مناهل العرفان في علوم القرآن

المجلد الثاني
المبحث الثاني عشر: في التفسير والمفسرين وما يتعلق بهما
التفسير
...
المبحث الثاني عشر في التفسير والمفسرين وما يتعلق بهما
1 - التفسير
التفسير في اللغة: الإيضاح والتبيين ومنه قوله تعالى: في سورة الفرقان: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} .
والتفسير في الاصطلاح: علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية.
والمراد بكلمة علم المعارف التصورية قال عبد الحكيم على المطول: إن علم التفسير من قبيل التصورات لأن المقصود منه تصور معاني ألفاظه وذلك من قبيل التعاريف لكن أكثرها بل كلها من قبيل التعاريف اللفظية وذهب السيد إلى أن التفسير من قبيل التصديقات لأنه يتضمن حكما على الألفاظ بأنها مفيدة لهذه المعاني التي تذكر بجانبها في التفسير.
وخرج بقولنا يبحث فيه عن أحوال القرآن العلوم الباحثة عن أحوال غيره.
وخرج بقولنا من حيث دلالته على مراد الله تعالى العلوم التي تبحث عن أحوال القرآن من جهة غير جهة دلالته كعلم القراءات فإنه يبحث عن أحوال القرآن من حيث ضبط ألفاظه وكيفية أدائها ومثل علم الرسم العثماني فإنه يبحث عن أحوال القرآن الكريم من حيث كيفية كتابة ألفاظه.
وخرج بهذه الحيثية أيضا المعارف التي تبحث عن أحوال القرآن من حيث إنه مخلوق أو غير مخلوق فإنها من علم الكلام وكذلك المعارف الباحثة عن أحوال القرآن من حيث حرمة قراءته على الجنب ونحوها فإنها من علم الفقه.
وقولنا بقدر الطاقة البشرية لبيان أنه لا يقدح في العلم بالتفسير عدم العلم بمعاني المتشابهات ولا عدم العلم بمراد الله في الواقع ونفس الأمر.

(2/3)


وعرفوا علم التفسير أيضا بأنه علم يبحث فيه عن أحوال الكتاب العزيز من جهة نزوله وسنده وأدائه وألفاظه ومعانيه المتعلقة بالألفاظ والمتعلقة بالأحكام.
والمراد بكلمة نزوله ما يشمل سبب النزول ومكانه وزمانه.
والمراد بكلمه سنده ما يشمل كونه متواترا وآحادا أو شاذا.
والمراد بكلمة أدائه ما يشمل كل طرق الأداء كالمد والإدغام.
والمراد بكلمة ألفاظه ما يتعلق باللفظ من ناحية كونه حقيقة أو مجازا أو مشتركا أو مرادفا أو صحيحا أو معتلا أو معربا أو مبنيا.
والمراد بمعاينه المتعلقة بألفاظه ما يشبه الفصل الموصل.
والمراد بمعاينه المتعلقة بأحكامه ما هو من قبيل العموم والخصوص والإحكام والنسخ.
وهذا التعريف كما ترى يشمل كثيرا من جزئيات ما يندرج في قواعد علم القراءات وعلم الأصول وعلم قواعد اللغة من نحو وصرف ومعان وبيان وبديع.
وعرفوا التفسير تعريفا ثالثا بأنه علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حال التركيب وغير ذلك كمعرفة النسخ وسبب النزول وما به توضيح المقام كالقصة والمثل.
وهذا تعريف وسط بين التعريفين ومن السهل رجوعه إلى التعريف الأول لأن ما ذكر هنا بالتفصيل يعتبر بيانا لمراد الله من كلامه بقدر الطاقة البشرية في شيء من التفصيل.
التأويل:
والتأويل مرادف للتفسير في أشهر معانيه اللغوية قال صاحب القاموس أول الكلام تأويلا وتأوله دبره وقدره وفسره ومنه قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا

(2/4)


يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} وكذلك جاءت آيات كثيرة فيها لفظ التأويل ومعناه في جميعها البيان والكشف والإيضاح.
أما التأويل في اصطلاح المفسرين1 فإنه يختلف معناه فبعضهم يرى أنه مرادف للتفسير وعلى هذا فالنسبة بينهما التساوي ويشيع هذا المعنى عند المتقدمين ومنه قول مجاهد إن العلماء يعلمون تأويله يعني القرآن وقول ابن جرير في تفسيره القول في تأويل قوله تعالى: كذا واختلف أهل التأويل في هذه الآية.
وبعضهم يرى أن التفسير يخالف التأويل بالعموم والخصوص فقط ويجعل التفسير أعم مطلقا وكأنه يريد من التأويل بيان مدلول اللفظ بغير المتبادر منه لدليل ويريد من التفسير بيان مدلول اللفظ مطلقا أعم من أن يكون بالمتبادر أو بغير المتبادر.
وبعضهم يرى أن التفسير مباين للتأويل فالتفسير هو القطع بأن مراد الله كذا والتأويل ترجيح أحد المحتملات بدون قطع وهذا هو قول الماتريدي أو التفسير بيان اللفظ عن طريق الرواية والتأويل بيان اللفظ عن طريق الدراية أو التفسير هو بيان المعاني التي تستفاد من وضع العبارة والتأويل هو بيان المعاني التي تستفاد بطريق الإشارة وقد اشتهر هذا عند المتأخرين كما نبه إليه العلامة الألوسي إذ قال بعد استعراضه للآراء في هذا الموضوع ما نصه كل ما قيل مما ذكرنا وما لم نذكر مخالف للعرف اليوم إذ قد تعورف عند المؤلفين من غير نكير أن التأويل معان قدسية ومعارف ربانية تنهل من سحب الغيب على قلوب العارفين والتفسير غير ذلك اهـ بتصرف فأنت
__________
1 وإنما قلنا في الاصطلاح المفسرين ليخرج اصطلاح المتكلمين ومن جارهم فإنهم يريدون من التأويل ما ذهب إليه الخلف من صرف نصوص ما تشابه من الكتاب والسنة عن ظاهره إلى معان تتفق وتنزيه الله تعالى عن المشابهة والمماثلة. بخلاف ما ذهب إليه السلف من التفويض والإمساك عن تعيين معنى خاص.

(2/5)


ترى أنه جعل التأويل خاصا بما كان مأخوذا بالإشارة والتفسير بما كان مفهوما من العبارة
التفسير تفسيران:
لكن التفسير على نوعين بالإجمال أحدهما تفسير جاف لا يتجاوز حل الألفاظ وإعراب الجمل وبيان ما يحتويه نظم القرآن الكريم من نكات بلاغية وإشارات فنية وهذا النوع أقرب إلى التطبيقات العربية منه إلى التفسير وبيان مراد الله من هداياته.
النوع الثاني تفسير يجاوز هذه الحدود ويجعل هدفه الأعلى تجلية هدايات القرآن وتعاليم القرآن وحكمه الله فيما شرع للناس في هذا القرآن على وجه يجتذب الأرواح ويفتح القلوب ويدفع النفوس إلى الاهتداء بهدي الله وهذا هو الخليق باسم التفسير وفيه يساق الحديث إذا تكلمنا عن فضله والحاجة إليه.
فضل التفسير والحاجة إليه:
نهضة الأفراد والأمم لا يمكن أن تكون صحيحة عن تجربة ولا سهلة متيسرة ولا رائعة مدهشة إلا عن طريق الاسترشاد بتعاليم القرآن ونظمه الحكيمة التي روعيت فيها جميع عناصر السعادة للنوع البشري على ما أحاط به علم خالقه الحكيم وبدهي أن العمل بهذه التعاليم لا يكون إلا بعد فهم القرآن وتدبره والوقوف على ما حوى من نصح ورشد والإلمام بمبادئه عن طريق تلك القوة الهائلة التي يحملها أسلوبه البارع المعجز وهذا لا يتحقق إلا عن طريق الكشف والبيان لما تدل عليه ألفاظ القرآن وهو ما نسميه بعلم التفسير خصوصا في هذه العصور الأخيرة التي فسدت فيها ملكة البيان العربي وضاعت فيها خصائص العروبة حتى من سلائل العرب أنفسهم.
فالتفسير هو مفتاح هذه الكنوز والذخائر التي احتواها هذا الكتاب المجيد النازل لإصلاح البشر وإنقاذ الناس وإعزاز العالم

(2/6)


وبدون التفسير لا يمكن الوصول إلى هذه الكنوز والذخائر مهما بالغ الناس في ترديد ألفاظ القرآن وتوفروا على قراءته كل يوم ألف مرة بجميع وجوهه التي نزل عليه.ا
وهنا تلمح السر في تأخر مسلمة هذا الزمن على رغم وفرة المصاحف في أيديهم ووجود ملايين الحفاظ بين ظهرانيهم وعلى رغم كثرة عددهم واتساع بلادهم في حين أن سلفنا الصالح نجحوا بهذا القرآن نجاحا مدهشا كان وما زال موضع إعجاب التاريخ والمؤرخين مع أن أسلافنا أولئك كانوا في قلة من العدد وضيق من الأرض وخشونة من العيش ومع أن نسخ القرآن ومصاحفه لم تكن ميسورة لهم ومع أن حفاظه لم يكونوا بهذه الكثرة الغامرة.
أجل إن السر في ذلك هو أنهم توفروا على دراسة القرآن واستخراج كنوز هداياته يستعينون على هذه الثقافة العليا بمواهبهم الفطرية وملكاتهم السليمة العربية من ناحية وبما يشرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبينه لهم بأقواله وأعماله وأخلاقه وسائر أحواله كما قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .
وعلى ذلك كان همهم الأول هو القرآن الكريم يحفظونه ويفهمونه قبل أن يحفظوه ثم يعملون بتعاليمه بدقة ويهتدون بهدية في يقظة.
بهذا وحده صفت أرواحهم وطهرت نفوسهم وعظمت آثارهم لأن الروح الإنساني هو أقوى شيء في هذا الوجود فمتى صفا وتهذب وحسن توجيهه وتأدب أتى بالعجب العجاب {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} .
وكذلك أتت الأمة العربية بالعجب العاجب في الهداية والإرشاد وإنقاذ العالم وإصلاح البشر وكتب الله لهم النصر والتأييد والدولة والظفر حتى على أقوى الدول

(2/7)


المعادية لدعوة الحق والإصلاح في ذلك العهد ودولة الفرس في الشرق ودولة الرومان في الغرب تلك محوها من لوح الوجود بهدم طغيانها وإسلام شعبها وهذه سلبوها ما كان في حوزتها من ممالك الشرق وشعوبه الكثيرة ثم دانت لهم فاستولوا على بعض بلاد أوربة وأقاموا فيها دولة عربية شامخة البنيان كانت بهجة الدنيا وزينة الحياة ومنها شع النور على الشعوب الأوربية وكانت النواة الناجحة في نهضتهم الحديثة الحاضرة تلك هي فردوس الأندلس المفقود.
أما غالب مسلمة اليوم فقد اكتفوا من القرآن بألفاظ يرددونها وأنغام يلحنونها في المآتم والمقابر والدور وبمصاحف يحملونها أو يودعونها تركة في البيوت ونسوا أن بركة القرآن العظمى إنما هي في تدبره وتفهمه وفي الجلوس إليه والاستفادة من هديه وآدابه ثم في الوقوف عند أوامره ومراضيه والبعد عن مساخطه ونواهيه والله تعالى يقول: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} ويقول سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ويقول جل ذكره: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
فما أشبه المسلمين اليوم بالعطشان يموت من الظمأ والماء بين يديه والحيوان يهلك من الإعياء والنور من حوله يهديه السبيل لو فتح عينيه: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} .
ألا إن آخر هذه الأمة لا يصلح إلا بما صلح به أولها وهو أن يعودوا إلى كتاب الله يستلهمونه الرشد ويستمنحونه الهدى ويحكمونه في نفوسهم وفي كل ما يتصل بهم كما كان آباؤنا الأولون يتلونه حق تلاوته بتدبر وتفكر في مجالسهم ومساجدهم وأنديتهم وبيوتهم وفي صلواتهم المفروضة والنافلة وفي تهجدهم بالليل

(2/8)


والناس نيام حتى ظهرت آثاره الباهرة عاجلا فيهم فرفع نفوسهم وانتشلها من حضيض الوثنية وأعلى هممهم وهذب أخلاقهم وأرشدهم إلى الانتفاع بقوى الكون ومنافعه وكان من وراء ذلك أن مهروا في العلوم والفنون والصناعات كما مهروا في الأخلاق والآداب والإصلاح والإرشاد ووصلوا إلى غاية تروا فيها كل أمم الدنيا حتى قال بعض فلاسفة الغرب في كتابه تطور الأمم ما نصه إن ملكة الفنون لا تستحكم في أمة من الأمم إلا في ثلاثة أجيال جيل التقليد وجيل الخضرمة وجيل الاستقلال وبذ العرب وحدهم فاستحكمت فيهم ملكة الفنون في جيل واحد اهـ.
قال السيوطي في بيان الحاجة إلى التفسير ما ملخصه القرآن إنما أنزل بلسان عربي في زمن أفصح العرب فكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه.
أما دقائق باطنه فلا تظهر لهم إلا بعد البحث والنظر وسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم مثل قولهم: "وأينا لم يظلم نفسه?" حينما نزل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} ففسره النبي صلى الله عليه وسلم بالشرك واستدل بقوله سبحانه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .
وكذلك حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نوقش الحساب عذب" سألته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} وينقلب إلى أهله مسرورا فقال صلى الله عليه وسلم ذلك العرض وكقصة عدي بن حاتم في الخيط الأبيض والخيط الأسود ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه بل نحن أشد الناس احتياجا إلى التفسير لقصورنا عن مدارك اللغة وأسرارها بغير تعلم اهـ.
مما تقدم يتبين أن فائدة التفسير هي التذكر والاعتبار ومعرفة هداية الله في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق ليفوز الأفراد والمجاميع بخير العاجلة والآجلة.

(2/9)


ويتبين أيضا أن هذا العلم من أشرف العلوم الدينية والعربية إن لم يكن أشرفها جميعا وذلك لسمو موضوعه وعظم فائدته.
وسمي علم التفسير لما فيه من الكشف والتبيين واختص بهذا الاسم دون بقية العلوم مع أنها كلها مشتملة على الكشف والتبيين لأنه لجلالة قدره واحتياجه إلى زيادة الاستعداد وقصده إلى تبيين مراد الله من كلامه كان كأنه هو التفسير وحده دون ما عداه.

(2/10)


ب - أقسام التفسير
ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن التفسير أربعة حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته وتفسير تفسره العرب بألسنتها وتفسير تفسره العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله اهـ.
قال الزركشي في البرهان ما ملخصه هذا تقسيم صحيح فأما الذي تعرفه العرب بألسنتها فهو ما يرجع إلى لسانهم من اللغة والإعراب فأما اللغة فعلى المفسر معرفة معانيها ومسميات أسمائها ولا يلزم ذلك القارئ ثم إن كان ما يتضمنه ألفاظها يوجب العمل دون العلم كفى فيه خبر الواحد والاثنين والاستشهاد بالبيت والبيتين وإن كان يوجب العلم أي الاعتقاد لم يكف ذلك بل لا بد أن يستفيض ذلك اللفظ وتكثر شواهده من الشعر وأما الإعراب فما كان اختلافه محيلا للمعنى وجب على المفسر والقارئ تعلمه ليوصل المفسر إلى معرفة الحكم ويسلم القارئ من اللحن وإن لم يكن محيلا للمعنى وجب تعلمه على القارئ ليسلم من اللحن ولا يجب على المفسر لوصوله إلى المقصود بدونه
وأما ما لا يعذر أحد بجهله فهو ما تبادر إلى الأفهام معرفة معناه من النصوص المتضمنة شرائع الأحكام ودلائل التوحيد وكل لفظ أفاد معنى واحدا جليا يعلم

(2/10)


أنه مراد الله تعالى فهذا القسم لا يلتبس تأويله إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد من قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} أنه لا شريك له في الألوهية وإن لم يعلم أن لا موضوعة في اللغة للنفي وإلا موضوعة للإثبات وأن مقتضى هذه الكلمة الحصر ويعلم كل أحد بالضرورة أن مقتضى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ونحوه طلب إيجاب المأمور به وإن لم يعلم أن صيغة افعل للوجوب.
وأما ما لا يعلمه إلا الله تعالى فهو ما يجري مجرى الغيوب كالآيات التي تذكر فيها الساعة والروح والحروف المقطعة وكل متشابه في القرآن عند أهل الحق فلا مساغ للاجتهاد في تفسيره ولا طريق إلى ذلك إلا بالتوقيف بنص من القرآن أو الحديث أو إجماع الأمة على تأويله.
وأما مما يعلمه العلماء ويرجع إلى اجتهادهم فهو الذي يغلب عليه إطلاق التأويل وذلك باستنباط الأحكام وبيان المجمل وتخصيص العموم وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه اعتمادا على الدلائل والشواهد دون مجرد الرأي اهـ المقصود منه لكنه لم يلتزم فيه ترتيب الأقسام على ما روي عن ابن عباس ولا ضير في ذلك ما دام أنه قد استوعب عدتها الأربعة كما رأيت.
وقسم بعضهم التفسير باعتبار آخر إلى ثلاثة أقسام: تفسير بالرواية ويسمى التفسير بالمأثور وتفسير بالدراية ويسمى التفسير بالرأي وتفسير بالإشارة ويسمى التفسير الإشاري وسنتحدث عن كل واحد منها إن شاء الله

(2/11)


ج - التفسير المأثور
هو ما جاء في القرآن أو السنة أو كلام الصحابة بيانا لمراد الله تعالى من كتابه.
1 - مثال ما جاء في القرآن قوله سبحانه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فإن كلمة من الفجر بيان وشرح للمراد من كلمة الخيط الأبيض التي قبلها وكذلك قوله سبحانه: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فإنها بيان للفظ كلمات من قوله تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمت فتاب عليه على بعض وجوه التفاسير وقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} الآية فإنها بيان للفظ ما يتلى عليكم من قوله سبحانه: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} وقوله تعالى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية فإنها بيان للعهدين في قوله سبحانه: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} الأول للأول والثاني للثاني وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ} فإن كلمة {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} بيان لكلمة الطارق التي قبلها وغير ذلك كثير يعلم بالتدبر لكتاب الله تعالى.
2 - ومثال ما جاء في السنة شرحا للقرآن أنه فسر الظلم بالشرك في قوله سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} وأيد تفسيره هذا بقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وفسر الحساب اليسير بالعرض حين قال: "من نوقش الحساب عذب" فقالت له السيدة عائشة أو ليس قد قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ

(2/12)


حِسَاباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} فقال صلى الله عليه وسلم: "ذلك العرض" بيانا للحساب اليسير وكذلك فسر الرسول صلى الله عليه وسلم: "القوة بالرمي" في قوله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} وفي صحيح كتب السنة من ذلك شيء كثير.
وكلا هذين القسمين لا شك في قبوله أما الأول فلأن الله تعالى أعلم بمراد نفسه من غيره وأصدق الحديث كتاب الله تعالى وأما الثاني فلأن خير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ووظيفته البيان والشرح مع أنا نقطع بعصمته وتوفيقه قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} .
3 - بقي القسم الثالث وهو بيان القرآن بما صح وروده عن الصحابة رضوان الله عليهم قال الحاكم في المستدرك إن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل له حكم المرفوع كذلك أطلق الحاكم وقيده بعضهم بما كان في بيان النزول ونحوه مما لا مجال للرأي فيه وإلا فهو من الموقوف.
ووجهة نظر الحاكم ومن وافقه أن الصحابة رضوان الله عليهم قد شاهدوا الوحي والتنزيل وعرفوا وعاينوا من أسباب النزول ما يكشف لهم النقاب عن معاني الكتاب ولهم من سلامة فطرتهم وصفاء نفوسهم وعلو كعبهم في الفصاحة والبيان ما يمكنهم من الفهم الصحيح لكلام الله وما يجعلهم يوقنون بمراده من تنزيله وهداه.
أما ما ينقل عن التابعين ففيه خلاف العلماء منهم من اعتبره من المأثور لأنهم تلقوه من الصحابة غالبا ومنهم من قال إنه من التفسير بالرأي.
وفي تفسير ابن جرير الطبري كثير من النقول عن الصحابة والتابعين في بيان القرآن الكريم.
بيد أن الحافظ ابن كثير يقول إن أكثر التفسير المأثور قد سرى إلى الرواة من زنادقة اليهود والفرس ومسلمة أهل الكتاب قال بعضهم وجل ذلك في قصص الرسل

(2/13)


مع أقوامهم وما يتعلق بكتبهم ومعجزاتهم وفي تاريخ غيرهم كأصحاب الكهف ومدينة إرم ذات العماد وسحر بابل وعوج بن عنق وفي أمور الغيب من أشراط الساعة وقيامتها وما يكون فيها وبعدها وجل ذلك خرافات ومفتريات صدقهم فيها الرواة حتى بعض الصحابة رضي الله عنهم ولذلك قال الإمام أحمد "ثلاثة ليس لها أصل: التفسير والملاحم والمغازي"1 وكان الواجب جمع الروايات المفيدة في كتب مستقلة كبعض كتب الحديث وبيان قيمة أسانيدها ثم يذكر في التفسير ما يصح منها بدون سند كما يذكر الحديث في كتب الفقه لكن يعزى إلى مخرجه اهـ ما أردنا نقله.
__________
1 لعل مراد الإمام أحمد المبالغة تنبيها للأذهان إلى الصحيح قليل بالنسبة إلى غير الصحيح. وليس مراده عموم النفي فإن هناك روايات في التفسير التي رواها علي بن أبي طالب عن ابن عباس.

(2/14)


د - المفسرون من الصحابة
قال السيوطي في الإتقان اشتهر بالتفسير من الصحابة عشرة الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن الزبير أما الخلفاء فأكثر من روي عنه منهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه والرواية عن الثلاثة قليلة جدا وكأن السبب في ذلك تقدم وفاتهم اهـ.
ومعنى هذا السبب في إقلال الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان من التفسير أنهم كانوا في وسط أغلب أهله علماء بكتاب الله واقفون على أسرار التنزيل عارفون بمعانيه وأحكامه مكتملة فيهم خصائص العروبة أما الإمام علي رضي الله عنه فقد عاش بعدهم حتى كثرت حاجة الناس في زمانه إلى من يفسر لهم القرآن وذلك من اتساع رقعة الإسلام ودخول عجم في هذا الدين الجديد كادت تذوب بهم خصائص العروبة ونشأ جيل من

(2/14)


أبناء الصحابة كان في حاجة إلى علم الصحابة فلا جرم كان ما نقل عن علي أكثر مما نقل عن غيره أضف إلى ذلك ما امتاز به الإمام من خصوبة الفكر وغزارة العلم وإشراق القلب ثم أضف أيضا سبق اشتغالهم بمهام الخلافة وتصريف الحكم دونه.
روى معمر عن وهب بن عبد الله بن أبي الطفيل قال شهدت عليا رضي الله عنه يخطب ويقول سلوني فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم وسلوني عن كتاب الله فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أفي سهل أم في جبل.
وفي رواية عنه قال والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت وأين أنزلت إن ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا سؤولا اهـ.
وقد كثرت الروايات أيضا عن ابن مسعود وحسبك في معرفة خطره وجلالة قدره ما رواه أبو نعيم عن أبي البحتري قال قالوا لعلي أخبرنا عن ابن مسعود قال علم القرآن والسنة ثم انتهى وكفى بذلك علما.
وأما ابن عباس فهو ترجمان القرآن بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن مجاهد قال قال ابن عباس قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم ترجمان القرآن أنت" وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس" وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" وروي أن رجلا أتى ابن عمر يسأله عن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما أي من قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} فقال اذهب إلى ابن عباس ثم تعال أخبرني فذهب فسأله فقال كانت السماوات رتقا لا تمطر وكانت الأرض رتقا لا تنبت ففتق هذه بالمطر وهذه بالنبات فرجع

(2/15)


إلى ابن عمر فأخبره فقال قد كنت أقول ما يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن فالآن قد علمت أنه أوتي علما اهـ.
لكن يجب الحيطة فيما عزي إلى ابن عباس من التفسير فقد كثر عليه فيه الدس والوضع كما سيأتي.
وكذلك أبي بن كعب رضي الله عنه ابن قيس الأنصاري أحد كتاب الوحي فقد كان رضي الله عنه من المكثرين في التفسير المبرزين فيه كما اشتهر في القراءة وبرز فيها روى له في التفسير أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب وإسناده صحيح.
وأما الباقي من العشرة وهم زيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري وعبد الله بن الزبير فمع شهرتهم في التفسير كانوا أقل من الأربعة الذين قبلهم
وقد ورد عن جماعة من الصحابة غير هؤلاء العشرة شيء من التفسير بيد أنه قليل منهم أنس وأبو هريرة وابن عمر وجابر وعمرو بن العاص وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين.

(2/16)


هـ - تفسير ابن عباس
الرواية عنه واختلاف الرواة فيها
أكثر الصحابة تفسيرا ابن عباس ذلك لما عرفت من أنه ترجمان القرآن ولتأخر الزمان به حتى اشتدت حاجة الناس إلى الأخذ عنه بعد اتساع الإسلام واستبحار العمران ولانقطاعه وتفرغه للنشر والدعوة والتعليم دون أن تشغله خلافة أو تصرفه سياسية وتدبير لشؤون الرعية غير أن الرواية عنه مختلفة الدرجات.
قال السيوطي في الإتقان ورد عن ابن عباس في التفسير ما لا يحصى كثرة بروايات

(2/16)


وطرق مختلفة فمن جيدها طريق علي بن أبي طلحة الهاشمي عنه قال أحمد بن حنبل بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا أسنده أبو جعفر النحاس.
قال ابن حجر وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث رواها عن معاوية بن أبي صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وقد اعتمد عليها البخاري في صحيحه كثيرا فيما يعلق عن ابن عباس وقال قوم لم يسمع ابن أبي طلحة من ابن عباس التفسير وإنما أخذه عن مجاهد أو سعيد بن جبير ثم قال ابن حجر بعد أن عرفت الواسطة وهو ثقة فلا ضير في ذلك اهـ.
وأخرج منها ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم وابن المنذر كثيرا ولكن بوسائط بينهم وبين أبي صالح.
ومن جيد الطرق عن ابن عباس طريق قيس عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عنه وهذه الطريق صحيحة على شرط الشيخين وكذا طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت عن عكرمة أو سعيد بن جبير عنه هكذا بالترديد وإسنادها حسن وقد أخرج فيها ابن جرير وابن أبي حاتم كثيرا.
وأوهى طرقه طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وكذا طريق مقاتل بن سليمان وطريق الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس منقطعة فإن الضحاك لم يلقه وبالجملة فقد روي عن الشافعي أنه قال لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث.

(2/17)


و - الرواية عن غير ابن عباس من الصحابة
نحدثك عن ثلاثة أعلام من الصحابة في التفسير غير ابن عباس:
أولهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان سادس ستة ما على وجه الأرض مسلم سواهم وكان خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسه نعليه ويمشي معه وأمامه فكان له من هذه الصلة النبوية خير مثقف ومؤدب لذلك عدوه من أعلم الصحابة بكتاب الله ومعرفة محكمه ومتشابهه وحلاله وحرامه قال في الإتقان قد روي عن ابن مسعود في التفسير أكثر مما روي عن علي كرم الله وجهه وأخرج ابن جرير وغيره عنه أنه قال: والله الذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته روى عنه كثيرون ولكن تتبعهم العلماء بالنقد والتجريح.
ثانيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره على ابنته السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها والخليفة الرابع من بعده ولد رضي الله عنه وشب ودرج في الإسلام فلم يسجد لصنم قط وكان لصلته الوثيقة برسول الله صلى الله عليه وسلم أثر عظيم في استنارة نفسه وغزارة مادته وسعة علمه بله ما وهبه الله من فطرة صافية وذكاء نادر وعقل موهوب حتى ضرب به المثل في حل المشاكل فقيل قضية ولا أبا حسن لها قال ابن عباس ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب اهـ وحسبك هذه الشهادة من ترجمان القرآن
لكن ابتلي علي رضي الله عنه بشيعة أسرفوا في حبه وجاوزوا الحد في تقديره فنسبوا إليه ما هو منه بريء وقولوه ما لم يقل لذلك يلاحظ أن المروي عن علي فيه دس

(2/18)


كثير تصدى له صيارفة النقد من رجال الرواية حتى مازوا ما صح مما لم يصح ولا ينبئك مثل خبير.
ثالثهم أبي بن كعب الأنصاري كان من أعلام القراء ومن كتاب الوحي وممن شهد بدرا ورد فيه: وأقرؤهم لكتاب الله عز وجل أبي بن كعب روى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب نسخة كبيرة في التفسير أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم منها كثيرا وكذا أخرج الحاكم في مستدركه وأحمد في مسنده.

(2/19)


ز - المفسرون من التابعين
طبقاتهم ونقد المروي عنهم
نستطيع أن نعتبر التابعين طبقات ثلاثا طبقة أهل مكة وطبقة أهل المدينة وطبقة أهل العراق
طبقة أهل مكة:
أما طبقة أهل مكة من التابعين فقد كانوا أعلم الناس بالتفسير نقل السيوطي عن ابن تيمية أنه قال أعلم الناس بالتفسير أهل مكة لأنهم أصحاب ابن عباس كمجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس.
أما مجاهد فقد كان أوثق من روى عن ابن عباس ولذا يعتمد على تفسير الشافعي والبخاري وغيرهما من أقطاب العلم وأئمة الدين قال النووي إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به وقال الفضيل بن ميمون سمعت مجاهدا يقول عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة وعنه أيضا قال عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات

(2/19)


أقف عند كل آية منه أسأله عنها فيم أنزلت وكيف كانت؟.
ولا تعارض بين هاتين الروايتين فالإخبار بالقليل لا ينافي الإخبار بالكثير ويحتمل أن عرضه القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة كان طلبا لضبطه وتجويده وحسن أدائه وأما عرضه إياه ثلاث مرات فكان طلبا لتفسيره ومعرفة أسراره وحكمه وأحكامه كما يدل عليه قوله اقف عند كل آية منه أسأله عنها فيم أنزلت وكيف أنزلت؟؟.
وأما عطاء وسعيد فقد كان كل منهما ثقة ثبتا في الرواية عن ابن عباس.
قال سفيان الثوري خذوا التفسير عن أربعة عن سعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة والضحاك وقال قتادة أعلم التابعين أربعة كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير الخ وقال أبو حنيفة ما لقيت أحدا أفضل من عطاء.
وأما عكرمة مولى ابن عباس فقد قال الشافعي فيه ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة اهـ وقال عكرمة كان ابن عباس يجعل في رجلي الكبل1 ويعلمني القرآن والسنة وكان يقول لقد فسرت ما بين اللوحين لعله يريد ما بين دفتي المصحف وكل شيء أحدثكم في القرآن فهو عن ابن عباس اهـ.
وأما طاوس بن كيسان اليماني فقد كان من رجال العلم والعمل وأدرك من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نحو الخمسين ورد أنه حج بيت الله الحرام أربعين مرة وكان مجاب الدعوة قال فيه ابن عباس إني لأظن طاوسا من أهل الجنة اهـ رضي الله عنهم أجمعين.
__________
1 الكبل "بقتح الكاف وكسرها مع سكون الباء": القيد, انظر القاموس.

(2/20)


طبقة أهل المدينة:
منهم زيد بن أسلم وقد أخذ عنه ابنه عبد الرحمن ومالك بن أنس إمام دار الهجرة.
ومنهم أبو العالية وهو من رواة أبي بن كعب وقد روى عن الربيع بن أنس.
منهم محمد بن كعب القرظي الذي قال فيه ابن عون ما رأيت أحدا أعلم بتأويل القرآن من القرظي.
طبقة أهل العراق:
منهم مسروق بن الأجدع كان ورعا زاهدا صحب ابن مسعود قال ابن معين فيه ثقة لا يسأل عنه وكان القاضي شريح يستشيره في معضلات المسائل روى عنه الشعبي وأبو وائل وآخرون لصدق روايته وأمانته.
ومنهم قتادة بن دعامة هو من رواة ابن مسعود شهد له ابن سيرين بالضبط والحفظ وقال فيه ابن المسيب ما رأيت عراقيا أحفظ من قتادة غير أنه كان يخوض في القضاء والقدر فتحرج بعض الناس من الرواية عنه وقد احتج به أرباب الكتب الصحيحة.
منهم أبو سعيد الحسن البصري قال ابن سعد فيه كان ثقة مأمونا وعالما جليلا وفصيحا جميلا وتقيا نقيا حتى قيل إنه سيد التابعين.
ومنهم عطاء بن أبي مسلم الخراساني أصله من البصرة لكنه أقام بخراسان بعد أن دخلها لذلك نسب إليها كان من أجلاء العلماء غير أنه كان مصابا بسوء الحفظ لذلك اختلفوا في توثيقه.
ومنهم مرة الهمذاني الكوفي لكثرة عبادته قيل له مرة الطيب ومرة الخير

(2/21)


أخذ عن أبي كعب وعمر بن الخطاب وغيرهما من الصحابة وروى عنه الشعبي وغيره.
هؤلاء هم أعلام المفسرين من التابعين استمدوا آرائهم وعلومهم مما تلقوه من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وعنهم أخذ تابعو التابعين وهكذا حتى وصل إلينا دين الله وكتابه وعلومه ومعارفه سليمة كاملة عن طريق التلقي والتلقين جيلا عن جيل مصداقا لقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
ولقوله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين" .
نقد المروي عن التابعين:
يلاحظ على ما روي عن التابعين اعتبارات مهمة تثير الطعن فيه وتوجه النقد إليه:
منها أنهم لم يشاهدوا عهد النبوة ولم يتشرفوا بأنوار الرسول فيغلب على الظن أن ما يروى عنهم من تفسير القرآن إنما هو من قبيل الرأي لهم فليس له قوة المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم
ومنها أنه يندر فيه الإسناد الصحيح.
ومنها اشتماله على إسرائيليات وخرافات انسابت إليه تارة من زنادقة الفرس وأخرى من بعض مسلمة أهل الكتاب إما بحسن نية وإما بسوء نية.

(2/22)


ح - ضعف الرواية بالمأثور وأسبابه
علمنا أن الرواية بالمأثور تتناول ما كان تفسيرا للقرآن بالقرآن وما كان تفسيرا للقرآن بالسنة وما كان تفسيرا للقرآن بالموقوف على الصحابة أو التابعين على رأي.
أما تفسير بعض القرآن ببعض وتفسير القرآن بالسنة الصحيحة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلا خلاف في وجاهته وقبوله وأما تفسير القرآن بما يعزى إلى الصحابة والتابعين فإنه يتطرق إليه الضعف من وجوه:
أولها ما دسه أعداء الإسلام مثل زنادقة اليهود والفرس فقد أرادوا هدم هذا الدين المتين عن طريق الدس والوضع حينما أعيتهم الحيل في النيل منه عن طريق الحرب والقوة وعن طريق الدليل والحجة.
ثانيها ما لفقه أصحاب المذاهب المتطرفة ترويجا لتطرفهم كشيعة علي المتطرفين الذين نسبوا إليه ما هو منه بريء وكالمتزلفين الذين حطبوا في حبل العباسيين فنسبوا إلى ابن عباس ما لم تصح نسبته إليه تملقا لهم واستدرارا لدنياهم.
ثالثها اختلاط الصحيح بغير الصحيح ونقل كثير من الأقوال المعزوة إلى الصحابة أو التابعين من غير إسناد ولا تحر مما أدى إلى التباس الحق بالباطل زد على ذلك أن من يرى رأيا يعتمده دون أن يذكر له سندا ثم يجيء من بعده فينقله على اعتبار أن له أصلا ولا يكلف نفسه البحث عن أصل الرواية ولا من يرجع إليه هذا القول.
رابعها أن تلك الروايات مليئة بالإسرائيليات ومنها كثير من الخرافات التي يقوم الدليل على بطلانها ومنها ما يتعلق بأمور العقائد التي لا يجوز الأخذ فيها بالظن ولا برواية

(2/23)


الآحاد بل لا بد من دليل قاطع فيها كالروايات التي تتحدث عن أشراط الساعة وأهوال القيامة وأحوال الآخرة تذكر على أنها اعتقاديات في الإسلام.
خامسها أن ما نقل نقلا صحيحا عن الكتب السابقة التي عند أهل الكتاب كالتوارة والإنجيل أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نتوقف فيه فلا نصدقهم لاحتمال أنه مما حرفوا في تلك الكتب ولا نكذبهم لاحتمال أنه مما حفظوه منها فقد قال تعالى فيهم :إنهم {أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ} .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والاختلاف في التفسير على نوعين منه ما مستنده النقل فقط ومنه ما يعلم بغير ذلك والمنقول إما عن المعصوم أو غيره ومنه ما يمكن معرفة الصحيح منه من غيره ومنه ما لا يمكن ذلك وهذا القسم أي الذي لا يمكن معرفة صحيحه من ضعيفه عامته ما لا فائدة فيه ولا حاجة بنا إلى معرفته وذلك كاختلافهم في لون كلب أهل الكهف واسمه وفي البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة وفي قدر سفينة نوح وخشبها وفي اسم الغلام الذي قتله الخضر ونحو ذلك فهذه الأمور طريقة العلم بها النقل فما كان منها منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل وما لا بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب وقف عن تصديقه وتكذيبه لقوله إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وكذا ما نقل عن بعض التابعين وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض وما نقل عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أو من بعض من سمعه منه أقوى ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين ومع جزم الصحابي بما يقوله كيف يقال إنه أخذه عن أهل الكتاب وقد نهوا عن تصديقهم.
وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه فهذا موجود كثيرا ولله الحمد

(2/24)


وإن قال الإمام أحمد ثلاثة ليس لها أصل التفسير والملاحم والمغازي وذلك لأن الغالب عليها المراسيل.
وأما ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين حدثتا بعد تفسير الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان... ثم ذكر الجهتين اللتين هما مثار الخطأ فقال إحداهما حمل ألفاظ القرآن على معان اعتقدوها لتأييدها به والثانية التفسير بمجرد دلالة اللغة العربية من غير مراعاة المتكلم بالقرآن وهو الله عز وجل والمنزل عليه والمخاطب به اهـ أردنا نقله بتصرف قليل.
قال بعضهم هذا وإن كلام ابن تيمية لا ينقض قول الإمام أحمد فإنه لم يعن به أنه لا يوجد في تلك الثلاثة رواية صحيحة ألبتة وإنما يعني أن أكثرها لا يصح له سند متصل وما صح سنده إلى بعض الصحابة يقل فيه المرفوع الذي يحتج به.
إلى أن قال: ثم إن أكثر ما روي في التفسير المأثور أو كثيره حجاب على القرآن وشاغل لتاليه عن مقاصده العالية المزكية للأنفس المنورة للعقول فالمفضلون للتفسير المأثور لهم شاغل عن مقاصد القرآن بكثرة الروايات التي لا قيمة لها سندا ولا موضوعا اهـ ما أردنا نقله.
وكلمة الإنصاف في هذا الموضوع أن التفسير بالمأثور نوعان أحدهما ما توافرت الأدلة على صحته وقبوله وهذا لا يليق بأحد رده ولا يجوز إهماله وإغفاله ولا يجمل أن نعتبره من الصوارف عن هدي القرآن بل هو على العكس عامل من أقوى العوامل على الاهتداء بالقرآن.
ثانيهما ما لم يصح لسبب من الأسباب الآنفة أو غيرها وهذا يجب رده لا يجوز قبوله ولا الاشتغال به اللهم إلا لتمحيصه والتنبيه إلى ضلاله وخطئه حتى لا يغتر به أحد ولا يزال كثير من أيقاظ المفسرين كابن كثير يتحرون الصحة فيما ينقلون ويزيفون ما هو باطل أو ضعيف ولا يحابون ولا يجبنون.

(2/25)


ولعل الذين أطلقوا القول في رد المأثور إنما أرادوا المبالغة كما علمت في توجيه كلمة الإمام أحمد بن حنبل وعذرهم أن الصحيح منه قليل نادر ونزر يسير حتى لقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث أي مع كثرة ما روي عنه وقد أشار ابن خلدون إلى أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية وإذا تشوفوا إلى معرفة شيء مما تتشوف إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدون منهم إلى أن قال وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه وعبد الله بن سلام فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم وتلقيت بالقبول لما كان لهم من المكانة السامية ولكن الراسخين في العلم قد تحروا الصحة وزيفوا ما لم تتوافر أدلة صحته اهـ بتصرف.
ملحوظة:
إياك أن تفهم هنا من عبارة ابن خلدون أو ابن تيمية أو غيرهما ما يجعلك تخوض مع الخائضين في هؤلاء الأعلام الثلاثة عبد الله بن سلام ووهب بن منبه وكعب الأحبار فقد ضل بعض الأدباء والمؤرخين من كبار الكتاب في هذا العصر حين زعموا ذلك حتى لقد سلكوا عبد الله بن سلام الصحابي الجليل في سلك واحد مع عبد الله بن سبأ اليهودي الخبيث الذي تظاهر بالإسلام ثم كاد له شر الكيد فتشيع لعلي وزعم أن ا لله حل فيه وطعن على عثمان وأظهر الرفض عند حكم الحكمين بصفين ودعا الناس إلى ضلاله الأثيم حتى نفي مرارا.
والحقيقة أن ثلاثتنا هؤلاء عدول ثقات:
أما ابن سلام فحسبك أنه صحابي من خيرة الصحابة ومن المبشرين بالجنة يروي الترمذي عن معاذ رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه

(2/26)


عاشر عشرة في الجنة" وفيه نزلت آية: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ} وآية: {عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} على ما جاء في بعض الروايات.
وأما وهب بن منبه فقد كان تابعا ثقة واسع العلم روى عن أبي هريرة كثيرا وله حديث في الصحيحين عن أخيه همام بلغ من تنسكه وصلاحه أنه لبث عشرين سنة يصلي الفجر بوضوء العشاء رضي الله عنه.
وأما كعب فقد كان تابعا جليلا أسلم في خلافة أبي بكر وناهيك أن الصحابة أخذوا عنه كما أخذ هو عن الصحابة وروى عنه جماعة من التابعين مرسلا وله شيء في صحيح البخاري وغيره.
ولكن يجب أن نفرق في هذا المقام بين ما يصح أن يقال فيهم وما يصح أن ينقل عنهم فأما ما يصح أن يقال فيهم فهو الثقة والتقدير على نحو ما ألمعناه وأما الذي ينقل عنهم فمنه الصحيح وغير الصحيح لكن عدم صحة ما لم يصح لا يعلل باتهامهم وجرحهم فقد علمت من هم إنما يعلل بأحد أمرين:
أولهما رجال السند الذين ينقلون عنهم فقد يكون بينهم متهم في عدالته أو ضبطه ولهذا يجب النظر في سلسلة الرواة عنهم رجلا رجلا ولدينا من كتب الجرح والتعديل ما يفي بهذه الغاية ولا يكفي الاعتماد على ذكر السند في كتاب كبير كتفسير ابن جرير فقد يذكر ابن جرير أو غيره أشياء غير صحيحة ويسوق أسانيدها ثم لا يبين المجروح من رجال السند ولا المعدل فيهم وعذرة في ذلك أن أحوال الرجال كانت معروفة لأهل ذلك الزمان فيستطيعون أن يحكموا في ضوء هذه المعرفة بقبول الخبر أو برده أما نحن في هذا الزمان المتأخر فقد أهملنا هذا الميزان ولم نعن بمعرفة حال الأسانيد والرجال فاللوم علينا لا على أولئك الأعلام ولا معدى لنا عن الاسترشاد بكتب الجرح والتعديل في هذا المقام.
الأمر الثاني أن يكون أولئك الثلاثة قد رووا ما رووه على أنه مما كان في

(2/27)


الإسرائيليات فتقبلها الآخذون على أنها من الإسلاميات ولهذا يجب النظر في هذه المرويات فإن كانت مما يقرره الإسلام قبلناها وإن كانت مما يرده رددناها وإن كانت مما سكت عنه سكتنا عنها عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهمولا تكذبوهم" رواه البخاري بهذا اللفظ ورواه أحمد والبزار من حديث جابر بلفظ: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا وإنكم إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل والله لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا اتباعي" وسبب هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن عمر كتب شيئا من التوراة عن اليهود فغضب صلى الله عليه وسلم وقاله.

(2/28)


ط - تدوين التفسير بالمأثور وخصائص الكتب المؤلفة في ذلك
جاء قرن تابعي التابعين وفيه ألفت تفاسير كثيرة جمعت من أقوال الصحابة والتابعين كتفسير سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح وشعبة بن الحجاج ويزيد بن هارون وعبد الرزاق وآدم بن أبي إياس وإسحاق بن راهوية وروح بن عبادة وعبد بن حميد وأبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن أبي طلحة والبخاري وآخرين ومن بعدهم ألف ابن جرير الطبري كتابه المشهور وهو من أجل التفاسير ثم ابن أبي حاتم وابن ماجه والحاكم وابن مردويه وابن حبان وغيرهم.
وليس في تفاسير هؤلاء إلا ما هو مسند إلى الصحابة والتابعين وتابعيهم ما عدا ابن جرير فإنه تعرض لتوجيه الأقوال وترجيح بعضها على بعض وذكر الإعراب والاستنباط.

(2/28)


1 - تفسير ابن جرير:
ابن جرير هو أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري ولد سنة 224 أربع وعشرين ومائتين وتوفي سنة 310 عشر وثلاثمائة كان فريد عصره ووحيد دهره علما وعملا وحفظا لكتاب الله وخبرة بمعانيه وإحاطة بالآيات ناسخها ومنسوخها وبطرق الرواية صحيحها وسقيمها وبأحوال الصحابة والتابعين.
لذلك كان تفسيره من أجل التفاسير بالمأثور وأصحها وأجمعها لما ورد عن الصحابة والتابعين عرض فيه لتوجيه الأقوال ورجح بعضها على بعض وذكر فيه كثيرا من الإعراب واستنباط الأحكام وقد شهد العارفون بأنه لا نظير له في التفاسير:
قال النووي في تهذيبه: كتاب ابن جرير في التفسير لم يصنف أحد مثله وقال أبو حامد الأسفراييني شيخ الشافعية لو رحل أحد إلى الصين ليحصل تفسير ابن جرير لم يكن ذلك كثيرا عليه.
ومن مزاياه أنه حرر الأسانيد وقرب البعيد وجمع ما لم يجمعه غيره غير أنه قد يسوق أخبارا بالأسانيد غير صحيحة ثم لا ينبه على عدم صحتها وقلنا إن عذره في ذلك هو ذكر السند في زمن توافر الناس فيه على معرفة حال السند من غير توقف على تنبيه منه وهذا التفسير موجود إلى اليوم ومنتشر مطبوع وهو عمدة لأكثر المفسرين.
2 - تفسير أبي الليث السمرقندي:
هو تفسير بالمأثور يذكر فيه كثيرا من أقوال الصحابة والتابعين غير أنه لا يذكر الأسانيد وهو مخطوط في مجلدين وموجود في مكتبة الأزهر

(2/29)


3 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور
هو للإمام جلال الدين السيوطي قال في مقدمته إنه لخصه من كتب ترجمان القرآن وهو التفسير المسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مطبوع بمصر وقد ذكر في كتابه الإتقان أنه شرع في تفسير جامع لما يحتاج إليه من التفاسير المنقولة والأقوال المعقولة والاستنباط والإشارات والأعاريب واللغات ونكت البلاغة ومحاسن البديع وسماه مجمع البحرين ومطلع البدرين وذكر أنه جعل كتاب الإتقان مقدمة له وذكر في خاتمة كتاب الإتقان نبذة صالحة من التفسير بالمأثور المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أول الفاتحة إلى سورة الناس.
4 - تفسير ابن كثير
ابن كثير هو عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن الخطيب أبي حفص عمر القرشي الدمشقي الشافعي المولود سنة 705المتوفي سنة 774 وتفسيره هذا من أصح التفاسير بالمأثور إن لم يكن أصحها جميعا نقل فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة والتابعين وقد أخرجته مطبعة المنار بمصر في تسعة أجزاء ومعه بأسفل الصفحات تفسير البغوي الآتي ذكره وبآخره كتاب فضائل القرآن الذي يعتبر متمما له.
5 - تفسير البغوي
هو العلامة أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي الفقيه الشافعي كان إماما في التفسير والحديث له التصانيف المفيدة ومنها معالم التنزيل أتى فيه بالمأثور ولكن مجردا عن الأسانيد.
6 - تفسير بقي بن مخلد
ذكر الإمام السيوطي في طبقات المفسرين أن بقي بن مخلد بن يزيد بن عبد الرحمن

(2/30)


الأندلسي القرطبي أحد الأعلام وصاحب التفسير والسند أخذ عن يحيى بن يحيى الليثي ورحل إلى المشرق ولقي الكبار بالحجاز ومصر وبغداد وسمع من أحمد بن حنبل وسمع بالكوفة أبا بكر بن أبي شيبة وسمع بمصر يحيى بن بكير وسمع بالحجاز أبا مصعب الزهري وسمع بدمشق هشام بن عمار وشيوخه مائتان وأربعة وثمانون رجلا وكان إماما زاهدا صواما صادقا مجاب الدعوة قليل المثل بحرا في العلم مجتهدا لا يقلد أحدا عني بالأثر وليس لأحد مثل سنده في الحديث ولا في التفسير.
قال ابن حزم: أقطع أنه لم يؤلف في الإسلام مثل تفسيره لا تفسير ابن جرير ولا غيره ولد سنة 204 أربع ومائتين للهجرة وتفسيره الموصوف بما ترى يؤسفنا أنه لم يكتب له البقاء ولم يظفر بما ظفر به تفسير ابن جرير من هذا الخلود
وكم في الخدر أبهى من عروس ... ولكن للعروس الدهر ساعد
7 - أسباب النزول للواحدي
هو أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري اقتصر في تفسيره على بيان أسباب النزول بالمأثور وهذا نوع من التفسير لا مجال للتأويل فيه وهو من أعظم ما ألف في موضوعه على رغم توسط حجمه.
8 - الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس:
هو كتاب نفيس تحدث فيه مؤلفه عن الناسخ وذكر أقوال العلماء في ذلك مسندة وقد استوعب ما قيل في النسخ ولو لم يكن عنده صحيحا وهذا نوع لا مجال للرأي فيه أيضا بل سبيله الوحيدة هي الرواية وهو معدود هنا من التفسير بالمأثور على ضرب التوسع كما لا يخفى.
طريق المفسرين بعد العصر الأول:
ثم إن كتب التفسير بالمأثور موسوعات كبيرة لا نستطيع الإحاطة بها ولا بأسماء

(2/31)


جميع مؤلفيها ولا بطرق كل مؤلف فيها غير أنا نستطيع أن نجمل القول في طرق المفسرين بعد العصر الأول فنقول:
بعد عصر الأولين الذين ألفوا في التفسير بالمأثور والتزموا ذكر السند بجملته جاء قوم صنفوا في التفسير واختصروا الأسانيد ولم ينسبوا الأقوال لقائليها فالتبس بذلك الصحيح وغيره وصار الناظر في تلك الكتب يظنها كلها صحيحة بينما هي مفعمة بالقصص وبالإسرائيليات على وجه لا تمييز فيه كأنها كلها حقائق ومن هنا استهدفت رواياتهم للتجريح والطعن ولولا ما يقوم به المحققون في كل عصر من إحقاق الحق ودحض الباطل لانطمست المعالم واختلط الحابل بالنابل ولكان ذلك مثار مطاعن توجه بلا حساب إلى الإسلام والمسلمين فقد ذكروا في قصص الأنبياء وفي بدء الخليقة والزلازل ويأجوج ومأجوج وبرودة الماء الذي في الآبار زمن الصيف وحرارته في الشتاء ذكروا في ذلك كله ما يندى له الجبين خجلا وما لا يتفق والحقائق العلمية أبدا ويا ليتهم نبهوا على وضعه لو أنهم فعلوا لكان الأمر هينا ولكنهم لم يذكروا السند كما ذكر الأولون ليستطيع المطلع عليه نقده بالرجوع إلى كتب الجرح والتعديل ثم لم يكلفوا أنفسهم الحكم على السند بعد محاكمته إلى كتب العدل والتجريح وتلك ثالثة الأثافي.
وقد عني بعض المفسرين بأن يسرد شتات الأقوال حتى أنه ذكر في تفسير قوله سبحانه: غير المغضوب عليهم ولا الضالين نحو عشرة أقوال مع أن الوارد الصحيح تفسير المغضوب عليهم باليهود وتفسير الضالين بالنصارى ولكن الولوع بكثرة النقول نأى بهم عن الاقتصار على التفسير المقبول.
وكذلك نلاحظ أن كل بارع في فن يقتصر غالبا في تفسيره على الفن الذي برع فيه فالمبرز في العلوم العقلية كالفخر الرازي أغرم باستعراض أقوال الحكماء والفلاسفة وشبههم والرد عليها في تفسيره والمبرز في الفقه كالقرطبي أولع بتقرير الأدلة للفروع الفقهية والرد على المخالفين والمبرز في النحو كالزجاج والواحدي في البسيط وأبي حيان في البحر يهتم أعظم الاهتمام بالإعراب ووجوهه ونقل قواعد النحو وفرعها.

(2/32)


وأصحاب المذاهب المتطرفة والنحل الضالة يقصدون إلى تأويل الآيات على ما يروج مذاهبهم في التطرف والضلال.
والأخباريون يعنيهم أن يستقصوا القصص والأخبار عمن سلف صحيحة كانت أو باطلة.
والإشاريون وأرباب التصوف تهمهم ناحية الترغيب والترهيب والزهد والقناعة والرضا فيفسرون القرآن بما يوافق مشاربهم وأذواقهم وعلى الإجمال نرى كل نابغة في فن أو داعية إلى مذهب أو فكرة يجتهد في تفسير الآيات بما يوافق فنه ويلائم مشربه ويناصر مذهبه ولو كان بعيدا كل البعد عن المقصد الذي نزل من أجله القرآن ولقد غالى بعضهم فجعل القرآن مشتملا على العلوم الكونية كالطبيعة والكيمياء والحساب والجبر وما إلى ذلك وقد سبق أن حققنا ذلك في المبحث الأول فارجع إليه إن شئت وربما نعود إلى القول في هذا الموضوع مرة أخرى.
والخلاصة هنا: أنه يجب على المفسر ملاحظة أن القرآن كتاب هداية وإعجاز وأن يجعل هدفه الأعلى ومقصده الأسمى إظهار هدايات الله من كلامه وبيان وجوه إعجازه في كتابه: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}
التفسير المحمود والتفسير المذموم
تفسير الصحابة والتابعين وتفسير الذين اعتمدوا على أقوال الصحابة والتابعين بالأسانيد الصحيحة وتفسير أهل الرأي الموفق الذين جمعوا بين المأثور الصحيح مع حذف

(2/33)


أسانيده وبين آرائهم العلمية المعتدلة كل هذه الثلاثة من التفسير المحمود ويغلب هذا النوع الثالث في عصرنا الحاضر إذ تجمع التفاسير لدينا بين معان مأثورة ومعان توسعوا في ذكرها عن طريق الرأي والاجتهاد المعتمد على العلم والاعتدال.
وهناك نوع رابع هو تفسير أهل الأهواء والبدع وحكمه أنه مذموم قالوا وأشهر الغارقين في هذا الضلال الرماني والجبائي والقاضي عبد الجبار ثم اختلفوا في الزمخشري فمنهم من عد تفسيره من هذا النوع لما فيه من مناحي الاعتزال ومنهم من قال إن فيه فوائد مهمة يريد بذلك أن يلتمس له المعاذير وأن يغلب جانب الفوائد التي فيه على جانب الاعتزال الذي يحتويه ولكن عدالة الأحكام تقضي بأن نسوي بين جميع التفاسير وأن نحاكمها إلى مبدأ واحد فما وافق منها وجه الصواب وكان بمنأى عن البدع والأهواء فهو محمود وما تورط منها في الخطأ وتخبط في الهوى والبدعة فهو مذموم لا فرق بين الزمخشري وغير الزمخشري ولا بين معتزلي وغير معتزلي.
ميزان المدح والذم
ثم إن هناك ميزانا لما يحمد من التفسير وما يذم وهو الفيصل الذي يجب أن نحكمه ونزن كل تفسير به فما رجح في هذا الميزان قبلناه وحمدناه وما طاش رفضناه وذممناه والمدح والذم درجات بعضها فوق بعض على حسب استيفاء التفسير لوجوه المدح والذم أو نقصها قليلا أو كثيرا وسنضع هذا الميزان بين يديك تحت عنوان منهج المفسرين بالرأي فانتظره رويدا.
غير أنا نسترعي نظرك هنا إلى كلمة أهل البدع والأهواء ونريد أن تكون موفقا في حكمك على أية طائفة أو أي شخص ببدعة أو هوى وإلا خيف عليك أن تكون أنت صاحب البدعة والهوى في حكمك {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ

(2/34)


سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}.
غلطة التعصب للرأي:
واعلم أن هناك أفرادا بل أقواما تعصبوا لآرائهم ومذاهبهم وزعموا أن من خالف هذه الآراء والمذاهب كان مبتدعا متبعا لهواه ولو كان متأولا تأويلا سائغا يتسع له الدليل والبرهان كان رأيهم ومذهبهم هو المقياس والميزان أو كأنه الكتاب والسنة والإسلام وهكذا استزلهم الشيطان وأعماهم الغرور.
ولقد نجم عن هذه الغلطة الشنيعة أن تفرق كثير من المسلمين شيعا وأحزابا وكانوا حربا على بعضهم وأعداء وغاب عنهم أن الكتاب والسنة والإسلام أوسع من مذاهبهم وآرائهم وأن مذاهبهم وآرائهم أضيق من الكتاب والسنة والإسلام وأن في ميدان الحنيفية السمحة متسعا لحرية الأفكار واختلاف الأنظار ما دام الجميع معتصما بحبل من الله ثم غاب عنهم أن الله تعالى يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} ويقول جل ذكره: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} ويقول تقدست أسماؤه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ} .
لمثل هذا أربأ بنفسي وبك أن نتهم مسلما بالكفر أو البدعة والهوى لمجرد أنه خالفنا في رأي إسلامي نظري فإن الترامي بالكفر والبدعة من أشنع الأمور ولقد قرر علماؤنا أن الكلمة إذا احتملت الكفر من تسعة وتسعين وجها ثم احتملت الإيمان من وجه واحد حملت على أحسن المحامل وهو الإيمان وهذا موضوع

(2/35)


مفروغ منه ومن التدليل عليه لكن يفت في عضدنا غفلة كثير من إخواننا المسلمين عن هذا الأدب الإسلامي العظيم الذي يحفظ الوحدة ويحمي الأخوة ويظهر الإسلام بصورته الحسنة ووجهه الجميل من السماحة واليسر واتساعه لكافة الاختلافات الفكرية والمنازع المذهبية والمصالح البشرية ما دامت معتصمة بالكتاب والسنة على وجه من الوجوه الصحيحة التي يحتملها النظر السديد والتأويل الرشيد.
ولقد حدث مثل هذا الاختلاف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه فما تنازعوا من أجله بل أخذ كل برأيه وهو يحترم الآخر ورأيه وأقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يعب أحدا منهم على رغم أنه يترتب على بعض هذه الاختلافات أن ترك بعضهم الصلاة في وقتها اجتهادا منه إذ قال الرسول صلى الله عليه وسلم الله يوما لفئة من أصحابه: "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة" فسافروا وجدوا ولكن الغزالة تدلت للغروب وهم لا يزالون ضاربين في الأرض ولما يصلوا هنالك اجتهدوا فمنهم من وقف عند ظاهر النص فترك العصر حتى خرج وقته ما دام لم يصل إلى بني قريظة ومنهم من تأول النص وحمله على الكناية في الإسراع فصلى حين خاف على الوقت من قبل أن يصل إلى بني قريظة.
نقول إن مثل هذا الخلاف حدث على عهد صاحب الرسالة وأقره تيسيرا على المسلمين وإعلاما بأن الإسلام دين الكافة يسع جميع البشر في كل العصور والأحوال وشهد المسلمون بعد ذلك عصرا سعيدا كان أئمة الدين فيه يختلفون فيما بينهم كثيرا ولكنهم كانوا بجانب هذا يتكارمون ويتعاونون ويتراحمون كثيرا.
وإن كنت في شك فاسأل التاريخ عن إكرام مالك للشافعي واحترام الشافعي لأحمد بن حنبل حتى ورد أنه كان يتبرك بغسالة قميصه أي يتبرك الأستاذ الإمام

(2/36)


بغسالة قميص تلميذه المخالف له في الرأي والاجتهاد ثم سل التاريخ عن معاونة صاحب أبي حنيفة للشافعي ودفعه إليه كتبه في كرم وحسن ضيافة وصدق محبة ولا تنس إباء مالك على الرشيد أن يحمل الناس في بلاد الإسلام كلها على موطئه ومذهبه ويعتذر إليه بأن الإسلام أوسع من موطئه ومذهبه وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في البلاد ولكل وجهة.
أرأيت هذا النبل: والطهر أجل أجل ولكنك ستقضي الأسف حين ترى بجانبه فئات من المسلمين أيضا تراشقوا بالكفر وتراموا بالشرك وتقاذفوا بالتبدع والهوى لمجرد تأويل يستسيغه النظر ويتسع له صدر الاستدلال ثم اتسع الخرق على الراقع في بعض الظروف حتى دارت معارك طاحنة بين صفوف كلها مسلمة وأريقت دماء زكية كلها إسلامية ولا نزال نشهد من مثل هذا الصراع القائم على التنطع مشاهد ما كان أغنانا عنها وما كان أحرانا بالحذر منها خصوصا بعد ما سمعنا من الآيات وبعد أن أقر الرسول صلى الله عليه وسلم أمثال هذه الخلافيات وبعد أن قال في حديث واحد ثلاث مرات: "هلك المتنطعون" وهي كلمة صغيرة ولكنها كبيرة تحذر وتنذر وتمثل الهلاك جاثما في التنطع بأشكاله وألوانه في الأنفس والأعراض والأموال وفي الجماعات والأفراد على سواء.
لا أريد أن أطيل في هذا ولكني أريد أن أقرر وأكرر أن الحكم على فرد أو جماعة بالبدعة والهوى لا يجوز أن يكون مبنيا على غير بدعة أو هوى.
ونرى أن من أمثلة هذا التعصب والسير مع الهوى أن يرمي بعض المغالين في الاعتزال إخوانهم من أهل السنة بأنهم حمير في جهالتهم وبأنهم على هوى في عقيدتهم ولم يكفهم أن يقولوا ذلك نثرا بل رددوه شعرا وأنشدوا سامحهم الله
لجماعة سموا هواهم سنة ... وجماعة حمر لعمري موكفه
الخ

(2/37)


وكذلك نرى من أمثلة هذا التعصب والسير مع الهوى أن يرمي بعض المغالين من أهل السنة إخوانهم المعتزلة بالشرك والوثنية لاعتقادهم أن العبد خالق لأفعال نفسه الاختيارية.
ونعتقد أن كلتا الطائفتين لو أنصتت إلى وجهة نظر صاحبتها في هدوء ونصفة لاجتمعنا على الإنسانية التي تجمع الجميع وعلى الإسلام الذي يؤلف بين الجميع وعلى الاحترام الذي يجب أن يسود الجميع فإن لكل شرعة ومنهاجا في حدود الإسلام وأدلة الإسلام.
ولنقف برهة بجانب هذا المثال مثال خلق الأفعال ليتضح الحال ولنقيس عليه النظائر والأشباه عند الاختلاف والاشتباه ولنعلم أن المتخالفين في ذلك ما زالوا مع خلافهم إخوانا مسلمين تظلهم راية القرآن ويضمهم لواء الإسلام.
في القرآن الكريم والسنة النبوية نصوص كثيرة على أن الله تعالى خالق كل شيء وأن مرجع كل شيء إليه وحده وأن هداية الخلق وضلالهم بيده سبحانه مثل قوله عز وجل: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إنا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ

(2/38)


يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} .
وكذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل" ويقول: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" ويقول: "يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك" إلى غير ذلك.
هذه النصوص وأمثالها إذا نظر العبد إليها لا يسعه إلا أن يرد الأمور كلها إلى الله معتقدا أنه الواحد الأحد لا شريك له في ملكه ولا في ناحية من ملكه وهي أفعال التكليف من عباده وكأن نسبة الأفعال إلى العباد هي الأخرى محض فضل من الله على حد ما قال إبن عطاء الله من فضله وكرمه عليك أن خلق العمل ونسبه إليك.
ويظاهر هذه الأدلة النقلية أدلة أخرى عقلية ناطقة بوحدانية الله في كل شيء وبأن العبد لا يعقل أن يكون خالقا لما اختاره من أفعاله لأنه لو كان خالقا لها لكان عالما بتفاصيلها ولكنه يشعر من نفسه بأنه تصدر عنه أشياء كثيرة جدا من عمله الاختياري دون أن يعرف تفاصيلها كخطوات المشي وحركات المضغ في الأكل ونحوها وإذا فليس العبد هو الخالق لها {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} .
بجانب هذا توجد نصوص كثيرة أيضا من الكتاب والسنة تنسب أعمال العباد إليهم وتعلن رضوان الله وجبه للمحسنين فيها كما تعلن غضبه وبغضه للمسيئين منهم ومن ذلك قوله سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ

(2/39)


أَنْ يَسْبِقُونَا أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
وكذلك نقرأ في السنة النبوية: "اعلموا فكل ميسر لما خلق له بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت يا عباس بن عبد المطلب اعمل لا أغني عنك من الله شيئا يا فاطمة بنت محمد اعملي لا أغني عنك من الله شيئا" إلى غير ذلك.
وهذه نصوص إذا نظر العبد إليها لا يسعه إلا أن يرد أعمال العباد الاختيارية إليهم معتقدا أنهم يستحقون ثوابها إن أحسنوا وعقابها إن أساؤوا ويظاهر هذه الأدلة النقلية أدلة عقلية أيضا شاهدة بعدالة الله وحكمته لأن العبد لو لم يكن موجدا لما اختار من أعماله لما كان ثمة وجه لاستحقاقه المثوبة أو العقوبة وكيف يثاب أو يعاقب على ما ليس له ولم يصدر منه.
غيري جنى وأنا المعذب فيكم ... فكأنني سبابة المتندم

(2/40)


أهل السنة بهرتهم النصوص الأولى والأدلة العقلية التي بجانبها فرجحوها وقالوا إن العبد لا يخلق أفعال نفسه الاختيارية إنما هي خلق الله وحده وإذا قيل لهم كيف يثاب المرء أو يعاقب على عمل لم يوجده هو وكيف يتفق هذا وما هو مقرر من عدالة الله وحكمته في تكليف خلقه قالوا إن العباد وإن لم يكونوا خالقين لأعمالهم كاسبون لها وهذا الكسب هو مناط التكليف ومدار الثواب والعقاب وبه يتحقق عدل الله وحكمته فيما شرع للمكلفين.
وهكذا حملوا النصوص الأولى على الخلق وحملوا الثانية على الكسب جمعا بين الأدلة ثم إذا قيل لهم ما هذا الكسب اختلف الأشعري والماتريدي في تحديده أهو مقارنة القدرة القديمة للحادثة أم هو العزم المصمم ولكل وجهة نظر يطول شرحها وتوجيهها.
أما المعتزلة فقد بهرتهم النصوص الثانية وما يظاهرها من برهان النقل فرجحوها وقالوا إن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية وإذا قيل لهم أليس الله خالق كل شيء ومنها أعمال العباد قالوا بلى إنه خالق كل شيء حتى أعمال عباده الاختيارية بيد أنه خلق بعض الأشياء بلا واسطة وخلق بعضها الآخر بواسطة وأعمال المكلفين من القبيل الثاني خلقها الله بوساطة خلق آلاتها فيه وآلاتها هي القدرة الكلية والإرادة الكلية الصالحتان للتعلق بكل من الطرفين وليس لنا من حول ولا قوة سوى أننا استعملناها على أحد وجهيها إما بحسن الاختيار وإما بسوء الاختيار ثم لا مانع عندنا من القول بأنه سبحانه خالق لأفعال عباده ولكن على سبيل المجاز باعتبار أنه خالق أسبابها ووسائلها.
وإذا قيل لهم إن مذهبكم يستلزم أن يكون لله شركاء كثيرون في فعله وهم عباده المكلفون وهذا يناقض عقيدة التوحيد وبرهان الوحدانية قالوا لا نسلم هذا

(2/41)


ولا نقول به فإن الوحدانية ليس معناها نفي وجود ذوات أو صفات أو أفعال لغيره إنما معناها نفي أن يكون لغيره شبه به في ذاته أو صفاته أو أفعاله وأنتم يا أهل السنة لا تمنعون وجود ذوات لا تشبه ذاته ولا تمنعون وجود صفات لا تشبه صفاته فلم تمنعون وجود أفعال من العباد لا تشبه أفعاله وهو ما نقول به في خلق العباد لأعمالهم فإنها لا تشبه أفعال الله بحال.
هكذا تجد لكلتا الطائفتين وجهة نظر قوية وتأويلا سائغا فيما تؤوله من النصوص المقابلة للنصوص التي بهرتها فرجحتها ونجد أيضا أن كلتا الطائفتين لا تلتزم المحظور التي تحاول الأخرى أن تلزمها إياه في مقام الحجاج والجدال بل توجه رأيها توجيها ينأى بها عن الوقوع في المحظور ثم نجد كلتا الطائفتين يتلاقيان أخيرا بعد طول المطاف عند نقطة الاعتقاد السديد بوحدانية الله وحكمة الله ولكن على الوجه الذي استبان لها وراج عندها.
فكيف يرضى منصف إذا بتجريح إحداهما ورميها بأشنع التهم من كفر أو شرك أو هوى وماذا علينا أن نرجح ما نرجح من غير تسفيه للجانب الآخر بل ماذا علينا أن نلوذ بالصمت ونعتصم بالسكون فلا نخوض في أمثال هذه الدقائق العويصة والمسالك الملتوية البعيدة لا سيما أن الرحمن الرحيم لم يكلفنا بها ولم يفرضها علينا.
ولقد كان سلفنا الصالح يؤمنون بوحدانية الله وعدله ويؤمنون بقدره وأمره ويؤمنون بهذه النصوص وتلك النصوص ويؤمنون بأن العبد يعمل ما يعمل وأن الله خالق كل شيء ويؤمنون بأنه تعالى تنزه في قدره عن أن يكون مغلوبا أو عاجزا وتنزه في أمره وتكليفه عن أن يكون ظالما أو عابثا ثم بعد ذلك يصمتون فلا يخوضون في تحديد نصيب عمل الإنسان الاختياري من قدرة الله ونصيبه من قدرة العبد ولا يتعرضون لبيان مدى ما يبلغ فعل الله في قدره ولا لبيان مدى ما يبلغ

(2/42)


فعل العبد في أمثال أمره ذلك ما لم يعلموه ولم يحاولوه لأنهم لم يكلفوه وكان سبحانه أرحم بعباده من أن يكلفهم إياه لأنه من أسرار القدر أو يكاد والعقل البشري محدود التفكير ضعيف الاستعداد ومن شره العقول طلب ما لا سبيل لها إليه وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.
لم يمتحنا بما تعيا العقول به ... حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم
واجبنا إزاء الخلافيات
ليس من شأني هنا أن أفصل القول في هذه المسألة ولا في أشباهها فلهذا التفصيل علم آخر إنما هو ضرب من التمثيل يجتزئ فيه بالقليل لنخلص منه بعظة مهمة هي أن المسلمين لا يجوز لهم أن ينقسموا شيعا وأحزابا لأمر ليس من الدين فضلا عن أن يكون من أصول الدين وإذا التمسنا المعاذير لخوض من خاضوا أو يخوضون فيه دفعا لشبهات المشتبهين أو ضلال المضللين فلن نستطيع التماس عذر واحد لمن شنوها حربا شعواء بينهم وبين إخوانهم في الدين وما كان لهم أن يخرجوا من مثل هذا البحث أعداء متخاذلين وقد كانوا بالأمس إخوانا متفاهمين متعاونين.
وإذا فلنستمسك بالعروة الوثقى ولنفسح صدورنا للخلافيات ما دام صدر الإسلام قد وسعها ولنعلم أن الإسلام أوسع من المذاهب والآراء ولئن ضقت ذرعا برأي أخيك اليوم فقد ترى أنت رأيه غدا عندما تقتنع بوجهة نظره فقد رجع كثير من أعلام الأئمة عن آراء رأوها بل عن مذاهب كانوا قد ذهبوا إليها ولعلك لا تجهل أن للشافعي مذهبا قديما ومذهبا جديدا وأن الخلاف في لواحق العقائد والأصول كثير الشبه بالخلاف في الأحكام والفروع.
لهذا كله تراني لا أذهب مع الذاهبين في تضليل المعتزلة وتسفيه أحلامهم ونبزهم

(2/43)


بألقاب الكفر والفسوق كما لا أذهب مع الذاهبين في تجهيل أهل السنة وتحقيرهم ونبزهم بالجهالة والجمود والهوى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
تحذير:
وأحب ألا يفهم القاريء الكريم أنني أريدها فوضى لكل متأول في القرآن متلاعب بالنصوص عابث بتعاليم الدين بل الذي أريده وأرجوه أن نفرق بين متأول ومتأول ثم ننظر أهذا التأويل سائغ أم غير سائغ أي تساعد عليه قوانين اللغة العربية ومقررات الإسلام المقطوع بها المعلومة من الدين بالضرورة وبراهين العقل والمنطق أم لا.
فالسائغ نقبله ونرحب به وإن خالف رأينا وغير السائغ نرده في غير تردد ونحاربه في غير هوادة لأن تاريخ الإسلام لم يشهد أعداء كانوا أخطر عليه من أولئك العابثين الذين تلاعبوا بنصوصه وعبثوا بمقرراته سواء منهم من ذهب به الماضي كالباطنية ومن برم به الحاضر كالبهائية وقد تسمع قريبا شيئا عن أمثالهم.
سماحة الإسلام ويسر تعاليمه
بان لك مما ذكرنا أن الإسلام دين سمح وأن الله تعالى لم يكلف الخلق من تعاليم دينه إلا ما جاء به كتابه الكريم وشرحه نبيه العظيم على تلك الطريقة السهلة الواضحة البعيدة عن التدقيقات الفلسفية والتعقيدات الفنية.
ولعل من تمام الفائدة في هذا الموضوع الخطير أن نقتطف لك كلمة قالها حجة

(2/44)


الإسلام الغزالي في الإحياء عند بيانه لما بدل الناس من ألفاظ العلوم إذ قال تغمده الله برحمته.
اللفظ الثالث أي من الأسماء المحمودة التي نقلت بالأغراض الفاسدة إلى معان غير ما أراده السلف الصالح والقرن الأول التوحيد وقد جعل الآن عبارة عن صناعة الكلام ومعرفة طريق المجادلة والإحاطة بطرق مناقضات الخصوم والقدرة على التشدق فيها بتكثير الأسئلة وإثارة الشبهات وتأليف الإلزامات حتى لقب طوائف منهم أنفسهم بأهل العدل والتوحيد وسمي المتكلمون بعلماء التوحيد مع أن جميع ما هو خاصة هذه الصناعة لم يكن يعرف منها شيء في العصر الأول بل كان يشتد منهم النكير على من كان يفتح بابا من الجدل والمماراة فأما ما يشتمل عليه القرآن من الأدلة الظاهرة التي تستبق الأذهان إلى قبولها في أول السماع فقد كان ذلك معلوما للكل وكان العلم بالقرآن هو العلم كله وكان التوحيد عندهم عبارة عن أمر آخر لا يفهمه أكثر المتكلمين وإن فهموه لم يتصفوا به وهو أن يرى الأمور كلها من الله عز وجل رؤية تقطع التفاته عن الأسباب والوسائط فلا يرى الخير والشر كله إلا منه جل جلاله إلى أن قال:
والتوحيد جوهر نفيس وله قشران أحدهما أبعد عن اللب من الآخر فخصص الناس الاسم بالقشر وبصنعة الحراسة للقشر وأهملوا اللب بالكلية فالقشر الأول هو أن تقول بلسانك لا إله إلا الله وهذا يسمى توحيدا مناقضا للتثليث الذي صرح به النصارى ولكنه قد يصدر من المنافق الذي يخالف سره جهره والقشر الثاني ألا يكون في القلب مخالفة وإنكار لمفهوم هذا القول بل يشتمل ظاهر القلب على اعتقاده والتصديق به وهو توحيد عوام الخلق والمتكلمون كما سبق حراس هذا القشر عن

(2/45)


تشويش المبتدعة والثالث وهو اللباب أن يرى الأمور كلها من الله تعالى رؤية تقطع التفاته عن الوسائط وأن يعبده عبادة يفرده بها فلا يعبد غيره ويخرج عن هذا التوحيد أتباع الهوى فكل متبع هواه فقد اتخذ هواه معبوده قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} وقال صلى الله عليه وسلم1: "أبغض إله عبد في الأرض عند الله تعالى هو الهوى" وعلى التحقيق من تأمل عرف أن عابد الصنم ليس يعبد الصنم وإنما يعبد هواه إذ نفسه مائلة إلى دين آبائه فيتبع ذلك الميل وميل النفس إلى المألوفات أحد المعاني التي يعبر عنها بالهوى ويخرج من هذا التوحيد التسخط على الخلق والالتفات إليهم فإنه من يرى الكل من الله عز وجل كيف يتسخط على غيره فلقد كان التوحيد عبارة عن هذا المقام وهو مقام الصديقين فانظر إلى ماذا حول وبأي قشر قنع منه وكيف اتخذوا هذا معتصما في التمدح والتفاخر بما اسمه محمود مع الإفلاس عن المعنى الذي يستحق الحمد الحقيقي وذلك كإفلاس من يصبح بكرة ويتوجه إلى القبلة ويقول: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً} وهو أول كذب يفاتح الله به كل يوم إن لم يكن توجه قلبه توجها إلى الله تعالى على الخصوص فإنه إن أراد بالوجه وجه الظاهر فما وجهه إلا إلى الكعبة وما صرفه إلا عن سائر الجهات والكعبة ليست جهة للذي فطر السماوات والأرض حتى يكون المتوجه إليها متوجها إليه تعالى عن أن تحده الجهات والأقطار وإن أراد به وجه القلب وهو المطلوب التعبد به فكيف يصدق في قوله وقوله متردد في أوطاره وحاجاته الدنيوية ومتصرف في طلب الحيل في جمع الأموال والجاه واستكثار الأسباب ومتوجه بالكلية إليها فمتى وجه وجهه للذي فطر السماوات والأرض وهذه الكلمة خبر عن حقيقة التوحيد فالموحد
__________
1 قال العراقي في تخريج هذا الحديث: رواه الطبراني من الحديث أبي أمامة بإسناد ضعيف.

(2/46)


هو الذي لا يرى إلا الواحد ولا يوجه وجهه إلا إليه وهو امتثال قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} وليس المراد به القول باللسان فإنما اللسان ترجمان يصدق مرة ويكذب أخرى وإنما موقع نظر الله المترجم عنه وهو القلب وهو معدن التوحيد ومنبعه اهـ.
وإياك أن تفهم منه الغض من علم التوحيد خصوصا بعد أن صرح هنا بأنه يحمي قشرة العقيدة عن تشويش المبتدعة ولكن نقده ينصب على الإسراف في القشور وإهمال اللباب كما سمعت.
تحقيق للأستاذ الإمام
وللأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده كلام في هذه المسألة بحاشيته على العقائد العضدية توسع فيه كثيرا مع الفرق المخالفة حين عرض لحديث الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم: "ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فزقة كلها في النار إلا واحدة" قيل ومن هم؟ قال: "الذين هم على ما أنا عليه وأصحابي" ثم ختم الشيخ بحثه فقال:
والحق الذي يرشد إليه الشرع والعقل أن يذهب الناظر المتدين إلى إقامة البراهين الصحيحة على إثبات صانع واجب الوجود ثم منه إلى إثبات النبوات ثم يأخذ كل ما جاءت به النبوات بالتصديق والتسليم بدون فحص فيما تكنه الألفاظ إلا فيما يتعلق بالأعمال على قدر الطاقة ثم يأخذ طريق التحقيق في تأسيس جميع عقائده بالبراهين الصحيحة كان ما أدت إليه ما كان لكن بغاية التحري والاجتهاد.
ثم إذا فاء من فكره إلى ما جاء من عند ربه فوجده بظاهره ملائما لما حققه فليحمد الله على ذلك وإلا فليطرق عن التأويل ويقول: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}

(2/47)


فإنه لا يعلم مراد الله ونبيه إلا الله ونبيه على هذا المنوال يكون نسجه فيبوء من الله برضوان حيث أسس عقائده على السديد من البراهين واستقبل الأخبار الإلهية بالقبول والتسليم وتناولها بقلب سليم.
وإن أراد التأويل لغرض كدفع معاند أو إقناع جاحد فلا بأس عليه إذا سلم برهانه من التقليد والتشويش وهذا هو دأب مشايخنا كالشيخ الأشعري والشيخ أبي منصور ومن مائلهم لا يأخذون قولا حتى يسددوه ببراهينهم القوية على حسب طاقتهم وهذا ما يعني باسم السني والصوفي والحكيم وكل متحزب مجادل فإنما يبغي العنت وتشتيت الكلمة فهو في النار وكل مقصر فعليه العار والشنار فاسلك سبيل السلف واحذر فقد خلف من بعدهم خلف.
ولا بد في كمال النجاة ونيل العادة الأبدية من أن ينضم إلى ذلك التخلي عن الرذائل والتحلي بالأخلاق الكاملة والأعمال الفاضلة ومن تلك الأخلاق والأعمال تكميل قوة النظر وارتكاب طريق العدل في كل شيء إذ لا ريب أن كل من خالف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الهمة والسداد والعدل والأنصاف وسلوك طريق الاستقامة في جميع الأخلاق والأعمال ونور البصيرة فيما يأخذ ويعطي فهو في النار ومن كان على ما كانوا عليه فهو في أعلى غرف الجنان.
وسالك هذا الطريق إما أن يكون سلوكه من قبل الالتفات إلى ما جاء في الكتاب والسنة وكلام أولي الفضل من الراشدين قديما وحديثا فذلك هو الحكيم العلي والمؤمن المتوسط وإما أن يكون مع ذلك قد سلك بنفسه مدارج الأنوار ووقف على ما في ذلك من دقائق الأسرار حتى جلس في حياته هذه في مقعد صدق عند مليك مقتدر فهو الصوفي وهو صاحب المقصد الأسنى والمطلوب الأعلى وفي هذا مراتب لا تحصى ومراق لا تستقصى وهذا وما قبله يشملها اسم المؤمن الصادق.

(2/48)


فمن تحقق بهذا النور فله النجاة والحبور كان ما كان فإن هذا هو المتحقق فيه ما كان النبي عليه وأصحابه.
ولنمسك القلم حيث أن المقصود هو الإيجاز والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب فاسلك بنفسك طريق السداد وانظر فيما يكون لك بعين الرشاد اهـ.
وهنا أمسك أنا القلم أيضا مؤملا أن أكون قد وفيت هذا المقام المهم حقه وأن أكون قد نجحت في تجلية مبدأ من المبادئ الإسلامية الرشيدة عند اختلاف وجهات الأنظار وتباين منازع الأفكار كفانا الله شر العناد والغرور والفتنة وجمع صفوف الأمة على حقائق الكتاب والسنة آمين.

(2/49)


ي - التفسير بالرأي الجائز منه وغير الجائز
المراد بالرأي هنا الاجتهاد فإن كان الاجتهاد موفقا أي مستندا إلى ما يجب الاستناد إليه بعيدا عن الجهالة والضلالة فالتفسير به محمود وإلا فمذموم والأمور التي يجب استناد الرأي إليها في التفسير نقلها السيوطي في الإتقان عن الزركشي فقال ما ملخصه للناظر في القرآن لطلب التفسير مآخذ كثيرة أمهاتها أربعة:
الأول: النقل عن رسول ا لله صلى الله عليه وسلم مع التحرز عن الضعيف والوضوع.
الثانية: الأخذ بقول الصحابي فقد قيل إنه في حكم المرفوع مطلقا وخصه بعضهم بأسباب النزول ونحوها مما لا مجال للرأي فيه.
الثالثة: الأخذ بمطلق اللغة مع الاحتراز عن صرف الآيات إلا ما لا يدل عليه الكثير من كلام العرب.

(2/49)


الرابعة: الأخذ بما يقتضيه الكلام ويدل عليه قانون الشرع وهذا النوع الرابع هو الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس في قوله: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" .
فمن فسر القرآن برأيه أي باجتهاده ملتزما الوقوف عند هذه ا لمآخذ معتمدا عليها فيما يرى من معاني كتاب الله كان تفسيره سائغا جائزا خليقا بأن يسمى التفسير الجائز أو التفسير المحمود ومن حاد عن هذه الأصول وفسر القرآن غير معتمد عليها كان تفسيره ساقطا مرذولا خليقا بأن يسمى التفسير غير الجائز أو التفسير المذموم.
فالتفسير بالرأي الجائز يجب أن يلاحظ فيه الاعتماد على ما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مما ينير السبيل للمفسر برأيه وأن يكون صاحبه عارفا بقوانين اللغة خبيرا بأساليبها وأن يكون بصيرا بقانون الشريعة حتى ينزل كلام الله على المعروف من تشريعه.
أما الأمور التي يجب البعد عنها في التفسير بالرأي فمن أهمها التهجم على تبيين مراد الله من كلامه على جهالة بقوانين اللغة أو الشريعة ومنها حمل كلام الله على المذاهب الفاسدة ومنها الخوض فيما استأثر الله بعلمه ومنها القطع بأن مراد الله كذا من غير دليل ومنها السير مع الهوى والاستحسان.
ويمكن تلخيص هذه الأمور الخمسة في كلمتين هما الجهالة والضلالة.
وينبغي أن يعلم أن في القرآن علوما تتنوع إلى ثلاثة:
الأول: علم لم يطلع الله عليه أحدا من خلقه بل استأثر به وحده كمعرفة حقيقة ذاته وصفاته وغيوبه التي لا يعلمها إلا هو وهذا النوع لا يجوز الكلام فيه لأحد إجماعا.
الثاني: ما أطلع الله عليه نبيه واختص به وهذا لا يجوز الكلام فيه إلا له عليه الصلاة والسلام ولمن أذن له الرسول صلى الله عليه وسلم قيل ومنه أوائل السور.

(2/50)


الثالث: العلوم التي علمها الله تعالى لنبيه مما أمر بتبليغه وهذا النوع قسمان قسم لا يجوز الكلام فيه بطريق السمع كالكلام في الناسخ والمنسوخ والقراءات وقصص الأمم الماضية وأسباب النزول وأخبار الحشر والنشر المعاد وقسم يعرف بطريق النظر والاستدلال وهذا منه المختلف في جوازه وهو ما يتعلق بالآيات المتشابهات ومنه المتفق على جوازه وهو ما يتعلق بآيات الأحكام والمواعظ والأمثال والحكم ونحوها لمن له أهلية الاجتهاد.

(2/51)


العلوم التي يحتاجها المفسر
وقد بين العلماء أنواع العلوم التي يجب توافرها في المفسر فقالوا هي اللغة والنحو والصرف وعلوم البلاغة وعلم أصول الفقه وعلم التوحيد ومعرفة أسباب النزول والقصص والناسخ والمنسوخ والأحاديث المبينة للمجمل والمبهم وعلم الموهبة وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم ولا يناله من في قلبه بدعة أو كبر أو حب دنيا أو ميل إلى المعاصي قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} وقال الإمام الشافعي.
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ... ونور الله لا يهدى لعاصي
ملاحظة:
هذه الشروط التي ذكرناها وهذه العلوم كلها إنما هي لتحقيق أعلى مراتب التفسير مع إضافة تلك الاعتبارات المهمة المسطورة في الكلمات القيمة الآتية أما المعاني العامة التي يستشعر منها المرء عظمة مولاه والتي يفهمها الإنسان عند إطلاق اللفظ الكريم فهي قدر يكاد يكون مشتركا بين عامة الناس وهو المأمور به للتدبر والتذكر لأنه سبحانه سهله ويسره وذلك أدنى مراتب التفسير.

(2/51)


قال العلامة المرحوم الشيخ محمد عبده ما خلاصته:
للتفسير مراتب: أدناها أن يبين بالإجمال ما يشرب القلب عظمة الله وتنزيهه ويصرف النفس عن الشر ويجذبها إلى الخير وهذه هي التي قلنا إنها متيسرة لكل أحد {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
وأما المرتبة العليا فهي لا تتم إلا بأمور:
أحدها: فهم حقائق الألفاظ المفردة التي أودعها القرآن بحيث يحقق المفسر ذلك من استعمالات أهل اللغة غير مكتف بقول فلان وفهم فلان فإن كثيرا من الألفاظ كانت تستعمل في زمن التنزيل لمعان ثم غلبت على غيرها بعد ذلك بزمن قريب أو بعيد ومن ذلك لفظ التأويل اشتهر بمعنى التفسير مطلقا أو على وجه مخصوص ولكنه جاء في بمعان أخرى كقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} . فإن المراد به العاقبة وما يعد به القرآن من المثوبة والعقوبة أي ما يؤدي إليه الأمر في وعده ووعيده فعلى المحقق المدقق أن يفسر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر نزوله والأحسن أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه بأن يجمع ما تكرر في مواضع منه وينظر فيه فربما استعمل بمعان مختلفة كلفظ الهداية وغيره ويحقق كيف يتفق معناه مع جملته من الآية فيعرف المعنى المطلوب من بين معانيه وقد قالوا إن القرآن يفسر بعضه بعضا وإن أفضل قرينة تقوم على حقيقة معنى اللفظ موافقته لما سبق له من القول واتفاقه مع جملة المعنى وائتلافه مع القصد الذي جاء له الكتاب بجملته.
ثانيها: الأساليب فينبغي أن يكون عنده من علمها ما يفهم به هذه الأساليب الرفيعة وذلك يحصل بممارسة الكلام البليغ ومزاولته مع التفطن لنكته ومحاسنه والوقوف على مراد المتكلم منه نعم إننا لا نتسامى إلى فهم مراد الله تعالى كله على وجه الكمال

(2/52)


والتمام ولكن يمكننا فهم ما نهتدي به بقدر الطاقة ويحتاج في هذه إلى علم الإعراب وعلم الأساليب المعاني والبيان ولكن مجرد العلم بهذه الفنون وفهم مسائلها وحفظ أحكامها لا يفيد المطلوب ترون في كتب العربية ان العرب كانوا مسددين في النطق يتكلمون بما يوافق القواعد قبل أن توضع أتحسبون ان ذلك كان طبيعيا لهم كلا وإنما هي ملكة مكتسبة بالسماع والمحاكاة لذلك صار أبناء العرب أشد عجمة من العجم عندما اختلطوا بهم لو كان طبيعيا ذاتيا لهم لما فقدوه في مدة خمسين سنة من بعد الهجرة.
ثالثها: علم أحوال البشر فقد أنزل الله هذا الكتاب وجعله آخر الكتب وبين فيه ما لم يبينه في غيره وبين فيه كثيرا من أحوال الخلق وطبائعه وسننه الإلهية في البشر وقص علينا أحسن القصص عن الأمم وسيرها الموافقة لسنته فيها فلا بد للنظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر في أطوارهم وأدوارهم ومناشىء اختلاف أحوالهم من قوة وضعف وعز وذل وعلم وجهل وإيمان وكفر ومن العلم بأحوال العالم الكبير علويه وسفليه ويحتاج في هذا إلى فنون كثيرة من أهمها التاريخ بأنواعه.
أجمل القرآن الكلام عن الأمم وعن السنن الإلهية وعن آياته في السموات والأرض وفي الآفاق والأنفس وهو إجمال صادر عمن أحاط بكل شيء علما وأمرنا بالنظر والتفكر والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالا ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة في ظاهره لكنا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده لا بما حواه من علم وحكمة.
رابعها: العلم يوجه هداية البشر كلهم القرآن فيجب على المفسر القائم بهذا الفرض الكفائي أن يعلم ما كان عليه الناس في عصر النبوة من العرب وغيرهم لأن القرآن ينادي بأن الناس كلهم كانوا في شقاء وضلال وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث به لهدايتهم وإسعادهم وكيف يفهم المفسر ما قبحته الآيات من عوائدهم على وجه الحقيقة

(2/53)


أو ما يقرب منها إذا لم يكن عارفا بأحوالهم وما كانوا عليه.. يروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال إن أجهل الناس بأحوال الجاهلية هو الذي يخشى ان ينقض عرى الإسلام عروة عروة اهـ بالمعنى والمراد أن من نشأ في الإسلام ولم يعرف حال الناس قبله يجهل تأثير هدايته وعناية الله بجعله مغيرا لأحوال البشر ومخرجا لهم من الظلمات إلى النور.
ومن جهل هذا يظن أن الإسلام أمر عادي كما ترى بعض الذين يتربون في النظافة والنعيم يعدون التشديد في الأمر بالنظافة والسواك من قبيل اللغو لأنه من ضروريات الحياة عندهم ولو اختبروا غيرهم من طبقات الناس لعرفوا الحكمة في تلك الأوامر وتأثير تلك الآداب من اين جاء؟.
خامسها العلم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وما كانوا عليه من علم وعمل وتصرف في الشؤون دنيويها وأخرويها انتهى من تفسير المنار بتصرف قليل.
الاختلاف في جواز التفسير بالرأي:
يختلف العلماء في التفسير بالرأي بين مجيز ومانع والتحقيق ما قدمناه بين يديك من الجواز بشروطه والمنع عند عدم توافر شروطه وأن ذلك في غير أدنى مراتب التفسير أما هذا الأدنى فهو جائز من غير اعتبار تلك الشروط لأن الله يسره حتى للعامة كما أسلفنا ونسوق إليك هنا أدلة المانعين والمجيزين لتزداد بصيرة وتنورا في هذا الموضوع:
أدلة المعانعين:
يستدل المانعون بأدلة الأول أن التفسير بالرأي قول على الله بغير علم والقول على الله بغير علم منهي عنه فالتفسير بالرأي منهي عنه.

(2/54)


دليل الصغرى أن المفسر بالرأي ليس متيقنا أنه مصيب وقصارى أمره أنه يظن والقائل بالظن قائل على الله بغير علم ودليل الكبرى قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} المعطوف على ما قبله من المحرمات في قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} .
لكن أجاب المجيزون عن هذا الدليل بمنع الكبرى لأن القائل بالظن فيما لا يوجد عليه نص قاطع ولا دليل عقلي إنما يستند إلى علم الله أي إلى دليل قطعي منه سبحانه على صحة العمل بهذا الظن كقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وكقوله صلى الله عليه وسلم ما معناه "من اجتهد وأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران" .
الدليل الثاني الحديثان الآتيان:
1 - ما يرويه الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الحديث علي إلا ما علمتم فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ومن قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" .
2 - ما يرويه أبو داود عن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ" .
وأجيب عن هذين الحديثين بأجوبة ثلاثة:
أولها أنهما محمولان على من قال برأيه في نحو مشكل القرآن ومتشابهه مما لا يعلم إلا من طريق النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه

(2/55)


ثانيها أنهما محمولان على من قال في القرآن قولا وهو يعلم أن الحق خلافه كأصحاب المذاهب الفاسدة الذي يتأولون القرآن على وفق هواهم ليحتجوا به على صحة آرائهم.
ثالثها أنهم محمولان على قول من يأخذ بظاهر الكلام من غير أن يستند إلى نقل أو يكلف نفسه البحث عن مبهمات القرآن وما فيه من حذف وإضمار وتقديم وتأخير ونحو ذلك فالنقل لا بد منه بكل مفسر كيلا يقع في الخطأ أما التوسع في الفهم واستنباط صحيح الآراء فهو خطوة أخرى بعد النقل لأن الأخذ بظاهر العربية وحده غير كاف ولا سديد تأمل قوله سبحانه: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} فإن معناه وآتينا ثمود الناقة معجزة واضحة وبينة لائحة تدلهم على صدق صالح عليه الصلاة والسلام وصدق ما جاء به فظلموا بعقرها أنفسهم.
والواقف عند ظاهر اللغة العربية يظن أن المراد من الإبصار نظر العين ولا يدري بماذا ظلموا أظلموا أنفسهم بعقرها أم غيرهم؟.
هذه احتمالات في الحديثين والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال ويجاب عن حديث جندب زيادة على سابقه بأنه حديث لم يثبت صحته وعلى فرض فإنه يحتمل أن يكون معناه فقد أخطأ طريق التماس المعنى ذلك لأن السبيل في معرفة ألفاظ القرآن إنما هي اللغة وعلومها والسبيل إلى معرفة أسباب نزوله وتمييز ناسخه ومنسوخه ونحو ذلك إنما هو النقل الصحيح والسبيل إلى القطع بمراد الله إنما هو الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن لم يظفر بوارد فلا بأس من أن يقيس ويجتهد ويستدل بما ورد على ما لم يرد.
الدليل الثالث: ما ورد عن الصحابة والتابعين من أنهم كانوا يتحرجون عن القول في القرآن بآرائهم ومن ذلك ما روي عن الصديق رضي الله عنه أنه قال:

(2/56)


أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في القرآن برأيي أو بما لا أعلم وما ورد عن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال أنا لا أقول في القرآن شيئا وروي عن الشعبي أنه قال ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت القرآن والروح والرؤى أي تأويل الأحلام إلى غير ذلك من الأخبار التي تدل على امتناعهم من أن يقولوا في القرآن بآرائهم.
وأجيب عن ذلك أولا: بأن إحجامهم عن القول ورعا خشية ألا يصيبوا عين اليقين والورع ترك ما لا بأس به حذرا من الوقوع فيما به بأس.
ثانيا: أن إحجامهم يحتمل أنه مقيد بما لم يعرفوا وجه الصواب فيه أما إذا عرفوا وجه الصواب فإنهم لا يمتنعون ولو كان وجه الصواب ظنيا لا قطيعا هذا أبو بكر نفسه يفتي في الكلالة حين سئل عنها من الآية الكريمة, َ {سْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} الخ ويقول أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان غير ذلك فمني ومن الشيطان الكلالة كذا وكذا ومثل هذا ورد عن علي وابن عباس وغيرهما من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين.
ثالثا: أن إحجامهم يحتمل أيضا التقييد بما كان من التفسير على وجه قاطعا فيما لم يقم دليل قاطع.
رابعا: ان إحجامهم يحتمل أيضا التقييد بما إذا قام غيرهم عنهم بواجب تفسير القرآن وبيانه أما إذا انحصرت المسؤولية فيهم فمعقول أنهم لا يمتنعون وقتئذ وإلا كانوا كاتمين للعلم وآثمين حاشاهم من ذلك حاشاهم رحمهم الله وأحسن جزاءهم ومثواهم.
أدلة المجيزين للتفسير بالرأي:
استدل المجيزون للتفسير بالرأي استدلالات عدة أيضا:

(2/57)


أولها أن الله تعالى يقول: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ويقول: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} ويقول: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} وجه الاستدلال أن الله تعالى حث على تدبر القرآن والاعتبار بآياته والاتعاظ بمواعظه وهذا يدل على أن أولي الألباب بما لهم من العقل السليم واللب الصافي عليهم أن يتأولوا ما لم يستأثر الله بعلمه إذا التدبر والاتعاظ فرع الفهم والتفقه في كتاب الله والآية الكريمة تدل على أن في القرآن ما يستنبطه أي يستخرجه أولو الألباب والفهم الثاقب.
ثانيها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في دعائه لابن عباس: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" فلو كان التأويل مقصورا على السماع والنقل للفظ التنزيل لما كان هناك فائدة لتخصيصه فدل على أن التأويل خلاف النقل وإذن فهو التفسير بالاجتهاد والرأي.
ثالثها: لو كان التفسير بالرأي غير جائز لتعطل كثير من الأحكام واللازم باطل ووجه الملازمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر تفسير كل آية والمجتهد مأجور وإن أخطأ ما دام أنه قد استفرغ وسعه ولم يهمل الوسائل الواجبة في الاجتهاد وكان غرضه الوصول إلى الحق والصواب.
ويمكن أن يجعل الخلاف لفظيا بأن يحمل كلام المجيزين للتفسير بالرأي على التفسير بالرأي المستوفي لشروطه الماضية فإنه يكون حينئذ موافقا لكتب الله وسنة رسوله كلام العرب وهذا جائز ليس بمذموم ولا منهي عنه ثم يحمل كلام المانعين للتفسير بالرأي على ما فقدت شروطه السابقة فإنه يكون حينئذ مخالفا للأدلة الشرعية واللغة العربية وهذا غير جائز بل هو محط النهي ومصب الذم. وعليه

(2/58)


يحمل كلام ابن مسعود إذا قال ستجدون أقواما يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع وإياكم والتقطع وكذلك يحمل قول عمر أيضا إنما أخاف عليكم رجلين رجلا يتأول القرآن على غير تأويله ورجلا ينافس الملك على أخيه.
وقول عمر أيضا ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه ولا من فاسق بين فسقه ولكني أخاف عليها رجلا قد قرأ القرآن حتى أذلقه بلسانه ثم تأوله على غير تأويله.
فكل هذا محمول على ما لم يوافق تفسيره الأدلة الشرعية ولا قواعد اللغة العربية ولا يخفى أن القول في القرآن بالرأي معناه ان الله أراد بكلامه كذا وهذا أمر له خطره الخطير ومسؤوليته الجسيمة نسأل الله تعالى السلامة.

(2/59)


ل - منهج المفسرين بالرأي
وخلاصة ما مضى أنه يجب على من يحاول أعلى مراتب التفسير بالرأي أن يأخذ حذره وأن يتذرع بكل العلوم التي نوهنا بها ليكون قد أصاب المراد أو كاد ووجب عليه أن ينهج منهج الصواب والسداد باتباع ما يأتي:
أولا: أن يطلب المعنى من القرآن فإن لم يجده طلبه من السنة لأنها شارحة للقرآن فإن أعياه الطلب رجع إلى قول الصحابة فإنهم أدرى بالتنزيل وظروفه وأسباب نزوله شاهدوه حين نزل فوق ما امتازوا به من علم وعمل وخير ما فسرته بالوارد.
ثانيا: إن لم يظفر بالمعنى في الكتاب والسنة ومأثورات الصحابة وجب عليه أن يجتهد وسعه متبعا ما يأتي:

(2/59)


1 - البدء بما يتعلق بالألفاظ المفردة من اللغة والصرف والاشتقاق ملاحظا المعاني التي كانت مستعملة زمن نزول القرآن الكريم.
2 - إرداف ذلك بالكلام على التراكيب من جهة الإعراب والبلاغة على أن يتذوق ذلك بحاسته البيانية.
3 - تقديم المعنى الحقيقي على المجازي بحيث لا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة.
4 - ملاحظة سبب النزول فإن لسبب النزول مدخلا كبيرا في بيان المعنى المراد كما سبق تحقيقه في مبحث أسباب النزول.
5 - مراعاة التناسب بين السابق واللاحق بين فقرات الآية الواحدة وبين الآيات بعضها وبعض.
6 - مراعاة المقصود من سياق الكلام.
7 - مطابقة التفسير للمفسر من غير نقص ولا زيادة.
8 - مطابقة التفسير لما هو معروف من علوم الكون وسنن الاجتماع وتاريخ البشر العام وتاريخ العرب الخاص أيام نزول القرآن.
9 - مطابقة التفسير لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم في هديه وسيرته لأنه هو الشارح المعصوم للقرآن بسنته الجامعة لأقواله وأفعاله وشمائله وتقريراته.
10 - ختام الأمر ببيان المعنى والأحكام المستنبطة منه في حدود قوانين اللغة والشريعة والعلوم الكونية.
11 - رعاية قانون الترجيح عند الاحتمال وهو ما يأتي:

(2/60)


م - قانون الترجيح عند الاحتمال
قال السيوطي في الإتقان ما نصه كل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه وعليهم اعتماد الدلائل دون مجرد الرأي.
فإن كان أحد المعنيين أوضح وجب الحمل عليه إلا أن يقوم الدليل على إرادة غيره.
وإذا تساويا والاستعمال فيهما حقيقة لكن في أحدهما لغوية أو عرفية وفي الآخر شرعية فالحمل على الشرعية أولى إلا أن يدل الدليل على إرادة اللغوية كما في قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} وإن كانت في أحدهما عرفية والآخر لغوية فالحمل على العرفية أولى.
وإن اتفقا في ذلك أيضا فإن تنافى اجتماعهما ولم يكن إرادتهما باللفظ الواحد كالقرء للحيض والطهر اجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه فما ظنه فهو مراد الله تعالى في حقه.
وإن لم يظهر له شيء فهل يتخير أو يأخذ بالأغلظ أو بالأخف أقوال وإن لم يتنافيا وجب الحمل عليهما عند المحققين ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة إلا إن دل دليل على إرادة أحدهما اهـ.

(2/61)


ن - أوجه بيان السنة للقرآن
سبق غير مرة أن بينا أن السنة شارحة للقرآن لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وظيفته التبليغ والبيان بمثل قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته - وجاء في رواية - متكىء على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه.. الخ".
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لقد أوتيت الكتاب ومثله معه" أنه أوتي من الوحي غير المتلو مثل الوحي المتلو تبينا له وتوضيحا وكل من عند الله قال تعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} .
وقوله في هذا الحديث يوشك رجل الخ يدل على أنه سيأتي قوم يتمسكون بظاهر القرآن كالروافض والخوارج ويتركون الاستدلال بالسنة المبينة للقرآن فضلوا وأضلوا.
والمراد بقوله على أريكته وهي السرير أنه ممن أطغته النعمة وألهته عن السعي في طلب العلم والبحث عن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث يدل على أن ما صح ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا فهو حجة بنفسه كالقرآن الكريم.
ثم إن بيان السنة على وجوه شتى:
أحدها بيان المجمل في القرآن كبيان مواقيت الصلوات الخمس وعدد ركعاتها وكيفية ركوعها وسجودها وغير ذلك وبيان مقادير الزكاة وأوقاتها وأنواعها

(2/62)


وبيان مناسك الحج ونحوها مما ورد في القرآن مجملا وبينته السنة ولذا قال صلى الله عليه وسلم "خذوا عني مناسككم", وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي".
قال أحمد بن حنبل السنة تفسير الكتاب وتبينه.
ثانيها بيان أحكام زائدة على ما جاء به القرآن كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها وتحريم أكل الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع والقضاء باليمين والشاهد وغير ذلك مما هو مقرر في علم الأصول والفقه.
ثالثها بيان معنى لفظ أو متعلقة كتفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى وبيان قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} بأنها مطهرة من الحيض والغائط والنخامة والبزاق وتفسير قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} بأنهم يزحفون على أستاههم ويقولون: حبة في شعيرة بدلا من امتثال قوله تعالى لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} وقولوا حطة وغير ذلك مما خصص به العام أو قيد به المطلق وهو كثير في كتب السنة.

(2/63)


س - التعارض بين التفسير بالرأي والتفسير بالمأثور وما يتبع في الترجيح بينهما
ينبغي أن يعلم ان التفسير بالرأي المذموم ليس مرادا هنا لأنه ساقط من أول الأمر فلا يقوى على معارضة المأثور.
ثم ينبغي أن يعلم أن التعارض بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي المحمود معناه التنافي بينهما بأن يدل أحدهما على إثبات والآخر على نفي كأن كلا من المتنافيين وقف في عرض الطريق فمنع الآخر من السير فيه.
وأما إذا لم يكن هناك تناف فلا تعارض وإن تغايرا كتفسيرهم الصراط المستقيم

(2/63)


بالقرآن أو بالسنة أو بطريق العبودية أو طاعة الله ورسوله فهذه المعاني غير متنافية وإن تغايرت وكذا ما قيل في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} مما هو مذكور في كتب التفسير فليس بمتناف فلا يكون متعارضا ولا متناقضا.
قيل في تفسير هذه الآية: الظالم هو المرجأ إلى أمر الله والمقتصد هو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا والسابق للخيرات بإذن الله هو الذي تمحض للخير وقيل: السابق المخلص والمقتصد المرائي والظالم كافر النعمة غير الجاحد لها وقيل: السابق من رجحت حسناته والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته والظالم من رجحت سيئاته وقيل: السابق العالم والمقتصد المتعلم والظالم الجاهل وقيل: الظالم الذي يعبده على الرغبة والرهبة والسابق الذي يعبده على الهيبة والاستحقاق وقيل: الظالم من أخذ الدنيا حلالا كانت أو حراما والمقتصد من يجتهد ألا يأخذها إلا من حلال والسابق من أعرض عنها جملة وقيل الظالم طالب الدنيا والمقتصد طالب العقبي والسابق طالب المولى وقيل غير ذلك وفي دار الكتب المصرية بمصر مجلد مخطوط لعلي بن محمد بن عمر التونسي اسمه تحفة الأحباب في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} .
إذا تقرر هذا فإن التفسير بالمأثور الثابت بالنص القطعي لا يمكن أن يعارض بالتفسير بالرأي لأن الرأي إما ظني وإما قطعي أي مستند إلى دليل قطعي من عقل أو نقل فإن كان قطعيا فلا تعارض بين قطعيين بل يؤول المأثور ليرجع إلى الرأي المستند إلى القطعي إن أمكن تأويله جمعا بين الدليلين وإن لم يكن تأويله حمل اللفظ الكريم على ما يقتضيه الرأي والاجتهاد تقديما للأرجح على المرجوح.

(2/64)


أما إذا كان الرأي ظنيا بأن خلا من الدليل القاطع واستند إلى الأمارات والقرائن الظاهرة فقط فإن المأثور القطعي يقدم على الرأي الظني ضرورة أن اليقين أقوى من الظن.
هذا كله فيما إذا كان المأثور قطعيا أما إذا كان المأثور غير قطعي في دلالته لكونه ليس نصا أو في متنه لكونه خبر آحاد ثم عارضه التفسير بالرأي فلا يخلو الحال إما أن يكون ما حصل فيه التعارض مما لا مجال للرأي فيه وحينئذ فالمعول عليه المأثور فقط ولا يقبل الرأي.
وإن كان للرأي فيه مجال فإن أمكن الجمع فبها ونعمت وإن لم يكن قدم المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة لأنهم شاهدوا الوحي وبعيد عليهم ان يتكلموا في القرآن بمجرد الهوى والشهوة.
أما المأثورعن التابعين فإذا كان منقولا عن أهل الكتاب قدم التفسير بالرأي عليه وأما إذا لم ينقل عنهم رجعنا به إلى السمع فما أيده السمع حمل النظم الكريم عليه فإن لم يترجح أحدهما بسمع ولا بغيره من المرجحات فإننا لا نقطع بأن أحدهما هو المراد بل ننزل اللفظ الكريم منزلة المجمل قبل تفصيله والمشتبه أو المبهم قبل بيانه.

(2/65)


ع - أهم كتب التفسير بالرأي
قد علم مما سبق منه الممدوح الجائز ومنه المذموم غير الجائز وهاك بيانا بأشهر من ألف في القسم الأول من أهل السنة ومؤلفاتهم:
1 - الإمامان الجليلان جلال الدين محمد المحلي وجلال الدين عبد الرحمن السيوطي.

(2/65)


وهما صاحبا التفسير المعروف بتفسير الجلالين.
2 - الإمام البيضاوي ناصر الدين بن سعيد صاحب التفسير المسمى أنوار التنزيل وأسرار التأويل.
3 - الإمام فخر الدين الرازي محمد ابن العلامة ضياء الدين عمر المشهور بخطيب الري صاحب التفسير المسمى مفاتيح الغيب.
4 - أبو السعود محمد بن محمد بن مصطفى الطحاوي صاحب التفسير المسمى إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم.
5 - العلامة شهاب الدين الألوسي صاحب التفسير المسمى روح المعاني.
6 - نظام الدين الحسن محمد النيسابوري صاحب التفسير المسمى غرائب القرآن ورغائب الفرقان.
7 - العلامة الشيخ محمد الشربيني الخطيب صاحب التفسير المسمى السراج المنير في الإعانة على معرفة كلام ربنا الخبير.
8 - أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي صاحب التفسير المسمى مدارك التنزيل وحقائق التأويل.
9 - علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي صاحب التفسير المعروف بتفسير الخازن.
تفسير الجلالين:
أما تفسير الجلالين فكتاب قيم سهل المأخذ إلى حد ما مختصر العبارة كثيرا يكون أعظم التفاسير انتشارا ونفعا وإن كان أصغرها أو من أصغرها شرحا وحجما تداولته طبقات مختلفة من أهل العلم وغيرهم وطبع طبعات كثيرة متنوعة.

(2/66)


طبع مرة وحده مجردا وأخرى بحاشية المصحف وثالثة مع حاشية الصاوي ورابعة مع حاشية الجمل وأوسع حواشيه حاشية الجمل والعجيب أن كثيرا من فطاحل العلماء كانوا يختارونه لأعلى دراسة عرفت في التفسير كمادة أساسية يدورون حولها ويستلهمون وحيها حتى إن دروس التفسير الشهيرة للعلامة المرحوم الشيخ محمد عبده كانت مادته فيها تفسير الجلالين على ما سمعت.
تفسير البيضاوي:
وأما تفسير البيضاوي فهو كتاب جليل دقيق جمع بين التفسير والتأويل على قانون اللغة العربية وقرر الأدلة على أصول أهل السنة وقد التزم أن يختم كل سورة بما يروى في فضلها من الأحاديث غير أنه لم يتحر فيها الصحيح وأحسن حواشيه المتداولة حاشية الشهاب الخفاجي وإن كان له حواش أخرى كثيرة منها حاشية سعدي أفندي وحاشية الروشني وحاشية الششتري وحاشية الشيرواني وحاشية السمرقندي على تفسير الفاتحة وحاشية الإسفرايني على جزء عم وحاشية ابن أمير خان على سورة الملك.
تفسير الفخر الرازي:
سيأتي الكلام عليه تحت عنوان تفاسير أهل الكلام.
تفسير أبي السعود:
تفسير رائع ممتاز يستهويك حسن تعبيره ويروقك سلامة تفكيره ويروعك ما أخذ نفسه به من تجلية بلاغة القرآن والعناية بهذه الناحية المهمة في بيان إعجازه,

(2/67)


مع سلامة في الذوق وتوفيق في التطبيق ومحافظة على عقائد أهل السنة وبعد عن الحشو والتطويل.
تفسير النيسابوري:
يمتاز بسهولة عبارته وبتحقيق ما يحتاج إلى تحقيق مع قصد وخلو من الحشو وقد عني بأمرين يلتزمهما الكلام على القراءات والأوقف في أول كل مرحلة من مراحل التفسير والكلام على التأويل الإشاري في آخر كل مرحلة من تلك المراحل وهو مطبوع طبعة شهيرة على هامش تفسير ابن جرير وهو مختصر لتفسير الفخر الرازي مع تهذيب كبير.
تفسير الألوسي:
سيأتي الكلام عليه عند التفسير الإشاري.
تفسير النسفي:
كتاب جليل متداول مشهور سهل ودقيق قال فيه صاحب كشف الظنون هو كتاب وسط في التأويلات جامع لوجوه الإعراب والقراءات متضمن لدقائق علم البديع والإشارات مرشح لأقاويل أهل السنة والجماعة خال من أباطيل أهل البدع والضلالة ليس بالطويل الممل ولا بالقصير المخل اهـ.
تفسير الخطيب:
كتاب عظيم يعني بثلاثة أشياء تقرير الأدلة وتوجيهها والكلام على المناسبات بين السور والآيات وسرد كثير من القصص والروايات.

(2/68)


تفسير الخازن:
مشهور يعنى بالمأثور بيد أنه لا يذكر السند وله ولوع بالتوسع في الروايات والقصص ومن مزاياه أن يتبع القصة ببيان ما فيها من باطل حتى لا ينخدع بها غر ولا يفتن جاهل.

(2/69)


ف - تفاسير الفرق المختلفة
كالتفسير الإشاري وتفاسير أهل الكلام وأشهر الكتب في ذلك
منيت الأمة بأن تفترق أكثر من سبعين فرقة وأن يلبسها الله شيعا ويذيق بعضها بأس بعض وإن كانت لا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وقد تناولت كل طائفة كتاب الله تفسره بما ارتضته لنفسها من اعتدال أو تطرف فظهرت مجموعة التفاسير كالمرايا المجلوة تنطبع فيها صور المفسرين لها على اختلاف مشاربهم وتباين منازعهم ولا غرو فكل إناء بما فيه ينضح وكل يغني على ليلاه.
ومن هنا تجد تفاسير أهل السنة تظهر فيها عقيدة أهل السنة وتفاسير المعتزلة تظهر فيها عقيدة الاعتزال والشيعة تظهر في تفاسيرهم عقيدة التشيع وهلم وهلم وقد تكلمنا تحت العنوان السابق على نماذج من تفاسير أهل السنة فلنتكلم هنا على نماذج من تفاسير الفرق المختلفة.

(2/69)


ص - تفاسير المعتزلة
ولنبدأ بكتاب الكشاف للزمخشري ثم كتاب تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضي عبد الجبار وهما نموذجان من تفاسير أهل الكلام من المعتزلة.
كتاب الكشاف:
أما كتاب الكشاف فصاحبه هو محمود بن عمر بن محمد بن عمر النحوي اللغوي المعتزلي الملقب بجار الله ولد سنة 467 ه سبع وستين وأربعمائة وتوفي سنة 538 ثمان وثلاثين وخمسمائة بعد أن برع في اللغة والأدب والنحو ومعرفة أنساب العرب حتى فاق أقرانه ثم تظاهر بالاعتزال ودعا إليه وكتابه خير كتاب أو من خير الكتب التي يرجع إليها في التفسير من ناحية البلاغة رغم نزعته الاعتزالية وأغلب التفاسير من بعده أخذت منه واعتمدت عليه.
ويمتاز الكشاف بأمور منها خلوه من الحشو والتطويل ومنها سلامته من القصص والإسرائيليات ومنها اعتماده في بيان المعاني على لغة العرب وأساليبهم ومنها عنايته بعلمي المعاني والبيان والنكات البلاغية تحقيقا لوجوه الإعجاز ومنها سلوكه فيما يقصد إيضاحه طريق السؤال والجواب كثيرا ويعنون السؤال بكلمة إن قلت بفتح التاء ويعنون الجواب بكلمة قلت بضم التاء وللكشاف حواش كثيرة منها حاشية ابن كمال باشا زادة وحاشية علاء الدين المعروف بالبهلوان وحاشية الشيخ حيدر وحاشية الرهاوي.
وإليك مواضع من كتابه ينحو فيها نحو الاعتزال ويقرر عقيدة القول بالمنزلة بين المنزلتين وبأن أفعال العباد مخلوقة لهم وبأن رؤية الله في الدار الآخرة مستحيلة.

(2/70)


1 - يقول عند تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} الخ ما نصه فإن قلت ما الإيمان الصحيح قلت أن يعتقد الحق ويعرب عنه بلسانه ويصدقه بعمله فمن أخل بالاعتقاد وإن شهد وعمل فهو منافق ومن أخل بالشهادة فهو كافر ومن أخل بالعمل فهو فاسق اهـ فأنت تراه فسر الإيمان بما يثبت به المنزلة بين المنزلتين... وهي منزلة الفاسق بين منزلة المؤمن ومنزلة الكافر فينفي الإيمان عن سليم العقيدة ما دام أنه قد أخل بواجب العمل وهو محجوج من أهل السنة بأن هذا التفسير لا يوافق اللغة ولا الشرع أما اللغة فلأن معنى الإيمان التصديق لا غير وكذا الشرع بدليل عطف العمل عليه والعطف يقتضي المغايرة بين المتعاطفين.
2 - ويقول في تفسير قوله سبحانه: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ما نصه وإسناد الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم ينفقون الحلال المطلق الذي يستأهل أن يضاف إلى الله اهـ وهذا منه إيماء ورمز إلى أن الرزق الحلال من الله وأن الرزق الحرام من العبد.
ويرد عليه أهل السنة بقوله سبحانه: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فالله هو الخالق الرازق لا غيره سواء أكان الرزق حلالا أم حراما.
3 - في تفسير قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الخ ما نصه:
فإن قلت لم أسند الختم إلى الله تعالى وإسناده إليه يدل على المنع من قبول الحق والتوصل إليه بطرقه وهو قبيح والله تعالى منزه عن فعل القبيح بدليل: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} . {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} . {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} الخ ما قال: ثم أول إسناد الختم إلى الله بأن الكلام

(2/71)


استعارة أو مجاز على معنى أن الشيطان هو الخاتم أو الكافر وأسند إلى الله تعالى لأنه هو الذي أقدره ومكنه وهذا المذهب يلزمه في نظر أهل السنة أمور كلها باطلة:
منها مخالفة الدليل العقلي القائم على وحدانية الله تعالى وأنه لا شيء من الكائنات إلا وهو أثر من آثار القادر لا غيره.
ومنها مخالفة الدليل النقلي كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} .
ومنها القول بأن هذه الأشياء نفذ فيها مراد الشيطان أو الكافر بخلاف مراد الله وهذا أشنع ما يقال.
ومنها قياس الغائب على الشاهد إذ جعلوا المنع من قبول الحق قبيحا من الله قياسا على قبحه منا.
ومنها الجهل بحقيقة الظلم وحقيقته أنه التصرف في ملك الغير بغير إذنه ولا ملك إلا الله {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} فلا ظلم في فعله تعالى على أي وجه كان.
ومنها أن ما تمسكوا به من أفعال العباد لو كانت مخلوقة لله تعالى لما نعاها عليهم ولما عاقبهم بها ولما قامت له حجة عليهم كل ذلك مبني على قاعدتهم الخاطئة من التحسين والتقبيح العقليين وعلى قياسهم الغائب على الشاهد كما سبق وكلا هذين لا يسلم لهم ثم يرد عليهم بالمثل فيقال لهم يقبح من الشاهد أن يمكن غيره من فعل شيء ثم يعاقبه عليه فكذلك الغائب وأنتم تقولون إن القدرة التي يخلق بها العبد فعله في زعمكم هي مخلوقة لله تعالى مع علمه بما سيفعله العبد بها ولا يخفى أن ذلك بمثابة إعطاء سيف لمن يبغي به على الناس وذلك قبيح في الشاهد فهو قبيح في الغائب وما تجيبون به عن هذه نجيبكم به عن تلك فالجواب هو الجواب.

(2/72)


4 - ويقول في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} ما نصه: ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط الله والعذاب السرمدي رضوان الله والنعيم المخلد اهـ وأنت ترى أن في ذلك تعريضا بإنكار رؤية الله إذ يصرح بأن النجاة والرضوان والنعيم لا غاية للفوز وراءها مع أنه لم يذكر الرؤية وقد صرح بإنكارها في سورة الأنعام إذ قال في تفسير قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} ما نصه البصر هو الجوهر اللطيف الذي ركبه الله في حاسة النظر به تدرك المبصرات فالمعنى أن الأبصار لا تتعلق به ولا تدركه لأنه متعال عن أن يكون مبصرا في ذاته إذ الأبصار إنما يتعلق بما كان في جهة أصالة أو تبعا وذلك كالأجسام والهيئات اهـ.
ويرد عليه أهل السنة أولا بأن الإدراك المنفي عبارة عن الإحاطة ومنه قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ} أي أحاط به وقوله سبحانه حكاية عن قوم موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} أي محاط بنا فالمنفي إذن عن الأبصار إحاطتها به عز وجل لا مجرد الرؤية ومن المعلوم أنه تعالى لا تحيط به الأفهام وهذا لا يمنع أن تعرفه فالإحاطة للعقل منفية كنفي الإحاطة للبصر وما دون الإحاطة من المعرفة للعقل والرؤية للبصر ثابت غير منفي.
ثانيا أن الزمخشري لم يذكر على إحاطة الرؤية عقلا دليلا ولا شبه دليل سوى أنه يكون المرئي لا في جهة وهذا نعارضه بالمثل فنقول يلزمكم استبعاد أن يكون الموجود لا في جهة إذ الاتباع للوهم ببعدهما جميعا والانقياد للعقل يبطل هذا الوهم ويجيزهما معا.
وحسبنا هذا فحبل النقاش بين أهل السنة والمعتزلة طويل وميدان الأخذ والرد بينهما علم الكلام فارجع إليه إن شئت المزيد عصمني الله وإياك من الزلل ووفقنا للقصد في الاعتقاد والعمل آمين.

(2/73)


كتاب تنزيه القرآن عن المطاعن:
مؤلفه هو القاضي عبد الجبار بن أحمد بن الخليل وكنيته أبو الحسن البغدادي برع في علم الكلام وفاق أهل زمانه ووضع كتبا جليلة وإليه انتهت رياسة المعتزلة ومشيختها فصاروا يأخذون برأيه ويعتمدون على كتبه إلى أن توفى سنة 415 خمس عشرة وأربعمائة وله مصنفات كثيرة من أهمها كتابه هذا تنزيه القرآن عن المطاعن.
وهو مرتب على مسائل تتضمن سؤالا وجوابه ولم تكن همته تفسير القرآن بل كان كل همه موجها نحو تأييد مذهبه لذلك تراه لم يفسر جميع القرآن بل يذكر من السورة الآية التي يستطيع أن يؤولها على مقتضى عقيدته ويؤيد بها مذهب المعتزلة على نمط ما فعل الزمخشري في الأمثلة التي بين يديك وهذا الكتاب يحتوي كثيرا من الفوائد على رغم تعصبه المذهبي وعدم عنايته بالتفسير كما يجب.

(2/74)


ق - تفاسير الباطنية
الباطنية قوم رفضوا الأخذ بظاهر القرآن وقالوا للقرآن ظاهر وباطن والمراد منه باطنه دون ظاهره ويستدلون بقوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} وهم فرق متعددة على المثال الآتي:
1 – القرامطة: نسبة إلى حمدان قرمط إحدى قرى واسط وهو الذي تزعمهم فيما ذهبوا إليه.
2 – الإسماعيلية: نسبة إلى إسماعيل أكبر أولاد جعفر الصادق وذلك لأنهم كانوا يعتقدون الإمامة فيه وقيل إنهم سموا إسماعيلية لانتسابهم إلى محمد بن إسماعيل.

(2/74)


3 – السبعية: نسبة إلى عدد السبعة ذلك لأنهم يعتقدون أن في كل سبعة إماما يقتدى به.
4 - الحرمية نسبة إلى الحرمة وذلك لأنهم يستبيحون الحرمات.
5 - البابكية نسبة إلى زعيمهم بابك الخرمي الذي خرج بأذربيجان.
6 - المحمرة سموا بذلك للبسهم الحمرة.
ومذهب الباطنية على عمومه وباء انتقل إليهم بطريق العدوى من المجوس ومن تأويلاتهم الفاسدة في القرآن أنهم يقولون في تفسير قوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} إن الإمام عليا ورث النبي في علمه.
ويقولون معنى الجنابة أنها مبادرة المستجيب بإفشاء السر قبل أن ينال رتبة الاستحقاق ومعنى الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك ومعنى الطهارة التبري من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام ومعنى التيمم الأخذ من المأذون إلى أن يشاهد الداعي الإمام ومعنى الصيام الإمساك عن كشف السر.
ويقولون إن الكعبة هي النبي صلى الله عليه وسلم والباب علي والصفا هو النبي صلى الله عليه وسلم والمروة علي ونار إبراهيم هي غصب النمروذ عليه وعصا موسى هي حجته إلى غير ذلك من الخرافات التي لا يقبلها عقل ولا يؤيدها نقل.
وهذه التأويلات الفاسدة من أشد وأنكى ما يصاب به الإسلام والمسلمون لأنها تؤدي إلى نقص بناء الشريعة حجرا حجرا وإلى الخروج من ربقة الإسلام وحل عراه عروة عروة ولأنها تجعل القرآن والسنة فوضى فاحشة يقال فيهما ما شاء الهوى أن يقال كأنهما لغو من الكلام أو كلأ مباح للبهائم والأنعام وأخيرا ينفرط عقد المسلمين ويكون بأسهم بينهم من جراء هذا العبث بتلك الضوابط الدينية الكبرى

(2/75)


والحوافظ الأدبية العظمى وما دام لكل واحد أن يفهم من القرآن ما شاء له الهوى والشهوة دون اعتصام بالشريعة ولا التزام لقواعد اللغة لم يعد القرآن قرآنا وإنما هما الهوى والشهوة فحسب.
لهذا شرطنا في التفسير ما شرطنا وفي مقدمة شروطه التزام قوانين الشريعة والتزام قواعد اللغة العربية أما التزام قوانين الشريعة فلكيلا تتهافت النصوص وتتناقض التعاليم.
وأما التزام قواعد اللغة فلأن القرآن نزل بلسان عربي مبين ويقول منزله جل شأنه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقضية عروبته هذه أن يفهم على قوانين لغة العرب وإلا فلا يرجى أن يعقل ما فيه ولا أن يفهم ما يحويه وذلك معنى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} بعد قوله: {عَرَبِيّاً}

(2/76)


ر - تفاسير الشيعة
الشيعة طائفة كبيرة بالغت في حبها للإمام علي وتقديرها إياه والمبالغة والإسراف حتى في الفضائل يعود بما إلى الرذائل.
ولهذا يقول علماء الأخلاق الفضيلة وسط بين رذيلتين ويقولون إذا خرج الشيء عن حده عاد إلى ضده.
ومن هنا أمر الإسلام بالاعتدال حتى في حب النبي صلى الله عليه وسلم وتقديره.
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لأمته: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ولكن قولوا عبد الله ورسوله" .

(2/76)


ولكن الشيعة بالغوا وأسرفوا في حب الإمام وتقديره وهم فرق فمنهم من أغرق في نفس التشيع حتى كفر وعلى رأس هؤلاء عبد الله بن سبأ اليهودي عدو الله الذي ما أظهر الإسلام إلا بقصد الكيد له والإفساد فيه ولهذا كانت تلك الفرقة في موقف خصومة وحرب من المسلمين حتى ورد أن الإمام عليا نفسه شن الغارة عليهم وحاربهم وطاردهم.
ومنهم قوم معتدلون لم يسقطوا في هاوية الكفر وإن خالفوا أهل السنة والجماعة في تفضيل أبي بكر وعمر وعثمان وتقديمهم على الإمام علي في الخلافة رضي الله عنهم أجمعين ولهؤلاء مذاهب ودراسات وكتب وتفسيرات وأدلة وتأويلات.
ومن تفاسير الشيعة كتاب يسمى:
مرآة الأنوار ومشكاة الأسرار.
مؤلفه يدعى المولى عبد اللطيف الكازلاني من النجف وهذا التفسير مشتمل على تأويلات تشبه تأويلات الباطنية السابقة فالأرض يفسرها بالدين وبالأئمة عليهم السلام وبالشيعة وبالقلوب التي هي محل العلم وقراره وبأخبار الأمم الماضية الخ فيقول في قوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} المراد دين الله وكتاب الله ويقول في قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} المراد أو لم ينظروا في القرآن الخ فأنت ترى أنه قد حمل اللفظ الذي لا يجهله أحد على معان غريبة من غير دليل وما حمله على ذلك إلا مركب الهوى والتعصب الأعمى لمذهبه وذلك لا شك ضلال لا يقل عن ضلال الباطنية ولا البهائية.
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .

(2/77)


ش - التفسير الإشاري
هو تأويل القرآن بغير ظاهره لإشارة خفية تظهر لأرباب السلوك والتصوف ويمكن الجمع بينها وبين الظاهر والمراد أيضا.
وقد اختلف العلماء في التفسير المذكور فمنهم من أجازه ومنهم من منعه وإليك شيئا من أقوال العلماء لتعرف وجه الحق في ذلك:
قال الزركشي في البرهان كلام الصوفية في تفسير القرآن قيل إنه ليس بتفسير وإنما هو معان ومواجيد يجدونها عند التلاوة كقول بعضهم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} إن المراد النفس يريدون أن علة الأمر بقتال من يلينا هي القرب وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه.
وقال ابن الصلاح في فتاويه: وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر أنه قال صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق في التفسير فإن كان قد اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر قال ابن الصلاح وأنا أقول الظن بمن يوثق به منهم إذا قال شيئا من ذلك أنه لم يذكره تفسيرا ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية وإنما ذلك منهم تنظير لما ورد به القرآن فإن النظير يذكر بالنظير ومع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا بمثل ذلك لما فيه من الإبهام والالتباس.
وقال النسفي في عقائده النصوص على ظواهرها والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل البطل إلحاد اهـ قال التفتازاني في شرحه سميت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظاهرها بل لها معان لا يعرفها إلا المعلم وقصدهم بذلك نفي الشريعة

(2/78)


بالكلية قال وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها ومع ذلك ففيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف لأرباب السلوك يمكن التوفيق بينها وبين الظواهر المرادة فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان.
ومن هنا يعلم الفرق بين تفسير الصوفية المسمى بالتفسير الإشاري وبين تفسير الباطنية الملاحدة فالصوفية لا يمنعون إرادة الظاهر بل يحضون عليه ويقولون لا بد منه أولا إذ من ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم الظاهر كمن ادعى بلوغ سطح البيت قبل أن يجاوز الباب.
وأما الباطنية فإنهم يقولون: إن الظاهر غير مراد أصلا وإنما المراد الباطن وقصدهم نفي الشريعة.
ونقل السيوطي في الإتقان عن ابن عطاء الله في لطائف المنن ما نصه اعلم أن تفسير هذه الطائفة لكلام الله وكلام رسوله بالمعاني الغريبة ليس إحالة للظاهر عن ظاهره ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جاءت الآية له ودلت عليه في عرف اللسان ولهم أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله قلبه وقد جاء في الحديث لكل آية ظهر وبطن فلا يصدنك عن تلقي هذه المعاني منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة هذا إحالة لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فليس ذلك بإحالة وإنما يكون إحالة لو قالوا لا معنى للآية إلا هذا وهم يقولون ذلك بل يقررون الظواهر على ظواهرها مرادا بها موضوعاتها ويفهمون عن الله ما ألهمهم اهـ.
ملحوظة:
لعل من المناسب هنا أن نسوق إليك عبارة عن السيوطي في بيان معنى ظهر الآية وبطنها وحد الحرف ومطلع الحد قال نور الله ضريحة فإن قلت فقد قال الفريابي حدثنا سفيان عن يونس بن عبيد عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

(2/79)


لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع قلت أما الظهر والبطن ففي معناه أوجه:
أحدها أنك إذا بحثت عن باطنها وقسته على ظاهرها وقفت على معناها.
الثاني أنه ما من آية إلا عمل بها قوم ولها قوم سيعلمون بها كما قال ابن مسعود.
الثالث أن ظاهرها لفظها وباطنها تأويلها.
الرابع قال أبو عبيدة وهو أشبهها بالصواب إن القصص التي قصها الله تعالى عن الأمم الماضية وما عاقبهم به ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين وحديث حدث به عن قوم وباطنها وعظ الآخرين وتحذيرهم أن يفعلوا كفعلهم فيحل بهم مثل ما حل بهم.
وحكى ابن النقيب قولا خامسا أن ظهرها ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر وبطنها ما تضمنته من الأسرار التي أطلع الله عليها أرباب الحقائق.
ومعنى قوله ولكل حرف حد أي منتهى فيما أراد الله من معناه وقيل لكل حكم مقدار من الثواب والعقاب.
ومعنى قوله ولكل حد مطلع لكل غاية من المعاني والأحكام مطلع يتوصل به إلى معرفته ويوقف على المراد به وقيل كل ما يستحق من الثواب والعقاب يطلع عليه في الآخرة عند المجازاة وقال بعضهم الظاهر التلاوة والباطن الفهم والحد أحكام الحلال والحرام والمطلع الإشراف على الوعد والوعيد.قلت يؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال إن القرآن ذو شجون وفنون وظهور وبطون لا تنقضي عجائبه ولا تبلغ غايته فمن أوغل فيه برفق نجا ومن أوغل فيه بعنف هوى أخبار وأمثال وحلال وحرام وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وظهر وبطن فظهره التلاوة وبطنه التأويل

(2/80)


فجالسوا به العلماء وجانبوا به السفهاء اهـ غير أن الوجه الأول الذي نقله السيوطي في معنى الظهر والبطن ليس بواضح وإذا التمسنا له بعض الاحتمالات تشابه أو اتحد بما بعده من الأقوال والقول الخامس متحد كذلك مع الثالث أو قريب منه فتأمل.
شروط قبول التفسير الإشاري:
مما تقدم يعلم أن التفسير الإشاري لا يكون مقبولا إلا بشروط خمسة وهي:
ألا يتنافى وما يظهر من معنى النظم الكريم.
ألا يدعى أنه المراد وحده دون الظاهر.
ألا يكون تأويلا بعيدا سخيفا كتفسير بعضهم قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} بجعل كلمة {لَمَعَ} ماضيا وكلمة {الْمُحْسِنِينَ} مفعوله.
ألا يكون له معارض شرعي أو عقلي.
أن يكون له شاهد شرعي يؤيده.
كذلك اشترطوا بيد أن هذه الشروط متداخلة فيمكن الاستغناء بالأول عن الثالث وبالخامس عن الرابع ويحسن ملاحظة شرطين بدلهما أحدهما بيان المعنى الموضوع له اللفظ الكريم أولا ثانيهما ألا يكون من وراء هذا التفسير الإشاري تشويش على المفسر له وسيأتيك في نصيحتي وفي كلام الغزالي ما يقرر هذين الشرطين.
ثم إن هذه شروط لقبوله بمعنى عدم رفضه فحسب وليست شروطا لوجوب اتباعه والأخذ به ذلك لأنه لا يتنافى وظاهر القرآن ثم إن له شاهدا يعضده من الشرع وكل ما كان كذلك لا يرفض وإنما لم يجب الأخذ به لأن النظم الكريم لم يوضع للدلالة عليه بل هو من قبيل الإلهامات التي تلوح لأصحابها غير منضبطة بلغة ولا مقيدة بقوانين.

(2/81)


أهم كتب التفسير الإشاري
وأهم كتب التفسير الإشاري أربعة تفسير النيسابوري وتفسير الألوسي وتفسير التستري وتفسير محيي الدين بن عربي.
1 - أما تفسير النيسابوري فقد تقدم الكلام عليه وبقي أن نذكر لك عنه أنه بعد أن يوفي الكلام على ظاهر معنى الآية أو الآيات يقول قال أهل الإشارة أو يقول التأويل ثم يسوق المعنى الإشاري لتلك الآية أو الآيات تحت هذا العنوان مثال ذلك أنه قال بعد التفسير الظاهر لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الآيات قال ما نصه التأويل ذبح البقرة إشارة إلى ذبح النفس البهيمية فإن في ذبحها حياة القلب الروحاني وهو الجهاد الأكبر موتوا قبل أن تموتوا.
اقتلوني يا ثقاتي ... إن في قتلي حياتي
وحياتي في مماتي ... ومماتي في حياتي
مت بالإرادة تحي بالطبيعة وقال بعضهم مت بالطبيعة تحي بالحقيقة ما هي إنها بقرة نفس تصلح للذبح بسيف الصدق {لا فَارِضٌ} في سن الشيخوخة فيعجز عن وظائف سلوك الطريق لضعف القوى البدنية كما قيل الصوفي بعد الأربعين بارد {وَلا بِكْرٌ} في سن شرخ الشباب يستهويه سكره عوان بين ذلك لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} . {بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ} إشارة إلى صفرة وجوه أصحاب الرياضات {فَاقِعٌ لَوْنُهَا} يريد أنها صفرة زين لا صفرة شين فإنها سيما الصالحين {لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ} لا تحتمل ذلة الطمع ولا تثير بآلة الحرص أرض الدنيا لطلب زخارفها ومشتهياتها {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} ولا يسقى حرث الدنيا بماء وجهه عند الخلق وبماء وجاهته عند الخالق فيذهب ماؤه عند الحق وعند الخلق {مُسَلَّمَةٌ} من آفات صفاتها ليس فيها علامة طلب غير الله {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} بمقتضى الطبيعة

(2/82)


لولا فضل الله وحسن توفيقه:
{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً} يعني القلب {فَادَّارَأْتُمْ} فاختلفتم أنه كان من الشيطان أم من الدنيا أم من النفس {الأمارة فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} ضرب لسان البقرة المذبوحة بسكين الصدق على قتيل القلب بمداومة الذكر فحيي بإذن الله وقال {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} .
{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ} مراتب القلب في القسوة مختلفة فالتي يتفجر منها الأنهار قلوب يظهر عليها لغليان أنوار الروح بترك اللذات والشهوات بعض الأشياء المشبهة بخرف العادات كما يكون لبعض الرهبان والهنود والتي تشقق فيخرج منها الماء هي التي يظهر عليها في بعض الأوقات عند انخراق الحجب البشرية من أنوار الروح فيريه بعض الآيات والمعاني المعقولة كما يكون لبعض الحكماء والتي تهبط من خشية الله ما يكون لبعض أهل الأديان والملل من قبول عكس أنوار الروح من وراء الحجب فيقع فيها الخوف والخشية.
وهذه المراتب مشتركة بين المسلمين وغيرهم والفرق أنها في المسلمين مؤيدة بنور الإيمان فيزيدون في قربهم وقلوبهم ودرجاتهم ولغيرهم ليست مؤيدة بالإيمان فيزيدوا في غرورهم وعجبهم وبعدهم واستدراجهم والمسلمون مختصون بكرامات وفراسات تظهر لهم من تجلي أنوار الحق ورؤية برهانه.
فإراءة الآيات للخواص {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} . {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لكن إراءة البرهان لأخص الخواص كما جاء في حق يوسف {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} .
سئل الحسن بن منصور عن البرهان فقال واردات ترد على القلوب فتعجز القلوب عن تكذيبها والله أعلم اهـ.

(2/83)


مثال ثان قال النيسابوري أيضا بعد تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ما نصه التأويل مساجد الله التي يذكر فيها اسمه عند أهل النظر النفس والقلب والروح والسر والخفي وهو سر السر وذكر كل مسجد منها مناسب لذلك المسجد فذكر مسجد النفس الطاعات والعبادات ومنع الذكر فيه بترك الحسنات وملازمة السيئات وذكر مسجد القلب التوحيد والمعرفة ومنع الذكر فيه بالتمسك بالشبهات والتعلق بالشهوات فإن القلوب المعلقة بالشهوات عقولها عني محجوبة وذكر مسجد الروح بالشوق والمحبة ومنع الذكر فيه بالحظوظ والمسكنات وذكر مسجد السر المراقبة والشهود ومنع الذكر فيه بالركون إلى الكرامات وذكر مسجد الخفي وهو سر السر بذل الوجود وترك الموجود ومنع الذكر فيه بالالتفات إلى المشاهدات والمكاشفات الخ ما قال
2 - وأما تفسير الألوسي فاسمه روح المعاني ومؤلفه العلامة المحقق شهاب الدين السيد محمد الألوسي البغدادي مفتي بغداد المتوفي سنة 1270 سبعين ومائتين وألف وهذا التفسير من أجل التفاسير وأوسعها وأجمعها نظم فيه روايات السلف بجانب آراء الخلف المقبولة وألف فيه بين ما يفهم بطريق العبارة وما يفهم بطريق الإشارة رحمه الله وتجاوز عنه.
ومما قاله في التفسير الإشاري بعد أن فسر قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} إلى آخر الآيات بعدها قال ما نصه:
ومن مقام الإشارة في الآيات وإذا قلتم يا موسى القلب لن نؤمن الإيمان الحقيقي حتى نصل إلى مقام المشاهدة والعيان فأخذتكم صاعقة الموت الذي هو الفناء في التجلي الذاتي وأنتم تراقبون أو تشاهدون ثم بعثناكم بالحياة الحقيقة والبقاء بعد الفناء

(2/84)


لكي تشكروا نعمة التوحيد والوصول بالسلوك في الله عز وجل وظللنا عليكم غمام تجلي الصفات لكونها حجبت شمس الذات الخ ما قال.
مثال ثان قال بعد تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} خذوا ما ءاتينكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون قال ما نصه.
وإذ أخذنا ميثاقكم المأخوذ بدلائل العقل بتوحيد الأفعال والصفات ورفعنا فوقكم طور الدماغ للتمكن من فهم المعاني وقبولها أو أشار سبحانه بالطور إلى موسى القلب وبرفعه إلى علوه واستيلائه في جو الإرشاد والشرائع لكي تتقوا الشرك والجهل والفسق ثم أعرضتم بإقبالكم إلى الجهة السفلية بعد ذلك فلولا حكمة الله بإمهاله وحكمه بإفضاله لعاجلتكم العقوبة ولحل بكم عظيم المصيبة.
إلى الله يدعى بالبراهين من أبى ... فإن لم يجب بادته بيض الصوارم
فهذه الإشارة إنما يعرفها ذو الوجد والمشاهدة وهي لأصحابها رياض يانعة وأنوار لامعة اهـ.
3 - تفسير التستري هو أبو محمد سهل بن عبد الله التستري المتوفي سنة 383 ثلاث وثمانين وثلثمائة وتفسيره هذا لم يستوعب كل الآيات وإن استوعب السور وقد سلك في مسلك الصوفية مع موافقته لأهل الظاهر وإليك نموذجا منه إذ يقول في تفسير البسملة ما نصه:
الباء بهاء الله عز وجل والسين سناء الله عز وجل والميم مجد الله عز وجل والله هو الاسم الأعظم الذي حوى الأسماء كلها وبين الألف واللام

(2/85)


منه حرف مكنى غيب إلى غيب وسر من سر إلى سر وحقيقة من حقيقة إلى حقيقة لا ينال فهمه إلا الطاهر من الأدناس الآخذ من الحلال قواما ضرورة الإيمان.
والرحمن اسم فيه خاصة من الحرف المكنى بين الألف واللام والرحيم هو العاطف على عباده بالرزق في الفرع والابتداء في الأصل رحمة لسابق علمه القديم قال أبو بكر أي بنسيم روح الله اخترع من ملكه ما شاء رحمة لأنه رحيم وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه الرحمن الرحيم اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر فنفى الله بهما القنوط عن المؤمنين من عباده اهـ.
ومن تفسيره بما هو قريب من المعنى الظاهر قوله في تفسير الآية الكريمة.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} الخ ما نصه:
أفكان شاكا في إيمانه حتى سأل ربه أن يريه آية معجزة ليصح معها إيمانه فقال سهل لم يكن سؤاله ذلك عن شك وإنما كان طالبا زيادة اليقين يقينا في قدرة الله وتمكينا في خلقه ألا تراه كيف قال: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} فلو كان شاكا لم يجب ببلى ولو علم الله منه الشك وهو أخبر ببلى وستر الشك لكشف الله ذلك إذ كان مثله مما لا يخفى اهـ.
وهذا الكتاب صغير الحجم غير أنه غزير المادة في موضوعه مشتمل على كثير من علاج الشبهات ودفع الإشكالات يقع في نحو من 314 أربع عشرة وثلاثمائة صفحة وهو مطبوع بمصر.
4 - تفسير ابن عربي هو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله محيي الدين بن عربي الحاتمي الصوفي الفقيه المحدث ولد بمرسية سنة 560 ستين وخمسمائة وتوفي في دمشق سنة 638 ثمان وثلاثين وستمائة.

(2/86)


ومن مصنفاته كتاب الجمع والتفصيل في إبداء معاني التنزيل ومنها إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن وقد طبع تفسيره في جزأين بالمطبعة الأميرية سنة 1287 سبع وثمانين ومائتين بعد الالف وقد قال في خطبته ما نصه:
قد تذكرت خبرا قد أتاني فازدهاني مما وراء المقاصد والأماني قول النبي الأمي الصادق عليه أفضل الصلوات من كل صامت وناطق: "ما من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع" وفهمت منه أن الظهر هو التفسير والبطن هو التأويل والحد ما يتناهى إليه المفهوم من معنى الكلام والمطلع ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام.
وقد نقل عن الإمام المحقق السابق جعفر بن محمد الصادق عليه السلام أنه قال: لقد تجلى الله تعالى لعباده في كلامه ولكن لا يبصرون. وروى عنه عليه السلام أنه خر مغشيا عليه وهو في الصلاة فسئل عن ذلك فقال: "ما زلت أردد الآية حتى سمعتها من المتكلم بها" .
قال: فرأيت أن أعلق بعض ما يسنح لي في الأوقات من أسرار حقائق البطون وأنوار شوارق الكائنات دون ما يتعلق بالظواهر والحدود فإنها قد عين لها حد محدود وقد قيل من فسر القرآن برأيه فقد كفر وأما التأويل فلا يبقى ولا يذر فإنه باختلاف أحوال المستمع وأوقاته في مراتب سلوكه وتفاوت درجاته كلما ترقى عن مقام انفتح له باب فهم جديد واطلع به على لطيف معنى عتيد إلى أن قال وكل ما لا يقبل التأويل عندي أو لا يحتاج إليه فما أوردته أصلا الخ اهـ.
ومن تفسيره الإشاري لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} ما نصه:

(2/87)


{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} هي النفس الحيوانية وذبحها قمع هواها الذي هو حياتها ومنبعها من الأفعال الخاصة بها بشفرة سكين الرياضة وقال في تفسير آية {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} إلى قوله: {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} من سورة الأنبياء قال ما نصه:
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} أي سخرنا لسليمان العقل العملي والمتمكن على عرش النفس في الصدر ريح الهوى {عَاصِفَةً} في هبوبها {تَجْرِي بِأَمْرِهِ} مطيعة له {إِلَى الْأَرْضِ} أرض البدن المتدرب بالطاعة والأدب {الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} بتمييز الأخلاق والملكات الفاضلة والأعمال الصالحة {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ} من أسباب الكمال {عَالِمِينَ} {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ} شياطين الوهم والتخييل {مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} في بحر الهيولي الجثمانية ويستخرجون درر المعاني الجزئية {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ} من التركيب والتفصيل والمصنوعات وتهييج الدواعي المكسوبات وأمثالها {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} عن الزيغ والخطأ والتسويل الباطل والكذب {وَأَيُّوبَ} النفس المطمئنة الممتحنة بأنواع البلاء في الرياضة البالغة كمال الزكاء في المجاهدة {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} ند شدة الك رب في الجد وبلوغ الطاقة والوسع في الجهد {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} من الضعف والانكسار والعجز {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} بالتوسعة والروح {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} بروح الأحوال عن كد الأعمال عند كمال الطمأنينة ونزول السكينة {فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} من ضر الرياضة بنور الهداية ونفسنا عنه ظلمة الكرب بإشراق نور القلب {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ} القوى النفسية التي ملكناها وأمتناها بالرياضة بإحيائها بالحياة الحقيقة {وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} من إمداد القوى الروحانية وأنوار الصفات القلبية ووفرنا عليهم أسباب الفضائل الخلقية وأحوال العلوم النافعة الجزئية {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} اهـ.

(2/88)


ت - نصيحة خالصة
بيد أن هذا التفسير كما ترى جاء كله على هذا النمط دون أن يتعرض لبيان المعاني الوضعية للنصوص القرآنية وهنا الخطر كل الخطر فإنه يخاف على مطالعه أن يفهم أن هذه المعاني الإشارية هي مراد الخالق إلى خلقه في الهداية إلى تعاليم الإسلام والإرشاد إلى حقائق هذا الدين الذي ارتضاه لهم.
ولعلك تلاحظ معي أن بعض الناس قد فتنوا بالإقبال على دراسة تلك الإشارات والخواطر فدخل في روعهم أن الكتاب والسنة بل الإسلام كله ما هي إلا سوانح وواردات على هذا النحو من التأويلات والتوجيهات وزعموا أن الأمر ما هو إلا تخييلات وأن المطلوب منهم هو الشطح مع الخيال أينما شطح فلم يتقيدوا بتكاليف الشريعة ولم يحترموا قوانين اللغة العربية في فهم أبلغ النصوص العربية كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والأدهى من ذاك أنهم يتخيلون ويخيلون إلى الناس أنهم هم أهل الحقيقة الذين أدركوا الغاية واتصلوا بالله إتصالا أسقط عنهم التكليف وسما بهم عن حضيض الأخذ بالأسباب ما داموا في زعمهم مع رب الأرباب وهذا لعمر الله هو المصاب العظيم الذي عمل له الباطنية وأضرابهم من أعداء الإسلام كما يهدموا التشريع من أصوله ويأتوا بنيانه من قواعده {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
فواجب النصح لإخواننا المسلمين يقتضينا أن نحذرهم الوقوع في هذه الشباك ونشير عليهم أن ينفضوا أيديهم من أمثال تلك التفاسير الإشارية الملتوية ولا يعولوا على أشباهها مما ورد في كلام القوم بالكتب الصوفية لأنها كلها أذواق ومواجيد خارجة

(2/89)


عن حدود الضبط والتقليد وكثيرا ما يختلط فيها الخيال بالحقيقة والحق بالباطل وإذا تجردت من ذلك فقلما يظهر منها مراد القائل وإذا ظهر فقد يكون من الكفريات الفاحشة التي نستبعد صدورها من العلماء والمتصوفة بل من صادقي عامة المسلمين والتي نرى الطعن فيها بالدس والوضع أقرب وأسلم من الطعن فيمن عزيت إليه بالكفر والفسق.
فالأحرى بالفطن العاقل أن ينأى بنفسه عن هذه المزالق وأن يفر بدينه من هذه الشبهات وأمامه في الكتاب والسنة وشروحهما على قوانين الشريعة واللغة رياض وجنات.
{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} ؟!.
قال صلى الله عليه وسلم: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه".
وقال صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وبالله تعالى توفيقي وتوفيقك نسأله تعالى أن يخرجنا من ظلمات الأوهام وأن يحققنا بحقائق الدين وتعاليم الإسلام آمين
كلمة لحجة الإسلام الغزالي:
وأختم نصيحتي هذه بكلمة قيمة تتصل بموضوعنا اتصالا ماسا وهي مدبجة ببراعة الإمام الغزالي حين عرض في كتابة الإحياء للذكر والتذكير وما أدخله الناس فيهما فقال بلل الله ثراه:
وأما الشطح فنعني به صنفين من الكلام أحدثهما بعض الصوفية:
أحدهما الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع الله تعالى والوصال المغنى عن الأعمال الظاهرة حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد وارتفاع الحجاب والمشاهدة بالرؤية والمشافهة بالخطاب فيقولون قيل لنا كذا وقلنا كذا ويتشبهون فيه بالحسين بن منصور الحلاج الذي صلب لأجل إطلاقه كلمات من هذا الجنس

(2/90)


ويستشهدون بقوله: أنا الحق وربما حكي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال: سبحاني سبحاني! وهذا فن من الكلام عظيم ضرره على العوام حتى لقد ترك جماعة من أهل الفلاحة فلاحتهم وأظهروا مثل هذه الدعاوي فإن هذا الكلام يستلذه الطبع إذ فيه البطالة من الأعمال مع تزكية النفس بدرك المقامات والأحوال فلا تعجز الأغبياء عن دعوى ذلك لأنفسهم ولا عن تلقف كلمات مخبطة مزخرفة ومهما أنكر عليهم ذلك لم يعجزوا عن أن يقولوا هذا إنكار مصدره العلم والجدل والعلم حجاب والجدل عمل النفس وهذا الحديث لا يلوح إلا من الباطن بمكاشفة نور الحق فهذا ومثله مما قد استطار في البلاد شرره وعظم في العوام ضرره حتى من نطق بشيء منه فقتله أفضل في دين الله من إحياء عشرة وأما أبو يزيد البسطامي رحمه الله فلا يصح عنه ما يحكى وإن سمع ذلك منه فعله كان يحكيه عن الله عز وجل في كلام يردده في نفسه كما لو سمع وهو يقول إنني أنا ا لله لا إله إلا أنا فاعبدني فإنه ما كان ينبغي أن يفهم منه ذلك إلا على سبيل الحكاية.
الصنف الثاني من الشطح كلمات غير مفهومة لها ظواهر رائقة وفيها عبارات هائلة وليس وراءها طائل وتلك إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها بل يصدرها عن خبط في عقله وتشويش في خياله لقلة إحاطته بمعنى كلام قرع سمعه وهذا هو الأكثر وإما أن تكون مفهومة له ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة تدل على ضميره لقلة ممارسته للعلم وعدم تعلمه طريق التعبير عن المعاني بالألفاظ الرشيقة ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلا أنه يشوش القلوب ويدهش العقول ويحير الأذهان أو يحمل على أن يفهم منها معان ما أريدت ويكون فهم كل واحد على مقتضى هواه وطبعه وقد قال صلى الله عليه وسلم : "ما حدث أحدكم قوما بحديث لا يفقهونه إلا كان

(2/91)


فتنة عليهم1" وقال صلى الله عليه وسلم: "كلموا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون أتريدون أن يكذب الله ورسوله2" وهذا فيما يفهمه صاحبه ولا يبلغه عقل المستمع فكيف فيما لا يفهمه قائله فإن كان يفهمه القائل دون المستمع فلا يحل ذكره وقال: عيسى عليه السلام لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم كونوا كالطبيب الرفيق يضع الدواء في موضع الداء وفي لفظ آخر من وضع الحكمة في غير أهلها فقد جهل ومن منعها أهلها فقد ظلم إن للحكمة حقا وإن لها أهلا فأعط كل ذي حق حقه.
وأما الطامات فيدخلها ما ذكرناه في الشطح وأمر آخر يخصها وهو صرف ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا يسبق منها إلى الأفهام فائدة كدأب الباطنية في التأويلات فهذا أيضا حرام وضرره عظيم فإن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها من غير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ وسقط به منفعة كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن ما يسبق منه إلى الفهم لا يوثق به والباطن لا ضبط له بل تتعارض فيه الخواطر ويمكن تنزيله على وجوه شتى وهذا أيضا من البدع الشائعة العظيمة الضرر وإنما قصد أصحابها الإغراب لأن النفوس مائلة إلى الغريب ومستلذة له وبهذا الطريق توصل الباطنية إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها وتنزيلها على رأيهم كما حكيناه من مذاهبهم في كتاب المستظهري المصنف في الرد على الباطنية.
__________
1 هذا الحديث رواه مسلم في مقدمة صحيحة, موقوفا على ابن مسعود. ورواه العقيلي في الضعفاء.
2 هذا الحديث رواه البخاري موقوفا على علي ورفعه أبو منصور الدليمي في مسند الفردوس من طريق أبي نعيم.

(2/92)


ومثال تأويل أهل الطامات قول بعضهم في تأويل قوله تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} إنه إشارة إلى قلبه وقال هو المراد بفرعون وهو الطاغي على كل إنسان وفي قوله تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} أي كل ما يتوكأ عليه ويعتمده مما سوى الله عز وجل فينبغي أن يلقيه وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "تسحروا فإن في السحور بركة"1 أراد به الاستغفار في الأسحار وأمثال ذلك حتى ليحرفون القرآن من أوله إلى آخره عن ظاهره وعن تفسيره المنقول عن ابن عباس وسائر العلماء وبعض هذه التأويلات يعلم بطلانها قطعا كتنزيل فرعون على القلب فإن فرعون شخص محسوس تواتر إلينا النقل بوجوده ودعوة موسى له كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما من الكفار وليس من جنس الشياطين والملائكة مما لم يدرك بالحس حتى يتطرق التأويل إلى ألفاظه وكذلك حمل السحور على الاستغفار فإنه كان صلى الله عليه وسلم يتناول الطعام ويقول: "تسحروا2" "وهلموا إلى الغذاء المبارك"3 فهذه أمور يدرك بالتواتر والحس بطلانها نقلا وبعضها يعلم بغالب الظن وذلك في أمور لا يتعلق بها الإحساس فكل ذلك حرام وضلالة وإفساد للدين على الخلق ولم ينقل شيء من ذلك عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن الحسن البصري مع إكبابه على دعوة الخلق ووعظهم فلا يظهر لقوله صلى الله عليه وسلم: "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" 4 معنى إلا هذا
__________
1 هذ الحديث رواه البخاري زمسلم.
2 هذا الحديث رواه البخاري.
3 هذا الحديث رواه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث العباش بن ساؤية. زضعفه ابن القطان.
4 روه البخاري ومسلم وقيل بتواتره.

(2/93)


النمط وهو أن يكون غرضه ورأيه تقرير أمر وتحقيقه فيستجر شهادة القرآن إليه ويحمله عليه من غير أن يشهد لتنزيله عليه دلالة لفظية لغوية أو نقلية.
ولا ينبغي أن يفهم منه أنه يجب ألا يفسر القرآن بالاستنباط والفكر فإن من الآيات ما نقل فيها عن الصحابة والمفسرين خمسة معان وستة وسبعة وعلم أن جميعها غير مسموع من النبي صلى الله عليه وسلم فإنها قد تكون متنافية لا تقبل الجمع فيكون ذلك مستنبطا بحسن الفهم وطول الفكر ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنه: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" .
ومن يستجيز من أهل الطامات مثل هذه التأويلات مع علمه بأنها غير مرادة بالألفاظ ويزعم أنه يقصد بها دعوة الخلق إلى الخالق يضاهي من يستجيز الاختراع والوضع على رسول صلى الله عليه وسلم لما هو في نفسه حق ولكن لم ينطق به. كمن يضع في كل مسألة يراها حقا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم فذلك ظلم وضلال ودخول في الوعيد المفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" . بل الشر في تأويل هذه الألفاظ أطم وأعظم لأنه مبطل للثقة بالألفاظ وقاطع طريق الاستفادة والفهم من القرآن بالكلية فقد عرفت كيف صرف الشيطان دواعي الخلق عن القوانين المحمودة إلى المذمومة فكل ذلك من تلبيس علماء السوء بتبديل الأسامي فإن اتبعت هؤلاء اعتمادا على الاسم المشهور من غير التفات إلى ما عرف في العصر الأول كنت كمن طلب شرف الحكمة باتباع من يسمى حكيما فإن اسم الحكيم صار يطلق على الطبيب والشاعر والمنجم في هذا العصر وذلك بالغفلة عن تبديل الألفاظ.
ثم قال اللفظ الخامس أي من الألفاظ التي وقع فيها التلبيس لفظ الحكمة فإن اسم الحكيم صار يطلق على الطبيب والشاعر والمنجم حتى على الذي يدحرج القرعة

(2/94)


على أكف السوادية في شوارع الطرق والحكمة هي التي أثنى الله عز وجل عليها فقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} وقال صلى الله عليه وسلم: "كلمة من الحكمة يتعلمها الرجل خير له من الدنيا وما فيها1" فانظر ما الذي كانت الحكمة عبارة عنه؟ وإلى ماذا نقل وقس به من بقية الألفاظ واحترز عن الاغترار بتلبيسات علماء السوء فإن شرهم على الدين أعظم من شر الشياطين إذ الشياطين بواسطتهم يتدرج إلى انتزاع الدين من قلوب الخلق ولهذا لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شر الخلق أبى وقال: "اللهم غفرا2" حتى كرروا عليه فقال: "هم علماء السوء" .
فقد عرفت العلم المحمود والعلم المذموم ومثار الالتباس وإليك الخيرة في أن تنظر لنفسك فتقتدي بالسلف أو تتدلى بحبل الغرور وتتشبه بالخلف فكل ما ارتضاه السلف من العلم قد اندرس وما أكب الناس عليه فأكثره مبتدع ومحدث وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء" فقيل يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: "الذين يصلحون ما أفسده الناس من سنتي والذي يحيون ما أماتوه من سنتي3" وفي خبر آخر: "هم المتمسكون بما أنتم عليه اليوم4" وفي حديث آخر: "الغرباء ناس قليل صالحون بين ناس كثير من يبغضهم في الخلق أكثر ممن يحبهم5" .
__________
1 هذ الحديث روى ابن المبارك في الزهد والرقائق مرسلا, وفي مسند الفردوس بسند ضعيف.
2 هذا الحديث رواه البزار في مسنده بسند ضعيف.
3 هذا الحديث رواه مسلم من حديث أبي هريرة مختصرا. وهو بتمامه عند الترمذي من حديث عمرو بن عوف وحسنه.
4 هذا الحديث يقول الحافظ العراقي في تخريجه: لم أر له أصلا.
5 هذا الحديث رواه أحمد من حديث عبد الله بن عمرو.

(2/95)


وقد صارت تلك العلوم غريبة بحيث يمقت ذكراها ولذلك قال الثوري رحمه الله: إذا رأيت العالم كثير الأصدقاء فاعلم أنه مخلط لأنه إن نطق بالحق أبغضوه انتهى كلام الإمام الغزالي ضاعف الله أجره وأحسن ذخره ووهبنا السلامة والعافية بمنه وكرمه آمين.

(2/96)


ت - تفاسير أهل الكلام
كل إنسان تغلب عليه نزعته في كتابته وتلوح عقيدته من خلال تأليفه وتحديثه كما قلنا وذلك هو الشأن في علماء الكلام حين تصدوا لتفسير كتاب الله فالسني لاحت على تفسيره أنوار أهل السنة والمعتزلي فاحت من جوانب بيانه روائح الاعتزال والشيعي هبت من نواحي تأويله ريح التشيع وهكذا.
بيد أن الفرق بينهم كبير في التعصب أو القصد وفي الإيجاز أو البسط.
وقد مضى بك الحديث في تفاسير المعتزلة والشيعة ورأيت كيف كان الزمخشري في اعتزاله مقتصدا مستخفيا وكيف كان القاضي عبد الجبار متعصبا مستعلنا وكيف كان المولى عبد اللطيف متشيعا مسرفا.
وكذلك تجد في أهل السنة أنفسهم من هو قاصد في تأييد عقيدته بتفسيره كأولئك الذين ترجمناهم وترجمنا تفاسيرهم من قبل عند الكلام على أشهر كتب التفسير بالرأي المحمود.
ومن أهل السنة من استبسل في الدفاع عن عقيدتهم في تفسيره وعلى رأس هؤلاء الإمام فخر الدين الرازي الذي شنها حربا شعواء في كل مناسبة على أهل الزيغ

(2/96)


والانحراف في العقيدة وقد سلك في تفسيره مفاتيح الغيب المشهور بتفسير الفخر مسلك الحكماء الإلهيين فصاغ أدلته في مباحث الإلهيات على نمط استدلالاتهم العقلية ولكن مع تهذيبها بما يوافق أصول أهل السنة وكذلك تعرض لشبههم بالنقض والتفنيد في كثير من المواضع.
كما أنه سلك طريقة الطبيعيين في الكونيات فتكلم في الأفلاك والأبراج وفي السماء والأرض وفي الحيوان والنبات وفي أجزاء الإنسان وغير ذلك مما جر إليه الاستدلال على وجود الله جل جلاله غفر الله له وشكر صنيعه والله خير الشاكرين.

(2/97)


خ - مزج العلوم الأدبية والكونية
وغيرها بالتفسير وسبب ذلك وأثره
القرآن كتاب هداية وإعجاز وهدايته وإعجازه يصورهما المفسر ويشرحهما في تفسيره على قدر ما فيه من استعداد ومقدرة وعلى قدر ما عند الناس من علوم ومعارف وأفكار.
ولقد مرت على القرآن الكريم منذ نزوله إلى الآن عصور وقرون وأمم وأجيال والقرآن كما كان وكما سيبقى كتاب ينشر نور الهداية ويرفع لواء الإعجاز وكان الذين شوفهوا به لأول مرة عربا اكتملت فيهم خصائص العروبة وإن كانوا مع ذلك أميين لا إلمام لهم بالقراءة والكتابة ولا شأن لهم بعلوم تدرس ولا بكتب تقرأ.
لهذا وذاك كان فهمهم لهداية هذا الكتاب وإعجازه وتصويرهم لهما بالتفسير والبيان من الأمور الهينة السهلة الجارية على الفطرة والبساطة لا يحتاجون في ذلك إلى اصطلاحات فنية ولا إلى قواعد نحوية وبلاغية ولا إلى نظريات علمية.
أما إعجازه فكان معروفا لهم بمحض السليقة العربية السليمة والذوق البلاغي الرقيق وأما هدايته فكانوا يفهمونها كذلك بعقولهم الصافية وذكائهم الموهوب ولغتهم العربية الفصحى التي نزل بها القرآن.

(2/97)


وإذا استعانوا فبالنظر في كتاب الكون وآيات الله في الآفاق وبما خلق الله فيهم وحولهم من عجائب السماوات والأرض ثم بما يسمعون من بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مضى الأمر على ذلك مدة ثم جاء نصر الله والفتح ووطأت الأرض أكنافها للمسلمين وأظلت راية الإسلام أمما وشعوبا لم تكن تعرف العربية ولكنها كانت على ثقافة في العلوم والفنون والفلسفة وقد اختلطت هذه الأمم المفتوحة بتلك الأمم الفاتحة فكان من نتائج هذا الاتصال مع امتداد الزمان أمران.
أحدهما أن فسدت اللغة العربية وأصبح الجميع بحاجة إلى ضوابط تضبطها وتضمن سلامتها وتعصم الناس من الخطأ في فهم الكتاب والسنة فنشأت بسبب ذلك العلوم الأدبية أو علوم اللغة العربية.
ثانيهما أن ترجمت علوم هذه الأمم الداخلة في الإسلام وهذبت ونقحت وذاعت ثقافتها بين المسلمين على اختلاف أجناسهم فكان من مقتضيات الحكمة التوفيق بينها وبين القرآن من ناحية وفهم القرآن في ضوئها من ناحية أخرى وإنما كان ذلك من مقتضيات الحكمة لأن الإسلام ليس عدوا للعلم كما يزعم الأفاكون بل هو صديق العلم وحليفه إن لم نقل كأنه هو!.
بهذه الأسباب بدأت العلوم الأدبية والعلوم الكونية تتدخل في تفسير القرآن وتمتزج به على اعتبار أن هدايته وإعجازه لا يفهمان فهما صحيحا كاملا بالنسبة إليهم إلا عن طريق هذه العلوم والمعارف.
أما علوم اللغة والأدب فلأن بها يعرف ضبط الكلمات أبنيتها وهيئاتها وأواخرها ومدلولات الألفاظ على اختلاف أنواعها والإحاطة بمعاني التراكيب والتمييز بين

(2/98)


العالي والنازل من الأساليب ولا ريب أن إدراك معاني القرآن وذوق بلاغته وإعجازه لا يتأتي لغير العرب الخلص إلا عن هذا الطريق.
وأما العلوم الكونية فلأن الله تعالى دعا الناس كثيرا أن ينظروا في هذا الكون وحضهم بقوة أن يقرؤوا صحيفة هذا الوجود ليصلوا من الكون إلى مكونه وليستدلوا بالوجود على موجده ولينتفعوا أبلغ انتفاع بتلك القوى العظيمة التي خلقها لأجلهم وسخرها لنفعهم قال تعالى في سورة الجاثية: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
فلا عجب إذا فهموا تلك الألفاظ الكونية التي في القرآن على النحو الذي هداهم إليه العلم والثقافة التي تثقفوها في علوم الكون.
ومعلوم أن المفسر لا يفسر لنفسه إنما يفسر للناس فكان من الواجب أن يساير أفكارهم ويشرح ألفاظ القرآن في الظواهر الطبيعية والعلمية وسنن الله الكونية وقوانين الاجتماع والسياسة وقواعد الاقتصاد والأخلاق وسائر التشريعات الشخصية والمدنية والجنائية والحربية, نقول يجب على المفسر أن يشرح ألفاظ القرآن في ذلك كله وفيما يشبهه بالطريقة العلمية المألوفة لهم وبالأفكار الغالبة عليهم الملائمة لأذواقهم وإلا فما بلغ رسالته ولا أدى أمانته وكيف يخاطب العالم بغير ما يفهمون ويدخل إليهم من غير الباب الذي يدخلون.
هذه هي الأسباب التي جعلت التفسير يمتزج بالعلوم الأدبية والكونية وغيرها وجعلت العلوم الأدبية والكونية تحتل مكانها في كتب التفسير وإن كان هذا الامتزاج يختلف

(2/99)


ضعفا وقوة وقلة وكثرة وتوفيقا وخذلانا باختلاف مواهب المفسرين واستعداد الجمهور وتقدم الزمان وتأخره في هذه العلوم.
فتفاسير الزجاج وأبي حبان وأضرابهما مليئة بالمباحث النحوية وتفاسير الزمخشري وأبي السعود وأشباههما مليئة بالمباحث البلاغية وتفسير الخازن ومن لف لفه مليء بالأخبار والقصص وتفسير الجواهر للعلامة المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري مليء بالعلوم الكونية وهو تفسير حديث يشتمل كما قال صاحبه على عجائب بدائع المكونات وغرائب الآيات الباهرات يقع في خمسة وعشرين مجلدا وقد تم طبعه بمصر عام 1352 اثنين وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة رحم الله مؤلفه وجزاه خيرا.
آثار هذا الامتزاج:
أما آثار امتزاج العلوم الأدبية بالتفسير فيمكن تلخيصها فيما يأتي:
1 - بيان معاني القرآن وهداياته.
2 - إظهار فصاحة القرآن وبلاغته.
3 - الدلالة على وجوه إعجاز القرآن من ناحية الأسلوب والبيان.
وأما آثار امتزاج العلوم الكونية بالتفسير فيمكن تلخيصها فيما يلي:
1 - مسايرة أفكار الناس ومعارفهم وتفسير القرآن لهم تفسيرا يشبع حاجتهم من الثقافة الكونية.
2 - إدراك وجوه جديدة للإعجاز في القرآن من ناحية ما يحويه أو يرمز إليه من علوم الكون والاجتماع.
3 - دفع مزاعم القائلين بأن هناك عداوة بين العلم والدين.
4 - استمالة غير المسلمين إلى الإسلام من هذا الطريق العلمي الذي يخضعون له دون سواه في هذه الأيام.

(2/100)


5 - الحث على الانتفاع بقوى الكون ومواهبه.
6 - امتلاء النفس إيمانا بعظمة الله وقدرته حينما يقف الإنسان في تفسير كلام الله على خواص الأشياء ودقائق المخلوقات حسب ما تصورها علوم الكون.
هذا وإن لامتزاج العلوم الكونية والأدبية بالتفسير آثارا أخرى مشتركة بينهما نجملها فيما يأتي:
1 - زيادة الثقة بالقرآن وعروبته ومعارفه وإعجازه.
2 - والإيمان بأنه كتاب غني بكل ما يحتاج إليه البشر من ألوان السعادة.
3 - والإيمان بأنه كتاب الساعة ودستور الناس إلى يوم القيامة يصلح لكل زمان ومكان ولا يستغني عن كنوزه وذخائره إنسان.
شروط لا بد منها:
تلك الآثار الجليلة التي ألمعنا إليها لا تتحقق جلالتها إلا إذا روعيت فيها الأمور الآتية:
1 - ألا تطغى تلك المباحث عن المقصود الأول من القرآن وهو الهداية والإعجاز أما إن أسرف المفسر واشتغل بتفريعات العلوم الأدبية ونظريات الفنون الكونية فقد انعكست الآية ولم يعد التفسير تفسيرا بل يكون أشبه بكتب العلوم والفنون منه بكتب التفسير كما قال بعض العلماء الظرفاء يصف تفسيرا مشهورا بالاستطراد والتطويل والضرب في كثير من العلوم قال لقد حوى هذا التفسير كل شيء إلا التفسير.
2 - أن يلاحظ في امتزاج التفسير بتلك العلوم ما يلائم العصر ويوائم الوسط

(2/101)


لأن تلك الأبحاث الكونية والأدبية قد تكون ضرورية ومفيدة أيما فائدة إذا شرح بها القرآن في عصر من عصور الثقافة أو لجمهور من المفتونين بالمادة وعلوم الكون أو لطائفة من المتأدبين المشغوفين بفنون البلاغة في القول بينما تكون هذه الأبحاث نفسها نكبة وفتنة إذا شرح بها القرآن في عصر من عصور الجهالة أو لفئة أخرى من فئات الناس وما من أحد يخاطب قوما بغير ما تسعه عقولهم إلا كان فتنة عليهم.
3 - أن تذكر تلك الأبحاث على وجه يدفع المسلمين إلى النهضة ويلفتهم إلى جلال القرآن ويحركهم إلى الانتفاع بقوى هذا الكون العظيم الذي سخره الله لنا انتفاعا بعيد لأمة الإسلام نهضتها ومجدها.
وهاك نموذجا على سبيل التمثيل وإن أسرف في هذا السبيل إسرافا أنساه نفس التفسير والتأويل.
قال العلامة المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري في كتابه القرآن والعلوم العصرية ما نصه:
قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} عبر الله تعالى بكاف الخطاب ست مرات فجعل الماء لنا وتسخير الشمس والقمر لنا وتسخير الليل والنهار لنا وقد آتانا من كل ما سألناه في ضمائرنا وما تمنته نفوسنا.
فهل هذا الخطاب استثنى منه المسلمون فهل جعل الله الثمرات في الأرض خاصة بغير المسلمين أم الخطاب عام وهل الفلك التي تجري في البحر ما بين آسيا وإفريقيا وأوروبة في المحيط الهندي والهادي والبحر الأحمر وبحر الظلمات بين أوروبة وأمريكا هل هذه

(2/102)


السفن خاصة بالإفرنج وكيف نام المسلمون عن علوم التجارة فأصبحت بأيدي غيرهم من الفرنجة وأهل أمريكا وهم صفر اليدين فالسفن التي تمخر عباب الأنهار والبحار في سائر أنحاء كرتنا الأرضية بيد الفرنجة وهم هم الذي يدرسون علوم المعادن والكهرباء والبخار والتلغراف البرق الذي له سلك والبرق الذي بلا سلك أليس من العار عليكم أيها المسلمون أن تكونوا 350 مليونا1 ولا سفن لكم في البحار كما لغيركم وقد خاطبكم الله تعالى فقال: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} على قواعد علمية بعد معرفة صناعة الحديد لبنائها والخشب لتكميلها والبخار لتسييرها والكهرباء والمغناطيس لمعرفة الأخبار فيها وقراءة علم الفلك والكواكب السيارة والثابتة للاهتداء بها في طرق البحار ودرس علوم البحار وطرقها ومناطقها وما فيها من مسالك حتى لا تضل السفن سواء السبيل فتغرق ويهلك ما فيها وبعد دراسة علوم السحب والرياح والعواصف حتى يلبس الربان لكل حال لبوسها وينهج النهج الذي ينجي السفينة ثم قال {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} ولا جرم أن الأنهار تسقي الزروع ولها في جريانها قوة تستخرج منها الكهرباء فتغني عن الفحم والبترول والمسلمون في بقاع الأرض غافلون عن أنهارهم وتكاد تصبح بيد غيرهم {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} والليل والشمس والقمر لها حساب دقيق لا يهتدى إليه إلا بعلم الحساب والهندسة والجبر ثم الفلك فلا تطلع الشمس ولا تغرب ولا يشرق النجم ولا يغرب ولا يطلع سيار ولا يأفل إلا بمواعيد موقوتة لا تنقص ثانية بل كل ذلك بمقدار ولو حرم البشر ذلك يوما واحدا لاختل أمر حياتهم فها هي سفن البحار وقطرات اليابسة كلها تسير بحساب الشمس والكواكب ولو أغفل الناس بعض ذلك لاختلت مواعيدهم,
__________
1 جاء في بعض الصادر الموثوق بها أن عدد المسلمين يزيد الآن كثيرا على أربعمائة مليون.

(2/103)


ولتصادمت قطراتهم ولمات كثير منهم ويعرف ذلك كل من اطلع على طرف من علم الفلك في هذه الأيام انتهى ما أردنا نقله بقليل من التصرف.

(2/104)


كلمة ختامية
لا تحسبن أن ما نوهنا به في هذا الحديث قد أحاط بما كتب من تفاسير القرآن ولا تحسبن أن ما كتب من جميع التفاسير قد أحاط بكل ما أودعه الله القرآن من أحكام وحكم ومعارف وأسرار بل إن ما ذكرناه هنا من التفسير قل من كثر ثم إن ما حوته تلك الموسوعات التفسيرية على كثرتها لم تأخذ من القرآن إلا كما يأخذ المخيط إذا أدخل البحر ويروقني ما قاله بعض الأعلام حين سئل ما خير تفسير للقرآن فأجاب الدهر يعني أن العلوم والمعارف والأفكار والحوادث والتجارب التي تجد في الزمن عوامل مهمة في شرح القرآن وكل حقبة من سلسلة هذه الأزمان الطويلة تكشف عن بعض مخبوءات أسراره التي لم تكن معروفة من قبل.
وإن كنت في شك فهاك دور الكتب ومكتبات العالم فإنها لا تزال على كثرة ما ضاع واندثر زاخرة بأمواج كالجبال من التفاسير مما لا يمكن أن يحيط به إلا العليم الخبير وإنه ليعييك استقصاء أسمائها فضلا عن استقراء مسمياتها وإنك لتجد فيها فنونا وألوانا وشؤونا مما فتح الله على العلماء في بيان كتابه منها تفاسير بالمأثور وتفاسير بالرأي ومنها تفاسير ظواهر العبارة وتفاسير غوامض الإشارة ومنها تفاسير يغلب عليها صنعة الكلام وأخرى يغلب عليها صنعة البلاغة وثالثة يغلب عليها النحو والإعراب ورابعة يغلب عليها تفاريع الأحكام وخامسة يغلب عليها علوم الكون إلى غير ذلك ومنها تفاسير كل القرآن وتفاسير جزء منه أو سورة أو آية.
ولقد اطلعت وأنا قصير الباع قليل الاطلاع على فهارس تفاسير خاصة بكل مما يأتي وقد يكون مع ذلك تنوع التأليف وتعدد المؤلفين في الشيء الواحد:

(2/104)


منها تفاسير لجزء عم ولجزء تبارك ولسورة الفاتحة ولسورة يوسف ولسورة الرعد ولسورة الكهف ولسورة يس ولسورة الحجرات ولسورة الحديد ولسورة القدر ولسورة الفيل ولسورة التكاثر ولسورة الكوثر ولسورة الإخلاص وحدها ولسورة الإخلاص مع المعوذتين.
ومنها تفاسير للبسملة ولآية الكرسي ولأول سورة الأنبياء ولأول سورة الفتح ولحروف المعجم في فواتح السور ولآية {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} ولآية {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} . ولآية {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} ولآية {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ولآية {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} ولآية {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} ولآية {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً} ولآية {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} ولآية {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} ولآية {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ} ولآية {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} ولآية {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ولآية {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً} ولآية {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} ولآية {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} ولآية {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} بغير ما قاله المفسرون من قبل وهو تفسير للعلامة الجليل الشيخ يوسف الدجوي وإن تعجب فهناك رسالة في معنى حرف الواو أو وجه ثبوت الواو في قوله تعالى: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} من أواخر سورة الزمر.
أرأيت ذلك وأضعاف ذلك إنه قبس من نور القرآن وشعاع من شمس الحقيقة الكبرى وبصيص من تجليات هدايات الله لبعض عباده!.

(2/105)


أما النور كله والهدى كله فذلك سر من أسرار الربوبية وكنز من كنوز الألوهية وشتان ما بين علم الخالق وعلم الخلق وأين كمال السيد من نقص العبد؟!.
نهاية القول:
ونهاية القول أن هذا فن جديد أيضا من فنون إعجاز القرآن حيث أقام الله كتابه آيات بينات للناس في معارفه ومعانيه كما أقامه آيات بينات لهم في ألفاظه ومبانيه!.
{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} .
{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} اللهم أتمم علينا نعمتك ولا تحرمنا هدايتك واسلكنا بالقرآن في سلك المهديين الهادين وارفعنا به إلى أعلى عليين آمين آمين.
و {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا} , والصلاة والسلام على أشرف الخلق ومبعوث الحق سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه.

(2/106)