معترك الأقران في إعجاز القرآن

 (حرف اليَاء)
(يحيى) بن زكرياء عليهما السلام، وُلد قبل عيسى بستة أشهر، ونُبيء
صغيراً، وهو اسم أعجمي، وقيل عربي.
قال الواحدي: وعلى القولين لا ينصرف.
قال الكرماني: وعلى الثاني أنه سمي به لأنه أحياه الله بالإيمان، وقيل
لأنه حيى به رحم أمه، وقيل لأنه استشهد، والشهداء أحياء.
وسبَبُه أن ملك زمانه كان له زوجة ولها بنت من غيره، فأرادت المرأة ُ تزويجها منه غيرةً وخوفاً من تزويج غيرها، فزينتها وعرضتها عليه، وقالت له: أتريد أحسن منها، فقال لها: لا أحبّ غيرها.
فاتخذت وليمةً، ودعت إليها يحيى، وعرضت عليه الأمر، فقال: معاذ الله في ذلك، فَسَقَتْ زوجها الخمر، وقالت: أما علمت أنَّ يحيى
يَأبَى من زواجك لهذه الشابة، فدعا به وقتله بين يديها، فبكت الملائكة ُ في
السموات، وقالت: إلهي، بأيّ ذنب قتلوا يحيى، فقال تعالى: لم يذنب، ولم يُهمّ بذنب، ولكن أحبَّني فأحببتُه، ولا بد في الحب من القتل، وسلّط الله على قاتله بخت نصر فقتله، وأخرب ملكه، وسبَا حَرِيمَه، وملك رعيته.
فاسْمَعْ يا مدَّعِي الحب، أما علمْتَ أن المحبةَ أولها فكرية وآخرها بَلِيَّة، وإذا
كان الحبُّ بين الخلق يذهب النفوس فكيف بمحبة الله! ولذلك قال تعالى:
(والذين آمَنُوا أشدُّ حبًّا لله) .
ولذلك قال الجُنيد: كم تقتل من الأحباب، وكم تريق من دَم الأصحاب، فسمع هاتفا يقول: أقتل النفس، وأعطي دِيَتها.
فقال: يا رب، ما دِيتها، فقال: دِية مقتول الخَلْق الدنيا ودية مقتولِ الحقِّ رُؤية الجبَّار.
(يوسف) بن يعقوب بن إبراهيم خليل الرحمن، ألقي في الجب وهو ابنُ ثنتي عشرة سنة،

(3/368)


ولقي أباه بعد الثمانين، وتوفي وله مائة وعشرون سنة.
وفي الصحيح أنه أعطِيَ شَطْرَ الحسن، قال بعضهم: وهو من المرسلين، لقول موسى: (ولقد جاءكم يوسف من قَبْلُ بالبينات) .
وقيل: ليس هو يوسف ابن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب.
ويشبه هذا ما في العجائب للكرماني في قوله: (وَيرِثُ مِنْ آل يعقوب) ، إن الجمهور على أنه يعقوب بن ماثان، وإن امرأةَ زكَرياء كانت
أخْتَ مريم بنت عمران، قال: والقول بأنه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم غريب.
وما ذكره أنه غريب هو المشهور، والغريب الأول، ونظيره في الغرابة قول نَوْف البِكاليِّ إن موسى المذكور في سورة الكهف في قصة الخضر ليس هو موسى نبي بني إسرائيل بل موسى بن مَنشا بن يوسف.
وقيل ابن إفرائيم بن يوسف، وقد كذبه ابن عباس في ذلك.
وأشدُّ من ذلك غرابة ما حكاه النقَّاش والماوردي أن يوسف
المذكور في سورة غافر من الجن، بعثَه الله رَسولاً إليهم، وما حكاه ابن عسكر أن عمران المذكور في آل عمران هو والد موسى لا والد مريم.
وفي يوسف من اللغات تثليث السين مع الياء والهمزة وبتركه، والصواب أنه أعجمي لا اشتقاق له.
فإن قلت: أين يوسف من فرعون في مخاطبة موسى له؟
والجواب: ما قدمناه لك من أنَّ ملك مصر يسمى فرعون، وإنكارهم لبعث
الرسالة لا يدلُّ على أنهم مؤمنون برسالة يوسف، وإنما مُرادُهم أن يأتي أحد
يدَّعي الرسالة بعد يوسف، قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري: إنما هو تكذيب
لرسالةِ مَنْ بعده مضموم إلى تكذيب رسالته.
(يونس) بن مَتّى، بفتح الميم وتشديد التاء الفوقية مقصور.
ووقع في تفسير عبد الرزاق أنه اسم أمِّه.
قال ابن حجر: وهو مردود بما في حديث ابن عباس في الصحيح، ونسبه إلى أبيه، قال: فَهَذَا أَصَحّ.
قال، ولم أقِفْ في شَيءً من الأخبار على اتصال نسبه، وقد قيل: إنه كان في زمان ملوك الطوائف من الفرس، فبعثه

(3/369)


الله إلى أَحدهم فأعرضوا عنه، ووعدهم بالعذاب، فخاف منهم وهرب فالتقمه الحوت كما قدمنا أنه مكث في جوفه أربعين يوماً.
وقيل الْتَقَمَه ضحى ولفَظَه عشية.
وفي يونس ست لغات: تثليث النون مع الياء والهمزة، والقراءة المشهورة
بضم الياء مع النون قال أبو حيان: وقرأ طلحة بن مصرّف بكسر يونِس
ويوسِف، أراد أن يجعلهما عربيين مشتقين من أنِس وأسِف وهو شاذّ.
(يسومونَكم سوءَ العذابِ يذَبِّحونَ أبناءكم) .
قد قدمنا أنَّ الخطاب لبني إسرائيل قبل هذا الحرف.
فإن قلت: أي فائدة لخطاب المعاصرين بهذا، وتعبيره في سورة الأعراف
بالقَتْل؟
والجواب: لأنهمٍ من ذرّيتهم وعلى دينهم ومتّبعون لهم، وهم راضون بذلك، فعدّد عليهم بما مَنَّ على آبائهم وهم عالمون بذلك.
وورد في آية البقرة مضعّفاً، لأن المقصود فيها كما قدمنا تعديد وجوهِ الإنعام عَليهم، وبيانُ المنَّة، ومقابلتهم لهذه النعمة بالكفْر من الأمر الشنيع، ألاَ ترى أنه لما ذكر دعوة الناسِ عموماً، وذكر مبدأهم دعا بني إسرائيل خصوصاً.
وأيضاً لما كان الذبح منبئ عن القَتْل وصِفَته، ولا يُفهم من القتل غير إعدام الحياة بتناول من غير المقتول في الغالب عَبَّر هنا بما يوفي المقصود من الإخبار بالقتل وصِفته، مع إحراز الإيجاز، إذ لو ذكر القتل وأتبع بالصفة لما كان إيجازاً، فعدل إلى ما يحصلُ منه المقصودُ مع إيجاز، فقال (يُذَبِّحون) .
وعَبَّر في سورة الأعراف بالقتل، لأنه أوجز من لَفْظِ (يُذَبِّحون) ، لأجل التضعيف، إذ لفظ يذبحون أثقل لتضعيفه.
وقد حصلت صفة الفعل في سورة البقرة.
(يَهْبِطُ مِنْ خشيةِ الله) :
صفة للحجر، وذلك أنَّ الله تعالى جعل خَوْفَه في المتحرك والساكن، فكلّ حجر يرمى من علو إلى سفل فمِنْ خشية الله، ومنهم من يتفجَّر منه الأنهار، كما قال تعالى، هذا مع أنهم غَيْر مخاطبين ولا مكلفين، وأنْتَ يا محمديّ مكلّف مخاطب، وقد قسا قَلْبك، فهل هذا

(3/370)


إلا من مخالفة أمْرِ ربك، تَلين الأحجارُ، ولا تلين القلوبُ! وأعظم من ذلك
عدمُ الانكسار والخشوع! لو تُليت هذه الآيات على الجماد لانَ، كما قال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) .
فلا حيلةَ لنا يا رب إلا إلقاء نفوسنا بين يديك، والتفويض لما أردْتَ بنا، وإلاّ الصبر لنا على عذابك، وكيف يصبر الجسم الضعيف على العذاب
المقيم، فصبِّرْنا إنْ قضيتَ علينا، واجعلنا كالإسرائيلي الذي عبدك سبعمائة سنة، فأوحيت إلى نبيء ذلك الزمان: قلْ لعَبْدي فلان تعبَّدْ ما شئْتَ، فأنْتَ من أهل النار.
فلما بلغه وَحْيك قال: مرحباً بحُكم ربي! ثم قال: إلهي، عَبَدْتك، وأنا لا
أظنُّ أني لا أزِنُ عندك قليلاً ولا كثيرا، فإذا أنا أصْلح لنارِك، وعزَّتك ما
زادني هذا إلا حُبًّا وتلهّفا فيك، فأوحى الله إلى دانيال عليه السلام: قل لعَبْدي المستحق لِوَلاَئِي بالصبر والرضا: رضيت عني بأصعب حكم وقضاء، وعِزَّتي وجلالي لو ملأتْ ذنوبك الأرضَ والسماء لغفرتها لك، ولا أبالي.
وأنت تعلم كربتي وذِلَّتي وشدةَ محنتي بذنوب اقترفْتها وعظائم ارتكبتها، وأنتَ تعلمُ أنه ليس لي مَنْ يتفقَّدني عند الموقف بين يديك غير رحمتك الواسعة التي أخْبرتنا بها، فقيِّضْ لي مَنْ يشفع عندك، أقسم عليك بجاهِ نبيِّك الكريم، واسمك العظيم، وعمْدَتنا على لسان نبيك أنه أعدَّ شفاعته لكبائر أمته، فأذَنْ له فينا، ولا تخَيِّبنا من فَضْلك العظيم وإحسانك العميم، وأسألك أنْ تصلِّي على نبيك الكريم، وتَرْضَى عن أصحابه ذوي الفضل والتكريم.
(يَسْتَفْتِحون) :
يستنصرون على المشركين إذا قاتلوهم.
فَالسًينُ على هذا للطلب، يعني أنهم كانوا يقولون: اللهم انْصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، ويقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظلّ زمانُ نبئ يخرج نقاتِلكم معه قَتْلَ عادٍ وإرم.
وقيل يستفتحون أي يعرفون الناس بالنبي - صلى الله عليه وسلم.
فالسين على هذا للمبالغة، كالسين في استعجب واستسخر، وعلى كلِّ قول
فبغْضهم واجب وقَتْلهم جائز لجحدهم ما عرفوا في كتبهم، ولذلك قال الله
فيهم: (فَلعْنَة الله على الكافرين) .

(3/371)


(يتَمَنَّوه أبداً) :
الضمير يعود على الموت، وذلك أنَّ الله أمرهم أن يتمنَّوا الموتَ إن كانوا صادقين في قولهم على وَجْه التعجيز والتبكيت.
لأنّ مَنْ علم أنه من أهل الجنة اشتاق إليها، ولو تمنَّوه لماتوا من ساعتهم، ولمَّا
علموا ذلك لم يتمنوه لذنوبهم، لأنهم أرادوا الحياةَ الدنيوية.
فإن قلت: لم عَبَّر في آية البقرة بـ (لن) بخلاف الجمعة؟
والجواب: أنه لما كان الشَّرط فيها مستقبلاً، وهو قوله تعالى:
(إنْ كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصةً) ، الآية -
جاء جوابه بـ (إن) التي تخلِّص الفعل للاستقبال.
ولما كان الشرط في الجمعة حالاً، وهو قوله: (إنْ زَعمْتم أنكم أولياءِ للَه) ، جاء جوابه بلا التي تدخل على الحال، وقد تدخل على المستقبل.
فإن قلت: ما النافية أخصّ بالحال فهي أنسب؟
قلت: قد يفهم من "ما" نَفْي مجرد الحال دون ما يتصل به، فقد يقول
القائل: ما يقوم زيد - يريد ما يقوم اليوم، ولا يريد أنه ما يقوم غداً، وما
صالحة لهذه المعنى، وهم إنما أرادوا أنهم أولياء مستمرون على ذلك، وأنَّ تلكَ صِفَتهم على الحال وما يليه إلى آخر حياتهم، إذ ذاك هو الموجب أن تكون لهم الدار الآخرة خالصةً من دون الناس كما زعموا، فلما كان زَعْمهم هذا ناسبه نَفْي دَعْوَاهم وتكذيب زعمهم بحرف نص في نفْي ذلك، وأنه لا يقع منهم التمني في حالهم ولا فيما بعده أبداً.
فإن قلت: إن قوله: (أبداً) قد أحرز هذا؟
قلت: تأكيد ذلك أبلغ، فنفى بـ لا وأكّد بالتوكيد.
فجاء على أعلى البلاغة.
(يَتْلُونَ الكِتابَ) .
أي يقرأونه، والضمير عائد على اليهود والنصارى، وهذا تقبيحٌ لقولهم وذَمِّهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولِمَا جاءَ به، مع تلاوتهم كتابهم.

(3/372)


(يَلْعَنهم اللاعِنون) :
قد قدمنا أنهم جميع مَنْ تقَع منه اللعنة، وإذا تلاعَن اثنان، وكان أحدهما غير مستحق للعن رجعت اللعنة على المستحق لها، فإن لم يستحقها أحد منهما رجعت على اليهود.
(ينْعِق) .
أي يصيح بالغنم فلا تدري ما يقول لها إلا أنها تنْزَجر بالصوت، وشبَّه الله الكفار بالبهائم في قلّة فَهْمِهم وعدم استجابتهم لمن يَدْعوهم، أو يكون تشبيهاً للكفار في دعائهم وعبادتهم لأصنامهم بمن ينْعِق بما لا يسمع، لأن الأصنام لا تسمع شيئاً، وفيه تفصيلٌ قدمنا ذكره.
(يطهُرْن) :
من الدم، ويتطهرن بالماء، وقرئ حتى يطهرن بالتشديد، وهو حجة لمالك.
(يتَسنَّهْ) .
ومعناه يتغير، واللفظ يحتمل أن يكون مشتقاً من السنة، لأن لامها هاء فتكون الهاء في "تسنَّه" أصلية، أي لم تغيره السنون.
ويحتمل أن يكون مشتقا من قولك: تسنّنَ الشيء إذا فسد، ومنه الْحَمَأ
المسنون، ثم قُلبت النون حَرْفَ علة، كقولهم: قَصّيت أظفاري، ثم حذفَ حَرْفُ العلة للجزم، والهاء على هذا هاء السكت.
وقيل إن طعامَه كان تيناً وعِنبا، وإن شرابه كان عصيراً ولبناً، فأراه اللهُ
أعجوبة في بقائه هذه المدة الطويلة على حالته.
(يَؤُودُه) :
يثقله، من قولهم: ما آدَكَ فهو بمُوئد، أي ما أثقلك فهو لي مُثقل.
(يمحق الله الرِّبا) .
أي يذهبه في الدنيا بضياعه، وفي الآخرة بالعقوبة.
وقد قدمنا أنَّ عقوبتَه في الآخرة بقيامه من القَبْر كالمجنون
يعرفُه أهْلُ الحشر بتلك العلامة، وأيُّ عقوبة أكبر من هذا.
وحكى القاضي عياض في مَدَاركه: أنَّ ترك رُبع دانق ممّا حرم الله أفضلُ من سبعين ألْف حجة، وأفضل من سبعين ألف غزوة، وسبعين ألف بدنة مقلَّدة أُهديت إلى بَيْتِ اللهِ

(3/373)


الحرام، قال: فبلغ ذلك عبد الجبار، فقال: نعم، وأفضل مِنْ ملء الأرض إلى عنان السماء ذهباً وفضة اكتسبْنَ من حلال وأنفقن في سبيل الله، تَرْكُ ربع دانق مما حرم أفْضل من ذلك كله.
(يَلْوونَ ألْسِنَتَهم بالكتاب) :
الضمير عائد على أهل الكتاب، يعني يحرِّفونَ لفظَه أو معناه.
(يَضرُّكم) .
من الضير، بمعنى الضرر.
(يَكبِتَهم) :
يَغيظهم ويخْزيهم.
وقيل يصرعهم لوجوههم.
(يمين) :
له أربعة معان: اليد اليمنى، والجهة اليمنى، وبمعنى القوة، وبمعنى
الحلف.
وأيمن الإنسان جهة يمينه.
(يسير) : له معنيان:
قليل، ومنه كيل يسير.
وهين، ومنه: (وذلك على الله يسير) .
واليسر ضد العُسر.
(يئس) ، من الأمر ييأس، أي انقطع رجاؤه، ومنه: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ) ، و (إنه ليئوسٌ) .
وأما: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) ، فمعناه أفلم يعلم، وهي لغة هوازن، وقرئ: "أفلم تتَبَيّن".
(يستبشرون) :
يفرحون: والضمير عائد على قوم لوط لَما سمعوا بذكر الأضياف أسرعوا إليه فرحين ببغْيتهم ونكاية للوط عليه السلام، وكرره في آل عمران،، ليذكر له من النعمة والفضل.
(يَمِيزَ الخبيثَ مِنَ الطيّب) .
أي ما كان الله ليدعً المؤمنين مختلطين بالمنافقين، ولكنه مَيّز هؤلاء من هؤلاء بما ظهر في غَزوة أحد من الأقوال والأفعال التي تدلُّ على الإيمان أو على النفاق،

(3/374)


وما كان الله لِيطْلعكم على ما في القلوب من الإيمان أو النفاق، أو يطْلعكم على ألا تغلبون أو تُغْلبون.
(يَفْقَهون) :
يفهمون، ولذا سمي الفقيه فقيهاً.
وفي الحديث: " ما أعطي المرء أفضل من حسْنِ سَمْتٍ وفِقْهٍ في الدين ".
وانظر كيف عَبَّر عنهم تارة بالفهم، وتارة بالعقل، وتارة بالهداية، وعن الكفار بضِدِّها، وكلها ألفاظٌ بمعنى واحد.
(يَشْتَرون الضَّلالَة) :
عبارة عن إيثارهم الكفْرَ على الإيمان، فالشراء مجاز، كقوله تعالى: (اشْتَروا الضلالَة بالهدَى) .
وفي تكرار قوله: (وكفى بالله وليًّا وكفى بالله نصيراً) - مبالغة.
(يَشْرونَ) : يبيعون، ومنه: (ومِنَ الناس مَنْ يَشرِي نَفْسَه) .
(يَسْتَنبِطُونَه منهم) ، أي من المسلمين.
والمعنى لو ترك هؤلاء القوم الكلامَ بذلك الأمْرِ الذي بلغهم وردّوه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولي الأمر منهم، فـ (مِن) على هذا لابتداءِ الغاية، وهو يتعلق بالفعل، والضمير المجرور يعود على الرسول وأولي الأمر.
وقيل: إن الذين يستنبطونه هم أولو الأمر، كما جاء في الحديث عن عمر رضي الله عنه - أنه سمع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلق نساءه فدخل عليه، فقال: أطَلَّقْتَ نساءَك، قال: لا، فقام على باب
المسجد، فقال: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يُطَقَق نساءه، فأنزل اللَّهُ هذه القصة، قال: وأنا الذي استنبطته، فعلى هذا الذين يستنبطونه هم أولو الأمر.
والضمير المجرور عائد عليهم، ومنهم لبيان الجنس، واستنباطُهم على هذا هو سؤالهم عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بالنظر والبَحث، واستنباطه على التأويل الأول هو سؤال الذين أذَاعوه للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولأولي الأمر.
(يَألَمون) ، أي يصيبهم ألَمٌ منْ قتالكم، ومعناها

(3/375)


التحريض على قتالهم، لأنهم يتألون من ملاَقاتكم، ومع ذلك فإنكم ترْجون إذا قاتلتموهم النصر في الدنيا والأجْرَ في الآخرة، وهذا كقوله تعالى: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا) .
(يتِيهُونَ في الأرض) .
أي في أرض التيه، وقد قدمنا أنها بين مصر والشام، وكانوا يسيرون النهارَ والليل، ويجدون أنفسهم في الموضع الذي ارتحلوا منه مساء وصباحاً عقوبةً لهم على ما صدر منهم.
(يَسْتَفْتونَك) .
أي يسألونكَ عن الحكم الشرعي على وَجْه النظر.
والمستفتي هو المستَخْبِر عن الحكْم الشرعي على غير وَجه النظر، فكلَّ
مستفتٍ مستخبر، وليس كل مستَخْبر مستفتياً، لأن السائل على وَجْه النظر
مستخبر، وليس بمستفتٍ في عُرف الفقهاء.
(يعْصِمُكَ من الناس) .
أي يحفظك، وفي هذا وعْدٌ وضمان لعصمةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه كان محترس من أعدائه، فلما نزلَتْ أخرج رَأسَه
من البيت الذي كان فيه، وقال: اذهبوا فقد عصمني الله، فكلّ ما أصيب به قبل نزول الآية، وأما بعد نزولها فلا، فالعصمة للأنبياء، - والحفظ للأولياء.
(يَا أهْلَ الكتابِ لسْتم على شيء) :
من فَضْلِ هذه الأمة المحمدية أنَّ اللهَ خاطبهم بالإيمان، وخاطب أهْلَ الكتاب بكتابهم، ففي الأولى جَمَعَ الله أوصافَ المؤمنين ونعوتهم ومعانيهم في هذا النداء، لأنه لم تَبْقَ حسنةٌ إلا دخلت تحته، وفي الثاني إهانة وتوبيخ، ألا ترى أنه قال لهم: (لَسْتم على شيء) ، أي على دين يُعتدُّ به حتى تقيموا التوراةَ والإنجيل، ومن إقامتها الإيمانُ بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وقوله: (وما أنْزلَ إليكم) .
قال ابن عباس: يعني القرآن، ونزلت الآية بسبب رافع بن حارثة، ورافع بن حريملة.
وسلام بن مشْكم، وغيرهم من اليهود، جاءوا إلى رسولِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: إنا نتبع التوراة ولا نتبع غيرها، ولا نؤمن بك ولا نتبعك.

(3/376)


(يَنْعِه) .
أي ينْضَج وَيطيب، والمعنى انظروا إلى ثمره أوّل ما يخرج ضعيفاً لا مَنْفَعة فيه، ثم ينقل من حال إلى حال حتى يَيْنع.
(يَقْترِفون) : يكتسبون.
(يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) :
أصله يتَصَعَّد، ومعناه أن مَنْ يريد اللَه ضلاله كأنما يحاول الصعود في السماء، وذلك غَيْر ممكن، فكذلك يصعب عليه الإيمان.
وقرئ بالتخفيف.
وأما: (إلَيهِ يَصْعَدُ الْكلِمُ الطَّيِّب) - فمعناه لا إله إلا الله، واللفظُ يعمُّ كلَّ ذكْر ودعاء وتعليم علم، فإنَّ الله يقبله ويثيب عليه بفضله وكرمه، وهذا معنى قوله: (والعمَل الصالح يَرْفَعُه) .
وقيل: إن ضمير الفاعل للكَلِمِ الطيب، وضمير المفعول للعمل الصالح.
والمعنى على هذا أنه لا يقبل العملَ إلا مِنْ موحِّد.
وقيل: إن ضمير الفاعل للعمل الصالح وضمير المفعول للكم الطيب.
والمعنى على هذا أنَّ العمل الصالح هو الذي يقبل الكلام الطيب، فلا يقبل الكلام إلا مَنْ له عمل صالح.
روي هذا المعنى عن ابن عباس، واستبعده ابنُ عطية ولم يصحّ عنه، لأن اعتقادَ أهلِ السنة أنَّ اللهَ يتقبَّل مِنْ كل مسلم، قال: وقد يستقيم بأن يتناول أن يزيد في رفعه وحسن رفعه.
فإن قلت: آية قوله تعالى: (إنما يتَقبَّلُ اللَّهُ من المتقين) تدل على قول ابن عباس؟
والجواب: أنَّ معنى المتقين يعني الذين اتقوا الشركَ، لأن التقوى على
درجات، كما قدمناه مراراً.
فلا نطيل بذكره.
وقد قال: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) .
فلا السيئة تُبْطل الحسنة، ولا العكس، على هذا يكونُ اعتقادك لا على غيره.
(يَخوضونَ في آياتِنا) :
الضمير للكفار، وذلك أنهم كانوا

(3/377)


إذا سمعوا القرآن طعنوا فيه واستهزءوا به، فأمَر اللهُ نبيه بالإعراض عنهم حتى
يحكمَ اللَّهُ فيهم بعدْله.
(يَغْنَوْا فيها) :
يقيموا فيها، أو ينزلوا مستغنين.
والمغاني: المنازل، واحدها مَغْنى.
(يذَرَك وَآلهَتَك) :
معطوف على، (ليفسدوا
) ، أو منصوب بإضمار أن بعد الواو.
وقيل كان فرعون جعل للناس أصناماً يعبدونها، وجعل تفْسَه الإله الأكبر، ولذلك قال: (أنا رَبُّكم الأعلى) ، فآلهتك على هذا هي تلك الأصنام.
وقرأ عليٌّ بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس: إلاَهتك، أي عبادتك، والتذلل لكَ.
(يُسْتَضْعَفون) :
هم بنو إسرائيل استضعفوهم قوم فرعون، فجعلوهم خدماً يمتهنونهم في الخدمة ويُتْعبونهم في المناولة.
(يَعْرِشون) ، أي يبنون.
وقيل الكروم وشبهها.
(يَعْدون في السّبْتِ) .
يعني يتجاوزون حد الله فيهم باصطِيادهم الحوتَ.
(يَسْبِتونَ) ، يَدَعون العمل فيه.
وبضم الياء يدخلون في السبت.
(يَلْهَث) :
اللهث: تنفس بسرعة، وتحريك أعضاء الفم، وخروج اللسان، وأكثَر ما يَعْترِي ذلك الحيوانات مع الحَرِّ والتَّعَبِ، وهو حالة دائمة للكلب، ومَثل الله الذي انسلخ من آياته بالكلب، لأنه لا يعرفُ قَدْرَ اللؤلؤ والياقوت، بل يعرف الجِيفَ والقذرات الْمُنْتنة، وبلعام لم يعرف قَدْرَ ما أعطاه الله، فسُلب، وفي هذا من الإشارة لك يا محمدي ما يُذْهِل العقول في كونك أكرمك الله بآياته، وفضَّلك على كثير من مخلوقاته، فأعرضْتَ عنها، واشتغلت بالجيفة النتنة الذي قال فيها الصادق الصدوق: " الدنيا جيفة وطلابها كلاب ".

(3/378)


وإن أعرضت عنها في بعض أوقاتك فما أسرع نَكْث العهد في رجوعك
إليها، أما سمعتَ قول الصادق المصدوق: نحن أمةٌ ليس لنا مثل السوء
" الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ ".
فافهم إن كنت ذا فَهْم، والسلام.
ووَجْهُ تشبيه ذلك الرجل به أنه إنْ وعظْتَه فهو ضالّ، وإن لم تَعظْه فهو
ضالّ، فضلاَلَتُه على كل حال، كما أن لهث الكلب على كل حال.
وقيل: إن ذلك الرجل خرج لسانُه على صدره، فصار مِثْلَ الكلب في صورته ولهثه حقيقة، وهذه حالُنا لولا أنْ مَنّ الله علينا بني عظيم يشفع فينا لكنّا أعظم من هذا، وكيف لا وفِعْلُنا أعظم، وجرائمنا أجسم، لكن سيئات المحبوب حسنات، اللهم كما سترتها علينا بجاهه عندك اسْتُرْها علينا في الآخرة.
(يَمْشُونَ بِهَا) :
أخبر اللهُ بهذه الآية عن اعتراف المشركين أنَّ أصنامَهم لا تمشي ولا تَبْطش ولا تسمع ولا تُبْصر، فقال لهم: كيف تعبدونها، وبين بها كفرهم وإعراضهم عن عبادة المتصف بالسمع والبصر والقدرة والإرادة، فتعالى الله الملك الحقَّ لا إله إلا هو.
(يَتَولى الصَّالِحين) ، في أقوالهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم.
ومَنْ كان لله كان الله له، ومَنْ راقب يراقب، ومَنْ غفل غفل عنه.
أنْتَ تريد وهو يريد، فإنْ تركتَ مرادَك لمراده أنَالَكَ ما تريد، كيف تطلب خرق العوائد وأنتَ لم تخرق من نفسك العوائِد.
(يَنْزَغَنَّك من الشيطان نَزْغٌ) :
قد قدمنا أن الخطاب بهذا لأمته، إذ الإجماعُ على عصمته، ونَزْغ الشيطان: وَسْوسته، والأمر بالمعاصي، وتحريك الغضب، وفي هذا من التعليم لأمته بوجوده - صلى الله عليه وسلم - ما يعجزُ اللسان عن شكره، وكيف لا وقد بَين لنا - صلى الله عليه وسلم - كيفيَة الفعل إذا اعْتَرَانا هذا
اللعين بقوله: إن كان قائماً فليجلس، وإن كان جالسا فليضطجع، ويستعيذ بالله من شره.
وفي حديث آخر لما رأى رجلا اشتدّ غَضَبه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " إني لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يَجِد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ".

(3/379)


وقد وَفّق اللهُ بعْض هذه الأمة لكظْم الغيظ، وعَفْوهم عمن ظلمهم، لو ذكرنا ذلك لطال ذكرهم، كالذي كان يناول طعاما لسيده فعثر ووقعَت الصحْفَة من يده، فقتل ابْنَ سيده، فدهش، فقال له السيد: لا رَوْع عليك! فقال الغلام: (والكاظِمين الغَيظَ) .
قال: قد كظَمْتُه.
فقال الغلام: (والْعَافِين عن الناس) .
فقال: قد عفوت.
قال الغلام: (والله يحبُّ الْمُحْسنين) ، فقال: قد أحسنتُ إليك.
اذهب فقد زوَّجتك ابنتي.
وآخر دخل على فرسه الذي كان يركبه، فوجده على ثلاث قوائم، فقال:
مَنْ فعل هذا، فقال له الغلام: أنا.
قال: ما الذي حملكَ على ذلك، قال: أردت أن أغمَّك.
فقال: لأغمنَّ الذي أمركَ بذلك.
اذهب فأنْتَ حُرٌّ لوجه الله.
هكذا فلتكن حالُك إن أردْتَ اللحوقَ بهم، وإلا ظنَّ مباينَة حالك لحالهم.
هؤلاء يملأ اللهُ قبورهم نوراً، كما ملأها في الدنيا إيماناً، وأما نحن فلا ندري ما نصير إليه لا نحن فيه من غَلبة النفس والهوى والشيطان.
(يَمُدُّونَهم في الْغَيِّ ثم لا يُقْصِرُون) :
قرئ بضم الياء وفتحها، ومعناها لا يقصر الشيطان على إمداد إخوانهم من الكفار، أو لا يقصر الكفار عن غيهم.
(يَسْألُونَكَ عن الأنفال) :
يعني أن الصحابة يوم بَدْر كانوا على ثلاث فرق: فرقة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تَحْرسُه وتُؤْنسه، وفرقة تبعت المشركين تقاتلهم، وفرقة أحاطوا بأسلاب العدوّ وعسكره لما انهزموا، فلما انجلت الحرْبُ
ونَصرَ الله نبيه رأت كلّ فرقة أنها أحق بالغنيمة من غيرها، واختلفوا فيما بينهم، فنزلت الآية: إن الأنفال، وهي الغنيمة، للهِ ورسوله.
وقيل الأنفال هنا ما ينفله الإمام لبعض الجيش من الغنيمة زيادة على حظه، فأعطاهم الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - ما غنموا وقَسمها بينهم، وفي بعض الغزوات قال لهم: لي معكم الخُمس، وهو مردود عليكم لزُهْدِه - صلى الله عليه وسلم - وإيثارِه الصحابة عليه.
وقد اختلف الفقهاء:

(3/380)


هل يكون هذا النفل الذي يعطيه الإمام من الخمس، وهو قول مالك، أو من
الأربعة أخماس، أو من رأس الغنيمة قَبْل إخراج الخمس.
(يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءَ وقَلْبِه) :
قيل يُميته.
وقيل يصرفُ قَلْبَه حيث شاء، فينقلب من الإيمان إلى الكفر، وشبه ذلك، ولذلك كان المعصوم - صلى الله عليه وسلم - يقول في كل صباح ومساء: اللهم يا مُقَلِّبَ القلوب ثَبِّتْ قلبي على دينك.
ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يتقلَّب ويدعو لأمته ويسأله ثَباتهم.
وفي الحديث: القلبُ بين أصبعين من أصابع الرحمن يقَلّبه كيف يشاء، يعني أصابع القدرة والإرادة لا أصابع الجارحة.
وقيل لبعضهم: بِمَ عرفْتَ ربَّك، قال: بنقض العزائِم، عزمت
فنقض عَزْمي، وهممت فنقض همي، فعلمت أنَّ لي ربًّا يدَبِّر أمري.
(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) :
نور الله هداه الصادر عن القرآن والشرع المنبث في قلوب
الناس، فمن حيث سمَّاه نُوراً سمّى محاولة إفساده والصدّ في وجهه إطفاء.
وقالت فرقة: النور القرآن.
وقوله: (بِأَفْوَاهِهِمْ) عبارة عن قلّةِ حيلتهم وضَعْفها، أخبر عنهم أنهم يحاولون مقاومةَ أمر جسيم بعمل ضعيف، فكان الإطفاء بنفخ الأفواه.
ويحتمل أن يراد بأقوال لا برهان عليها، فهي لا تتجاوز الأفواه إلى فَهْم
سامع.
وقوله: (ويأبى) إيجاب يقَعُ بعده أحياناً (إلاَّ) ، وذلك لوقوعه هو
موقع الفعل المنفي، لأن التقدير ولا يريد الله إلا أنْ يُتِمَّ نورَه.
وقال الفراء: هو إيجاب فيه ضرب من النفي.
وردَّ الزجاج على هذه العبارة، وبيانُه ما قلناه.
فإن قلت: ما حكمةُ زيادة آية براءة على آية الصفِّ، واختلاف العبارتين؟
والجواب: ناسب زيادة براءة ما ورد من الطول المحكي فيها من قَوْل
الطائفتين من اليهود والنصارى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) .
وأما آيةُ الصف فمقابل بها قول عيسى عليه السلام: (يا بني إسرائيل إنِّي رسولُ الله إليكم مُصَدِّقاً) ، ثم قال تعالى: (فلما جاءهم بالبيِّناتِ قالوا هذا سِحْرٌ مبين) ، وليس هذا

(3/381)


في الطول وعِدَّة الكلم كالمحكي في سورة براءة، ألا ترى أنَّ الواقع في براءة ست كلمات، وفي الصف ثلاث كلمات، والقائِل طائفةٌ واحدة.
وهذا مراعى.
(يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) :
ضمير الجماعة يعود على المنافقين الذين يحلفون: (لو استَطَعْنَا لخَرَجْنَا معكم) ، فأخبر الله رسولَه بكذبهم، وأنهم كانوا يستطيعون الخروج، ولكن تركوه كفرا ونفاقاً، وهذا كلّه في الجملة لا بتعيّن شخص، ولو عُيِّن لقُتِل بالشرع.
وانظر كيف عَبَّر هنا بالعلم بخلاف الآية بعدها.
وفي الحشر والمنافقين لأنَّ الاستطاعةَ وعدمها حكم لا يطَّلع عليه في الغالب، بل ينفرد كلّ بحاله في ذلك، إلا أنْ يعلم ذلك بقرينة، فقول المنافقين في إخبار الله تعالى عنهم: (لو استَطَعْنَا لخرَجْنَا معكم) ، غير مشاهد من ظاهرهم، فقد كان يمكن صدقهم أو صدق بعضهم لوْلا أنّه سبحانه أعلم بحالهم، فناسب التعين بالعلم.
(يَرْكُمَهُ جميعاً) .
أى يضمّه ويجعل بعضه فوق بعض.
(يوم يُحْمَى عليها) :
الضمير يعود على ما يعود عليه ضمير (ينفقونها) ، والعامل في الظرف (ألِيم) ، أو محذوف.
فانظر ما أوعد الله للمُمْسك مالَه ولا ينفقه.
وقد أخبرنا اللهُ بعذابه في آياتٍ من كتابه كقوله تعالى: (وَيْل لكلِّ هُمَزَةٍ لمَزَةٍ) .
(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ) ... إلى قوله: (وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) .
(مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) .
(كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى) .
وأكرم الله الْمُنْفق بخمس كرامات:
جعل الصدقَة تقَعُ في يده قبل وقوعها في يد السَّائل، فيربيها له كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ، وتكون وقايته من المكاره، كما صحَّ أن الصدقة
لتدفع سبعين باباً من السوء، يعني في الدنيا والآخرة، لقوله عليه السلام: دَاوُوا مرضاكم بالصدقة.
وتحرس المال، للحديث: " حَصِّنُوا أموالكم بالزكاة ".

(3/382)


وتطهره لقوله سبحانه: (خُذْ من أمْوالِهم صدَقَة تطهِّرُهم وتُزَكيهم) .
هذا مع ما فيها من الخلف والبركة، والكلام عليها طويل جداً.
(يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا) .
أي تارة يحلون وتارة يحرمون ولم يُرِد العامَ حقيقة، إذ كانت أحوالُهُم مختلفة.
(يُهْلِكون أنْفسهم) :
الضمير يعود على المنافقين، لأنهم كانوا يستعذرون بالأعذار الكاذبة والأيمان الباطلة.
(يَفْرَقونَ) :
من الفَرق وهو الخوف.
(يَجِدُون مَلْجَا) .
أي يلجئون إلى موضع من المواضع التي تمنعهم من رؤية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
(يَكْنِزُونَ الذّهَبَ والفِضَّةَ) .
ورد في الحديث: " كل ما أدِّيت زكاته فليس بكنز، وما لم تؤدَّ زكاته فهو كنز ".
وقال أبو ذر وجماعة من الزهاد: كلّ ما فضَلَ عن حاجةِ الإنسان فهو كنز.
وقوله هذا أفضى به إلى الخروج من الشام ومن المدينة حتى لحق بالرَّبذة، فمات بها، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -:
" من أراد أن ينظر إلى زُهد عيسى فلينظر إلى أبي ذَر رضي الله عنه ".
(يضَاهِئُونَ قَوْلَ الذين كفرُوا من قَبْل) ، أى يشابهون.
فإنْ كان الضمير لليهود والنصارى فالإشارة بقوله: (الذين كفروا من قَبْل)
للمشركين من العرب، إذ قالوا: الملائكة بنات الله، وهم أول كافر.
وإن كان الضمير للمعاصرين للنبي - صلى الله عليه وسلم - من اليهود والنصارى فالذين كفروا من قبل هم أسلافهم المتقدمون.
(يَلْمِزكَ في الصّدقَاتِ) .
أي يَعِيبك على قسمتها، وذلك أنَّ المنافقين كانوا يقولون: يعْطِي مَنْ أحبَّ من أصحابه، ويمنعنا.
وقيل هي في الذي قال: اعدل يا محمد، فإنكَ لم تعدل.
(يُؤْمِنُ بالله ويؤْمِن للمؤمنين) .
هذا من أوصافه - صلى الله عليه وسلم -

(3/383)


يقال: أمنت لك إذا صدقتك، ولذلك تعدَّى هذا الفعل بإلى، وتعدّى يؤمن
بالله بالباء.
(يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ) :
الضمير في (عَلَيْهِمْ) و (تُنَبِّئُهُمْ) و (قُلُوبِهِمْ) عائد على المنافقين، يعني أنهم كانوا يخافون أن ينزَّل في شأنهم سورةٌ على النبي - صلى الله عليه وسلم -) تُخْبره بما في ضمائرهم من النقص لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه، وذلك على جهة الاستهزاء والسخرية.
وقال الزمخشري: إن الضمائر في عليهم وتنبئهم للمؤمنين، وفي قلوبهم للمنافقين، والأول أظهر.
(فإنْ يتُوبوا يكُ خَيْرًا لهم) :
فتح الله في هذه الآية بابَ التوبة للمنافقين، فتاب منهم الجُلاَس.
وحَسُنَ إسلامه بفَضْل الله عليه.
(يسْخَرُون منهم) :
الضمير للمنافقين، وذلك أنهم كانوا يستخفُّون بالمسلمين الذين يتصدَّقون بما يجدون ويقولون: إن الله كنيّ عن صدقةِ هذا.
(يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) :
يعني أنهم كانوا يؤذون رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بقولهم: إنه يسمعُ فيهم أصحابه إذا أخبروه بعداوتهم لهم.
فردَّ الله بقوله: (قل أُذُنُ خَيْرٍ لكم) ، لأنه يصفح عنكم ولا يؤاخذكم بأقوالكم، ولو لم يسمع فيكم لأستأصلكم.
وقد كان بعض الصحابة يستأذن في قَتْل بعضهم، فيقول: أو يتحدث أنَّ محمداً يقتلُ أصحابه.
(يَقْبِضُونَ أيديهم) :
كناية عن بخْلهم وعدم إنفاقهم، في، طاعةِ الله ورسوله.
(يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) .
أي يُمْتَحنون بالأمراض والجوع.
وقيل بالأمر بالجهاد.
واختار ابنُ عطية أن يكون المعنى: يفضحون بما يكشف من سَرَائرهم.

(3/384)


(يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ) :
كان سبب خوفهم أنْ ينقل عنهم كذبُهم، فكان ينظر بعضُهم إلى بعض، ويقول: إياكم أن يُنْقَل عنكم هذا الاستخفَافُ.
وقيل: كان ينظر بعضهم إلى بعض على وجه التعجّب ومِمَّا ينزل
في القرآن مِنْ كشْف أسرارهم.
(ويهْدي مَنْ يشاء) .
قد قدمنا أنَّ الله تعالى عَمَّ الدعوة وخَصَّ الهداية، إذ ما كلُّ مدعوّ داخلٌ، ولا كل مُضِل مقيم، واحد قاعد عند الباب ينتظر الدخول ولم يدخل، وآخر وجد الباب مفتوحاً فدخل.
(يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) : في هذه الآية احتجاج على الكفار
بأنَّ شركاءهم لا يقدرون على بدء الخَلْق ولا عَوْده.
فإن قلت: كيف يحتجّ عليهم بإعادة الخَلْق وهم غير معترفين به؟
فالجواب أنهم معترفون أن شركاءهم لا يقدرون على الابتداء ولا على
الإعادة، ففي ذلك إبطال لهم ولربوبيّتهم، فوضعت الإعادة عليه موضع المتفق عليه لوضوح برْهانها.
(يَهِدِّي) .
بتشديد الدال: معناه لا يهتدي في نفسه، فكيف يهدي غيره.
وقرئ بالتخفيف بمعنى يهدي غيره.
والقراءةُ الأولى أبْلَغ في الاحتجاج.
(يَأتهم تأويلُه) :
الوعيد الذي في القرآن لهم.
(يلبثوا إلا ساعة من النهَار) :
تقليل لمدة بقائهم في الدنيا أو في القبور.
(يتعارَفُون بينهم) :
يعني يوم الحشر، فهو على هذا حالٌ من الضمير في (يلبثوا) .
(يستَنْبِئُونك) .
أي يسألونك عن الوعيد والدين والشرع:

(3/385)


أحق هو، فأمره الله بأن يقول: (إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) .
(يرْهَق) : يغشى.
(يوم القيامة) ، ظرف منصوب بالظرف.
والمعنى أي شيء يظنون أن يُفعل بهم في ذلك اليوم.
(يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ) ، أي لا يغيب عن علم الله مثقَال ذرة.
وقد قدمنا أن الذرة صغار النمل أو بيضها.
فإن قلت: ما فائدة تقديم الأرض على السماء في آية يونس بخلاف سبأ؟
والجواب لأن الشهادة على أهل الأرض، وقُدمت السماء في سبأ لأنَّ حقَّها
التقديم، لأنها مصعد الأمر، ومحلّ العلو، ومسكن الملائكة، وهي مشاهدة لهم، ومستقبل الداعين، ومنها ينزل الأمر، ورزق العباد، وفيها الخزَنَة من الملائِكة، وإليها يُصعد بأرواح المؤمنين، وتعرج الملائكة السياحون في الأرض المسؤولون عن أعمال العباد، فكان العلمُ بما فيها أجلى وأظهر، وكان العلم بما في الأرض أخفى، وهذا بالنظر إلينا، وبحسب متعارَفِ أحوالنا، وإلا فعِلْم بارئنا سبحانه بما في الأرض وما في السماء على حدٍّ سواء، كما أن علمه بالسر والجهر مستوٍ: (سواءٌ منكم مَنْ أسَرَّ القوْلَ ومَنْ جَهَر به) .
(يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) ، أي ينفعكم في الدنيا بالأرزاق والنعم والخيرات.
وقيل: هو طيب عيش المؤمن برجائه في الله ورضاه بقضائِه، لأن الكافر يمتَّعُ في الدنيا بالأرزاق، والضمير في " فَضْله " يحتمل أن يعود على الله تعالى أو على ذِي فَضل.
(يثْنُون صدُورَهم ليستَخْفوا منه ألاَ حين) .

(3/386)


الضمير للكفار، وذلك أنهم كانوا إذا لقيهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يردون إليه ظهورهم لئلا يَرونه من شدة البغض والعداوة.
والضمير في " منه " على هذا يعود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إن ذلك عبارة على ما تنْطَوِي عليه صدورهم من البُغْض
والغل.
وقيل: هو عبارة عن إعراضهم، لأن من أعرض عن شيء أتى عليه
الخوف.
والضمير في (منه) على هذا يعود على الله تعالى، أي يريدون أن
يستخفوا على الله، فلا يطلع رسوله والمؤمنون على ما في قلوبهم.
(يستَغْشُونَ ثيابَهم) .
أي يجعلونها أغشية وأغطية، كراهةً لاستماع القرآن.
والعاملُ في (حين) (يعْلَم ما يُسِرّونَ وما يعلنون) .
وقيل: المعنى يريدون أن يستخفوا حين يستغشون ثيابَهم، فيوقف عليه على
(هذا) ، ويكون (يعلم) استئنافاً.
(يكونوا مُعْجزين) ، أي مُفْلتين.
(يضاعف لهم العَذَابُ) :
إخبار عن تشديد عذابهم، وليس بصفة لأولياء.
(يَئُوس) :
فعول، من يئستُ، وأخبر الله في هذه الآية أن الإنسان يقْنَط عند الشدائد، ويفخر ويتكبَّر عند النعم.
(يُجَادِلنا في قَوْم لوط) :
معنى جدال إبراهيم مع الملائِكة في رَفْع العذاب عن قوم لَوط، لأن الله وصفه بالحلم والرحمة.
(يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) :
الضمير للجدال.
أمره الله أن يسكتَ عنهم، لأن القضاء نفذ بعذابهم.
(يقْدُمُ قومَه يَوْمَ القيامة) :
الضمير لفرعون، يعني أنه يتقدمهم إلي النار، وقد قدمنا أنَّ كل طائِفة تتبعُ ما كانت تعبد، ويعقد لكل صاحب خصلة لواء فيتبعونه مَنْ كان يفعل فِعْلَه في الدنيا.
(يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) ، أي يحضره

(3/387)


الأوّلون والآخرون، ويجمعون الحسنات والثواب والعقاب، وإنما عَبَّر باسْمِ
المفعول دون الفعل ليدلَّ على ثبوت الجمع ذلك اليوم، لأن لفْظ مجموع من لفظ يجمع.
(يوم يأت) :
العامل في الظرف (لا تَكلَّم) أو مضمر، وفاعل (يَأتِ) ضمير يعود على يوم (مشهود) .
وقال الزمخشري: يعود على الله تعالى كقوله: (أو يأتي رَبُّك) .
ويعضده عَوْد الضمير عليه في قوله، (بإذنه) .
(يا أبَتِ) ، أي يا أبي، والتاء للمبالغة، وقيل للتأنيث.
وكُسرت دلالة على ياء المتكلم، والتاء عوض من ياء المتكلم.
ودَعَا يوسف أباه باسم الأبوة ولم يدْعه باسمه، لأن مَنْ دعا أباه باسمه غلط، فكيف بمن جفاه.
وقد أمرك الله أنْ تعاملَ أباك بمعاملتك مع الرسول، قال تعالى: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) .
وقال: (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) ، وهو كان أباك في
الدين، وكذلك علمك مع أبي النسب، كما علمك العاملة مع أبي الدين.
ويوسف قال: يا أبت - اقتدى فيه بجده إبراهيم، لأنه دعا أباه الكافر باسم الأبوة، والله تعالى أعطاك أبوين مؤمنين، أنت أولى بتحليتهما، فإن الله تعالى أعطى خليله وحبيبه أبوين كافرين، وكان يتحلاَّهما وأنْتَ يا عَبْدَ الله تلحق بأبويك وتدخل معهما الفردوس الأعلى، قال تعالى: (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) .
(يَخْل لكم وَجْه أبيكم) :
إخوة يوسف طلبوا ألاَّ يشاركهم أحد في محبته لهم وإقباله عليهم، فلما رأوه مال إلى يوسف دونهم وصلتهم الغيرة، والحبيب يغير على حبيبه، وأنْتَ يا عبد الله إن طلبت الخَلْوَة مع غير مولاك تضيق عليك المسالك، لأنه سبحانه غيور لا يطلع على عبده، فيجد فيه غيرة.
قال تعالى: إن طلبتني أخدمتك المكونات، وإن طلبت غيري أعوزتها عليك، ولا يكون لكَ إلا ما أريد.

(3/388)


(يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) :
السيارة جمع.
وهم القوم الذين يسيرون في الأرض للتجارة وغيرها، ومنه قولهم: لقيته التقاطاً ووردت الماء التقاطا: إذا لم ترده.
(يعْصِرون) .
أي يعصرون الزيتون والعِنَب والسمسم وغير ذلك مما يعْصر.
(يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ) :
خاف يعقوب على أولاده من العين إن دخلوا مجتمعين، إذ كانوا أهْل جَمَال وهيْبة، ويؤخذ من هذا الحذر، والحذَر لا يغني من القدر، ولكن الله أمر بالتحرز مما يخاف منه، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: " المؤمن كَيِّس حذر ".
وفي رواية: " الحزْم سوء الظن ".
(يدَبِّر الأمْرَ يفَصِّل الآياتِ) :
يعني أمر الملكوت وآيات كتبه.
(يغْشِي الليلَ النَّهارَ) .
أى يلبسه فيصير له كالغشاء، فيصير أسود مظلماً، كما كان أبيض مشرقاً.
والأَول فاعل في المعنى، وهو على إضمار فِعْل، أي ويغشي النهار الليل.
ويحتمل أنْ يراد في الآية الزمان الذي بين الفجر وطلوع الشمس على القول بأنه من النهار، فهو إشارة إلى أن الليل يخالط النهار في ذلك الزمان، ولذلك اختلفوا هل من الليل أو من النهار أو قسم ثالث قائم بنفسه، فقيل الكلام في ذلك الزمان باعتبار الشرع، وفي الآية باعتبار اللغة.
(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ) :
قد قدمنا تسبيحَ الرعد وأنه يسبح الرعد من خيفته بحمده، والملائكة
بحمده من خيفته، والصواعق النازلة من السماء عذاباً لله شعلة يصيب بها من يشاء من عباده وخَلْقه.
(يُريكم البَرْقَ خَوْفاً وطَمعاً) .
نسب الرؤيَة للبرق والإنشاء

(3/389)


للسحاب، لأن الأشياء المرئية أسهلها على البصر السواد والخضرة، وأصعبُها البياض الساطع، فنحن نعجز عن مداوَمَةِ النظر إليه.
وانظر قوله: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَا) .
وأما السحاب فجِرْم يقبل حدًّا.
فالنعمة التي فيه هي إبرازهُ من العدم إلى الوجود.
وخوفاً وطمعا حالان، ويحتمل أن يكونا مفعولاً من أجلهما، إذْ ليسا عنده فعلين لفاعل الفعل المعلّل في أن الله لم يخلق الشر ولا أراده، ونحن نجيز ذلك، ونقول: أراده وخلق في قلوب بَعضِنا الخوفَ منه، وفي قلوب آخرين الطمعَ فيه، والفَرْقُ بين إرادة الخوف وبين الخوف أنكَ تريد من زيد أن يخاف منك ولا تقدر على إيقاع ذلك به.
الزمخشري: يخاف المطر مَنْ يضرّه كالمسافر، ومن في جَرِينه التمر والزَّبيب، ومَن له بيت يقطر عليه، ومن البلاد من يتضررُ أهلُها بالمطر كأهْل مصر، فإنه يفسد عليهم أبنيتهم ونزولُ المطر فيها قليل جداً.
(يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى) .
انظر هل تارك الصلاة مستجيب لنُطْقِه بالشهادتين والظاهرُ أنه مستجيب
بالشهادتين فقط لا مطلقاً.
(يَسْتَحِبّون الحياةَ الدنيا) .
أي يختارونها على الآخرة.
والضمير عائد على الكفار، ومَنْ تشبَّه بهم في فعلهم يخاف عليه من اللحوق بهم في حبّه للدنيا وتفضيلها على الآخرة.
(يتَجَرَّعه ولا يَكاد يُسِيغُه) :
الضمير يعود على مَنْ أُدخل النار، يعني أنه يتكلف جرعه، وتصعبُ عليه إساغته، يعني بَلْعه، ونَفْي (كاد) يقتضي وقوعَ الإساغة بعد جهد.
(يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) :
قرئ بفتح النون وكسرها، وهما لغتان.
وفي هذه الآية دليل على تحريم القُنوط، ووصف القانط في
هذه الآية بالضلال، وفي سورة يوسف بالكفر، وكلاها بمعنى واحد، لأن سببه

(3/390)


تكذيب الربوبية، وجهل بصفات الله وقدرته، وماذا يزيد في ملكه أو ينقص
تعذيب الخلق كلّهم أو رحمتهم.
(يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ) :
المقصود بهذه الآية الاعتبار والنظر، ولذلك ابتدأها بقوله تعالى: (أولَمْ يَرَوْا إلى ما خَلَقَ الله من شيء) .
والرؤية بصرية بسبب تعديها بإلى، كما قال تعالى: (أفَلاَ ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) ، والإنكاز ليس هو لنفس الرؤية، بل للازمها.
وانظر هل وقع التوقيف بمجموع تفيّؤ الظلال وكونها سجداً لله، أو بكونها سجداً لله فقط، وهل قوله: يتفيّأ ظلاله حال أو صفة، ونظيره
قولك: ألم آتكَ بزيد العالم راكباً، وقوله: ألم آتك بزيد عالما راكباً.
والصواب الأول، لأن نفيها أمر حسّي مشاهد، وكونها سجداً للهِ لا يدْرَك بالمشاهدة، بل بالدليل العقلي.
وعلى هذا التأويل تكون الآية حجة لمن يقول: إنَّ العرض لا وجود له.
والمشهور عند المتكلمين أنه أمر وجودى، حكى القولين المقترح.
ووجة الدليل أنَّ الآية دلّت على أنَّ كل شيء مخلوق لله تعالى، وأن ظله
متفيّأ ساجد للهِ تعالى، والتفيّؤ من صفات الأجرام والذوات، والعَرض ليس
بذات، فليس بمخلوق للَه تعالى، وهذا كفْر، وإذا جعلنا يتفيأ صفة لشيء يكون المعنى أن كلَّ شيء موصوفٌ بالتفيؤ، فهو مخلوق للهِ، فأنكر عليهم عدمَ الاعتبار به حالَ سجوده، وقوله يتفيأ، أي يرجع إلى اليمين، أي يريد يمين الناظر إليه لأن الناظر إلى الظل أو النهار ينظر إلى جهةِ القبلة، حيث محلّ طلوع الشمس، فيكون الظلّ حينئذ عن يمينه، فلذلك بدأ باليمين، فالظلّ يرجع عن جهة اليمين إلى جهة الشمال، لأن " عن " تقتضي المجاوزة، فالمراد مجاوزَتُه جهةَ اليمين إلى جهة الشمال، والعكس.
فإن قلت: لم أفرد اليمين وجمع الشمال؟
فالجواب: بوجهين:
الأول أنَّ الظلّ حالة كونه عن يمين الناظر، وذلك أول النهار، يَأخذ في النقص، فكانت له جهة واحدة نقص عنها، وفي آخر النهار

(3/391)


يأخذ في الزيادة إلى الشمال والجهة التي طال ظلّه إليها لم تكن له قبل ذلك، وكلما زاد بعد إلى جهة يسار الناظر، فكأنّ تلك الزيادة بتكثرها واختلافها شمائل، بخلاف أول النهار فإنه لم يزدْ، بل نقص عن حدِّه الذي كان، فصار كأنه بعْض اليمين، فضلاً عن أن يكون أيمان.
الوجه الثاني أنَّ اليمين مأخوذ من اليمن، وذلك راجع إلى طريق الحق.
والشمال راجع إلى طريق الباطل بدليل قوله تعالى: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ) .
(وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ) .
وطريق الحقّ واحدةٌ وطرقُ الباطل متعددة، والآية دالَّةٌ على كمال التوحيد
لله عزّ وجل، لأن مذهبنا أنَّ الأعراضَ لا تبقى زمانين، فما مِنْ جوهر إلا وهو مفتقرٌ في كلّ زمن إلى أعراض يستمد بها، ولا بد لذلك مِنْ فاعل، ولا يصح تعدّد ذلك الفاعل لما تقرَّرَ في دلالة المانع.
فإن قلْتَ: هلا قيل: أولم يَرَوْا إلى ما خلق من شيء - فقط، ويكفي هذا في
الاعتبار، فإنَّ العبرةَ بالتفكر بالنظر إلى لقاح الشجرة التي في رؤية العين: عود يابس، وبروزُ الثمر منها والورق أقوى من العبرة بالنظر إلى ظلالها؟
والجواب: أنَّ الظلال إنما تنشأ عن ملاقاة نور جرم الشمس جرم الشجر
الكثيف المظلم.
ومذهبنا أنَّ الأجسامَ متساويةٌ في الحد والحقيقة، فلا فَرْقَ بين الشمس
والشجرة، فحجبت الشجرة بكثافتها وظلمتها نورَ الشمس، وما ذاكَ إلا
لتخصيص أوْجبه الله تعالى.
ولا بدّ لذلك من مخصِّص، ويستحيل تعدّده، فدلّ ذلك على أنه واحد.
قال الزمخشري: والسجود هنا الانقياد، وجعله متَنَاوِلاً للعاقل وغيره، لأنه
قال: أي يرجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما
سخرَها له من التفيؤ، والأجرام في نفسها صاغرةٌ منقادة لأفعال الله فيها،

(3/392)


وهذا مما يردّ به على من قال: إن صيغة أفعل للقَدْرِ المشترك بين الوجوب
والندب.
ويقول: إن القَدْرَ المشترك لا وجودَ له في كلام العرب، مع أن
الزمخشري أثبته هنا، واستعار هنا الأيمان والشمائل لأنهما في الحقيقة للإنسان.
(يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ) :
المعنى يريد وينظر هل يمسك الأنثى التي بشتر بها على هوَانِ وذل، أو يدفنها في التراب حيَّة، وهي الموءودة المذكورة في: (إذا الشَّمسُ كورت) .
(يَجْحَدونَ) :
يعني أن هؤلاء الكفار ينْكرون نعَم اللَهِ عليهم في جَعْلهم أزواجاً من أنفسهم زيادة في لذاتهم، وجعل للأنثى ما للذكر من الشهوة، ليكملَ مرادهم، ورزقهم من الطيبات، فهل ينْكِر هذا إلا مَنْ طبع على قلبه، لأنه يشاهدها.
فإن قلت: لم جمعت حواء في قوله تعالى: (والله جعل لكم مِنْ أنفسكم
أَزواجاً) ؟
والجواب اعتباراً بنسلها، وأطلق عليهم أزواجاً مجازاً، استعمالاً للفظ في
حقيقته ومجازه.
(يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) .
يعني السماوات والأرض والجبال.
وقيل: بل أحال فكرتهم على ما هو كبير عندهم، أي لو كنتم حجارةً أو حديداً أو شيئاً أكبر عندكم من ذلك وأبعد عن الحياة لقَدَرْنَا على بعثكم.
(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) :
الدعاء هنا عبارة عن النَّفْخ في الصور للبعث، والاستجابة عبارة عن قيامهم من القبور طائعين منقادين.
و (بِحَمْدِهِ) في موضع الحال، أي حامدين له.
وقيل معنى (بِحَمْدِهِ) أي بأمره.
(ينْقَضَّ) : وزنه ينفعل.
وقيل يفعل بالتشديد كيَحْمَرّ.

(3/393)


ومعناه يسقط، وإسناد الإرادة إلى الجدار مجاز.
ومثل ذلك كثير في كلام العرب، وحقيقته أنه قارب أنْ ينقضَّ.
(يَظْهَرُوه) :
الضمير يعود على السد، ومعناه يعلوه.
(يَفْرُط) : يُعَجّل بالشر.
(يُخَيَّلُ إليه مِنْ سِحْرِهم أنها تَسْعَى) :
استدلّ بعضهم بهذه الآية على أنَّ السِّحْر تَخْييل لا حقيقة.
وقال بعضهم: إن حِيَل السحرة في سعْي الحبال والعصيّ هي أنها حشَوْها بالزئبق، وأوقدوا تحتها ناراً، وغطوا النارَ لئلا يراها الناس، ثم وضعوا عليها الحبال والعصيَّ.
وقيل جعلوها معرضة للشمس، فلما أحس الزئبق بحرِّ النار أو الشمس سالَ وهو في حَشْو الحبال والعصي فحملها، فيخيّل للناس أنّها تمشي.
فألقى موسى عصاه فصارت ثعباناً ابتلعت ذلك كلَّه.
(يَبَسًا) .
أي يابساً، وهو مصدر وُصِفَ به، وإنما كان يابساً ليستطيعوا المرور عليه ويسرعوا فيه، فيذهب روعهم مِنْ لحوقِ فرعون لهم.
وأعظمُ من ذلك أنَّ الله فتح لهم في البحر طاقاتٍ ليرى مَنْ في هذا الطريق من
في هذا، فيتأنّسونَ لأنها كانت اثني عشر طريقاً، فسبحان مَنْ لا يُعْجزه شيء.
(يَتَخَافَتُون بَيْنَهم إن لبثْتم إلاَّ عَشْراً) :
يعني عشر ليال.
والضمير يعود على أهل القيامة فيسِرّ بعضُهم إلى بعض، ويقول: هل لبثتم إلا يوماً.
وقيل: يعني الْمُكْثَ في القبور.
والذي قال: إن لبثْتُم إلا يوماً أعلمهم بقلةِ الْمكْثِ فيها.
وفي الحقيقة فالدنيا والْمكْث في القبور كلَمْحِ البصر أو هو أقرب، ولذلك يقول تعالى في آية أخرى: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ) .
فإنّا للَه وإنا إليه راجعون على غَفْلتنا على ما يُراد بنا.
الدنيا كلها ساعة، وليس لك منها إلا النَّفَس الذي أنْتَ
فيه ة إذ كم مَنْ تنفَّس نَفساً فَفَجَأَة الموت قل النفس الآخر.
وسيظهر لك تحقيق ذلك إذا انْجَلَى الغبار.

(3/394)


(يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) .
أي يجعل الجبالَ كالغبار ثم يفرقها.
(يَمّ) :
قد قدمنا أنَّ المرادَ به البَحْر بالسريانية.
وقال ابن الجوزي بالعبرانية.
وقال شيذلة بالقِبطية.
(يرْكضون) :
الضمير يعود على الكفار، والمعنى أنهم يوم القيامة يَرْكضُون على أرجلهم تشبيهاً لهم بمَنْ يركض الدابّة.
فإن قلت: قد قدمتم أنهم يحشَرون على وجوههم؟
فالجواب أنَّ الملائِكة تسوقُهم بعصيٍّ من نار، فإذا رأوهم قاموا على أقدامهم
يركضون فراراً منهم، فتقول لهم الملائكة على وَجْه التهكم: لا تركضوا اليوم.
(يَدْمَغُه) .
أي يَقْمَعه ويبطله.
وأصله من إصابة الدماغ بالضرب، وهو مقتل.
(ينْشِرون) :
يعني أن الآلهة التي اتخذها المشركون لا يقدرون أَنْ يَنْشروا الموتى من الأرض، فكيف تدعونها بالآلهة.
والإله مَنْ له القدرة على الإحياء والإماتة.
(يَغوصونَ) :
يعني أن الشياطين كانت تدخل في الماء لاستخراج الجَوهر من البحار.
(يَنْسِلون) :
أي يسرعون.
ويقال مر الذئب ينسل ويعسل.
والضمير ليأجوج ومأجوج، أي يخرجون في كل طريق لكثرتهم.
وقيل لجميع الناس.
(يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) .
أي يُذَاب، وذلك أنَّ الحمِيمَ إذا صبَّ على رؤوسهم وصَلَ حَرّه إلى بطونهم، فأذاب ما فيها.
وقيل: معنى (يُصْهَرُ) ينضج بلسان أهل المغرب، حكاه شيذلة.

(3/395)


(يوْمٍ عَقِيم) :
يعني يوم بَدْر، لأنهم كانوا يظنون استئصالَ المسلمين، لأن الله قلّلهم في أعين الكفار.
وقد حضر فيها صنادِيد المشركين وشجْعانهم فأمكن الله منهم المسلمين، وكان يوماً عظيما، لأنها كانت أول غزوة أرعب الله بها الكفار وأرغمهم.
(يكادون يَسْطون) :
من السطوة، وهي سرعة البَطْش.
والضمير يعود على الذين كفروا.
ويُعْرَف ذلك في وجوههم بعبوسها وإعراضها.
(يجْأرون) .
أي يستغيثون ويصيحون.
والضمير راجع على المأخوذين بالعذاب، فإن أراد بهم قتالَ المتحرفين يوم بَدْر فالضمير في (يجْأرون) لسائر قريش، أي ناحوا على القتلى.
وإن أراد بالعذاب شدائد الدنيا أو عذاب الآخرة فالضمير لجميعهم.
(يَأْتَلِ) .
أي يحلف، فهو من قولك: آليتُ إذا حلفتُ.
وقيل معناه: يقصر، فهو من قولك: ألوت، أي قصرت، ومنه: (لا يألونكم خَبَالاً) .
ونزلت الآية بسبب مِسْطح، فإن أبا بكر كان ينْفِق عليه، فلما وقع في عائشة حلف أَلاَّ ينْفِقَ عليه، فعاتبه الله على عدم النفقة، وأمره برَدِّها.
وهذه أرْجَى آية في كتاب الله، لأن الله عاتب حبيبه على عدوِّه، وأمره بالعفو عنه.
(يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) .
مبالغة في وصف صفائه وحسنه.
(يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) .
أي يوقق الله مَنْ يشاء لإصابة الحق.
فهنيئاً لكَ يا محمدي على هدايتك وتوفيقك.
وكيف لا وقد سمّى اللَه الإيمانَ في كتابه بنحو الثلاثين اسماً، وهل ذلك إلا لعظمه، قال تعالى:

(3/396)


(اهْدِنا الصراط المستقيم) .
(ذلك الدِّين القَيِّم) .
(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)
الكلمة الطيبة: مثل كلمةٍ طيبة، (قولاً سديداً) .
(العرْوة الوثقى) .
(وكلمة الله هي العليا) .
(وجعلها كلمة باقية في عقبِه، (وألزمهم كلمةَ التَقوى) ، (وقال صواباً) ، (إنَّ الدِّين عند الله الإسلام) .
(إن الله يَأمر بالعدل والإحسان) .
(ولكن البِرَ من اتَّقَى) .
(من جاء بالحسنةِ) .
(هل جَزَاءُ الإحسان إلا الإحسان) .
(قُلْ أمر رَبِّي بالقِسط) ، (هو الذي أرسل رسولَه بالهدى ودِين الحق) .
(فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) .
(صبغة اللَه) ، (ملَّة أبيكم إبراهيم) ، (شهد الله) .
(يخافون أَنْ يَحيفَ الله عليهم) :
ضمير الفاعل يعود على الذين في قلوبهم مرض.
وضمير المفرد يعود على الله، وإنما أسنده إلى الرسول، لأنه يحكم بأمره وشَرْعه.
(يَتَسلّلُون) :
يخرجون من الجماعة واحداً واحدا، كقولك:
سللت كذا من كذا إذا أخرجته منه.
(فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) :
القائل لذلك هو الله عزّ وجل، والمخاطب المعبودون مع الله على العموم.
وقيل الأصنام خاصة.
والأول أرجح لقوله: (ثم يقولُ للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) .
وقوله: (أأنْتَ قُلْتَ للناسِ اتَّخِذوني وأمي إلهين من دون الله) .
و" أم " هنا معادلة لما قبلها.
والمعنى أن الله تعالى يقول للمعبودين: أأنتم أضْلَلْتُمُوهمْ أم هم ضلُّوا السبيل مِنْ تِلْقَاء أنفسهم

(3/397)


باختيارهم، ولم تضلوهم أنتم، ولأجل ذلك بَيّن هذا المعنى بقوله: (هم)
ليتحقق إسناد الضلال إليهم، وإنما سألهم الله تعالى هذا السؤال مع عِلْمِه بالأمور ليوبخ الكفارَ الذين عبدوهم.
(يكون لِزَاما) .
أي يكون العذاب ثابتاً، وإنما أضمره وهو اسْمُ كان، لأنه جزاء التكذيب المتقدم.
واختلف هل يكون العذاب هنا القَتْل يوم بَدْر، أو عذاب الآخرة.
(يَضِيقُ صَدْرِي) :
بالرفع عطفاً على أخاف، أو استئناف.
وقرئ بالنصب عطفاً على يكذبون.
(يوم لا يَنْفَعُ) ، وما بعده منقطع عن كلام إبراهيم، وهو من كلام الله تعالى.
ويحتمل أن يكون من كلام إبراهيم.
(يَنْبغي لهم وما يَسْتطِيعون) .
أي لا يستطيعون من الكهانة، لأنهم منعوا من استراق السمع مُذْ بعث نبينا - صلى الله عليه وسلم - ولا يقدرون عليه.
فكيف يقولون إن هذا القرآن كهانة تنزلَتْ به الشياطين.
ولفظة (ينبغي) تارة تستعمل بمعنى لا يمكن، وبمعنى لا يليق.
(يَهيمون) ، استعارة وتمثيل.
والمعنى أن الشعراء يذهبون في كل واد من الكلام الحقّ والباطل، ويفرطون في التجوّز حتى يخرجوا إلى الكذب.
(يسْتَصرخه) .
أي يستغيث بموسى.
وذلك أنه لقيه قاتلُ القبطي بالأمس يقاتلُ رجلا آخر من القبط، فاستغاث بموسى لينصره كما نصره بالأمس، فعَظُم ذلك على موسى، وقال له: (إنك لَغَوِي مُبين) .
(يَتَرَقَّبُ) .
أي يتحسس هل يطلبه أحد، لأنه شاع خبره من الإسرائيلي الذي قال له: (أتريد أنْ تقْتُلني كما قتلْتَ نفساً بالأمس) ، فلما

(3/398)


سمع القبطي ما قال الإسرائيلي انطلق إلى فرعون فأخبره بذلك، فأمر فرعون
بقَتْل موسى، ولهذا قيل: عدوٌّ عاقل خير من صديق جاهل، والإشارة فيه أن
موسى عليه السلام كان كريماً، والإسرائيلي لئيما، فلم ينظر موسى إلى لؤمه، ولكن عامَلَه بكرمه.
وأنْتَ يا محمديّ كيف يعاملك ربُّك، وقد أقررْتَ له بالوحدانية ولنبيِّه
بالرسالة، وقد أعطاء واصْطَفاك من غير سؤال منك، أحبَّك وأقرضك، وأسبغ عليك نِعَمَه ظاهرةً وباطنة، وأعذر إليك بقوله: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) ، ووَعدكَ بإجابتك.
فمَنْ أولى منك بالكرامة!
فإنْ قلت: كيف يستغيثُ الإسرائيلي بموسى وقد أراد موسى أن يبطش
بالقبطي الذي هو عدوّ لهما، ثم قال له: (أتريد أنْ تَقْتلني) ؟
والجواب: يحتمل أن الإسرائيلي لما رأى موسى يبْطش بالقبطي وهو غضبان
كغضبه بالأمس خاف أن يكونَ أراده، ولم يُرِده موسى.
أو لما رأى عَجْزَ موسى عن استصراخه لما صدر منه بالأمس مِن القتل فضَحه الإسرائيلي.
(يَأتَمِرُون بكَ ليقتلوك) :
لما أمر فرعون بقَتْلِ موسى أخبره مَنْ حضر عند فرعون، أو أخبره من سمع الخبر، وقال له: سمعتهم يتآمرون بك لما قتلت القبطي.
وخصت آيةُ القصص بتقديم الرجل في قوله تعالى: (وجاء رجل) ، لأن قبله: (فوجد فيها رجلين يَقْتَتِلان) .
وخصت سورة يس بالتأخير، لأنه كان يعبد الله في جبل، فلما سمع خَبرَ الرجل سَعى مستعجلاً.
وقد قدمنا أنَّ السعي من أوصاف الإسراع في قوله تعالى: (يأتِيْنَكَ سَعْياً) .
فانظره هناك.
(يُصْدِرَ الرِّعَاءُ) .
بضم الياء وكسر الدال فعل متعدٍّ.
والمفعول محذوف تقديره يصدر الرعاء مواشيَهم.
وقرئ بفتح الياء وضمِّ الدال، أي ينصرفون عن الماء.

(3/399)


(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ) :
روي أنَّ غلب الروم لفارس وقع يوم بدْر.
وقيل يوم الحدَيبية، ففرح المسلمون بنَصْر الله لهم على قريش.
وقيل: فرح المؤمنون بنصر الله لهم على الفرس، لأن الروم أهْل
كتاب، فهم أقرب إلى الإسلام، وكذلك فرح الكفّار من قريش بنَصْر الفرس على الروم، لأن الفرس ليسوا بأهل كتاب، فهم أقرَب إلى كفار قريش.
وروي أنه لما فرح الكفَّار بذلك خرج إليهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: إن نبينا - صلى الله عليه وسلم - قد أخبرنا عن الله أنهم سيغلبون، وراهنهم عشر قِلاَص إلى ثلاث سنين، وذلك قبل أن يحَرّم القمار، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " زِدهم في الرهن واستَزدْهم في الأجَل "، فجعل القلاص مائة والأجَل تسعة أعوام، وجعل معه أبيّ بن خلف
مثل ذلك فلما وقع الأمر على ما أخبر الله به أخذ أبو بكر القلاص من ذرية
أبيّ بن خلف، إذ كان قد مات، وجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فتصدّق بها.
(يَرْبُو) : يزيد.
وقدمنا أن عقوبة الربا مَحْق المال، ومحاربة الله والكفر، والخلود في النار.
وقيل: إن شرب الخمر، وأكل الربا، وأموال اليتامى، وتَرْك الصلاة، والزنى يُخَاف على صاحبها من سوء الخاتمة.
وهذا كله موجود في كتاب الله.
اللهم إني أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رَبّ أن يحضرون.
(يومئذِ يصَّدَّعون) :
من الصدع، وهو الفرقة، أي يتفرقون: فريق في الجنة وفريق في السَّعِير.
(يَمْهَدون) :
يوطئون، وهو استعارةٌ من تمهيد الفِرَاش ونحوه.
والمعنى أنهم يفعلون ما ينتفعون به في الآخرة.
(يخرج من خِلاَله) .
أي يخرج المطر من شقاق السحاب الذي بيْنَ بعضه وبعض، لأنه متخلّل الأجزاء.
(يؤفكون) .
أي مثل هذا الصرف كانوا يصرفون في الدنيا عن الحق.
والتحقيق حتى يروا الأشياء على غير ما هي عليه.

(3/400)


(يوم البَعْث) :
تقرير لهم، وهو في المعنى جوابُ الشرط مقدر، تقديره إنْ كنتم تنكرون البَعْثَ فهذا يومُ البعث.
(يستَخِفَّنك) :
من الخفة، أي لا تضطرب لكلامهم، واصبر، ما وعدك الله به من النصر فعن قريب يكون.
(يستَعْتَبون) .
من الْعُتْبى، بمعنى الرضا، أي لا يرضون، وليس استفعل هذا للطلب، ويفهم من هذا أن المؤمن يستعتب، أي يطلب منه الْعُتْبى، وقد قدمنا أنَّ الله قال: لولا أني أحبّ العتابَ ما حاسبْتُ أمتك.
وقال بعضهم:
تَبَادَلْنَ العتابَ على ارتياب ... وصَفْوُ الوُد يُعْرَفُ بالعتابِ
(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) .
أي واحد الأمور.
وقيل: المأمور به من الطاعات.
والأول أصح.
(يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) :
قال ابن عباس: المعنى ينفِّذُ الله قضاءه من السماء إلى الأرض، ثم يَعْرج إليه خَبَرُ ذلك في يومٍ من أيام الدنيا مقداره، لو سِير فيه المسيرُ المعروف من البشر، ألف سنة، لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة، فألف ما بين نزول الأمر إلى الأرض وعروجه إلى السماء وقيل: إنَّ الله يُلقي إلى الملائكة أمورَ ألفِ سنة من أعوام البشر، وهو يَوْم من أيام الله، فإذا فرغتْ ألقى إليهم مِثْلَها، فالمعنى أنَّ الأمور تنفذ عنده لهذه المدة، ثم تصير إليه آخراً! لأن عاقبةَ الأمورِ إليه، فالعروج على هذا عبارة عن مصير الأمورِ إليه.
(يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) :
قد قدمنا أنَّ اسمه عزراييل، وبين يديه ملائكةٌ، مِنْ تَوَفي العدد واستيفائِه.
والتوفي من الله الإذن في قبض الأرواح، ومن الملائكة نزْع الروح، ومن ملك الموت القبض، ومن الرسل معاونة ملَك الموت، وبهذا يتَّضِحُ لك الْجَمْعُ بين الآيات الثلاث.

(3/401)


(يَثْرِبَ) :
مدينة الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، وسُمّيَتْ به حكاية عن
المنافقين، وكان اسمها في الجاهلية، فقيل لأنها اسم أرْض هي في ناحيتها.
وقيل سُميَتْ بِيَثْرب بن مهلائيل من بني إرم بن سام بن نوح، لأنه أول مَنْ
نزلها.
وقد صحَّ النَّهْى عن تسميتها به، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يكره الاسْمَ الخبيث، وهو يُشعر بالتثريب، وهو الفساد، أو التثريب، وهو التوبيخ.
ومنه: (لا تَثْرِيبَ عليكم الْيَوْمَ يَغْفِر الله لكم) .
وقوله: (اليوم) راجع إلى ما قبله، فيوقف عليه.
وهو يتعلق بالتثريب أو بالمقدر في (عليكم) من معنى الاستقرار.
وقيل: إنه يتعلق بـ (يَغْفر) ، وذلك بعيد، لأنه تحكُّم على الله، وإنما
يغفر دعاء، فكأنه أسقط حقَّ نفسه بقوله: (لا تَثْريب عليكم اليوم) ، ثم دعا إلى الله أنْ يغفر لهم حقَّه.
(يَقْنُت) :
بالياء حملاً على لفظ من.
وقرئ بالتاء حملاً على المعنى وكذلك (تعمل) .
والقنوت هنا بمعنى الطاعة.
(يومَ تُقَلَّبُ وجوهُهم في النار) .
العامل في (يوم) قوله: (يقولون) ، أو (لا بجدون) ، أو محذوف.
وتقليبُ وجوههم تصريفُها في جهاتِ النار كما تدورُ البضعة في القلب إذا
غلَتْ من جهة إلى جهة، أو تغيرها عن أحوالها.
(يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) :
معنى (مُزِّقْتُمْ) أي بَليتم في القبور وتقطعت أوصالكم، و (كُلَّ مُمَزَّقٍ) مصدر.
(والخلق الجديد) ، هو الْحَشْر في يوم القيامة والعامل في " إذا " معنى (إنكم لفي خَلْق جديد) معمول يُنبئكم، وكسرت إن لللام التي في خبرها، ومعنى الآية أنَّ ذلك الرجل يخبركم أنكم تُبْعَثون بعد أنْ بَليتم في الأرض، ومرادهم استبعاد الحشر.
(يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) .

(3/402)


الضمير للكفار المنكرين للبعث، وجعل السماء والأرض بين أيديهم وخَلْفهم، لأنهما محيطتان بهم.
والمعنى ألم يَرَوْا إلى السماء والأرض فيعلموا أن الذي خلقهما
قادر على بعْث الناس بعد موتهم.
ويحتمل أن يكون المعنى تهديدا لهم، لأنه فسره بقوله: (إنْ نَشَاْ نَخْسِفْ بهم الأرض أو نُسْقِطْ عليهم كِسَفاً من السماء) .
(يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) :
الضمير لداود، تقديره: قلنا يا جبال.
والجملة تفسير للفضل.
ومعنى أوّبي سبِّحي، وأصفه من التأويب بمعنى السَّير بالنهار، وقيل كان ينوح فتسعده الجبال بصَدَاها.
(وَالطَّيْرُ) بالرفع عطف على لفظ (يَا جِبَالُ) ، وبالنصب عطف على موضع (يَا جِبَالُ) .
وقيل: هو مفعول معه.
وقيل عطف على (فضلاً) .
(يَبْسط الرزْقَ لمن يشاء ويَقْدر) .
أخبار تتضمن الردَّ على قولهم: (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا) .
لأنَّ بسْطَ الرزق وقبْضه في الدنيا متعلق بمشيئة الله، فقد يوسع الله على الكافر والعاصي، ويضيق على المؤمن والمطيع، وبالعكس.
وقد حكي أن مدينة ببلاد السودان إذا ملكها المسلمون صار أرْضها
ترابا، وإذا ملكلها الكفار صار أرضها تِبْراً، فأسلمها المسلمون للكفار على
إعطاء الجزية، وهذا ليس بعَجيب، إذ لو كانت الدنيا تزنُ عند الله جناحَ
بعوضة ما سقي كافرٌ جَرْعة ماء.
والمقصودُ منها التقوّت لما يوصل إلى الآخرة.
وحكى وهب بن منبه أنَّ ملكين التقيا في السماء الرابعة يهبطان إلى الأرض، فقال أحدهما للآخر: إن الله أمرني أنْ أوصل الحوتَ الفلانيّ لليهوديّ الفلاني
لأنه اشتهاه.
فقال الآخر: وإن العابد الفلاني يصوم وأراد إفطاره على الخبز
والزيتون، وأمرني أن أهْبِط له.
فانظر هذا، فإنَّ تيسير الشهوات ليس من أسباب السعادة، وإن الله ليذود وليَّه عن الدنيا ويحميه عنها لئلا يشتغل بها،

(3/403)


(ولولا أنْ يكونَ الناس أمَّة واحدة) .
ونحن قد بُسط لنا فيها، وتمتّعْنَا بها، فانظر عاقبتَنا بِمَ تكون!
فإن قلت: ما فائدة تكرار هذه الآية، وإبراز (من عباده) في الثانية من
سورة؟
والجواب: أنَّ الله كرّرها لاختلافِ المقاصدِ، والرد على الكقار في أقوالهم.
وترغيب المؤمنين في الإعراض عنها والرجوع إلى مَنْ بيده مقاليدها.
وأبرز الضمير في ثانية سبأ ترغيباً لعباده في إنفاقها والخروح منها، وسلاّهم بوعده بالخلف، وأنهم إن خرجوا عنها يخلفه لهم، ووَعْده حق، ولهذا أشار عليه السلام بقوله: " ما نقص مالٌ من صدقة ".
فإن قلت: قد وجدناه ينقص في العَدد؟
والجواب أنه ليس بنقص، لأنه لا يأتي عليه إلا أيام قلائِل فيعود أكثر مما
كان، وهذا مشاهدٌ.
وقد يكون الخلف من حيث لا يظنّ.
وقد يكون بالثواب المدَّخر أو بتكفير السيئات، كما قال تعالى: (إن تبْدُوا الصدقات) الآية.
أو بالطهارة، كما قال: (خُذْ مِنْ أموالهم صدقة تطَهِّرهم) ، والإضعاف، قال تعالى: (الذين يُنْفِقُون أموالَهم في سبيلِ الله) .
والقَبول: (هو يَقْبَلُ التوبةَ عن عباده ويأخذ الصدقات) .
وقد جعل الله جميعَ الطاعات على ثلاثة أقسام: جعل على اللسان التوحيد
والذكْر والاستغفار والدعاء، وثوابها عشر أمثالها.
وعلى المال الصدقة والزكاة والنفقة، وثوابُها واحد لسبعمائة.
وعلى القلب الصبر والقناعة والشكر والرضا، وثوابُها بغير حساب.
(يَقْذِفُ بالحق) :
القذف: الرَّمْي، ويستعارُ للإلقاء، فالمعنى يلقي الحقَّ إلى أنبيائه، أو يرمي الباطلَ بالحق فيذهب، ولذلك قال:

(3/404)


(وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ) ، فنفى الإبداء والإعادة عبارة عن أنه
لا يفعل شيئاً ولا يكون له ظهور، أو عبارة عن ذهابه.
(يَقْذِفون بالغيْبِ مِنْ مكان بَعيدٍ) .:
معطوف على (كفروا) .
والمعنى أنهم يرمون بظنونهم في الأمور المغيبة، فيقولون: لا بعث ولا جنّة ولا نار.
ويقولون في الرسول عليه الصلاة والسلام:
شاعر أو ساحر، والمكان البعيد هنا عبارة عن بطْلان ظنونهم وبُعْد أقوالهم عن
الحق.
(يَزِيدُ في الْخَلق ما يشاءُ) :
قيل حسن الصوت.
وقيل حسن الوجه.
وقيل حسن الَخطِّ.
والأظهر أنه يرجع إلى أجنحة الملائكةِ، أو يكون على الإطلاق في كل زيادةٍ في المخلوقين.
(يسر) .
بفتح الياء والسين: الرجل الذي يشتغل باليسر، وجمعه أيسار.
وهو القِمَار في النَرْدِ والشطرنج وغير ذلك.
وهو مأخوذ من يسر لي كذا إذا وجب.
وقد قدمنا أن مَيْسر العرب عشرة أقداح، وهي الأزلام لكل واحد
نصيب معلوم من ناقة يجَزّئُونَها عشرة أجزاءٍ، ثم يدخلون الأزلام في خريطة
ويضَعونها على يدي عدل، ثم يدخل يده فيها، فيخرج باسم كل رجل قدحاً، فمن خرج له قدح له نصيب أخذ ذلكَ النصيب، ومن خرج له قدح لا نصيبَ له غرم ثمنَ الناقةِ كلها.
(يَحِيقُ) : يحيط.
(يس) : من أسمائه - صلى الله عليه وسلم -، ومعناه يا إنسان، بلسان الحبشة، قاله ابن عباس.
وقال سعيد بن جُبير: يا رجل، بلغة الحبشة.
(يَخِصِّمُون) :
أصلُه يختصمون ثم أدغم، ومعناه يتكلمون في أمورهم.
وقرئ بفتح الخاء وكسرها واختلاس حركتها.
(يَحِقَّ القَوْلُ على الكافرين) .
أي يجبُ عليهم العذاب.

(3/405)


(يَسْتَسْخِرُون) :
معناه يسخرون، فيكون فعل واستفعل بمعنى واحد.
وقيل معناه يستدعي بعضُهم بعضاً لأنْ يسخر.
وقيل: يبالغون في السّخْرِية.
(يَقْطين) :
كل شجر لا يقوم على ساق كالقرع والبطيخ ونحوهما.
والمعنى أنَّ الله أنبتَ على يونس لما خرج من بَطْن الحوت القرع
يظله من حَرّ الشمس.
وقد كان رق جلْدُه، وكانت الذباب تؤذيه.
والسرُّ فيه أن ورقَه كبير، ومسّه فيه لين، والذباب لا يقربه، ولذلك قال النقاش: إن من رش بمائه البيت لم يقربه الذباب.
فهذه شجرةٌ منَعَتْ يونس من الإذاية، أفلا تمنَعُ يا محمدي شجرةُ الإيمان من
إذاية الشيطان، وينجيك بركتها من الدخول في النيران، وفي الخبر: لما صَحَّ
يونس، ورجع إلى قومه، وجد الشجرة قد جفّتْ فاغْتَمّ لذلك، فأوحى الله
إليه: اغتممْت على شجرة يبست ولم تغْتَمَّ على هلاك مائة ألف أو يزيدون! (1) .
فلذلك أمر الله نبيّه بالصبر على أمته، والدعاء لهم، فقال: اللهم اغفر لهم فإنهم لا يعلمون.
هؤلاء دعا لهم، واعتذر عنهم، وقد عصوه، وكسروا رباعيته، وشَجُّوا
وجهه، كيف لا يغتم للمصلّي عليه وذاكره وكل ساعة بالسلام عليه.
وقد أمره الله بألاَّ يكون كصاحب الحوت في الفرار من قومه، يعني تفارق
أمتك حين ينزل العذاب عليهم، فقال: رب عامِلْهم بخلاف ما تعامل به الأمم، فأنزل الله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) ، بالْخَسف والمسخ، والريح والصواعق، فقال: اللهم إني أعوذ بوجهك من ذلك، فرفع الله عنهم العذابَ وهم كفار ومنافقون، أفَلا يرفَعه عنك يا محمديّ وأنتَ مؤمن به ومصدِّق له! اللهم بحرمته لدَيْكَ لا تحرمنا رؤيته في الدنيا والآخرة.
(يَزِفونَ) ، أي يسرعون.
وقرئ بضم الياء ونصب الزاي، أي يصيرون إلى الزفيف.
__________
(1) لا يصح ولا يثبت.

(3/406)


(يستَمِعُون القولَ فيتّبعُون أحْسنَه) :
يعني يستمعون القولَ على العموم فيتبعون بأعمالهم أحسنَه، من العفو الذي هو أحسنُ من الانتصار، وشِبْه ذلك.
وقيل: هو الذي يسمع حديثاً فيه حسَنٌ وقبيح، فيحدّث بالحسن
ويكفُّ عما سواه.
وهذا قول ابن عباس، وهو الأظهر.
وقال ابن عطية: هو عام في جميع الأقوال.
والقَصْدُ الثناء على هؤلاء ببَصَرٍ ونظر سدِيد يفرِّقون به بين الحق
والباطل، وبين الصواب والخطأ، فيتبعون الأحسن من ذلك.
(ينابيع) :
جمع ينبوع، وهو العين.
(يهيج) :
ييبس، لقوله: (فتراهُ مُصْفَرًّا) .
(يُرِيكم آياتِه) :
يعني العلامات الدّالة على مخلوقاته ومعجزات رسله.
(يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) .
من أعظم آيات الرجاء، لسؤال الملائِكة لهم بالرحمة والجنّة.
فإن قلت، حَمَلَةُ العرش والملائكة كلهم مؤمنون به سبحانه، فما فائدة
الإخبار بقوله: (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ؟
والجواب: إظهاراً لفضيلة الإيمان وشرَفه، والترغيب فيه، كما وصف الأنبياءَ في غير ما موضع من كتَابهِ بالصلاح، كقوله: (ونَبِيّا من الصالحين) .
ومعلوم أن الأنبياء من أهل الإيمان والصلاح، وكما أعقب أعمالَ الخير بقوله: (ثم كان مِنَ الذين آمَنُوا) ، فأبانَ بذلك فَضْل الإيمان.
وقد ذكر الزمخشري أن فيه فائدةً أخرى، وهي أنَّ معرفة حملة العرش بالله تعالى من طريق النظر والاستدلال كسائرِ الخلق لا بالرؤية، وهذه نزعةٌ منه إلى مذهب المعتزلة في استحالة رؤْية الله تعالى.
وتأمَلْ يا محمديّ إلى عظيم التناسب المرعيّ بين قوله: (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ،

(3/407)


(وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) تجد فيه تنبيهاً على أن الاشتراكَ في الإيمان يجبُ
أن يكون أدْعى شيءٍ إلى النصيحة، وأبعثه على إمْحَاض الشفقة، وإن تفاوتت الأجناسُ، وتباعدت الأماكن، فإنه لا تجانس بين ملك وإنسان، ولا بين سماوي وأرضيّ قطّ، ولما جمع الإيمان جاء معه التجانس الحقيقي، والتناسب الكلّي، حتى استغفر مَنْ حَوْلَ العرش لمَنْ في الأرض مع عظم أجرامهم وقُوّتهم، قال - صلى الله عليه وسلم -:
" أذِنَ لي أن أحدِّث عن ملك من حَمَلة العرش بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة
سبعمائة سنة ".
فانظر يا محمديّ ما أعظم قيمتك! الأنبياء والملائكة يستغفرون، ونبيّك أمر
إخوانك بالاستغفار لكَ، قال:
" من استغفر لوالديه وللمؤمنين والمؤمنات كل يوم خمساً وعشرين مرَّة أو سبْعا وعشرين - أحد العدديْن - كان من الذين يُسْتجَاب دعاؤهم، ويرزق بهم أهْلُ الأرض ".
ودعاء الأبدال أنْ تقول بعد كلَ صلاة:
اللهم أصْلح أمَّةَ محمد، اللهم ارحم أمةَ محمد، اللهم فَرج عن أمة محمد، اللهم اغفر لأمَّة محمد، ولجميع مَنْ آمن بك.
ولما دحا الله مبسوطَ بساطِ الأرض، ومهَّدَ مِهَادَها لترتيب المكونات فَخَرتْ
عليها السموات، فنكست رأس الانكسار، ومدَّت يدَ الاستعطافِ إلى عين الجود، فجادلها بقَطْعِ حجة مَنْ جادلها:
(يا سماء) :
إنْ كنت فخرتِ بالشمس لظهور الموجودات، فأين مثل شريعةِ نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - في ظهور الغَيْب، شمْسُ السماء لها
أفول، وشمس شريعةِ محمدٍ ليس لها أفول.
وإن افتخرت بحسن القمر ونوره فأينك من حسن سُنَنِه المشرق ونوره إذا
كُسِفت شمسك، وخسف قمرك، فالشفاعة من أهل الأرض، والشافعُ أفضلُ من المشفوع فيه.
وإن افتخرتِ بالنجوم للاهتداء فنجومُ الصحابة معلومة للاقتداء على مقعد

(3/408)


صدق، إن كان من النجوم رجوم للشياطين! فعُمر فقأ عين الرئيس إبليس.
وشهب إيمانه توفيه فترميه فلا يسلك عمر فَجًّا إلاَّ هرب منه إبليس.
وإن فخرتِ باللوح المحفوظ فَلوْح الغيب يكتب بيد الخالق، كتب في
قلوبهم الإيمان.
وإن فخرت بسعة الكرسيّ فأين هو من سعةِ: وسعني قَلْبُ عبدي المؤمن.
وإن فخرت بنفخ إسرافيل للأرواح لإحياء الأجساد فأين أنْتِ من نفخةٍ
حَيِيت بها القلوب إلى يوم التَنَاد.
وإنْ فخرت بعلو مَنْ في العلو من الأملاك فقصيدة الاقتصاد أشهر من " قفَا
نَبْكِ ".
هذا عزرائيل كان إمام المقربين فتنفَّس بنفس فسقي كأس أسف.
هاروت وماروت، استعير لهما شهرة الشهرة فجرى ما جرى، وعند جهينة الخبر اليقين، فكيف بمن عجنت بها طينة تركيبه، وعقل عَقْله بعقال الهدى!
وإن فخرت بالصافّين المسبحين، فكم على أرض الدّجَا من أمة قائمة، كم في
رواشن الأسحار من سمّار المستغفرين.
وإن فخرت بشفقة ميكائيل وحيائه، فكم حيى أحياء بشفقة أبي بكر
وأحبائه.
وإن فخرت بقوَّةِ جبريل وإقدامه فأينك من قوة عمر وإقدامه يوم قال:
واللَه لا يُعْبَد الله سرًّا بعد اليوم، فسرى نحو الكعبة، فسُرِّي عن الإسلام غُمة الغم.
وإن فخرتِ بنزول القَطْرِ لإحياء مَوَات النبات، فأين أنْتِ من سواكب
العبرات لإحياء القلوب الموات، فكم صدرٍ شرح للإسلام، فهو أوسع من سِدْرَة المنتهى.
وإن افتخرتِ بأنَّ الجنة فيك فقد اشتاقت إلى تسليم سلمان إذا تمهد ملك

(3/409)


الجنة للساكن، فالملائكةُ خدّام يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم
ليحظَوْا بحظ الردّ، إنما علا قَدر الْمُقربين لما أطلق لهم من ديوان الخاص والعام، (ويستغفرون للذين آمَنوا) .
وإنْ فخرْتِ بالعرش والطائفين، فأين أنت من البيت والطائفين ما في زاوية
العَرْشِ حَجَر سوّد بالسؤدد أدرج في درجة درج الميثاق.
يوم السبت لما أهبط آدم بمنشور الولاية إلى الأرض مُهِّدت له دار المملكة قبل الوصول، وزينت حرمة الحرم للحرمة والإحرام باب الاستغاثة، وعرفات باب دخول المَسائل لنيل الوسائل، فلما ئني البيتُ أذِن الله لخليله عليه السلام بالأذان على صوْمعة أبي قبيس بتأذين، وأذّن قال: يا ربّ، وأين يبلغ أذاني، قيل: يا إبراهيم منك الأذان وعلينا البلاغ.
فلما دنا النداء من باطن الحجر أوقع من وقع له يوم: (ألستُ بربكم) بفيض
المبلّغ، فتزاحموا على باب الإجابة، شعارهم لبَّيْكَ اللهم لبَّيْكَ!
فإن قلت: كيف يصح أن يقال: (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ) ؟
فالجواب أنَّ الرحمة والعلم هما اللذان وسعا كل شيء في المعنى، والأصل وسع
كلَّ شيء رحمتُك وعلمك، ولكن أزيلَ الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى
صاحب الرحمة والعلم، وأخرجا منصوبين على التمييز، لا إغراق في وصفه
بالرحمة والعلم، كأنَّ ذاته رحمة و3علم ويسعان كل شيء، وهذا نحو قولهم: تفقأت شحماً، وتصببت عَرقاً.
فإن قلت: قد ذكر الرحمة والعلم فوجب أنْ يكونَ ما بعد الفاء مشتملاً على
حديثهما جميعاً، وما ذكر إلا الغفران وَحْده؟
والجواب: فاغفر للذين علمْتَ منهم التوبة، واتباعَ سبيلك.
فإن قلت: ما الفائدة في استغفارهم لهم وهم تائِبون صالحون مَوعودون
بالمغفرة، واللَه لا يُخْلف الميعاد؟

(3/410)


قلت: هذا بمنزلة الشفاعة، وفائدتُه زيادةُ الكرامةِ والثواب.
فإن قلت: هل قيدت هذه الآية الآية المطلقة في حم عسق، وهي قوله:
(ويستَغْفِرُون لمنْ في الأرض) ، لأنه معلوم أنَّ الملائِكة
صلوات الله وسلامه عليهم لا يستغفرون لكافر؟
والجواب: يحتمل أن يكون استغفارهم لهم بمعنى طلب هدايتهم والمغفرة لهم
بعد ذلك، كما استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه، واستغفار نبينا للمنافقين، ولما تقدم هذه الآية: (غافِرِ الذَّنْبِ وقَابِلِ التَّوْب) ، ناسب استغفارَ
الملائكة للمؤمنين منهم، يَشْهد لهذا قوله بعده (فاغْفِرْ للذين تَابُوا) .
ولما تقدم آية الشورى: (تكاد السموتُ يتَفَطَّرْن من فوقِهنّ) ، ناسب استغفارَ الملائكة لمن في الأرض لإبقاء الستر، إذ لا يفوتونه.
وقد يُؤْمن مَنْ سبقت له السعادة منهم.
(يُرِيكم آياته) :
هذا عموم بعد ما قدم من الآيات المخصوصة، ولذلك وبَّخهم بقوله: (فأيَّ آياتِ اللَهِ تنْكرون) .
(تكاد السماوات يَتَفَطَّرْنَ من فَوْقهن) ، أي يتشقَّقْن من
خوف الله وتعظيم جلاله.
وقيل من قول الكفار: (اتَّخذَ الله ولداً) ، فهي كالآية التي في مريم.
قال ابن عطية: وما وقع للمفسرين من ذكر الثقل هنا مردود، لأنَّ الله تعالى
لا يوصَف به.
فإن قلت: لو أراد تشقّق السماء من قوْلِ الكفار لقال مِنْ فوقهم، وما وجْه
اتصال التسبيح والاستغفار من الملائكة بهذه الآية؟
والجواب: أن المعنى تشقق السماوات من أعلاهن، وذلك مبالغة في التهويل.
وقيل الضمير للأرضين، وهذا بعيد.
وقيل للكفار، كاْنه قال من فوق الجماعات
الكافرة التي من أجل أقوالها تكاد السماوات تتَفَطرْن.
وهذا أيضاً بعيد.

(3/411)


ووَجْه تسبيح الملائكة تعظيم للهِ تعالى من تشقق السماوات من عظمته وجلاله، أو مِنْ كفْر بني آدم فينزهون الله من ذلك.
(يوم الجَمْعِ) :
قد قدمنا أنَّ هذا من أسماء يوم القيامة، لأنه يوم يجمعون فيه الأولون والآخرون في صَعِيدٍ واحد.
(يَذْرَؤكم فيه) .
أي يخلقُكم نسلاً بعد نَسل، وقَرْناً بعد قرن.
وضمير المجرور يعود على الجعل الذي تضمّنه قوله: (جعل لكم) ، وهذا كما تقول: كلمت زيداً كلاماً أكرمتُه فيه.
وقيل الضمير للتزويج الذي دلّ عليه قوله: (أزواجاً) .
وقال الزمخشري: تقديره يَذْرَؤكم في هذا التدبير، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجاً، غلب فيه العقلاء على غيرهم.
فإن قيل: لِمَ لمْ يقل يذرؤكم به؟
فالجواب أنَّ هذا التدبير جعل كالمنبع والمعدن للبث والتكثير.
(يُحَاجُّونَ في الله) :
أي يجادلون المؤمنين في دِين الله، يعني كفَّارَ قريش.
وقيل اليهود.
(يسْتَعْجِلُ بها) .
أي يطلبون تعجيلَها استهزا: بها، وتعجيزًا للمؤمنين.
(يُمَازونَ) :
يجادلون ويخافون.
(يرْزُق مَنْ يَشَاءُ) .
أي الرزق المضمون الزائد لكل حيوان، فإن الرزقَ الذي تقوم به الحياة على العموم لكل حيوان طولَ عمره، والزائد خاص بمن شاء الله.
(يَخْتِمْ على قَلْبِك) :
في المقصد بهذا قولان:
أحدهما أنه ردّ على الكفّار في قولهم، (افْتَرى عَلى الله كَذِباً) ، أي لو

(3/412)


افتريت على الله كذباً، يختم على قلبك، لكنّك لم تفتر عليه كذباً فقد هداك
وسدّدك، والآخر أنَّ المرادَ إنْ يشأ الله يختم على قلبك بالصبر على أقوال الكفار واحتمال أذاهم.
(يَمْح الله الباطل) :
هذا فعل مستَأنَف غير معطوف على ما قبله، لأن الذي قبله مجزوم، وهذا مرفوع فيوقف على ما قبله، ويبتدأ به.
وفي المراد به وجهان:
أحدها أنه مِنْ تمام ما قبله، أي لو افتريت على الله كذباً بالْخَتْم على قلبك ومَحْو الباطل الذي كنْتَ تفتريه لو افتريته.
والآخر أنه وَعْد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يمحو الله الباطلَ وهو الكفر، ويحقّ الحق وهو الإسلام.
(يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) :
أي من عباده.
وقبولُ التوبة من الكفر مقطوع بها، ومِن مظالم العباد فهي متوقّفة حتى يردَّها لأهلها أو يستحلّ منها، ومن المعاصي التي بين العبد وبين الله فيُرْجى أنها مقبولة لهذه الآية.
وقيل هي في المشيئة، وهو أكرمُ أنْ يقول له العبد: رجعت، فلا يقول
له: قبِلْت.
وقد قدمنا مِراراً شرطَ التوبة وصحةَ قبولها.
وفي بعض كتبِ الله المنزلة: وعزَّتي وجلالي، وارتفاعي في علوّ مكاني.
لأقطعنَّ أمَل كل مؤَمل أمّل غيري باليأس، ولألْبِسنَّه أثوابَ الذلة بين الناس.
ولأقصِيَنه من قُرْبي، ولأباعِدَنّه من حوضي، أيؤمّل غيري في الشدائد.
والشدائد بيدي، وأنا الحيُّ ويرجو سواي، ويطرق بالذكر باب الغير ومفاتحُ
الأبواب بيدي، وبابي مفتوح لمَنْ دَعاني، من الذي دعاني فلم أجبه، مَنِ الذي استغفرني فلم أغفر له، من الذي رجع إليَّ فلم أقبله، مَن الذي دعاني لنوائِبه فقطعتُ به دونها، مَنِ الذي رجاني لعظيم جرمه فأقطع رجاء له، من الذي قرع بابي ولم أفْتَح له، جعلتُ آمالَ عبادي متصلة بي فقطعوها، وجعلت أرجاءهم مذخورةً عندي فلم يرضوا بحفْظِي، وملأت سمائي ممَّنْ لا يملون من ذكري، وأمرتهم ألاَّ يُغْلِقُوا الأبوابَ بيني وبين عبادي فلم يثق الآدميون بقولي!
ألا يعلم من طرقَتْه نائبةٌ من نوابي أنه لا يملك كَشْفَها إلا من بعد إذني!

(3/413)


مالي أرى عَبْدي معرضاً عني أعطيه بجودٍ فلم يسألني، ثم انتزعْتُه منه فلم يسألني ردّه!
أفتراني أبتدئ بالعطية قبل المسألة، ثم أسأل فلا أجيب!
يا سائلآ غيري، أبخيل أنا فيبخِّلني عَبدي! أليست الدنيا والآخرة لي، أليس الكرم والجود لي، أليس الرحمة والفضل لي، أنا محلّ الآمال، من يعْطيها دوني، وما عسى أن يؤمل المؤملون لو جمعتُ أهْلَ سائي وأرضي، ثم أعطيتُ كلً واحد منهم ما أمل الجميع ما نقص مِنْ ملكي، وكيف ينقص ملك أنا فيه! فيا بُؤْسَ للقانطين مِن رحمتي، ويا بؤس لمَنْ عصاني، وتوثَّب على محارمي، ولم يسْتَحِ مني!
اللهم إني لم أسْتح منك، وبارزتُ بالعظائم، لكن رجائي فيك قويٌّ، وتوسلتُ إليك بجاهِ النبي الأميّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
(وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) :
العفو مع التوبة على حسب ما ذكرنا.
وأما العفو دون تَوْبة فهو على أربعة أقسام:
الأول: العَفْو عن الكفر، فلا يكون أصلاً، وعن مظالم العباد فلا يكون إلا لبعض خواص عباده، وعن الصغائِر إذا اجتنبت الكبائر، فهو حاصل بحسب وَعْده الصادق.
وعن الكبائرِ فأهل السنَّة أنه في المشيئة، وأهل البدعة على عدم غفْرانها، وقد أخطأوا لنَصِّ الآية والحديث.
(يَسْتَجِيبُ الذين آمَنوا) :
قيل يجيب.
و (الذين آمنوا) مفعول، والفاعل ضمير يعود على الله، أي يجيبهم فيما يطلبون منه.
وقال الزمخشري: أصله يستجيب للذين آمنوا، فحذفت اللام.
وقيل إن معناه يجيب.
والذين آمنوا فاعل، أي يستجيب المؤمنون لربهم باتِّباع دينه.
وقيل إن معناه يطلب المؤمنون الإجابةَ من ربهم، واستفعل على هذا
على بابه من الطلب.
والأول أرجح، لدلالة قوله: (ويَزِيدهم من فَضْلِه) ، أي يزيدهم ما لم يطلبوا زيادة على الاستجابة فيما طلبوا، وهذه الزيادة صَحّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنها الشفاعةُ والرضوان.

(3/414)


(يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا) .
قيل لعمر رضي الله عنه: اشتدَّ القَحْط، وقنط الناس، فقال: الآن يُمْطرون.
وأخذ ذلك من هذه الآية.
ومنه الحديث: " اشتَدِّي أزْمَةُ تنفرجي ".
وقال تعالى: (إنَّ مَعَ العُسْر يُسْراً) .
وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا كان وقت الشدائد والمخاوف رُئي عليه
أثر السرور، وإذا كان وقت السرور رُئي عليه أثَرُ الخوف، لعلمه بربه.
(يَنْشر رحمته) ، يعني المطر، فهو تكرار للمعنى الأول بلفظٍ آخر.
وقيل يعني الشمس.
وقيل بالعموم، وهو أظهر، إذْ رحمته سبحانه تعمّ جميع الموجودات.
(يَعْلَم الذين يُجَادلون في آياتِنا) ، أي يعلمون أنهم لا مهرب لهم من الله.
وقرئ يعلم بالرفع على الاستئناف، وبالنصب.
واختلف في إعرابه على قولين:
أحدهما أنه نصب بإضمار أنْ بعد الواو لما وقعت بعد الشرط
والجزاء، لأنه غير واجب.
وأنكر الزمخشري ذلك، وقال: إنه شاذّ، فلا ينبغي أن يُحْمل القرآن عليه.
والثاني قول الزمخشري: إنه معطوف على تعليل محذوف
لينتقم منه، ويعلم، قال: ونحوه من المعطوف على التعليل المحذوف كثير في
القرآن، ومنه قوله: (ولِنَجْعَلَه آيةً للناس) .
(يا بُشراي) :
نادى البشرى، كقوله: يا حسرتى، وأضافها إلى نفسه.
وقرئ يا بشرى، بحذف ياء المتكلم.
والمعنى كذلك.
وقيل على هذه القراءة نادى رجل منهم اسْمُه بشرى، وهذا بعيد، لأنه لما أدْلَى الدَّلْوَ في الجبِّ تعلَّق به يوسف، فحينئذ قال: يا بشراي، هذا كلام.
(يُرْسِلَ) :
قرئ بالرفع على تقدير: أو هو يرسل، وبالنصب عطفاً على (وحياً) لأن تقديره أن يوحي، فعطفت أن على أن المقدرة.
(يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ) .
أي يكبر ويَنْبت في استعمال الحلي من الذهب والفضة، والمراد بهم النساء.
وقرئ "ينشّأ" بضم الياء وتشديد الشين، بمعنى يُرَبّى فيها.
والمقصد الرد على الذين قالوا: الملائِكة بناتُ الله، كأنه قال: أجعلتم

(3/415)


لله من ينشّأ في الحلية، وذلك صفة النّقْصِ، ثم أتبعها بصفة نقص أخرى وهي
أنَّ الأنثى إذا خاصمت أو تكلمت لم تقدر أنْ تبيّن حجَّتَها لنَقْص عقلها، وقلما تَجِد امرأةً لا تفسد الكلام وتخلط المعاني، فكيف يُنْسب لكامل من اتصف بنقصٍ.
وأغربُ من ذلك أنهم يجعلون لأنفسهم المذكور، (ويجعلون لله البنات
سبحانه ولهم ما يشْتَهُون) .
وإعراب (من ينشأ) مفعول بفعل مضمر، تقديره: أجعلْتُم للَه مَنْ ينشأ في الحلية، أو مبتدأ وخبره محذوف، تقديره: أو من ينشأ في الحلية خَصَصْتُم به الله.
(يَسْتَغِيثانِ الله وَيْلَكَ آمِنْ) :
ضمير التثنية يعود على الوالدين اللذين يستغيثان بالله مِن كراهتهما لما يقول ابْنُهما من الكفر، فيقولان له: وَيْلك آمِنْ، ثم يأمرانه بالإيمان فيقول: (ما هذا إلا أساطِيرُ الأولين) ، أي قد سطّره الأوَّلون في كتبهم، وذلك تكذيبٌ بالبَعْث والشريعة.
واختلف فيمن نزلت هذه الآية، فقيل في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق
حين كفْرِه، كان أبوه وأمّه يدعوانه إلى الإيمان فيأبى، ويقول لهما: أفٍّ لكما.
وأنكرته عائشة رضي الله عنها، وقالت: واللَه ما نزل في آلِ أبي بكر شيء من القرآن إلا براءتي.
وكان عبد الرحمن بن أبي بكر من خِيَار المسلمين، وكان له في الجهاد غناء عظيم.
وقال السُّدِّي: ما رأيت أعبد منه.
والصحيحُ أنها على الإطلاق فيمن كان على هذه الصفة من الكفْر والعقوق لوالديه، ويدل على أنها نزلت على العموم قوله: (أولئِكَ الذين حَقَّ عليهم الْقَوْلُ في أمَمٍ) ، بصيغة الجمع، ولو أراد واحداً بعينه لقال ذلك الذي حقَّ عليه القول.
(يَتَدَبَّرون القرآنَ) .
أي يتفكرون في معانيه، لتظهرَ أدِلَّتُه وبراهينه، وفيها حضّ على التدبر والتفكر فيه.
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقرؤه بخشوع من غير هَذْرَمة.

(3/416)


(يَبْخَلُ) :
البخل هو الغمّ بالإعطاء والفرح بتَرْكه، وأما البخيل فهو الذى يغتمّ بالإعطاء ويذمّ عليه، ويفرح بتركه، وهذا من صفات
البخل كما قدمنا: (وأحْضِرت الأنْفُس الشحَّ) .
(يَتِرَكُمْ أعمالكم) .
أي ينقصكم، يقال وترت الرجل ترةً، إذا نقصته شيئاً.
وكيف ينقص السيد عَبْده، هذا في مخلوق فكيف بالغنيِّ على
الإطلاق، ولما نزلت: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) .
شقَ ذلك على الصحابة.
وقالوا: يا رسولَ الله، إذا جازانا الله بأعمالنا هلكنا، فأنزل الله المضاعفة لأعمالهم، والمضاعفة في الحسنة لا حَصْرَ لها ولا مضاعفة للسيئة.
(يُطِيعكم في كثير من الأمْرِ لَعَنِتمْ) :
إنما لم يقلْ أطاعكم، للدلالة على أنهم كانوا يريدون استمرارَ طاعتِه عليه السلام لهم.
والحقّ خلاف ذلك، وإنما الواجب أن يطيعوه لا أن يطيعهم، وذلك أنَّ رأيه عليه الصلاة والسلام خير وأصوب مِن رأي غيره، ولو أطاع الناسَ في آرائِهم لهلكوا، فالواجب على الناس الانقياد إليه والطاعة لأمره.
(لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ) :
نهى الله في هذه الآية عن الاستهزاء بالناس واحتقارهم.
ولما كان "القوم" لا يقَع إلا على الذكران عطف النساء عليهم.
فالسخريةُ بالنساء من أعظم العيوب عند علاَّم الغيوب.
ولعلَّ المسخور منه خَيْرٌ من السَّاخر عند الله، والأعمال بالخواتم، ولا تقعُ هذه الخصلة الذميمة إلا من جاهل بنفسه راضٍ عنها، فيتكبَّر ويعجب، ولو رأى نفسه أقلَّ خَلْقِ الله لم يسخر ممَّنْ هو عند الله أعلى منه، ولذلك قيل: مَنْ ظنَّ أنه خير من الكلب فالكلب خير منه.
فالعاقل يرى الصغير أفْضَلَ منه، ويقول: أنا عصيت الله، وهذا لم يعصه، والكبير يقول: هذا عَبَدَ الله أكثر مني، فهو أفضل، لأن مَنْ

(3/417)


زادك في العبادة فَضَلك، والذي هو مثله يقول: لم يَعْصِ الله، وربما له خَبِيّة من عمَل صالح لم أطلع عليها، وأنا ليس لي شيء، وبالجملة فلم يصدر هذا إلا مِنْ معْجب بعمله، متكبًر، وكم أهلكا من عالم وعابد وزاهد.
(يغْتَبْ بعضُكم بعْضاً) :
الغيبة: ما يكره الإنسان ذِكْرَه من خَلْقه أو خُلُقه أو دِينه أو أفعاله أو غير ذلك.
وفي الحديث: قيل: يا رسول اللَه، وإن كان حقّا، قال: إذا قلتَ غيْرَ الحق فذلكَ البهْتان.
وقد رخّص في التجريح في الشهادة والرواية وفي النكاح وشبْهه، وفي التحذير من أهل الضلال، ولا غيبةَ في فاسق أو مجاهر بالكبائر، وسامِعها شريكه ما لم ينكرها بلسانه، ومع خوْفه فَبِقَلْبه، وعليه قطعها بكلام، وإلا ينصرف، فإنْ عجز لزمه شغل قَلْبه ولسانه عنْها.
روي: مَنْ أذلّ عنده مؤمن وهو يقدر على أن ينصره أذلّه الله على رؤوس
الخلائق.
وروي: من حَمَى مؤمنا مِن منافق يغتابه بعث الله له ملكاً يحمِي لَحْمَه يوم
القيامة مِنْ نار جهنم، ولو ردت كلمة سفيه في فيه لسعد بها رادّها، كما سعد بها قائلها.
وبواعث الغيبة التشكي، وموافقة ونحوها لذاكرها، أو رفعة لنفسه أو حسد
أو لعب، ومتى رأى عَيْباً حرم التصديق ما احتمل تأويلاً، ومتى تحقَّق نَصَح
حتما، وسكت ستراً للنهي عن المتلفظ به، فاعلاً أو مفعولاً حيث قال:
(بعضكم بَعْضا) .
وتشبيه المغتاب بآكلِ الميتة وهو منفِّرٌ طبعاً وشَرْعاً، والإتيان بهمزة
الإنكار، ثم بلفظ المحبة، ثم بقوله: (أحَدكم) كأنه يقول: هل يوجد في العالم
أحدٌ يحب أكْلَ الميتة، ثم المبالغة بلَحْمِ الأخ، ثم بأكله.
وجه المناسبة إدارة حنكه، فالغيبة كالأكل، ثم بقوله: (ميتاً) ، فإنه أبلغ في النفرة، ثم التأكيد بقوله:

(3/418)


(فكرهْتموه) ، ثم التعريف بأن من التقوى تَرْكَ ذلك، ثم التحريض على التوبة
بقوله: (واتقوا الله إنَّ الله توَّابٌ رحيم) .
قال أبو علي الفارسي: كراهة هذا اللحم يدعو إليها الطبع، وكراهة الغيبة
يدعو إليها العقل، وهو أحقّ أن يجاب، لأنه بصير عالم، والطبع أعمى جاهل.
وصَحَّ أنَّ " دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ".
ونواهيها مشهورة جدًّا، فما ظنّكَ بكلمة لا تسلم منها بتوبةٍ للمظلمة حتى تبرأ، فهي أشدّ على النفس من الربا والزنى، وتنقل حسناتك لغيرك، وتعذَّب بذنوبه التي تحملتها بغيبته، وعرّضتك لسخْطِ الله ومَقْته، وكان تعالى فيها خصيمك.
ويقال ليتكَ استحيَيتَ من الله كاستحيائك من مخلوق لا تغتابه بحضرته، فإنا
للَه وإنّا إليه راجعون من خصلةٍ نحن فيها ليلاً ونهارا ولا ازدجار منها، ولا
تَوْبَة، ونتهاون بها، ونعظم الربا، مع أنها أعظم كما تقدم ويظهر لك بالحديث:
" الربا اثنان وسبعون بابا أدناها مثل أنْ يطأ الرجل أمَّه ".
وفي حديث آخر: " إن من أربى الربا استطالَة المسلم في عِرْض أخيه بغير حق ".
فانظر بُعْد ما بينهما يلُحْ لك عظيم ما ارتكبناه، إلا أن يعفو الله بإرضاء خصمائنا وإلا هلكنا.
(رَبَّنَا ظلمْنَا أنفسنا وإنْ لم تَغْفِرْ لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين) .
وكان الواجب علينا ألاَّ نخاطب ربَّنا بهذا الخطاب إلاَّ بعد التوبة النصوح.
وحسن الارتجاع، لكنا نرجو من كرم الكريم العفْوَ عن اللئيم بجاهِ نبيه الكريم.
(يَرْتابوا) : يشكّوا.
(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) .
نزلت في بني أسد من خزيمة، وهي قبيلةٌ كانت تجاورُ المدينة، وكانوا مسلمين ظاهرًا ويحبون المغانم وعَرَضَ الدنيا، فقالوا: يا رسول اللهِ، إنَّا آمنّا بكَ وصدقناك، ولم نحارِبْك كما فعلَتْ هوازنُ وغطفان وغيرهم.
فَردَّ الله عليهم بقوله: (بل الله يَمُنُّ عليكم) : يحتمل أن يكون بمعنى ينعم عليكم، أو بمعنى يذكر إنعامَه.
وهذا أحسنِ، لأنه في مقابلة: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ) .

(3/419)


(يَلِتْكم) :
ويألتكم بهمزة قبل اللام - قراءتان، بمعنى ينقصكم.
والخطاب لمن أطاع الله ورسوله.
فإن قلت: هذا الخطابُ وقع في بني أسد، فكيف يعطيهم أجُورَ أعمالهم.
وقال: إنهم لم يؤمنوا، ولا تقبل الأعمال إلا من مؤمن؟
والجواب: أن طاعةَ الله ورسوله تجمَعُ صِدْقَ الإيمان وصلاح الأعمال، فالمعنى إن رجعْتم عما أنْتُم عليه من الإيمان بألسنتكم دون قلوبكم، وعملتم أعمالاً صالحة، فإنَّ الله لا ينقصكم منها شيئاً.
(يوم ينَادِ الْمنَاد من مكان قريب) :
المنادي هنا إسرافيل الذي ينفخُ في الصور.
وقيل: إنما وصفه بالقُرْب، لأنه يسمعُ جميعَ الخلق.
وقيل: المكان صخرة بيت المقدس، وإنما وصفها بالقُرْب لقربها من مكة.
وقيل لقُرْبها من السماء، لأنها أقرَب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً، وهذا ضعيف.
(يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرضُ عنهم سِرَاعاً) :
العامل في هذا الظرف معنى قوله: (حَشْرٌ علينا يَسير) ،وهو بَدَل مما قبله.
(يُسْراً) :
صفة لمصدر محذوف، ومعناه أنَّ السفن تجري في البحر بسهولة.
(يُؤْفَكُ عنه مَنْ أُفكَ) ، أي يصرف.
والضمير في (عنه) يحتمل أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو للقرآن، أو للإسلام.
والمعنى يُصرف عن الإيمان به مَنْ صُرِف، أي مَن سبَقَ في عِلْم الله أنه مصروف.
وقيل: إن الضمير لما (توعدون) ، أو للدين المذكور.
والمعنى يصرف عن الإيمان به من صُرف.
وقيل: إنَّ الضمير للقول المختلف.
والمعنى يصرف عن ذلك القول إلى الإسلام مَنْ قضَى الله بسعادته، وهذا
القولُ حسن، إلا أنَّ عُرْفَ الاستعمال في أفك يؤفك إنما هو في الصَّرْف مِنْ خيرٍ

(3/420)


إلى شر، ومن شر إلى خير.
وقيل: إن الضمير للقول المختلف، وتكون (عن) سببية.
والمعنى يصْرَف عن ذلك القول مَنْ صرِف عن الإيمان.
(يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) .
يحرقون ويعذّبون.
ومنه قيل للحَرَّة فَتِين، كأنه الشمسَ أحرقَتْ حجارتها.
ويحتمل أن يكون (يوم هم) معرباً، والعامل فيه مضمر، تقديره
يقع ذلك (يَوْمَ هم) على النار يُفْتنون أوأن يكون مبنيا لإضافته إلى متى.
وعلى هذا يجوز أن يكون في موضع نصب بالفعل المضمر حسبما ذكرنا، أو في موضع رفع، والتقدير هم يوم هم على النار يفْتنون.
(يهْجَعُون) :
في معنى هذه الآية قولان: أحدهما - وهو الصحيح: كانوا ينامون قليلاً من الليل، ويقطعون أكْثَرَ الليلِ بالسهر فى الصلاة والتضَرّع والدعاء.
والآخر أنهم كانوا لا ينامون بالليل لا قليلا ولا كثيرا.
ويختلف الإعراب باختلاف المعنيين، فأما على القول الأول ففي الإعراب أربعة أوجه:
الأول أن يكون (قليلاً) خبر كانوا، و (ما يَهْجَعون) فاعل بقليل.
لأن (قليلا) صفة مشبَّهة باسم الفاعل، وتكون (ما) مصدرية، والتقدير
كانوا قليلاً هجوعهم من الليل.
والثاني مثل هذا إلا أنَّ ما موصولة، والتقدير كانوا قليلا الذين يهجعون فيه
من الليل.
والثالث: أن تكون ما زائدة و (قليلاً) ظَرْف، والعامل فيه (يَهْجَعون) ، والتقدير كانوا يهجعون وقتا قليلا من الليل.
والرابع مثل هذا إلا أن (قليلا) صفة لمصدر محذوف، والتقدير كانوا
يهجعون هجوعاً قليلاً.
وأما على القول الثاني ففي الإعراب وجهان:

(3/421)


أحدهما أنْ تكونَ (ما) نافيه، و (قليلاً) ظرف، والعامل فيه (يَهْجَعون) .
والتقدير: كانوا ما يهجعون قليلاً من الليل.
والآخر أن تكونَ (ما) نافية و (قليلاً) خبر كان، والمعنى كانوا قليلاً في الناس، ثم ابتدأ بقوله: (من الليل ما يهجَعون) ، وكلا الوجهين باطل عند أهل العربية، لأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، فظهر ضعْف هذا المعنى ببطلانِ إعرابه.
(يَوْمَهم الذي فيه يصْعَقون) :
يعني يوم القيامة، وذلك لشدة هَوْلِه.
(يلتقيان) :
ضمير التثنية يعود على البَحْرَين المذكورين في قوله: (هذا عَذْبٌ فرَاتٌ) ، (وهذا مِلْحٌ أجَاج) ، أي يلتقي ماء هذا وماء هذا، وإذا نزل المطر في البحر على القول بأن البحر العذب هو المطر، وأما على القول بأنَّ البحر العذب هو الأنهار والعيون، فالتقاؤهما بانصباب الأنهار في البحر، وأما قول القائل بأن البحرين بحر فارس والروم وبحر القلزم واليمن فضعيف.
(يَسألُه مَنْ في السماوات والأرض) .
أى يسألونه حوائجهم، فمنهم من يسأله بلسان المقال، ومنهم من يسأله بلسان الحال، لأنَّ جميعهم مفتقر لفَضْله ونَوَاله وإمداده.
وقد قدمنا أنَّ المراتب السبع من جماد ونام - وحيوان، وناطق وممتحن ومؤمن ومحب، جميعهب متضرعون مقبلين أو مدبرين.
فسبحان من وسع سَمْغه أصواتهم وحركاتهم وسكنَاتهم.
(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ) :
يعني بعلامتهم، وهي سواد الوجه وغير ذلك، وقد - قال في آية أخرى: (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) .
يعني أنَّ الكفارَ يتقلَّبون من الزمهرير إلى الحر، ومنَ الحرّ إلى الزمهرير، رجاء الاستراحة

(3/422)


مما هم فيه، فلا يجدون إلا أشدَّ من منازلهم، فهم في عذابِ جهنم مخلَّدون: (لا يُفَتَرُ عنهم وهم فيه مبْلِسون) .
(يَطْمِثْهُنَّ) :
المعنى أنهن أبكار لم يطمثْهنَّ. . . بخروج الدم.
وقيل: الطمث الجماع، سواء كان لبكر أو غيرها، أو نفي أنْ
يطمثهن إنس أو جانٌّ مبالغة، وقَصْداً للعموم، فكأنه لم يطمثهنَّ شيء.
وقيل: أراد لم يطمث نساءَ الإنس إنس، ولا نساء الجنِّ جِنٌّ.
وهذا على القول بان الجن يدخلون الجنة، ويتلذّذون فيها بما يتلذَّذ البشر.
وقد قدمنا أنهم في رَبض الجنة لا يسكنون مع الإنسان، وأن رؤيةَ الله خاصة بالإنْس على المشهور (1) .
وقد صحَّ أن الله تعالى إذا خلق الجاريةَ من الحور العين خلق عليها
خيمة من الدّرّ ستْرًا لها وغيرة على مَنْ خلقها له ألَّا يراها غيره.
فما لَك يا محمدي لا تغير أنْتَ عليه إنْ كنت تحبّه، ولا أرى لكَ ذلك.
لأنك تقول رضيت بالله ربًّا ولم ترض بقضائِه.
وتقول تحبه، وأنْتَ تحب غيره وتقول وجّهْت وجْهيَ له، وقد وجّهْته لدنيا
وأهلٍ ومالٍ ووَلدٍ.
أما علمْتَ أن حقيقةَ العبودية الإقرار لمعبودها، لا رَاعَى الله من لا يراعي الذمم.
ربّك يعاملك بكل ما تريد ولا تَفْعل له ما يريد، كلّ ذلك لكَ لا له، إذ هو غني عن العالمين.
(ياقوت) :
هو حجر عزيز يضيء أعلاه كالقمر، وهو قليل الوجود، وهو أنواع.
وذكر الجواليقي والثعالبي أنه فارسي، وشبَّهَ الله نساءَ الجنة بالياقوت، وأين الياقوتُ منهن، ولكن خاطب عبادَه بما يفهمونه.
وقد قدمنا أنَّ أحوالَ الدنيا إنما هي أنموذج على ما في الآخرة لا مِثْلها.
(يُصِرُّونَ) .
أى يدومون من غير إقلاع.
قال ابن الجوزي: معناه يضجون بالحبشية.
(يُنَزِّلُ على عَبْده آياتٍ بيِّنَات) :
المراد به سيدنا ونبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - للتشريف والتكريم.
__________
(1) لا يوجد دليل على عدم رؤيتهم لربهم في الجنة، والعول عليه فضل الله وسعته.

(3/423)


وقد قدمنا أنَّ هذه الإضافة خاصة به، كقوله تعالى: (وأنه لما قام عَبْدُ الله) .
(سبحان الذي أسْرَى بعبده) .
فما أشرفها من إضافة، وما ألذّه من خطاب!
(يسْعَى بين أيديهم وبأيْمَانهم) :
الضمير للمؤمنين، يعني أنهم يكون لهم نور يوم القيامة أمامهم ومِنْ خلفهم على قَدْر إيمانهم، منهم مَنْ يكون نوره كالنخلة السَّحُوق، ومنهم ما قرب من قدميه، ومنهم مَنْ يضيء مرة وينطفي، أخرى كالشمعة.
والكافرون والمنافقون لا نُورَ لهم، فيرون المؤمنين الأنوار محدقة فيقولون: (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا) .
وقيل: إن هذا النور استعارة يرادُ به الهدَى والرضوان.
والأول أصح، لوروده في الصحيح.
(يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) :
أنى الأمْر إذاَ حان وقتُه، وذِكْر الله " يحتمل أن يريد به القرآن، أو الذّكر، أو التذكير، أو المواعظ.
وهذه آيةُ موعظةٍ وتذكير، قال ابن عباس: عُوتب المؤمنون بهذه الآية بعد ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، وسمع الفُضَيل بن عياض هذه الآية فكانت سببَ رجوعِه.
وحكي أن عبد الله بن المبارك أخذ العود في صباه ليضربه فنطق بهذه الآية
فكسره ابْنُ المبارك وتاب.
وحكي أنه كان في غار السودان عابد فأتى بعض الشباب بعود وكوز من
الخمر، فجلس بأعلى الغار من غير عِلْم بالعابد، فلما شرع في ضَرْب العود
والسكر قرأ العابد: (ألَمْ يأن للذين آمَنوا) الآية، فسمعه الشابُّ فقال:
بلى، آنَ، وكسر العود والكوز، وخرج فارّا بنفسه، فتبعه العابد، فعرضت له برْكة السودان فمشى على الماء.
قال العابد: فتبعتُه فغرقت، ولم أقدر على اتباعه،

(3/424)


فرفعت رأسي، وقلت: إلهي لي على بابك أربعون سنة، ولم أنَلْ ما نال هذا في ساعة، فسمعت هاتفاً يقول: ذلك فَضْلي أوتِيه من أشاء.
وأنت يا محمديّ تتلوها كلَّ ساعة ولا ترجع إلى ربك! أهكذا شأن مَنْ يريد
الرجوعَ إلى اللَه! كلاّ والله، ليس ثَمَّ رجوع ولا ندم، وإنما هو انهماك في
المعاصي وقلةُ الخضوع، إلهي لا التوبة تدوم لي، ولا المعصية تنصرف عني، ولا أدري بمَ يخْتم لي، غير أنَّ سابقة الحسنى أوجبت لي حسْنَ الظنّ، وقد قلتَ: أنا عند حسْن ظَن عَبْدِي بي فليظنَّ بي ما شاء، فهَبْ لي توبةً منك باقية، واصرف أزمةَ الشهوات عني، وامْح زينتها من قلبي بزينة الإيمان بجاه سيد الثقلين عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم، ما اختلف الْمَلَوَان.
(ولا يكونوا كالذين أُوتوا الكتابَ من قَبْل فطال عليهم الأمد) .
عطف: (ولا يكونوا) على (أنْ تخشع) .
ويحتمل أن يكون نَهْياً، والمراد التحذير من أن يكون المؤمنون كأهلِ الكتب المتقدمة، وهم اليهود والنصارى، في حِرْصهم على الدنيا وعرف هممهم إليها، فكم خوَّفَنا سبحانه ونهانا قولا وفعلا، أدَّب الملائكة بإبليس: بعد عبادة ثمانين ألف سنة ترك سجدةً طُرِد.
أبونا آدم عليه السلام بأكلة لم يُؤْذَن له فيها، أهْبِط إلى الأرض وبكى مائتي سنة، وأتعب ذريته (1) .
نوح عليه السلام بكلمة (إني أعِظك) لم يرفع رَأسَه حيا - أربعين سنة (2) ، فالحذَر مِنْ مَيْل إلى دُنْيَا تعدك بمال، فإنه مهلك، كبلعام سلب ولم يقبل أبدا، وكان يعلم الاسْمَ الأعظم.
وبرصيص العابد بعد عبادة مائةِ سنة قرنه الله مع إبليس في قوله تعالى مثَله
(كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) .
وَتأمّل الحدودَ المرتبَة على الذنوب مِن حدّ قطع عضو فيِ خمسة دراهم.
ولو لم يكن من التخويف "إلا قوله تعالى: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) ، وإذا سأل الصادقين عن صدقهم فكيف بمن عصى؟
قال بعضهم: الصدق على ثلاث مقامات: صدق في العزم، وصدق في
__________
(1) مردود بما في البخاري برقم:
4367 - حَدَّثَنَا الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْتَقَى آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى لِآدَمَ آنْتَ الَّذِي أَشْقَيْتَ النَّاسَ وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ قَالَ آدَمُ أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَاصْطَفَاكَ لِنَفْسِهِ وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ التَّوْرَاةَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَوَجَدْتَهَا كُتِبَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي قَالَ نَعَمْ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى
(2) لا يصح ولا يثبت.

(3/425)


اللسان، وصدق في الأعمال، فصدق العَزْم تجديد الإرادة، وصدق اللسان محاسبة النفسِ قَبْل إطلاق القول، وصدق الأعمال ركوبُ الجهد بترك العادة النفسية.
فآفَةُ صدقِ العزم العجز، وآفة صدق اللسان المعارضة، قال تعالى في بعض
كتبه: إذا استوَتْ أقدام الأنبياء في الآخرة في صفّها أسأل الصادقين عن
صدقهم، فتحتاج إذ ذاك الأنبياء إلى عفوي، وأقدم حبيبى أمامَهم بخطوة
الصدق الذي أتى به بارزا على جميع الأنبياء، وهو مقام الوسيلة الذي وعدتُه
بنَيْلِه، ولا سؤالَ أعظم من سؤال الصادقين عن صدقهم، لأني أطالبهم بصدق الصدق، وقد عجز المخلوقون أجْمَعُ عن الصدق، فكيف يجيبون عن صِدْقِ الصدق.
اللهم لا حيلةَ لنا في الوصول إلى منزل الصدق عندك إلا باطِّراح أنفسنا
قولاً وفِعْلاً، لأنكَ أنْتَ أنت ونحن نحن، َ ولا بدّ لنا منك، فارحم ذلَّنَا بين
يديك يا أرْحمَ الراحمين..
(يظَاهِرون منكم مِنْ نَسائِهم) :
بالتشديد والتخفيف بحذف الألف وإثباتها مع التخفيف، ومعناهما واحد، وهو أن يقول الرجل لامرأته: أنْتِ عليَّ كظهْرِ أمّي، ويجري مجرى ذلك عند مالك تشبيه الزوجة بكل امرأةٍ محرَّمةٍ على التأبيد، كالبنت والأخت وسائر المحرمات بالنسب والمحرمات بالرضاع، والمحرمات بالصهر، سواء ذكر لفْظَ الظّهْر أو لم يذكره، كقوله: أنتِ عليَّ كأمي، أو كبطن أمي، أو يدها أو رجلها، خلافاً للشافعي، فإنَّ ذلك كلَّه ليس عنده بظِهَار، لأنه وقف عند لفظ الآية.
وقاس مالك عليه، لأنه رأى أن القصد تشبيه حلال بحرام.
(يَتَمَاسَّا) :
المراد بالمسيس هنا الوطء، وما دونه من اللمس، والتقبيل، فلا يجوزُ للمظاهر أنْ يفعلَ شيئاً من ذلك حتى يكفِّر.
وقال الحسن والثوري: أراد الوطء خاصة، فأباحوا ما دونه قبل الكفَّارة.
وذكر الله قوله: (قبل أن يَتَمَاسَّا) في التحرير والصوم، ولم يذكره في الإطعام.

(3/426)


واختلف العلماء في ذلك، فحمل مالك والشافعي الإطعام على ما قبله، ورأى أنه لا يكون إلا قبل المسيس، وجعل ذلك من المطلق الذي يحْمَل على المقيد.
وقال أبو حنيفة: يجوز للمظاهر إذا كان من أهل الإطعام أن يطَأ قبل الكفَّارة، لأنَّ الله لم ينص في الإطعام أنه قبل المسِيس.
(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) :
أمّا إخرابُ المؤمنين فهو هَدْم أسوارِ ألحصون ليدخلوها، وأسند ذلك إلى الكفار في قوله: (يُخْرِبُونَ) ، لأنه كان بسبب كفرهم وغَدْرِهم، وأما إخرابُ الكفار لبيوتهم فلثلاثةِ مقاصد:
أحدها حاجتهم إلى الخشب والحجارة ليسدّوا بها أفواهَ الأزقّة
ويحصِّنوا ما أخْرَبه المسلمون من الأسوار، والآخر ليحملوا معهم ما أعجبهم من الخشب والسَّواري وغير ذلك.
والثالث ألاَّ تَبقى مساكنهم مبنيّة للمسلمين، فهدَموها شُحًّا عليها.
(يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) :
بالقتل والفيء والأسْرِ وغيرها.
(يثْقَفوكم) .:
يظفروا بكم.
(يَنْهَاكُم اللَّهُ عن الذين قاتَلوكم في الدين) :
هم كفار قريش، والآية في النهي عن الإحسان إليهم والتحبّب إليهم.
وأما مَنْ لم يقاتل فقد قدمنا في حرف اللام أنَّ الله رَخَّص للمسلمين في صلتهم.
وقد صحَّ أن أسماء بنت أبي بكر قالت: يا رسولَ الله، إنَّ أُمِّي قدمَتْ عليَّ وهي مشركة أفأصلها؟
قال: صِلِي أُمَّك.
(يَئِسُوا من الآخِرَة) .
أي من خيرها والسعادة فيها.
(يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدِّقا) .
هذا القول من عيسى عليه السلام تعريضٌ لهم واستدعاء لهم أن يتديَّنوا بدينه، وأن يصدفوا بما صدَّقَ به.
(ومصدقاً) حال مؤكدة، (ومبشراً) ، عطف عليه.
والمعنى أرسلتُ إليكم في حال تصديقي بما تقدمني من التوراةِ وفي حال

(3/427)


تبشيري برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد، وأن ديني التصديق بكتاب الله
وأنبيائه جميعا ممَّنْ تقدّم أو تأخّر.
فإن قلت: لمَ لمْ يقل: يا قوم، كقول موسى عليه السلام: (يا قومِ لم
تُؤْذُونَني) ؟
والجواب أنَّ عيسى عليه السلام لما نسبَ له فيهم، فيكونوا قومه، إذ لم يكن
له فيهم أب.
فإن قلت: لم جاء قولُ عيسى عليه السلام فيما يرجع إلى التوراة بلفظ
التصديق، وفيما يرجع إلى النبي عليه السلام بلفظ البشارة، ولِمَ قال: (مصدقاً) بالتوراة ولم يقل بموسى؟
قلت: المراد أنْ يخبر عليه السلام بأنه مصدّق بمَنْ تقدم وتأخر من رُسله
وكتبه، فجاء لفظُ التصديق بالتوراةِ على الأمر المقصود، والتصديق بالتوراة
يستلزمُ التصديقَ بمَنْ جاء بها، وكأنه نزَّهَ الرسولَ الذي جاء بها عن أن يُسْتَراب برسالته حتى يحتاج إلى مَنْ يصدقه ممن هو مثله.
ولما كان مجيء محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أمراً منتظرا حَسُنَ التبشير به، والبشارةُ به تتضمَّن تصديقَه سيما وقد سمَّاه رسولا وعرفه بأحمد، الاسم المسمَّى به في السماء عند الملأ الأعلى، وهو أفخم للمسمى، وأبلغ في تفخيمه.
وهنا نكتة لطيفة، وهي أنَّ المبشَّر به يشعر بأن البشارة به تقتضي بأنه يأتي
بأمور فيها البشرى لمَنْ جاءهم بها وقبلوها منه.
قال ابن عطية: وهو في هذه الآية الكلمة لا الشخص، وليست على حدِّ قولك: جاءنا أحمد، لأنك ها هنا أوقعْتَ الاسْمَ على مسمَّاه، والآية إنما أراد فيها باسمه هذه الكلمة.
ووقع للفخر في سورة الحمد مناسبة اشتقاق اسمه أحمد ومحمد من الحمد، لأنه أول ما خلق الله العقل، فكان أول ما نطق به الحمد، وكان آخر الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام، فناسب الخَتْم أن يكونَ من نوع المبدأ، فاشتقَّ له من الحمد اسمان: محمد وأحمد، فأهل السماه هو أحمدهم، وأهل الأرض هو محمدهم.

(3/428)


فإن قلت: لم أخَّرَه - صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل الخلْق؟
والجواب لخصائصه وخصائص أمته، منها أن مَنْ تقدم ظهرت فيهم الصناعة
المحتاج إليها، فظهرت الحراثةُ من آدم، والخياطة من إدريس، والنجارة من
نوح، والقيانة من داود، والخرازة من إلياس، وغير ذلك من الصنائع التي احتيج إليها، فجاءت إليهم مهذَّبة، ومنها لئلا يطلع على مساويهم أحدٌ من الأمم.
ومنها لئلا يطول مكثهم في التراب.
ومنها ليكونوا شهداءَ على مَنْ تقدّم، وغير ذلك من الخصائص التي نالوها بسببه - صلى الله عليه وسلم - ويطول ذكرها.
فإن قلت: هل لتسميته في الأحزاب حكمةٌ، لأنها مخالفة لتسمية عيسى؟
فالجواب: أنهم كانوا لا يعرفون في الكتب الماضية إلا هذا الاسم، وسِرّ
تسميته به أنه أشار إليهم فيها بأنه أحمدهم، وهذا الاسم لمْ تغيره ألسنةُ العامة، لأنهم يقولون محمد بفتح أوله أو بضم أوله، ويستعظمون ذِكْره على وجهه
للمواطأة فيه، وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للتغيير نسبة، إذ قال: " إنَّ الله صرف عني إيذاءَ قريش وسبَّهم، يسبّون ويذمُّون مذمَّما، وأنا محمد ".
ولما اتصف نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم - بكونه أباً للمؤمنين في سورة الأحزاب، لأنهم كانوا لا ينادونه إلا بهذا الاسم تجد المؤمن إذا دهمه أمْرٌ أو حدث له حادث لا يفزع إلا لهذا الاسم الشريف، إذ لا أحسن للإنسان من أبيه عند الفَزع.
وبهذا يندفع ما نحا إليه النووي في الأذكار حيث يزعم أنه لا يذكر اسمه عند العشرة فما فوقها، ولعلَّ السرَّ في هذه الآية هو من ناحية نفْيِ أبوَّة الأشباح، وصحة كونه أباً للأرواح مع كونها مقتضية للرسالة، وختم النبوءة.
وفي شرح البخاري لابن بطال أنَّ الأبوة أشهر من الأمومة، بدليل: (ادْعُوهُم لآبائِهم) ، وللحديث: " ينصب للغادر لواء يوم القيامة ثم يقال: هذا لواء فلان ابن فلان ".
وإنما فرع من قال بالنسبة للأم، لأنه رأى الستر يوم القيامة أدْخَل في باب الإغضاء، وفيما قاله نظر، إذ الأبوة نسبة ظنّية والأخرى يقينية.

(3/429)


وفي حديث القاضي المعافي: إنما الإشكال في دعوى ولد الزنى يوم القيامة
لأبيه، مع أنه ليس بأب شرعي.
وأجاب باحتمال دَعْوىَ المجاز كأبي الأرامل، أو أنَّ أحوال الآخرة على
خلاف أحوال الدنيا يُدْعَى إلى الإسلام الداعي إليه نبينا ومولانا محمد - صلى الله عليه وسلم.
(يَغْفِرْ لكمْ) :
جزم في جواب (تؤمنون) ، لأنه بمعنى الأمر، فقد قرأ ابن مسعود: آمِنوا وجَاهِدوا - على الأمر.
وقال الفراء: هو جواب (هل أدلُّكم) ، لأنه يقتضي التحضيض.
(يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) .
منّ الله على عباده ببَعْثِ رسول منهم وإليهم يعلِّمهم بيانَ الشرائع والفهم، ويزَكيهم: يطهرهم، ونسب التعليم إليه، لأنه يعلم ما في الكتب وطرق النظر بما يلقيه جبريل إليه، فأعرضوا عنه، وقالوا: هل بعث الله ملكا.
وقد قدمنا سِرَّ بَعْثِ الرسل من البشر، إذ البشرية لا تطيق مباشرةَ
الروحانية.
أَلاَ ترى جبريل، كان يخرجه - صلى الله عليه وسلم - من البشرية حين يُلقى إليه الوَحْي.
فإن قلت: ما فائدة تقديم العلم في البقرة، وتأخيره في الصف وآل عمران؟
والجواب: لأنه لما كانت دعوة إبراهيم عليه السلام قبل وجود الضلال في
الذرّية المدعوّ لها، وإنما تحصل لهم تزكيتهم ورَفْع ضلالهم المتوقّع لوقوعه بما
يمنحونه من التعليم وما يُتْلى عليهم من الآيات، لأن ذلك هو السبب في حصول التزكية والسلامة من الضلال إذا وققوا للانقياد له، ألا ترى ارتباطَ التزكية بأعمال الطاعات، قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) ، وإنما كان تزكية لهم لانقيادهم بالطاعة فما يطلبهم به من
ذلك ويأخذه منهم، فتأخَّر ذكر التزكية المسبّبة عما به تحصل، وذلك بعد
هدايتهم للإيمان، فجاء على الترتيب من بناء المسبَّب على سببه.

(3/430)


ولما كان مقصود الآيتين الأخيرتين إنما هو ذِكرُ الامتنان عليهم بهدايتهم
بعد الضلال الذي كان وُجِد منهم والتعريف بإجابة دعوة إبراهيم عليه السلام أخر ذِكزَ تعليمهم الكتاب والحكمة المزيلين لضلالهم، ليكونَ تلوهم ذِكْر الضلال الذي أنقذهم الله منه بما علمهم وأعطاهم وامْتَن عليهم، وهو ثاني المسببين، فكان الكلام في قوةِ أن لو قيل: ويعلمهم ما به زوَالُ ضَلاَلِهم.
وأخَّر في هاتين الآيتين ذكرَ السبب ليوصل بذكر مسببه الأكيد هنا الذي
قد كان وقع، وهو رفع ضلالهم وانقيادهم من عظم مِحْنته، ولو أخَّر ذِكْرَ
التزكية لما أحرز هذا المعنى المقصود هنا، فاختلافُ الترتيب إنما هو بحسب
اختلافِ القصدين ودَفْع ما ذكر، فورد على ما يجب.
(يَلْحَقوا بهم) :
معطوف على آخرين، أي لم يلحقوا بهم.
واختلف مَنْ هم الآخرون، والصحيح الذي ورد في الصحاح أنهم أهلُ فارس، لأنه - صلى الله عليه وسلم - سُئل عنهم، فأخذ بيدِ سلمان، وقال: لو كان العلم بالثريا لناله رجال من هؤلاء، يعني فارس.
وقيل: هم الروم، و (منهم) على هذين القولين يريد في البشرية وفي الدين لا في النسب.
وقيل: هم أهلُ اليمن وقيل هم التابعون وقيل هم سائر المسلمين.
(يحْسَبُون كُلَّ صَيْحةٍ عليهم هم العَدُوُّ) .
عبارة عن شدة خوفهم من المسلمين، وذلك أنهم كانوا إذا سمعوا صياحاً ظنوا أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتلهم، وفي هذا دليل على أنه كان يعلمهم.
(يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ) :
الضمير يعود على المنافقين، يعني أنهم يميلونها إعراضاً واستكباراً.
وسببُ نزول هذه السورةِ ما جرى في غَزْوَة بني الْمُصْطلق بين جَهْجاه بن
سعيد أجير عمر بن الخطاب وبين سنان الجُهني حليف لعبد اللَه بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين على الماء الذي وقع الزحام فيه، فلطم جَهْجَاه سناناً فغضب سنان، ودعا بالأنصار، ودعا الجَهْجَاه بالمهاجرين، فقال عبد الله بن أبَيّ: والله ما مثلنا

(3/431)


ومثل المهاجرين إلا كما قال الأول: سمِّنْ كلبك يأكلك.
ثم قال: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) ، يعني بالأعزّ نفسه وأتباعه، ويعني بالأذَلّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال لقومه: إنما يقيم هؤلاء بالمدينة بسبب مَعُونتكم وإنفاقكم عليهم، ولو قطعْتُم عنهم ذلك لفَرّوا عن مدينتكم، فسمعه زيد بن أرقم، فأخبر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبلغ ذلك عبْدَ الله بن أبيّ، فحلف لرسول الله أنه ما قال شيئاً من ذلك وكذَّب زيداً، فنزلت السورة عند ذلك، فبعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لزيد، وقال له: صدَّقك الله يا زيد، فخزي عبد الله بن أبَيّ ومقَتَهُ الناس، فقيل له امْضِ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستغفر لك، فإنه رحيم بالأمة، فلوَى رأسه استكباراً، وقال: أمَرْتموني بالإسلام فأسلمْتُ، وبأداء الزكاة ففعلت، ولم يبق لكم إلا أنْ تأمروني بالسجود لمحمد، فعاش قليلاً ومات، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
لا حيلة في القدر: جمع الحبس والتعذيبُ بين بلال وعمار على نبذ الدين.
فزوّر على عمار على خط قلبه، فلم يعرف التزوير، وأسر بلال على دعوى
الإبلاس فسلموه إلى صبيانهم في حديدة يصرونه في حَرِّ مكة، ويضعون على
صدره وقت الرمضاء صخْرَةً، ولسانُ محبته يقول:
بعينك ما يلقى الفؤاد وما لقي ... وللشوق ما لم يبْقَ مني وما بقي
وجيء بأبي جَنْدَل يجرَّ قيودَه، فردّه - صلى الله عليه وسلم - إليهم ودموعُه تسيل على صدره، وأنشد أبياتاً آخرها:
وعلى ما صفحوا أو نقموا ... لأرَى يا طيبة منك يدا
وكذلك أبو سهيل وغيره حبسوهم عنه - صلى الله عليه وسلم -، فجرى القَدَر بِلقْياه، والإيمان به، وهؤلاء لم تسبق لهم سابقة سَبْق.
من أنْتَ يا بلال حتى عرج بك على براق العناية إلى حضرة القرب للقرب.
وخلف عن نيْل المطالب أبو طالب، جئتَ يا سلمان من فارس حق نظمتك يدُ

(3/432)


العناية في سِلْكِ سلمان مِنا أهْل البيت.
يا صهيب، ما الذي سمعتَ من الأخبار
حتى تنعلت، ولبسْتَ سربالَ الهموم حتى سبقْت.
يا ابْنَ أدهم، مَنْ أنت حتى طرَّزْت حلَل المنابر برقوم مدحتك.
يا عتبة، مَنْ أنْتَ حق تزينَت مجالِس الأذكار بحديثك.
يا رابعة، مَنْ أنْتِ حتى لبيت المنادي، وحلَلْتِ من القرب في
النادي، وقيل لك: مِن أجلك قبلت مَنْ أتى إليك، اللهم إنك نبَّهْتَ قلوباً
نائمة، وأيقظت أسماعاً ساهية، وأقمتَ بالمواعظ إلى بابك قلوباً ناسية حتى سمعوا الإشارةَ، فأسرعوا وصفَتْ قلوبهم لمحبتك فيهم، فإنهم لم يحبوك حتى أحبَبْتَهم، ولم يقربوا منك حتى أوصلْتَهم، ارحمنا بذكرهم واقْبَلْنَا كما قبِلْتَهم، فإنه لا مانعَ لما أعطيْتَ، ولا مُعْطِيَ لما منَعْتَ، ولا تحرم مَنْ نظر في كتابي هذا وقال: اللهم ارْحَم المحرومَ برحمتك، وإن كان غَيْرَ مستأهل القبول، فضلك الكريم لا يرد الطفيليَّ والمتعلق.
فإن قلت: ما فائدة الجمع في قوله: (وإذا قيل لهم تعالَوْا يستغْفِر لكمْ
رسولُ الله) ، مع أن الخطاب لواحد؟
والجواب: أن الإسناد للتحقير وإبقاء الستر على العُصَاة حيث لم يعيّن القائِل.
وقد كان له أتباع من المنافقين يوافقونه على ما قال، فالخطابُ لهم.
(يأتِينَ بفاحشَة مُبَيِّنَة) :
ضمير الإناثِ يرجعُ إلى المطلقات.
والمعنى أن الله نهى عن أن يُخْرج الرجلُ المطلقةَ من المسكن الذي طلَّقها فيه.
ونهاها هي أنْ تخرجَ باختيارها إلا أن تأتي بفاحشة.
واختلف في هذه الفاحشة التي أباحَتْ خروجَ المعتدَّة على خمسة أقوال:
الأول أنها الزنى، فتخرج لإقامة الحدّ! قاله الليث بن سعد، والشعبي.
والثاني أنه سؤال وكلام مع الأصهار، فتخرج ويسقط حقها من السكنى.
ويلزمها الإقامة في مسكن تتخذه حفظاً للنسب، قاله ابن عباس.
ويؤيّده قراءة أبيّ بن كعب: " إلا أنْ يفحشن عليكم ".

(3/433)


والثالث أنه جميع المعاصي من القَذْف والزنى والسرقة وغير ذلك، فمهما
فعلت شيئاً من ذلك سقط حقُّها في السكنى، قاله ابن عباس أيضاً، وإليه مال
الطبري.
والرابع أنه الخروج من بيتها خروج انتقالِ، فمهما فعلَتْ ذلك سقط حقُّها في السكنى، قال ابن الغرس: وإلى هذا ذهب مالكَ في المرأة إذا نشزَتْ في العدّة.
الخامس أنه النشوز قبل الطلاق، فإذا طلَّقها بسبب نشوزها فلا يكون عليه
سكنى، قاله قتادة.
(يُحْدِث بعْدَ ذلكَ أمْراً) :
المراد به الرجعة عند الجمهور، أي أحْصوا العدَّة وامتثلوا ما أمرتم به لعلَّ الله يُحْدث الرجعةَ لنسائكم.
وقيل المعنى: لعل الله يحدِث أمرا من نسخ هذه الأحكام، وهذا بعيد.
وقيل: إنَّ سببَ الرجعة المذكورة في الآية تطليق النبي - صلى الله عليه وسلم - لحفصة بنت عمر، فأمره الله بمراجعتها.
(يتَنَزَّلُ الأَمْر بينهنَّ) .
أي بين السماء والأرض.
وقد قدمنا آنِفاً أن المراد بالأمر الوحي أو إحكام الله وتدبيره لخَلْقِه.
(يَفْعَلون ما يُؤْمَرون) :
الضمير يعود على الملائكة الغلاظ، لقساوة قلوبهم على مَنْ عصاه، ويتقربون بتعنيف بني آدم وتعذيبهم مما هو مشاهدٌ في حَرَس ملوكِ الدنيا كلما ازدادوا عُنْفاً على المأمور به ازدادوا محبةً عند الأمير.
فإن قلت: قوله (لا يَعْصونَ الله ما أمرهم) ، يُغْني عن قوله: (ويَفْعَلون ما يؤْمَرون) ؟
والجواب: أنه أكَّدَه بذلك، ليزداد خوْفُ المخاطب.
أو معنى (يفعلون ما يؤمرون) بنشاط وجدٍّ فيما أمروا به من عذاب الناس.
اللهم أعِذْنا من عذابك.

(3/434)


(يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ) :
العامل في يوم يحتمل أنْ يكونَ ما قبله أو ما بعده أو محذوفاً، تقديره اذكر، والوقف والابتداء يختلف على ذلك.
(يَسطرونَ) :
الضمير للملائكة على قول من قال: القلم هو الذي يُكتب به في اللوح المحفوظ.
وعلى مَنْ قال إنه القلم المعروف عند الناس يكون الضمير لبني آدم.
(يبدِلَنا خيراً منها) :
الضمير لأهل الجنة التي رأوها كالصَّرِيم، وقصتهم معروفة.
فطلب المؤمنون منهم البدَل في الدنيا أو في الآخرة.
وهكذا المؤمن يرجعُ إلى الله في نوائبِه ولا يضجر بما يناله.
(يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ) .
يعود ضمِير (بَنِيهِ) فيها إلى الحميم، لأنها في معنى الجمع.
والمعنى أن كل في يبصر حمِيمه يوم القيامة، فيراه ولكنه لا يسأله، لأنه مشغول بنفسه، وأيّ شغل وهو يودّ حينئذ أن يفدي نفسه
ببنيه الذين هم أحبُّ إليه من نفسه، ولا يجد ذلك، ولذلك عطفه
بـ (ثم ينْجِيهِ) ، لبعْد النجاة وامتناعها.
والفاعل الذي يقتضيه: (لو يَفْتَدِي) ، وهذا الفعل معطوف على لو يفتدي، ولذلك زجرة عن ذلك بقوله: (كلا) .
(يَوْمَهم الذي يوعَدون) :
قد قدمنا مراراً أنه يوم القيامة، بدليل أنه أبدل منه: (يوم يَخْرجونَ من الأَجداث) ، وهي القبور.
(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) :
هذا من قول نوح، وعَدَهم أَن يغفر لهم ما قبل إسلامهم لا بَعده، لأن ذلك في مشيئة الله، فمِنْ هنا للتبعيض، وقيل لبيان الجنس، وقيل لابتداء الغاية، وهذان ضعيفان، والأول أولى، لأن التبعيضَ فيها متَجه.
وتعلَّق المعتزلة بهذا، فقالوا بالأجَلين.

(3/435)


وردَّ تعلقهم، لأن المعنى أنَّ نوحاً عليه السلام لم يعلم هل هم ممَّنْ
يؤخر أو ممن يعاجل، ولا قال لهم إنكم تؤخرون عن أجل قد جاء، لكن سبق في الأزَل أنهم إما ممن قضِي له بالإيمان والتأخير أو ممن قضِي له وعليه بالكفر والمعاجلة، فكان الاحتمال يقتضيه ظاهر الآية إنما هو يبرزه الغَيْب من حالهم، إذ يمكن أن يبرز إما الإيمان والتأخير وإما الكفر والمعاجلة، وأمَّا ما عند الله فالحال الذي يكون منهم معلوم مقدَّر محتوم، وأجلهم كذلك معلوم مقدَّرٌ محتوم.
فإن قلت: ما المانع من كون (من) للغاية، أعني الابتداء والانتهاء.
كقولك: أخذت المالَ - من الصندوق؟
والجواب لا يصح هنا، لأنَّ الصندوق غير مأخوذ، بل مأخوذ منه، فيلزمِ
هنا أن تكونَ الذنوب غير مغفورة، ونقل عن أبي الربيع أنه إشارة إلى أنّ
الإسلامَ يحبط ما قبله.
وردّ بأنه يلزم صدق الذنوب على الماضي والمستقبل، لأن
الخطابَ للكفار، فيلزم المجاز، لأن الآتي لم يعملوه، فكيف يصدق عليه أنه
ذنوب قبل الفِعْل.
ونقل عن ابن عصفور أنه قال: يغفر لكم جملةً من ذنوبكم.
ورد بأن تلك الجملة بعض الذنوب، فلا حاجةَ إلى تقديرها، ولفظة من النائبة مناب بعض يغني عنها.
فتأمل يا محمديّ هذه العناية الربانية بكَ حيث خاطب هذه الأمّة، قال في
حقهم: (يغْفِرْ لكم ذنوبكم) ، وحيث خاطب الأمم المتقدمة أنبياؤهم خاطبوهم بالبعض، لتعلم الفَرْقَ بين خطاب المولى الكريم من خطاب عبيده.
(يقول سَفِيهنَا على الله شَطَطاً) :
هذا من كلام الجنّ، والمراد بالسفيهِ أبوهم إبليس.
وقيل هو اسْمُ جنس لكلّ سفيهٍ منهم، وهو المختارُ عند ابْن عطية.
(يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ) :
الضمير يعود على العرب، لأنهم كانوا إذا حلَّ أحدهم بوادٍ صاح بأعْلَى صوته: يا عزيز هذا الوادي، إني أعوذ

(3/436)


بك من السفهاء الذين في طاعتك، ويعتقد أن ذلك الجني الذي بالوادي يحميه، وهذا جهلٌ منهم وإنكار للربوبية، ولذلك قال الله: (فزادوهم رهقا) .
(يَدْعُوه) :
الضمير لعبد الله المتقدم.
وقد قدمنا مراراً أنَّ اللهَ سمّاه هذا لإضافته للتشريف والتكريم.
وقال الزمخشري: إنما لم يقل الرسول أو النبي لأن هذا وقع في كلام رسول الله عن نفسه، لأنه مما أوحي إليه، فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - نَفْسَه على ما يقتضيه التواَضع والتذلل، وهذا بعيد مع أنه إنما يتمكن
على قراءة أنه لما قام بفتح الهمزة فيكون عطفاً على (أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ) .
وأمّا على القراءة بالكسر على الاستئناف فيكون إخبارا من الله، ومن جملة كلام الجن، فيبطل ما قاله.
(يكونون عليهِ لِبَداً) :
يحتمل أن يكون الضمير للكفار من الناس، أيْ كادوا يجتمعون على الرد إليه وإبطال أمْرِه، أو يكون للجن الذين استمعوا، أي كادوا يجتمعون عليه لاستماعِ القرآن للتبرُّك به.
(يَجعل له رَبِّي أمَداً) .
أي لا أدري أقريب ما توعدون مِن قتلكم يوم بَدْر أو موتكم بعد، ولذلك قال: (عالمُ الغيب) ، يعني هذا أمر مغيب.
(يوم تَرْجفُ) .
العامل في يوم معنى الكلام المتقدم، وهو (إنَّ لدينا أنْكالاً) .
(يجعَل الوِلْدَان شِيباً) .
يعني أن الأطفال يشيبون يوم القيامة من شدَّة الهول، فقيل إن ذلك حقيقة، وقيل إنه عبارة عن هَوْل ذلك اليوم، وأخذ من الآية أنَّ الهمَّ يسرع الشيب، وهذا مشاهَد في كثيَر من الأشخاص في كل عصر.
وقد رأينا مَنْ شاب من هَمِّ ساعة، ورأينا حكايات شتّى أنهم شابوا من ذلك، فإذا كان هذا في الدنيا المنْقَرِضة همومها،

(3/437)


لا خيرها يدوم ولا شرها يبقى، فما بالك بيوم تذهل فيه كلّ مرضعةٍ عمّا أَرضعت، ويفرّ المَرءُ من أخيه!
اللهم لا محيص من هَوْله إلاَّ بك، ولا مَفَرّ منه إلا بعفوك، فاجعله لنا يوم رحمةٍ لا يوم نِقْمة، إليك المشْتَكى، وبكَ المستغاث، وعليك التكلان، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بك.
(يَطمَعُ أَنْ أَزِيد) .
أي يطمع في الزيادة على ما أعطاه الله، ويظن أن حِرصَه واجتهاده يوصّله لمراده، وهذا غاية الجهل، ولذلك قال مهدّداً له: (كلا إنه كان لآياتنا عَنِيداً) .
(يقول الذين في قلوبهم مَرَضٌ والكافرون) :
المراد بالأولين المنافقون، لأنه وصفهم بمرض قلوبهم.
فإن قلت: ذلك في البقرة، وهذه الآية مكية، فكيف يصحّ إطلاقها عليهم
وليسوا بها؟
والجواب: أن معناه يقول المنافقون إذا حدثوا، ففيه إخبار بالغيب، أو يريد
مَنْ كان بمكة من أهل الشك.
(لِيَفْجُرَ أمَامَه) .
أي يفعل أفعالَ الفجور.
وفي معنى " أمامه " ثلاثة أقوال:
أحدها أنه عبارة عما يستقبل من الزمان، أي يفجر بقيةَ عمره.
الثاني أنه عبارة عن اتباع أغراضه وشهواته، يقال: مشى فلان قدَّامه إذا
لم يرجع عن شيء يريده، والضمير على هذين القولين يعود على الإنسان.
الثالث أَن الضمير يعود على يوم القيامة.
والمعنى يريد الإنسان أن يَفْجرَ قبل يوم القيامة.
(يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ) .
أي يسأل الإنسان على وجه الاستخفاف والاستهزاء متى يوم القيامة.
وهذا لِجَهلِه إما على أن من مات فقد قامت قيامتُه وهو يشاهد الموت بَغْتة، فكيف يستبعدها وليس الخبر كالمعاينة.
لكن الجاهل أعمى، ولا يقال لهذا جاهل بل أحمق.

(3/438)


(يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) .
أي بجميع أعماله المقدمة في عمره، وما أخر منها بعد مماته، هل سَنَّ سنَّةً حسنة أو سيئة أو صلة أَوصى بها تضره أو تنفعه، أو ما قدم من المعاصي وأخّر من الطاعات، أو ما قدم لنفسه من ماله وما أخّره منه.
أو ما قدم في أول عمره وما أخّر في آخره.
ويحتمل أنه ينبَّأ عن مجموعها.
وفي الحديث: " يدنو أحدكم من ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فيقول عبدي خلقْتكَ بتدبيري، وصوّرْتك بحكمتي، وأتممت عليك نعمتي، فلِمَ عصيتني؟ ".
فأيّ جوابِ لك أيها العبد، وفي حديث آخر:
" لا تزول قَدَمَا عَبد حتى يسأل عن خمس: عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه، وعن علمه ما عمل فيه، أتدرون مَنِ المفْلس؟
قالوا: لا، يا رسولَ الله.
قال المفلس من يأتي يوم القيامة وله أمثال الجبال من الحسنات، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وضرب هذا، وأكل مالَ هذا، فهذا يأخذ من حسناته وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته طرحت عليه سيئاتهم، ثم طرح في النار ".
اللهم ارحمنا إذا صِرْنَا إليك، والطف بنا يوْمَ الوقوفِ بين يديك، أقسمتُ عليك بأكرم الخَلْق عليك وأرْفعهم مكانة لديك محمد - صلى الله عليه وسلم.
(يومئِذٍ المَسَاق) :
مصدر من السوق، كقوله تعالى: (إلى اللَهِ المصِير) .
(يَتَمَطَى) .
الضمير يعود على أبي جهل، وذلكَ أنه كان يبختر في مشيته ويتعجّب من نسمته، ويرى انه أَفضل قومه، فردّ الله عليه بقوله: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى) أي مَنْ كانت هذه حاله كيف يتبختر، وكانت هذه المشية معروفة في بني مخزوم، وختم هذه الآية بقدرته تعالى على إحياء الموتى، لأن مِنْ لازم خَلْق الإنسان وتصويره على هذه الهيئة المشاهدة القدرةَ على إحياء الموتى من باب أولىَ.
(يَتِيما) :
قد قدمنا أن اليتيمَ مَنْ فقد أباه من الآدميين، وِمنَ الحيوان مَنْ
فقد أمَّه، وسَمَّى الله نبيه بقوله تعالى: (ألَم يَجِدْكَ يتيما فآوى) .

(3/439)


وذلك أنه قال ليلةَ الإسراء: يا رب، اصطفيتَ آدم، وسلمت على نوح، ورفعتَ إدريس، وكلمتَ موسى، فقال له: (ألم يَجِدْكَ يتيما فاَوَى) .
. .) ، إلى آخر ألم نشرح.
وهذا الاستفهام على ذكر المنة والتسلية بما أعطاه الله وفَضّله على سائر
الرسل، هذا ما أعطاه الله في الدنيا والآخرة وأعظمها قوله: (ولسوف يُعْطِيكَ رَبُّكَ فتَرْضَى) ، ففي إبهام هذا العطاء ما لا يُوصف.
(يَوْمَا عَبوساً) .
قد قدمنا أنه عبوس على الكافر، لأنه يعبس يومئذ حتى يسيلَ الدم من عينيه، مثل القطران، وأما المؤمنُ فيسرّ بما يلْقَى من الرحمة الخاصة به، جعلنا الله منهم.
(يا ليتني كنْتُ تُرَاباً) .
هذا من قول الكافر لما يرى مِنَ اقتصاص البهائم بعضها من بعض، ثم ترجع تراباً فيقوله ليسلم من العذاب كما سلمتِ الحيوانات، وأنّى له ذلك! وقيل المرادُ به إبليس، لأنه احتقر الترابَ في قوله: (خلَقْتَنِي من نارٍ وخلقْتَهُ من طين) ، فيتمنى حينئذ أن يكونَ مثل آدم وأولاده لما رأى ما أنعم الله على المؤمنين منهم.
(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) .
العامل في " يوم " محذوف، وهو الجوابُ المقدر، تقديره لتبعثن يوم تَرْجُف الراجفة.
وإن جعلنا (يَوْمَ تَرْجُفُ) الجواب فالعاملُ في يوم معنى قوله: (قلوبٌ يومئذ وَاجِفة) ، أي شديدة الاضطراب كما قدمنا في حرف الواو، ويكون
(تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) في موضع الحال.
ويحتمل أن يكون العاملُ فيه (تَتْبَعُهَا) ، وقد قدمنا أن هذين الاسمين من أسماء
القيامة، فقيل الراجفة النفخة الأولى في الصّور، والرادفة الثانية لأنها تتبعها.
وبينهما أربعون عاماً.
وقد قدمنا في حرف الثاء أنَّ الراجفةَ الأرض، والرادفة السماء، لأنها تنشقّ يومئذ.
وقيل الراجفة الموت، والرادفة القيامة.
وقد قدمنا أنَّ

(3/440)


النَّفْخ على ستة أوجه: لآدم، (فإذا سَوَّيْتُه ونفخْتُ فيه مِنْ رُوحِي) .
ولذي القرنين: (قال انْفُخوا) .
ولمريم: (فنَفَخْنا فيها من رُوحِنا) .
ولعيسى عليه السلام: (فَأَنْفُخُ فِيهِ) .
وفي هاتين النفختين: (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ) .
هذه حكايةُ قول الكفار في الدنيا، ومعناه على الجملة إنكارُ البعث، فالهمزةُ
في قولهم (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ) للإنكار، ولذلك اتفق القُرّاء على قراءته بهمزتين إلا أنَّ منهم من سهّل الثانية، ومنهم مَن حقّقها.
واختلفوا في (أإذا كُنا عظَاماً) ، فمنهم من قرأه بهمزةٍ واحدة، لأنه ليس موضع استفهام ولا إنكار، ومنهم من قرأه بهمزتين تأكيداً للإنكار المتقدم.
(يَقْضِ ما أمَره) :
مجزوم بـ (لمَّا) ، ومعناه أنه لا يقضي الإنسان على تطاول عمره ما أمره الله، إذ لا بدَّ للعبد من تفريط، وإذا كانت الأنبياء والرسل والملائكة المقرّبون يقولون يوم القيامة: سبحانك ما عبدناك حَقّ عبادتك، فكيف يقضي العاصي لربه حَقَّه، أو كيف تقضي العبودية حقّ الربوبية!
(يَوْمَ يقوم الناس لرب العالمين) :
الظرف منصوب بقوله: (مبعوثون) .
وقيل بفعل مضمر، أو بدل من (يوم عظيم) .
وقيام الناسِ يوم القيامة على حسب اختلافهم، فمنهم مَن يقوم خمسين ألف
سنة وأقل من ذلك على حسب أعمالهم، ومنهم مَن يقوم من قبورهم إلى
قصورهم، ومنهم على قَدْر صلاة مَكتوبة.
(يَشْهَده المقَرَّبون) :
يعني الملائكة لقربهم من الله.
(يَشْرَبُ بها) .
يعني يشربها، فالباء زائدة.
ويحتمل أن تكونَ بمعنى يشرب منها، أو كقولك: شربت الماءَ بالعسل.

(3/441)


(يَحُور) .
أي يرجع بلغة الحبشة، قاله ابن عباس.
(يخرج من بين الصُّلْبِ والتَرَائبِ) :
الضمير للماء.
وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون للإنسان، وهذا بعيد جداً.
(يوم تُبْلَى السّرَائِر) .
يعني تنكشف سرائر العبد التي كانت في قلبه من عقائد ونيّات، وتاللَه لا يجد فيها في هذا الزمان إلا ضغائن وحقائد وخبث طويات.
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن السرائِر الإيمان والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة ".
وهذه معظَمها، ولذلك خَصَّها بالذكر، والعامل في (يوم) قوله
(رَجْعه) ، أي يرجعه (يوم تُبلى السرائِر) .
واعتُرض بالفصل بينهما.
وأُجيب بقوةِ المصدر في العمل.
وقيل: العامل (قادر) .
واعتُرض: بتخصيص القدرة بذلك اليوم، وهذا لا يلزم، لأن القدرة وإن كانت مطلقةً فقد أخبر الله أن البعث إنما يقَع في ذلك اليوم.
(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) .
يعني كيف تنفعه حينئذ الذكرى، وقد انقطعت علائقه.
والإنسان جنس يشمل جميعه، وتذكره إنما هو بنَدمه على تفريطه، ويومئذ بدل من (دُكَّت) ، ويتذكر هو العامل، وهو جواب (دُكَّت) .
(يقول يا ليتني قدَّمْتُ لحيَاتِي) .
أي قدمتُ عملاً صالحاً وقتَ حياتي، فاللامُ على هذا كقولك: كتبت لعشر من الشهر.
وقيل الحياة في الآخرة.
والمعنى: يا ليْتني قدمتُ عملا صالحاً للآخرة.
وكيف ينفَعه هذا القول وقد أخبر الله بعذابه ووثاقه؟!
(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) .
قد قدمنا أنَّ النفوس ثلاثة:
لوّامة، وأمَّارة، ومطمئنة، وهي المرادة هنا بالخطاب، لأنها المُوقِنة بحيث

(3/442)


لا يتطرق إليها شكٌّ في الإيمان.
وقيل المطمئنة التي لا تخاف حينئذ.
ويؤيدُ هذا قراءة أبيّ بن كعب: " يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة ".
(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا) .
بضم اللام وكسرها.
بمعنى الكثرة.
والقائل لهذا عند قوم الوليد بن المغيرة، لأنه أنفق أموالاً في إفساد أمرِ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
(يَتَزَكَّى) .
من أَداء الزكاة، أو من الزكاء، أي يصير زاكياً عند الله، أو يتطهر من ذنوبه.
وهذا الفعل بدل من (يؤتي ماله) ، أو حال من الضمير.
والمراد به أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، ولو لم يكن له من الفضيلة إلا نزول هذه السورة فيه لكان فيها كفاية، فكيف وقد شبّهه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بآصف لما أتي ببركة من مكة إلى المدينة.
وسمي صدِّيقاً لأَنه صدَّق النبي - صلى الله عليه وسلم - حين كذبه الناس، وعتيقاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنت عتيق من
النار.
ولما نزلت: (ولسوف يَرْضَى) ، قال: يا رسول الله، لا يرضيني أنَ أحداً مِنْ أمَّتك يدخل النار.
فتبسَّم - صلى الله عليه وسلم - وقال: إن الله يقول لك:
إن شئت وقفت في يوم القيامة تشفَع فيمن أحببت وإن شئت مضيْت.
وقد ألَّفتُ تأليفاً سميته الوثيق في نصرة الصديق.
وبالجملة فالصحابة كلهم عدول لا يجحد عدالتهم إلا منافق مبتدع، وكيف لا والله يقول: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) ، فرضي الله عنهم وعمَن رضي عنهم وأحبَّهم.
(يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) :
الخطاب لنبينا - صلى الله عليه وسلم.
ولما نزلت قال: لا أَرضَى أنْ يَبقَى أحد من أمَّتي في النار.
فقال الله له: لا بدّ من نفاذ الوعيد على طائِفةٍ.
فطلب فيهم الشفاعة.
والصحيح أنَّ هذا وعْد يعمّ كلَّ ما أعطاه الله في الدنيا من النصر، والفتوح، وكثرة المسلمين، وغير ذلك، وفي الآخرة من الوسيلة، والدرجة الرفيعة، والمقام المحمود الذي لا ينَالُه أحد.

(3/443)


فإن قلت: ما فائدة الامتنان عليه باليتم؟
والجواب: لئلا يكون عليه حقّ لمخلوق، ولما مات أبوه تركه في بطْنِ مولاتنا
آمنة، ثم ماتت وهو ابْنُ خمسة أعوام، وقيل ثمانية، فكفله جدُّه عبد الطلب، ثم مات وتركه ابْنَ اثنتي عشرة سنة، فكفله عمُّه أبو طالب، ورام المعاندون قَتْله وخموده فلم يَقْدروا عليه لحِفْظِ الله له صبيّاً وكَهْلاً، فلهذا عدّد نِعَمَه عليه سبحانه كما قدمنا.
(يتلو صُحُفاً مُطهَّرة) .
الضمير لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أنه يتلو القرآن في صحُف مطهرة.
وقد قدمنا معناها.
(يومئذ تحَدِّثُ أخبارَها) .
هذه عبارة عما يحْدث الله فيها من الأهوال، فهو مجازٌ وحديث بلسان الحال.
وقيل: هو شهادتها على الناس بما عملوا على ظَهرها، فهو حقيقة.
وتحدّث يتعدَّى إلى مفعولين، حذف الأول منها.
والتقدير تحدث الخَلْقَ أخبارها.
وانتزع بعض المحدثين من قوله: (تحدث أخبارها) أن قول المحدِّث: حدثنا، وأخبرنا سواء.
وهذه الجملة في جواب: (إذا زلزلت الأرضُ) ، و (تحدث) هو العامل في إذا، و (يومئذ) بدل من (إذا) .
ويجوز أن يكونَ العامل في (إذا) مضمر و (تحدث) عامل في (يومئذ) .
(يَوْمئذ يصْدر الناس أشتاتاً ليُرَوْا أعمالَهم) .
أي مختلفين في أحوالهم، وصدر الناس هو انصرافهم من موضع وردهم.
فقيل الورد هو الدفن في القبور والصدر هو القيام للبعث.
وقيل الورد القيام للمحشر، والصدر الانصراف إلى الجنة أو النار، وهذا أظهر.
وفيه يَعْظم التفاوت بين أحوال الناس، فيظهر كونهم أشتاتاً.
(يوم يكون الناسُ) :
العامل في الظرف محذوف دلَّ عليه القارعة.
تقديره في يوم.
(يحسب أنَّ ماله أخلده) .
أي يظنَّ بفَرْطِ جَهْله واغتراره أنَّ مالَه يخلّده في الدنيا.
وقيل: يظن أنَّ ماله يوصِّله إلى دار الخلد.

(3/444)


واختلف على من يعود الضمير من الكفار على أقوال.
(يدعّ اليَتِيم) .
أي يدفَعه بعُنْف، وهذا يحتمل أن يكونَ عن إطعامه والإحسان إليه، وعن ماله وحقوقه، وهذا أشدّ.
(يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) :
هذه الجملة في جواب (أَرَأَيْتَ) ، لأنَّ معناها أخبرني، فكأنه سؤالٌ وجواب.
والمعنى انظر الذي يكذب بالدين تجد فيه هذه الأخلاق القبيحة والأعمال
السيئة، وإنما ذلك لأنَّ الدين يحمل صاحِبه على الحسنات، وترك السيئات.
فمقصود الكلام ذَمُّ الفاعل لذلك.
قال الجنيد: عرضت نفسي ليلة على هذه السورة، فلم أجد فيها ذلك، ثم عرضت عليها (قد أفلَحَ المُؤْمِنُون) إلى قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ) ، فقلت: سبحانك لا من هؤلاء ولا من هؤلاء، فسمعت هاتفاً يقول: من الذين (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) .
هذا الجنيد فكيف حالك يا خويْد؟!!
(يُرَاءُونَ) الناس، فكانت صلاتهم للناس لا لله، فلذلك ذمَّهم الله في الدنيا وعذّبهم في الآخرة، وفي هذا تحذير لمن اتَّصفَ بصفتهم، فالأحْمَق مَنْ يعمل لرضا الناس، وهو لا يُدرك، وأجهلُ الناس مَنْ طلب ما لا يُدرك، وعن قريب يظهر له فِعله.
وهذا يختلف باختلاف المقاصد، لأن مَنْ عمل لإظهار الله جميله وستره قبيحه، أو لأنه يفعل به ذلك في الآخرة، أو لقُدْوتهم به أذلَّه مثل أجورهم، أو فرح بثنائهم لحبهم الطاعة والمطيع وسلامتهم من أضدادها، أو ليعرف حبَّ ربه تعالى إذا أحبه حَبَّبَهُ إلى عباده، أو لئلا يشغله ذمهم ونحوه فحسن.
(يَمْنَعون المَاعُون) :
قد قدمنا في حرف الميم أن هذا وصف لهم بالبخل وقلّة المنفعة للناس، ومَنْ لا ينفع الناس لا ينفعه الله، وأنفَعُ الناسِ عند الله أنفَعُهم للناس إلا إن أوجب الله طردهم وبعدهم وهجرانهم،

(3/445)


فالبغضُ في الله أوجب، ولذلك اختلف الفقهاء في التصدق على تارِك الصلاة، قال بعضهم: الحمد للهِ الذي قال: (عن صَلاَتهم) ، ولم يقل في صلاتهم.
(يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)
سبب نزول هذه السورة أنَّ قوماً من قريش منهم الوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاصي بن وائل، وأبو جهل ونظراؤهم - قالوا: يا محمد، اتَّبع ديننا ونَتَّبع دينك، اعبُدْ آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة.
فقال: معاذ الله أن نشرك بالله شيئاً.
ونزلت السورة في معنى البراءة من آلهتهم، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ قرأها فقد برئ من الشرك.
وفي هذا المعنى الذي عرضت عليه قريش نزل قوله: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) ، ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزلت السّورة بسببها.
فإن قلت: لم كرر قوله تعالى: (ولا أنا عابِدٌ ما عبدْتم) ؟
فالجواب: في تكرار هذه الآيات أقوال جَمَّة ومعانِ كثيرة، وتلخيصها أنَّ
الله تعالى نفى عن نبيه عبادةَ الأصنام في الماضي والحالَ والاستقبال، ونفى عن
الكفار المذكورين عبادة الله في الأزمنة الثلاثة أيضاً، فاقتضى القياس تكرار هذه اللفظة ستَّ مرات، فذكر لفظ الحال، لأن الحال هو الزمان الموجود، واسم الفاعل واقعٌ موقعَ الحال وهو صالح للأزمنة الثلاثة، واقتصر من الماضي على المسند إليهم، فقال: (ولا أنا عابد ما عَبَدْتم) ، وكان اسم الفاعل بمعنى الماضي فعمل على مذهب الكوفيين.
واقتصر من المستقبل على المسند إليه، فقال: (ولا أنتم عابدون ما أَعبد) ، وكان اسم الفاعلين بمعنى المستقبل.
(يُشْعِرُكم) .
أي يُدريكم، وهو من الشعور بالشيء.
(يُلْحِذون في أسمائه) .
أي يجورون في أسمائه ويشتقّون اللات من الإله، والعزّى من العزيز، وقيل تسميته بما لا يليق به، ولما قال أبو جهل ما قال نزلت الآية.

(3/446)


(يوم حُنين) :
عطف على (مواطن) ، أو منصوب بفعل مضمر.
وهذا أحسنُ لوجهين:
أحدهما أن قوله: (إذ أعجبتكم كثْرَتُكم) : مختص بحُنين، ولا يصح في غيره من المواطن، فيضعف عطف أحدهما على الآخر، إلا إن أريد بالمواطن الأوقات.
وحُنين اسم علم لموضع عُرف باسم رجل اسمه حُنين، وانصرف لأنه مذكر، وهي قرية قرب الطائف.
(يُحَادِدِ الله ورسوله) .
أي يخالفهما ويعاديهما.
وقيل: اشتقاقه من الحد، كقولك: يكون الله ورسوله في حدّ، وهو في حدّ.
(يُغَاث الناسُ) :
يحتمل أن يكون من الغيث، أي يمطرون، أو من الغوث، أي يفرج الله عنهم.
(يُحَاوِرُهُ) .
أي يراجعه في الكلام.
(يقَلِّبُ كَفَّيْه) :
يصفّق بالواحدة على الأخرى كما يفعل المتندم المتأسّف على ما فاته.
(يُغادِر) .
يخلف ويترك.
(يضَيِّفوهمَا) .
ينزلوها منزلةَ الأضياف في إطعامهما والإحسان إليهما.
(يُعَقِّبْ) :
يرجع على عَقبِه إلى خلف.
وقيل يلتفت.
(يوزَعون) :
يكفّون ويحبسون.
وجاء في التفسير يحبس أولهم على آخرهم حتى يدخلوا النار.
ومنه قول الحسن رضي الله عنه لما تولّى القضاء وكَثر الناس عليه: لا بدَّ للناس من وزيعة، أي من شرطة يكفّون الناسَ عند القاضي.
(يُؤْتون ما آتوْا) .
من الزكاة والصدقة.
وقيل: إنه عامّ في جميع أعمال البر، أي يفعلون وهم يخافون ألاَّ تقبل منهم.

(3/447)


وقد روت عائشة هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنها قرات (يأتون ما أتوا) بالقصر، فيحتمل أنْ يكون الحديث تفسيراً لهذه القراءة، وقيل: إنه عام في الحسنات والسيئات، أَي يفعلونها وهم خائفون من الرجوع إلى الله.
فإن قلت: ما فائدة حذف الضمير في هذه الآية المثبت في الآيتين قبلها؟
فالجواب: أنه أكد في الأوليين بالضمير، وفي هذه بقوله: (وقلوبهم وَجِلَة) ، أي خائفة.
(يكَوِّر اللّيْلَ على النهار) .
أي يلف هذا على هذا، ككور العمامة، وهو هنا استعارة على ما قال ابْن عطية يعيد من هذا على هذا، فكأنّ الذي يطول من النهار أو الليل يصير منه جزء على الآخر فيستره، وكأن الذي يقصر يدخل في الذي يطول فَيْستَتِر فيه.
ويحتمل أن يكون المعنى أنَّ كلَّ واحد منهما يغيّب الآخر إذا طرأ عليه.
فشبه في ستره له بثوبٍ يلف على آخر.
(يوبِقْهنَ بِمَا كسبوا) .
ضمير التأنيث يعود على السفن، يعني يهلكها بما يكسب أهلها.
وهذا عطف على (يسْكِنِ الريحَ) ، ومعناه لو شاء اللَّهُ أغرق السفن من شدة الرياح العاصفة، أو يسكنها فيظْلَلْنَ رَوَاكد على ظهره لا يتحركْنَ بالجري.
(يُزْلِقونَك بأبْصارِهم) .
أي يزيلونك بعيونهم، لأنهم غاروا من فصاحته، فقال له قائل منهم: ما أفصحك! وقصد أخْذَه بالعين، لأنه أعياهم أمره، فلم يبقَ لهم من الحِيَل إلا هذا، فأنزل الله عليه هذه الآية، وحفظه منهم، فلذلك لا تجد أنفع رُقْية منها لمن أصابه العين، وقرِئت (ليزلقونك) بضم الياء، أَي يستأصلونك من قولهم: أزلق رأسه إذا حلقه.
(يُوفِضون) :
يسرعون الخروجَ من القبور إلى المحشر، كما يسرعون الْمَشْي إلى أصنامهم في الدنيا، لكنه خلاف إسراعهم إليها، لأن

(3/448)


الدنيا دارُ مُهْلة وتَنَعُّم، وهناك كما وصف الله حالَهم (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) .
ووجوههم مغبرة ترهقها قَتَرة.
(يُوعُون) .
أي يجمعون في صدورهم من الكفْر والتكذيب، أو هو سبحانه عالم بما يجمعون في صحائِفهم من الأعمال.
يقال: أوعيت المالَ وغيره إذا جمعته.