معترك الأقران في إعجاز القرآن ولنختم معاني هذه الحروف بذكر دخول مَنْ
أورثه الله هذا الكتاب العظيم من
الظالم والمقتصد والسابق، وأن الله وعدهم بجنةِ عَدْن
يدخلونها، والضمير راجع إلى الثلاثة، قال تعالى: (ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ
عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ
اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ
عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ) .
قالت عائشة رضي الله عنها: لو علموا ما تحت واو الجماعة
لماتُوا فَرَحاً.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " سابقُنا سابق، ومقتصدنا لاحق،
وظالمنا مغفور له ".
فإن قلت: ما فائدة تقديم الظالم، وهلاَّ جاءتِ الآيةُ مثل
الحديث؟
فالجواب: عادةُ المخلوق يقَدِّمُ الأفضل، فخاطبهم الله على
عوائدهم، ألا
ترى قوله: زُرْ كغُبًّا تَزْدَد حُبًّا.
وقال الله: (واعْبُدْ رَبك حتّى يأتِيَك اليَقِين) .
ويقولون: لا تعير فتبلى.
وقول الله: (فاعْتَرَفُوا بذَنْبهم) : ويقولون: أحْسِن إلى
مَنْ أحسن إليك.
ولما كان السابق قريباً، والظالم بعيداً، والقريب يحتمل ما لا
يحتمل البعيد.
والظالم منكس الرأس من حياءِ جُرْمه ومعصيته، فلما نكس رأسه
رفعه الله كما أنَّ الجوديّ وطور زيتا لما لم يرفعا رؤوسهما
أكرمهما الله كما قدمنا، والظالم ضعيف، والسابق قويّ، والعادة
في القافلة تقديم الضعيف والرجالة، ألا تراه - صلى الله عليه
وسلم - كان يقدم الضعفة إل مِنى قبل الفجر، فقدم الظالم لئلا
يفتضح ولا يَعَاب، وأيضاً الظالم غير مدع والسابق مدع، ولو قدم
السّابق وأخّر الظالم لبان منه
(3/449)
العَدْل، والظالم رفع قصته إلى الله فوقع
له توقع الرحمة في قوله تعالى: (قل يا
عبادي الذين أسرفوا على أنْفسهم) ، وللمقتصد توقع التوبة في
قوله تعالى: (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا
عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ) .
وللسابق توقع الرضوان، قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) .
فالمقاماتُ على ثلاثة أسْماء: الله الرحمن الرحيم، فانظر كيف
اصطفاهم كما قال في إبراهيم: (ولقد اصْطَفينَاه في الدُّنيا
وإنه في الآخرةِ لَمِن الصَّالِحين) .
فإن قلت: ما الفرق بين الاصطفاء والإفضال، ولِمَ لَمْ يقل
فضّلنا؟
والجواب: أن الاصْطِفاء كلّي بجميع الأشياء، والإفضال بعض لبعض
دون
بعض، والاصطفاء أخروي، (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ
رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) .
والإفضال دنيوي، (والله فَضل بَعْضَكم على بَعْض في الززْق) ،
والإفضال عام، (وأني فَضَّلْتكم على العالَمين) ، أي على عالمي
زمانهم، والاصطفاء خاصّ، والخاص مقدَّم على العام.
فإن قلت: ما الحكمة ُ في أنَّ الله أعطى القرآن بلفظ الميراث؟
والجواب: لأنه ليس شيء أطيب وألذّ وأجلَّ من الميراث، فذِكْرهُ
بلفظ
الميراث أحلى وأطيب وأشهى.
وأيضاً الميراث لا يُنْزعَ من يَدِ الوارث بخلافِ العطايا
والهبات، فذكره بلفظ الميراث ليعلم أنه لا يريد أن ينزعه عنك.
وأيضاً الميراث يعمّ الأولاد عصاة أو مطيعين، كذلك القرآن.
وإذا أكرم الله المؤمن على الجملة باثنتي عشرة كرامة فكيف بمن
اصطفاه بهذا القرآن، قال تعالى: (الذين آمَنُوا ولم يُلْبِسُوا
إيمانَهم بظُلم) .
(وإن الله لَهَادِي الذين آمنوا) ، (يثبِّتُ الله الذين آمنوا)
.
(وبَشّر الذين آمَنوا) ، (وبشِّر المؤمنين) .
(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى
نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ
الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا) .
(يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ
لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) .
(3/450)
(وكذلك ننجي المؤمنين) .
(ربّنا آمَنّا فاكتبنَا مع الشاهدين) .
(وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات) .
(للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا
قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) .
فإن قلت: قد ذكرت لنا فضيلةَ الثلاثة فميِّز لنا مَنْ هم؟
والجواب: قد قدمنا مَنْ هم، وكثرت أقاويل الناسِ فيهم حتى
أنهاه بعضهم
إلى عشرين قولاً، وتلخيصهم أن السابق الذي يدخل الجنة بغير
حساب ولا
عذاب، والمقتصد الذي يدخلها بفضل الله.
والظالم الذي يدخلها بشفاعةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وقيل السابق المحافظ على الجماعة.
والمقتصد المحافظ للوقت، والظالم الغافل عنهماجميعا.
وقيل الظالم الذي خلط عمَلاً صالحاً وآخر سيئاً.
والمقتصد الذي لم يخلط.
والسابق الذي لم تقع منه هفوة.
وقيل الظالم أهل الكبائر.
والمقتصد أهل الصغائر.
والسابق المجتنب لها جميعاً.
فإن قلت: لم وقعت الإشارة (ذلك هو الفَضل الكبير) ؟
فالجواب أنه قد كثرت الأقاويل أيضاً في ذلك، فقيل إشارة إلى
الإرْث
والاصطفاء أو الظالم، أو إلى إذْنه، أو إلى دخول الجنة أو إلى
الله، أي ذلك
الذي فعل هذا هو الفَضْل الكبير.
اللهم بَلغنا هذا الفَضْلَ، ولا تعاملنا بالعدل، وقد ابتدأنا
بالفضل، وفعلك
مبنيٌّ على الابتداء (كما بدأكم تَعودون) .
(يا) :
حرف لنداءَ البعيد حقيقة أو حكماً، وهي أكثر حروفه استعمالاً.
ولهذا لا يقدر عند الحذف سوَاها نحو: (رَبّ اغفِر لي) .
(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) .
(3/451)
ولا ينادي اسم الله، وأيتها، إلا بها.
قال الزمخشري: وتفيد التأكيد الْمُؤْذِن بأنّ الخطاب الذي
تتلوه معتنىً به جدًّا.
وترد للتنبيه، فتدخل على الفعل والحرف، نحو: (ألا يا اسجُدُوا)
.
(يا ليت قَوْمي يعلمون بما غَفرَ لي رَبِّي) .
وقد ختمْتُ الكلام على هذه الحروف ومعاني أدواتها على وَجْه
مُوجز مفيد
محصِّل للمقصود منه، يكظم غيْظَ حبيب النجار، وحَطه عن قومه،
والترأف بهم في حياته بالتشمّر في هوايتهم والتلطف معهم في
دعائهم إلى الإيمان، وبعد موته بعدم الدعاء لقتلته والباغين له
الغوائِل وهم كفرةٌ عبدةُ أصنام، بل تمنى لهم علمهم بأنه كان
على صواب ونصيحة وشفقة، وأن عداوتهم لم تكسبه إلا فوزا وسعادة،
راجياً من الله أن يعاملني بما عامل به قومه مع كفرهم
وطغيانهم، وهو عبد مثلهم، فكيف بأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
فأسألك اللهم أن تحنَن عليَّ قلوباً تفكرت في هذه الفوائِد
التي جعلْتَ لهم
قلوباً يفقهون بها، وأعيناً يبصرون بها، فيتذكروني إذا وصلوا
إلى حضرتك
بذكري عندك، لأنك عالم أني لسْتُ بأهل أن أكون دليلاً إليكَ،
لكني أدل
المنقطعين عليك، فاهْدِ الدليلَ، ولا تردَّ المدلول، ولا حولَ
ولا قوةَ إلا بك. |