمر جبريل أنواعَ الحيوان أن تأتيه فيضع يمينه على الذَّكَر ويساره على الأنثى.
وروي أن أول من دخل السفينة الذّر، وآخر من دخلها الحمار، فتمسك
الشيطان بذَنَبه، فزجره نوح، فلم ينبعث، فقال له: ادخل، ولو كان معك
الشيطان.
قال ابن عباس: زَلَّت هذه الكلمة عن لسانه، فدخل الشيطان حينئذ.
وكان في مؤخرة السفينة (1) .
وروي أن نوحاً عليه السلام ومَنْ في السفينة شم نتن الزبل والعذرة فأوحى
اللَه إليه أن امسح على ذنب الفيل، ففعل، فخرج من الفيل، وقيل من أنفه
خنزير، فكفى نوحاً وأهله ذلك الأذى، فيؤخذ من هذا أن نوع الخنزير لم يكن قبل ذلك.
وروي أن الفأر آذى الناسَ في السفينة بقَرْض حوائجهم، فأمر الله نوحاً أن
يمسح على جبهة الأسد، ففعل، فعطس فخرجت منه هِرّة وهِرّ فكفَيَاهم الفأر.
__________
(1) لا يخفي ما فيه من البعد وإبليس عليه لعنة الله لا يحتاج إلى ركوب السفينة خوفا من الغرق، فهو من المنظرين كما أخبر القرآن، ومرد هذا الخبر وما شاكله إلى أساطير بني إسرائيل. والله أعلم.

(3/76)


وروي أيضاً أن الفأر خرج من أنف الخنزير، وهذا كله ليس له مستند.
وروي أن إبليس لما دخل في السفينة طمع في إغواء أهلها، فشَكَا نوح إلى
اللَه، فأمره أن يحمل معه تابوت آدم في السفينة حتى ينظر إليه إبليس، فيذوب حسرة، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: الشدّ بالقَيْد أهوَن من النظر إلى الضد، وإذا كانت مشاهدة العدو تمنع الاشتغال بالنفس وتمنع عن الطعام والشراب، فكيف لا تذوب أنْتَ يا محمدي والمحبة في قلبك، كما ذاب إبليس حين نظر إلى عدوه.
لو صدقَتْ محبتُك في صحبة معبودك لمنعك مشاهدته عن الشهوات وطلبِ
الفضول والتلذذِ بالزلات، ولا يقدر إبليس على وَسوَستك وإغوائك في جميع
الأوقات، ألا ترى أنه لم يقدر على دخول السفينة إلا بإذن صاحبه، فكيف
يدخل قَلْبَك وفيه مولاك، أما سمعته يقول: (وإذا ذَكَرْتَ ربَّك في القرآن
وَحْدَه وَلَّوْا على أدبارهم نُفُورا) .
وفي الحديث: إن له صفتين: وسواس، وخَنّاس، فإذا خنس على ابن آدم وشَمّه ووجد فيه الغَفْلة وسوس، وإذا وجده متيقظًا خنس، فانظر بأيّ شيء تعمره، إن عمرته بذكره سبحانه والتفكرِ في عجائبه - طردَهُ عنك، ووصلْتَ إلى حضرته، ألا تراه سبحانه أمر نوحاً بحَمْله معه الحيوان الذي لا معرفةَ له، ولم يفرق بينه وبين محبوبه، فكيف يذيق عَبْدَه المؤمن أليمَ فُرْقته بعد طول خدمته، وقديم معرفته!
كأنه سبحانه يقول: يا نوح، احمل ما هو مفارِق لك، وهارب عنك، لتُرِيَ
الْخَلْقَ حُسْنَ خُلقك، فيستدلون بحسن خلقك على لطيف صُنعي، أنا لما ذَكَرني الموفون الملازمون ببابي، والخواصّ من عبادي - هديتُهم، وأنعمت عليهم، هذه معاملتي معهم في دار الْمِحْنة، فكيف معاملتي معهم في دار النعمة، إنك أدخلْتَ الخلائق في سفينتك ولكَ إليها حاجة، فأي عجب لو أدخلْتُ جميع العصاة في الجنة ولا حاجة لي فيها!
(فبُعْداً) :
مصدر وُضِع موضع الفعل، بمعنى بَعُدُوا، أي هلكوا، والعامل فيه مضمر لا يظهر.

(3/77)


(فارَ التّنُّور) :
يعني بالماء، ولمّا أخبرته امرأتُه بوجود الماء فيه ركب هو وأهلُه السفينة، وكان هذا التّنور لآدم، فخلص إلى نوح.
واختلف في موضعه، والصحيح أنه كان في مسجد الكوفة، وقيل بدمشق.
(فكان من الْمُغْرَقين) :
الضمير يعود على ابن نوح، لمّا لم يسمع قولَ أبيه أغرقه الله ببوله، وذلك أنه اتخذ قارورة وأدخل فيها نفسه لظنّه أنه يَنْجو (1) ، فأظهر الله مَوْجَ القدرة، وحال بينه وبين ولده، وكذلك الكافر في خروجه من الدنيا يظهر له موج الشقاوة، فيحول بينه وبين ما يشتهيه من قبول العذر والإقرار بالوحدانية، كما قال تعالى: (وحِيلَ بينهم وبين ما يَشْتَهُون) ، كذلك العبد العاصي يدعو ربَّه بالندامة، فيظهر له موج الرحمة، فيحول بين صرفته ومعصيته، وتَبْقى صرفته، وذلك قوله تعالى: (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءَ وقَلْبه) .
وفي الخبر أن نوحاً قال: يا رب، أنت وعدتَني بنجاةِ أهلي وإنَّ ابني من
أهلي، فأوحى الله إليه: إنه ليس من أهلك الذين وعدتُكَ بنجاتهم، وقد
وافقتك في دعائك على الكفار، أفلا تُوافقني أنْتَ في واحد هو ابنك بعد أن
قلْتُ لك: إنه ليس من أهلك! كأنه سبحانه يقول: عبدي، أسلمت إليكَ الدنيا بأسرها عاجلاً، والعُقْبى آجلاً موافقة لسؤالك وإجابة لدعائك، أفلا تسلم لي واحداً من أعضائك، وهو القلب، فأكون لك نعم الرب!
(فلا أنسابَ بَيْنَهم) ، يعني في الآخرة، لأن كلً واحد
منهم مشغول بنفسه، وكل منهم يفرُّ من أبناء جنسه، مخافةَ أن يتعلق بشخصه، قال تعالى: (يوم يَفِر الْمَرءُ من أخيه) .
(فَرضْنَاها) ، أي فرضنا الأحكامَ التي فيها.
وقرئ بالتشديد مبالغة.
(فاجْلِدوا كلَّ واحدٍ منهما مائةَ جَلْدَةٍ) ، ليس على عمومه.
__________
(1) كلام يفتقر إلى دليل، وظاهر القرآن يفيد أنه كان من المغرقين في الطوفان. والله أعلم.

(3/78)


يخص منه الْمحصن والمحصنات والعبد والأمة، وصِفَتُه عند الشافعي أن يفرّق
على جميع الأعضاء والمجلود قائم.
وعند مالك في الظهر والمجلود جالس، وتُستر المرأة بثوبِ لا يقيها الضرْبَ، ويجرَّد الرجل عند مالك، وقال يجلد على قميص ويؤخرُ المريض والحامل للبُرْء.
واختلف هل يجوز أن يجمع مائة سوط ويضرب بها ضربة واحدة، وأجازه
الشافعي للمريض، لورود ذلك في الحديث، ومنعه مالك، وأجازه أبو حنيفة لما في قصة أيوب.
فإن قلت: ما الحكمة ُ في سقوط الحدِّ عن المريض؟
فالجواب أن المقصود به التأديب لا القتل، ولذلك أمر بالتخفيف عنه في
الحرّ الشديد والبرد الشديد.
كذلك العاصى من هذه الأمة إذا دخل النارَ يقول الله لمالك: لا تُقَربه إلى النار العظمى، ولا تعذِّبه عذاب الكفرة، لأن القصد في
إدخاله التأديب لا التعذيب، هذا حدُّ العاصي في الدنيا، وهذا حد الجاني في
العقبى.
(فشهادَة أحدِهم أرْبَعُ شهادات) :
بالنصب على المصدرية، والعامل فيه شهادة أحدهم.
وقرئ بالرفع، وهو خبر (شهادة أحدهم) .
وقوله: (بالله) ، وإنه لمن الصادقين - من صلة أربع شهادات، أو مِنْ صلة:
" شهادة أحدهم "، أي يقول الزوج أربع مرات: أشهد بالله، لقد رأيْتُ هذه المرأة تزني، أو أشهد بالله ما هذا الحمل مني، ولقد زَنت، وإني لمن الصادقين، ثم يقول في الخامسة: لعنة اللَهِ عليَّ إنْ كنْتُ من الكاذبين.
(فارِهين) ، بألف وعدمها، منصوب على الحال من المفعول في (تَنْحِتُون) ، وهو مشتق من الفَرَاهَة، وهي النشاط والكيس.
وقيل: أشِرين بَطرِين.
(فأصْبَحوا نادِمين) :
الضمير يعود على قوم صالح، لما تغيرت أَمْوَالُهم كما ذكرناه - ندِموا.

(3/79)


فإن قلت: ما بالُهم لم ينفعهم الندم كقوم يونس؟
والجواب أن ندمهم إنما كان على عدم قتلهم لولد الناقة، ولم يندموا على
قتلها، وكذلك نَدَم قابيل، ندم على كونه عجز عن إخفاءِ أخيه لا على قَتْله، فلذلك لم ينفعهما الندم، بخلاف قوم يونس فنَدَمهم كان حقيقةً، وآمنوا فنفعهم إيمانهم، وهذه الأمة المحمدية ينفعهم الندم للحديث: "الندم توبة".
وفي الحديث:
"إن الحفظة تصعد بعمَل العبد يقابلونه باللوح المحفوظ، فلا يجدون ما كتبوا
فيختلجوا، وإذا النداءُ من قِبَل الله: وصلت ندامةُ قلبه قبل وصولكم إليَّ".
(فبعثَ اللَّهُ غُرَاباً يبحثُ في الأرض) :
لما قتل قابيلُ أخاه، وأراق دمه، فاجتمع النّسور عليه، فتحير قابيل في دَفْنه، فأخذ يدور في الأرض، فكل قطرة وقعت من دم هابيل عليها صارت سبِخَة، فبعث الله غرابَين يقتتلان، فقتل أَحدهما الآخر، نم بحث الأرض بمنقاره ودفنه، فاقتدى به قابيل، فذلك قوله تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) .
والحكمة في بَعث الغراب لاسودَادِه، ولما كان القتل مستغرباً
إذ لم يكن معهودًا قَبْلَ ذلك ناسب بعث الغراب إليه، ولهذا اشتقوا من اسمه
الغربة والاغتراب والغريب.
ورَوَى أنس أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " امتَنّ اللهُ على ابن آدم بالريح بعد الروح "، ولولا ذلك ما دَفن حبيب حبيباً، وقابيلُ أول من يُساق إلى النار، وهو المراد بقوله: (رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) ، وهما قابيل وإبليس.
وروَى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن يوم الثلاثاء، فقال: يوم الدم، فيه حاضت حواء، وفيه قَتَل ابنُ آدم أخاه.
قال مقاتل: كانت السباع والطير تستأنس بآدم، فلما قتل قابيل هابيل هربت منه الطير والوحش، ومالت الأشجار، وحمضت الفواكه، وملحت المياه، واغبَرَّت الأرض.

(3/80)


وعن ابن أبي واقد عن ابن حبيب، قال: بينما أنا عند أبي بكر الصديق إذ
أتى بغراب، فلما رآه بجناحيه حمد الله، ثم قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: " ما مِنْ صيد مصيد إلا بنَقْصٍ من تسبيح، ولا أنبت اللَّهُ نابتة إلا وَكَل بها ملَكاً يُحصي تسبيحها حتى يأتي به يوم القيامة، ولا عُضدت شجرة، ولا قطعت إلا بنقصٍ من تسبيح، ولا دخل على امرئ مكروه إلا بذنب، وما عفا الله أكثر ".
"يا غراب، اعبد الله "، ثم خلى سبيله.
(فَكهين، وفاكهون) ، أي معجبون، كما يقال حذِر وحاذر.
وفي التفسير: فاكهون: ناعمون، وفكِهون: معجبون، وفاكهون
أيضاً الذين عندهم فاكهة كثيرة.
كما يقال: رجل لابنٌ وتامر، أي ذو لبن وتمر كثير.
(فَرَض عَلَيْكَ القرآن) ، أي أنزله عليكَ وأثبته.
وقيل معناه أعطاك القرآن.
والمعنى متقارب.
وقيل: فرض أحكام القرآن، فهو على حذف مضاف.
(فلبث فيهم ألْفَ سنة) : الضمير لنوح.
والمعنى أنه بقي هذه المدة بعد بَعْثه.
وروي أنه عمّر بعد الطوفان ثلاثمائة سنة.
وأكثر الصحابة على أنه قبل إدريس، واسمه عبد الغفار.
وروى الطبراني، عن أبي ذَرّ.
قال: قلْتُ: يا رسول الله، مَنْ أول الأنبياء، قال: آدم.
قلت، ثم مَنْ، قال: نوح، وبينهما عشرة قرون.
(فالزاجراتِ زَجْراً) : هي الملائكة تزجر السحاب وغيره.
وقيل: الزاجرون من بني آدم بالمواعظ.
وقيل: آيات القرآن المتضمنة الزَّجْر عن المعاصي.
(فالتَاليات ذِكْراً) :
هي الملائكة تتلو القرآن والذكر.
وقيل: هم التالون للقرآن، والذكر من بني آدم، وهي كلّها أشياء أقسم الله بها على أنه واحد.

(3/81)


(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) :
يعني أن قوم إبراهيم طلبوا منه أنْ يَخْرج معهم إلى عيد لهم، وأراد الامتناعَ من ذلك، فنظر في النجوم لأنهم كانوا منَجِّمين، وقال لهم: إني سقيم، أي فيما يستقبل، لأن كلَّ إنسان لا بد له أنْ يمرض، أو أراد أنه سقيم النفْسِ مِنْ كفرهم وتكذيبهم له، وهذا التأويل أولى.
وقيل: إنه كانت تأخذه الْحمَّى في وقت معلوم، فنظر في وقتِ أخْذِها له، واعتذر عن الخروج معهم لذلك.
وقيل: نظر وفكر فيما يكون من أمره معهم، لأنه أراد كسر أصنامهم، فقال: إني سقيم.
والنجوم على هذا ما يَنْجم مِنْ حاله معهم، وليست نجوم السماء، وهذا بعيد.
(فما ظَنُّكم بربِّ العالمين) :
المعنى أي شيء تظنون برب العالمين أن يعاقبكم وقد عبدتم غيره، أو أي شيء تظنون أنه هو حتى عبدْتم غيره، كما تقول: ما ظنّك بفلان إذا قصدت تعظيمه، فالقصد على المعنى الأول تهديد، وعلى الثاني تعظيم للَه وتوبيخ لهم.
(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) .
لما قال لهم: إني سقيم - خافوا أن يكون طاعوناً، فخافوا منه.
وتباعدوا خَوْفاً مِن عَدْواه، فمال إلى آلهتهم، وقال هذا القولَ على وجه الاستهزاء بالذين يعبدونها، وقد قدمنا فائدة إدخال الفاء في هذه الآية.
(فجعلناهم الأسْفَلين) :
يعني قوم النمرود، وذلك أنه قال له: يا إبراهيم، إن كان ربّك ملكاً فليحارِبْني بعسكره، وليأخذ الملك مني.
فقال إبراهيم: إلهي، إن نمرود ركب مع جنوده، فأرْسِلْ إليه جنْداً من أضعف خَلْقك، وهي البعوض، لأنها إذا شبعت تموت وسائر الحيوان إذا شبع يَحْيَا، فأوحى الله إليه: يا إبراهيم، لو لم تسأل جند البعوض لأرْسلتُ عليهم جنْداً ما لَوْ جمعت منه لم يكن مثل ما أهلكتهم به (1) .
قال تعالى: (وما يعلم جنودَ ربِّك إلا هو) .
فركب نمرود - لعنه الله - في سبعمائة ألف فارس مقَنّع ومدَرع، وخرج إلى الخلاء يطلب المبارَزة، فأرسل الله جنْدَ البعوض، وقال لهم:
__________
(1) كلام فيه نظر، فظاهره طلب جند معين من الله تعالى وفيه شيء من التحكم وهو مخالف لما هو معلوم من أدب الأنبياء مع الله تعالى.

(3/82)


جعلتُ اليوم رزقكم هذا الجند، وقوَّى الله مناقرها، فلم يحجبها الدروعُ والمغافير حتى أكلت لحومهم ودماءهم، ولم يبق منهم أحد غير نمرود، فإنه هرب ورجع إلى بيته، وأوحى الله إلى البعوض الموكل به أن يمْهله حتى يرى ما صنع الله بجنده، فلما دنا وقتُ عَذابه جعل يَحوم حَوْلَ منخره ودخله بعد ثلاثة أيام تنبيهاً لنمرود وإمهالاً له، كأنه تعالى يقول: أمهلتكَ لمعاصيك وكفرك ولم نأخذك بغتة، فإن رجعت إلينا في الثلاث فلك الأمان، ومنا القبول والإحسان، وإن لم ترجع فالعيبُ منك، أما نحن فقد استعملنا فَضْلنا وكرمنا.
وهكذا عادته سبحانه في إمهال الكفرة وعدَم أخْذِهم بغتة، فكيف بك يا
محمدي إنْ رجعْتَ إليه! أَتراه لا يقبلك، وقد عاتب أنبياءَه في عدم رحمتهم
بالكفَرة اللئام.
فإن قلت: قد عبَّر في آية الأنبياء، بـ (الأخسرين) ، فهل هما بمعنى
واحد؟
والجوابُ أن الصفتين من السفالة غاية حال الكافرين، ومَنْ كان من
الأسفلين فقد خسر خسراناً مبينا، فلا تضادَّ بين الصفتين، لأن السفول لاحق في ذات المنسفل والخسْرَان حقيقة في خارج عنه، فالسفول أبلغ، فقدّم ما هو لاحق خارجيّ وأخّرَ ما لا يتعدى ذات المتصف به، تكملةً وتَتمَّة، إذ هو أبلغ على ما يجب وعلى ما قدمنا من رَعيْ الترتيب، والتسفّل ضد الترقي.
وقيل: رُوعي في الصفة مقابلة قولهم: (ابْنوا له بنْياناً) ، لأنه يفهم منه إرادتهم علوَّ أمرهم بفعلهم ذلك، فقوبلوا بالضدّ، فجعلوا الأسفلين، وهو حسن.
(فإنهم يومئذ في العذاب مشْتَرِكون) :
الضمير يعود على المتبعين والأتباع، واشتراكهم في العذاب حكم عدل، إذ كلّ منهم مستحق، ألا ترى كيف وصفهم جميعاً بأنهم مجرمون.
فإن قلت: هل يفهم من اشتراكهم في العذاب استواؤهم فيه؟

(3/83)


والجواب: لا استواء بينهم، لأن الشركة في الشيء قد تقتضي تساوي
الشركاء في ذلك المشترك فيه وقد لا تقتضي.
والضال والمضلّ وإن اشتركا في العذاب فللمضِلِّ ضعفان، لأنه ضلَّ وأضلّ.
فإن قلت: قد قال الذين كفروا: (إنا كلٌّ فيها) ، أي في النار؟
فالجواب أنه إخبار عن التَّساوي في المكان، لا عن الواقع فيه، لأنهم في
دَرَكات متفاوتون.
وقد صح أن سيدنا ومولانا محمداً - صلى الله عليه وسلم - سأل عن سكانها، فقال: الطبق السابع مأوى المناففين.
والسادس مأوى مَنْ طغى وبغَى وادعَى الربوبية.
والخامس مأوى الجبّارين والظالمين.
والرابع مأوى المتكبرين والكافرين.
والثالث مأوى اليهود.
والثاني مأوى النصارى! وسكت عن الأول، فقال له: أخبرني عن الأول - وألحّ عليه، فقال: عصاة أمتك يا محمد، فأغمي عليه فلما أفاق بكى بكاءً شديدا، وأغلق عليه الباب، وصار يطلب في أمته، فجاءه جبريل وبشّره بالشفاعة فيهم.
اللهم كما جعلته رحيما بنا لا تحرمنا من شفاعته، أقسم عليك بجاهه عندك.
(فَبَشَّرْنَاه بغلام حَليم. . . الآيات، إلى قوله: (وفَدَينَاه بِذِبْحٍ عظيم) .
هذه البشارة انطوت على ثلاثة أشياء: على أن الولد ذكر، وأنه يبلغ أَوَان الحلم، وأنه يكون حليما.
قيل: ما نعَتَ الله الأنبياءَ عليهم الصلاة والسلام بأقل مما نَعَتَهم بالحلم، وذلك لعزة وجوده.
ولقد نعت الله به إبراهيم، وأَيّ حلم أعظم من حلمه لمّا عرض
عليه أبوه الذبح قال: (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) .
والحادثة شهدت بحلمهما جميعاً.
وفي هذا دليل على أنَّ الإشارة بإسماعيل وهو الذّبيح، وأمْرُ ذبحه كان
بالحجاز بمنى، وتمّ رَمى إبراهيم الشيطان بالجمرات، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: أنا ابن الذَّبِيحين، يعني إسماعيل، وعبد اللَه أباه الذي نذر عبد الطلب لما حفر بئر زمزم أنْ يَذْبح أحد أولاده، فخرج السهم على عبد اللَه، فمنعه أخواله وقالوا له: افْدِ

(3/84)


ابْنَك بمائة من الإبل، ففداه بها، ونحرها عن آخرها، تقرّباً إلى الله، فأخذ منها الناس ما يحتاجون والطير والسباع.
قال علماء الإسلام: ومن جَرَّى هذه الواقعة كانت دِيَة الإبل عدد وصفه، كما كان الكبش الذي فدى الله به إسماعيل مثالاً لما وقعت به مشروعية الأضحية.
وروي أن إسماعيل أول مَنْ خطّ بالقلم.
ورأيت في بعض التقاييد أن أول من خط بالقلم من العرب هود عليه السلام وأن ... كان يكتب به، فرأى في منامه مَنْ نهاه عن كتبه في الأحجار، وأنه إنما خص الله به نبيئاً يبْعث في آخر الزمان، فينزل عليه كتاباً يقرأ ويخطّ بهذا الخط العربي.
وعن الأصمعي قال: سألتُ عمرو بن العلاء عن الذبيح، فقال: يا أصمعي، أَين عَزُب عنك عقلك، ومتى كان إسحاق بمكة، وإنما كان بها إسماعيل، وهو الذي بنى البيت مع أبيه.
وذكر الطبري، عن ابن عباس، قال: الذبيح إسماعيل، وتزعم اليهود أنه
إسحاق، وكذَبوا.
وسأل عمر بن عبد العزيز يهوديًّا كان أسلم وحَسن إسلامه.
قال: الذبيح إسماعيل واليهود يعلمون ذلك، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب أن تكونَ هذه الفضيلة في أبيكم.
وفي رياض النفوس أن أسد بن الفرات قال: كنت بالعراق زمن قراءتي على
محمد بن الحسن، فقلت له: اختلف الناس في الذّبيح، من هو، وعندي أنه
إسماعيل.
قال: لِمَ، قال: لأن الله يقول: (فبَشَّرْنَاها بإسحاق ومِن وراء إسحاق
يعقوب) ، فكيف يؤْمر بذبح مَنْ قد أخبر أنه سيولد له، ومن
المعلوم أن الإخبار إنما يقع على مجهول العاقبة، فتعيّن أنه إسماعيل.
قال الشيخ رحمه الله: هذا إن كان صحَّ الخبر قبل الأمر بالذبح.
فإن قلت: لِمَ وصف المبشر به هنا بالحلم، وفي الذاريات، والحِجْر
بالعلم؟
فالجواب أنه وصفه هنا بالحم لاَنقياده لخكم ربه، واستسلامه له، ووصفَه في

(3/85)


غيرها بالعلم لكبره.
وقيل: إن الحليم إسماعيل، والعليم إسحاق.
وعن محمد بن كعب القرَظي قال: كان مجتهد بني إسرائيل إذا دعا قال: اللهم ربَّ إبراهيم وإسماعيل وإسرائيل.
فقال: يا رب، ما لمجتهد بني إسرائيل يدعو بهذا، وأنا بين
أظهرهم، قد أَسمعتني كلامك، واصطفيتني برسالتك.
قال: يا موسى، لم يحبّني أحدٌ حٌبَّ إبراهيمَ قط، ولا خيّر بين شيء قط وبيني إلا اختارني.
وأما إسماعيل فإنه جادَ بنفسه، وأما إسرائيل فإنه لم ييأس من روحي في شدةٍ نزلت به قط.
فإن قلت: لِمَ كان الأمر بالذبح هنا مناماً دون اليقظة؟
فالجواب: لتعْلَم أنَّ النبوءة اثنان: رسالة، ورؤيا منام، ولما كان إسماعيل
أحب إليه من كل شيء لم يرد اللهْ أن يواجه خليلَه بما فيه كراهية له، فأراه في المنام، كأنه استَحْيىَ منه، وهكذا عادته سبحانه مع أنبيائه وخيرته من خَلْقه، ألاَ ترى رؤيا يوسف سجود إخوته وأبويه، ورؤيا سيدنا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - دخول المسجد الحرام، وما سواهما، للدلالة على تقوية صِدْقهم، وإذا تظاهرت الحالتان على الصدق كان ذلك أقوى للدلالة من انفراد أحدهما.
فإن قلت: قد قال الله له: " قد صدَّقْتَ الرؤيا "، وإنما كان يصدقها لو صحّ منه الذَّبْح، ولم يصح؟
فالجواب أنه قد بذل وسْعه فيما أمر به من بطْحه على شقِّه، وإمرار الشَّفْرَة
على حَلْقه، ولكن الله منعها من القطع، ليعم أنَّ القطع لله لا للسكين، وهذا لا يقدح في فعل إبراهيم، فلا يسمى عاصياً ولا مفَرّطاً.
فإن قلت: الله تعالى هو الْمفْتدى منه، لأنه الآمر بالذبح، فكيف يكون
فاديا حتى قال: (وفَدَيناه) ؟
والجواب الفادي هو إبراهيم عليه السلام، والله عزّ وجل وهب له الكبْش
ليفتدي به، وإنما قال: وفَدَيْناه - إسناداً للفداء إلى السبب الذي هو الْمُمَكَّن من الفداء بهبته.
فإن قلت: لم يشاوره في أَمْر هو حَتم من الله؟

(3/86)


فالجواب أنه لم يشاوره ليرجع إلى رأيه، ولكن ليعلم ما عنده، لأنه بشّر
بالحلم، وأيضاً ليوطًن الولدُ نفسه على الصبّر، ويحتسب، فجاوبه عليه السلام بأحسن جواب، ألا تراه قال له: يا أبت، خذْ بناصيتي، واجلس على كتفي لئلا أوذيك إذا أصَابني حَرّ الحديد.
ففعل إبراهيم، فلما أمَرَّ السكين على حلقه انقلبت السكين، فلحرْمة تعفير وجهه رُفِع عنه الذّبح، فالمؤمن الذي عفّر وجهه في التراب سنين عديدة أتراه يحرقه بالنار؟!!
ولما سأل إبراهيم الولدَ الصالح وبُشِّر به أمر بذبحه، ليعلم أنَّ هذا الولد هو
الذي طلبه، وكذلك سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - سأل اللهَ تعالى صلاحَ أمته في وقت وفاته، وطلب منه هو الخليفةَ بعده عليهم، فأجاب الله دعاءه، وأراه سؤاله فيهم: إسماعيل استسلم لقضاء ربه، ومِنْ عادة الصبيان الجزَغ من الألم، ومِن طبع الحديد القَطْع، فلما صبر وغيّر عادته لأجل الله غَيَّر طَبع الحديد لأجله، ولم يقطع كذلك حال المؤمن مع الله، إذا صبر واستسلم للقضاء غيَّر الله طبع العوائد عليه وأثابه الحُسْنى.
وقيل: إنه لما صُرع للذّبح كشف الله له عن الجنة حتى يسهل عليه اللقاءُ مع
ربه، وكذلك المؤمن في حالة الموت يكشف اللَّهُ له على ما أعدَّ له من النعيم، فيسهل عليه خروج روحه.
قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يدخل أحد الجنة إلا رأى مقعده من
النار لو أساء ليزداد شكراً، ولا يدخل أحد النار إلا رأى مقعده من الجنة لو
أَحسن ليكون عليه حَسرة ".
قيل: لما أُتي إبراهيم بالكبْش يَدَاه مشدودتان إلى قَرْنه، لأن إسماعيل قال
له، أَطلقْ لي رِجْلاً واحدة لتعلمَ الملائكة أني فعلْتُ ذلك عن رِضًى مني وطِيب
نفس، وأني لم أجزع، فأُتي بالكبش كذلك.
وأنتَ يا محمدي لو وافقْتَ ربك فيما أمركَ به لرأيتَ العجائب من لطفه في
موافقة جميع المخلوقات لك، لكنّك خالفْتَ فاختلفت عليك الأمور، ولذلك
قال بعضهم: إني لأعلم حالي مع ربي حتى في غلامي ودابَّتي.

(3/87)


ومَرَّ ابن المبارك بفرس يُبَاع بأبخس ثمن، فقال: ما بال هذا، فقيل له: به
عيوبٌ كثيرة، من حَرَن ورَكْض، وذَعَارة، فاشتراه وقال في أذنه: إني أتوب من جميع ما عصيتُ الله به، فإياك والمخالفة، فَذلّلَه الله له، وصار كأحسن ما كان.
كلّ ذلك من طاعة الله، وعدم المخالفة.
ولما فدى الله إسماعيل من الذبح دعا بدعوات منها: اللهم اغفر لكل مَنْ
وحَّدَك، ومن أصابته محنة - فتذكَر مِحْنَتي - ففَرج عنه.
وقال: يا رب، حاجتي إليك أن تغفر لكل مؤمن ومؤمنة يذكرك فإني أسألك كما بردت النار على خليلك إبراهيم، وانجيتني من الذبح، كذلك خلِّص المؤمنين من النار.
فانظر ما أعظم حرمتك عند ربك يا مؤمن، الملائكة والأنبياء وجميع
المخلوقات يستغفرون لك، ورسولُك - صلى الله عليه وسلم - يشفع فيك، أفتراه يعذِّبك بعد هذه الفضائل، بل يفديك من النار بيهودي أو نصراني كما فدى إسماعيل بالكبش الذي تقرَّبَ به هابيل ورباه في الجنة لإسماعيل.
فإن قلت: لم وصف الفداء بالعظمة؟
فالجواب: لكيلا يدخل في حدٍّ محدود، إذ لو كان محدودا لوجب الافتداء
به، وكذلك سائر المسلمين.
وكان فيه مشقة.
وقيل: لأنه من عند الله.
وانظر كيف وصفه بالعظمة، مع أنه وصف نفسه وكتابَه والأجر بالعظيم، والفوز العظيم، والعذاب العظيم، والظلم شِرْك عظيم، والبهتان، وكَيْد النساء عظيم، وزلزلة الساعة شيء عظيم، والعرش العظيم.
وقال: (أنْ تَميلوا ميلاً عظما) .
(فقد افترى إثْماً عظيما) ، (وتحسبونه هيِّنا وهو عند الله عظيم) .
وقيل: إن الله أمر إبراهيم بتعليق قَرْن الفداء على الكعبة إشارة له أن عَلِّق
قلبك بعرشي، ولا تلتفت لسواي، لأني ربُّ الكل.
وأنت يا محمديّ إذا علقت قلبَك بربك، وأخفيتَ ما بينك وبينه، ولم تطلِع
عليه أَحداً من خَلْقه، أفتراه لا يقْبَلك، وقد أخْفى لك ما لا يخطر ببالك من
قرة أعين،

(3/88)


فإن قلت: لِمَ لمْ يقل في هذه القصة كما قال قبل: إنَّا كذلك نَجْزِي
المحسنين) ، فيكون ذكره تفخيمًا لأمره؟
فالجواب أنه تقدم في قصة إبراهيم نفسها: (إنا كذلك) ، فاستغنى عن إعادتها.
(فأتوا بكتابكم إنْ كنْتم صادقين) :
عجَّز قريشاً بهذا الخطاب، لأنهم ليس لهم كتاب يحتجُّون به، وكذلك: (فاسْتَفْتِهم) ، على وجه التقرير والتوبيخ عما زعموا من أن الملائكة بناتْ الله.
(فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) .
يعني بما تعبدون من الأصنام وغيرها.
(وَمَا تَعْبُدُونَ) عطف على الضمير في (إِنَّكُمْ) .
ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع.
ومعنى فاتنين مضِلِّين.
والضمير في عليه يعود على ما تعبدون، وعلى سببية، معناها التعليل.
و (مَن) مفعول بـ فاتنين.
والمعنى إنكم أيها الكفَّار وكل ما تعبدونه لا تضِلون أحداً إلا مَنْ قضى الله أنه يصْلَى الجحيم.
وقال الزمخشري: الضمير في " عليه " يعود على الله تعالى.
(فَتَولَ عنهم حتّى حِينٍ) ، أي إلى حضور آجالهم.
وقيل: حضور يوم القيامة.
وقيل: حضور يوم بدر، وهذه موادعةْ منسوخة بالقتال.
(فسوف يُبْصرون) :
وعد للنبي - صلى الله عليه وسلم - ووَعِيدٌ لهم.
فإن قلت: ما فائدة تكرير هذه الآية، ولم حُذِف في الثانية المفعول؟
فالجواب: من وجهين: أحدهما أنه اكتفى بذكره أولاً عن ذكره ثانياً.
فحذَفه اختصاراً.
والآخر أنه حذفه ليفيد العموم فيمن تقدم وغيرهم، كأنه
قال: أبصر جميع الكفار، بخلاف الأول، فإنه في قريش خاصة.
(فإذا نزل بساحَتِهم فساءَ صبَاحُ الْمنْذَرين) .
الساحة، الفنَاء حول الدار، والعرب تستعمل هذه اللفظة فيما يرِد على الإنسان من محذور.

(3/89)


وسوء الصباح مستعمل في ورود الغارة والرزايا، ومقصدُ الآية التهديد بعذاب يحلُّ بهم بعد أن أنذروا فلم ينفعهم الإنذار، وذلك تمثيل بقوم أنذرهم - ناصح بأنَّ جيشاً يحلّ بهم، فلم يقبلوا نصْحه، حتى فاجأهم الجيش فأهلكهم.
وفي صحيح البخاري أنه - صلى الله عليه وسلم - صعد على الصفا، ونادى بأعلى صوته: يَا صَبَاحَاهْ ففزعت إِلَيْهِ قُرَيْشٌ قَالُوا مَا لَكَ قَالَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ أَوْ يُمَسِّيكُمْ أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي قَالُوا بَلَى قَالَ فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) .
(فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ) :
هذا تعجيز لهم وتهَكّم بهم.
ومعنى يرتقوا يصعدوا، والأسباب هنا السلالم والطرق وشِبْه ذلك مما يوصل به إلى العلو.
وقيل: هي أسباب السماء.
والمعنى إن كان لهم ملك السماوات والأرض
فليصعدوا إلى العرش ويدَبِّرُوا الملك.
(فَوَاق) :
فيه ثلاثة أقوال: أحدها - رجوع، أي لا يرجعون
بعدها إلى الدنيا، وهو على هذا مشتق من الإفاقة.
الثاني - ترداد، أي هي واحدة لا ثاني لها.
الثالث - ما لها من تأخير ولا توقّف مقدار فوَاق ناقة وهو ما
بين حَلبتيها، وهذا القول إنما يجري على قراءة (فُواق) بالضم، لأن (فُواق) بالضم، كذا في الحديث، والقولان الأول على الفتح، والثاني على الضم.
(فَصْلَ الخِطَاب) .
هو فصل القضاء بين الناس بالحق عند ابن عباس، وعند علي بن أبي طالب - هو إيجاب اليمين عليه والبَيِّنة على المدَّعِي.
وقيل كلمة أَما بعد، فإنه أول مَن قالها.
وقال الزمخشري: معنى فصل الخطاب: البَين من الكلام الذي يفهمه من يخاطب به، وهذا هو الذي اختاره ابن عطية، وجعله من قوله: (إنه لقول فَصْلٌ) .
(فاعبُدوا ما شِئْتم مِنْ دونه) :
هذا تهديد ومبالغة في الخذلان والتخلية لهم على ما هم عليه.

(3/90)


(فسلَكهُ يَنَابِيعَ في الأرض) .
أي أدخل المطر وأجراه.
والينابيع: جمع ينبوع، وهو العين، وفي الآية دليل على أنَّ ماء المطر هو الْمخْرِج للعيون.
(فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ) ، أي في حق الله.
وقيل في أمره، وأصله من الجنب، بمعنى الجانب، ثم استعير لهذا المعنى.
ومعناه اتقوا يوماً تقول فيه كلّ نفس: (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) .
ندامةً على استهزائه بأمر الله تعالى.
فإن قلت: لم نكرت النفس؟
فالجواب أن المراد بها بعض الأنفس، وهي نفس الكافر، ويجوز أن يراد
نفس متميِّزَة من الأنفس إمّا بلجاج في الكفر شديد أو بعذاب عظيم، ويجوز أن تكون للتكثير، قال قتادة: لم يكْفه أنْ ضَيّعَ طاعةَ الله حتى سخر من امتثالها.
وروي أنه كان في بني إسرائيل عالم ترك عِلْمه وفسق - أتاه إبليس، فقال
له: تمتَّع من الدنيا ثم تبْ.
فأطاعه، وكان له مال، فأنفقه في الفجور، فأتاه ملك الموت في ألَذ ما كان، فقال: "يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ"، ذهب عمْري في طاعة الشيطان، وأسخطت الملك الدَّيان، فندم حين لم ينفعه الندم، فأنزل الله خبره في القرآن.
فليتأمل العاقلُ هذا الوعيد الهائل، فإنّا لله وإنا إليه راجعون، على طَمْس
قلوبنا، وغَفْلتنا عما يراد بنا.
صدق الله العظيم في قوله في بعض كتبه: " يا علماء السوء، قد وعظتكم وأنذرتكم، ومِنْ فعل القبيع حذّرْتُكم، وكثير من الآيات أريتكم فلم تنتفعوا بالمواعظ والآيات، (وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ) ، تطيعون أنفسكم فيما تشتهون وهي تعصيكم فيما تأمرون، بئس العبيد أنتم إذا علمتم أنكم لا تنالون ما تريدون إلا بترك ما تشتهون، ولا تبلغون كل ما
تأملون إلا بصبركم على ما تكرهون، تريدون مرافقة النبيين والصديقين والشهداء

(3/91)


والصالحين، بأي عمل عملتموه، بأي غيْظ كظمتموه، بأي رحم وصلتموه، بأي قريب باعَدْتموه، بأيِّ بعيد قَرَّبتموه، وبأي زلة لإخوانكم عَفَوْتم عنها.
بأي شهوة تركْتموها، هل أنتم إلا كالْحَمْقَى، أما علمتم أنَ مَن كثر شبعه كثر لحمه، ومن كثر لحمه كثرت شهْوَته، ومن كثرت شهوته كثرت ذنوبه، ومَن كثرت ذنوبه قَسا قلبه، ومَنْ قسا قلبه غرق في الآفات، أما علمتم أن المسيء ميت وإن كان في منازل الأحياء، والمحسن حيٌّ وإن انتقل إلى منازل
الأموات ".
(فَوْج) :
مفرد أفواج، وهي الجماعة من الناس.
(فَطَرني) ، أي خلقه ابتداء، ومنه فاطر السماوات والأرض.
و (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) .
وأفطر بالألف من الإطعام.
(فعليه كَذِبه) :
هذا من قول مؤمن آل فرعون، يعني إن كان موسى كاذباً في دعوى الرسالة فلا يضركم كذِبه، فلأي شيء تقتلونه؟!!
فإن قلت: كيف قال: وإن يك كاذباً - بعد إيمانه به.
فالجواب أنه لم يقلْ ذلك على وجه التكذيب، وإنما قاله على وجه زعمكم أنه كاذب، وقصد بذلك المحاجّة عليهم.
وفيه احتجاجٌ عليهم، كأنه قال: قدَّرنَا كذِبَه، ماذا عليكم من كذبه، هَبْه رجلاً منكم كذب عليكم، فأقام عليهم الحجة على تقدير الكذب والصدق.
(فأَطَّلِعَ) بالرفع على (أبلغُ) ، وبالنصب على إضمار " أن " في جواب لعلي، لأن الترجي غير واجب، فهو كالتمني في انتصاب جوابه، ولا نقول إن لعلل أشربت معنى ليت، كما قاله بعض النحاة.
وهذا من قول فرعون لما أمر هامان ببنيان الصرح الذي رام أن يصعد به إلى

(3/92)


السماء، وانظر ضَعف عقولهما وعقول قومهما وجهلهم بالله في كونهم طمعوا أنْ يصِلوا إلى السماء ببنْيان الصرح.
وقد روي أنه أول من علمنا الآجر، وصعد على الصرح بعد بنيانه، ورَمى
بسهم إلى السماء، فرجع السهم مخضوباً بالدم، وذلك فتنة له ولقومه، وتهكم به.
(فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) :
ضمير التأنيث يعود على السماوات، قوله: ائتيا مجاز، وهو عبارة عن تكوين طاعتهما، وكذلك قولهما: (أتَيْنَا طائعين) ، عبارة على أنهما لم يمتنعا عليه حين أراد تكوينهما.
وقيل: بل ذلك كلام حقيقة، أنطق الله السماوات والأرض بالطوع، ولهذا جعهما جمع العقلاء لفعلهما فعلهم.
وقول الله لها عبارة عن لزوم طاعتهما كما يقول الملك لمن
تحت يده: افعل كذا، شئْتَ أو أبَيتَ، أي لا بدّ لك من فعله.
وقيل تقديره: أتيتما طوعاً وإلا أتيتما كَرْهاً.
وقيل: إن المجيب له من الأرض موضع الكعبة.
ومن السماوات البيت المعمور، فلِذا أكرمهما الله بالطواف بهما.
فإن قلت: هلّا قال طائعتين على اللفظ أو طائعات على المعنى، لأنها سموات
وأرضون؟
فالجواب لما جعِلن مجيبات ومخاطبات ووُصفن بالطوع والكره قال: (طائعين)
في موضع طائعات، نحو قوله: ساجدين - تغليبا.
فإن قلت: لم ذكر الأرض مع السماء وانتظمهما في الأمر بالإتيان، والأرضُ
مخلوقَة قبل السماء بيوميين؟
فالجواب قد خلق جرم الأرض أولاً غير مَدْحوَّة كما قدمنا، فالمعنى ائتيا
على ما ينبغي أن تأْتيا عليه من الشكل والوَصْف، ائتي يا أرض مدحوة قراراً
ومِهَاداً لأهلك، وائتي يا سماء مقبية سقْفًا لهم، ومعنى الإتيان الحصول والوقوع.
وتنصره قراءةُ من قرأ واتَتَا من المواتاة، وهي الموافقة، أي يتواتِ كلّ واحدة
أختها ولتوافقها، قالتا: وافقنا وساعدنا.

(3/93)


(فَتَنَّا سُلَيْمَانَ) :
قد قدمنا أنه لما نظر إلى ملْكه، واستعظمه، بأنْ أَلقى على كرْسيه جسداً، فقيل ولده الذي مات.
وقيل: الصنم الذي اتخذته بنْتُ ملك الروم التي أسرها سليمان ثم تزوجها، وهذه عادَتُه سبحانه مع أنبيائه وأحبابه، ولذلك أمر حبيبه بألا يلتفت إلى غيره غيرةً منه عليه، ولما لم يلتفت إلى غيره قَرَّبَه منه، فكان كقَاب قَوْسين أو أدنى.
(فوَيلٌ للقاسيةِ قلوبُهم من ذِكْرِ الله) :
الويل: وادٍ في جهنم تستعيذ منه كلَّ يوم سبعين مرة، وقد ذكره الله لثمانية عشر صنفاً: اليهود: (فوَيْل لهم مما كتبت أيديهم) .
(ويل لكل أفاك أثيم) .
(وَئلٌ يومئذ للمكذبين) .
و (ويل للمطففين) .
و (ويل لكل همَزة لمَزَة) .
(يا ويلنا إنا كنّا طاغين) .
(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) .
(يا ويلنا قد كُنَّا في غفلة من هذا) .
(يقولون يا ويلتنا) .
(ولكم الوَيْل مما تصِفون) .
(يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا) .
(وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) .
(وويل للكافرين من عذاب شديد) .
(فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم) .
ولا أظنُّ أحداً في هذا الزمان سلم من هؤلاء الأصناف، وخصوصاً القاسية
قلوبهم مِنْ ذكر الله، فقد اتصفنا بها أجمعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
وهذه حالةَ تقتضي ختم القلوب وتغذيها بالحرام الذي يبعد عن المربوب.
(فقضَاهنَّ سبْعَ سَموَاتٍ) :
أي صنعهن، وانتصانبا على التمييز تفسيراً للضمير، وأعاد عليها هنا ضمير الجماعة المؤنثة لأنها لا تعقل.
فإن قلت: قد قال أولاً في يومين، وبعده في أربعة أيام، وهنا في يومين.
وهذا يقتضي أنها ثمانية أيام.

(3/94)


والجواب لما ذكر أنَّ الأرضَ خُلِقَتْ في يومين عُلم أن ما فيها خلق في يومين.
فبقيت المخايرة بين أن يقول في يومين، وأن يقول في أربعة أيام، فتلك أربعة
أيام، ثم خلق السماوات في يومين، فتلك ستة أيام حسبما ذُكر في مواضع كثيرة من القرآن، ولو كانت هذه الأربعة الأيام زائدة على اليومين المذكورين قبلها لكانت الجملةُ ثمانية أيام، بخلاف ما ذكر في مواضع كثيرة.
قال بعض العلماء: إن الله تعالى خلق السماوات والأرض في يوم الأحد، فمن أراد البناء فليبن فيه، وخلق الشمس والقمر في يوم الإثنين وصفتهما السير، فليسافر فيه، وخلق الحيوان يوم الثلاثاء، وأباح ذَبْحها وإراقةَ دمها، فمن أراد الحجامة فيه فليحتجم فيه، وخلق البحار والأنهار يوم الأربعاء وأباح شربها، فمن أراد شرب الدواء فليشرب فيه، وخلق الجنة والنار يوم الخميس وجعل الناس محتاجين إلى دخول الجنة والنجاة من النار، فمن أراد قضاءَ الحوائج
فليسأل فيه، وخلق آدم وحواء يوم الجمعة وزوجهما فيه، فمن أراد عقد التزويج فليتزوج فيه، أخذه من قول الإمام علي رضي الله عنه:
لنعم السبت يوم السبت حقا ... لصيدٍ إن أردْتَ بلا امترا.
وفي الأحد البناء، لأن فيه ابْتدأ اللَّهُ خَلْقَ السماء
وفي الإثنين أسفار وربح ... وأمْنٌ في الطريق وفي العطاء
وإنْ ترد الحجامة فالثلاثا ... ففي ساعتها هرق الدماء
وإن شرب امرؤ يوماً دواء ... فنعم اليوم يوم الأربعاء
وفي يوم الخميس قضا حوائِج ... وفيه الله يأذن بالقضاء
ويوم الجمعة التزويج فيه ... ولذات الرجال مع النساء
وهذا العلم لا يحويه إلا ... نَبيّ أوْ وَصِيّ الأنبياء
فإن قلت: كيف ذكر الأيام التي خلق الله فيها المخلوقات، وإنما تعتبر
بوجود الشمس؟
والجواب أنه يحتمل أن يجعلها على التقدير، وإن لم تكن الشمس خُلقت

(3/95)


بعد، وكان تفصيل الوقت أنها الأحد ويوم الإثنين، كما ذكر فخلق الأرض غير مَدْحوَّة، ثم خلق السماوات فسواهنَّ في يومين، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وجعل الرواسيَ وغيرها في يومين، فتلك أربعة أيام للأرض، وهذا معنى قوله تعالى: (والأرض بَعْدَ ذلكَ دَحَاها) .
كلُّ ذلك تعليم لعباده، وإشارةً لهم في التأنِّي في الأمور، لأنه كان سبحانه قادراً على قوله لها: كنْ، فكانت.
وفي الحديث أنه سئل - صلى الله عليه وسلم - عن يوم الأحد، فقال: يوم غَرْس وعمارة، قالوا: كيف ذلك يا رسول الله، قال: لأن فيها ابْتدأ الله خلق الدنيا وعمارَتها.
فإن قلت: بم علق قوله: (للسائلين) ؟
قلت: بمحذوف، كأنه قال: هذا الْحَصرُ لأجل مَنْ سأل في كَمْ خلقت
الأرض وما فيها، أو يقدر فيها الأقوات لأجل الطالبين إليها من المقتاتين.
وهذا الوَجْه الأخير لا يستقيم إلا على طريقة الزجاج.
(فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) :
الضمير يعود على الأمم المذكورة الذين جاءتهم رسلهم بالبينات.
فإن قلت: أي علم عندهم حتى يفْرَحوا به؟
فالجواب أنهم كانوا يفرحون بما عندهم من العلم في ظنّهم ومعْتقدهم من أنهم
لا يبعثون ولا يحاسبون، واغتروا بعلمهم في الدنيا والمعاش، وظنّوا أنه يَنْفَعهم.
وهذا لقول بعضهم: (وما أظنّ الساعةَ قائمة) .
وقيل: أراد علم الفلاسفة والدهريِّين، من بني يونان، وكانوا إذا سمعوا
بوحي الله دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم، وعن سقراط أنه سمع بموسى عليه السلام فقيل له: لو هاجَرْتَ إليه.
فقال: نحن قوم مهذَّبون، فلا حاجةَ بنا إلى من يُهَذبنا.
وقيل: فرحوا بما عند الرسل من العلم فَرَحَ ضَحِك منه واستهزاء به، كأنه

(3/96)


قال: استهزأوا بالبينات وبما جاءوا به من علم الوَحْي.
ويدل عليه قوله: (وحاق بهم ما كانُوا به يَسْتَهْزئون) ، جزاء جهلهم واستهزائهم.
وقيل: الضمير عائد على الأنبياء، وفي هذا التأويل حَذْفٌ، وتقديره: فَلمّا جاءتهم رسلُهم بالبينات كذّبوهم، ففرح الرسل بما عندهم من العلم والثقة به، وبأنه سينصرهم.
و (حاق) معناه نزل بهم وثبت، وهي مستعملة في الشرِّ.
و (ما) في قوله: (ما كانوا) هو العذاب الذي كانوا يكذِّبون به ويستهزئون بأمره.
والضمير في بهم عائد على الكفار بلا خلاف.
فإن قلت: ما معنى ترادف هذه الفاءات في هذه الآيات؟
قلت: أما قوله: (فما أغْنَى عنهم ما كانوا يكسبون) .
فهو نتيجة قوله (كانوا أكثر منهم) .
وأما قوله: (فلما جاءتهم رسلُهم بالبينات فرحوا) ، فجارٍ مَجْرَى البيان والتفسير لقوله تعالى: (فما أغْنَى عنهم) ، كقولك: رُزِق زيد المال فمنع
المعروف، فلم يُحسن إلى الفقراء.
وأما قوله: (فلما رَأوْا بَأسَنا قالوا آمَنَّا) ، فكذلك: (فلم يك ينفعهم إيمانُهم) ، تابع لإيمانهم لما رأوْا بَأس الله.
فحق لمن سمع هذه الموعظة أنْ يبادر إلى الطاعة، ولا يتأنَّى.
بلى، والله.
وقعت منا المخالفة وقتَلْنَا أنفسنا بالمعاصي بئس ما اخترنا!
كم وعظنا المشيب ولا قبلنا، علمنا أنَّ الدنيا ثلاثة أنفاس: نفَس مضى عملنا فيه ما عملنا، ونَفَس لا ندري أَنملكه أم لا، فليس لنا إلا النفس الذي نحن فيه.
حرصنا على درهم لا ندري لمن يبْقَى، ومزقنا ثوب المعاصي ولم نكفه بتوبة، فما أسرع الملتقى!
أليس هذا من العمى، إذا شغلنا بالدنيا خسرنا فكيف يكون حالُنا وقد شغلتنا المعاصي عن الإقبال عليه!
بئس ما استنفدنا زمانَ الصبا في المعاصي واللهو، ولم ننته في الكبر عن لَهْونا، ولو تُبْنَا لحقَّ لنا البكاء، فكيف وقد انهمكنا!
إذا تاب الشيخ

(3/97)


يقول الله عز وجل: الآنَ جئتنا حين ضعفَتْ مفاصلك.
الآن وقد ذهبت قُوّتك.
الآن وقد نفد عمرك.
الآن وقد قَسا بالمعاصي قَلْبك.
الآن وقد ضاع في البطالة وقْتك.
هذا لمن تاب، فكيف حال مَنْ هو في قَفص الطبع محجوب
عن العتاب، نعقد عقدة التوبة بخيط العنكبوت ظاهراً وباطناً، نتلذّذ بها، فكيف لا نحلها، لو صدقت التوبة منا لوجدنا مرارتها، كما وجدنا حلاوتها، إلهي التوبة لا تدوم لي، والمعصية لا تنصرف عني، ولا أدري بِمَ تختم لي، غير أنَّ عفوك ورجاءك أطمعني أن أسألك ما لا أستَوْجِبه منك، فهب لي منك توبةً باقية، واصرف أزمة الشهوات عني، وحقّقني بحقيقة الإيمان، وأعنّي على نفسي والهوى والشيطان، بحرمة سيدنا ونبينا ومولانا سيد الثَّقَلين صلى الله عليه وعلى آله ما اختلف الْمَلَوان.
(فإن أعْرَضوا) :
الضمير لقريش، أي أعرضوا عنك يا محمد فسآخذهم أخذةً شديدةً، مثل أخذ عادٍ وثمود، وقد كانوا أشدَّ منهم قوةً وأكثر أموالاً وأولادا، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون.
(فإنا بما أُرسِلتُم به كافرون) :
ليس فيه اعتبار الكفار بالرسالة، وإنما معناه بما أرسلتم على قولكم ودَعْوَتكم، وفيه تهكم.
(فالَّذِينَ عِنْد ربِّك) :
يعني الملائكة، ووصفهم بالعندية للتشريف والتكريم، إذ يستحيل في حقه جلّ وعلا التجسيم، المجسم أعمى والمعطل أكمه.
(فحكمه إلى اللَهِ) :
الضمير في المختلف فيه، يعني ما اختلفتم أنتم والكفّار مِنْ أمر الدين الْحُكم فيه إلى الله بأنْ يعاقب المبطل ويُثيب المحق، أو ما اختلفتم فيه من الخصومات فتحاكَمُوا فيه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا كقوله: (فردوه إلى الله والرسول) .
(فإمّا نَذْهَبَن بكَ فإنَّا منهم مُنْتَقِمون) :
يحتمل أن يريد بهذا الانتقام قَتْلهم يوم بَدْر، وفَتْح مكة، وشبه ذلك من الانتقام في الدنيا،

(3/98)


أو يريد به عذابَ الآخرة.
وقيل: إن الضمير في (منهم منتقمون) للمسلمين، وإن معنى ذلك أن اللهَ قضى أن ينتقم منهم بالفِتَن والشدائد، وأنه أكرم نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بموته قبل رؤيته الانتقام منهم.
والصحيح أنَّ مقصد الآية وَعِيدٌ الكفار، يعني إن عَجَّلْنَا وفاتَك قَبْلَ الانتقام
منهم فيقع الانتقامُ منهم بعده، وإن أخَّرْنا وفاتَك إلى حين الانتقام منهم (فإنَّا
عليهم مقتدرون) .
ثم شهد له بأنه على صِرَاطٍ مستقيم، وكيف لا يكون على الصراط الستقيم
وقد كان يقمُّ البيْتَ، ويحلب الشاة، ويعلف الناضح، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، وينام على الحصير، ولا ينام على الوَثِير، ويسلِّمُ مبتدراً على مَنْ لقي من صغير أو كبير، ويأخذ بيد الخادم ويَطْحَن معها إذا عيَّت، حتى قال الحق فيه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، وأنزل عليه الكتابَ الحكيم، وشرح صَدْرَه، ويَسَّر أمره، وأعْلَى في العالمين ذِكْرَه، وأمره بالاستمساك بما أوْحى إليه، ليَقتَدِي به مَنْ بعده، فهو أحمد، وأمَّته الحامدون، ومستغفِرٌ وأمَّتُه التوَّابون، خصه الله وأمته بخصائص لم يعطها مَن تقدم في الدنيا ولا في الآخرة: في الدنيا يطول ذكرها، وفي الآخرة لا يُقدر قَدرها، كالحوض، والكوثر، واللواء الذي عَرْضُه ما بين الْمَشْرِق والْمَغْرِب مكتوب عليه:
لا إله إلا الله محمد رسول الله، تقدمته آدم ونوح، وخلفه إبراهيم وموسى، وعن يمينه جبريل وميكائيل، وعن يساره إسرافيل وعزرائيل، وساقته أصحابه وأمته، رافعاً صوته: يا ربّ، أمتي أمتي، وقد وعدتني الشفاعةَ فيهم، وهم عَبيدُك، فاغفر لهم ما جَنَوْا، ولا تُؤَاخذهم بما عَصَوا، يا أكرم الْخَلق، يا رسول الله، عبدك الصنف قد وحل في شَرَك المعاصي، ولم يجد منْقِذاً ينْقذه منه غَيْرَ جاهك العظيم، فلا تخيّبه منه، وخُذْ بيده، ولا تعامِلْة بما جفاك به، حاشا لفضلك أنْ تخيب راجياً، الخير أكبر، والمواهب أوسع!
(فأنا أولُ العابدين) :
هذه الآية ردٌّ على الكفار،

(3/99)


واحتجاج عليهم، لأنهم كانوا يقولون: إنَّ له ولداً، ومعناها: لو كان للرحمن ولد كما يقول الكفار لكنْتُ أنا أول من يعبد ذلك الولد.
كما يعظِّمُ خدامُ الملك ولدَ الملك لتعظيم أبيه، ولكن ليس للرحمن ولد، وما ينبغي له أن يتخذ ولداً، فلا نعبد غيره.
وهذا نوع من الأدلة يسمَّى دليلَ التلازم، لأنه علَّقَ عبادةَ الولد بوجوده.
ووجودُه محال، فعبادته محال.
ونظير هذا أن يقول المالكي - إذا قصد الرد على الحنفي في تحليل النبيذ: إن كان النبيذ غير مسْكِر فهو حلال، لكنه مسكر فهو حرام.
قال الطبري: هو ملاطفةٌ في الخطاب، ونحوه قوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) .
قال ابن عطية: ونحوه قوله تعالى في مخاطبة الكفار: (أَين شركائي) يعني في زعمكم.
وقد تكلم الزمخشري هنا بزعمه الفاسد بما لا يليق ذِكْرهُ للمبتدئ، وأما المنتهي فيعلم فسادَ مذهبه، ورضي الله عن ابن خليل السكوني في ردِّه عليه للتحرز منه، عامله الله بلطفه.
(فاصْبِرْ كما صبرَ أولو العَزْمِ مِنَ الرسُلِ) :
قد قدمنا أن الله ذكرهم في قوله: (وإذَ أخذنَا من النبيين ميثاقَهم ومنك)
في هذا التقديم إشعارٌ بفَضْلِه - صلى الله عليه وسلم - على مَنْ سواه.
وقيل: أولو العزم الثمانية عنتر المذكورون في الأنعام، لقوله تعالى: (فبهدَاهم اقْتَدِه) .
وقيل: كلّ من لقي من أمته شدة.
وقيل: الرسل كلهم أولي عَزْم، فـ (مِنَ الرسُلِ) على هذا لبيان الجنس، وعلى الأقوال المتقدمة للتبعيض.
(فضَرْبَ الرِّقَاب) :
أصله: فاضربوا ضَرْباً، ثم حذف الفعل وأقام المصدر مقامه.
والمراد قتلهم، ولكن عَبَّر عنه بضرب الرقاب، لأنه الغالب
في صفة القتل.

(3/100)


(فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) .
قد قدمنا في حرف التاء اختلاف الأوزار، ومتى يكون ذلك، وانتصب
المنّ والفِدَاء على المصدرية، والعامل فيهما فعلان مضمران.
ومعنى الْمَنّ العتق.
والفداء: فك الأسير بمال.
وأمر الله في هذه الآية بوثاق الأسير حتى يفدى أو يُمنّ عليه، والإمامُ مُخَيَّر في ذلك أو القتل، والاسترقاق، وضَرْب الجزية.
وقيل: لا يجوز المن ولا الفداء، لأن الآية منسوخة بقوله: (فاقْتُلوا المشركين حيثُ وجدتموهم) .
فلا يجوز على هذا إلاَّ قتلهم.
والصحيح أنها محكمة.
(فقد جاء أشْرَاطُها) :
يعني علامات الساعة، والذي جاء من ذلك مبعثه - صلى الله عليه وسلم -، لقوله: أنا من أشراط الساعة، وبعثت أنا والساعة كهاتين.
وقد أخبرنا أنَّ لها دلائل، منها ظهور الفتَن وكثرة المعاصي، والحرص في
الدنيا، والتنافس عليها، وتوسيد الأمر لغير أهله، فحينئذ يظهر الدجال.
ويأجوج ومأجوج، وطلوع الشمس من مغربها، وتفصيل هذا كلّه يحتاج لطول نفس، لكنّهم اختلفوا في أول الآيات ظهوراً، وذلك يتوقف على صحة نَقْلٍ.
وظهور المهدي والدجال بعده، وعيسى بعده، ويعلم الله ما بعد ذلك.
والصحيح أنها كالخرز إذا ظهرت واحدةٌ تبعتها أختها.
(فأوْلَى لهم) :
في معناه قولان:
أحدهما أنه بمعنى أحق، وخَبَره على هذا (طاعةٌ) .
والمعنى أن القول المعروف والطاعة أولى لهم وأحق.
والآخر أنَّ أولى لهم كلمة معناها التهديد والدعاء عليهم، كقولك: وَيْل لهم.
ومنه قولى (أوْلَى لك فأوْلى) ، فيوقف على أولى لهم على هذا القول، ويكون (طاعةٌ) ابداء كروم، تقديره طاعةٌ وقول معروف أمْثَل، والمطلوب منهم طاعة وقول معروف، أو قولهم لك يا محمد: طاعة وقول معروف بألسنتهم دون قُلوبهم.

(3/101)


(فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ) :
أسند " الأَمْرَ " إلى العزم مجازاً، كقولك: نهارُه صائم، وليلُه قائم.
ويحتمل أن يريد صِدْقَ اللسان، أو صِدْق العزم والنية، وهو أظهر.
وانظر كيف خرج من الغَيْبَة إلى الخطاب بقوله: (عسَيْتم) ، ليكون أبلغ في
التوبيخ.
والمعنى: هل يُتَوَقَّع منكم الإفساد في الأرض، وقَطْعُ الأرحام، إنْ تولّيْتم.
ومعنى توليتم: صرتم ولاةً على الناس، وصار الأمْرُ لكم، وعلى هذا قيل: إنها نزلت في بني أمية.
وقيل معناه: أعرضتم عن الإسلام.
(كيف إذا تَوَفَّتْهم الملائكةُ) :
ضمير الفاعل للملائكة. وقيل: إنه للكفار، أي يضربون وجوه أنفسهم، وذلك ضعيف.
(فَلَنْ يَغْفِرَ الله لهم) :
هذا قَطع بأن مَنْ مات على الكفر لا يَغْفِر الله له.
وقد أجمع المسلمون على ذلك.
(فلا تَهنُوا وتدْعوا إلى السَّلْمِ وأنتم الأعْلَون واللهُ معكم) :
معناها لا تضْعفوا عن مقاتلة الكفار، وتبدءونهم بطلب الصلح، فهو كقوله:
(وإنْ جَنَحوا للسَّلْمِ فاجْنَحْ لها) .
(فَيُحْفِكُم) ، أي يلح عليكم.
والإحفاء: هو أشدُّ السؤال.
و (تبخلوا) جوابُ الشرط.
(فسيقولون بَلْ تَحْسذوتنَا) :
الضمير يعود على المنافقين.
معناه أنهم يقولون: يعز عليكم مالاً وغنية.
و (بل) هنا للإضراب عن الكلام المتقدم وهو قوله: (لن تَتَّبِعونا كذَلكمْ قال الله من قبل) ، فمعناه رد أن يكون الله حَكم ألاَّ يتبعوهم.
وأما (بل) في قوله تعالى: (بل كانوا لا يَفْقَهون إلاَّ قَليلاً)

(3/102)


فهي إضراب عن وصف المؤمنين بالحسد، وإثباث لوصف الْمخَلَّفين
بالجهل.
(فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) :
يعني مِنْ صدق الإيمان، وصِدْق العزم على ما بايَعُوا عليه.
وقيل: مِنْ كراهة البَيْعَة على الموت، وهذا باطل، لأنه ذمّ للصحابة.
(فعجّل لكم هذِه) : يعني فَتْح خَيْبَر.
وقيل: إن المغانم التي وعدهم بها مغانمُ خَيْبَر، والإشارة ب (هذه) إلى صُلْح الحديبية.
(فآزَرَه) : أي قوّاه، وهو من المؤازرة بمعنى المعاونة.
ويحتمل أن يكون الفاعل الزرع والمفعول (شطْأه) ، أو بالعكس، لأن كلَّ واحد منهما يقَوِّي الآخر.
وقيل معناه ساواه طولاً، فالفاعل على هذا الشَّطْء، ووَزْن
آزره أفعله، وقيل فاعله.
وقرئ بقصر الهمزة على وزن فَعَله.
(فاستَغْلَظَ) ، أي صار غليظاً.
(فاستَوى على سُوقِه) ، جمع ساق، أي قام الزرع على سوقه.
وقيل كزرع النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرج شَطْاه بأبي بكر، فآزرَه بعمر، فاستغلظ بعثمان، فاستوى على سُوقه بعلي بن أبي طالب.
(فقال الكافرون) :
أي من قريش، ووضَع الظاهر موضع المضمر لقَصْد ذَمّهم، وانْهمَاكهم في الغيّ، كما قال تعالى: (أولئك هم الكافرون حَقًّا) ، هل ترى كفْرا أعظمَ من تكذيب مَنْ صدقه الله بوَحْيِه ويتعجبوا من إنذاره لهم مع علمهم بصدقه وأمانته.
فإن قلت: عطفه هنا بالفاء بخلاف سورة (ص) بالواو يدلّ على أنها قضيتين؟
والجواب أنَّ آية (ص) إنما وردَتْ مورد الإخبار بمرتكبات من أفعال العرب
وأقوالهم فجيء بتلك الجمل منسوقاً بعضها ببعض، وأخبر تعالى أنهم في عِزّةٍ
وثقاق، وأنهم عجبوا أنْ جاءهم منذر منهم، ولم يكن من الملائكة، وأنهم رموه

(3/103)


بالسحر والكذب، وأنهم تعجبوا من جعله الآلهة إلهاً واحداً، وأنهم تمالئوا على قولهم: (امشموا واصْبِروا على آلهتكم) ، فلما قصد هنا الإخبار بجملةٍ
مِنْ مرْتكباتهم جاءت منسوقا بعضها على بعض بالواو التي لا تقتضي ترتيباً ولا تسبباً.
وأما آية (ق) فمقصودٌ بها التعريف، فتعجبهم من البعث الأخْروي
واستبعادهم إياه، ولم يقصد هنا غير هذا، قصده، فربطه بالفاء، أي عجبوا من البعث بعد الموت، فقالوا: كذا، فجيء لكل بما يحرزه.
(فالحامِلاَت وِقْرًا) ، هي السحاب يحمل المطر.
والوقر: الحمل، وهو مفعول به.
(فالجارِيات يُسْرا) :
هي السفن تجري في البحر، وإعرابُ " يسرًا " صفة لمصدر محذوف، ومعناه بسهولة.
(فالمقْسِمَاتِ أمْراً) ، هي الملائكة تقْسم أمورَ الملكوت
من الأرزاق والآجال وغير ذلك.
و (أمْراً) مفعول به.
وقيل: إن الحاملات وِقْراً: السفن.
وقيل جميع الحيوان الحامل.
وقيل: إن (الجاريات يسْراً) السحاب.
وقيل: الجاري من الكواكب، والأول أشهر، لأنه
قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) :
هذا قسمٌ أقسم اللَة باسمه، كقوله: (فوَرَبِّك لنَسْألَنَّهمْ أجمعين) .
ولما ذكر الله في هذه الآية رزْقَ عباده، وأنه يوصله لهم، أقسم لهم اطمئناناً
لنفوسهم، ويقسم اللَّهُ في كتابه إما لفضيلة وإما لمنفعة.
وأقسم بنفسه كهذه الآيات، وبفعله مثل: (والسماء وما بناها) ، وما ضاهاها من أفعاله، كقوله تعالى: (والنجم إذا هوى) .
(والطور) . (والتين) . (والليل) .

(3/104)


فإن قلت: إن كان القسم لأجل المؤمن فإنه يصدقه بغير قسم، وإن كان
للكافر فإنه لا يصدقه، فما فائدته؟
والجواب أن قسمَه تعالى لإكمالِ الحجة وتأكيدها، والحاكم يقبل الحكم َ
باثنين، إما بالشهادة وإمّا بالقسم، فذكر اللَّهُ القَسم في كتابه كي لا تَبْقَى لهم
حجة على الله، فإنا للَه وإنا إليه راجعون على هذه العقول الخَسيسة، اختارنا من بين جامد وناي، وناطق وصامت، وذلك أنه اختار الناي من الجامد لما كان فيه من الخضرة والزهرة والطيب والمنفعة، ثم اختار الحيوان من الناي لما فيه من الحركة والقوَّة والتصرف والزينة، ثم اختار الناطق من الحيوان لما فيه من الفصاحة والذّلاقة والفِطْنَة والبصيرة، ثم أختار الممتحن من الناطق لما أفادهم من العلم والحجة والدعوة والشريعة، ثم اختار المؤمن من الممتحن لما آتاه الله من المعرفة والهِدَاية والتوحيد والشهادة، ثم اختار المحب بالثناء والبشارة والمحبة، قال تعالى: (التًائِبون الْعَابدون الْحَامِدون) .
(يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) .
واصطفاك يا محمدي لوَحْيه، قال تعالى: (ثم أوْرَثْنَا الكتابَ الذين اصْطَفَيْنَا مِنْ عبادنا) .
فأنت مختار المختار، ووعدَك برزقه كي تتفرغ لخدمته، وضَمِنه لك ولم تَثِقْ بضمانه حتى أقسم لك به، فأعرضْتَ عن هذا كله، واشتغلت بالمعاصي والفجور عن طاعته، أما علمت أنَّ زلَّة الوزير ليست كزلَّةِ العامّة، يعْصِي الوزير فيضرب رَقبته، ويعصي أحَد العامة فلا يُلتفت إليه، أليس من الغبْنِ العظيم والرزء الجسيم - أنك تثق بمخلوق مثلك، يقول لك: غذاؤك اليوم والعشاء عليَّ فلا تدَبّر معه، وتَثِق بقوله، ولا تثق بقول أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين! وأعظم من هذا أنْ لو قاله لك يهودي أو نصراني لوثقت بقوله، ولم تَثِقْ بإلهك الذي خلقك وصوّرك ووعدك، ورَضِي الله عن الإمام علي في قوله:
اتطْلُب رِزْق الله مِنْ عند غيره ... وتصْبح من خوف العواقب آمنا
وترضى بطرف وإن كان مشركاً ... ضَمِيناً ولا ترْضى بربك ضامنا

(3/105)


قال بعضهم: نبشت على أكثر من سبعين فوجدت وجوهَهم محوَّلة عن القِبْلة، وذلك اتهامهم ربّهم.
اللهم ارحمنا إذا صرْنا إليك.
(فقالوا سلاَماً) :
نصب على أنه في معنى الطلب، وهو مفعول بفعل مضمر.
وموقع الثاني مرفوع لأنه خبر تقديره: عليكم سلام، وهذا
على أن يكون السلام بمعنى السلامة، وإن كان بمعنى التحية فإنه رفع الثاني ليدلّ على إثبات السلام، فيكون قد حياهم بأكثر مما حيَّوْه، وينتصب السلام الأول على هذا على المصدرية، تقديره سلمنا عليكم سلاماً، ويرتفع الثاني بالابتداء تقديره سلام عليكم.
(فتَوَلَّى بركْنِه) ، أي أعرض فرعون عن الإيمان، واستمسك بقوته وسلطانه، وقال: موسى ساحر أو مجنون.
(فأخذَتْهُم الصاعِقةُ وهم يَنْظُرون) ، لأنها كانت بالنهار، زيادةً في نكالهم، إذ ليس الموت صَبْراً كالغِيْلةِ.
(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) :
أمر الله في هذه الآية بالإيمان به والدخول في طاعته، وعبَّر عن الأمر بذلك بلفظ الفِرَار، لينَبه على أن وراء الناس عقاباً وعذابا أليماً حَقُّه أن يُفَرّ عنه إن لم يُفَر منه طوْعاً يفر منه خوفاً، ونحن لم نفر منه لا طوعا ولا خوفاً، ولو علمنا ما تحت هذه الكلمة من التحذير والاستدعاء لم يهدأ رَوعنا، ألاَ تراه كرَّره للإبلاع وهزّ النفس للتشمير.
وتحكيم التحذير، وإعادة الألفاظ بعينها في هذه المعاني بقرينة
شدة الصوت، لكن الجاهل ضعيف الاستخراج، فيا لها من مصيبة لو عقلها
العاقلُ.
(فإنَّ للذِين ظَلموا) :
هم كفار قريش وأصحابهم ممن تقدم من الكفار، يعني أن لهم نصيبا من العذاب.

(3/106)


(فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) :
أي المغلوبون في الكيد.
ويعني مَنْ تقدم الكلام عليهم وهم قريش، فوضع الظاهر موضع المضمر.
(فبأيِّ آلاءَ رَبِّكَ تتَمارى) :
هذه مخاطبة الإنسان على الإطلاق، يعني بأي نِعَمِ ربك تشكّ، وقد منّ عليكَ، وجعل رَحِمَ أمِّكَ سكنَك، والأرضَ مِهادك، والشمسَ سِرَاجك، والإسلام خلقتك، ومحمد نبيك، والكعبة قِبْلتك، والجنةَ منزلك، والنارَ سِجْن أعدائك، والملائكة خدامك، والشيطانَ حِبَالَ عِصْيانك، والعقل والفَهْم والانتباه خصالك، فما لك أعرضْتَ عنا وتركت الالتفات إلينا! أهكذا معاملتك معنا! بئس العبد، لنعم الرب.
(فما تغْنِ النّذر) ، بمعنى الاستبعاد والإنكار.
(فتَوَلَّ عنهم) : لعلمك أن الإنذار لا ينفعهم، وأمره بالإعراض عنهم لمّا لم يَقْبَلوا كلامَه.
وفيه إشارة إلى أن مَنْ لم يقبل الإنذارَ يُعرض الله عنه، وإذا أعرض عنك أيها الأخ كيف يكون حالك؟!
(فكذبوا عَبْدَنا) ، يعني محمداً عبدنا، فما أشرفها من إضافة
لأنه قرنه بنون العظمة.
(فكيف كان عَذَابي ونذُر) :
توقيف فيه تذكير لقريش.
والنّذُر: جمع نذير.
(فتعَاطى فَعَقَر) ، أي اجْتَرأ على أمرٍ عظيم، وهو عَقْر الناقة.
وقيل: تعاطي السيف.
(فبأَيِّ آلاءِ رَبِّكما تكذِّبَان) وما بعدها،:
الآلاء: هي النعم، واحدها إلَى على وَزْن فعًى.
وقيل ألاً على وزن فعاً، وقيل غَيْر هذا.
والخطاب للثَّقَلين: الإنس والجن، بدليل قوله: (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) .
وروي أنه لما قرأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآيات سكت أصحابه، فقال:

(3/107)


إن جواب الجن خَيْر من سكوتكم، إني لما قرأتها عليهم قالوا: لا تكذب بشيء من آلاء رَبِّنا.
وكرر هذه الآية تأكيداً ومبالغة.
وقيل: إن كل موضع منها يرجع إلى معنى الآية التي قبلها، فليس بتأكيد: لأن التأكيد لا يزيد على ثلاث مرات.
(فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) :
قد قدمنا أن السؤال المنفي هنا على وَجْه الاستخبار وطلب الصرفة، إذ لا يحتاج إلى ذلك، وأَما السؤال فلا بد منه، قال تعالى: (فورَبِّكَ لنَسْألنَّهمْ أجْمَعين) .
وأحوال القيامة مختلفة على حسب الخلق.
(فاكهةِ زَوْجَان) .
أي من كل ما يتفَكَّه به نوعان، بخلاف الدنيا، وإنما جعل ما فيها أنموذج على ما في الجنة لا أنه مثلها.
(فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) :
الضمير للمأكول ووزن الهيم فعل، بضم الفاء، وكسرت الهاء لأجل الياء، وهو جمع أهيم، وهو الْجَمل الذي أصابه الْهُيَام بضم الهاء، وهو داء معطش يشرب منه الْجَمَل حتى يموت أو يسقم، والأنثى هَيْماء.
وقيل: هو جمع هائم وهائمة.
وقيل: الهيم: الرمال التي لا ترى من الماء، وهو على هذا جمع هَيام بفتح الهاء.
وقرِئ شُرب بضم الشين، واختلف هل هو مصدر أو اسم للمشروب.
وقرئ بالفتح، وهو مصدر.
فإن قلت: كيف عطف قوله: (فشاربون) على (شاربون) ، ومعناهما واحد؟
فالجواب أنَّ المعنى مختلف، لأن الأول يَقْتَضِي الشرب مطلقاً، والآخر
يقْتَضِي الشرب الكثير المشبه لشرْبِ الهِيم.
(فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ) :
تحضيض على التصديق.
إمَّا بالخالق تعالى، وإما بالبعث، لأنَّ الخلقة الأولى دليل عليه.

(3/108)


(فلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ) :
تحضيض على التذكّر والاستدلال بالنَّشْأة الأولى على النَّشأةِ الآخرة.
وفي هذا دليل على صحةِ القياس.
(فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) :
لولا هنا عرض، والضمير في (بَلَغَتِ) للنفس، لأن سياقَ الكلام يقتضي ذلك، وبُلوغها الحلقوم حين الموت، والفعلُ الذي دخلت عليه " لولا " هو قوله:
(تَرْجِعونَها) ، أي هلاَّ ردَدْتم النفس حين الموت.
ومعنى الآية: احتجاجٌ على البشر، وإظهارٌ لعجزهم، فإنهم إذا حضر
أَحدَهم الموتُ لم يقدروا أن يردّوا رُوحَه إلى جسده، وذلك دليلٌ على أنهم
مقهورون تحت قدْرته، (وهو القاهِر فوق عباده) ، والمقهور لا يقدر على شيء، وذلك أشدُّ لحسرته.
(فَسَلاَم لكَ مِنْ أصحابِ الْيَمِين) :
معنى هذا على الجملة نجاة أصحابِ اليمين وسعادتهم.
والسلامُ هنا يحتمل أن يكون بمعنى السلامة أو التحية.
والخطابُ في ذلك يحتمل أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لأصْحَابِ اليمين.
فإنْ كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - فالسلام بمعنى السلامة.
والمعنى سلامٌ لك يا محمد منهم، أي لا ترى فيهم إلا السلامة من العذاب.
وإن كان الخطابُ لأصحاب اليمين فالسلام بمعنى التحية.
والمعنى سلام لكَ، أي تحية لك يا صاحب اليمين من إخوانك، وهم أصحاب اليمين، أي يسلِّمون عليك فهو كقوله: (إلا قِيلاً سَلاماً سلاماً) .
أو يكون السلام بمعنى السلامة، والتقدير سلامة لك يا صاحبَ اليمين، ثم يكون قوله: (مِن أصْحَاب اليمين) - خَبر ابتداء مضمر، تقديره أنت من أصحاب اليمين.
فهنيئاً لكَ يا محمديُّ بما منحكَ اللَّهُ من هذه التحية التي حيَّا بها أنبياءَه
وأصفياءَه في قوله لنوح: (اهبِطْ بسلامٍ منَّا) .
ولإبراهيم: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) .
حياك في الدنيا بقوله: (وسَلامٌ على عباده الذين اصْطَفى) .

(3/109)


وفي الآخرة يأتيك الملكُ بكتابِ منه: أمّا بعد السلام عليك فزرنا، لأنا اشتقنا لكَ، لا رَاعَى الله مَن لا يرَاعي الذَمم.
(فَسبِّحْ باسْمِ رَبِّك العَظيم) :
لما نزلت هذه الآية قال - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوها في ركوعكم.
فلما نزلت: (سَبّح اسْمَ رَبِّكَ الأعلى) قال: اجعلوها في سجودكم.
فلذلك استحبَّ مالك وغيره في السجود سبحان ربي الأعلى، وفي الركوع سبحان ربي العظيم، وأوجبها الظاهرية.
ويحتمل أن يكون المعنى سبَح اللهَ بذكر أسمائه، والاسم هنا جنس الأسماء.
والعظيم صفةٌ للرب، أو يكون الاسم هنا واحداً، والعظيم صفة له، وكأنه أمره أن يسبِّحَ باسمه الأعظم، ويؤيِّد هذا ويشير إليه اتصالُ سورةِ الحديد بها، وفي أولها التسبيح، وجعله من صفات اللهِ وأسمائه.
وقد قال ابن عباس: اسْم الله الأعظم موجودٌ في ست آيات من أول سورة الحديد.
ورُوي أنَّ الدعاءَ بعد قراءتها مستجاب.
(فالذِين آمَنوا منكم وأنْفَقوا لهُمْ أجْرٌ كَبِير) :
نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإنه جهَّز جَيْش العُسْرة يومئذ.
ولفْظ الآيةِ مع ذلك عامّ، وحكمها باق لكل من أنفق في سبيل الله وطاعته، ويدخل فيه النفقة على العِيال بنيَّة تعفُّفهم وإعانتهم، بل هي من أعظم النفقات للحديث: " دِرْهم يُنفقه أحدُكم على أهله خير من ألْف ينفقها في سبيل الله ".
(فطَالَ عليهم الأمَدُ) :
أي مدة الحياة وقيل انتظار القيامة.
وقيل انتظار الفتح.
والأول أظهر.
(فمنهم مهْتَدٍ) :
قد قدمنا أن الضمير راجع لذرية نوح وإبراهيم لتقدم ذكرهها، ولأن منهم اليهود والنصارى وغيرهم.
(فافْسَحُوا) :
هو التوسع دون القيام، لأنه منهيٌّ عنه للحديث: " لا يقم أحدكم من مجلسه ثم يجلس الرجل فيه، ولكن توسَّعوا وتفَسَّحوا ".
واختلف: هل هذا النهي محول على التحريم أو الكراهية،

(3/110)


ْ (فَانْشزوا) ، أي ارتفعوا.
واختلف في هذا النشوز المأمور به، فقيل: إذا دعوا إلى قتال أو صلاة أو فعل طاعة.
وقيل: إذا أمروا بالقيام مِنْ مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه كان يحبُّ الانفرادَ أحياناً، وربما جلس قوم حتى يُؤْمَروا بالقيام، ولهذا أخبر اللَّهُ أنَّ جلوسهم (كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) .
(فَبَايعْهُنَّ) :
الضمير يعود على النساء اللواتي بايَعْنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثاني يوم الفتح على جبل الصَّفَا، وبايعهنَّ بالكلام، ولا تمس يده يدَ
امرأة.
وقيل: إنه غمس يَدَه في الماء ودفعه إلى النساء، وغمس أيديهن فيه.
وروي أنه لما بايعهنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هذه المبايعة فقرَّرَهنَ على ألاَّ يسرِقْنَ، قالت هند بنت عتبة، وهي امرأة أبي سفيان بن حرب: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجلٌ شَحِيح، فهل عليَّ إن أخذتُ من ماله بغير إذنه، قال: خُذِي ما يكفيك ووَلدك بالمعروف، فلما قَرَّرهن على ألا يَزْنين قالت هند: يا رسول الله، أتزني الحرة، فقال عليه السلام: لا تزني الحرة - يعني في غالب الأمر، وذلك أن الزني في قريش إنما كان في الإمَاء.
فلما قال: (ولا يَقْتُلْنَ أولادهن) قالت: رَبّيْناهم صغاراً وقتَلْتَهم أنت ببَدْر كباراً، فتبسم - صلى الله عليه وسلم -، فلما وقفهن على ألاَّ يعصينه في
معروف قالت: ما جلسنا هذا المجلس وفي أنفسنا أنْ نعصيك.
وهذه المبايعة للنساء إنما كانت في ذلك اليوم، ولا يعمل بها اليوم، لإجماع العلماء على أنه ليس على الإمام انْ يشترط عليهن هذا.
فإمَّا أنْ تكون منسوخة ولم يذكر الناسخ، أو يكون ترك هذه الشروط، لأنها قد تقررت وعُلمت من الشريعة فلا حاجة إلى اشتراطها.
(فلما جاءَهُم بالبَينَاتِ) :
يحتمل أن يريد عيسى أو محمد - صلى الله عليهما وسلم.
ويؤيدُ الأولَ اتصاله بما قبله.
ويؤيد الثاني: (وهو يُدْعَى إلى الإسلام) ، لأن الداعي إلى الإسلام هو محمد - صلى الله عليه وسلم.
(فأصبَحُوا ظَاهِرين) :
قيل إنهم ظهروا بالحجة.

(3/111)


وقيل غلبوا الكفار بالقَتْل بعد رَفع عيسى عليه السلام.
وقيل: إنَّ ظهور المؤمنين منهم هو بمحمد - صلى الله عليه وسلم -
(فقالوا أبَشَر يَهْدونَنا) :
استبعدوا أن يرْسل الله بشراً، أو تكبَروا عن اتباع بَشر.
والبشر يقع على الواحد والجماعة.
(فإذَا بلَغْنَ أَجلَهنَّ فأمْسكوهنَّ بمعروف أو فَارِقوهنَّ بمعروف) :
يعني في أداء الصدَاق والإتباع حين الطلاق.
وبلوغ الأجل خطابٌ بآخر العدة.
والإمساك بمعروف هو تحسين العشرة وتَوْفِية النفقة.
فإن قلت: ما الحكمة في تعبيره في آية البقرة بالسراح في مكان الفراق هنا؟
والجواب لاكتناف آية البقرة النهي عن مضارَّة النساء وتحريم أخْذ شيء منهن
ما لم يكن منهن ما يسوغ ذلك من ألاَّ يقما حدودَ الله، فلما اكتنفها ما ذُكر
واتْبع ذلك بالمنع عن عَضْلِهنَّ، وتكرر أثناء ذلك ما يفهم الأمر بمجاملتهن
والإحسان إليهن حالَي الاتصال والانفصال لم يكن لينَاسِبها - قصد من هذا أن يعبّر بلفظ: (أو فارقوهن) ، لأن لفظ الفراق أقرب إلى الإساءة منه إلى
الإحسان، فعوَّل إلى ما يحصل منه المقصود مع تحسين العبارة، وهو لفظ
التسريح.
فقال تعالى: (فأمْسِكوهنَّ بمعروفٍ أوْ سرحوهن بمعروف) ، وليجري مع ما تقدم من قوله تعالى: (الطلاق مرَّتَان فإمساكٌ بمعروف أو تسريح بإحسان) .
وقيل هنا: بإحسان، ليناسب به تعالى المذكور من قوله: (أو تسريح) .
وقد رُوعي في هذه الآي كلِّها مقصد التلطّف، وتحسين الحال في الصحبة والافتراق، ولما لم يكن في سورة الطلاق تعرّض لعَضْل، ولا ذِكْر مضارة - لم يذكر، وورد التعبير بلفظ: (أو فارقوهنَّ) ، على الانفصال، ووقع الاكتفاء فما يراد من المجاملة في الحالين بقوله: معروف، وبانَ افتراق القِصتين في السورتين، وورود كل من العبارتين على ما يجب.
(فأنْفِقوا عليهنَّ حتى يضَعْنَ حَمْلهن) :
اتفق العلماء على وجوب النفقة للمطلقة الحامل، عملاً بهذه الآية، إذَا كان الطلاق رجْعِيًّا.

(3/112)


وإن كان بائناً فاختلفوا في نَفَقتها.
وأمّا المتوفَّى عنها إذا كانت حاملا فلا نفقة لها عند مالك والجمهور، لأنهم رأوا أنَّ هذه الآية إنما هي في المطلقة.
وقال قوم: لها النفقة في التركة.
(فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) :
هو أبو بكر الصديق على قول مَنْ قال إنه مفرد.
وقيل علي بن أبي طالب.
وعلى القول بأنه جمع محذوف النون للإضافة فهو على العموم في كلِّ صالح.
والخطاب لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم -، يعني إن تعاونتما عليه بما يسوؤه من إفراط الغيرة وإفشاء سره ونحو ذلك فإنَّ له مَنْ ينصره.
ومولاه هنا يحتمل أن يكون بمعنى السيد الأعظم فيوقف على (مولاه) ، ويكون (جبريل) مبتدأ و (ظهير) خبره وخَبَر ما عطف عليه.
ويحتمل أن يكون المولى هنا بمعنى الولي الناصر، فيكون (جبريل) معطوفاً، فيوصل مع ما قبله، ويوقَف على (صالح المؤمنين) ، ويكون (الملائكة) مبتدأ
و (ظهير) خبره.
وهذا أرجح وأظهر لوجهين:
أحدهما: أن معنى الناصر أليق بهذا الموضع، فإن ذلك كرامة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتشريفٌ له.
وأما إذا كان بمعنى السيد فذلك يشترك فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع غيره، لأنَّ اللهَ مولى جميع خلقه بهذا المعنى، فليس في ذلك إظهار مزيّة له.
والوجه الثاني: أنه ورد في الحديث الصحيح أنه لما وقع ذلك جاء عمر إلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، ما يشقّ عليك من أمْرِ النساء، فإن كنْتَ طلقتَهنَّ فإن الله معك وملائكته، وجبريل معك، وأبو بكر معك، وأنا معك، فنزلت الآية موافقة لقول عمر، فقوله: معك يقتضي معنى النصرة.
وقد أفرد جماعة ٌ من العلماء تصنيف ما نزل من القرآن على لسان بعض
الصحابة.
والأصل فيه موافقاث عمر، وقوله رضي الله عنه: وافقت ربي، ووافقني في أربع مرات: في الحجاب.وفي أسارى بَدْر. وفي مقام إبراهيم.

(3/113)


وفي قوله: (ولقد خلقنا الإنسانَ من سُلاَلةٍ من طين) .
لما نزلت قلت أنا: (فتبارك الله أحسن الخالقين) ، فنزلت كذلك.
وأخرج عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهودياً لقِي عُمر بن الخطاب فقال:
إن جبريل الذي يَذْكره صاحبُك عدوٌّ لنا.
فقال عمر: مَنْ كان عدوًّا للَه وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل فإنَّ الله عدو للكافرين، فنزلت كذلك.
وأخرج الترمذي، عن ابن عُمر - أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله جعل الحقً على لسان عمر وقَلْبه ".
قال ابن عمر: ما نزل بالناس أمر قط فقالوا وقال إلاَّ نزل القرآنُ على نحو ما قال عمر.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عكرمة، قال: لما أبطأ على الناس الخبر في أحُد خرجن يستخبرن فإذا رجلان مُقْبلان على بعير، فقالت امرأة: ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالا: حَيٌّ.
قالت: فلا أبالي، يتخذ الله من عباده الشهداء، فنزل قوله تعالى: (ويَتَّخذَ منكم شهَداء) .
(فلَمَّا رَأوه زُلْفةً) :
أي قريباً، وضمير الفاعل للكفار، والمفعول للعذاب.
(فطافَ عَلَيْهَا طائِف) :
الطائف: الأمر الذي يأتي بالليل.
(فتَنَادَوْا مُصْبِحين) :
أي نادَى بعضهم بعضاً حين أصبحوا، وقال بعضهم لبعض: اغدوا على حَرْثكم، فلما لم يعرفوها ورأوا ما أصابها قالوا: (بل نحن محرومون) ، أي حَرمنا الله خيرها، فقال أوسطهم، وهو أفضلهم: (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ) .
وهو عبارة عن طاعة الله وتعظيمه.
وقيل: أراد الاستثناء في اليمين، كقوله: إن شاء الله.
والأول أظهر، لقولهم بعد ذلك: (سبحان ربِّنا إنَّا كُنَّا ظالمين) (فأقْبل بعضُهم على بعض يتَلاَوَمُون) : أي يلوم بعضهم بعضاً على ما كانوا عزموا عليه من مَنعْ المساكين، أو على غَفْلتهم عن التسبيح.

(3/114)


فإن قلت: ما معنى عطفه هنا بالفاء، وفي الثانية من سورة الصافات.
بخلاف الأولى؟
والجواب أن هذه الآية من كلام أهل صنعاء لما رأوا جتتهم محرقة وندموا
على ما كان منهم وجعلوا يقولون: (سُبْحَانَ رَبِّنَا) ، (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ) .
وأما عطف أولى الصافات بالواو فلأنه عطف جملة على جملة فحسب، وعطف الآية بعدها بالفاء، لأنه عطف جملة على جملة بينهما مناسبة والتئام، لأنه حكى أحوالَ أهْل الجنة ومذاكرتهم فيها، وما جرَى بينهم في الدنيا وبيْن أصدقائهم، وهو قوله: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) .
(فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) ، أى ثمانية أملاك، والمراد بالفوقية
أنهم - يزادون يوم القيامة أربعة، لأنهم اليوم أربعة رؤوسهم عند العرش، وأرجلهم تحت الأرض السابعة.
وقال ابن عباس: هي ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم أحدٌ عدتهم.
والأول أصح لوروده في الحديث.
(فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ) :
أي يتمنى أنه لا يُعْطَى كتابه.
وقال ابن عطية: يتمنى أن يَكون معدوماً لا يَجْرِى عليه شيء.
والأول أظهر.
(فَصِيلتِه التي تُؤْوِيه) ، أي تَضُمُّه، فيحتمل أن يريد تضمّه في الانتماء إليها، أو في نُصرته وحِفْظه من المضرات.
(فَأُدْخِلُوا نَارًا) :
يعني جهنم، وعَبَّر عن ذلك بالفعل الماضي، لأنَّ الأمر محقق وقيل: أراد عَرْضَهم على النار، وعَبَّر عنه بالإدخال.
(فاجراً) : مائلاً عن الحق.
وأصل الفجور الميل.
(فزَادُوهم رَهَقاً) :
ضمير الفاعل للجن، وضمير المفعول للإنس.

(3/115)


والمعنى أنَّ الجن زادوا الإنس ضلالأ أو إثما لما عاذوا بهم، أو زَادُوهم
تخويفاً لما رأوا ضعْفَ عقولهم.
وقيل ضمير الفاعل للإنس، وضمير المفعول للجن، والمعنى أن الإنسَ زَادوا الجنّ تكبُّراً لَمّا عاذوا بهم، حتى كأن الجني يقول أَنا سيد الجن والإنس.
(فَمنْ يَسْتَمِع الآنَ) ، أي وقت استراقه.
(فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) .
قد قدمنا أن الرصد اسم جمع للواحد كالحرس للحراس، ومعنى الآية: أنَّ الله يسلك من بين يدي الرسول ومِنْ خلفه ملائكة يكونون رَصدا يحفظونه من الشياطين.
قال بعضهم، ما بعث اللَّهُ رسولا إلا ومعه ملائكةٌ يحرسونه حتى يبلِّغَ رسالةَ
ربه.
وإذا كان الله يحفظ غَيْرَ الرسل فما بالك بهم.
وتأمل حكاية َ الشيطان الذي أتى لوسوسة القائم الذي كان في المسجد يصلّي فلم يقدر على الدخول، فقال أخوه من الشياطين: ما بالُك لا تدخل إليه، فقال: نفس النائم منعني من توسوس القائم، وكان النائم إبراهيم بن أدهم.
(فقُتِل كيف قَدَّر) :
دعاءٌ على الوليد بن المغيرة، وذَمٌّ لحاله، وكرره تأكيداً.
قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون مقتضاه بزَعْمِه الأول
حين أعجبه القرآن، فيكون قوله: (قُتِل) لا يُرَادُ به الدعاء عليه، وإنما هو
كقولهم: قاتل اللهُ فلاناً ما أشجعه! يريدون التعجبَ من حاله واستعظامَ وصفه.
وقال الزمخشري: يحتمل أن يكون ثناء عليه على طريقة الاستهزاء، أو حكاية لقول قريش تهكماً به.
فإنْ قُلْتَ: ما معنى (ثُم) الداخلة في تكرير الدعاء؟
قلت: الدلالة على أنَّ المرة الثانية أبلغُ من الأولى، ونحوه قوله:
ألاَ يا اسلمي ثم اسْلَمي. . .
فإن قلت: فما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها؟

(3/116)


قلت: الدلالة على أنه قد تأتي في التأمُّل والتمهل، وكان بين الأفعال المتناسقة تراخ وتباعد.
فإن قلت: فلم عطف فقال بالفاء بعد عطف ما قبله بثم؟
قلت: لأن الكلمة لما خطرت بباله بعد التطلب لم يلبث أن نطق بها من غير
لبْث.
فإن قلت: فلم لم يوسط حرف العطف بين الجملتين؟
قلت: لأن الأخرى جرت من الأولى مَجْرى التوكيد من المؤكد.
(فمَنْ شاء ذَكَره) :
فاعل شاء ضمير يعود على مَنْ.
وفي ذلك حَفْز وترغيب.
وقيل الفاعل هو الله.
ثم قَيَّد فعلَ العبد بمشيئة الله.
(فاقِرَةٌ) ، أي مصيبة قاصمة الظَّهْر، تقول: فقرتُ
الرجل، إذا كسرت فقَارَه، كما تقول: رأسْتُه، إذا ضرَبْت رأسه.
(فأوْلَى) :
قد قدمنا في مواضع أنه كرّرَ ذلك تأكيداً، وأن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لبَّبَ أبا جهل، وقال: إن اللهَ يقول لكَ: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) .
فنزل القرآن بموافقة ذلك.
(فالعاصِفَاتِ عَصْفاً) :
هي الملائكة، لأنهم يعصفون كما تعصفُ الرياح في سرعة مُضِيهم إلى امتثال أوأمرِ اللَهِ.
وقيل: الرياح، لقوله: ريح عاصف.
(فالفَارِقَاتِ فَرْقأ) :
قيل الملائكة لأنهم يفرقون بين الحق والباطل.
وقيل الرياح، لأنها تفرق السحاب، ومنه: (ويجعله كِسَفاً) .
(فالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً) :
هم الملائكة، لأنهم يلقون الذكر للأنبياء عليهم السلام.
والأظهر في المرسلات والعاصفات أنها الرياح، لأن وَصْف
الرياح بالعصف حقيقة.
والأظهر في الناشرات والفارقات أنها الملائكة،

(3/117)


لأنَّ الوصف في الفارقات أليق بهم من الرياح، ولأن الْمُلْقيات المذكورة بعدها هي الملائكة، ولم يقل أحَدٌ إنها الرياح، ولذلك عطف المتجانسين بالفاء، فقال، والمرسلات، فالعاصفات، ثم عطف على ما ليس مِنْ جنسها بالواو، فقال: والناشرات، ثم عطف عليه المتجانسين بالفاء.
وقيل في الْمُرْسلاَت والْمُلْقِيات إنهم الأنبياء عليهم السلام.
فإن قلت: هل يصحُّ قولُ القائل إن الْمرْسلات الرياح لمعنى قوله: عُرْفاً؟
والجواب أنَّ معنى عُرْفاً على كلّ قَوْل -: فَضْلا وإنعاماً، وانتصابُه على أنه
مفعول من أجله، وقيل معناه متتابعة، وهو مصدرٌ في موضع الحال.
وأما عَصْفاً ونَشْراً وفَرْقاً فمصادِر.
وأما ذِكْراً فمفعول به.
(فإنْ كانَ لكمْ كَيْدٌ فَكِيدون) :
تعجيز وتعريض بكَيْدِهم بالدنيا، وتقْريع عليهم، كَقول نوح: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) .
وكقول موسى: (فأجْمِعوا كَيْدَكم ثم ائْتوا صَفًّا) .
(فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا) :
قيل إنها الملائكة، سمّاهم اللَه نازعات، لأنهم ينزعون نفوسَ بني آدم من أجسادها، وناشطات، لأنهم ينشطونها، أي يخرجونها، فهو من قولك: نشطت الدّلْوَ من البئر، إذا أخرجتَها.
وسابحات، لأنهم يسبحون في سيرهم، أي يسرعون فيسبقون فيدبّرون
أمورَ العباد والرياح والمطر وغير ذلك حسبما يأمُرهم الله.
وقيل: إنها النجوم، وسماها نازعات، لأنها تنزع من المشرق إلى المغرب.
وناشطات لأنها تنشط من بُرج إلى برج، وسابحات لأنها تسبَح في الفلك، ومنه: (كلّ في فَلَكٍ يَسْبَحون) ، فتسْبق في جَرْيها، فتدبِّر أمْراً من علم الحساب.
(فالْمُدَبرَاتِ أمرًا) :
قال ابن عطية: لا أعلم خلافًا أنها ْ الملائكة، وحُكي فيها القولانِ، كما تقدم.

(3/118)


فإن قلت: ما معنى (غَرْقاً) على القولين، وأين جواب القسم؟
فالجواب إنْ قلنا إن النازعات الملائكةُ ففي معنى غَرْقاً وجهان:
أحدهما أنه من الغرق، أي تُغْرِق الكفَّار في جهنم.
والآخر أنه من الإغراق بمعنى المبالغة فيه، أي تُبالغ في نَزْعِ النفوس حتى تُخْرِجها من أقاصي الأجساد.
وإن قلنا إن النازعات النجوم فهو من الإغراق بمعنى المبالغة، أي تبالغ في نُزوعها، فتقطع الفَلَكَ كله.
وإن قلنا إنها النفوس فهو أيضاً من الإغراق، أي تُغْرِق في الخروج
من الجسد.
وإعراب (غَرْقا) المصدر في موضع الحال.
ونَشْطاً وَسبْقاً وسبْحاً مصادر، و (أمرًا) مفعول به.
وجواب القسم محذوف، وهو بَعْثُ الموتى بدلالة ما بعده عليه من ذِكْر
القيامة.
وقيل الجواب: (يوم تَرْجُفُ الراجفةُ. تَتْبَعُها الرادِفَةُ) .
على تقدير حَذْف لام التوكيد.
وقيل: هو: (إن في ذلك لعبْرَةً لمَنْ يَخْشَى) ، وهذا بعيد لبُعْدِه من القسم، ولأنه إشارة إلى قصةِ فرعون لا لمعنى القسم.
(فإنَّما هِيَ زَجْرَة وَاحِدَة) :
هذا من كلام الله ردًّا على الذين أنكروا البَعْث، كأنه يقول: لا تظنّوا أنه صعب على الله، َ بل هو عليه يسير.
(فإذا هُمْ بالساهرة) .
أي وجه الأرض، والباء ظرفية، وإذا فجائية، والمعنى إذا نفخ في الصُّور حصلوا بالأرض أسرع شيء.
(فحَشر فنَادَى. فقال أنا رَتكُم الأعْلَى) .
يعني أن فرعون جمعَ جنُودَه، ونادى قومه، وقال لهم ما قال.
ويحتمل أنه أمر مَن يُنَاديهم.
والأول أظهر، لأنه روي أنه قام فيهم خطيباً.
(فَسَوَّاها) :
الضمير يعود على السماء، أي أتقَن خلقتها.
وقيل: جعلها مستويةً، ليس فيها مرتفع ولا منخفض.

(3/119)


(فإذا جاءت الطامّة الكبرَى) .، هذا أحد أسماء يوم القيامة، وقد سماه الله في كتابه بثلاثين اسما لعظمه:
يوم الآزِفَة.
ويوم التلاق.
ويوم التناد.
ويوم التغَابن.
ويوم الثبور.
ويوم الْجَمع.
ويوم الحق.
ويوم الخصومة.
ويوم الدين.
ويوم الراجفة.
ويوم الزلزلة.
ويوم الشفاعة.
ويوم الصاخَّة.
ويوم عظيم.
ويوم عَبوس.
ويوم العُسْر.
ويوم الفارقة.
ويوم القَمْطَرِير.
ويوم الفَصْل.
ويوم القيامة.
ويوم النّفخ.
ويوم الوَعيد.
واليوم الموعود.
ويوم القارعة.
ويوم الواقِعة.
واليوم المشهود.
ويوم الحاقة.
ويوم النُّشور.
يخرجون من الأجداث كأنهم جَراد منْتشر، يكشف للمرء ما أخفاه، ويتذكر حينئذ غَفْلته وهواه، فإنا للَه وإنا إليه راجعون على غفلتنا على ما يراد بنا! يقول الله تعالى في بعض كتبه:
" عَبْدي أعطيتُك منية المرضى، وأهل السجون، وأهل القبور، وأهل
النشور، وأهل الجِنَان، وأهل النيران، فما لك لا تغتنم ساعتَكَ التي أنْتَ فيها، ألم تعلم أنَّ مَنْ أحبَّ شيئاً طلبه، ومَنْ طلب شيئاً وجده، ومَن خاف من شيء هرب منه، ومَنْ أراد سفرًا اهتمّ له، ومنْ أحبَّ اللحوق بقوم اقتدى بفعالهم وسلك سبيلهم، ومَنْ فضل قوماً بالعلم يحق أن يفضلهم بالعمل، فليكن الغالب مِن همومك هَمَّ المَعَاد والتزوّد له، والغالب مِنْ كلامك ذكر الموت والاستعداد له، فهو أشدُّ شيء نزل بك قط، وأهونُ شيء فيما بعده، لأن بعده سبعين هَوْلاً، كلّ هَوْل أشدّ من الموت، فلا يستتبعك الشيطان في الدنيا، والمنافقون في الآخرة.
فإن قلت: لِمَ خُصَّت النازعات باسم الطامَّة، وعبس باسم الصاخَّة، مع أنهما شيء واحد؟
فالجواب أن اسمَ الطامّة أرهب وأنْبَأ بأهوال القيامة، لأنها من قولهم: طَمَّ
السيل، إذا علا وغلب.
وأما الصاخَّة فالصيحة الشديدة، من قولهم صخَّ بأذنيْه
مثل أصاخ، فاستُعير على أسماء القيامة مجازاً، لأن الناس يصيخون لها، فلما كانت الطامّة أبلغ في الإشارة إلى أهوالها خصّ بها أبلغُ السورتين في التخويف والإنذار.

(3/120)


وعلى ذلك بنيت سورة " النازعات "، ألا ترى قوله: (يوم تَرْجف الراجفة.
تتبعها الرادفة) .
ووصف الطامة الكبرى، وما أتْبع به بَعْدُ.
وابتداء السورة وختامها قَبْلها تخويف وترهيب، فناسبها أشدّ العبارتين موقعاً، وأرهبها.
وأما سورة عبس فلم تبْن على ذلك الغرض، وإنما ئنيت على قصة عبد اللَه ابن أم مكتوم الأعمى.
وذلك مشهور، ثم ورد قوله: (فإذا جاءت الصاخّة) عَقِب التذكير
بقوله: (إنها تَذْكِرَة) ، والتذكير للاعتبار بقوله: (فلْيَنْظُر الإنسان إلى طعامه) ، إلى قوله: (مَتَاعاً لكم ولأنعامكم) .
ثم أتبع بعد ذكر الصاخة بقوله: (وجوه يَوْمَئِذ مسْفِرَةٌ. ضاحكةٌ مستبْشرة) .
فسورةُ النازعات على الجملة أشدّ في التخويف والترهيب، فناسبَها أبلغ العبارتين من أسماء القيامة.
وقيل: إنما خُصَّت النازعات بالطامّة، لأن الطمَّ قبل الصخ، وهو الصوت
الشديد والفَزع قَبْل الصوت، فكانت هي السابقة.
وخصَّت سورة " عبس " بالصاخّة، لأنها بعده وهي اللاحقة.
(فليَنْظر الإنسانُ إلى طَعَامه) :
أمر بالاعتبار في الطعام، كيف خلقه اللَّهُ بقدرته، ويَسَّرَه برحمته، فوجب على العبد طاعته وشكره.
وتقبح معصيته والكفر به.
وقيل: فلْيَنْظر الإنسان إلى طعامه كيف يَصير، فيَزْهَد في دنْيا هذه حالها، ولا يرغب في لذّاتها، كما قال - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي: ما طعامك.
قال: اللحم واللبن.
قال: فإلى ماذا يَصِير، ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - لا يشبع من خُبز الشعير زُهْداً فيها.
قال يحيى بن سلام: بعد أن ذكر اللَّهُ زواجرَ الكفَّار استأنف
ضَرْبَ المثل لأهل الإيمان، ليزدادوا اعتباراً بقوله: (فلينظر الإنسانُ إلى طعامه) الذي يحيا به ويأكله، من أي شيء كان "، ثم صار بعد حفظه ابن آدم، وهو الجسد.
قال الحسن: ملك يميل رقبة ابن آدم حين يجلس.
وقيل: فلينظر الإنسان إلى طعامه ويفكّر فيما هيّأه من سماءٍ وأرض، وماء وحَرّ وبرد ونحْوها، وآلة عديدة، وأسنان، منها كاسرة وطاحنة، بريق حُلو لذَوْقِه وَصَوْغه وقوة

(3/121)


هاضمة، ودافعة، وإذا استوى طعامُه بحرارة كبده ونحوه أعطى اللهُ تعالى لكل
جُزْء وشعرة نصيبا.
(فأقْبَره) .
أي جعله ذَا قَبْر، يقال: قبرت الميت إذا دفَنْته، وأقبرته إذا أمرت أن يُدْفَن.
(فلْيَتنافَسِ المتَنَافِسون) :
التنافس في الشيء هو الرغبةُ فيه، والمغالاة في طلبه، والتزاحمُ عليه، وهذا كقوله: (لمِثْلِ هذَا فلْيَعْمَل العامِلُون) ، فسبحان من جذب عباده إليه تارةً بذكر نعيمه، وتارة بالتخويف من عذابه، وتارةً بإحسانه إليهم لعلهم يرجعون إليه، لم يَكفه ما أعطاهم من رياسة الدنيا، وتسخير المخلوقات لهم حتى وعدهم بالملك العظيم، والفَوْز المقيم، والرضوان الجسيم، ورؤيتُه تعالى أعظم من هذا كله.
(فالْيَوْمَ الذين آمَنُوا من الكفَّار يَضْحَكُون) :
لما كان الكفار في الدنيا يضحكون على المؤمنين قلب الله الحقائق، فيضحك المؤمنون من الكفار حينئذ ويقولون لهم: (هذا يومكم الذي كنتم توعدون) .
(اصْلَوْها اليوم بما كنتم تكفرون) .
(فلا أقْسِم بالشَّفَق) .
هو الحمرة التي تَبقى بعد غروب الشمس.
وقال أبو حنيفة: هو البياض.
وقيل: هو النهار كله.
والأول هو المعروف عند الفقهاء وأهل اللغة.
(فمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُون) :
أيُّ شيء يمنع الكفار من الإيمان بعد رؤيتهم هذه العِبَر.
(فبَشرْهُم بعذَابٍ أليم) :
وضع البشارة موضع النذارة تهكماً بهم.
(فَتَنُوا المؤمنينَ والمؤمناتِ) :
إن كانت هذه الآية في أصحاب الأخدود فالفتنةُ هنا بمعنى الإحراق، وإن كانت في كفَّار قريش

(3/122)


فالفتْنة بمعنى الفتنة والتعذيب.
وهذا أظهر، لقوله: (ثم لم يتوبوا) ، لأن أصحاب الأخدود لم يتوبوا، بل ماتوا على كفرهم.
وأما قريش فمنهم مَنْ أسلم وتاب.
وفي الآية دليلٌ على أنَ الكافر إذا أسلم يُغفر له ما فعل في
حال كفْره، للحديث: الإسلام يَجبُّ ما قَبله.
واختلف هل يكتب له ما فعل من الخير؟
الصحيح أنه يكتب له، للحديث:
" أسلمت على ما أسْلفت من الخير:.
وقد ألَّف بعضُهم فيه تأليفاً مفيداً.
(فلْيَنْظر الإنسان ممَّ خلق) :
حذف ألف ما لأنها استفهامية، وجوابها: (خُلِقَ من ماءٍ دافق) ، واستَفْهَم هنا عن ابتداءِ الخِلْقة ليعلم الإنسان مَنْ هو، وسن أي شيء خلق، كي لا يتكبر، وكيف يتكبر مَنْ خلق من ماء نجس غمس في دم نجس، ولذلك قال بعضهم: ما يصنَع بالكبْر مَنْ خلق من نطفة مَذِرة وآخره جِيفة قَذِرة، وهو فما بينها حامل عَذِرَة!
(فما له من قوَّةٍ ولا ناصر) :
قد قدمنا أنَّ الضمير للإنسان، وفيها التنبيه له على الرجوع إلى خالقه وناصره، ولا يلتفت إلى غيره مِن والد وزوج وأخٍ وولد، إذ كلّهم ينقطعون عنه، ولا يجدُ إلا مولاه الذي ينصره حيًّا وميتاً، يقول تعالى في بعض كتبه: " عبدي أحباؤك أربعة: حبيب يصلح لأولاك ولا يصلح لأخْراك، وهما الأبوان يخدمانك ويربيانك في صغرك، فإذا كبرا يكونان ضعيفين لا يقدران على أن يربّياك.
وحبيب يصلح في أخراك ولا يصلح لأولاك، وهم أولادك يخدمونك في آخر عمركَ.
وحبيب يصلح لظاهرك ولا يصلح لباطنك، وهم الأخلاء والأصدقاء.
وحبيب يصلح لباطنك ولا يصلح لظاهرك، وهنَّ أزواجك، فإذا أردتَ أن تحبَّ أحداً فإني أحبك أوَّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وأنصرك، في كل الأحوال، أتترك من يحبك في كل الأحوال وتحبُّ من لا يحبك على كلِّ حال.
(فَسَوَّى) :
حذف مفعول خَلَق فسوَّى، لقصد الإجمال الذي يفيد العموم.
والمراد خلق كل شيء فسوَّاه، أي أتقن خِلْقَته.

(3/123)


(فهَدَى) :
حذف المفعول أيضاً لمفيد العموم، فإن كان من التقدير فالمعنى قَدَّر لكل حيوان ما يصْلحه فهداة إليه، وعرَّفه وجْهَ الانتفاع به.
وقيل: هدَى ذكورَ الحيوان إلى وطْءِ الإناث لبقاء النسل.
وقيل: هو المولود حين وَضْعِه إلى مَص الثدي.
وقيل: هدى الناس للخير والشر والبهائم للمراتع.
وهذه الأقوال أمثلة.
والأول أعم وأرجح، فإن هدايةَ الإنسان وسائرِ الحيوانات
إلى مصالحها بابٌ واسع فيه عجائب وغرائب.
وقال الفراء: المعنى هدى وأضل، واكتفى بالواحدة، لدلالتها على الأخرى.
وهذا بعيد.
(فذَكًرْ إنما أنْتَ مذَكَر) ، أي ذَكَرْ كلَّ أحد، (إلا مَنْ تولَّى) ، يئست منه، فهو على هذا متصل.
وقيل: (إلاَّ مَنْ تولى) استثناء من قوله: (لست عليهم بمصَيْطر) .
أي لا تتسلَّط إلا على مَنْ تولى وكفر، وهو على هذا متصل لا نَسْخَ فيه، إذ لا موَادعة فيه، وهذا بعيد، لأن السورة مكية والموادعة بمكة ثابتة.
(فَصبَّ عليهم ربُّكَ سَوْطَ عَذَاب) :
قد قدمنا أنه استعار للسوط العذاب، لأنه يقتضي من التكرار ما لا يقتضيه السيف وغيره، قاله ابن عطية.
قال الزمخشري: ذِكْر السوط إشارة إلى عذاب الدنيا، إذ هو أهون من
عداب الآخرة، كما أن السوط أهونُ من القتل.
(فأمّا الإنسان إذَا ما ابْتَلاَه رَبُّه) :
قد قدمنا أن معنى الابتلاء الاختبار، واختباره تعالى لعَبْدِه لتقومَ الحجةُ عليه بما يبدو منه، وقد كان الله عالماً بذلك قبل كونه.
والإنسانُ هنا جنس.
وقيل نزلت في عتْبة بن ربيعة، وهي مع ذلك على العموم فيمَنْ كان على هذه الصفة، وذكر اللهُ في هذه الآية ابتلاءَه للإنسان بالخير والشر اختباراً وفتْنَة.
(فقدَر عَلَيْهِ رِزْقَه) ، أي ضَيَّقَه.
وقرئ بتشديد الدال وتخفيفها بمعنى واحد.
وفي التشديد مبالغة.
وقيل معنى التشديد جعله على قدر معلوم.

(3/124)


(فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ) :
مَن قرأ بكسر الذال من (يعذب) والثاء من (يوثق) فالضمير في عذابه ووثاقه لله تعالى.
ومَنْ قرأ بالفتح فالضمير للإنسان، أي لا يعذب أحد مثل عذابه ولا يوئق أحد مثل وثاقه، وهذه قراءة الكسائي.
وروي أَن أبا عمرو رجع إليها، وهي قراءة حسنةٌ صحّتْ
عنه - صلى الله عليه وسلم.
(فادْخلي في عِبَادِي) ، أي فادخلي في عبادي الصالحين.
وقرئ: فادخلي في عَبْدي بالتوحيد، ومعناه ادخلي في جسده، وهو خطاب
للنفس.
ونزلت هذه الآية في حمزة.
وقيل في خبيب بن عدي الذي صلبه الكفّار بمكة، ولَفْظُها يَعمّ كلَّ نفس مطمئنة، لأن النفوس ثلاثة: لوّامة، وأمًارة، ومطمئنة، والمدوح منها الأخيرة.
(فلا اقْتَحَم العَقَبة) :
قد قدمنا أنَّ الاقتحام الدخول بشدة ومشقة.
والعقبة: عبارة عن الأعمال الصالحة المذكورة بَعْد، وجعلها عقبة استعارةً
من عقَبة الجبَل، لأنها تصد ويشقّ صعودها على النفوس.
وقيل هي جبل في جهنم له عقَبة لا يجاوزُها إلا من عمل هذه الأعمال و"لا" تحضيض بمعنى هلاّ.
وقيل هي دعاء.
وقيل نافية.
واعترض على هذا القول بأن لا النافية إذا دخلت على الفعل الماضي لزم تكرارها.
وأجاب الزمخشري بأنها مكررة في المعنى، والتقدير فلا اقتحم العقبة، فلا فَك رقبة، ولا أطعم مسكيناً.
(فألْهَمَها فجورَها وتَقْوَاها) .
أي عرفها طرق الفجور والتقوى، وجعل لها قوةً يصح.
معه! اكتساب أحد - الأمرين.
ويحتمل أن تكون الواو بمعنى أو، كقوله: (إنا هَدَيناه السبيلَ إمَّا شاكِراً وإمّا كفورا) .
(فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ) :
منصوب بفعل مضمر تقديره احفظوا ناقةَ الله، أوْ احْذَروا ناقةَ الله.

(3/125)


(فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) .
أي سوى القبيلة لم يُفْلت أحداً منهم.
وقال الزمخشري: الضمير للدمدمة، أي سوَّاها بينهم.
فانظر كيف هوَّل عليهم بهذه اللفظة بسبب ذَنْبهم، وهو التكذيب، وعَقْر
الناقة، ليتعظ غيرهم.
(وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15) :
ضمير الفاعل لله تعالى.
والضمير في عقباها للدَّمْدَمة والتسوية، وهو الهلاك، أي لا يخاف عاقبةَ إهلاكهم ولا درك عليه في ذلك كما يخاف الملوك من عاقبة أعمالهم، وفي ذلك احتقارٌ لهم.
قيل: وضمير الفاعل لصالح، وهو بعيد.
وقرئ فلا يخاف بالفاء وبالواو.
وقيل في القراءة بالواو إن الفاعل أشْقاها.
والجملة في موضع الحال، أي انبعث ولم يخَفْ عقبى فعلته، وهذا بعيد.
(فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى) :
مخاطبة من الله أو من النبي - صلى الله عليه وسلم - على تقدير: قل يا محمد.
(فَحَدِّثْ) :
أمر من الله لرسوله أنْ يحدّث بنعمه، وهي الْقرآن، والرسالة، وجميع النعم التي أعطاه من دِينية ودنيوية، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -:
" التحدث بنعم الله شكرٌ لها وكتمانُها كفرها ".
ولهذا كان بعض السلف يقول: صليتُ البارحة كذا، وصمْتُ من الشهر كذا، وهذا إنما يجوز إذا ذكره على وَجْهِ الشكر، أو ليُقْتدى به، لا على وَجْهِ الفَخْر والتكبّر.
وانظر كيف ذكر الله في هذه السورة ثلاث نعم، ثم ذكر في مقابلتها ثلاث
وصايا، فقابل قوله: (ألم يجِدْكَ يتما) بقوله: (فأما اليَتيمَ فلا تَقْهَر) .
وقوله: (ووجدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى) بقوله: (وأما السائلَ فلا تنْهَرْ) على قول مَنْ قال: إنه السائل عن العلم.
وقابله بقوله: (وأمَّا بنعمة رَبِّكَ فحدِّثْ) - عَلى القول الآخر.
(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) :
هذا وعْد بالسسْر بعد العسر،

(3/126)


وتسليةٌ لنبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين لما كانوا يلْقَوْن من الأذَى من الكفار.
وإنما ذكره بلفظ مع التي تقتضي المقارنة ليدلَّ على قُرْب اليسر من العسر.
فإن قيل: ما وَجْه ارتباط هذا مع ما قبله؟
والجواب: لما عدّدَ عليه النعم تسليةً له وتأنيساً قَوِي رجاؤه بالنصر، كأنه
يقول له: إن الذي أنعم عليك بهذه النعم سينصرك ويظْهرك ويبدّل لك هذا
العسر يسراً قريباً، ولذلك كرَّر: (إنّ مع العسر يسراً) ، مبالغة.
قال - صلى الله عليه وسلم -: " لن يغلب عُسر يُسرين ".
وقد روى ذلك عمر، وابن مسعود، وتأويله أن العسر المذكور في هذه السورة واحد، لأن الألف واللام للعهد، كقولك: جاءني رجل فأكرمْتُ الرجل.
واليسر اثنان لتنكيره.
وقيل: إن اليسر الأول في الدنيا والثاني في الآخرة، وقد أكثر الناسُ في هذه الآية وألفُوا فيها تواليف منها كتاب: " الفَرَج بعد الشدة "، وجنة الرضا، وغيرهما مما يطول ذكر شيء منها.
وبالجملة فمَنْ تَذَكًر سَبْقَ نعمته عليه، وكثْرَة نعمه إليه، وعظيم ثوابه.
وصدْقَ وعْده، وسعةَ رحمته وسَبْقَها غَضبه - آثر له قوة رجائه فيه، وهان عليه ما يَلْقَاه في ضيقه، قال تعالى في بعض كتبه: يا مطرود، لا تبرح، ويا مَرْدُود لا تَيأْس، ويا مهجور لا تَقْلق، قد فتحنا لك البابَ وجعلناك من الأحباب، وهب أني طردْتُك عن بابي، وألزمْتك حِجابي فإلى بابِ مَنْ تلتجئ، وعلى أي جهة تقف، فكنْ معي كالصبي مع أمّه، كلما زجَرَتْه رجع إليها، وكلما طردته تمرًغ بين يديها، فلا يزال معها حتى تقبله، فانْقُل قدمَ الإقدام لبابي، واكشف رأْسَ الاستغفار ونادِ بلسان الحقْر والاضطرار: ربي مَسني الضرّ وأنْتَ أرْحَمُ الراحمين - يقع لك جواب: (فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) .
(فإذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) :
هو من النصَب بمعنى التَّعب.
والمعنى إذا فرغت من أمْرٍ فاجتهد في أمرٍ، ثم اختلف في تعيين الأمرين، فقيل:

(3/127)


إذا فرغت من الفرائض فانْصَبْ في النوافل.
وقيل: إذا فرغت من الصلاة فانْصَبْ في الدعاء.
وقيل: إذا فرغت من شغْل دنياك فانصب في عبادة ربك.
(فارْغَبْ) :
إنما قدم المجرور في (إلى ربك) ليدلَّ على الحصر، أي لاَ ترغب إلا إلى ربك وحْدَه.
وفي هذا إشارة إلى عدم الركون للخلق، فإن الركونَ إليهم وحشة والالتجاء إليهم إعراض عن الحق.
وقد قدمنا من هذا المعنى كثيراً.
(فلهم أجْر غير مَمْنون) :
أي غير منقوص، يقال: مننت الحَبْلَ إذا قطعته.
وقال مجاهد: غير محصور، لأن كلّ مَحْسوب محصور، فهو
معدّ لأن يمنَّ به.
ويظهر في الآية أنه وصفه بعدم المنِّ والأذَى من حيث هو من جهة الله
تعالى، فهو شريف لا منَّ فيه، وأعطياتُ البشر هي التي يدخلها المنُّ.
قال السدي: نزلت هذه الآية في المَرْضَى والزمناء إذا عجزوا عن إكمال الطاعات كتب لهم من الأجر ما كانوا يعملون.
فإن قلت: أيّ حكمة في الإخبار بهذا، ولم زيدت هنا الفاء، وحذفت من
آية الانشقاق، وفصِّلَتْ؟
والجواب إنما زيدت لمراعاة الفاء التي بعدها، وفائدة تكرير هذه الآية
والإخبار بها للتأسي والتخلّق بأفعال الحق في عدم مَنِّه، لأنَّ المنَّ يكدِّرُ الإحسانَ ويذهب بلذّته، ولذلك قال تعالى: (لا تبْطِلوا صدقَاتِكم بالمَنِّ والأذَى) .
قال المفسرون: المنُّ أن يذكره، والأذى أن يظهره.
وقال - صلى الله عليه وسلم -:
" لا تأكل طعام المنَّان، فإنه داء ". . . إلى غير ذلك من الأحاديث مما يطول
ذكرها.
(فمن يعمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه) :
قد قدمنا في حرف الميم ما في هذه الآية وتسميتها بالجامعة الفاذة، ولما نزلت هذه السورة بَكى أبو بكرٍ

(3/128)


وقال: يا رسول الله، أو أُسأل عن مثاقيل الذّرّ من أعمالي، قال له - عز وجل -: يا أبا بكر، ما رأيته في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذَرِّ الشر ويَدَّخِر لك الله مثاقيلَ ذرِّ الخير. . . إلى آخره.
فانظر بكاء المشهود له بالجنة على نفسه، وخَوْفه من ذنوبه مع أن الله بشَّره
بشفاعته في عدد ربيعة ومُضَر من هذه الأمة، وأنت تريد اللحوقَ بهم مع عدم خوفك وبكاك، وكثرة أوزارك محيطة بك، ما يكون جوابك إذا قيل لك: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) ، فما أعظمها من كربة إذا حملْتَ حُزمة سيئاتك، وصرت تقرؤها بين يدي ربك، وما مثلنا إلا كحاطبٍ يجمع كلً ما يَلْقَى، فإذا جاء يرفعها لم يقدر عليها، وقد أخفى الله غضبه في معاصيه، فلا تحقرن منها شيئاً، فإنها عند الله بمكانٍ، وكلّ ما صغر في عينك عظيم عند الله.
قال الفضيل بن عياض: أتاني رجل، فقال: عِظْني، فقرأتُ عليه: (إذا
زُلْزِلَت) ، فغاب مدةً ثم أتاني، فقلت له: أين غَيْبَتُك، قال:
كنْتُ مشغولاً بتحقيق الحساب الذي علَّمْتَني، فقلت له: وما هو، قال: (فمَنْ يعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خيرًا يره) .
ورئي بعض المشايخ وقد بلغ جدَاراً، وكان في زمن الشتاء، وهو يتصببُ عرقاً فسئل عن ذلك، فقال: أخذتُ من هذا الحائط قطعةَ طين غسل يده بها ضيفٌ، ولم أستحل من صاحبه حتى مات، فأنا كلما مررتُ به لم أمًلك نفسي.
هذا حالُهم، فأنَّى لنا اللحوق بهم! مَلأْنَا بطونَنا من الحرام، وتراكمت على
قلوبنا سحائبُ الآثام، وغلب علينا سكر المنام، وادعيْنَا الدعاو ى الباطلة
والآمال الكاذبة.
فإن قلت: ما سِرُّ تقديم الخير في هذه الآية على الشر؟
والجواب لما كان المطلوب في العمل تقديمُ الخير على الشر جاء في اللفظِ على
الوَجْهِ المطلوب.
وأيضا لما كان فاعلُ الخير مقدَّماً في الرتبة على فاعلِ الشرِّ جاء
العملُ مرتباً على ترتيب عامله.

(3/129)


(فلْيَعْبدوا رَبَّ هذا البيت) :
هذا إقامة حجةٍ عليهم، واستدعاءٌ لهم، بملاطفة وتذكير بالنعم حيث كان الناسُ يتخطفون مِنْ حَوْلهم، وهم لا يُصيبهم ما أصَاب غيْرَهم، من الأمن وإتيان الرزق إليهم، لحرْمَةِ هذا البيت المعظم عند جميع بني آدم، كأنه يقول لهم: إن لم تعبدوه لما شَرَفكم بالعقل، وجعلكم محبوبين، فاعبدوه لهذا البيت الذي شرَّفكم به، ودفَع عنكم مَنْ قَصد ضرَّكم من جميع الأمم.
(فَسبِّحْ بحَمْدِ رَبِّك) :
قد ذكرنا معنى التسبيح والاستغفار، وأن هذه السورة إعلام من الله لرسوله بقُرْب أجله.
فإن قيل: لم أمره بالتسبيح والْحَمْدِ والاستغفار عند رؤْية النصر والفَتْح.
وعند اقتراب أجله؟
فالجواب أنه أمره بالتسبيح والْحَمْد ليكونَ شُكْرهُ على النصر والفَتْح وظهورِ
الإسلام، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ المَرْءَ لا يَختم صحيفَته إلا بخير الأعمال، ويهيئ
زاداً للقاء ربه، ولا يَغْفل كما غفل في أول أجله.
والاستغفار والتَسبيح من أفضل الأعمال، لما فيهما من تَنْزِيه الخالق، وانكسار القَلْب مع الاستغفار، وهو تعالى عند المنكسرة قلوبهم.
(فَرَاش) :
قد قدمنا أنه طير دقيق يتساقطُ في النار ويقْصِدها، ولا يزال يقتحم على المصباح ونحوه حتى يَحْتَرق.
ومنه الحديث: " أنا آخذ بحجَزِكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تَقَاحمَ الفراش والجنادب.
فإن قلت: قد شبههم في سورة القمر بالجَرَاد المُنْتَشر، وهنا
بالفَراش، فهل بينهما توافق أم لا؟
فالجواب أن بينهما موافَقة على قول بعضهم، قال الفراء: الفَراشُ غوغاء
الجراد، وهو صغِيره الذي ينتشر في الأرض والهواء.
قال بعض العلماء: الناس أول قِيامهم من القبور كالفَراش المبثوث، لأنهم يجيئون ويذهبون على غير نظام،

(3/130)


ثم يدعوهم الداعي فيتوجَّهون إلى ناحية المَحْشر كالجراد المنتشر، لأن الجرادَ
إنما تَوَجّهه أبداً إلى ناحية مقصودة، وبهذا يظهر لك الجَمْعُ بين الآيتين.
وروى البيهقي في الشعب عن النَّوَّاس بن سمعان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما لي أراكم تتهافتون في الكذب تهافُتَ الفراش في النار، كلّ الكذب مكذوب إلا الكذب في الحرب أو الكذب لإصلاح ذات البَيْن، أو الكذب على امرأته ليرضيها.
قال الغزالي: ولعلك تظنّ أنَّ ذلك لنقْصانها وجهلها، فاعلم أن جَهْلَ الإنسان أعظم من جهلها، بل صورة الإنسان في الإكباب على الشهوات صورة الفَراش في التهافت على النار، فلا يزال يَرْمِي بنفسه فيها إلى أن يغمس فيها، ويهلك هلاكاً مؤبَّداً، فليت جهل الآدمي كان كَجَهْل الفراش، فإنما اغترارها بظاهر الضوء إن احترقت تخلَّصت في الحال، والآدمي يبقى في الحال أبَدَ الآبادِ، ومدة مؤبَّدة، ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنكم تتهافتون في النار تهافتَ الفراش وأنا آخذ بحُجزكم.
قلت: وقد قدمنا أن الفرش صغار الإبل كالعجاجيل والفصْلان، لأنها
تُفرش للذبح ويفرش ما ينسج من صوفها.
فإن قلت: ما سِرّ تقديم الحمولة على الفرش مع احتياج الناس إليها أكثر
ومنفعتها أهَمُّ؟
فالجواب أن الحمولة أعظم في الانتفاع، لأنها للأكل والحَمْل.
قال الفراء: ولم أسمع بالفراش يُجمع.
ويحتمل أن يكون مصدراً سُمِّيَ به، من قولهم: فرشها اللَه فَرْشاً.
(فرْقَان) :
له ثلاثة معانٍ: القرآن، ومنه: (يَجْعَل لكم فرقاناً) ، أي تفرقة.
ويوم بَدْر، ومنه: (وما أنْزَلْنا على عَبْدِنا يَوْمَ الفُرقان) .
(فَلَك) : سفينة، ويستوي فيها الفرد والجمع.

(3/131)


(فقه) :
فهم، ومنه: (لا يفْقَهُون) .
و (ما نَفْقه كثيراً مما تقول) .
(فُومِهَا) : هو الثوم.
وقيل الحنطة بالعبرانية.
ويقال: فوموا، أي اختبئوا، ويقال: الفُوم الخرنوب.
(للفقراء الذين احْصِرُوا في صبيل الله) البقرة: 373،: متعلق
بمحذوف، تقديره: الإنفاق للفقراء المهاجرين الذين حُبِسوا بالعدوّ أو بالمرض، والمراد بهم أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: (إنما الصدقاتُ للفقراء) - فالمرادُ أنَّ الزكاة تُدفع للفقراء، وهم أحد الأصناف الثمانية.
والفقيرُ الذي له بُلْغة من العيش، وقد قدمنا أنَّ المسكينَ أحوجُ من الفقير، لأنه الذي لا شيء له بالكلية.
والعاملين عليها الذين يقْبِضُونها ويفرِّقونها.
والمؤلفة قلوبهم: كفّارٌ يُعْطَونها ترغيباً في الإسلام، كإعطائه للأقْرع بن حابس مائةً من الإبل.
وقيل: هم مسلمون يُعْطَون ليتمكَنَ إيمانُهم.
واختلف: هل بقي حكْمهم أو سقط للاستغناء عنهم، وفي الرِّقَاب: يعني العبيد يُشْترون ويُعْتَقون.
والغارِمِين: يعني مَن عليه دين.
ويشترط أن يكونَ استَدانَ في غير فَساد ولا إسراف.
وفي سبيل الله: يعني الجهاد، فيُعْطَى منها المجاهدون ويشترون منها آلاتِ الحرب.
واختلف هل تُصْرف في بناءِ الأسوار وإنشاء الأصاطيل، وابن السبيل: يعني الغريب المحتاج.
(فَرِيضةً) ، أي حقًّا محدودا، ونصبه على المصدر.
وقد قدمنا أن لفظة الفَرْض تحتمل معاني كثيرة: بمعنى التقدير، ومنه الحديث: زكاةُ الفِطْر فريضة، أي مقدَّرة.
وبمعنى النزول، ومنه: (سورة أنْزَلْناها وفَرَضْنَاها) .
وقرئ بتشديد الراء، يعني بيَّنَّاها.
وبمعنى التحليل، قال تعالى: (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ) ، يعني فما أحلَّ اللهُ له.

(3/132)


وقال تعالى: (وقد فَرَضْتُم لهن فريضة) ، أي سمّيتم، وقوله: (فَمَنْ فرَض فيهن الحج) : يعني أوجب.
وقال تعالى: (قد فَرض اللهُ لكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم) ، يعني بَيَّنها.
فإن قيل: لم ذكر مصرف الزكاة في تضاعيف ذِكر المنافقين؟
فالجواب أنه خَصَّ مصرف الزكاة في تلك الأصناف ليقطع طَمَع المنافقين
فيها، فاتَصَلَتْ هذه الآية في المعنى بقوله: (ومنهم مَن يَلْمِزُكَ في الصدقات) .
(فُسُوقٌ بكم) :
خطاب لمن وقع في الإضرار في الكاتب والشهيد المتقدمين في الذكر.
وقد قدمنا أنَّ الفِسْقَ هو الخروج عن الطاعة، وقد عَبَّر سبحانه عن المنافق بالفاسق في قوله تعالى: (أفمَنْ كان مؤْمِناً كمَنْ كان فَاسِقا) .
(فُرَادَى) :
متفردين عن أموالكم وأولادكم.
وأما قوله: (قل إنما أعِظكم بواحدة أنْ تقوموا للهِ مَثْنَى وفرادَى) - فمعنَاها
أن تقوموا للنظر في أمْرِ محمد - صلى الله عليه وسلم - قِياماً خالصاً ليس فيه اتِّبَاعُ هَوى ولا مَيْل، وليس المراد بالقيامِ بالأمْر الجد فيه، وأن تقوموا بدل أو عطف بيان، أو خبر ابتداء مضمر.
ومَثْنى وفرَادى حال من الضمير في (أن تقوموا) .
والمعنى أن تقوموا اثنين اثنين للمناظرة في الأمر وطلباً للتحقيق.
وتقوموا واحداً واحداً لاستحضار الذهْن وإجماع الفِكرة.
(فُرطاً) :
من التفريط والتضييع، أو من الإفراط والإسراف.
(فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) :
الضمير للملائكة، وقد قدمنا أنهم إذا سمعوا الوَحْيَ إلى جبريل يفزعون لذلك فزعاً شديداً، فإذا زال الفَزَعُ عن قلوبهم قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم، قالوا: الحقّ.
ومعنى (فُزِّعَ) زال عنها الفَزَع، فالضمير في (قالوا) للملائكة.

(3/133)


فإن قلت: كيف ذلك ولم يتقدم للملائكة ذِكْرٌ يعود الضمير عليه؟
والجوابُ أنه قد وضعت إليه إشارة بقوله: (وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) ، لأن بعض العرب كانوا يعبدون الملائكةَ ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فذكْر الشفاعة يقتضي ذِكْرَ الشافعين، فعاد الضمير على الشفعاء الذين دَلّ عليهم لَفْظ الشفاعة.
فإن قيل: بِمَ اتّصل قوله، (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) ، ولأي شيء وقعت حتى غاية؟
فالجواب: أنه اتصل بما فهم من الكلام مِن أنَّ ثَمَّ انتظاراً للإذن في الشفاعة
وتوقّفاً وفزَعاً حتى يَزول الفَزع بالإذْن في الشفاعة، ويقرب من هذا المعنى قوله: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ) .
ولم يفهم بعض الناس اتصالَ هذه الآية بما قبلها فاضطربوا فيها حتى قال
بعضهم: هي في الكفار بعد الموت، ومعنى (فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) رأوا الحقيقةَ، فقيل لهم: ماذا قال ربّكم، فيقولون: قال الحق، فيقرّون حين لا ينفعهم الإقرار.
والصحيح أنها في الملائكةِ لورود ذلك في الحديث، ولأن القَصدَ الردُّ على
الكفار الذين عبدوا الملائكةَ بذكر شدةِ خَوْفِ الملائكة من الله وتعظيمهم له.
(فُرُوجٍ) :
انشقاق، وذلك دليل على إتقان الصنعةِ.
ومنه: (أولم يرَ الذين كَفَروا أنَّ السماواتِ والأرضَ كانتا رَتْقاً ففتقناهما) .
والفروج والانشقاق والفطور والصدوع والفتوق بمعنى واحد.
(فِرَاشاً) :
بمعنى مهاداً، يعنى ذَلَّلناها لكم، ولم نجعلها صعبةً غليظة لا يمكن الاستقرارُ عليها.
(فؤَاد) : قلب، وجمعه أفئدة.
(فِصَال) من الرضاع، وإنما عبر عن مدّته بالفصال، وهو الفطام، لأنه
منتهى الرضاع.

(3/134)


فإن قلت: قد قال في سورة لقمان: (وفِصَاله في عامين) ، وفي الأحقاف: (وفِصَالهُ ثلاثون شَهْراً) ؟
فالجواب أنَّ ما في لقمان مدة رضاعه، وفي الأحقاف حَمْلُه وفصاله ثلاثون
شهراً.
وهذا لا يكون إلا بأن ينقص من أحد الطرفين، وذلك إما أنْ تكون
مدة الحمل ستة أشهر، ومدة الرضاع حَوْلين كاملين، أو تكون مدة الحمل تسعة أشهر، ومدة الرضاع حولين غير ثلاثة أشهر.
ومن هذا أخذ عليٌّ بن أبي طالب مدةَ الحمل ستة أشهر.
(فِتْنة) :
وردت على أوجه: الشرك: (والفِتْنَة أشَدّ من القَتْل) ، (حتى لا تكونَ فِتْنَة) .
والضلال: (ابتغَاء الفِتْنَة) .
والقَتْل: (أنْ يَفْتِنَكم الذين كفَروا) .
والصدُّ: (واحْذَرْهم أنْ يَفْتِنوك) .
والضلالة: (ومَنْ يُرِدِ الله فِتْنَتَه) .
والمعذرة: (ثم لم تكن فتْنَتهم) .
والقضاء: (إن هي إلا فِتْنَتك) .
والضلالة: (ألاَ في الفتْنَةِ سقَطوا) .
والمرض: (يُفتنون في كل عام) .
والعبرة: (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً) .
والعقوبة: (أن تصيبهم فتنة) .
والاختبار: (ولقد فتَنَّا الذين مِنْ قبلهم) .
والعذاب: (جعل فِتنَةَ الناس كعذابِ الله) .
والإحراق: (يوم همْ على النار يُفْتَنون) .
والجنون: (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) .
***
(فرعون) :
قد قدمنا أن اسْمَه الوليد بن مصعب.
وقيل إن كلّ مَنْ ملك مصر يسمى فرعوناً، كما يقال تبَّع لكل من ملك اليمن، أي يتبع صاحبه كالخليفة يخلف غيره.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد، قال: كان فرعون فارسياً من أهل
إصطخر.

(3/135)


(فِجَاجاً) : مسالك، واحدها فَجّ.
(فِرْدوس) :
مدينة في الجنة، وهي جنة الأعقاب.
وأخرج ابنُ أبي حاتم، عن مجاهد، قال: الفردوس بستان - بالرومية.
وأخرج عن السُّدِّي، قال: الكَرْم بالنبطية، وأصله فرداساً.
فإن قلت: يُفهم من إعادة الضمير عليها مؤنثاً على معنى الجنة، وهذا مخالفٌ
لما ذكر في سورة المعارج، أنه ذكر أوصافَ هؤلاء، فقال: (أولئِكَ هم
الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) - (في جناتٍ مكرمون) ، فدلّ على أنها جنات، وهو الصحيح.
قلت: لا تنافي بينهما، لأنه ذكر في الْمعَارِج مسكن كل فرد فَرد، وهنا ذكر جَنَّات الفِرْدوس التي هي مسكنه عليه الصلاة والسلام، ومساكن مَنِ اتبعه من أمته.
ولذلك ورد في الحديث: " إذا سألْتُم الله فاسْألوه الفردوس، فإنه أعْلَى
الجنة، ومنه تفجَّر أنهار الجنة ".
***
(في)
حرف جر له معان: بمعنى الظرفية مكاناً أو زماناً، نحو:
(غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ) .
حقيقة كالآية، أو مجازاً، نحو: (ولكم في القصاص حَيَاةٌ) .
(لقد كان في يوسف وإخوته آياتٌ للسائلين) .
(إنّا لَنَرَاكَ في ضَلاَلً مُبِين) .
ثانيها: المصاحبة كمع، نحو: (ادْخُلوا في أمَمٍ) ، أي معهم - (في تسع آيات) .
ثالثها: التعليل، نحو: (فَذالِكُنَّ الذي لمْتُنَّنِي فيهِ) .
(لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ) ، أي لأجْله.
وابعها: الاستعْلاء، نحو: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) .
خامسها: معنى الباء، (يَذْرَؤُكم فيه) ، أي بسببه.

(3/136)


سادسها: معنى إلى، نحو: (فردُّوا أيديهم في أفواههم) ، أي إلى أفواههم.
سابعها: معنى مِن، نحو: (يَوْمَ نبعَثُ في كُلِّ أمةٍ شَهيدا) ، بدليل الآية الأحْرى.
ثامنها: معنى عن، نحو: (فهو في الآخرة أعمى) ، أي عنها وعن محاسنها.
تاسعها: المقايسة، وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق، نحو:
(فما متَاعُ الحياةِ الدنْيَا في الآخرة إلا قليل) .
عاشرها: التوكيد، وهي الزائدة، نحو: (وقال ارْكَبُوا فيها) ، أي اركبوها.
***
(الفاء)
ثلاثة أنواع: ملطفة، ورابطة، وزاحفة للفعل بإضمار أن، ومعناها
للترتيب والتعقيب والتسبّب.

(3/137)