مناهل العرفان في علوم القرآن
المبحث الخامس عشر: في محكم القرآن ومتشابهه
معنى محكم القران ومتشابه
...
المبحث الخامس عشر في محكم القرآن ومتشابهه
المعنى اللغوي:
لهذين اللفظين إطلاقات في اللغة وإطلاقات في الاصطلاح فاللغويون
يستعملون مادة الإحكام بكسر الهمز في معان متعددة لكنها مع تعددها ترجع
إلى شيء واحد هو المنع فيقولون أحكم الأمر أي أتقنه ومنعه عن الفساد
ويقولون أحكمه عن الأمر أي رجعه عنه ومنعه منه ويقولون حكم نفسه وحكم
الناس أي منع نفسه ومنع الناس عما لا ينبغي ويقولون أحكم الفرس أي جعل
له حكمة بفتحات ثلاث والحكمة ما أحاط بحنكي الفرس من لجامة تمنعه من
الاضطراب وقيل: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} أي العدل
أو العلم أو الحلم أو النبوة أو القرآن لما في هذه المذكورات من
الحوافظ الأدبية عما لا يليق.
وكذلك يستعمل اللغويون مادة التشابه فيما يدل على المشاركة في المماثلة
والمشاكلة المؤدية إلى الالتباس غالبا يقال تشابها واشتبها أي أشبه كل
منهما الآخر حتى التبسا ويقال أمور مشتبهة ومشبهة على وزان معظمة أي
مشكلة والشبهة بالضم الالتباس ويقال شبه عليه الأمر تشبيها أي لبس عليه
بضم الأول وتشديد الثاني مع كسره في الفعلين ومنه قول الله سبحانه وصفا
لرزق الجنة {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} ومنه قول حكاية عن بني
إسرائيل: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} انظر القاموس في هاتين
المادتين.
(2/270)
القرآن
محكم ومتشابه:
ولقد جاء في القرآن الكريم ما يدل على أنه كله محكم إذ قال سبحانه:
{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} وجاء فيه ما يدل على أنه كله متشابه إذ
قال جل ذكره: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً
مُتَشَابِهاً} وجاء فيه ما يدل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه إذ قال
عز اسمه: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ
مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} ولا
تعارض بين هذه الإطلاقات الثلاثة لأن معنى إحكامه كله أنه منظم رصين
متقن متين لا يتطرق إليه خلل لفظي ولا معنوي كأنه بناء مشيد محكم يتحدى
الزمن ولا ينتابه تصدع ولا وهن ومعنى كونه كله متشابها أنه يشبه بعضه
بعضا في إحكامه وحسنه وبلوغه حد الإعجاز في ألفاظه ومعانيه حتى أنك لا
تستطيع أن تفاضل بين كلماته وآياته في هذا الحسن والإحكام والإعجاز
كأنه حلقة مفرغة لا يدري أين طرفاها.
وأما أن بعضه حكم وبعضه متشابه فمعناه أن من القرآن ما اتضحت دلالته
على مراد الله تعالى منه ومنه ما خفيت دلالته على هذا المراد الكريم
فالأول هو المحكم والثاني هو المتشابه على خلاف يأتي بين العلماء في
ذلك بيد أن الذي اتفقوا عليه ولا يمكن أن يختلفوا فيه هو أنه لا تنافي
بين كون القرآن كله محكما أي متقنا وبين كونه كله متشابها أي يشبه بعضه
بعضا في هذا الإتقان والإحكام وبين كونه منقسما إلى ما اتضحت دلالته
على مراد الله وما خفيت دلالته بل إن انقسامه هذا الانقسام محقق لما
فيه كله من إحكام وتشابه بالمعنى السابق وسيأتيك نبأ ذلك في بيان
الحكمة من وجود متشابهات خفية إلى جانب واضحات ظاهرة في القرآن الكريم.
ويمكنك أن ترجع هذه التأويلات إلى الإطلاقات اللغوية السالفة فالقرآن
كله محكم أي متقن لأن الله صاغه صياغة تمنع أن يتطرق إليه خلل أو فساد
في اللفظ أو المعنى والقرآن متشابه لأنه يماثل بعضه بعضا في هذا
الإحكام مماثلة مفضية إلى التباس التمييز بين آياته وكلماته في ذلك
والقرآن منه محكم أي واضح المعنى المراد وضوحا يمنع الخفاء عنه ومنه
متشابه فيه وجوه مختلفة من المماثلة مستلزمة لخفاء هذا المعنى المراد.
(2/271)
المعنى
الاصطلاحي:
يطلق المحكم في لسان الشرعيين على ما يقابل المنسوخ تارة وعلى ما يقابل
المتشابه تارة أخرى فيراد به على الاصطلاح الأول الحكم الشرعي الذي لم
يتطرق إليه نسخ ويراد به على الثاني ما ورد من نصوص الكتاب أو السنة
دالا على معناه بوضوح لا خفاء فيه على ما سيأتي تفصيله وموضوع بحثنا
هنا هو هذا الاصطلاح الثاني أما الأول فقد بيناه في المبحث السابق حيث
عرفنا النسخ وبسطنا أدلته وأحكامه وما قيل فيه ومنه يعرف مقابله وهو
المحكم وبضدها تتميز الأشياء وعلى هذا الاصطلاح يحمل ما أخرج عبد بن
عمير عن الضحاك قال المحكمات ما لم ينسخ والمتشابهات ما قد نسخ.
(2/272)
آراء العلماء في معنى المحكم والمتشابه
يختلف العلماء في تحديد معنى المحكم والمتشابه اختلافات كثيرة:
1 - منها أن المحكم هو الواضح الدلالة الظاهر الذي لا يحتمل النسخ أما
المتشابه فهو ا لخفي الذي لا يدرك معناه عقلا ولا نقلا وهو ما استأثر
الله تعالى بعلمه كقيام الساعة والحروف المقطعة في أوائل السور وقد عزا
الألوسي هذا الرأي إلى السادة الحنفية.
2 - ومنها أن المحكم ما عرف المراد منه إما بالظهور وإما بالتأويل أما
المتشابه فهو ما استأثر تعالى بعمله كقيام الساعة وخروج الدجال والحروف
المقطعة في أوائل السور وينسب هذا القول إلى أهل السنة على أنه هو
المختار عندهم.
3 - ومنها أن المحكم ما لا يحتمل إلا وجها واحدا من التأويل أما
المتشابه فهو ما احتمل أوجها ويعزى هذا الرأي إلى أن ابن عباس ويجري
عليه أكثر الأصوليين.
4 - ومنها أن المحكم ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان أما المتشابه
فهو الذي لا يستقل بنفسه بل يحتاج إلى بيان فتارة يبين بكذا وتارة يبين
بكذا لحصول الاختلاف في تأويله ويحكى هذا القول عن الإمام أحمد رضي
الله عنه.
(2/272)
5 - ومنها
أن المحكم هو السديد النظم والترتيب الذي يفضي إلى إثارة المعنى
المستقيم من غير مناف أما المتشابه فهو الذي لا يحيط العلم بمعناه
المطلوب من حيث اللغة إلا أن تقترن به أمارة أو قرينة ويندرج المشترك
في المتشابه بهذا المعنى وهو منسوب إلى إمام الحرمين.
6 - ومنها أن المحكم هو الواضح المعنى الذي لا يتطرق إليه إشكال مأخوذ
من الإحكام وهو الإتقان أما المتشابه فنقيضه وينتظم المحكم على هذا ما
كان نصا وما كان ظاهرا وينتظم المتشابه ما كان من الأسماء المشتركة وما
كان من الألفاظ الموهمة للتشبيه في حقه سبحانه وقد نسب هذا القول إلى
بعض المتأخرين ولكنه في الحقيقة رأي الطيبي إذ قال فيما حكى السيوطي
عنه:
المراد بالمحكم ما اتضح معناه والمتشابه بخلافه لأن اللفظ الذي يقبل
معنى إما أن يحتمل غيره أو لا الثاني النص والأول إما أن تكون دلالته
على ذلك الغير ارجح أو لا الأول الظاهر والثاني إما أن يكون مساويه أو
لا الأول هو المجمل والثاني المؤول فالمشترك بين النص والظاهر هو
المحكم والمشترك بين المجمل والمؤول هو المتشابه.
ويؤيد هذا التقسيم أنه تعالى أوقع المحكم مقابلا للمتشابه فالواجب أن
يفسر المحكم بما يقابله ويعضد ذلك أسلوب الآية وهو الجمع مع التقسيم
لأنه تعالى فرق ما جمع في معنى الكتاب بأن قال: {مِنْهُ آيَاتٌ
مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} وأراد أن
يضيف إلى كل منهما ما شاء فقال أولا: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} إلى أن قال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} وكان يمكن أن يقال: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ} استقامة فيتبعون المحكم لكنه وضع موضع ذلك
{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} لإتيان لفظ الرسوخ لأنه لا يحصل إلا
بعد التثبت العام والاجتهاد البليغ فإذا استقام القلب على طريق الرشاد
ورسخ القدم في العلم أفصح صاحبه النطق بالقول الحق وكفى بدعاء
(2/273)
الراسخين
في العلم: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا
وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}
شاهدا على أن {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} مقابل لقوله {فَأَمَّا
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} وفيه إشارة إلى أن الوقف تام على
قوله: {إِلَّا اللَّهَ} وإلى أن علم بعض المتشابه مختص بالله تعالى وأن
من حاول معرفته فهو الذي أشار إليه في الحديث بقوله: {فَاحْذَرْهُمْ}
اهـ.
وهو كلام نفيس كما تراه والحديث الذي نوه به أخرجه الشيخان وغيرهما عن
عائشة قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {هُوَ
الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} إلى قوله: {أُولُو
الْأَلْبَابِ} قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت
الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم" .
7 - ومنها أن المحكم ما كانت دلالته راجحة وهو النص والظاهر أما
المتشابه فما كانت دلالته غير راجحة وهو المجمل والمؤول والمشكل ويعزى
هذا الرأي إلى الإمام الرازي واختاره كثير من المحققين وقد بسطه الإمام
فقال ما خلاصته.
اللفظ الذي جعل موضوعا لمعنى إما إلا يكون محتملا لغيره أو يكون محتملا
لغيره الأول النص والثاني إما أن يكون احتماله لأحد المعاني راجحا
ولغيره مرجوحا وإما أن يكون احتماله لهما بالسوية واللفظ بالنسبة
للمعني الراجح يسمى ظاهرا بالنسبة للمعنى المرجوح يسمى مؤولا وبالنسبة
للمعنيين المتساويين أو المعاني المتساوية يسمى مشتركا وبالنسبة
لأحدهما على التعيين يسمى مجملا وقد يسمى اللفظ مشكلا إذا كان معناه
الراجح باطلا ومعناه المرجوح حقا.
إذا عرفت هذا فالمحكم ما كان دلالته راجحة وهو النص والظاهر لاشتراكهما
في حصول الترجيح إلا أن النص راجح مانع من الغير والظاهر راجح غير مانع
منه.
(2/274)
أما
التشابه فهو ما كانت دلالته غير راجحة وهو المجمل والمؤول والمشكل
لاشتراكها في أن دلالة كل منها غير راجحة وأما المشترك فإن أريد منه كل
معانيه فهو من قبيل الظاهر وإن أريد بعضها على التعيين فهو مجمل.
ثم إن صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لا بد فيه من
دليل منفصل وذلك الدليل المنفصل إما أن يكون لفظيا وإما أن يكون عقليا
والدليل اللفظي لا يكون قطعيا لأنه موقوف على نقل اللغات ونقل وجوه
النحو والتصريف وموقوف على عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم الإضمار وعدم
التخصيص وعدم المعارض العقلي والنقلي وكل ذلك مظنون والموقوف على
المظنون مظنون.
وعلى ذلك فلا يمكن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معنى مرجوح بدليل
لفظي في المسائل الأصولية الاعتقادية ولا يجوز صرفه إلا بواسطة قيام
الدليل القطعي العقلي على أن المعنى الراجح محال عقلا وإذا عرف المكلف
أنه ليس مراد الله تعالى فعند ذلك لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح
ما هو لأن طريقه إلى تعيينه إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز وبترجيح
تأويل على تأويل وذلك الترجيح لا يكون إلا بالدلائل اللفظية وهي لا
تفيد إلا الظن والتعويل عليها في المسائل القطعية لا يفيد لذا كان مذهب
السلف عدم الخوض في تعيين التأويل في المتشابه بعد اعتقاد أن ظاهر
اللفظ محال لقيام الأدلة العقلية القطعية على ذلك اهـ.
نظرة في هذه الآراء:
نحن إذا نظرنا في هذه الآراء لا نجد بينها تناقضا ولا تعارضا بل نلاحظ
بينها تشابها وتقاربا بيد أن رأي الرازي أهداها سبيلا وأوضحا بيانا لأن
أمر الإحكام والتشابه يرجع فيما نفهم إلى وضوح المعنى المراد للشارع من
كلامه وإلى عدم وضوحه وتعريف الرازي جامع مانع من هذه ا لناحية لا يدخل
في المحكم ما كان خفيا ولا في
(2/275)
المتشابه
ما كان جليا لأنه استوفى وجوه الظهور والخفاء استيفاء تاما في بيان
تقسيمه الذي بناه على راجح ومرجوح والذي أعلن لنا منه أن الراجح ما كان
واضحا لا خفاء فيه وأن المرجوح ما كان خفيا لا جلاء معه.
وقريب منه رأي الطيبي الذي قبله حتى كأنه هو غير أنه لم يستوف وجوه
الظهور والخفاء استيفاء الرازي أما رأي إمام الحرمين ففيه شيء من
الإبهام.
وكذلك رأي الإمام أحمد لا ندري ما مراده بالبيان الذي يحتاج إليه
المتشابه ولا يحتاج إليه المحكم؟.
ورأي ابن عباس يخرج الظاهر من المحكم ويدخله في المتشابه مع أنه من
الواضحات واحتماله لغير معناه الراجح احتمال ضعيف لا يقدح في ظهوره
ووضوحه.
والرأي الثاني بعكس الآية فيدخل في المحكم كثيرا من الخفيات ويقصر
المتشابه
على نوع واحد منها فيكون تعريف المحكم فيه غير مانع وتعريف المتشابه
غير جامع بالنسبة إلى المذهب المختار وهو مذهب الرازي.
والرأي الأول المنسوب إلى الأحناف يقصر تعريف المحكم على النص وتعريف
المتشابه ما استأثر الله بعلمه ويلزم عليه وجود واسطة لا تدخل في
المحكم ولا في المتشابه ويكون تعريفهما غير جامع بالنسبة للمذهب
المختار أيضا.
آراء أخرى:
واعلم أن وراء هذه الآراء آراء أخرى:
1 - منها أن المحكم هو الذي يعمل به أما المتشابه فهو الذي يؤمن به ولا
يعمل به
(2/276)
وقد روى
السيوطي هذا القول عن عكرمة وقتادة وغيرهما وفيه أن ذلك قصر للمحكم على
ما كان من قبيل الأعمال وقصر للمتشابه على ما كان من قبيل العقائد
وإطلاق القول فيهما على هذا الوجه غير سديد فإن أرادوا بالمحكم أنه هو
الواضح الذي يؤخذ بمعناه على التعيين وبالمتشابه ما كان خفيا يجب
الإيمان به دون تعيين لمعناه نقول إن أرادوا ذلك فالعبارة قاصرة عن
أداء هذا المراد والمراد منها لا يدفع الإيراد عليها.
2 - ومنها أن المحكم ما كان معقول المعنى والمتشابه بخلافه كأعداد
الصلوات واختصاص الصيام برمضان دون شعبان وفيه أن هذا التفسير قاصر عن
الوفاء بكل ما كان واضحا وكل ما كان خفيا.
3 - ومنها أن المحكم ما لم يتكرر لفظه والمتشابه ما تكرر لفظه وفيه أن
هذا المعنى بالنسبة إلى المتشابه أقرب إلى اللغة منه إلى الاصطلاح الذي
عليه الجمهور وفيه إهمال لما اعتبر هنا من أمر الخفاء والظهور.
4 - ومنها أن المحكم ما لم ينسخ والمتشابه ما نسخ وفيه أن هذا اصطلاح
آخر نوهنا به سابقا
ونظرا إلى أن هذه الآراء أضعف من تلك الآراء التي قدمناها وأبعد عنها
في ملحظها ومغزاها افردناها بالذكر ولم نسلكها مع تلك في سمط واحد.
وعلى كل حال فالأمر سهل وهين لأنه يرجع إلى الاصطلاح أو ما يشبه
الاصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح ولولا أن تفسير آية آل عمران التي مرت
في كلامنا وكلام الطيبي لا يتمشى بسهولة على هذه الآراء المرجوحة لما
أتعبنا أنفسنا في مناقشتها ونقدها وفي اختيار رأي الرازي من بينها.
(2/277)
منشأ التشابه وأقسامه وأمثلته
نعلم مما سبق أن منشأ التشابه إجمالا هو خفاء مراد الشارع من كلامه أما
تفصيلا فنذكر أن منه ما يرجع خفاؤه إلى اللفظ ومنه ما يرجع خفاؤه إلى
المعنى ومنه ما يرجع خفاؤه إلى اللفظ والمعنى معا.
فالقسم الأول وهو ما كان التشابه فيه راجعا إلى خفاء في اللفظ وحده منه
مفرد ومركب والمفرد قد يكون الخفاء فيه ناشئا من جهة غرابته أو من جهة
اشتراكه والمركب قد يكون الخفاء فيه ناشئا من جهة اختصاره أو من جهة
بسطه أو من جهة ترتيبه.
مثال التشابه في المفرد بسبب غرابته وندرة استعماله لفظ الأب بتشديد
الباء في قوله سبحانه: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} وهو ما ترعاه البهائم
بدليل قوله بعد ذلك: {مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} .
ومثال التشابه في المفرد بسبب اشتراكه بين معان عدة لفظ اليمين في قوله
سبحانه: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} أي فأقبل إبراهيم
على أصنام قومه ضاربا لها باليمين من يديه لا بالشمال أو ضاربا لها
ضربا شديدا بالقوة لأن اليمين أقوى الجارحتين أو ضاربا لها بسبب اليمين
التي حلفها ونوه بها القرآن إذ قال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ
أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} كل ذلك جائز ولفظ
اليمين مشترك بينها.
ومثال التشابه في المركب بسبب اختصاره قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ
النِّسَاءِ} فإن خفاء المراد فيه جاء من ناحية إيجازه والأصل وإن خفتم
ألا تقسطوا في اليتامى لو تزوجتموهن فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من
النساء ومعناه أنكم إذا تحرجتم من زواج اليتامى مخافة أن تظلموهن
فأمامكم غيرهن فتزوجوا
(2/278)
منهن ما
طاب لكم وقيل إن القوم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى ولا يتحرجون من
الزنى فأنزل الله الآية ومعناه إن خفتم الجور في حق اليتامى فخافوا
الزنى أيضا وتبدلوا به الزواج الذي وسع الله عليكم فيه فانكحوا ما طاب
لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع.
ومثال التشابه يقع في المركب بسبب بسطه والإطناب فيه قوله جلت حكمته
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فإن حرف الكاف لو حذف وقيل ليس مثله شيء
كان أظهر للسامع من هذا التركيب الذي ينحل إلى ليس مثل مثله شيء وفيه
من الدقة ما يعلو على كثير من الأفهام.
ومثال التشابه يقع في المركب لترتيبه ونظمه قوله جل ذكره {الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ
لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} فإن الخفاء هنا جاء من جهة الترتيب بين لفظ
{قَيِّماً} وما قبله ولو قيل أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له
عوجا لكان أظهر أيضا.
واعلم أن مقدمة هذا القسم فواتح السور المشهورة لأن التشابه والخفاء في
المراد منها جاء من ناحية ألفاظها لا محالة.
والقسم الثاني هو ما كان التشابه فيه راجعا إلى خفاء المعنى وحده مثاله
كل ما جاء في القرآن الكريم وصفا لله تعالى أو لأهوال القيامة أو لنعيم
الجنة وعذاب النار فإن العقل البشري لا يمكن أن يحيط بحقائق صفات
الخالق ولا بأهوال القيامة ولا بنعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار وكيف
السبيل إلى أن يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه وما يكن فينا مثله ولا
جنسه؟.
واعلم أن في مقدمة هذا القسم المشكلات المعروفة بمتشابهات الصفات فإن
التشابه
(2/279)
والخفاء
لم يجيء ناحية غرابة في اللفظ أو اشتراك فيه بين عدة معان أو إيجاز أو
إطناب مثلا فتعين أن يكون من ناحية المعنى وحده.
القسم الثالث وهو ما كان التشابه فيه راجعا في اللفظ والمعنى معا له
أمثلة كثيرة منها قوله عز اسمه: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا
الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} فإن من لا يعرف عادة العرب في الجاهلية لا
يستطيع أن يفهم هذا النص الكريم على وجهه ورد أن ناسا من الأنصار كانوا
إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطا ولا دارا ولا فسطاطا من باب فإن كان
من أهل المدر نقب نقبا في ظهر بيته يدخل ويخرج منه وإن كان من أهل
الوبر خرج من خلف الخباء فنزل قول الله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ
تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا, وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ
اتَّقَى, وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا, وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
فهذا الخفاء الذي في هذه الآية يرجع إلى اللفظ بسبب اختصاره ولو بسط
لقيل وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها إذا كنتم محرمين بحج أو
عمرة ويرجع الخفاء إلى المعنى أيضا لأن هذا النص على فرض بسطه كما رأيت
لا بد معه من معرفة عادة العرب في الجاهلية وإلا لتعذر فهمه.
قال الراغب في مفردات القرآن المتشابه بالجملة ثلاثة أضرب متشابه من
جهة اللفظ فقط ومن جهة المعنى فقط ومن جهتهما فالأول ضربان أحدهما يرجع
إلى الألفاظ المفردة إما من جهة الغرابة نحو الأب ويزفون أو الاشتراك
كاليد واليمين وثانيهما يرجع إلى جملة الكلام المركب وذلك ثلاثة أضرب
ضرب لاختصار الكلام نحو {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي
الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ} وضرب لبسطه نحو {لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ} لأنه لو قيل ليس مثله شيء كان أظهر للسامع وضرب لنظم الكلام
نحو {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ
وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً} تقديره أنزل على عبده الكتاب
قيما ولم يجعل له عوجا.
(2/280)
والمتشابه
من جهة المعنى أوصاف الله تعالى وأوصاف القيامة فإن تلك الأوصاف لا
تتصور لنا إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه أو ليس من جنسه.
والمتشابه من جهتهما خمسة أضرب الأول من جهة الكمية كالعموم والخصوص
نحو اقتلوا المشركين والثاني من جهة الكيفية كالوجوب والندب نحو
فانكحوا ما طاب لكم من النساء والثالث من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ
نحو اتقوا الله حق تقاته والرابع من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها
نحو {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا}
{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} فإن من لا يعرف عادتهم
في الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه الآية الخامس من جهة الشروط التي يصح
بها الفعل ويفسد كشروط الصلاة والنكاح وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل
ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم اهـ.
وهو كلام جيد غير أن في بعضه شيئا.
(2/281)
أنواع المتشابهات
يمكننا أن ننوع المتشابهات على ضوء ما سبق ثلاثة أنواع:
النوع الأول ما لا يستطيع البشر جميعا أن يصلوا إليه كالعلم بذات الله
وحقائق صفاته وكالعلم بوقت القيامة ونحوه من الغيوب التي استأثر الله
تعالى بها {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا
هُوَ} {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ
الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ
مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .
النوع الثاني ما يستطيع كل إنسان أن يعرفه عن طريق البحث والدرس
كالمتشابهات التي نشأ التشابه فيها من الإجمال والبسط والترتيب ونحوها
مما سبق.
(2/281)
النوع
الثالث ما يعلمه خواص العلماء دون عامتهم ولذلك أمثلة كثيرة من المعاني
العالية التي تفيض على قلوب أهل الصفاء والاجتهاد عند تدبرهم لكتاب
الله.
قال الراغب المتشابه على ثلاثة أضرب ضرب لا سبيل إلى الوقوف عليه كوقت
الساعة وخروج الدابة ونحو ذلك وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ
الغريبة والأحكام المغلقة وضرب متردد بين الأمرين يختص به بعض الراسخين
في العلم ويخفى على من دونهم وهو المشار إليه بقوله لابن عباس اللهم
فقهه في الدين وعلمه التأويل.
(2/282)
ثالثتها
ما ذكره الفخر الرازي بقوله إن القرآن يشتمل على دعوة الخواص والعوام
وطبائع العوام تنبوا في أكثر الأمور عن إدراك الحقائق فمن سمع من
العوام في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه ظن
أن هذا عدم ونفي محض فيقع في التعليل فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ
دالة على بعض ما يناسب ما تخيلوه وما توهموه ويكون ذلك مخلوطا بما يدل
على الحق الصريح فالقسم الأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر من باب
المتشابه والقسم الثاني وهو الذي يكشف عن الحق الصريح هو المحكم اهـ
وهذه الحكمة ظاهرة في متشابه الصفات.
رابعتها إقامة دليل على عجز الإنسان وجهالته مهما عظم استعداده وغزر
علمه وإقامة شاهد على قدرة الله الخارقة وأنه وحده هو الذي أحاط بكل
شيء علما وأن الخلق جميعا لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وهناك
يخضع العبد ويخشع ويطامن من كبريائه ويخنع ويقول ما قالت الملائكة
بالأمس: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ
أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} .
قال بعض العارفين العقل مبتلى باعتقاد أحقية المتشابه كابتلاء البدن
بأداء العبادة كالحكيم إذا صنف كتابا أجمل فيه أحيانا ليكون موضع خضوع
المتعلم لأستاذه وكالملك يتخذ علامة يمتاز بها من يطلعه على سره وقيل
لو لم يبتل العقل الذي هو أشرف البدن لاستمر العالم في أبهة العلم على
التمرد فبذلك يستأنس إلى التذلل بذل العبودية والمتشابه هو موضع خضوع
العقول لبارئها استسلاما واعترافا بقصورها ولهذا ختم الآية يريد آية:
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ
هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} بقوله: {وَمَا
يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} تعريضا للزائغين ومدحا
للراسخين ويعني من لم يتذكر ويتعظ ويخالف هواه فليس من أولي العقول
(2/283)
ومن ثم
قال الراسخون في العلم: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ
هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ
الْوَهَّابُ} فخضعوا لباريهم لاستنزال العلم اللدني بعد أن استعاذوا به
من الزيغ النفساني اهـ.
خامستها ما ذكره الفخر الرازي أيضا بقوله لو كان أي القرآن كله محكما
بالكلية لما كان مطابقا إلا لمذهب واحد وكان بصريحه مبطلا لجميع
المذاهب المخالفة له وذلك منفر لأرباب المذاهب الأخرى عن النظر فيه أما
وجود المتشابه والمحكم فيه فيطمع كل ذي مذهب أن يجد فيه كل ما يؤيد
مذهبه فيضطر إلى النظر فيه وقد يتخلص المبطل عن باطله إذا أمعن فيه
النظر فيصل إلى الحق.
يضاف إلى هذه الحكم الخمس ما ذكرناه عند الكلام على فواتح السور ودفع
الشبهات عنها بالجزء الأول من هذا الكتاب "ص 219 – 230" بالطبعة
الثانية.
وأما النوع الثاني والثالث من المتشابهات فتلوح لنا في ذكره واشتمال
القرآن عليه حكم خمس أيضا.
أولاها تحقيق إعجاز القرآن لأن كل ما استتبع فيه شيئا من الخفاء المؤدي
إلى التشابه له مدخل عظيم في بلاغته وبلوغه الطرف الأعلى في البيان ولو
أخذنا في شرح هذا لضاق بنا المقام وخرجنا جملة من هذا الميدان إلى
ميدان علوم البلاغة وما حوت من خواص وأسرار للإيجاز والإطناب والمساواة
والتقديم والتأخير والذكر والحذف والحقيقة والمجاز ونحو ذلك.
(2/284)
ثانيتها
تيسير حفظ القرآن والمحافظة عليه لأن كل ما احتواه من تلك الوجوه
المستلزمة للخفاء دال على معان كثيرة زائدة على ما يستفاد من أصل
الكلام ولو عبر عن هذه المعاني الثانوية الكثيرة بألفاظ لخرج القرآن في
مجلدات واسعة ضخمة يتعذر معها حفظه والمحافظة عليه: {قُلْ لَوْ كَانَ
الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ
تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} .
وكذلك يدرك القارئ لدقة القرآن وعلو أسلوبه روعة ولذة تغريه على قراءته
وتشجعه على استظهاره وحفظه.
ثالثتها ما ذكره الفخر الرازي بقوله متى كانت المتشابهات موجودة كان
الوصول إلى الحق أصعب وأشق وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب قال تعالى:
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} .
رابعتها ما ذكره الفخر أيضا بقوله باشتمال القرآن على المحكم والمتشابه
يضطر الناظر فيه إلى تحصيل علوم كثيرة مثل اللغة والنحو وأصول الفقه
مما يعينه على النظر والاستدلال فكان وجود المتشابه سببا في تحصيل علوم
كثيرة.
خامستها ما ذكره أيضا بقوله باشتمال القرآن على المحكم والمتشابه يضطر
الناظر فيه إلى الاستعانة بالأدلة العقلية فيتخلص من ظلمة التقليد وفي
ذلك تنويه بشأن العقل والتعويل عليه ولو كان كله محكما لما احتاج إلى
الدلائل العقلية ولظل العقل مهملا اهـ.
ملاحظة:
يمكن اعتبار بعض هذه الحكم في النوع الأول كما يمكن اعتبار بعض حكم
النوع الأول هنا لكن بشيء من التكليف ولقد راعينا ما يجب أن تراعيه من
أن بعض هذه الحكم لا تتأتى إلا في أنواع خاصة من المتشابهات ولكن
المجموع يتحقق في المجموع وذلك كاف في صحة هذا العرض فاكتف أنت به
ولاحظه وبالله تعالى التوفيق.
(2/285)
متشابه الصفات
عرفنا أن المتشابهات تجمع ألوانا مختلفة ونزيدك هنا أن من بينها لونين
كثر الكلام فيهما أولهما فواتح السور نحو آلم ق طس وما أشبهها وقد
أفضنا القول فيها بالمبحث السابع من الجزء الأول من هذا الكتاب ثانيهما
الآيات المشكلة الواردة في شأن الله تعالى وتسمى آيات الصفات أو متشابه
الصفات ولابن اللبان فيها تصنيف مفرد سماه رد المتشابهات إلى الآيات
المحكمات مثل قوله سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وما
أشبهه وإنما أفرد هذا النوع بالذكر وبالتأليف لأنه كثر فيه القيل
والقال وكان فتنة ارتكس فيها كثير من القدامى والمحدثين.
الرأي الرشيد في متشابه الصفات
علماؤنا أجزل الله مثوبتهم قد اتفقوا على ثلاثة أمور تتعلق بهذه
المتشابهات ثم اختلفوا فيما وراءها.
فأول ما اتفقوا عليه صرفها عن ظواهرها المستحيلة واعتقاد أن هذه
الظواهر غير مرادة للشارع قطعا كيف وهذه الظواهر باطلة بالأدلة القاطعة
وبما هو معروف عن الشارع نفسه في محكماته؟.
ثانيه أنه إذا توقف الدفاع عن الإسلام على التأويل لهذه المتشابهات وجب
تأويلها بما يدفع شبهات المشتبهين ويدر طعن الطاعنين.
ثالثه أن المتشابه إن كان له تأويل واحد يفهم منه فهما قريبا وجب القول
به إجماعا وذلك كقوله سبحانه: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}
فإن الكينونة بالذات مع الخلق مستحيلة قطعا وليس لها بعد ذلك إلا تأويل
واحد هو الكينونة معهم بالإحاطة علما وسمعا وبصرا وقدرة وإرادة.
(2/286)
وأما
اختلاف العلماء فيما وراء ذلك فقد وقع على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول مذهب السلف ويسمى مذهب المفوضة بكسر الواو وتشديدها وهو
تفويض معاني هذه المتشابهات إلى الله وحده بعد تنزيهه تعالى عن ظواهرها
المستحيلة ويستدلون على مذهبهم هذا بدليلين.
أحدهما عقلي وهو أن تعيين المراد من هذه المتشابهات إنما يجري على
قوانين اللغة واستعمالات العرب وهي لا تفيد إلا الظن مع أن صفات الله
من العقائد التي لا يكفي فيها الظن بل لا بد فيها من اليقين ولا سبيل
إليه فلنتوقف ولنكل التعيين إلى العليم الخبير.
والدليل الثاني نقلي يعتمدون فيه على عدة أمور منها حديث عائشة السابق
وفيه: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله
فاحذرهم
ومنها ما رواه الطبراني في الكبير عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال أن
يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن
يبتغي تأويله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} الحديث.
ومنها ما أخرجه ابن مردويه عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: "إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا
وما تشابه فآمنوا به".
ومنها ما أخرجه الدارمي عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له ابن صبيغ1
قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وقد أعد له
عراجين النخل فقال له:
__________
1 كذلك جاء اسم ابن صبيغ في كتاب الإتقان للسيوطي, بلفظ ابن, ويالغين
المجمعة في صبيغ مع صورة التصغير.
ولكني رأيت شيخ الإسلام المالكي بتونس وهو السيد محمد الطاهر بن عاشور,
يصوب في بحث له أن اسمه صبغ بن شريك أو ابن عسل التميمي من غير كلمة
ابن وبصاد مهملة مفتوحة, وباء مكسورة, وغين معجمة. ثم ذكر بعد هذا
التصويت أن كثيرا من الناس يحرفونه فيقولون ضبيع بضاد مجمعة, وعين
مهملة, وبصيغة التصغير ثم قال: ويقولون: أبو ضيبغ.
(2/287)
من أنت
فقال: أنا عبد الله بن صبيغ فأخذ عمر عرجونا فضربه حتى دمى رأسه وجاء
في رواية أخرى فضربه حتى ترك ظهره دبرة ثم تركه حتى برأ ثم عاد ثم تركه
حتى برأ فدعا به ليعود فقال إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا فأذن
له إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يجالسه أحد من المسلمين اهـ
والدبرة بفتحات ثلاثة هي قرحة الدابة في أصل الوضع اللغوي والمراد هنا
أنه صير في ظهره من الضرب جرح داميا كأنه قرحة في دابة ورضي الله عن
عمر فإن هذا الأثر يدل على أن ابن صبيغ فتح أو حاول أن يفتح باب فتنة
بتتبعه متشابهات القرآن يكثر الكلام فيها ويسأل الناس عنها.
ومنها ما ورد من أن الإمام مالكا رضي الله عنه سأل عن الاستواء في قوله
سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فقال الاستواء معلوم
والكيف مجهول والسؤال عن هذا بدعة وأظنك رجل سوء أخرجوه عني يريد رحمة
الله عليه أن الاستواء معلوم الظاهر بحسب ما تدل عليه الأوضاع اللغوية
ولكن هذا الظاهر غير مراد قطعا لأنه يستلزم التشبيه المحال على الله
بالدليل القاطع والكيف مجهول أي تعيين مراد الشارع مجهول لنا لا دليل
عندنا عليه ولا سلطان لنا به والسؤال عنه بدعة أي الاستفسار عن تعيين
هذا المراد اعتقاد أنه مما شرعه الله بدعة لأنه طريقة في الدين مخترعة
مخالفة لما أرشدنا إليه الشارع من وجوب تقديم المحكمات وعدم اتباع
المتشابهات وما جزاء المبتدع
(2/288)
إلا أن
يطرد ويبعد عن الناس خوف أن يفتنهم لأنه رجل سوء وذلك سر قوله: وأظنك
رجل سوء أخرجوه عني اهـ.
قال ابن الصلاح على هذه الطريقة مضى صدر الأمة وساداتها وإياها اختار
أئمة الفقهاء وقادتها وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه ولا أحد من
المتكلمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها اهـ.
المذهب الثاني مذهب الخلف ويسمى مذهب المؤولة بتشديد الواو وكسرها وهم
فريقان فريق يؤولها بصفات سمعية غير معلومة على التعيين ثابتة له تعالى
زيادة على صفاته المعلومة لنا بالتعيين وينسب هذا إلى أبي الحسن
الأشعري وفريق يؤولها بصفات أو بمعان نعلمها على التعيين فيحمل اللفظ
الذي استحال ظاهره من هذه المتشابهات على معنى يسوغ لغة ويليق بالله
عقلا وشعرا وينسب هذا الرأي إلى ابن برهان وجماعة من المتأخرين قال
السيوطي وكان إمام الحرمين يذهب إليه ثم رجع عنه فقال في الرسالة
النظامية الذي نرتضيه دينا وندين الله به عقدا اتباع سلف الأمة فإنهم
درجوا على ترك التعرض لمعانيها اهـ.
أما حجة أصحاب هذا المذهب فيما ذهبوا إليه فهو أن المطلوب صرف اللفظ عن
مقام الإهمال الذي يوجب الحيرة بسبب ترك اللفظ لا مفهوم له وما دام في
الإمكان حمل كلام الشارع على معنى سليم فالنظر قاض بوجوبه انتفاعا بما
ورد عن الحكيم العليم وتنزيها له عن أن يجري مجرى العجوز العقيم.
المذهب الثالث مذهب المتوسطين وقد نقل السيوطي هذا المذهب فقال وتوسط
ابن دقيق العيد فقال إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب لم ينكر أو
بعيدا توقفنا عنه وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد مع التنزيه وما كان
معناه من هذه الألفاظ
(2/289)
ظاهرها
مفهوما من تخاطب العرب قلنا به من غير توقف كما في قوله تعالى: {يَا
حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} فنحمله على حق الله
وما يجب له اهـ.
تطبيق وتمثيل:
ولنطبق هذه المذاهب على قوله سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوَى} فنقول يتفق الجميع من سلف وخلف على أن ظاهر الاستواء على
العرش وهو الجلوس عليه مع التمكن والتحيز مستحيل لأن الأدلة القاطعة
تنزه الله عن أن يشبه خلقه أو يحتاج إلى شيء منه سواء أكان مكانا يحل
فيه أم غيره وكذلك اتفق السلف والخلف على أن هذا الظاهر غير مراد لله
قطعا لأنه تعالى نفى عن نفسه المماثلة لخلقه وأثبت لنفسه الغنى عنهم
فقال ليس كمثله شيء وقال: {هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فلو أراد هذا
الظاهر لكان متناقضا.
ثم اختلف السلف والخلف بعد ما تقدم فرأى السلفيون أن يفوضوا تعيين معنى
الاستواء إلى الله هو أعلم بما نسبه إلى نفسه وأعلم بما يليق به ولا
دليل عندهم على هذا التعيين ورأى الخلف أن يؤولوا لأنه يبعد كل ا لبعد
أن يخاطب الله عباده بما لا يفهمون وما دام ميدان اللغة متسعا للتأويل
وجب التأويل بيد أنهم افترقوا في هذا التأويل فرقتين فطائفة الأشاعرة
يؤولون من غير تعيين ويقولون إن المراد من الآية إثبات أنه تعالى متصف
بصفة سمعية لا نعلمها على التعيين تسمى صفة الاستواء وطائفة المتأخرين
يعينون فيقولون إن المراد بالاستواء هنا هو الاستيلاء والقهر من غير
معاناة ولا تكلف لأن اللغة تتسع لهذا المعنى ومنه قول الشاعر العربي:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
أي استوى وقهر أو دبر وحكم فكذلك يكون معنى النص الكريم الرحمن
(2/290)
استولى
على عرش العالم وحكم العالم بقدرته ودبره بمشيئته وابن دقيق العيد يقول
بهذا التأويل إن رآه قريبا ويتوقف إن رآه بعيدا.
ومثل ذلك في نحو {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} {وَلِتُصْنَعَ عَلَى
عَيْنِي} {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} {وَالسَّمَاوَاتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}
{وَجَاءَ رَبُّكَ} {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} فالسلف يفوضون في
معانيها تفويضا مطلقا بعد تنزيه الله عن ظواهرها المستحيلة والأشاعرة
يفسرونها بصفات سمعية زائدة على الصفات التي نعلمها ولكنهم يفوضون
الأمر في تعيين هذه الصفات إلى الله فهم مؤولون من وجه مفوضون من وجه
والمتأخرون يفسرون الوجه بالذات ولفظ {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}
بتربية موسى ملحوظا بعناية الله وجميل رعايته ولفظ اليد بالقدرة ولفظ
اليمين بالقوة والفوقية بالعلو المعنوي دون الحسي والمجيء في قوله وجاء
ربك بمجيء أمره والعندية في قوله {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}
بالإحاطة والتمكن أو بمثل ذلك في الجميع.
إرشاد وتحذير:
لقد أسرف بعض الناس في هذا العصر فخاضوا في متشابه الصفات بغير حق
وأتوا في حديثهم عنها وتعليقهم عليها بما لم يأذن به الله ولهم فيها
كلمات غامضة تحتمل التشبيه والتنزيه وتحتمل الكفر والإيمان حتى باتت
هذه الكلمات نفسها من المتشابهات ومن المؤسف أنهم يواجهون العامة
وأشباههم بهذا ومن المحزن أنهم ينسبون ما يقولون إلى سلفنا الصالح
ويخيلون إلى الناس أنهم سلفيون من ذلك قولهم إن الله تعالى يشار إليه
بالإشارة الحسية وله من الجهات الست جهة الفوق ويقولون إنه استوى على
عرشه بذاته استواء حقيقا بمعنى أنه استقر فوقه استقرارا حقيقيا غير
أنهم يعودون فيقولون ليس كاستقرارنا وليس على ما نعرف وهكذا يتناولون
أمثال هذه الآية وليس لهم مستند فيما نعلم إلا التشبث بالظواهر ولقد
تجلى لك مذهب السلف والخلف فلا نطيل بإعادته
(2/291)
ولقد علمت
أن حمل المتشابهات في الصفات على ظواهرها مع القول بأنها باقية على
حقيقتها ليس رأيا لأحد من المسلمين وإنما هو رأي لبعض أصحاب الأديان
الأخرى كاليهود والنصارى وأهل النحل الضالة كالمشبهة والمجسمة أما نحن
معاشر المسلمين فالعمدة عندنا في أمور العقائد هي الأدلة القطعية التي
توافرت على أنه تعالى ليس جسما ولا متحيزا ولا متجزئا ولا متركبا ولا
محتاجا لأحد ولا إلى مكان ولا إلى زمان ولا نحو ذلك ولقد جاء القرآن
بهذا في محكماته إذ يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ويقول: {قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ويقول: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ
اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ
تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} ويقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ
الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}
وغير هذا كثير في الكتاب والسنة فكل ما جاء مخالفا بظاهره لتلك
القطعيات والمحكمات فهو من المتشابهات التي لا يجوز اتباعها كما تبين
لك فيما سلف.
ثم إن هؤلاء المتحمسين في السلف متناقضون لأنهم يثبتون تلك المتشابهات
على حقائقها ولا ريب أن حقائقها تستلزم الحدوث وأعراض الحدوث كالجسمية
والتجزؤ والحركة والانتقال لكنهم بعد أن يثبتوا تلك المتشابهات على
حقائقها ينفون هذه اللوازم مع أن القول بثبوت الملزومات ونفي لوازمها
تناقض لا يرضاه لنفسه عاقل فضلا عن طالب أو عالم فقولهم في مسألة
الاستواء الآنفة إن الاستواء باق على حقيقته يفيد أنه الجلوس المعروف
المستلزم للجسمية والتحيز وقولهم بعد ذلك ليس هذا الاستواء على ما نعرف
يفيد أنه ليس الجلوس المعروف المستلزم للجسمية والتحيز فكأنهم يقولون
إنه مستو غير مستو ومستقر فوق العرش غير مستقر أو متحيز غير متحيز وجسم
غير جسم أو أن الاستواء على العرش ليس هو الاستواء على العرش
والاستقرار فوقه ليس هو الاستقرار فوقه إلى غير ذلك من الإسفاف
والتهافت فإن أرادوا بقولهم الاستواء على حقيقته أنه على حقيقته التي
يعلمها الله ولا نعلمها نحن فقد اتفقنا لكن بقي أن تعبيرهم هذا موهم لا
يجوز أن يصدر
(2/292)
من مؤمن
خصوصا في مقام التعليم والإرشاد وفي موقف النقاش والحجاج لأن القول بأن
اللفظ حقيقة أو مجاز لا ينظر فيه إلى علم الله وما هو عنده ولكن ينظر
فيه إلى المعنى الذي وضع له اللفظ في عرف اللغة والاستواء في اللغة
العربية يدل على ما هو مستحيل على الله في ظاهره فلا بد إذن من صرفه عن
هذا الظاهر واللفظ إذا صرف عما وضع له واستعمل في غير ما وضع له خرج عن
الحقيقة إلى المجاز لا محالة ما دامت هناك قرينة مانعة من إرادة المعنى
الأصلي ثم إن كلامهم بهذه الصورة فيه تلبيس على العامة وفتنة لهم فكيف
يواجهونهم به ويحملونهم عليه وفي ذلك ما فيه من الإضلال وتمزيق وحدة
الأمة الأمر الذي نهانا القرآن عنه والذي جعل عمر يفعل ما يفعل بصبغ أو
بابن صبيغ وجعل مالكا يقول ما يقول ويفعل ما يفعل بالذي سأله عن
الاستواء وقد مر بك هذا وذاك.
لو أنصف هؤلاء لسكتوا عن الآيات والأخبار المتشابهة واكتفوا بتنزيه
الله تعالى عما توهمه ظواهرها من الحدوث ولوازمه ثم فوضوا الأمر في
تعيين معانيها إلى الله وحده وبذلك يكونوه سلفيين حقا لكنها شبهات عرضت
لهم في هذا المقام فشوشت حالهم وبلبلت أفكارهم فلنعرضها عليك مع ما
أشبهها والله يتولى هدانا وهداهم ويجمعنا جميعا على ما يحبه ويرضاه
آمين.
(2/293)
دفع الشبهات الواردة في هذا المقام
الشبهة الأولى ودفعها:
يقولون إن القول بأن الله لا جهة له وأنه ليس فوقا ولا تحتا ولا يمينا
ولا شمالا إلى غير ذلك يستلزم أن الله غير موجود أو هو قول بأن الله
غير موجود فإن التجرد من الإنصاف بهذه المتقابلات جملة أمر لا يوسم به
إلا المعدوم ومن لم يتشرف بشرف الوجود.
وندفع هذه الشبهة بأمور:
(2/293)
أولها أن
هذا قياس للغائب على الشاهد وقياس الغائب على الشاهد فاسد ذلك أن الله
تعالى ليس يشبه خلقه حتى يكون حكمه كحكمهم في وجوب أن يكون له جهة من
الجهات الست ما دام موجودا وكيف يقاس المجرد عن المادة بما هو مادي ثم
كيف يستوي الخلق وخلقه في جريان أحكام الخلق على خالقه إن المادي هو
الذي يجب أن يتصف بشيء من هذه المتقابلات وأن تكون له جهة من تلك
الجهات أما عين المادي فترتفع عنه هذه الصفات كلها ولا يمكن أن تكون له
أية جهة من هذه الجهات جميعها ونظير ذلك أن الإنسان لا بد أن يكون له
أحد الوصفين فإما جاهل وإما عالم أما الحجر فلا يتصف بواحد منها ألبتة
فلا يقال إنه جاهل ولا إنه عالم بل العلم والجهل مرتفعان عنه بل هما
ممتنعان عليه لا محالة لأن طبيعته تأبى قابليته لكليهما وهكذا تنتفي
المتقابلات كلها بانتفاء قابلية المحل لها أيا كانت هذه المتقابلات
وأيا كان هذا المحل الذي ليس قابلا لها فيمتنع مثلا أن توصف الدار
بأنها سمعية أو صماء وأن توصف الأرض بأنها متكلمة أو خرساء وأن توصف
السماء بأنها متزوجة أو أيم وهلم جرا.
ثانيا نقول لهؤلاء أين كان الله قبل أن يخلق العرش والفرش والسماء
والأرض وقبل أن يخلق الزمان والمكان وقبل أن تكون هناك جهات ست فإن
قالوا لم يكن له جهة ولا مكان نقول قد اعترفتم بما نقول نحن به وهو
الآن على ما عليه كان لا جهة له ولا مكان وإن زعموا أن العالم قديم
بقدم فقد تداووا من داء بداء واستجاروا من الرمضاء بالنار ووجب أن
ننتقل بهم إلى إثبات حدوث العالم والله هو ولي الهداية والتوفيق.
ثالثا نقول لهؤلاء إذا كنتم تأخذون بظواهر النصوص على حقيقتها فماذا
تفعلون بمثل قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} مع قوله:
{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} أتقولون إنه في
السماء حقيقة أم في الأرض حقيقة أم فيهما معا حقيقة وإذا كان في الأرض
وحدها حقيقة فكيف تكون له جهة فوق وإذا كان فيهما معا حقيقة فلماذا
يقال
(2/294)
له جهة
فوق ولا يقال له جهة تحت ولماذا يشار إليه فوق ولا يشار إليه تحت ثم
ألا يعلمون أن الجهات أمور نسبية فما هو فوق بالنسبة إلينا يكون تحتا
بالنسبة إلى غيرنا فأين يذهبون!
رابعا نقول لهؤلاء ماذا تقولون في قوله تعالى: يد الله فوق أيديهم
بإفراد اليد مع قوله لما خلقت بيدي بتثنيتها ومع قوله والسماء بنيناها
بأييد بجمعها فإذا كنتم تعلمون النصوص على ظواهرها حقيقة فأخبرونا أله
يد واحدة بناء على الآية الأولى أم له يدان اثنتان بناء على الآية
الثانية أما له أيد أكثر من اثنتين بناء على الآية الثالثة؟!
خامسا نقول لهؤلاء قد ورد في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول
من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له رواه
البخاري ومسلم وغيرهما فكيف تأخذون بظاهر هذا الخبر مع أن الليل مختلف
في البلاد باختلاف المشارق والمغارب وإذا كان ينزل لأهل كل أفق نزولا
حقيقيا في ثلث ليلهم الأخير فمتى يستوي على عرشه حقيقة كما تقولون ومتى
يكون في السماء حقيقة كما تقولون مع أن الأرض لا تخلو من الليل في وقت
من الأوقات ولا في ساعة من الساعات كما هو ثابت مسطور لا يمارى فيه إلا
جهول مأفون!
سادسا نقول لهؤلاء ما قاله حجة الإسلام الغزالي ونصه نقول للمتشبث
بظواهر الألفاظ إن كان نزوله من السماء الدنيا ليسمعنا نداءه فما
أسمعنا نداءه فأي فائدة في نزوله ولقد كان يمكنه أن ينادينا كذلك وهو
على العرش أو على السماء العليا فلا بد أن يكون ظاهر النزول غير مراد
وأن المراد به شيء آخر غير ظاهره وهل هذا إلا مثل من يريد وهو بالمشرق
إسماع شخص في المغرب فتقدم إلى المغرب بخطوات معدودة وأخذ يناديه وهو
يعلم أنه لا يسمع نداءه فيكون نقله الأقدام عملا باطلا وسعيه نحو
المغرب عبثا صرفا لا فائدة فيه وكيف يستقر مثل هذا في قلب عاقل اهـ.
(2/295)
الشبهة
الثانية ودفعها:
قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله في حاشيته على العقائد
العضدية فإن قلت إن كلام الله وكلام النبي صلى الله عليه وسلم مؤلف من
الألفاظ العربية ومدلولاتها معلومة لدى أهل اللغة فيجب الأخذ بمدلول
اللفظ كائنا ما كان.
قلت حينئذ لا يكون ناجيا إلا طائفا المجسمة الظاهريون القائلون بوجوب
الأخذ بجميع النصوص وترك طريق الاستدلال رأسا مع أنه لا يخفى ما في
آراء هذه الطائفة من الضلال والإضلال مع سلوكهم طريقا ليس يفيد اليقين
بوجه فإن للتخاطبات مناسبات ترد بمطابقتها فلا سبيل إلا الاستدلال
العقلي وتأويل ما يفيد بظاهره نقصا إلى ما يفيد الكمال وإذا صح التأويل
للبرهان في شيء صح في بقية الأشياء حيث لا فرق بين برهان وبرهان ولا
لفظ ولفظ.
وقال في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ
مُبَيِّنَاتٍ} إن الوحي من الله للنبي تنزيلا وإنزالا ونزولا لبيان علو
مرتبة الربوبية لا أن هناك نزولا حسيا من مكان مرتفع إلى مكان منخفض
ومن الغريب أنهم يقولون في الرد على هذا إن علو الله على خلقه حقيقة
أثبتها لنفسه في كتابه لا حاجة لتأويله بعلو مرتبة الربوبية وليت شعري
إذا لم نؤوله بعلو مرتبة الربوبية فماذا نريد منه وهل بقي بعد ذلك شيء
غير العلو الحسي الذي يستلزم الجهة والتحيز ولا يمكن نفي ذلك اللازم
عنه متى أردنا العلو الحسي فإن نفي التحيز عن العلو الحسي غير معقول
ولا معنى للاستلزام إلا هذا أما هم فينفون اللوازم ولا أدري كيف ننفي
اللوازم مع فرضها لوازم هذا خلف ولكن القول ليسوا أهل منطق والمتتبع
لكلامهم يجد فيه العبارات الصريحة في إثبات الجهة لله تعالى وقد كفر
العراقي وغيره مثبت الجهة لله تعالى وهو واضح لأن معتقد الجهة لا يمكنه
(2/296)
إلا أن
يعتقد التحيز والجسمية ولا يتأتى غير هذا فإن سمعت منهم سوى ذلك فهو
قول متناقض وكلامهم لا معنى له اهـ.
الشبهة الثالثة ودفعها:
نقل السيوطي عن بعضهم أنه قال إن قيل ما الحكمة في إنزال المتشابه ممن
أراد لعباده البيان والهدى قلنا إن كان أي المتشابه مما يمكن علمه فله
فوائد منها الحث للعلماء على النظر الموجب للعلم بغوامضه والبحث عن
دقائقه فإن استدعاء الهمم لمعرفة ذلك من أعظم القرب ومنها ظهور التفاضل
وتفاوت الدرجات إذ لو كان كله محكما لا يحتاج إلى تأويل ونظر لاستوت
منازل الخلق ولم يظهر فضل العالم على غيره وإن كان أي المتشابه مما لا
يمكن علمه أي بأن استأثر الله به فله فوائد منها ابتلاء العباد بالوقوف
عنده والتوقف فيه والتفويض والتسليم والتعبد بالاشتغال به من جهة
التلاوة كالمنسوخ وإن لم يجز العمل بما فيه وإقامة الحجة عليهم لأنه
لما نزل بلسانهم ولغتهم وعجزوا عن الوقوف اهـ على معناه مع بلاغتهم
وأفهامهم دل على أنه نزل من عند الله وأنه هو الذي أعجزهم عن الوقوف.
ونسترعي نظرك هنا إلى ما أسلفناه في الحكم الماضية ثم إلى ما ذكره ابن
اللبان في مقدمة كتابه رد الآيات المتشابهات إلى الآيات المحكمات إذ
قال ما خلاصته ليس في الوجود فاعل إلا الله وأفعال العباد منسوبة
الوجود إليه تعالى بلا شريك ولا معين فهي في الحقيقة فعله وله بها
عليهم الحجة {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} .
ومن المعلوم أن أفعال العباد لا بد فيها من توسط الجوارح مع أنها
منسوبة إليه تعالى وبذلك يعلم أن لصفاته تعالى في تجلياته مظهرين مظهر
عبادي منسوب لعباده وهو الصور والجوارح الجثمانية ومظهر حقيقي منسوب
إليه وقد أجرى عليه أسماء المظاهر العبادية
(2/297)
المنسوبة
لعباده على سبيل التقريب لأفهامهم والتأنيس لقلوبهم ولقد نبه في كتابه
تعالى على القسمين وأنه منزه عن الجوارح في الحالين فنبه على الأول
بقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} فهذا يفيد
أن كل ما يظهر على أيدي العباد فهو منسوب إليه تعالى ونبه على الثاني
بقوله فيما أخبر عنه نبيه صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: "ولا يزال
عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به
وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها" وقد حقق
الله ذلك لنبيه بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا
يُبَايِعُونَ اللَّهَ} وبقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} وبهذا يفهم ما جاء من الجوارح منسوبا إليه
تعالى فلا يفهم من نسبتها إليه تشبيه ولا تجسيم ولكن الغرض من ذلك
التقريب للأفهام والتأنيس للقلوب والواجب سلوكه إنما هو رد المتشابه
إلى المحكم على القواعد اللغوية وعلى مواضعات العرب وعلى ما كان يفهمه
الصحابة والتابعون من الكتاب والسنة اهـ ما أردنا نقله.
الشبهة الرابعة ودفعها:
نقل السيوطي أيضا عن الإمام فخر الدين الرازي أنه قال من الملحدة من
طعن في القرآن لأجل اشتماله على المتشابهات وقال إنكم تقولون إن تكاليف
الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة ثم إنا نراه بحيث يتمسك به
صاحب كل مذهب على مذهبه فالجبري متمسك بآيات الجبر كقوله تعالى:
َ{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي
آذَانِهِمْ وَقْراً} والقدري يقول هذا مذهب الكفار بدليل أنه تعالى حكى
عنهم ذلك في معرض الذم في قوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ
مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} وفي موضع آخر
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ومنكر الرؤية متمسك بقوله تعالى: {لا
تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} 1 ومثبت الجهة متمسك بقوله تعالى:
{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} {الرَّحْمَنُ
__________
1 يظهر أن هنا سقط لعله هكذا: ومثبن الرؤية متمسك بقوله تالى: {وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}.
(2/298)
عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوَى} والثاني متمسك بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ} ثم يسمي كل واحد الآيات الموافقة لمذهبه محكمة والآيات
المخالفة متشابهة وإنما آل في ترجيح بعضها على بعض إلى ترجيحات خفية
ووجوه ضعيفة فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في
كل الدين إلى يوم القيامة هكذا؟.
والجواب أن العلماء ذكروا لوقوع المتشابه فيه فوائد منها أنه يوجب مزيد
المشقة في الوصول إلى المراد وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب إلى آخر
ما نقلناه عنه فيما سبق من بيان حكم الله وأسراره في ذكر المتشابهات
فاجعلها على بال منك في رفع هذه الشبهة وأضف إليها ما نقلنا آنفا عن
ابن اللبان وما بسطناه في دفع الشبهات السالفة وارجع إلى ما كتبناه في
مثل هذا المقام بالمبحث السابع من هذا الكتاب.
الشبهة الخامسة ودفعها:
قال السيوطي في كتابه الإتقان أورد بعضهم سؤالا وهو أنه هل للمحكم مزية
على المتشابه أو لا فإن قلتم بالثاني فهو خلاف الإجماع وإلا فقد نقضتم
أصلكم في أن جميع كلامه سبحانه سواء وإنه منزل بالحكمة.
وأجاب أبو عبد الله النكرباذي بأن المحكم كالمتشابه من وجه ويخالفه من
وجه فيتفقان في أن الاستدلال بهما لا يمكن إلا بعد معرفة حكمة الواضع
وأنه لا يختار القبيح ويختلفان في أن المحكم بوضع اللغة لا يحتمل إلا
الوجه الواحد فمن سمعه أمكنه أن يستدل به في الحال والمتشابه يحتاج إلى
فكرة ونظر ليحمله على الوجه المطابق ولأن المحكم أصل والعلم بالأصل
أسبق ولأن المحكم يعلم مفصلا والمتشابه لا يعلم إلا مجملا اهـ.
(2/299)
أقول:
ويمكن دفع هذه الشبهة بوجه أقرب وهو أن المحكم له مزية على المتشابه
لأنه بنص القرآن هو أم الكتاب على ما سلف بيانه والاعتراض بأن هذا ينقض
الأصل المجمع عليه وهو أن جميع كلامه سبحانه سواء وأنه منزل بالحكمة
الاعتراض بهذا ساقط من أساسه لأن المساواة بين كلام الله إنما هي في
خصائص القرآن العامة ككونه منزلا على النبي صلى الله عليه وسلم بالحق
وبالحكمة وكونه متعبدا بتلاوته ومتحدي بأقصر سورة منه ومكتوبا في
المصاحف ومنقولا بالتواتر ومحرما حمله ومسه على الجنب ونحو ذلك
والمساواة في هذه الخصائص لا تنافي ذلك الامتياز الذي امتازت به
المحكمات وكيف يتصور التنافي على حين أن كلا من المحكم والمتشابه له
حكمه وله مزاياه فمزية المحكم أنه أم الكتاب إليه ترد المتشابهات ومزية
المتشابه أنه محك الاختبار والابتلاء ومجال التسابق والاجتهاد إلى غير
ذلك من الفوائد التي عرفتها ثم كيف يتصور هذا التنافي والقرآن كله
مختلف باختلاف موضوعاته وأحواله فمنه عقائد وأحكام وأوامر ونواه
وعبادات وقصص وتنبؤات ووعد ووعيد وناسخ ومنسوخ وهلم مما يستنفد ذكره
وقتا طويلا ولا ريب أن كل نوع من هذه الأنواع له مزيته أو خاصته التي
غاير بها الآخر وإن اشترك الجميع بعد ذلك في أنها كلها أجزاء للقرآن
متساوية في القرآنية وخصائصها العامة وخلاصة هذا الجواب أن اميتاز
المحكم على المتشابه في أمور ومساواته إياه في أمور أخرى فلا تناقض ولا
تعارض كما أن كل عضو من أعضاء جسم الإنسان له مزيته وخاصته التي صار
بها عضوا والكل بعد ذلك يساوي الآخر في أنه جزء للإنسان في خصائصه
العامة من حسن وحياة.
الشبهة السادسة ودفعها:
يقولون إن الناظر في موقف السلف والخلف من المتشابه يجزم بأنهم جميعا
مؤولون لأنهم اشتركوا في صرف ألفاظ المتشابهات عن ظواهرها وصرفها عن
ظواهرها تأويل لها
(2/300)
لا محالة
وإذا كانوا جميعا مؤولين فقد وقعوا جميعا فيما نهى الله عنه وهو اتباع
المتشابهات بالتأويل إذ وصف سبحانه هؤلاء بأن في قلوبهم زيغا فقال في
الآية السابقة: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ
فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ
وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} .
وندفع هذه الشبهة أولا بأن القول بكون السلف والخلف مجمعين على تأويل
المتشابه قول له وجه من الصحة لكن بحسب المعنى اللغوي أو ما يقرب من
المعنى اللغوي أما بحسب الاصطلاح السائد فلا لأن السلف وإن وافقوا
الخلف في التأويل فقد خالفوهم في تعيين المعنى المراد باللفظ بعد صرفه
عن ظاهره وذهبوا إلى التفويض المحض بالنسبة إلى هذا التعيين أما الخلف
فركبوا متن التأويل إلى هذا التعيين كما سبق تفصيله.
ثانيا أن القول بأن السلف واخلف جميعا وقعوا بتصرفهم السابق فيما نهى
الله عنه قول خاطئ واستدلالهم عليه بالآية المذكورة استدلال فاسد لأن
النهي فيها إنما هو عن التأويل الآثم الناشئ عن الزيغ واتباع الهوى
بقرينة قوله سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} أي
ميل عن الاستقامة والحجة إلى الهوى والشهوة أما التأويل القائم على
تحكيم البراهين القاطعة واتباع الهداية الراشدة فليس من هذا القبيل
الذي حظره الله وحرمه وكيف ينهانا عنه وقد أمرنا به ضمنا بإيجاب رد
المتشابهات إلى المحكمات إذ جعل هذه المحكمات هي أم الكتاب على ما سبق
بيانه ثم كيف يكون مثل هذا التأويل الراشد محرما وقد دعا به الرسول صلى
الله عليه وسلم لابن عباس فقال في الحديث المشهور اللهم فقهه في الدين
وعلمه التأويل؟.
ويتلخص من هذا أن الله أرشدنا في الآية إلى نوع من التأويل وهو ما يكون
به رد المتشابهات إلى المحكمات ثم نهانا عن نوع آخر منه وهو ما كان
ناشئا عن الهوى والشهوة لا على البرهان والحجة قصدا إلى الضلال والفتنة
وهما لونان مختلفان وضربان بعيدان بينهما برزخ لا يبغيان.
(2/301)
وإذن فمن
لم يصرف لفظ المتشابه عن ظاهره الموهم للتشبيه أو المحال فقد ضل
كالظاهرية والمشبهة ومن فسر لفظ المتشابه تفسيرا بعيدا عن الحجة
والبرهان قائما على الزيغ والبهتان فقد ضل أيضا كالباطنية والإسماعيلية
وكل هؤلاء يقال فيهم إنهم متبعون للمتشابه ابتغاء الفتنة أما من يؤول
المتشابه أي يصرفه عن ظاهره بالحجة القاطعة لا طلبا للفتنة ولكن منعا
لها وتثبيتا للناس على المعروف من دينهم وردا لهم إلى محكمات الكتاب
القائمة وأعلامه الواضحة فأولئك هم الهادون المهديون حقا وعلى ذلك درج
سلف الأمة وخلفها وأئمتها وعلماؤها روي عن البخاري عن سعيد بن جبير أن
رجلا قال لابن عباس إنني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال ما هو قال:
{فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} وقال:
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} وقال: {وَلا
يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} وقال: {قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا
كُنَّا مُشْرِكِينَ} قال ابن عباس {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} في
النفخة الأولى {وَلا يَتَسَاءَلُونَ} ثم في النفخة الثانية {أَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} فأما قوله: {وَاللَّهِ
رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم
فيقول المشركون تعالوا نقول ما كنا مشركين فيختم الله على أفواههم
فتنطق جوارحهم بأعمالهم فعند ذلك {لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً}
إلى آخر الحديث نسأل الله أن يسلمنا وأن يهدينا سواء الصراط وصلى الله
على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آهل وصحبه وسلم آمين.
(2/302)
|