مناهل العرفان في علوم القرآن

المبحث الثالث عشر: في ترجمة القران وحكمها تفصيلا
مدخل
...
المبحث الثالث عشر: في ترجمة القرآن وحكمها تفصيلا
أهمية هذا المبحث.
نوجه الأذهان في فاتحة هذا المبحث إلى أهميته وخطره من نواح ثلاث:
أولاها دقته وغموضه إلى حد جعل علماءنا يختلفون فيه قديما وحديثا وجعل مصرنا العزيزة منذ أعوام ميدانا لتطاحن الأفكار والآراء فيه منعا وتجويزا.
ثانيها أن كثيرا من الناس قاموا في زعمهم بنقل القرآن إلى لغات كثيرة وترجمات متعددة بلغت بإحصاء بعض الباحثين مائة وعشرين ترجمة في خمس وثلاثين لغة ما بين شرقية وغربية وتكرر طبع هذه الترجمات حتى إن ترجمة واحدة هي ترجمة جورج سيل الانجليزي طبعت أربعا وثلاثين مرة.
وأوفر هذه الترجمات وأكثرها طبعا هي الترجمات الانكليزية فالفرنسية فالألمانية فالإيطالية وهناك خمس ترجمات في كل من اللغتين الفارسية والتركية وأربع ترجمات باللغة الصينية وثلاث باللاتينية واثنتان بالأفغانية وواحدة بالجاوية وأخرى بالأوردية.
ومن هؤلاء الذين ترجموه من يحمل للإسلام عداوة ظاهرة ومنهم من يحمل حبا له ولكنه جاهل به وعدو عاقل خير من صديق جاهل.
ثالثتها وقوع أغلاط فاحشة في هذه التي سموها ترجمات وكان وجودها معولا هداما لبناء مجد الإسلام ومحاولة سيئة لزلزلة الوحدة الدينية واللغوية والاجتماعية لأمتنا الإسلامية صانها الله.
أمام هذه الوقائع القائمة والحقائق الماثلة والمحاولات الخطيرة ما كان ينبغي لنا أن نقف مكتوفي الأيدي مكممي الأفواه كأن الأمر لا يعنينا في قليل ولا كثير على حين أن الذي وضع منهم فكرة هذه الترجمات وتولي كبر هذه المؤامرة رجل من رجال

(2/107)


دينهم ومطران من مطارنتهم يدعى يعقوب بن الصليبي إذ خيل إلى قومه أنه ترجم آيات جمة من القرآن باللسان السرياني في القرن الثاني عشر الميلادي ثم نشرت خلاصتها في هذا القرن سنة 1925 خمس وعشرين وتسعمائة وألف ميلادية نقلا عن نسخة مخطوطة بالمتحف البريطاني بلندن مشفوعة بترجمة إنكليزية لها وتابع هذا المطران أحبار ورهبان كانوا أسبق من غيرهم في هذا الميدان.
وأنت خبير بما يريدون والله أعلم بما يبيتون.
راجع في ذلك محاضرات الفيكنت دي طرازي1 ثم انظر ما كتبه العلامة أبو عبد الله الزنجاني في كتابه تاريخ القرآن إذ يقول:
ربما كانت أول ترجمة إلى اللغة اللاتينية لغة العلم في أوربا وذلك سنة 1143 بقلم كنت الذي استعان في عمله ببطرس الطليطلي وعالم ثان عربي فيكون القرآن قد دخل أوربا عن طريق الأندلس وكان الغرض من ترجمته عرضه على دي كلوني بقصد الرد عليه ونجد فيما بعد أن القرآن ترجم ونشر باللاتينية 1509 ولكن لم يسمح للقراء أن يقتنوه ويتداولوه لأن طبعته لم تكن مصحوبة بالردود وفي عام 1594 أصدر هنكلمان ترجمته وجاءت على الأثر 1598 طبعة مراتشي مصحوبة بالردود انتهى ما أردنا نقله أفلا ترى معي أنه يجب علينا بإزاء ذلك أن ندلي برأي سديد في هذا الأمر الجلل لنعلم ما يراد بنا وبقرآننا ولننظر إلى أي طريق نحن مسوقون عسى أن يدفعنا هذا التحري والتثبت إلىاتخاذ إجراء حازم نتصف فيه للحق من الباطل ونؤدي به رسالتنا في نشر هداية الإسلام والقرآن على بصيرة ونور.
ثم ألا ترى معي أنه يجب علينا بإزاء ذلك أيضا أن نتجرد في هذا البحث عن العصبية
__________
1 هي محاضرات ظفرت بها عليننا في نسخة مخطوطة تحت عنوان "القرآن: محاضرات علمية تاريخية" ألقاها سنة 1941م الفيكنت فليب طرازي مؤسس دار الكتب في بيروت. والعضو في عدة مجامع علمية شرقية وغربية.

(2/108)


والغايات الشخصية فنمسه مسا رفيقا هادئا وندرسه دراسة واسعة منظمة ونلتزم فيه أدب البحث وإنصاف الباحث ونجعل الله وحده غايتنا فيما نحاول ونعالج؟ والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
ولنبدأ الكلام ببيان معنى الترجمة لغة وعرفا ثم بتقسيمها إلى حرفية وتفسيرية ثم ببيان الفرق بين الترجمة والتفسير فإن تحديد معاني الألفاظ وتحقيق المراد منها مجهود مهم ومفيد لا سيما ما كان من الأبحاث الخلافية كهذا البحث الذي نعانيه فلقد هدانا الاستقراء إلى أن تحديد معاني الأمور الخلافية أو تحرير محل النزاع بعبارة فنية أزهرية كثيرا ما قرب بين وجهات النظر المختلفة وطالما أظهر أن خلاف المختلفين كان لفظيا لا حقيقيا لأن النفي والإثبات بينهم لم يتواردا على أمر واحد بل إن ما أثبته بعضهم لم يخالف أحد في إثباته بالمعنى الذي أراده وما نفاه البعض الآخر لم يخالف أحد في نفيه بالمعنى الذي أراده كذلك ورجع الأمر أخيرا إلى مجرد اختلاف في العبارات لاختلاف في الاعتبارات ولو أنهم اتفقوا بادئ ذي بدء على هذه الاعتبارات لما اختلفت العبارات ولما حدث خلاف ألبتة.
إذن فإننا نستميح قارئنا الكريم عذرا إذا أطنبنا في توضيح المعنى المراد الذي يدور عليه الكلام في هذا الموضوع وإذا استطردنا ببيان ما اشتبه به وكان سببا في النزاع فنذكر أن لفظ ترجمة يطلق على معان متعددة بعضها لغوي وبعضها عرفي عام.
الترجمة في اللغة:
وضعت كلمة ترجمة في اللغة العربية لتدل على أحد معان أربعة:
أولها تبليغ الكلام لمن لم يبلغه ومنه قول الشاعر:
إن الثمانين - وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
ثانيها تفسير الكلام بلغته التي جاء بها ومنه قيل في ابن عباس إنه ترجمان القرآن ولعل الزمخشري في كتابه أساس البلاغة يقصد هذا المعنى إذ يقول: كل ما ترجم

(2/109)


عن حال شيء فهو تفسرته.
ثالثها تفسير الكلام بلغة غير لغته وجاء في لسان العرب وفي القاموس أن الترجمان هو المفسر للكلام وقال شارح القاموس ما نصه وقد ترجمه وترجم عنه إذا فسر كلامه بلسان آخر قاله الجوهري اهـ.
وجاء في تفسير ابن كثير والبغوي أن كلمة ترجمة تستعمل في لغة العرب بمعنى التبيين مطلقا سواء اتحدت اللغة أم اختلفت.
رابعها نقل الكلام من لغة إلى أخرى قال في لسان العرب الترجمان بالضم والفتح1 هو الذي يترجم الكلام أي ينقله من لغة إلى أخرى والجمع تراجم2 اهـ وشارح القاموس بعد أن أورد المعنى السابق في ترجمه وترجم عنه قال وقيل نقله من لغة إلى أخرى اهـ.
ولكون هذه المعاني الأربعة فيها بيان جاز على سبيل التوسع إطلاق الترجمة على كل ما فيه بيان مما عدا هذه الأربعة فقيل ترجم لهذا الباب بكذا أي عنون له وترجم لفلان أي بين تاريخه وترجم حياته أي بين ما كان فيها وترجمة هذا الباب كذا أي بيان المقصود منه وهلم جرا.
الترجمة في العرف:
نريد بالعرف هنا عرف التخاطب العام لا عرف طائفة خاصة ولا أمة معينة جاء هذا العرف الذي تواضع عليه الناس جميعا فخص الترجمة بالمعنى الرابع اللغوي في إطلاقات اللغة السابقة وهو نقل الكلام من لغة إلى أخرى ومعنى نقل الكلام من لغة إلى أخرى التعبير عن معناه بكلام آخر من لغة أخرى مع الوفاء بجميع معانيه ومقاصده كأنك نقلت الكلام نفسه من لغته الأولى إلى اللغة الثانية.
__________
1 عبارة القاموس تدل على أنه يضبط بضم التاء والجيم وبفتحهما, وبفتح التاء وضم الجيم.
2 وهذا خلاف ماذاع على الألسنة من استعمال تراجم جمعا لترجمة.فاحفظ ذلك.

(2/110)


وهذا هو السر في تعبيرهم بنقل الكلام مع العلم بأن الكلام نفسه لا ينقل من لغته بحال
ويمكننا أن نعرف الترجمة في هذا العرف العام بعبارة مبسوطة فنقول هي التعبير من معنى كلام في لغة بكلام آخر في لغة أخرى مع الوفاء بجميع معانيه ومقاصده فكلمة التعبير جنس وما بعده من القيود فصل وقولنا عن معنى كلام يخرج به التعبير عن المعنى القائم بالنفس حين يخرج في صورة اللفظ أول مرة وقولنا بكلام آخر يخرج به التعبير عن المعنى بالكلام الأول نفسه ولو تكرر ألف مرة.
وقولنا من لغة أخرى يخرج به التفسير بلغة الأصل ويخرج به أيضا التعبير بمرادف مكان مرادفة أو بكلام بدل آخر مساو له على وجه لا تفسير فيه واللغة واحدة في الجميع.
قولنا مع الوفاء بجميع معاني الأصل ومقاصده يخرج به تفسير الكلام بلغة غير لغته فإن التفسير لا يشترط فيه الوفاء بكل معاني الأصل المفسر ومقاصده بل يكفي فيه البيان ولو من وجه وسنوافيك قريبا بتفصيل ذلك.
تفسير الترجمة:
وتنقسم الترجمة بهذا المعنى العرفي إلى قسمين حرفية وتفسيرية فالترجمة الحرفية هي التي تراعى فيها محاكاة الأصل في نظمه وترتيبه فهي تشبه وضع المرادف مكان مرادفه وبعض الناس يسمي هذه الترجمة لفظية وبعضهم يسميها مساوية.
والترجمة التفسيرية هي التي لا تراعى فيها تلك المحاكاة أي محاكاة الأصل في نظمه وترتيبه بل المهم فيها حسن تصوير المعاني والأغراض كاملة ولهذا تسمى أيضا بالترجمة المعنوية وسميت تفسيرية لأن حسن تصوير المعاني والأغراض فيها جعلها تشبه التفسير وما هي بتفسير كما يتبين لك بعد.
فالمترجم ترجمة حرفية يقصد إلى كل كلمة في الأصل فيفهمها ثم يستبدل بها كلمة تساويها في اللغة الأخرى مع وضعها موضعها وإحلالها محلها وإن أدى ذلك إلى خفاء المعنى المراد

(2/111)


من الأصل بسبب اختلاف اللغتين في مواقع استعمال الكلام في المعاني المرادة إلفا واستحسانا.
أما المترجم ترجمة تفسيرية فإنه يعمد إلى المعنى الذي يدل عليه تركيب الأصل فيفهمه ثم يصبه في قالب يؤديه من اللغة الأخرى موافقا لمراد صاحب الأصل من غير أن يكلف نفسه عناء الوقوف عند كل مفرد ولا استبدال غيره به في موضعه.
ولنضرب مثالا للترجمة بنوعيها على فرض إمكانها في آية من الكتاب الكريم قال الله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} فإنك إذا أردت ترجمتها ترجمة حرفية أتيت بكلام من لغة الترجمة يدل على النهي عن ربط اليد في العنق وعن مدها غاية المد مع رعاية ترتيب الأصل ونظامه بأن تأتي بأداة النهي أولا يليها الفعل المنهي عنه متصلا بمفعوله ومضمرا فيه فاعله وهكذا ولكن هذا التعبير الجديد قد يخرج في أسلوب غير معروف ولا مألوف في تفهيم المترجم لهم ما يرمي إليه الأصل من النهي عن التقتير والتبذير بل قد يستنكر المترجم لهم هذا الوضع الذي صيغ به هذا النهي ويقولون ما باله ينهى عن ربط اليد بالعنق وعن مدها غاية المد وقد يلصقون هذا العيب بالأصل ظلما وما العيب إلا فيما يزعمونه ترجمة للقرآن من هذا النوع.
أما إذا أردت ترجمة هذا النظم الكريم ترجمة تفسيرية فإنك بعد أن تفهم المراد وهو النهي عن التقتير والتبذير في أبشع صورة منفرة منها تعمد إلى هذه الترجمة فتأتي منها بعبارة تدل على هذا النهي المراد في أسلوب يترك في نفس المترجم لهم أكبر الأثر في استبشاع التقتير والتبذير ولا عليك من عدم رعاية الأصل في نظمه وترتيبه اللفظي.
وإنما قلنا عند عرض هذا المثال على فرض إمكانها لما ستعرفه بعد من استحالة الترجمة بهذا المعنى العرفي في القرآن الكريم والمثال لا يشترط صحته كما هو معلوم.

(2/112)


ما لا بد منه في الترجمة مطلقا:
لا بد لتحقيق معنى الترجمة مطلقا حرفية كانت أو تفسيرية من أمور أربعة:
أولها معرفة المترجم لأوضاع اللغتين لغة الأصل ولغة الترجمة!.
ثانيها معرفته لأساليبهما وخصائصهما.
ثالثها وفاء الترجمة بجميع معاني الأصل ومقاصده على وجه مطمئن.
رابعها أن تكون صيغة الترجمة مستقلة عن الأصل بحيث يمكن أن يستغني بها عنه أن تحل محله كأنه لا أصل هناك ولا فرع وسيأتي بيان ذلك في الفروق بين الترجمة والتفسير.
ما لا بد منه في الترجمة الحرفية:
ثم إن الترجمة الحرفية تتوقف بعد هذه الأربعة على أمرين آخرين:
أحدهما وجود مفردات في لغة الترجمة مساوية للمفردات التي تألف منها الأصل: حتى يمكن أن يحل كل مفرد من الترجمة محل نظيره من الأصل كما هو ملحوظ في معنى الترجمة الحرفية.
ثانيهما تشابه اللغتين في الضمائر المستترة والروابط التي تربط المفردات لتأليف التراكيب سواء في هذا التشابه ذوات الروابط وأمكنتها وإنما اشترطنا هذا التشابه لأن محاكاة هذه الترجمة لأصلها في ترتيبه تقتضيه ثم إن هذين الشرطين عسيران وثانيهما أعسر من الأول فهيهات أن تجد في لغة الترجمة مفردات مساوية لجميع مفردات الأصل ثم هيهات هيهات أن تظفر بالتشابه بين اللغتين المنقول منها والمنقول إليها في الضمائر المستترة وفي دوام الروابط بين المفردات لتأليف المركبات

(2/113)


ومن أجل هذه العزة والندرة قال بعضهم إن الترجمة الحرفية مستحيلة وقال آخرون إنها ممكنة في بعض الكلام دون بعض ولقد علمت أنها بعد هذه الصعوبات يكتنفها الغموض وخفاء المعنى المقصود كما مر في المثال السابق أما الترجمة التفسيرية فميسورة فيما لا يعجز عنه البشر والمعاني المرادة من الأصل واضحة فيها غالبا ولهذا اعتمدوا عليها في الترجمات الزمنية وفضلها التراجم والمشتغلون بالترجمات على قسيمتها الترجمة الحرفية.
فروق بين الترجمة والتفسير:
ومهما تكن الترجمة حرفية أو تفسيرية فإنها غير التفسير مطلقا سواء أكان تفسيرا بلغة الأصل أم تفسيرا بغير لغة الأصل وقد أشرنا إلى ذلك إجمالا في شرح تعريف الترجمة آنفا ولكن كثيرا من الكاتبين اشتبه عليهم الأمر فحسبوا أن الترجمة التفسيرية هي التفسير بغير لغة الأصل أو هي ترجمة تفسير الأصل.
ثم رتبوا على ذلك أن خلعوا حكمها على ترجمة الأصل نفسه وكان لهذا اللبس والاشتباه مدخل في النزاع والخلاف لهذا نستبيح لأنفسنا أن نقف هنا وقفة طويلة نرسم فيها فروقا أربعة لا فرقا واحدا بين هذين المشتبهين في نظرهم.
الفارق الأول أن صيغة الترجمة صيغة استقلالية يراعى فيها الاستغناء بها عن أصلها وحلولها محله ولا كذلك التفسير فإنه قائم أبدا على الارتباط بأصله بأن يؤتى مثلا بالمفرد أو المركب ثم يشرح هذا المفرد أو المركب شرحا متصلا به اتصالا يشبه اتصال المبتدأ بخبره إن لم يكن إياه ثم ينتقل إلى جزء آخر مفرد أو جمله وهكذا من بداية التفسير إلى نهايته بحيث لا يمكن تجريد التفسير وقطع

(2/114)


وشائج اتصاله بأصله مطلقا ولو جرد لتفكك الكلام وصار لغوا أو أشبه باللغو فلا يؤدي معنى سليما فضلا عن أن يحل في جملته وتفصيله محل أصله.
الفارق الثاني أن الترجمة لا يجوز فيها الاستطراد أما التفسير فيجوز بل قد يجب فيه الاستطراد وذلك لأن الترجمة مفروض فيها أنها صورة مطابقة لأصلها حاكية له فمن الأمانة أن تساويه بدقة من زيادة ولا نقص حتى لو كان في الأصل خطأ لوجب أن يكون الخطأ عينه في الترجمة بخلاف التفسير فإن المفروض فيه أنه بيان لأصله وتوضيح له وقد يقتضي هذا البيان والإيضاح أن يذهب المفسر مذاهب شتى في الاستطراد توجيها لشرحه أو تنويرا لمن يفسر لهم على مقدار حاجتهم إلى استطراده ويظهر ذلك في شرح الألفاظ اللغوية خصوصا إذا أريد بها غير ما وضعت له وفي المواضع التي يتوقف فهمها أو الاقتناع بها على ذكر مصطلحات أو سوق أدلة أو بيان حكمة.
وهذا هو السر في أن أكثر تفاسير القرآن الكريم تشتمل على استطرادات متنوعة في علوم اللغة وفي العقائد وفي الفقه وأصوله وفي أسباب النزول وفي الناسخ والمنسوخ وفي العلوم الكونية والاجتماعية وغير ذلك.
ومن ألوان هذا الاستطراد تنبيهه على خطأ الأصل إذا أخطأ كما نلاحظ ذلك في شروح الكتب العلمية ويستحيل أن تجد مثل هذا في الترجمة وإلا كان خروجا عن واجب الأمانة والدقة فيها.
الفارق الثالث أن الترجمة تتضمن عرفا دعوى الوفاء بجميع معاني الأصل ومقاصده ولا كذلك التفسير فإنه قائم على كمال الإيضاح كما قلنا سواء أكان هذا الإيضاح بطريق إجمالي أو تفصيلي متناولا كافة المعاني والمقاصد أو مقتصرا على بعضها دون بعض طوعا للظروف التي يخضع لها المفسر ومن يفسر لهم.

(2/115)


والدليل على هذا الفارق هو حكم العرف العام الذي نتحدث الآن بلسانه وإليك مثلا من أمثاله.
رجل عثر في مخلفات أبيه على صحيفتين مخطوطتين بلغة أجنبية وهو غير عالم بهذا اللسان الأجنبي فدفعهما إلى خبير باللغات يستفسره عنهما وإذا الخبير يجيبه قائلا إن الصحيفة الأولى خطاب تافه من معوز أجنبي يستجدي أباك فيه ويستعينه أما الثانية فوثيقة بدين كبير لأبيك على أجنبي هناك مزق الرجل خطاب الاستجداء ولم يحفل به أما الوثيقة فاعتد بها وطلب من هذا المتمكن في اللغات أن يترجمها له ليقاضي المدين أمام محكمة لغتها لغة الترجمة.
أليس معنى هذا أن التفسير لم يكفه بدليل أنه طلب الترجمة من المترجم علما بأنها هي التي تفي بكل ما تضمنته تلك الوثيقة وبكل ما يقصد منها فلا تضعف له بها حجة ولا يضيع عليه حق؟.
ثم ألست ترى في هذا المثال أيضا أن العرف يحكم بأن التفسير لا يشترط أن يعرض لجميع التفاصيل بل يكفي فيه بيان المضمون على حين أنه يرى الترجمة صورة مطابقة لأصلها وافية بكافة معانيه ومقاصده؟.
الفارق الرابع أن الترجمة تتضمن عرفا دعوى الاطمئنان إلى أن جميع المعاني والمقاصد التي نقلها المترجم هي مدلول كلام الأصل وأنها مرادة لصاحب الأصل منه ولا كذلك التفسير بل المفسر تارة يدعي الاطمئنان وذلك إذا توافرت لديه أدلته وتارة لا يدعيه وذلك عندما نعوزه تلك الأدلة ثم هو طورا يصرح بالاحتمال ويذكر وجوها محتملة مرجحا بعضها على بعض وطورا يسكت عن التصريح أو عن الترجيح وقد يبلغ به الأمر أن يعلن عجزه عن فهم كلمة أو جملة ويقول رب الكلام أعلم بمراده على نحو ما نحفظه لكثير من المفسرين إذا عرضوا لمتشابهات القرآن ولفواتح السور المعروفة.

(2/116)


ودليلنا على أن الترجمة تتضمن دعوى الاطمئنان إلى ما حوت معان ومقاصد هو شهادة العرف العام أيضا بذلك وجريان عمل الناس جميعا في الترجمات على هذا الاعتبار فهم يحلونها محل أصولها إذا شاؤوا ويستغنون بها عن تلك الأصول بل قد ينسون هذه الأصول جملة ويغيب عنهم أن الترجمات ترجمات فيحذفون لفظ ترجمة من الاسم ويطلقون عليها اسم الأصل نفسه كأنما الترجمة أصل أو كأنه لا أصل هناك ولا فرع.
وإن كنت في ريب فاسأل ما بين أيدينا من ترجمات عربية لطائفة من كتبهم التي يقدسونها ويطلقون على بعضها اسم توراة وعلى بعضها اسم إنجيل وما هما بالتوارة ولا بالإنجيل إنما هما ترجمتان عربيتان لأصلين عبريين1 باعترافهم ولكنهم أسقطوا وأسقط العرف العام معهم لفظ ترجمة من العنوانين الاثنين وما ذاك إلا لما وقر في النفوس من أن الترجمة صورة مطابقة للأصل مطمئنة إلى أنها تؤدي جميع مؤداه لا فرق بينهما إلا في القشرة اللفظية وقل مثل ذلك فيما نعرفه من ترجمات للقوانين والوثائق الدولية والشخصية ومن ترجمات للكتب العلمية والفنية والأدبية وهي كثيرة غنية عن التنويه والتمثيل.
يقال كل هذا في الترجمات ولا يمكن أن يقال مثله في التفسير فإننا ما سمعنا ولا سمع الدهر أن كلمة تفسير أسقطت من عنوان كتاب من كتبه بل المعروف عكس ذلك فكثيرا ما يسقط في الاستعمال اسم الأصل المفسر على حين أن لفظ التفسير لا يسقط بحال ويدل على هذا تلك الإطلاقات الشائعة تفسير البيضاوي تفسير النسفي تفسير الجلالين وما أشبهها من تفسيرات القرآن الكريم ألم يكن بهذا سندا على
__________
1 صوبه: غير عربيين وذلك لأن إنجيل مرقس ولوقا ويوحنا أصلها يوناني, أما إنجيل متى فأصله عبري.

(2/117)


أن التفسير مراعى فيه أنه بيان لا يمكن أن يقوم مقام المبين ولا أن يدعى فيه الاطمئنان إلى أنه واف بجميع أغراضه ومعانيه.
الترجمة والتفسير الإجمالي بغير لغة الأصل:
بيد أن هنا دقيقة نرشدك إليها هي أن التفسير بغير لغة الأصل يشبه الترجمة التفسيرية شبها قريبا إذا كان هذا التفسير إجماليا قائما على اختيار معنى واحد من المعاني المحتملة ولعل هذا التشابه هو الذي أوقع بعضهم في الاشتباه ودعوى الاتحاد بين الترجمة التفسيرية وترجمة التفسير أو التفسير بغير لغة الأصل ولكن النظر الصحيح لا يزال يقضي بوجود الفوارق الأربعة السابقة بين هذين النوعين أيضا فالمفسر يقتضيه واجب البيان ألا يسوق المعنى الإجمالي المختار من بين عدة معان محتملة حتى يوجه هذا الاختيار وهذا التوجيه محقق للاستطراد الزائد على مدلول الأصل ثم إن صنيعه هذا سيشعر القارئ أن للأصل معاني أخرى قد يكون هذا الذي اختير من بينها غير سديد وقد يتوقف المفسر جملة ويعلن عجزه إذا ما أشكل عليه المعنى ورأى أن يلوذ بالصمت هذا محقق لعدم الوفاء بجميع معاني الأصل ولعدم الاطمئنان الذي نوهنا به ثم إن صيغة هذا التفسير لا بد من أن ترتبط بالأصل ولو بالإشارة والتلويح فيقال معنى هذه الآية أو الجملة هو كذا أو يقال معنى الآية المرقومة برقم كذا من سورة كذا هو كذا وكذا وذلك محقق لعدم استقلال الصيغة بخلاف الترجمة في ذلك كله.
فإن افترضت أن هذا المفسر سيترك وجه الاختيار وسيقطع الصلة قطعا بين التفسير وأصله أجبناك بأن هذا التصرف في الحقيقة لا تفسير ولا ترجمة بل هو ذبذبة خرج بها الكلام عما يجب في التفسير وفي الترجمة جميعا لأنه لم يشرح ولم يبين حتى يكون مفسرا كما يجب ولم يصور معاني الأصل ومقاصده كلها حتى يكون مترجما كما يجب فإن أدى ذلك إلى الناس بعنوان أنه ترجمة للأصل فإما أن يكون صادرا في هذا الأداء عن قصور أو عن تقصير فإن كان عن قصور فهو العجز والجهالة وإن كان عن تقصير فهو تضليل

(2/118)


للناس وإيهام لهم أن ما أتاه ترجمة وما هو بترجمة وتلك خيانة لهم ولما زعم ترجمته والله لا يهدي كيد الخائنين.
تنبيهان مفيدان:
أولهما أنه لا فرق بين الترجمة الحرفية والتفسيرية من حيث الحقيقة فكلتاهما تعبير عن معنى كلام في لغة بكلام آخر من لغة أخرى مع الوفاء بجميع معاني الأصل ومقاصده وما الفرق بينهما إلا شكلي وهو أن يحل كل مفرد في الترجمة الحرفية محل مقابله من الأصل بخلاف التفسيرية كما بينا فلا تظن بعد هذا أن كلمة ترجمة تنصرف إلى الحرفية أكثر مما تنصرف إلى التفسيرية كما يظن بعض الناس بل التفسيرية أثبت قدما وأعرق وجودا وأقرب إلى الأذهان عند الإطلاق لأنها هي الميسورة وهي الواضحة وهي التي يتداولها المترجمون والقراء جميعا أما الحرفية فإنها تكاد تكون نظرية بحتة وذلك من تعسرها أو تعذرها ومن غموضها وخفائها أحيانا ومن ندرة إقبال التراجم والقراء عليها كما سبق.
ثانيهما أن تفسير الأصل بلغته يساوي تفسيره بغير لغته فيما عدا القشرة اللفظية ألا ترى أنك إذا قرأت درس تفسير للخاصة كاشفا فيه عن معان معينة باللغة العربية ثم قرأت هذا الدرس عينه للعامة كاشفا عن هذه المعاني نفسها ولكن بلغة المخاطبين العامية فهل تشك في مساواة هذا التفسير لذلك في بيان المعاني المعينة التي فهمتها من الأصل وهل تجد بينهما خلافا إلا في لغة التعبير وقشرة اللفظ؟.
إذا لاحظنا ذلك أمنا الاشتباه من هذه الناحية وأمكن أن نستغني في بحثنا هذا بذكر المساوي عن ذكر مساويه ثقة بأن ما يقال في أحدهما يقال مثله في الآخر فتنبه إلى ذلك دائما وبالله توفيقي وتوفيقك.

(2/119)


الترجمة ليست تعريفا منطقيا:
أوجس بعض الباحثين خيفة من أن يظن أحد أن الترجمة من قبيل التعريف اللفظي ولكنا إذا أمعنا النظر رأينا أن الترجمة بالمعنى العرفي الذي قررناه لا يمكن أن تكون تعريفا لفظيا ولا حقيقيا وذلك من وجهين.
أحدهما أن التعاريف كلها من قبيل التصورات أما الترجمة فكلام تام وقضايا كاملة وهي بلا شك من قبيل التصديقات.
ثانيهما أن صيغة التعريف مرتبطة دائما بالمعرف لأنها قول شارح له والشرح والبيان مرتبط في صيغته بالمشروح والمبين أما الترجمة فقد فرغنا من أن صيغتها مستقلة عن الأصل المترجم لأن الغرض منها أن تقوم به بدلا منه وأن يستغني بها عنه فلا معنى لأن يجتمع فيها البدل والمبدل منه.
نعم إن تفسير المفرد بلغة غير لغته يكون من قبيل التعريف الحقيقي إن أفاد حصول صورته في ذهن المفسر له ويكون من قبيل التعريف اللفظي إن أفاد حضور صورته الحاصلة من قبل على نمط قولهم في تعريف الإنسان لمن لا يعرف حقيقته الإنسان حيوان ناطق وقولهم في تعريف البشر لمن يعرف حقيقة الإنسان ولا يعرف دلالة لفظ البشر عليه البشر هو الإنسان ولكننا لسنا هنا بصدد المفردات وتفسيرها فبحثنا في الترجمة لا في التفسير وفي الكلام المفيد لا الكلمات المفردة.

(2/120)


القرآن ومعانيه ومقاصده
الآن وقد انتهينا من الكلام على أول المتضايفين في لفظ ترجمة القرآن نقف معك وقفة أخرى بجانب ثاني هذين المتضايفين وهو القرآن نفسه لنستبين المراد به هنا ولنعرف أنواع معانيه ومقاصده تمهيدا للحكم الصحيح عليه بأنه تمكن ترجمته أو لا تمكن

(2/120)


المراد بالقرآن هنا:
ولقد سبقت كلمتنا في بيان مدلول القرآن وعرض الآراء والمذاهب فيه عرضا واسعا بالمبحث الأول في الجزء الأول من هذا الكتاب فارجع إليه إن شئت.
بيد أنا نلفت نظرك إلى أن المراد هنا في مبحث الترجمة هو اللفظ المعجز لا الصفة القديمة صفة الكلام ولا الكلمات النفسية الحكمية ولا النقوش المكتوبة على ما قررناه ثمة وإنما كان المراد بالقرآن خصوص اللفظ المعجز لأن الترجمة أضيفت إليه وبدهي أن الترجمة لا تتناول إلا ما كان لفظا حقيقيا مصورا بصورة الحرف والأصوات ولا تتناول الصفة القديمة ولا الكلمات الحكمية الغيبية ولا النقوش المكتوبة اللهم إلا بضرب من التأويل.
معاني القرآن نوعان:
وبما أن الترجمة ملحوظ فيها الإحاطة بمعاني الأصل كلها نحيطك علما بأن القرآن الكريم بل أي كلام بليغ لا بد أن يحتوي ضربين من المعاني هما المعاني الأولية والمعاني الثانوية أو المعاني الأصلية والمعاني التابعة فالمعنى الأولي لأي كلام بليغ هو ما يستفاد من هذا الكلام ومن أي صيغة تؤديه سواه ولو بلغة أخرى كمجرد إسناد محكوم به إلى محكوم عليه وسمي معنى أوليا لأنه أول ما يفهم من اللفظ وسمي أصليا لأنه ثابت ثبات الأصول لا يختلف باختلاف المتكلمين ولا المخاطبين ولا لغات التخاطب بل هو مما يستوي فيه العربي والعجمي والحضري والبدوي والذكي والغبي.
أما المعنى الثانوي فهو ما يستفاد من الكلام زائدا على معناه الأولي وسمي ثانويا لأنه متأخر في فهمه عن ذلك وسمي تابعا لأنه أشبه بقيد فيه والقيد تابع للمقيد

(2/121)


أو لأنه يتغير بتغير التوابع فيختلف باختلاف أحوال المخاطبين وبإختلاف مقدرة المتكلمين وباختلاف الألسنة واللغات عكس ما تقدم ولنضرب لك أمثالا توضح دقائق هذين النوعين.
إذا أردت أن تخبر عن حاتم بالجود قلت جاد حاتم إن كنت تخاطب خالي الذهن من هذا الخبر وقلت حاتم جواد إذا كنت تخاطب شاكا مترددا فيه وقلت إن حاتما جواد إذا كنت تخاطب منكرا غير مسرف في إنكاره وقلت والله إن حاتما لجواد إذا كان مخاطبك مسرفا في الإنكار وقلت حاتم سخي جواد كريم معطاء إذا كان المقام مقام مدح وقلت ما جواد إلا حاتم إذا كان مخاطبك يعتقد العكس وأن غير حاتم هو الجواد وقلت حاتم ممدود السماط أو كان في بني طيء بحر كثير الفيضان إذا كان على شيء من الذكاء وقلت حاتم مهزول الفصيل أو غمر حاتم بإنعامه الأنام إذا كان مخاطبك على جانب عظيم من الذكاء.
فأنت ترى أن هذه الأمثلة كلها دارت على معنى واحد إستوت جميعها في أدائه هو نسبة الجود إلى حاتم فذلك هو المعنى الأولي أو الأصلي ثم أنت ترى بعد ذلك أن المعنى الأولي زيدت وعليه خصوصيات مختلفة ومزايا متغايرة هذه الأمثلة ففي المثال الأول تجرد من مؤكدات الحكم لأن المخاطب خالي الذهن وفي الثاني تأكيد باسمية الجملة استحسانا لأن المخاطب شاك وفي الثالث تأكيد بمؤكدين اسمية الجملة وإن لأن المخاطب منكر إنكارا يقتضيهما وفي الرابع تأكيد بمؤكدات أربعة اسمية الجملة وإن واللام والقسم لأن المخاطب مسرف في الإنكار وفي الخامس إطناب لأن المقام للمدح وهو يقتضي الإطناب وفي السادس قصر للجود على حاتم لأن المخاطب يعتقد العكس فقصرت انت قصر قلب لتعكس مراده عليه وفي السابع تجوز في التعبير بكناية قريبة واستعارة تصريحية لأن المخاطب على شيء من الذكاء وفي الثامن تجوز في التعبير بكناية بعيدة واستعارة مكنية لأن المخاطب على جانب عظيم من الذكاء بحيث تكفيه الإشارة الخفية واللمحة القصية.

(2/122)


ثم إن هذه النكات البلاغية والاعتبارات الزائدة يختص بها اللسان العربي كما أن لكل لغة خصائصها.
وهذه الاعتبارات مع فصاحة المفردات هي مناط بلاغة الكلام والمتكلم وعلوم البلاغة على سعتها ووفرة مباحثها وحسن بلاء الباحثين فيها لا تكفي وحدها لتصل بدارسها إلى مصاف البلغاء وذوي اللسن والبيان بل غايتها أن يعرف بها أن هذه الحال تقتضي هذا الاعتبار وأن تلك الحال تقتضي ذلك الاعتبار وهكذا أما التطبيق والقدرة على الصياغة البلاغية فشأو بعيد يتوقف على أمور كثيرة منها الإلمام بظروف الكلام وأحوال المخاطبين ومنها الإحاطة بدرجة تلك الأحوال قوة وضعفا ومنها الإتيان بالخصوصيات المناسبة لهذه الأحوال والمقامات ومنها الذوق البلاغي أو الحاسة البيانية التي تكتسب بممارسة كلام البلغاء وأساليبهم وترويض النفس على محاكاتهم وتقليدهم وإلا فكم رأينا من مهرة في علوم اللسان لا يحسنون صناعة الكلام ولا يستطيعون حيلة إلى أقل درجات البيان فضلا عن أن يبرزوا في هذا الميدان.
والكلام البليغ يتفاوت تفاوتا بعيد المدى تبعا لدرجة توافر هذه الأمور فيه كلا أو بعضا ولم تعرف الدنيا ولن تعرف كلاما بلغ الطرف الأعلى والنهاية العظمى في الإحاطة بكل الخواص البلاغية سوى القرآن الكريم الذي انقطعت دونه أعناق الفحول من البلغاء في حلبته أنفاس الموهوبين من الفصحاء حتى شهدوا على أنفسهم بالعجز حين شاهدوا روائع الإعجاز ورأوا أن كلامهم وإن علا فهو طبعة الخلق أما القرآن فهو طبعة الخلاق!.
{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}

(2/123)


مقاصد القرآن الكريم
بما أن الترجمة عرفا لا بد أن تتناول مقاصد الأصل جميعا فإنا نقفك على أن تعالى

(2/123)


في إنزال كتابه العزيز ثلاثة مقاصد رئيسية أن يكون هداية للثقلين وأن يقوم آية لتأييد النبي صلى الله عليه وسلم وأن يتعبد الله خلقه بتلاوة هذا الطراز الأعلى من كلامه المقدس.
هداية القرآن:
وهداية القرآن تمتاز بأنها عامة وتامة وواضحة.
أما عمومها فلأنها تنتظم الإنس والجن في كل عصر ومصر وفي كل زمان ومكان قال الله سبحانه: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} وقال جلت حكمته: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} وقال عز اسمه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} وقال عمت رحمته: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} .
وأما تمام هذه الهداية فلأنها احتوت أرقى وأوفى ما عرفت البشرية وعرف التاريخ من هدايات الله والناس وانتظمت كل ما يحتاج إليه الخلق في العقائد والأخلاق والعبادات والمعاملات على اختلاف أنواعها وجمعت بين مصالح البشر في العاجلة والآجلة ونظمت علاقة الإنسان بربه وبالكون الذين يعيش فيه ووفقت بطريقة حكيمة بين مطالب الروح والجسد اقرأ إن شئت قوله سبحانه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ

(2/124)


وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وقال جل جلاله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} وقال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وقال تعالت حكمته: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} إلى غير ذلك من آيات كثيرة.
وأما وضوح هذه الهداية فلعرضها عرضا رائعا مؤثرا توافرت فيه كل وسائل الإيضاح وعوامل الإقناع أسلوب فذ معجز في بلاغته وبيانه واستدلال بسيط عميق يستمد بساطته وعمقه من كتاب الكون الناطق وأمثال خلابة تخرج أدق المعقولات في صورة أجلى الملموسات وحكم بالغات تبهر الألباب بمحاسن الإسلام وجلال التشريع وقصص حكيم مختار يقوي الإيمان واليقين ويهذب النفوس والغرائز ويصقل الأفكار والعواطف ويدفع الإنسان دفعا إلى التضحية والنهضة ويصور له مستقبل الأبرار والفجار تصويرا يجعله كأنه حاضر تراه الأبصار في رابعة النهار والأمثلة على ذلك كثيرة في القرآن يخرجنا استعراضها عما نحن بسبيله الآن.
والمهم أن نعلم في هذا المقام أن الهدايات القرآنية الكريمة منها ما استفيد من معاني القرآن الأصلية ومنها ما استفيد من معانيه التابعة أما القسم الأول فواضح لا يحتاج إلى تمثيل وهو موضع اتفاق بين الجميع وأما القسم الثاني ففيه دقة جعلت بعض الباحثين يجادل فيه وإنا نوضحه لك بأمثلة نستمدها من فاتحة الكتاب العزيز:
منها استفادة أدب الابتداء بالبسملة في كل أمر ذي بال أخذا من ابتداء الله كتابه بها ومن افتتاحه كل سورة من سورة بها عدا سورة التوبة.

(2/125)


ومنها: استفادة أن الاستعانة في أي شيء لا تستمد إلا من اسم الله وحده أخذا من إضافة الاسم إلى لفظ الجلالة موصوفا بالرحمن الرحيم ومن القصر المفهوم من البسملة على تقدير عامل الجار والمجرور متأخرا ومن تقدير هذا العامل عاما لا خاصا.
ومنها: استفادة الاستدلال على أن الحمد مستحق لله بأمور ثلاثة تربيته تعالى للعوالم كلها ورحمته الواسعة التي ظهرت آثارها وتأصل اتصافه تعالى بها وتصرفه وحده بالجزاء العادل في يوم الجزاء وذلك أخذا من جريان هذه الأوصاف على اسم الجلالة في مقام حمد بقوله سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}
ومنها: استفادة التوحيد بنوعيه توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية من القصر الماثل في قوله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} .
ومنها: استفادة دليل هذا التوحيد من الآيات السابقة عليه ووقوعه هو في سياقها عقيبها كما تقع النتيجة عقب مقدماتها.
ومنها استفادة أن الهداية إلى الصراط المستقيم هي المطمع الأسمى الذي يجب أن يرمي إليه الناس ويتنافس فيه المتنافسون يدل على ذلك اختيارها والاقتصار على طلبها والدعاء بها ثم انتهاء سورة الفاتحة بها كما تنتهي البدايات بمقاصدها.
ومنها: استفادة أن الهداية لا يرجى فيها إلا الله وحده لأنها انتظمت مع آيات التوحيد قبلها في سمط واحد.
ومنها: استفادة أدب من الآداب هو أن يقدم الداعي ثناء الله على دعائه استنتاجا من ترتيب هذه الآيات الكريمة حيث تقدم فيها ما يتصل بحمد الله وتمجيده وتوحيده على ما يتصل بدعائه واستهدائه.
هذه أمثلة اقتبسناها من سورة الفاتحة ونحن لا نظن أن أحدا يخاصم فيها هاك مثالين مما وقع فيه خلاف العلماء.:

(2/126)


المثال الأول استفادة وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء في الطهارة أخذا من مخالفة مقتضى الظاهر في ذكر هذه الأعضاء بآية الوضوء إذ يقول الله سبحانه يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلوة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين فأنت ترى أنه تعالت حكمته ذكر الرأس وهو ممسوح بين الأعضاء الأخرى وهي مغسولة وكان مقتضى الظاهر أن تتصل المغسولات بعضها ببعض وتذكر قبل الممسوح أو بعده لأن المغسولات متماثلة والعرب لا تفصل بين المتماثلات إلا لحكمة والحكمة هنا هي إفادة وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء في الطهارة على نمط الترتيب الماثل في هذه الآية.
وثمة وجه آخر لاستفادة حكم هذا الترتيب أيضا ذلك أن الآية المذكورة لم تعرض فيها أعضاء الوضوء مرتبة ترتيبا تصاعديا ولا ترتيبا تنازليا فلم يبدأ فيها بالأعالي متبوعة بالأسافل ولا بالأسافل متبوعة بالأعالي بل ذكر فيها عال ثم سافل ثم أعلى ثم أسفل وذلك خلاف مقتضى الظاهر ومثله لا يصدر في لغة العرب إلا لحكمة وما الحكمة هنا فيما نفهم إلا إفادة وجوب الترتيب في الوضوء وبهذا قال الشافعية والحنابلة وإن خالفهم الحنفية والمالكية.
المثال الثاني استفادة وجوب مسح ربع الرأس في الوضوء أخذا من مخالفة مقتضى الظاهر أيضا في قوله سبحانه: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} حيث دخلت باء على الرؤوس وهي الممسوحة مع أن الظاهر كان يقتضي دخولها على آلة المسح وهي راحة اليد ولكن مخالفة هذا الظاهر في كلام عربي بليغ دلتنا على أنه نزل الرأس منزلة آلة المسح إرشادا إلى أن اليد توضع على الرأس وتحرك كأننا مسحنا اليد بالرأس وبهذه الطريقة تنمسح الناصية عادة وهي تقدر بربع الرأس فالواجب إذن هو مسح ربع الرأس وبهذا أخذ الحنفية وإن خالفهم الأئمة الثلاثة رضوان الله عليهم أجمعين.

(2/127)


ولسنا هنا بصدد مقارنات فقهية أو موازنات مذهبية حتى نناصر رأيا على رأي أو نرجح فهما على فهم فسحبنا في هذا الموضوع بيان دلالة نظم القرآن الكريم باعتبار معانيه الثانوية على هدايات متنوعة من عقائد وأحكام وآداب وأدلة ولطائف وإن اختلف الناس في إدراكها على مقدار اختلاف مواهبهم واستعدادهم لأن هذه المعاني الثانوية دقيقة الطرق لطيفة المسالك ومن شأن الدقائق واللطائف أن يكون مجال التفاوت بين الفاهمين لها بعيدا بخلاف دلالة نظم القرآن الكريم على هداياته باعتبار معانيه الأصلية فإنها واضحة قل أن يقع فيها تفاوت أو خلاف لأن هذه المعاني كما قررنا يستوي فيها العربي والعجمي والحضري والبدوي والذكي والغبي.
واعلم أن قرآنية القرآن وامتيازه ترتبط بمعانيه الثانوية وما استفيد منها أكثر مما ترتبط بمعانيه الأصلية وما استفيد منها للاعتبارات الآنفة ولأن المعاني الأصلية ضيقة الدائرة محدودة الأفق أما المعاني الثانوية فبحر زاخر متلاطم الأمواج تتجلى فيها علوم الله وحكمته وعظمته الإلهية وتظهر منها فيوضات الله وإلهاماته العلوية على من وهبهم هذه الفيوضات والإلهامات من عباده المصطفين وورثة كلامه المقربين وأهل الذوق والصفاء من العلماء العاملين جعلنا الله منهم بمنه وكرمه آمين.
إعجاز القرآن:
المقصد الثاني من نزول القرآن الكريم أن يقوم في فم الدنيا آية شاهدة برسالة سيدنا محمد وأن يبقى على جبهة الدهر معجزة خالدة تنطق بالهدى ودين الحق ظاهرا على الدين كله ووجوه إعجاز القرآن كثيرة نفصلها في مبحثها إن شاء الله بيد أنا ننبهك هنا إلى أن بلاغته العليا وجه بارز من هذه الوجوه بل هي أبرز وجوهه وجودا وأعظمها أفرادا لأن كل مقدار ثلاث آيات قصار معجز ولو كان هذا

(2/128)


المقدار من آية واحدة طويلة فقد تحدى الله أئمة البيان أن يأتوا بسورة من مثله وأقصر سورة هي سورة الكوثر وآياتها ثلاث قصار وإذا كان أئمة البيان في عصر ازدهاره والنباغة فيه قد عجزوا فسائر الخلق أشد عجزا ولقد فرغنا من أن بلاغة القرآن منوطة بما اشتمل عليه من الخصوصيات والاعتبارات الزائدة وأنت خبير بأنها سارية فيه سريان الماء في العود الأخضر أو سريان الروح في الجسم وأن نظم القرآن الكريم مصدر لهداياته كلها سواء منها ما كان طريقه هيكل النظم وما كان طريقه تلك الخصوصيات الزائدة عليه وهنا يطالعك العجب العاجب حين تجد دليل صدق الهداية الإسلامية قد آخاها واتحد مطلعهما في سماء القرآن فأداه وأداها!!.
التعبد بتلاوة القرآن:
المقصد الثالث من نزول القرآن أن يتعبد الله خلقه بتلاوته ويقربهم إليه ويأجرهم على مجرد ترديد لفظه ولو من غير فهمه فإذا ضموا إلى التلاوة فهما زادوا أجرا على أجر قال الله تعالى: {إِِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" رواه الترمذي وقال: حسن صحيح وروى الحاكم مثله مرفوعا وقال صحيح الإسناد وجاء في حديث آخر عن أنس أنه قال أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن وسنده ضعيف غير أنه يتقوى بغيره ثم إن هذه خصيصة امتاز بها القرآن هي عماد الدين أما غيرها فلا أجر على مجرد تلاوته بل لا بد من التفكر فيه وتدبره حتى الصلاة هي عماد الدين ليس للمرء من ثوابها إلا بمقدار ما عقل منها..

(2/129)


وإنما انفرد القرآن بهذه المزية لحكم وسامية وفوائد ذات شأن:
أولها توفير عامل مهم من عوامل المحافظة على القرآن وبقائه مصونا من التغيير والتبديل اللذين أصابا كتب الله من قبل ذلك أن هذا الأجر العظيم الذي وعده الله من يتلو كتابه العزيز ولو غير متفهم لمعانيه من شأنه أن يحبب الناس في قراءة القرآن ويدفعهم إلى الإكثار منها ويحركهم إلى استظهاره وحفظه ولا ريب أن انتشار القراءة والقراء والحفاظ يجعل القرآن كثير الدوران على الألسنة واضح المعالم في جميع الأوساط والطبقات وهنا لا يجرؤ أحد على تغيير شيء فيه وإلا لقي أشد العنت من عارفيه كما حدث لبعض من حاولوا هذا الإجرام من أعداء الإسلام.
ثانيها إيجاد وحدة للمسلمين لغوية تعزز وحدتهم الدينية وتيسر وسائل التفاهم والتعاون فيما بينهم فتقوى بذلك صفوفهم وتعظم شوكتهم وتعلو كلمتهم
وتلك سياسة إلهية عالية فطن لها الإسلام على يد هذا النبي صلى الله عليه وسلم الأمي في عهد قديم من عهود التاريخ ونجحت هذه السياسة نجاحا باهرا حتى انضوى تحت اللسان العربي أمم كثيرة مختلفة اللغات ونبغ منهم نابغون سبقوا كثيرا من العرب في علوم القرآن وعلوم لغة القرآن بينما أمم كبيرة في هذا العصر الحديث الذي يزعمونه عصر العلم والنور قد حاولت مثل هذه المحاولة بتقرير لسان عام ولغة عالمية مشتركة أسموها لغة الاسبرنتو فكانت محاولة فاشلة فضلا عن أنها جاءت مسبوقة متأخرة.
ثالثها استدراج القارئ إلى التدبر والاهتداء بهدي القرآن عن طريق هذا الترغيب المشوق وبوساطة هذا الأسلوب الحكيم.
فإن من يقرأ القرآن في يومه وهو غافل عن معانيه يقرؤه في غده وهو ذاكر لها ومن قرأه في غده وهو ذاكر لها أوشك أن يعمل بعد غد بهديها وهكذا ينتقل القارئ من درجة إلى درجة أرقى منها حتى يصل إلى الغاية بعد تلك البداية كل من سار على

(2/130)


الدرب وصل ويرحم الله ابن عطاء الله السكندري إذ يقول في حكمه لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره فعسى أن يرفعك من ذكر مع وجود غفلة إلى ذكر مع وجود يقظة ومن ذكر مع وجود يقظة إلى ذكر مع وجود حضور ومن ذكر مع وجود حضور إلى ذكر مع وجود غيبة عما سوى المذكور {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}

(2/131)


حكم ترجمة القرآن تفصيلا
على ضوء هذه المعلومات التي سقناها في تجلية معنى المتضايفين من لفظ ترجمة القرآن يسهل علينا أن ندرك أن لهذا المركب الإضافي أربعة معان رئيسية ثلاثة منها ترجع إلى اللغة وحدها والرابع تشترك فيه اللغة والعرف العام الذائع بين الأمم ولا ريب أن هذا المعنى الرابع هو الجدير بالعناية والاهتمام لأنه المتبادر إلى الأفهام والمقصود في لسان التخاطب العام.
وها نحن أولاء نستعرض تلك المعاني الأربعة مشفوعا كل معنى منها بحكمة المناسب له عسى أن تكون هذه الطريقة أبعد عن الخطأ والشطط وأهدى إلى الصواب والاعتدال.
1 - ترجمة القرآن بمعنى تبليغ ألفاظه
تطلق ترجمة القرآن إطلاقا مستندا إلى اللغة ويراد بها تبليغ ألفاظه وحكمها حينئذ أنها جائزة شرعا والمراد بالجواز هنا ما يقابل الحظر فيصدق بالوجوب وبالندب وإن شئت دليلا فها هو كان يقرأ القرآن ويسمعه أولياءه وأعداءه ويدعو إلى الله به في مولده ومهاجره وفي سفره وحضره والأمة من ورائه نهجت نهجه فبلغت ألفاظ القرآن وتلقاها بعضهم عن بعض فردا عن فرد وجماعة عن جماعة وجيلا عن جيل

(2/131)


حتى وصل إلينا متواترا.. ثم ها هو القرآن نفسه يتوعد كاتميه ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" رواه البخاري والترمذي وأحمد ويقول صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" رواه الشيخان.
2 - ترجمة القرآن بمعنى تفسيره بلغته العربية
هذا هو الإطلاق الثاني المستند إلى اللغة أيضا كما مر ويراد به تفسير القرآن بلغته العربية لا بلغة أخرى وغني عن البيان أن حكمة الجواز بالمعنى الآنف وإن كنت في شك فهاك القرآن نفسه يقول الله فيه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ولقد قام الرسول صلوات الله وسلامه عليه ببيانه العربي خير قيام حتى اعتبرت السنة النبوية كلها شارحة له ونقل منها في التفسير بالمأثور شيء كثير ولقد تأثر العلماء برسول ا لله في ذلك منذ عهد الصحابة إلى اليوم وها هي المكتبات العامة والخاصة زاخرة بالتفاسير العربية للقرآن الكريم على رغم ما اندثر منها وعلى رغم ما يأتي به المستقبل من تفاسير يؤلفها من لا يقنعون بقديم ويتلقاها عنهم من يجدون في أنفسهم حاجة إلى عرض جديد لعلوم القرآن والدين ومما يدل على أن القرآن بحر الله الخضم وأن العلماء جميعا من قدامى ومحدثين لا يزالون وقوفا بساحله يأخذون منه على قدر قرائحهم وفهومهم والبحر بعد ذلك هو البحر في فيضانه وامتلائه والقرآن هو القرآن في ثروته وغناه بعلومه وبأسراره: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً}.

(2/132)


ترجمة القرآن بمعنى تفسيره بلغة أجنبية
هذا هو الإطلاق الثالث المستند إلى اللغة أيضا ويراد به تفسير القرآن بلغة غير لغته أي بلغة عجمية لا عربية ولا ريب عندنا في أن تفسير القرآن بلسان أعجمي لمن لا يحسن العربية يجري في حكمة تفسيره بلسان عربي لمن يحسن العربية فكلاهما عرض لما يفهمه المفسر من كتاب الله بلغة يفهمها مخاطبه لا عرض لترجمة القرآن نفسه وكلاهما حكاية لما يستطاع من المعاني والمقاصد لا حكاية لجميع المقاصد وتفسير القرآن الكريم يكفي في تحققه أن يكون بيانا لمراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية ولو جاء على احتمال واحد لأن التفسير في اللغة هو الإيضاح والبيان وهما يتحققان ببيان المعنى ولو من وجه ولأن التفسير في الاصطلاح علم يبحث فيه عن القرآن الكريم من حيث دلالته على مراد الله بقدر الطاقة البشرية وهذا يتحقق أيضا بعرض معنى واحد من جملة معان يحتملها التنزيل وإذا كان تفسير القرآن بيانا لمراد الله بقدر الطاقة البشرية فهذا البيان يستوي فيه ما كان بلغة العرب وما ليس بلغة العرب لأن كلا منهما مقدور للبشر وكلا منهما يحتاجه البشر بيد أنه لا بد من أمرين أن يستوفي هذا النوع شروط التفسير باعتبار أنه تفسير وأن يستوفي شروط الترجمة باعتبار أنه نقل لما يمكن من معاني اللفظ العربي بلغة غير عربية وشروط التفسير ذكرناها في الجزء الأول بالمبحث الثاني عشر من هذا الكتاب وشروط الترجمة ذكرناها بهذا المبحث عن كثب.
أمور مهمة:
ونسترعي نظرك إلى أمور مهمة أولها أن علماءنا حظروا كتابه القرآن بحروف غير عربية وعلى هذا يجب عند ترجمة القرآن بهذا المعنى إلى أية لغة أن تكتب

(2/133)


الآيات القرآنية إذ كتبت بالحروف العربية كيلا يقع إخلال وتحريف في لفظه فيتبعهما تغير وفساد في معناه.
سئلت لجنة الفتوى في الأزهر عن كتابة القرآن بالحروف اللاتينية فأجابت بعد حمد الله والصلاة والسلام على رسوله بما نصه1 لا شك أن الحروف اللاتينية المعروفة خالية من عدة حروف توافق العربية فلا تؤدي جميع ما تؤديه الحروف العربية فلو كتب القرآن الكريم بها على طريقة النظم العربي كما يفهم من الاستفتاء لوقع الإخلال والتحريف في لفظه ويتبعهما تغير المعنى وفساده وقد قضت نصوص الشريعة بأن يصان القرآن الكريم من كل ما يعرضه للتبديل والتحريف وأجمع علماء الإسلام سلفا وخلفا على أن كل تصرف في القرآن يؤدي إلى تحريف في لفظه أو تغيير في معناه ممنوع منعا باتا ومحرم تحريما قاطعا وقد التزم الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم إلى يومنا هذا كتابة القرآن بالحروف العربية.
الأمر الثاني أن تفاسير القرآن المتداولة بيننا تتناول المفرد من الأصل وبجانبه شرحه ثم تتناول الجملة أو الآية وشرحها متصل بها كذلك غالبا ومعنى هذا أن ألفاظ القرآن منبثة في ثنايا التفسير على وجه من الارتباط والإحكام بحيث لو جردنا التفاسير من ألفاظ الأصل لعادت التفاسير لغوا من القول وضربا من السخف ونحن لا نريد هنا في تفسير القرآن بلغة أجنبية أن تذكر مفردات القرآن وجملة مكتوبة بتلك اللغة الأجنبية أو مترجمة بهذه اللغة ثم تشفع بتفسيرها المذكور فلقد قررنا أن كتابة القرآن بغير العربية ممنوعة وسنقرر أن ترجمته بالمعنى العرفي مستحيلة إنما نريد هنا نوعا من التفسير يجوز أن يصدر بطائفة من ألفاظ الأصل على ما هي عليه في عروبتها رسما ولفظا إذا وضع لطائفة من المسلمين ثم يذكر عقبها المعنى الذي فهمه المفسر غير مختلط بشيء من
__________
1 أنظر المجلد السابع من مجلة الأزهر صفحة 45.

(2/134)


ألفاظ الأصل ولا ترجمته بل يكون هذا المعنى كله من كلام المفسر ويصاغ بطريقة تدل على أنه تفسير لا ترجمة كأن يقال معنى الآية المرقومة برقم كذا من سورة كذا هو كذا وكذا أو يقال في أول كل نوبة من نوبات التفسير معنى هذه الجملة أو الآية كذا ثم يبين في كلتا الطريقتين أن هذا المعنى مقطوع به أو أنه محتمل ويستطرد بما يظن أن حاجة المخاطبين ماسة إليه من التعريف بالمصطلحات الإسلامية والأسرار والحكم التشريعية والتنبيه على الأخطاء التي وقعت فيها الترجمات المزعومة ونحو ذلك مما يوقع في روع القارئ أن ما يقرؤه ليس ترجمة للأصل محيطة بجميع معانيه ومقاصده إنما هو تفسير فحسب لم يحمل من معاني القرآن ومقاصده إلا قلا من كثر وقطرة من بحر أما القرآن نفسه فأعظم من هذا التفسير بكثير كيف وهو النص المعجز في ألفاظه ومعانيه من كلام العليم الخبير؟!.
الأمر الثالث أن ترجمة القرآن بهذا المعنى مساوية لترجمة تفسيره العربي لأن الترجمة هنا لم تتناول في الحقيقة إلا رأي هذا المفسر وفهمه لمراد الله على قدر طاقته خطأ كان فهمه أو صوابا ولم تتناول كل مراد الله من كلامه قطعا فكأن هذا المفسر وضع أولا تفسيرا عربيا ثم ترجم هذا التفسير الذي وضعه وإن شئت فقل إنه ترجم تفسيرا للقرآن قام هو به غير أنه لم يدونه وأنت خبير بأن التفسير هو التفسير سواء أدونه صاحبه أم لم يدونه.
الأمر الرابع ذهب بعضهم إلى تسمية هذا النوع وما يشبهه ترجمة تفسيرية للقرآن بالمعنى العرفي ونحن مع علمنا بأن الخلاف في التسمية تافه لا نستطيع أن نرى رأيهم لشهادة العرف التي أقمناها ثم اعتمدنا عليها في رسم الفوارق الأربعة بين أي ترجمة وأي تفسير فترجمة القرآن على فرض إمكانها تصوير لكل ما أراد منزله من معانيه ومقاصده وترجمة التفسير تصوير لكل ما أراد المفسر من معانيه ومقاصده والقرآن لا يمكن أن يكون في معانيه المرادة لله خطأ أبدا فإذا صحت ترجمته على فرض إمكانها وجب ألا

(2/135)


تحمل ولا تصور خطأ أما التفسير فيمكن أن يكون في معانيه المرادة للمفسر خطأ أي خطأ وعلى هذا فترجمة هذا التفسير ترجمة صحيحة لا بد أن تحمل هذا الخطأ وتصوره وإلا لما صح أن تكون ترجمة له لأن الترجمة صورة مطابقة للأصل ومرآة حاكية له على ما هو عليه من صواب أو خطأ إيمان أو كفر حق أو باطل.
والقرآن مليء بالمعاني والأسرار الجلية والخفية إلى درجة تعجز المخلوق عن الإحاطة بها فضلا عن قدرته على محاكاتها وتصويرها بلغة عربية أو أعجمية أما التفسير فمعانيه محدودة لأن قدرة صاحبه محدودة مهما حلق في سماء البلاغة والعلم وعلى هذا فعدسه أي مصور له تستطيع التقاطه وتصويره بالترجمة إلى أي لغة.
الأمر الخامس يجب أن تسمى مثل هذه الترجمة ترجمة تفسير القرآن أو تفسير القرآن بلغة كذا ولا يجوز أن تسمى ترجمة القرآن بهذا الإطلاق اللغوي المحض لما علمت من أن لفظ ترجمة القرآن مشترك بين معان أربعة وأن المعنى الرابع هوالمتبادر إلى الأذهان عند الإطلاق نظرا إلى أن العرف الأممي العام لا يعرف سواه ولا يجوز أيضا أن تسمى ترجمة معاني القرآن لأن الترجمة لا تضاف إلا إلى الألفاظ ولأن هذه التسمية توهم أنها ترجمة للقرآن نفسه خصوصا إذا لاحظنا أن كل ترجمة لا تنقل إلا المعاني دون الألفاظ.
الأمر السادس يحسن أن يدون التفسير العربي وتشفع به ترجمته هذه ليكون ذلك أنفى للريب وأهدى للحق وأظهر في أنه ترجمة تفسير لا ترجمة قرآن ومن عرف قدر القرآن لم يبخل عليه بهذا الاحتياط لا سيما في هذا الزمن الذي تنمر فيه أعداء الإسلام وحاربونا فيه بأسلحة مسمومة من كل مكان.
الأمر السابع يجب أن يصدر هذا التفسير المترجم بمقدمة تنفي عنه في صراحة أنه ترجمة للقرآن نفسه وتبين أن ترجمة القرآن نفسه بالمعنى المتعارف أمر دونه خرط

(2/136)


القتاد لأن طبيعة تأليف هذا الكتاب تأبى أن يكون لها نظير يحاكيه لا من لغته ولا من غير لغته وذلك هو معنى إعجازه البلاغي ومن أراد أن يتصور هذا اللون من ألوان إعجازه فلينتقل هو إلى هذا الكتاب ولغته فيتذوقه بها وبأساليبها ومن المحال أن ينتقل هذا الكتاب العزيز تاركا عرشه الذي بوأه الله إياه وهو عرش اللغة العربية وماذا يبقى للملك من عزة وسلطان إذا هو تخلى عن عرشه وملكه وهذا القرآن جعله الله ملك الكلام وتوجه بتاج الإعجاز واختار لغته العربية مظهرا لهذا الإعجاز والاعتزاز!: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .

(2/137)


فوائد الترجمة بهذا المعنى
لترجمة القرآن بهذا المعنى فوائد كنا في غنى عن بيانها بما أشرنا إليه من أنها كالتفسير العربي الذي اتفق الجميع على جوازه بشرطه ولكن بعض الباحثين توقفوا في جواز هذه الترجمة كما توقفوا في جواز الترجمة بالمعنى الآتي مع بعد ما بينهما ثم تذرعوا بأنه لا فائدة ترجى منها وأثاروا شبهات حولها لهذا نبسط القول ببيان فوائد هذه الترجمة ثم بدفع الشبهات عنها أما فوائدها فنشرحها فيما يأتي:
الفائدة الأولى رفع النقاب عن جمال القرآن ومحاسنه لمن لم يستطع أن يراها بمنظار اللغة العربية من المسلمين الأعاجم وتيسير فهمه عليهم بهذا النوع من الترجمة ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ويعظم تقديرهم للقرآن ويشتد شوقهم إل يه فيهتدوا بهديه ويغترفوا من بحره ويستمتعوا بما حواه من نبل في المقاصد وقوة في الدلائل وسمو في التعاليم ووضوح وعمق في العقائد وطهر ورشد في العبادات ودفع قوى إلى مكارم الأخلاق وردع زاجر عن الرذائل والآثام وإصلاح معجز للفرد وللمجموع واختيار موفق لأحسن القصص وإخبار عن كثير من أنباء الغيب وكشف عن معجزات

(2/137)


أكرم الله بها رسوله وأمته إلى غير ذلك مما من شأنه أن يسمو بالنفوس الإنسانية ويملأ العالم حضارة صحيحة ومدنية.
وإنك لتستطيع أن ترى هذه الفائدة ماثلة بين عينيك إذا ما شاهدت أستاذا ممتازا يلقي درسا من دروس التفسير على العامة يجلي معاني القرآن لهم بمهارته ويتنزل إلى مستواهم فيخاطبهم ويتخير من المعاني أصحها وأمسها بحاجتهم ويعالج عند المناسبة ما يعرف من جهالتهم وشبهتهم والله لكأني بهذا المدرس اللبق وقد نفخ فيهم من روح القرآن فأحيا مواتهم وداوى أمراضهم وقادهم إلى النهضة وجعلهم يؤمنون بهذا الكتاب عن علم وذوق وشعور ووجدان بعد أن كانوا يؤمنون به إيمانا أشبه بالتقليد الأعمى أو بمحاكاة الصبيان.
ولقد دلتنا التجارب على أن كثيرا من هؤلاء الذين أحسوا جلال القرآن عن طريق تفسيره فكروا في حفظه واستظهاره ودراسة لغته وعلومه ليرتشفوا بأنفسهم من منهله الروي ويشبعوا نهمتهم من غذائه الهني ما دام هذا التفسير وغيره لا يحمل كل معاني الأصل وما دام ثواب الله يجزي على كل من نظر في الأصل أو تلا نفس ألفاظ الأصل.
الفائدة الثانية دفع الشبهات التي لفقها أعداء الإسلام وألصقوها بالقرآن وتفسيره كذبا وافتراء ثم ضللوا بها هؤلاء المسلمين الذين لا يحذقون اللسان العربي في شكل ترجمات مزعومة للقرآن أو مؤلفات علمية وتاريخية للطلاب أو دوائر معارف للقراء أو دروس ومحاضرات للجمهور أو صحف ومجلات للعامة والخاصة.
الفائدة الثالثة تنوير غير المسلمين من الأجانب في حقائق الإسلام وتعاليمه خصوصا في هذا العصر القائم على الدعايات وبين نيران هذه الحروب التي أوقدها أهل الملل والنحل الأخرى حتى ضل الحق أو كاد يضل في سواد الباطل وخفت صوت الإسلام أو كاد يخفت بين ضجيج غيره من المذاهب المتطرفة والأديان المنحرفة.

(2/138)


الفائدة الرابعة إزالة الحواجز والعواثير التي أقامها الخبثاء الماكرون للحيلولة بين الإسلام وعشاق الحق من الأمم الأجنبية وهذه الحواجز والعواثير ترتكز في الغالب على أكاذيب افتروها تارة على الإسلام وتارة أخرى على نبي الإسلام وكثيرا ما ينسبون هذه الأكاذيب إلى القرآن وتفاسيره وإلى تاريخ الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته ثم يدسونها فيما يزعمونه ترجمات للقرآن وفيما يقرأ الناس ويسمعون بالوسائل الأخرى فإذا نحن ترجمنا تفسير القرآن أو فسرنا القرآن بلغة أخرى مع العناية بشروط التفسير وشروط الترجمة ومع العناية التامة بدفع الشبهات والأباطيل الرائجة فيهم عند كل مناسبة تزلزلت بلا شك تلك القصور التي أقاموها من الخرافات والأباطيل وزالت العقبات من طريق طلاب الحق وعشاقه من كل قبيل.
وهاك كلمة يؤيدنا بها الكاتب الإنجليزي الشهير برناردشو إذ يقول لقد طبع رجال الكنيسة في القرون الوسطى دين الإسلام بطابع أسود حالك إما جهلا وإما تعصبا إنهم كانوا في الحقيقة مسوقين بعامل بغض محمد ودينه فعندهم أن محمدا كان عدوا للمسيح ولقد درست سيرة محمد الرجل العجيب وفي رأيي أنه بعيد جدا من أن يكون عدوا للمسيح إنما ينبغي أن يدعى منقذ البشرية الخ ما قال بمجلة ذي مسلم رفيوبلكنو الهند في جزء مارس سنة 1933.
الفائدة الخامسة براءة ذمتنا من واجب تبليغ القرآن بلفظه ومعناه فإن هذه الترجمة جمعت بين النص الكريم بلفظه ورسمه العربيين وبين معاني القرآن على ما فهمه المفسر وشرحه باللغة الأجنبية قال السيوطي وابن بطال والحافظ ابن حجر وغيرهم من العلماء إن الوحي يجب تبليغه ولكنه قسمان قسم تبليغه بنظمه ومعناه وجوبا وهو القرآن وقسم يصح أن يبلغ بمعناه دون لفظه وهو ما عدا القرآن وبذلك يتم التبليغ.

(2/139)


دفع الشبهات عن هذه الترجمة
الشبهة الأولى ودفعها:
يقولون إن المترجم للتفسير مضطر إلى الترجمة العرفية الممنوعة وهي ترجمة كل ما يسوقه في كل نوبة للتفسير من آية أو آيات لأن التفسير بيان فلا بد أن يعرف المبين أولا ثم يعرف البيان ولأنه إذا ترجم التفسير بدون الآية كانت الترجمة غير مؤدية للمطلوب لعدم التئامها مع ما قبلها.
ونجيب على هذا بأننا شرطنا ألا تكون ألفاظ الأصل ولا ترجمتها العرفية منبثة بين ثنايا التفسير بلغة أجنبية بل قلنا إن التفسير يجزأ أجزاء وتساق الآية أو الآيات في كل نوبة من نوبات هذه التجزئة باللفظ والرسم العربيين إن كنا نترجم هذه الترجمة لطائفة من إخواننا المسلمين ثم يشار إليها في تفسيرها فيقال معنى هذه الآية أو الآيات كذا.. أو يقال الآية المرقومة برقم كذا من سورة كذا معناها كذا وكذا.. بعبارة مجردة من ألفاظ الأصل وترجمتها ترجمة عرفية ويكفي في ارتباط المبين ببيانه أن يكون بأي وجه من وجوه الارتباط وهو هنا قد ذكر أولا بلفظه ورسمه العربيين ثم أشير إليه باسم إشارة أو ببيان رقمه من السورة واسم سورته من القرآن.
أما الالتئام فمن السهل رعاية الانسجام بين جمل التفسير بعضها مع بعض في كل نوبة في نوباته وأما انسجام هذه النوبات كلها بعضها ببعض بحيث يتألف منها كلام واحد مترابط كأنه سبيكة واحدة فشيء لم يشترطه أحد في التفسير ولا يضيرنا فقده شيئا ما دام التفسير كلاما منجما على نوبات متفرقة لا كلاما واحدا في نوبة واحدة وأما التئام الآيات بعضها ببعض فهو حاصل لا محالة ولكن ليس من الواجب أن يعرض له هذا التفسير ولا غيره من التفاسير.

(2/140)


الشبهة الثانية ودفعها:
يقولون إن تفسير القرآن يشتمل عادة على كيفية نطق ألفاظه ومدلولات مفرداته وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حال التركيب واختلاف المعاني عند الوقف على بعض الكلمات والابتداء بما بعدها وعند وصل الأولى بالثانية ويشتمل أيضا على معرفة السنة لأنها بيان للقرآن وعلى أقوال الصحابة والأئمة المجتهدين وغير ذلك وترجمة مثل هذا مع الاستيفاء أمر متعذر.
ونجيب على هذا بأن استيفاء الأمور المذكورة لم يشرطه أحد في أصل التفسير العربي فبدهي ألا يشترط ذلك في ترجمته وهي صورة له كيف وقد علمنا أن التفسير هو البيان ولو من وجه وكل ما على المفسر أن يكون حكيما يلاحظ حال من يفسر لهم على قدر طاقته فيضمن تفسيره ما يحتاجون إليه ويعفيهم مما لا تسعه عقولهم وإلا كان فتنة عليهم ولعل ذلك سر من أسرار تنوع التفاسير العربية التي بين أيدينا ما بين مختصر ومتوسط ومطول وما بين تفسير بالمأثور وتفسير بالمعقول وما بين تفسير معني بالناحية البلاغية وآخر معني بالناحية النحوية وثالث معني بالناحية الكلامية ورابع معني بالناحية الفقهية إلى غير ذلك.
وإذا كان هذا ماثلا أمام أعيننا في التفاسير العربية فكيف نذهب إلى إنكاره إذا وقع مثله في التفاسير بلغة أجنبية؟!.
الشبهة الثالثة ودفعها:
يقولون لا حاجة إلى هذا التفسير بلسان غير عربي ولا إلى ترجمة أي تفسير من التفاسير لإمكان الاستغناء عنهما بترجمة تعاليم الإسلام وهداياته.
والجواب أنا بينا وجه الحاجة إليه في الفوائد التي ذكرناها آنفا ثم إن ترجمة تفسير القرآن وتفسير القرآن بلغة أجنبية كلاهما مثل ترجمة تعاليم الإسلام وهداياته فكلها

(2/141)


معارف دينية وكلها من كلام البشر لا من كلام الله المعجز وقد جوزتم ترجمة تعاليم الإسلام وهداياته فلتجوزوا ترجمة التفسير بلغة أجنبية أيضا لأن ما جاز على أحد المثلين يجوز على الآخر قطعا.
ثم إن الرسائل المتحدثة عن الإسلام وتعاليمه بلغات أجنبية قد تكون ضرورية لابد منها في بعض الظروف والمناسبات ولكنها لا تغني عن هذا التفسير الذي نحن بصدده الآن للفوائد التي شرحناها قريبا فيه فوجوده شاهد من مشاهد الحق على بطلان ما جاء في تلك الترجمات الخاطئة ييسر على المنصفين وطلاب الحقائق أن يحاكموا تلك الترجمات إلى ما جاء في هذا التفسير خصوصا إذا صدر من هيئة إسلامية موثوق بها وعرض عند كل مناسبة كما قلنا لنقض الشبهات التي ضلت فيها الترجمات الزائغة.
يضاف إلى هذا أن المسلم الأعجمي يستعين بهذا التفسير على تدبر كتاب الله وتفهمه لأية آية من أية سورة يريد والرسائل المقترحة لا يمكن أن تفي بذلك كله.
وإن أبيت إلا مثلا مما قرره علماؤنا في ذلك فاستمع إلى جار الله الزمخشري عند تفسيره لقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} إذ يقول ما نصه فإن قلت لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم وإنما بعث إلى الناس جميعا قل يا أيها الناس إني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم جميعا بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة فإن لم تكن للعرب حجة فلغيرهم الحجة قلت لا يخلو إما أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل فبقي أن ينزل بلسان واحد فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم اقرب إليه وإذا فهموا عنه وبينوه وتنوقل عنهم وانتشر قامت التراجم كذا ببيانه وتفهيمه كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة والأقطار المتنازحة والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة على كتاب واحد

(2/142)


واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه وما يتشعب عن ذلك من جليل الفوائد وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكد القرائح فيه من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب ولأنه أبعد من التحريف والتبديل وأسلم من التنازع والاختلاف ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها مع وكثرتها وكان مستقلا بصفة الإعجاز في كل واحد منها وكلم الرسول العربي كل أمة بلسانها كما كلم أمته التي هو منها يتلوه عليهم معجزا لكان ذلك أمرا قريبا من الإلجاء اهـ باختصار طفيف.
وقوله قامت التراجم ببيانه وتفهيمه يشعر بأن مراده تفاسير القرآن بلغات أجنبية لا ترجمات القرآن نفسه بالمعنى العرفي وذلك لأن التفسير هو الذي يبين القرآن ويفهمه أما الترجمة فتصوير للأصل فحسب وليس من وظيفتها البيان والتفهيم ولو كان مراده بالترجمات ترجمات القرآن نفسه لم يستقم كلامه لأن الذين فهموا القرآن عن الرسول والذين نقلوه عنه لم يقوموا بترجمة القرآن الكريم إلى الأمم المختلفة إنما شرحوه لهم بعد أن بلغوهم نفس ألفاظه العربية.
ومما يؤيد ذلك قوله مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة الخ لأن اجتماع الجميع على كتاب واحد لا يتأتى مع وجود ترجمات لنفس الكتاب بل هو مدعاة إلى الانصراف عن الأصل اكتفاء بالترجمات كما تقدم تفصيل ذلك فتأمل.

(2/143)


4 - ترجمة القرآن بمعنى نقله إلى لغة أخرى
هذا هو الإطلاق الرابع المستند إلى اللغة ثم هو الإطلاق الوحيد في عرف التخاطب الأممي العام.
ويمكننا أن نعرف ترجمة القرآن بهذا الإطلاق تعريفا مضغوظا على نمط تعريفهم فنقول هي نقل القرآن من لغته العربية إلى لغة أخرى ويمكننا أن نعرفها تعريفا

(2/143)


مبسوطا فنقول ترجمة القرآن هي التعبير عن معاني ألفاظه العربية ومقاصدها بألفاظ غير عربية مع الوفاء بجميع هذه المعاني والمقاصد.
ثم إن لوحظ في هذه الترجمة ترتيب ألفاظ القرآن فتلك ترجمة القرآن الحرفية أو اللفظية أو المساوية وإن لم يلاحظ فيها هذا الترتيب فتلك ترجمة القرآن التفسيرية أو المعنوية.
والناظر فيما سلف من الكلام على معنى الترجمة وتقسيمها والفروق بينها وبين التفسير يستغني هنا عن شرح التعريف والتمثيل للمعرف في قسميه كما يستغني عن التدليل على أن هذا المعنى وحده هو المعنى الاصطلاحي الفريد في لسان التخاطب العام بين الأمم ويعلم أن ترجمة القرآن بهذا المعنى خلاف تفسيره بلغته العربية وخلاف تفسيره بغير لغته العربية وخلاف ترجمة تفسيره العربي ترجمة حرفية أو تفسيرية فارجع إلى هذا الذي أسلفناه إن شئت.
الحكم على هذه الترجمة بالاستحالة العادية:
أما حكم ترجمة القرآن بهذا المعنى فالاستحالة العادية والشرعية أي عدم إمكان وقوعها عادة وحرمة محاولتها شرعا ولنا على استحالتها العادية طريقان في الاستدلال:
الطريق الأول أن ترجمة القرآن بهذا المعنى تستلزم المحال وكل ما يستلزم المحال محال والدليل على أنها تستلزم المحال أنه لا بد في تحققها من الوفاء بجميع معاني القرآن الأولية والثانوية وبجميع مقاصده الرئيسية الثلاثة وكلا هذين مستحيل أما الأول فلأن المعاني الثانوية للقرآن مدلولة لخصائصه العليا التي هي مناط بلاغته وإعجازه كما بينا من قبل وما كان لبشر أن يحيط بها فضلا عن أن يحاكيها في كلام له وإلا لما تحقق هذا الإعجاز وأما الثاني فلأن المقصد الأول من القرآن وهو كونه هداية إن

(2/144)


أمكن تحقيقه في الترجمة بالنسبة إلى كل ما يفهم من معاني القرآن الأصلية فهو لا يمكن تحقيقه بالنسبة إلى كل ما يفهم من معاني القرآن التابعة لأنها مدلولة لخصائصه العليا التي هي مناط إعجازه البلاغي كما سبق.
وكذلك مقصد القرآن الثاني وهي كونه آية لا يمكن تحقيقه فيما سواه من كلام البشر عربيا كان أو عجميا وإلا لما صح أن يكون أية خارقة ومعجزة غير ممكنة حين تتناول هذا المقصد قدرة البشر كيف والمفروض أن القرآن آية بل آيات ومعجزة بل معجزات لا يقدر عليها إلا الله وحده جل وعلا؟!.
ويجري هذا المجرى مقصد القرآن الثالث وهو كونه متعبدا بتلاوته فإنه لا يمكن أن يتحقق في الترجمة لأن ترجمة القرآن غير القرآن قطعا والتعبد بالتلاوة إنما ورد في خصوص القرآن وألفاظه عينها بأساليبها وترتيباته نفسها دون أي ألفاظ أو أساليب أخرى ولو كانت عربية مرادفة الألفاظ الأصل وأساليبه.
الطريق الثاني أن ترجمة القرآن بهذا المعنى مثل للقرآن وكل مثل للقرآن مستحيل أما أنها مثل له فلأنها جمعت معانيه كلها ومقاصده كلها لم تترك شيئا والجامع لمعاني القرآن ومقاصده مثل له أي مثل وأما أن كل مثل للقرآن مستحيل فلأن القرآن تحدى العرب أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه فعجزوا عن المعارضة والمحاكاة وهم يومئذ أئمة البلاغة والبيان وأحرص ما يكونون على الغلبة والفوز في هذا الميدان وإذا كان هؤلاء قد عجزوا وانقطعوا فغيرهم ممن هم دونهم بلاغة وبيانا أشد عجزا وانقطاعا وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صدقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين وإذا كان الإنس والجن قد حقت عليهم كلمة العجز عن أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه بلغته العربية فأحرى أن يكون عجزهم أظهر لو حاولوا هذه المعارضة بلغة غير عربية لأن اتحاد اللغة في المساجلة بين كلامين من شأنه أن يقرب

(2/145)


التشابه والتماثل إذا كانا ممكنين نظرا إلى أن الخصائص البلاغية واحدة فيما به التحدي وما به المعارضة أما إذا اختلفت لغة التحدي ولغة المعارضة فهيهات أن يتحقق التشابه والتماثل بدقة لأن الخصائص البلاغية في أحد اللسانين غير الخصائص البلاغية في اللسان الآخر ويوجد منها في أحدهما ما يوجد في الآخر فيتعين التفاضل ويتعذر التماثل قطعا ولهذا يصرح كثير من المتمكنين في اللغات بأن ترجمة النصوص الأدبية في أية لغة ترجمة دقيقة أمر مستحيل وأن ما يتداوله الناس مما يزعمونة ترجمات لبعض كتب أدبية فهو مبني على ضرب من التسامح في نقل معاني الأصل وأغراضه بالتقريب لا بالتحقيق وذلك غير الترجمات الدقيقة لمثل العلوم والقوانين والوثائق المنضبطة فإنها ترجمات حقيقية مبنية على نقل معاني الأصل وأغراضه كلها بالتحقيق لا بالتقريب.
ولكي نوضح لك معنى المثلية المستحيلة في ترجمة القرآن بهذا المعنى نرشدك إلى أن هذه الترجمة لا تتحقق إلا بأمور بعضها مستحيل وبعضها ممكن ذلك أنه لا بد فيها على ضوء ما تقدم من أن تكون وافية بجميع معاني القرآن الأصلية والتابعة على وجه مطمئن وأن تكون وافية كذلك بجميع مقاصده الثلاثة الرئيسية وتلك أمور مستحيلة التحقق كما سبق بيانه ثم لا بد فيها أيضا من أن تكون صيغتها صيغة استقلالية خالية من الاستطراد والتزيد وتلك أمور ممكنة الوقوع في ذاتها لكنها إذا أضيفت إلى سابقتها كان المجموع مستحيلا لأن المؤلف من الممكن والمستحيل مستحيل.
فإذا أريد بعد ذلك أن تكون ترجمة القرآن هذه حرفية وجب أن يعتبر فيها أمران زائدان وجود مفردات في لغة الترجمة مساوية لمفردات القرآن ووجود ضمائر وروابط في لغة الترجمة مساوية لروابط القرآن حتى يمكن أن يحل كل مفرد من الترجمة محل نظيرة من الأصل كما هو المشروط في الترجمة الحرفية وهذا لعمر الله مما يزيد التعذر استفحالا والاستحالة إيغالا ويجعل هذه الترجمة لو وجدت مثلا للقرآن يا له من مثل وشبيها لا يطاوله شبيه ومعارضا لا يغالبه معارض وقد عرفت دليل

(2/146)


بطلان كل ما يصدق عليه أنه مثل للقرآن وفي هذا يقول الله سبحانه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} فنفي المثلية عن القرآن كما نفى المثلية عن نفسه في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وبالغ في النفي وفي التحدي فجمع الإنس والجن على هذا العجز ثم أكد هذا النفي وهذا التحدي مرة أخرى بتقرير عجز الثقلين عن المثلية على فرض معاونة بعضهم لبعض فيها واجتماع قواهم البيانية والعلمية عليها.
الحكم على هذه الترجمة بالاستحالة الشرعية:
الآن وقد تقرر أن ترجمة القرآن بهذا المعنى العرفي من قبيل المستحيل العادي لا نتردد أن نقرر أيضا أنها من قبيل المستحيل الشرعي أي المحظور الذي حرمه الله وذلك من وجوه ثمانية:
الوجه الأول أن طلب المستحيل العاجي حرمه الإسلام أيا كان هذا الطلب ولو بطريق الدعاء وأيا كان هذا المستحيل ترجمة أو غير ترجمة لأنه ضرب من العبث وتضييع للوقت والمجهود في غير طائل والله تعالى يقول: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا ضرر ولا ضرار" رواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم يضاف إلى ذلك أن طلب المستحيل العادي غفلة أو جهل بسنن الله الكونية وبحكمته في ربط الأسباب بمسبباتها العادية تطمينا لخلقه ورجمة بعباده: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .
ولقد يعذر بعض الجهلة إذا ظنوا أن بعض المحالات أمور ممكنة فطلبوها ولكن الذي يحاول ترجمة القرآن بهذا المعنى لا يعذر بحال لأن القرآن نفسه أعذر حين أنذر بأنه لا يمكن أن يأتي الجن والإنس بمثله وإن اجتمعوا له وكان بعضهم لبعض ظهيرا وبذلك قطعت جهيزة قول كل خطيب.

(2/147)


الوجه الثاني أ ن محاولة هذه الترجمة فيها ادعاء عمل لإمكان وجود مثل أو أمثال للقرآن وذلك تكذيب شنيع لصريح الآية السابقة ولقوله سبحانه: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
فإن المتأمل في هاتين الآيتين يجد فيهما وجوها دالة على التحريم حيث عنون الله عن طلاب التبديل بأنهم لا يرجون لقاءه وأمر الرسول أن ينفى نفيا عاما إمكانه تبديله من تلقاء نفسه كما أمره أن يعلن أن اتباعه مقصور على ما يوحى إليه نسخا أو إحكاما ومعنى هذا أن التبديل هو هوى من الأهواء الباطلة والرسول لا يتبع أهواءهم ولا هوى نفسه ولا هوى أحد: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وفي ختام الآية الأولى إشارة إلى أن هذه المحاولة التي يحاولونها عصيان لله وأنه يخاف منها عذاب يوم عظيم وفي الآيه الثانية إعلام بأن القرآن من محض فضل الله وأن الرسول ما كان يستطيع تلاوته عليهم ولا كان يعلمهم به على لسان رسوله لولا مشيئة الله وإيحاؤه به ثم حاكمهم إلى الواقع وهو أن الرسول نشأ بينهم وعاش عمرا طويلا فيهم حتى عرفوا حديثه وأسلوبه وأنه مهما حلق في سماء البلاغة فبينه وبين حديث القرآن وأسلوبه بعد ما بين مكانة الخالق وأفضل الخلق وأنه ما كان ينبغي أن يفتري الكذب على الله ويدعي أنه أوحى إليه ولم يوح إليه على حين أنه معروف بينهم بأنه الصادق الأمين فما كان ليذر الكذب على الناس ثم يكذب على الله ثم أعلن القرآن أخيرا أن هذا الطلب إهمال منهم لمقتضى العقل والنظر وانحطاط إلى دركة الحيوان والحجر إذ قال لهم: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} .

(2/148)


وإذا كان هذا مبلغ نعي القرآن على طلاب بدل للقرآن أو مثيل له من الرسول صلى الله عليه وسلم الأعظم وهو أفصح الناس لسانا وبيانا وأعلمهم بمعاني القرآن ومقاصده وأعرفهم بإسرار الإسلام وروح تشريعه فما بالك بطلاب هذه الترجمة والساعين إليها ممن هل أقل شأنا من الرسول صلى الله عليه وسلم مهما قيل في علمهم وفضلهم وجلالة قدرهم؟.
الوجه الثالث أن محاولة هذه الترجمة تشجع الناس على انصرافهم عن كتاب ربهم مكتفين ببدل أو أبدال يزعمونها ترجمات له وإذا امتد الزمان بهذه الترجمات فسيذهب عنها اسم الترجمة ويبقى اسم القرآن وحده علما عليها ويقولون هذا قرآن بالانجليزية وذاك قرآن بالفرنسية وهكذا ثم يحذفون هذا المتعلق بعد يجتزئون بإطلاق لفظ القرآن على الترجمة ومن كان في شك فليسأل متعارف الأمم فيما بين أيديهم من ترجمات وما لنا نذهب بعيدا فلنسائل أنفسنا نحن ما بالنا نقول بملء فمنا هذه رواية ماجدولين لترجمتها العربية والأصل فرنسي وهذا إنجيل برنابا أو يوحنا لترجمتهما العربية والأصل غير عبري إلى غير ذلك من إطلاقاتنا الكثيرة على ترجمات شتى في الدين والعلم والأدب والقوانين والوثائق ونحوها.
وهاك شاهدا أبلغ من ذلك كله جاء في ملحق لمجلة الأزهر أن أهالي جاوه المسلمين يقرؤون الترجمة الإفرنجية ويقرئونها أولادهم ويعتقدون أن ما يقرؤون هو القرآن الصحيح اهـ فقل لي بربك ما الذي يمنع كل قطر من الأقطار الإسلامية وغير الإسلامية إذن أن يكون له قرآن من هذا الطراز لو ذهبنا إلى القول بجواز هذه الترجمة وهل تشك بعد ذلك في حرمة كل ما يؤدي إلى صرف الناس عن كتاب الله وإلى تفرقهم عنه وضلالهم في مسماه؟.
الوجه الرابع أننا لو جوزنا هذه الترجمة ووصل الأمر إلى حد أن يستغني الناس عن القرآن بترجمانه لتعرض الأصل العربي للضياع كما ضاع الأصل العبري للتوراة

(2/149)


والإنجيل وضياع الأصل العربي نكبة كبرى تغري النفوس على التلاعب بدين الله تبديلا وتغييرا ما دام شاهد الحق قد ضاع ونور الله قد أنطفأ والمهيمن على هذه الترجمات قد زال لا قدر الله ولا ريب أن كل ما يعرض الدين للتغيير والتبديل وكل مل يعرض القرآن للإهمال والضياع حرام بإجماع المسلمين.
الوجه الخامس أننا إذا فتحنا باب هذه الترجمات الضالة تزاحم الناس عليها بالمناكب وعملت كل أمة وكل طائفة على أن تترجم القرآن في زعمها بلغتها الرسمية والعامية ونجم عن ذلك ترجمات كثيرات لا عداد لها وهي بلا شك مختلفة فيما بينها فينشأ عن ذلك الاختلاف في الترجمات خلاف حتمي بين المسلمين أشبه باختلاف اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل وهذا الخلاف يصدع بناء المسلمين ويفرق شملهم ويهيء لأعدائهم فرصة للنيل منهم ويوقظ بينهم فتنة عمياء كقطع الليل المظلم فيقول هؤلاء لأولئك قرآننا خير من قرآنكم ويرد أولئك على هؤلاء تارة بسب اللسان وأخرى بحد الحسام ويخرون ضحايا هذه الترجمات بعد أن كانوا بالأمس إخوانا يوحد بينهم القرآن ويؤلف بينهم الإسلام وهذه الفتنة لا أذن بها الله أشبه بل هي أشد من الفتنة التي أوجس خيفة منها أمير المؤمنين عثمان بن عفان وأمر بسببها أن تحرق جميع المصاحف الفردية وأن يجتمع المسلمون على تلك المصاحف العثمانية الإجماعية.
الوجه السادس أن قيام هذه الترجمات الآثمة يذهب بمقوم كبير من مقومات وجود المسلمين الاجتماعي كأمة عزيزة الجناب قوية السناد ذلك أنهم سيقنعون غدا بهذه الترجمات كما قلنا ومتى قنعوا بها فسيستغنون لا محالة عن لغة الأصل وعلومها وآدابها وأنت تعلم التاريخ يشهد أنها رباط من أقوى الروابط فيما بينها وكان لهذا الرباط أثره الفعال العظيم في تدعيم وحدة الأمة وبنائها حين كانوا يقرؤون القرآن نفسه ويدرسون من أجله علوم لغته العربية وآدابها تذرعا إلى حسن أدائه وفهمه حتى خدموا هذه العلوم ونبغوا فيها ولمع في سمائها رجال من الأعجام بزوا كثيرا من أعلام

(2/150)


العرب في خدمتها وخدمة كتاب الله وعلومه بها وبهذا قامت اللغة العربية لسانا عاما للمسلمين ورابطا مشتركا بينهم على اختلاف أجناسهم ولغاتهم الإقليمية بل ذاب كثير من اللغات الإقليمية في هذه اللغة الجديدة لغة القرآن الكريم.
وإن كنت في ريب فسائل التاريخ عن وحدة المسلمين وعزتهم يوم كانت اللغة العربية صاحبة الدولة والسلطان في الأقطار الإسلامية شرقية وغربية عربية وعجمية يوم كانت لغة التخاطب بينهم ولغة المراسلات ولغة الأذان والإقامة والصلوات ولغة الخطابة في الجمع والأعياد والجيوش والحفلات ولغة المكاتبات الرسمية بين خلفاء المسلمين وأمرائهم وقوادهم وجنودهم ولغة مدارسهم ومساجدهم وكتبهم ودواوينهم.
ونحن في هذا العصر الذي زاحمتنا فيه اللغات الأجنبية وصارت جربا على لغتنا العربية حتى تبلبلت ألسنتنا وألسنة أبنائنا وخاصتنا وعامتنا يتأكد علينا أمام هذا الغزو اللغوي الجائح أن نحشد قوانا لحماية لغتنا والدفاع عن وسائل بقائها وانتشارها وفي مقدمة هذه الوسائل إبقاء القرآن على عربيته والضرب على أيدي العاملين على ترجمته وما ينبغي لنا أن نحطب في حبلهم ولا أن نسايرهم في قياس ترجمة القرآن بهذا المعنى على ترجمة غيره في الجواز والإمكان فأين الثرى من الثريا وأين كلام العبد العاجز من كلام الله المعجز وما أشبه هؤلاء بالمفتونين من أمة موسى حين جاوز الله بهم البحر وأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم: {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ نَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} !.
جاء في كتاب الرسالة للشافعي ما خلاصته إنه يجب على غير العرب أن يكونوا تابعين للسان العرب وهو لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا كما يجب أن يكونوا تابعين له دينا وأن الله تعالى قضى أن ينذروا بلسان العرب خاصة ثم قال فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ويتلو به كتاب الله وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير

(2/151)


وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك وكلما ازداد من العلم باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته وأنزل به آخر كتبه كان خيرا له.
وجاء في كتاب الرسالة أيضا أن المسور بن مخرمة رأى رجلا أعجمي أراد أن يتقدم للصلاة فمنعه المسور بن مخرمة وقدم غيره ولما سأله عمر رضي الله عنه في ذلك قال له إن الرجل كان أعجمي اللسان وكان في الحج فخشيت أن يسمع بعض الحاج قراءته فيأخذ بعجمته فقال له عمر أصبت وقال الشافعي لقد أحببت ذلك اهـ قال في الكشاف الأعجمي من لا يفهم كلامه للكنته أو لغرابة لغته فجاز أن يكون لسانه ألكن أو تكون لغته غريبة.
الوجه السابع أن الأمة أجمعت على عدم جواز رواية القرآن بالمعنى وأنت خبير بأن ترجمة القرآن بهذا المعنى العرفي تساوي روايته بالمعنى فكلتاهما صيغة مستقلة وافية بجميع معاني الأصل ومقاصده لا فرق بينهما إلا في القشرة اللفظية فالرواية بالمعنى لغتها لغة الأصل وهذه الترجمة لغتها غير لغة الأصل وعلى هذا يقال إذا كانت رواية القرآن بالمعنى في كلام عربي ممنوعة إجماعا فهذه الترجمة ممنوعة كذلك قياسا على هذا المجمع عليه بل هي أحرى بالمنع للاختلاف بين لغتها ولغة الأصل.
الوجه الثامن أن الناس جميعا مسلمين وغير مسلمين تواضعوا على أن الأعلام لا يمكن ترجمتها سواء أكانت موضوعة لأشخاص من بني الإنسان أم لأفراد من الحيوان أم لبلاد وأقاليم أم لكتب ومؤلفات حتى إذا وقع علم من هذه الأعلام أثناء ترجمة ما ألفيته هو هو ثابتا لا يتغير عزيزا لا ينال متمتعا بحصانته العلمية لا ترزؤه الترجمة شيئا ولا تنال منه منالا وما ذاك إلا لأن واضعي هذه الأعلام قصدوا ألفاظها بذاتها واختاروها دون سواها للدلالة على مسمياتها فكذلك القرآن الكريم علم رباني قصد الله سبحانه ألفاظه دون غيرها وأساليبه دون سواها لتدل على هداياته وليؤيد بها

(2/152)


رسوله وليتعبد بتلاوتها عباده وكان سبحانه حكيما في هذا التخصيص والاختيار لمكان الفضل والامتياز في هذه الأساليب والألفاظ المختارة.
ومن تفقه في أساليب اللغة العربية وعرف أن لخفة الألفاظ على الأسماع وحسن جرسها في فصاحة الكلام وبلاغته أيقن أن القرآن فذ الأفذاذ في بابه وعلم الأعلام في بيانه لأن ما فبه من الأساليب البلاغية والموسيقى اللفظية أمر فاق كل فوق وخرج عن كل طوق: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} فأنى لمخلوق بعد هذا أن يحاكيه بترجمة مساوية أو مماثلة: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} .

(2/153)


دفع الشبهات الواردة على منع هذه الترجمة
الشبهة الأولى ودفعها:
يقولون: إن تبليغ هداية القرآن إلى الأمم الأجنبية واجب لما هو معروف من أن الدعوة إلى الإسلام عامة لا تختص بجيل ولا بقبيل وهذا التبليغ الواجب يتوقف على ترجمة القرآن لغير العرب بلغاتهم لأنهم لا يحذقون لغة العرب بينما القرآن عربي وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ونجيب على هذه الشبهة
أولا بأن هذا التبليغ لا يتوقف على ترجمة القرآن لهم تلك الترجمة العرفية الممنوعة بل يمكن أن يحصل بترجمته على المعنى اللغوي السالف وهو تفسيره بغير لغته على ما شرحناه آنفا ويمكن أن يكون بتبليغهم هداية القرآن وتعاليمه ومحاسن الإسلام ومزاياه ودفع الشبهات التي تعترضهم في ذلك إما بمحادثات شفهية وإنما بمؤلفات على شكل رسائل تنشر أو مجلات تذاع أو كتب تطبع يختار الداعي من ذلك ما هو أنسب بحال المدعوين وما هو أيسر له وأنجح لدعوته فيهم.

(2/153)


ثانيا أن الله تعالى لم يكلفنا بالمستحيل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وقد أشبعنا القول في بيان استحالة ترجمة القرآن بذلك المعنى العرفي استحالة عادية فواضح ألا يكلفنا الله إياها.
ثالثا أن القول بوجوب هذه الترجمة يستلزم المحال وهو التناقض في أحكام الله تعالى ذلك أن الله حرمها كما تقرر من قبل فكيف يستقيم القول بأنه أوجبها مع أن الحاكم واحد وهو الله ومحل الحكم واحد وهو الترجمة والمحكوم عليه واحد وهم المكلفون في كل زمان ومكان.
رابعا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أعرف الناس بأحكام الله وأنشط الخلق في الدعوة إلى الله لم يتخذ هذه الترجمة وسيلة إلى تبليغ الأجانب مع أنه قد دعا العرب والعجم وكاتب كسرى وقيصر وراسل المقوقس والنجاشي وكانت جميع كتبه لهم عربية العبارة ليس فيها آية واحدة مترجمة فصلا عن ترجمة القرآن كله وكان كل ما في هذه الكتب دعوة صريحة جريئة إلى نبذ الشرك واعتناق التوحيد والاعتراف برسالته صلى الله عليه وسلم ووجوب طاعته واتباعه وكان صلى الله عليه وسلم يدفع كتبه هذه إلى سفراء يختارهم من أصحابه فيؤدونها على وجهها وهؤلاء الملوك والحكام قد يدعون تراجم يفسرونها لهم وقد يسألون السفراء ومن يتصل بهم عن تعاليم الإسلام وشمائل نبي الإسلام وصفات الذين اتبعوه ومدى نجاح هذه الرسالة مما عساه أن يلقي ضوءا على حقيقة الداعي ودعوته.
انظر حديث هرقل في أوائل صحيح البخاري
خامسا أن الصحابة رضوان الله عليهم وهم مصابيح الهدى وأفضل طبقة في سلف هذه الأمة الصالح وأحرص الناس على مرضاة الله ورسوله وأعرفهم بأسرار الإسلام وروح تشريعه ولم يفكروا يوما ما في هذه الترجمة فضلا عن أن يحاولوها أو يأتوها بل كان شأنهم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم الأعظم يدعون بالوسائل التي دعا بها على نشاط رائع

(2/154)


عجيب في النشر والدعوة والفتح فلو كانت هذه الترجمة العرفية من مواجب الإسلام لكان أسرع الخلق إليها رسول الله وأصحابه ولو فعلوه لنقل وتواتر لأن مثله مما تتوافر الدواعي على نقله وتواتره.
الشبهة الثانية ودفعها:
يقولون إن كتبه إلى العظماء من غير العرب يدعوهم إلى الإسلام تستلزم إقراره على ترجمتها لأنها مشتملة على قرآن وهم أعجام ولأن الروايات الصحيحة ذكرت في صراحة أن هرقل وهو من هؤلاء المدعوين دعا ترجمانه فترجم له الكتاب النبوي وفيه قرآن.
والجواب أن هذه الكتب النبوية لا تستلزم إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم على تلك الترجمة العرفية الممنوعة بل هي إذا استلزمت فإنما تستلزم الإقرار على نوع جائز من الترجمة وهو التفسير بغير العربية لأن التفسير بيان ولو من وجه وهو كاف في تفهم مضمون الرسائل المرسلة على أن هذه الرسائل الكريمة لم تشتمل على القرآن كله ولا على آيات كاملة منه بل كل ما فيها مقتبسات نادرة جدا ولا ريب أن المقتبسات من القرآن ليس لها حكم القرآن.
وهاكم نماذج تتبينون منها مبلغ هذه الحقيقة:
1 - فكتابه صلى الله عليه وسلم الذي أرسله مع دحية بن خليفة الكلبي إلى هرقل هذا نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم.
سلام على من أتبع الهدى أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسين - أي الفلاحين- ويأهل الكتاب

(2/155)


تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون".
فأنت ترى أن ما في هذا الكتاب من القرآن لم يبلغ آية تامة لأن الآية مبتدأة بقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} ولكن الكتاب حذف منه لفظ: {قُلْ} وزيد فيه حرف الواو والحذف والزيادة دليلان ماديان على الاقتباس".
2 - وكتابه الذي بعث به مع عبد الله بن حذافة إلى كسرى هذا نصه: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس:
سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وأدعوك بدعاية الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين أسلم تسلم فأن توليت فعليك إثم المجوس".
فأنت ترى في هذه الرسالة النبوية أنها اشتملت على كلمة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين على حين أن نص الآية في القرآن الكريم: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً} وهذا دليل الاقتباس.
3 - وقل مثل ذلك في سائر رسائله صلى الله عليه وسلم فإن كتابه إلى المقوقس هو نص كتابه إلى هرقل لا فرق بينهما إلا في كلمة الأريسيين إذا أبدلت بها كلمة القبط وإلا في اسم المرسل إليه ومكانته كما هو واضح.
4 - وكذلك كتابه إلى جيفر وعبد ملكي عمان ليس فيه إلا كلمة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين وهي التي في رسالته إلى كسرى1
__________
1 راجع ذلك ما كتبه الزرقاني على المواهب "ص 226 – 369 ج 3" والسيرة الحلبية "ص 362 – 378 ج 2". وكتاب العلم من صحيح البخاري.

(2/156)


الشبهة الثالثة ودفعها:
يقولون إن جميع المحذورات التي تخشى من الترجمة موجودة في التفسير باللفظ العربي نفسه وقد أجمعت الأمة على عدم التحاشي عن هذه المحذورات فيجب ألا يتحاشى عنها في الترجمة أصلا إذ لا فرق بين التعبير باللفظ العربي والتعبير بالفظ العجمي عن المراد بالآيات بعد أن يكون المعبر والمفسر والمترجم مستكملا للشروط والمؤهلات الواجبة لمن يعرض نفسه للتفسير والترجمة.
والجواب: أنهم إن أرادوا بالترجمة في كلامهم تلك الترجمة العرفية فقد بسطنا من وجوه المحذورات فيها ما جعلها حجرا محجورا وإثما محظورا ورسمنا من الفروق ما جعل بينها وبين التفسير بونا بعيدا سواء أكانت هي ترجمة حرفية أم تفسيرية وسواء أكان هو تفسيرا بلغة الأصل أم بغير لغة الأصل.
وإن أرادوا بالترجمة في كلامهم تلك الترجمة اللغوية على معنى التفسير بلغة أجنبية فكلامهم في محل التسليم والقبول ولكن لا يجوز أن تخاطب العرف العالمي العام بهذا الإطلاق اللغوي الخاص بنا لأنه لا يعرفه.
الشبهة الرابعة ودفعها:
يقولون إن الترجمة العرفية للقرآن إذا تعذرت بالنسبة إلى معانيه التابعة فإنها تمكن بالنسبة إلى معانيه الأصلية وعلى هذا فلنترجم القرآن بمعنى أننا ننقل معانيه الأصلية وحدها لا سيما أنها هي المشتملة على الهداية المقصودة منه دون معانية التابعة.
ونجيب على هذه الشبهة أولا بأن نقل معاني القرآن الأصلية لا يسمى ترجمة للقرآن عرفا لأن مدلول ألفاظ القرآن مؤلف من المعاني الأصلية والتابعة فترجمته نقل معانية كلها لا فرق بين ما كان منها أوليا وما كان ثانويا ونقل مقاصده كلها كذلك ومحال

(2/157)


نقل جميع هذا كما سبق وعلى هذا لا يجوز أن يعتبر مجرد نقل المعاني الأصلية دون التابعة ودون بقية مقاصده ترجمة له اللهم إلا إذا جاز أن تسمى يد الإنسان إنسانا ورجل الحيوان حيوانا.
ثم إن إطلاق الترجمة على هذا المعنى المراد لو كان مقصورا على قائليه ولم يتصل بالعرف العام لهان الخطب وسهل الأمر وأمكن أن يلتمس وجه للتجوز ولو بعيدا ولكن العرف الذي نخاطبه لا يفهم من كلمة ترجمة إلا أنها صورة مطابقة للأصل وافية بجميع معانيه ومقاصده لا فرق بينهما إلا في القشرة اللفظية فإذا نحن نقلنا المعاني الأصلية للقرآن وحدها ثم قلنا لأهل هذا العرف العالمي العام هذه هي ترجمة القرآن نكون قد ضللنا أهل هذا العرف من ناحية ثم نكون قد بخسنا القرآن حقه من الإجلال والإكبار من ناحية أخرى فزعمنا أن له مثلا يناصيه وشبيها يحاكيه على حين أن الذي جئنا به ما هو إلا صورة مصغرة لجزء منه وبين هذه الصورة وجلال الأصل مراحل شتى كالذي يصور الجزء الأسفل من إنسان عظيم ثم يقول للناس هذه صورة فلان العظيم.
ثانيا أن تلك المعاني التابعة الثانوية فياضة بهدايات زاخرة ومعارف واسعة فلا نسلم أن معاني القرآن الأولية وحدها هي مصدر هداياته وارجع إلى ما ذكرناه سابقا في هذا الصدد فإن فيه الكفاية.
الشبهة الخامسة ودفعها:
يقولون إن الذين ترجموا القرآن إلى اللغات الأجنبية غيروا معانيه وشوهوا جماله وأخطأوا أخطاء فاحشة فإذا نحن ترجمنا القرآن بعناية أمكن أن نصحح لهم تلك الأخطاء وأن نرد إلى القرآن الكريم اعتباره في نظر أولئك الذين يقرؤون تلك الترجمات الضالة وأن نزيل العقبات التي وضعت في طريقهم إلى هداية الإسلام وبذلك نكون قد أدينا رسالتنا في النشر والدعوة إلى هذا الدين الحنيف.

(2/158)


ونجيب على هذا بأن الذين زعموا ترجموا القرآن ترجمة عربية شوهوا جماله وغضوا من مقامه باعترافكم فإن أنتم ترجمتم ترجمتهم وحاولتم محاولتهم فستقعون لا محالة في قريب مما وقعوا فيه وستمسون بدوركم عظمة هذا القرآن وجلاله مهما بالغتم في الحيطة وأمعنتم في الدقة ونبغتم في العلم وتفوقتم في الفهم لأن القرآن أعز وأمنع من أن تناله ريشة أي مصور كان من إنس أو جان كما بينا ذلك أوفى بيان.
أما إذا حاولتم ترجمة القرآن على معنى تفسيره بلغة أجنبية فذلك موقف آخر نؤيدكم فيه ونوافقكم عليه وندعو القادرين إليه.
الشبهة السادسة ودفعها:
يقولون: جاء في صريح السنة ما يؤيد القول بجواز ترجمة القرآن فقد قال الشربنلالي في كتابهة النفحة القدسية ما نصه:
روي أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكتب لهم: "بسم الله الرحمن الرحيم بنام يزدان يحشايند" فكانوا يقرؤون ذلك في الصلاة حتى لانت ألسنتهم وبعد ما كتب عرضه على النبي صلى الله عليه وسلم كذا في المبسوط قاله في النهاية والدراية.
ونجيب على هذا من وجوه أولها أن هذا خبر مجهول الأصل لا يعرف له سند فلا يجوز العمل به ثانيها أن الخبر لو كان لنقل وتواتر لأنه مما تتوافر الدواعي على نقله وتواتره ثالثها أنه يحمل دليل وهنه فيه ذلك أنهم سألوه أن يكتب لهم ترجمة الفاتحة فلم يكتبها لهم إنما كنب لهم ترجمة البسملة ولو كانت الترجمة ممكنة وجائزة لأجابهم إلى ما طلبوا وجوبا وإلا كان كاتما وكاتم العلم ملعون رابعها أن المتأمل في الخبر يدرك أن البسملة نفسها لم تترجم لهم كاملة لأن هذه

(2/159)


الألفاظ التي ساقتها الرواية على أنها ترجمة للبسملة لم يؤت فيها بلفظ مقابل للفظ الرحمن وكأن ذلك لعجز اللغة الفارسية عن وجود نظير فيها لهذا الاسم الكريم. وهذا دليل مادي على أن المراد بالترجمة هنا الترجمةة اللغوية لا العرفية على فرض ثبوت الرواية خامسها أنه قد وقع اختلاف في لفظ هذا الخبر بالزيادة والنقص وذلك موجب لاضطرابه ورده والدليل على هذا الاضطراب أن النووي في المجموع نقله بلفظ آخر هذا نصه: "إن قوما من أهل فارس طلبوا من سلمان أن يكتب لهم شيئا من القرآن فكتب لهم الفاتحة بالفارسية".
وبين هذه الرواية وتلك مخالفة ظاهرة إذ إن هذه ذكرت الفاتحة وتلك ذكرت البسملة بل بعض البسملة ثم إنها لم تعرض لحكاية العرض على النبي صلى الله عليه وسلم أما تلك فعرضت له.
سادسها أن هذه الرواية على فرض صحتها معارضة للقاطع من الأدلة السابقة القائمة على استحالة الترجمة وحرمتها ومعارض القاطع ساقط.

(2/160)


حكم قراءة الترجمة والصلاة بها
تكاد كلمة الفقهاء تتفق على منع قراءة ترجمة القرآن بأي لغة كانت فارسية أو غيرها وسواء أكانت قراءة هذه الترجمة في صلاة أم في غير صلاة لولا خلاف واضطراب في بعض نقول الحنفية.
وإليك نبذا من أقوال الفقهاء على اختلاف مذاهبهم تتنور بها في ذلك.
مذهب الشافعية:
1 - قال في المجموع "ص 389 ج 3": مذهبنا أي – الشافعية - أنه لا تجوز قراءة القرآن بغير لسان العرب سواء أمكنته العربية أم عجز عنها وسواء أكان في

(2/160)


الصلاة أم في غيرها فإن أتى بترجمته في صلاة بدلا عنها لم تصح صلاته سواء أحسن القراءة أم لا وبه قال جماهير العلماء منهم مالك وأحمد وأبو داود.
2 - وقال الزركشي في البحر المحيط: لا تجوز ترجمة القرآن بالفارسية ولا بغيرها بل تجب قراءته على الهيئة التي يتعلق بها الإعجاز لتقصير الترجمة عنه ولتقصير غيره من الألسن عن البيان الذي خص به دون سائر الألسن.
3 - وجاء في حاشية ترشيح المستفيدين "ص 52 ج 1": من جهل الفاتحة لا تجوز له أن يترجم عنها لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} والعجمي ليس كذلك وللتعبد بألفاظ القرآن.
4 - وجاء في الإتقان للسيوطي: لاتجوز قراءة القرآن بالمعنى لأن جبريل أداه باللفظ ولم يبح له إيحاؤه بالمعنى.
مذهب المالكية:
1 - جاء في حاشية الدسوقي على شرح الدردير للمالكية "ص 232 – 236 ج 1" لا تجوز قراءة القرآن بغير العربية بل لا يجوز التكبير في الصلاة بغيرها ولا بمرادفه من العربية فإن عجز عن النطق بالفاتحة بالعربية وجب عليه أن يأتم بمن يحسنها فإن أمكنه الائتمام ولم يأتم بطلت صلاته وإن لم يجد إماما سقطت عنه الفاتحة وذكر الله تعالى وسبحه بالعربية وقالوا على كل مكلف أن يتعلم الفاتحة بالعربية وأن يبذل وسعه في ذلك ويجهد نفسه في تعلمها وما زاد عليها إلا أن يحول الموت دون ذلك وهو بحال الاجتهاد فيعذر.
2 - وجاء في المدونة سألت ابن القاسم عمن افتتح الصلاة بالأعجمية وهو لا يعرف العربية ما قول مالك فيه فقال سئل مالك عن الرجل يحلف بالعجمية فكرة ذلك وقال أما يقرأ أما يصلي إنكار لذلك أي ليتكلم بالعربية

(2/161)


لا بالعجمية قال وما يدريه الذي قال أهو كما قال أي الذي حلف به أنه هو الله ما يدريه أنه هو أم لا قال مالك أكره أن يدعو الرجل بالعجمية في الصلاة ولقد رأيت مالكا يكره العجمي أن يحلف ويستثقله قال ابن القاسم وأخبرني مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن رطانة الأعاجم وقال إنها خب أي خبث وغش.
مذهب الحنابلة:
1 - قال في المغني "ص 526 ج 1" ولا تجزئه القراءة بغير العربية ولا إبدال لفظ عربي سواء أحسن القراءة بالعربية أم لم يحسن ثم قال فإن لم يحسن القراءة بالعربية لزمه التعلم فإن لم يفعل مع القدرة عليه لم تصح صلاته.
2 - وقال ابن حزم الحنبلي في كتابه المحلى "ص 254 ج 3" من قرأ أم القرآن أو شيئا مها أو شيئا من القرآن في صلاته مترجما بغير العربية أو بألفاظ عربية غير الألفاظ التي انزل الله تعالى عامدا لذلك أو قدم كلمة أو أخرها عامدا لذلك بطلت صلاته وهو فاسق لأن تعالى قال: {قُرْآناً عَرَبِيّاً} وغير العربي ليس عربيا فليس قرآنا وإحالة عربية القرآن تحريف لكلام الله وقد ذم الله تعالى من فعلوا ذلك فقال: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} .
ومن كان لا يحسن العربية فليذكر الله تعالى بلغته لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} ولا يحل له أن يقرأ أم القرآن ولا شيئا من القرآن مترجما على أنه الذي افترض عليه أن يقرأه لأنه غير الذي افترض عليه كما ذكرنا فيكون مفتريا على الله.
مذهب الحنفية
اختلفت نقول الحنفية في هذا المقام واضطرب النقل بنوع خاص عن الإمام ونحن نختصر لك الطريق بإيراد كلمة فيها تلخيص للموضوع وتوفيق بين النقول اقتطفناها من

(2/162)


مجلة الأزهر "ص 32 و 33 و 66 و 67 من المجلد الثالث" بقلم عالم كبير من علماء الأحناف إذ جاء فيها باختصار وتصرف ما يلي:
أجمع الأئمة على أنه لا تجوز قراءة القرآن بغير العربية خارج الصلاة ويمنع فاعل ذلك أشد المنع لأن قراءته بغيرها من قبيل التصرف في قراءة القرآن بما يخرجه عن إعجازه بل بما يوجب الركاكة.
وأما القراءة في الصلاة بغير العربية فتحرم إجماعا للمعنى المتقدم لكن لو فرض وقرأ المصلي بغير العربية أتصح صلاته أم تفسد؟.
ذكر الحنفية في كتبهم أن الأمام أبا حنيفة كان يقول أولا إذا قرأ المصلي بغير العربية مع قدرته عليها اكتفى بتلك القراءة ثم رجع عن ذلك وقال متى كان قادرا على العربية ففرضه قراءة النظم العربي ولو قرأ بغيرها فسدت صلاته لخلوها من القراءة مع قدرته عليها والإتيان بما هو من جنس كلام الناس حيث لم يكن المقروء قرآنا ورواية رجوع الإمام هذه تعزى إلى الأقطاب في المذهب ومنهم نوح ابن مريم وهو من أصحاب أبي حنيفة ومنهم علي بن الجعد وهو من أصحاب أبي يوسف ومنهم أبو بكر الرازي وهو شيخ علماء الحنفية في عصره بالقرن الرابع.
ولا يخفى أن المجتهد إذا رجع عن قوله لا يعد ذلك المرجوع عنه قولا له لأنه لم يرجع عنه إلا بعد أن ظهر له أنه ليس بصواب وحينئذ لا يكون في مذهب الحنفية قول بكفاية القراءة بغير العربية في الصلاة للقادر عليها فلا يصخ التمسك به ولا النظر إليه لا سيما أن إجماع الأئمة ومنهم أبو حنيفة صريح في أن القرآن اسم للفظ المخصوص الدال على المعنى لا للمعنى وحده.
أما العاجز عن قراءة القرآن بالعربية فهو كالأمي في أنه لا قراءة عليه ولكن إذا فرض أنه خالف وأدى القرآن بلغة أخرى فإن كان ما يؤديه قصة أو أمرا أو نهيا فسدت

(2/163)


صلاته لأنه متكلم بكلام وليس ذكرا وإن كان ما يؤديه ذكرا أو تنزيها لا تفسد صلاته لأن الذكر بأي لسان لا يفسد الصلاة لا لأن القراءة بترجمة القرآن جائزة فقد مضى القول بأن القراءة بالترجمة محظورة شرعا على كل حال.

(2/164)


توجيهات وتعليقات
جاء في كلام بعض الأئمة وأقطاب علماء الأمة ما أوقع بعض كبار الباحثين في اشتباه لذلك نرى إتماما للبحث وتمحيصا للحقيقة أن نسوق نماذج من هذا الكلام ثم نتبعها بما نعتقد توجيها لها أو تعليقا عليها.
1 - كلمة للإمام الشافعي
جاء في كتاب الأم للشافعي رحمه الله تحت عنوان إمامة الأعجمي "ص 147 ج 1" ما نصه وإذا ائتموا به فإن أقاما معا أم القرآن ولحن أو نطق أحدهما بالأعجمية أو لسان أعجمي في شيء من القرآن غيرها أجزأته ومن خلفه صلاتهم إذا كان أراد القراءة لما نطق به من عجمة ولحن فإن أراد به كلاما غير القراءات فسدت صلاته اهـ.
قالوا في بيان مراد الشافعي من كلمته هذه ومراده أن الإمام والمؤتم إذا أحسسنا قراءة الفاتحة ثم لحن أو نطق أحدهما بلهجة أعجمية أو لغة أعجمية في شيء من القرآن غير الفاتحة لا تبطل صلاتهما والمراد من الأعجمية اللهجة ومن اللسان اللغة كما هو استعماله في هذه المواطن فهذا النص يدل على أن اللسان الأعجمي بعد قراءة المفروض عنده وهو الفاتحة لا يبطل الصلاة وهو موافق للحنفية في هذا اهـ.

(2/164)


ونقول توجيها لكلام الشافعي وتأييدا لما ذهبنا إليه قد أسلفنا الكلام في مذهب الحنفية فلا نعيده أما الذي ذكروه من أن هذا هو مراد الشافعي رحمه الله فمسلم بيد أنه يحتاج إلى تكملة لا بد منها وهي أن عدم بطلان الصلاة في هذه الصورة مشروط بأن تقصد القراءة أما إذا كان المقصود كلاما غير القراءة فإنها تبطل ثم إن منشأ عدم البطلان ليس هو جواز قراءة غير الفاتحة بالأعجمية كما فهموا إنما منشؤه أن هذه القراءة, بالأعجمية وقعت في غير ركن وفي غير واجب للصلاة لما هو مقرر في مذهب الشافعية من أن قراءة ما زاد على الفاتحة ليس واجبا في الصلاة بحال وهذا لا ينافي أن القرءاة بالأعجمية محرمة كما سبق في نصوص الشافعية بين يديك وكما عرف من كلام الشافعي نفسه وقد أسلفناه قريبا ولهذه المسألة نظائر منها الصلاة في الأرض المغصوبة فإنها محرمة ومع حرمتها فإنها صحيحة ويؤيد حرمة القرءاة بالأعجمية أن الشافعي في كلامه هنا قد سوى بين اللحن والقراءة بالأعجمية ونظمهما في سلك واحد مع ما هو معلوم من أن اللحن في القرآن حرام بإجماع المسلمين.
2 - كلمة للمحقق الشاطبي
قال الشاطبي وهو من أعلام المالكية "في ص 44, 45 ج 2" من كتابه الموافقات تحت عنوان منع ترجمة القرآن ما نصه للغة العرب من حيث هي ألفاظ دالة على معان نظران أحدهما من جهة كونها ألفاظ وعبارات دالة على معان مطلقة وهي الدلالة الأصلية والثاني من جهة كونها ألفاظ وعبارات مقيدة دالة على معان خادمة وهي الدلالة التابعة فالجهة الأولى هي التي تشترك فيها الألسنة وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين ولا تختص بأمة دون أخرى فإنه إذا حصل في الوجود فعل لزيد مثلا كالقيام ثم أراد كل صاحب لسان الإخبار عن زيد بالقيام تأتى له ما أراد من غير كلفة ومن هذه الجهة يمكن في لسان العرب الإخبار عن أقوال الأولين ممن ليسوا من أهل اللغة العربية وحكاية كلامهم ويتأتى في لسان العجم حكاية أقوال العرب والإخبار عنها وهذا إشكال

(2/165)


فيه وأما الجهة الثانية فهي التي يختص بها لسان العرب في تلك الحكاية وذلك الإخبار فإن كل خبر يقتضي في هذه الحالة أمورا خادمة لذلك الإخبار بحسب المخبر والمخبر عنه والمخبر به ونفس الإخبار في الحال والمساق ونوع الأسلوب من الإيضاح والإخفاء والإيجاز والإطناب وغير ذلك وبعد أن مثل الشاطبي لهذا بنحو ما مثلنا سابقا قال وبهذا النوع الثاني اختلفت العبارات وكثير من أقاصيص القرآن لأنه يأتي مساق القصة في بعض السور على وجه وفي بعضها على وجه آخر وفي ثالثة على وجه ثالث وهكذا ما تقرر فيه من الإخبار لا بحسب النوع الأول إلا إذا سكت عن بعض التفاصيل في بعض ونص عليه في بعض وذلك أيضا لوجه اقتضاه الحال والوقت وما كان ربك نسيا.
ثم قال إذا ثبت هذا فلا يمكن من اعتبر هذا الوجه الأخير أي الدلالة التابعة من الكلام أن يترجم كلاما العربي بكلام العجم فضلا عن أن يترجم القرآن وينقل إلى لسان غير عربي إلا مع فرض استواء اللسانين في استعمال ما تقدم تمثيله ونحوه فإذا ثبت ذلك في اللسان المنقول إليه مع لسان العرب أمكن أن يترجم أحدهما إلى الآخر وإثبات مثل هذا بوجه بين عسير.
وقد نفي ابن قتيبة إمكان الترجمة في القرآن يعني على هذا الوجه الثاني فأما على الوجه الأول فهو ممكن ومن جهته صح تفسير القرآن وبيان معناه للعامة ومن ليس له فهم يقوى على تحصيل معناه وكان ذلك جائزا باتفاق أهل الإسلام فصار هذا الاتفاق حجة في صحة الترجمة على المعنى الأصلي اهـ ما أردنا نقله بتصرف طفيف.
قالوا: هذا كلام مدلل وبحث موجه من عالم جليل محقق وأصولي نظار مدقق وهو ينطق بجواز ترجمة القرآن مع الدليل والبرهان.

(2/166)


ونحن نقول إن كلام الشاطبي صريح في أن الممكن هو نقل المعاني الأصلية للقرآن دون التابعة وعلى هذا بإطلاقه لفظ ترجمة القرآن على ما أدى تلك المعاني الأصلية وحدها إطلاق لغوي محض لا نخالف فيه بل ندعو إليه ونشجع عليه مع التحفظات التي بسطناها فيما سلف.
أما الترجمة العرفية وفيها يساق الحديث فإن الشاطبي لا يريدها قطعا ولا يذهب إلى القول بها لا في القرآن ولا في غير ا لقرآن من النصوص الأدبية ولنا على ذلك أدلة خمسة نسوقها إليك.
أولها أنه قال في لغة الواثق تلك الكلمة الصريحة إذا ثبت فلا يمكن من اعتبر هذا الوجه الأخير أن يترجم كلاما من الكلام العربي بكلام العجم فضلا عن أن يترجم القرآن وينقل إلى لسان غير عربي.
ثانيها انه نقل في كلمته المذكورة عن ابن قتيبة أنه نفى إمكان الترجمة في القرآن على هذا الوجه الثاني ثم أقره على هذا النفي بهذا التوجيه.
ثالثها أنه مالكي المذهب والمالكية من أشد الناس تحرجا من الترجمة على ما علمت من نصوصهم السابقة.
رابعها أنه تردد أثناء بحثه في الترجمة ترددا يدل على أنه لم يقطع برأي يخالف مذهبه إنما هو مجرد بحث فحسب أما الحكم فمسلم على حد قولهم البحث وارد والحكم مسلم والدليل على تردده ما جاء في الجزء الثاني من كتابه الموافقات إذ يقول إذا ثبت أن للكلام من حيث دلالته على المعنى جهتين كان من الواجب أن ينظر في الوجه الذي تستفاد منه الأحكام هل يختص بجهة المعنى الأصلي أو يعم الجهتين أما استفادتها من الجهة الأولى فلا خلاف فيه وأما استفادتها من الجهة الثانية فهو محل تردد ولكل واحد من الطرفين وجهة من النظر ثم قال قد تبين تعارض الأدلة في المسألة وظهر

(2/167)


ان الأقوى من الجهتين جهة المانعين استفادة الأحكام منها لكن بقي فيها نظر آخر ربما إخال أن لها دلالة على معان زائدة على المعنى الأصلي هي آداب شرعية وتخلقات حسنه فيكون لها اعتبار في الشريعة فلا تكون الجهة الثانية خالية الدلالة جملة وعند ذلك يشكل القول بالمنع مطلقا اهـ مختصرا.
أرأيت هذا التردد كله ثم أرأيت كيف أخطأه التوفيق في أن يجزم كما جزمنا باستفادة أنواع الهدايات الإسلامية من جهة المعاني الثانوية للقرآن الكريم على نحو ما فصلناه تفصيلا ومثلنا له تمثيلا والكمال لله وحده.
خامسها أنه قال في الجزء الثاني من كتابه الموافقات أيضا "ص 42" إن القرآن أنزل بلسان العرب فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة ثم قال فمن أراد تفهمه فمن جهة لسان العرب يفهمه ولا سبيل إلى تفهمه من غير هذه الجهة.
وذلك برهان يدل على أن ترجمة القرآن في نظره لا يمكن أن تفي بهداياته ومقاصده وأن طالب فهمه لا طريق له إلا أن ينتقل هو إلى القرآن ولغته فيدرسه على ضوء ما تقرر من قواعد هذه اللغة وأساليبها ولا سبيل إلى هذه الدراسة طبعا إلا بحذق هذه اللغة وعلومها.
3 - كلمة لحجة الإسلام الغزالي
جاء في حديث المستصفى للغزالي "169 ج 1" ما نصه ويدل على جوازه أي جواز رواية الحديث بالمعنى للعالم الإجماع على جواز شرح الشرع للعجم بلسانهم فإذا جاز إبدال العربية بعجمية ترادفها فلأن يجوز إبدال عربية بعربية ترادفها وتساويها أولى وكذلك كان سفراء رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد يبلغونهم أوامره بلغتهم وهذا لأنا نعلم ألا تعبد في اللفظ وإنما المقصود فهم المعنى وإيصاله إلى الخلق وليس بذلك كالتشهد والتكبير وما تعبد فيه باللفظ. اهـ.

(2/168)


قالوا إن هذه العبارة بعمومها تتناول القرآن والسنة لأنهما أساس الشرع فترجمتهما إذن جائزة والكتاب كالسنة في هذا الجواز.
ونحن نقول إن عبارة الغزالي هذه تأبى هذا الاستنتاج من وجوه أولها ما حكاه من الإجماع في هذا المقام ومعلوم أن الإجماع لم ينعقد أبدا على جواز ترجمة القرآن بل كاد ينعقد على عدم الجواز كما مر بك قريبا.
ثانيها أن سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم وهم الذين ساقهم الغزالي هنا مساق الاستدلال لم يترجموا القرآن للأعاجم ولو ترجموه لنقل تواترا لأنه مما تتوافر الدواعي على نقله وتواتره إنما كانوا يترجمون تعاليم الإسلام وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكر الغزالي نفسه.
ثالثها أن الغزالي في عبارته المسطورة قد صرح بأن ما تعبدنا الله فيه باللفظ لا تجوز روايته بالمعنى وعلى هذا لا يجوز أن يترجم بالأولى ولا ريب أن القرآن الكريم متعبد بلفظه إجماعا فلا يجوز أن يروى بالمعنى ولا أن يترجم أبدا.
أن عبارة الغزالي في كتابه الوجيز "ص 26 27" موافقة بالنص لما جاء في كتب الشافعية إذ يقول لا تقوم ترجمة الفاتحة مقامها ولا تجزئ الترجمة للعاجز عن العربية وعبارته في كتابه إلجام العوامو "ص 14 – 19" يذهب فيها مذهب المتشددين فيقول بوجوب إبقاء أسماء الله وصفاته والمتشابه من الحديث على ما هي عليه وعدم النطق بها وبألفاظ القرآن بغير العربية.

(2/169)


موقف الأزهر من ترجمة القرآن الكريم
منذ بضع سنوات اتجه الأزهر اتجاها قويا إلى بحث موضوع ترجمة القرآن الكريم وانتهى الأمر بعد طول النقاش والحوار إلى أن وقررت مشيخته الجليلة ترجمة تفسيره

(2/169)


وتألفت بالفعل لجنة من خيره علمائه ورجالات وزارة المعارف لوضع تفسير عربي دقيق للقرآن تمهيدا لترجمته ترجمة دقيقة بزساطة لجنة فنية مختارة وقد اجتمعت لجنة التفسير بضع مرات برياسة العلامة الباحث مفتي مصر الأكبر وكان نمن أثر هذه الاجتماعات أن وضعت دستورا تلتزمه في عملها العظيم ثم بعثت بهذا الدستور إلى كبار العلماء والجماعات الإسلامية في الأقطار الأخرى لتستطلعم آراءهم في هذا الدستور رغبة منها في أن يخرج هذا التفسير العربي في صورة ما أجمع عليه إلا يكنه.
وبما أن هذا الدستور قد حوى من ألوان الحيطة والحذر ما يتفق وجلال الغاية فإنا نعرض عليك هنا مواده وقواعده لتضيفها أنت إلى ما أبديناه من التحفظات السابقة وها هي تلك القواعد كما جاءت في مجلة الأزهر "648,649.من المجلد السابع":
1 - أن يكون التفسير خاليا ما أمكن من المصطلحات والمباحث العلمية إلا ما استدعاه فهم الآية.
2 - ألا يتعرض فيه للنظريات العلمية فلا يذكر مثلا التفسير العلمي للرعد والبرق عند آية فيها رعد وبرق ولا رأي الفلكيين في السماء والنجوم عند آية فيها سماء ونجوم إنما تفسير الآية بما يدل عليه اللفظ العربي ويوضح موضع العبرة والهداية فيها.
3 - إذا مست الحاجة إلى التوسع في تحقيق بعض المسائل وضعته اللجنة في حاشية التفسير.
4 - ألا تخضع اللجنة إلا لما عليه الآية الكريمة فلا تتقيد بمذهب معين من المذاهب الفقهية ولا مذهب معين من المذاهب الكلامية وغيرها ولا تتعسف في تأويل آيات المعجزات وأمور الآخرة ونحو ذلك.

(2/170)


5 - أن يفسر القرآن بقراءة حفص ولا يتعرض لتفسير قراءات أخرى إلا عند الحاجة إليها.
6 - أن يجتنب التكلف في ربط الآيات والسور بعضها ببعض.
7 - أن يذكر من أسباب النزول ما صح بعد البحث وأعان على فهم الآية.
8 - عند التفسير تذكر الآية كاملة أو الآيات إذا كانت كلها مرتبطة بموضوع واحد ثم تحرر معاني الكلمات وفي دقة ثم تفسر معاني الآية أو الآيات مسلسلة في عبارة واضحة قوية ويوضع سبب النزول والربط وما يؤخذ من الآيات في الوضع المناسب.
9 - ألا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع بين الآيات.
10 - يوضع في أوائل كل سورة ما تصل إليه اللجنة من بحثها في السورة أمكية هي أم مدينة وماذا في السورة المكية من آيات مدنية والعكس.
11 - توضع للتفسير مقدمة في التعريف بالقرآن وبيان مسلكه في كل ما يحتويه من فنونه كالدعوة إلى الله وكالتشريع والقصص والجدل ونحو ذلك كما يذكر فيها منهج اللجنة في تفسيرها
طريقة التفسير:
ورأت اللجنة بعد ذلك أن تضع قواعد خاصة بالطريقة التي تتبعها في تفسير معاني القرآن الكريم ننشرها فيما يلي:
1 - تبحث أسباب النزول والتفسير بالمأثور فتفحص مروياتها وتنقد ويدون الصحيح منها بالتفسير مع بيان وجه قوة القوي وضعف الضعيف من ذلك.

(2/171)


2 - تبحث مفردات القرآن الكريم بحثا لغويا وخصائص التراكيب القرآنية بحثا بلاغيا وتدون.
3 - تبحث آراء المفسرين بالرأي والتفسير بالمأثور ويختار ما تفسر الأية به مع بيان وجه رد المردود وقبول المقبول.
4 - وبعد ذلك كله يصاغ التفسير مستوفيا ما نص على استيفائه في الفقرة الثانية من القواعد السابقة وتكون هذه الصياغة بأسلوب مناسب لإفهام جمهرة المتعلمين خال من الإغراب والصنعة.

(2/172)


فذلكة المبحث
لقد انتهى بنا هذا المبحث كما ترى إلى حقائق مهمة اعتقد أنها إذا روعيت بإنصاف أزالت خلاف المختلفين في هذا الموضوع أو جعلته خلافا لفظيا لا يليق أن يكون مثارا لجدال ولا مجالا لنزاع فترجمة القران حرفية كانت أو تفسيرية غير تفسيره بلغة عربية أو أجنبية وتفسير القرآن بلغة أجنبية يساوي ترجمة التفسير العربي للقران الكريم وترجمة القران بالمعنى العرفي العام لا بد لتحقيقها من الوفاء بجميع معاني القران ومقاصده سواء أكانت ترجمه حرفية أم تفسيرية وما الفرق بين الحرفية والتفسيرية إلا شكلي هو مراعاة ترتيب الأصل ونظامه في الأولى دون الثانية وترجمه القران مشترك لفظي بين معان أربعة منها ما اتفقوا على جوازه وهو ترجمته بمعنى تبليغ ألفاظه وترجمته بمعنى تفسيره بلغة عربية ومنها ما يجب أن يتفقوا على منعه وهو ترجمته بمعنى نقله إلى لغة أجنبية مع الوفاء بجميع معانيه ومقاصده ومنها ما اختلف فيه ولكن الأدلة متضافرة على جوازه وهو ترجمته بمعنى تفسيره بلغة أجنبية مع استيفاء شروط التفسير والترجمة فيه ومع التحفظات التي أبديناها وأبدتها لجنة التفسير الأزهرية من قبل.

(2/172)


وتعجبني لهذه المناسبة كلمة للزركشي في كتابه البحر المحيط أسوقها إليك في الختام إذ قال:
مسألة لا يجوز ترجمة القرآن بالفارسية وغيرها بل يجب قراءته على هيئته التي يتعلق بها الإعجاز لتقصير الترجمة عنه ولتقصير غيره من الألسن عن البيان الذي خص به دون سائر الألسن قال الله تعالى: بلسان عربي مبين هذا لو لم يكن متحدى بنظمه وأسلوبه وإذا لم تجز قراءته بالتفسير العربي المتحدي بنظمه فأحرى ألا تجوز بالترجمة بلسان غيره ومن هنا قال القفال في فتاويه عندي أنه لا يقدر أحد أن يأتي بالقرآن بالفارسية قيل له فإذن لا يقدر أحد أن يفسر القرآن قال ليس كذلك لأن هناك يجوز أن يأتي ببعض مراد الله ويعجز عن البعض أما إذا أراد أن يقرأه بالفارسية فلا يمكن أن يأتي بجميع مراد الله.
وفرق غيره بين الترجمة والتفسير فقال يجوز تفسير الألسن بعضها ببعض لأن التفسير عبارة عما قام في النفس من المعنى للحاجة والضرورة والترجمة هي إبدال اللفظة بلفظة تقوم مقامها في مفهوم المعنى للسامع المعتبر لتلك الألفاظ فكأن الترجمة إحالة فهم السامع على الاعتبار والتفسير تعريف السامع بما فهم المترجم وهذا فرق حسن اهـ.
أحسن الله لنا الخاتمة وجمعنا جميعا على الحق والرشد وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} .

(2/173)