مناهل العرفان في علوم القرآن

المبحث السادس عشر: في اسلوب القران الكريم
معنى الاسلوب
...
المبحث السادس عشر: في أسلوب القرآن الكريم
الأسلوب في اللغة:
يطلق الأسلوب في لغة العرب إطلاقات مختلفة فيقال للطريق بين الأشجار وللفن وللوجه وللمذهب وللشموخ بالانف ولعنق الأسد ويقال لطريقة المتكلم في كلامه

(2/302)


أيضا وأنسب هذه المعاني بالاصطلاح الآتي هو المعنى الأخير أو هو الفن أو المذهب لكن مع التقييد.
الأسلوب في الاصطلاح:
تواضع المتأدبون وعلماء العربية على أن الأسلوب هو الطريقة الكلامية التي يسلكها المتكلم في تأليف كلامه واختيار ألفاظه أو هو المذهب الكلامي الذي انفرد به المتكلم في تأدية معانيه ومقاصده من كلامه او هو طابع الكلام أو فنه الذي انفرد به المتكلم كذلك.
معنى أسلوب القرآن:
وعلى هذا فأسلوب القرآن الكريم هو طريقته التي انفرد بها في تأليف كلامه واختيار ألفاظه ولا غرابة أن يكون للقرآن الكريم أسلوب خاص به فإن لكل كلام إلهي أو بشري أسلوبه الخاص به وأساليب المتكلمين وطرائقهم في عرض كلامهم من شعر أو نثر تتعدد بتعدد أشخاصهم بل تتعدد في الشخص الواحد بتعدد الموضوعات التي يتناولها والفنون التي يعالجها.
الأسلوب غير المفردات والتراكيب:
ونلفت نظرك إلى أن الأسلوب غير المفردات والتراكيب التي يتألف منها الكلام وإنما هو الطريقة التي انتهجها المؤلف في اختيار المفردات والتراكيب لكلامه.
وهذا هو السر في أن الأساليب مختلفة باختلاف المتكلمين من ناثرين وناظمين مع أن المفردات التي يستخدمها الجميع واحدة والتراكيب في جملتها واحدة وقواعد صوغ المفردات وتكوين الجمل واحدة وهذا هو السر أيضا في أن القرآن لم يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية من حيث ذوات المفردات والجمل وقوانينها العامة بل جاء كتابا عربيا جاريا على مألوف العرب من هذه الناحية فمن حروفهم تألفت كلماته ومن كلماتهم

(2/303)


تألفت تراكيبه وعلى قواعدهم العامة في صياغة هذه المفردات وتكوين التراكيب جاء تأليفه ولكن المعجز والمدهش والمثير لأعجب العجب أنه مع دخوله على العرب من هذا الباب الذي عهدوه ومع مجيئه بهذه المفردات والتراكيب التي توافروا على معرفتها وتنافسوا في حلبتها وبلغوا الشأو الأعلى فيها نقول إن القرآن مع ذلك كله وبرغم ذلك كله قد أعجزهم بأسلوبه الفذ ومذهبه الكلامي المعجز ولو دخل عليهم من غير هذا الباب الذي يعرفونه لأمكن أن يلتمس لهم عذر أو شبه عذر وأن يسلم لهم طعن أو شبه طعن {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} ولهذا المعنى وصف الله كتابه بالعروبة في غير آية فقال جل ذكره في سورة يوسف {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقال في سورة الزخرف: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقال في سورة الزمر: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .
مثال لهذا الفارق:
وبما أن الأمر قد اشتبه على بعض الناس حتى ضلوا فيه أو كادوا نمثل للفرق ين الأسلوب وبين المفردات والتركيب بمثالين حسيين أحدهما صناعة الخياطة والآخر صناعة الصيدلة أو تحضير العقاقير والأدوية فالخياطون يختلفون فيما بينهم اختلافا بعيدا ما بين خامل ونابه في صنعته وضعيف وبارع في حرفته وهذا الاختلاف لم يجيء من ناحية مواد الثياب المخيطة ولا من ناحية الآلات والأدوات والطرق العامة التي تستخدم في الخياطة إنما جاء الاختلاف من جهة الطريقة الخاصة التي اتبعت في اختيار هذه المواد وتأليفها واستخدام قواعد هذه الصناعة في شكلها وهندستها وكذلك الصيادلة يختلفون فيما بينهم نباهة وخمولا وبراعة وقصورا لا من حيث مواد الأدوية وعناصرها ولا من حيث القواعد الفنية العامة في تركيبها بل من حيث حسن اختيار هذه المواد ودقة تطبيق هذه القواعد في تحضير العقاقير والأدوية حتى لقد نشاهد أن مزاج الجيد منها وأثره ونفعه يختلف بوضوح عن مزاج الرديء منها وأثره وضرره وقل مثل هذا في كل ما حولك من صناعات يختلف فيها الصناعون ومصنوعاتهم جودة ورداءة مع اتحاد مواد الصناعة الأولى وقواعدها العامة في الجميع

(2/304)


لذالكم البيان اللغوي في أية لغة ما هو إلا صناعة موادها وقواعدها واحدة في المفردات والتراكيب ولكن البيان يختلف بعد ذلك باختلاف الطرائق والأساليب وإن شئت فقل يختلف باختلاف الأذواق والمواهب التي انتقت هذه المفردات اللغوية واصطفت تلك الجمل التركيبية حتى إنك لترى أهل اللغة الواحدة يؤدون الغرض الواحد بوجوه مختلفة من المفردات ومذاهب شتى من التراكيب يتفاوت حظها من الجودة والرداءة ومن الحسن والدمامة ومن القبول والرد بمقدار ما بينهم من اختلاف في طرائق اختيارهم لما اختاروه من مواد اللغة إفرادا وتركيبا ولما لاحظوه من المناسبات مع هذا الاختيار فإذا سلم ذوق المتكلم وسمت حاسته البيانية حسن اختياره وسما كلامه سموا قد يأخذ عليك حسك ويملك قلبك ولبك وإذا فسد ذوق المتكلم وانحطت حاسته البيانية ساء اختياره ونزل كلامه نزولا قد تتقزز منه نفسك ويتأذى به سمعك وربما فررت منه وأنت تتمثل بقول الشاعر:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى ... وصوت إنسان فكدت أطير
بيان ذلك في اللغة العربية:
بيان ذلك في لغتنا المحبوبة العربية أن مفرداتها منها متآلف في حروفه ومتنافر وواضح مستأنس وخفي غريب ورقيق خفيف على الأسماع وثقيل كرية تمجه الأسماع وموافق لقياس اللغة ومخالف له ثم من هذه المفردات عام وخاص ومطلق ومقيد ومجمل ومبين ومعرف ومنكر وظاهر ومضمر وحقيقة ومجاز وكذلك التراكيب العربية منها ما هو حقيقة ومجاز ومنها متآلف الكلمات ومتنافرها وواضح المعاني ومعقدها وموافق للقياس اللغوي والخارج عليه ومنها الاسمية والفعلية والخبرية والإنشائية وفيها النفي والإثبات والإيجاز والإطناب والتقديم والتأخير والفصل والوصل إلى غير ذلك مما هو مفصل في علوم اللغة وكتبها.

(2/305)


ثم إن ما يؤيده معهود اللغة من المتنوعات المذكورة وما أشبهها هو المسلك العام الذي ينفذ منه المتكلمون إلى أغراضهم ومقاصدهم ولكن ليس شيء من هذه المتنوعات بالذي يحسن استعماله إطلاقا ولا شيء منها بالذي يسوء استعماله إطلاقا أي في كافة الأحوال وجميع المقامات بل لكل مقام مقال فما يجعل في موطن قد يقبح في موطن آخر وما يجب في مقام قد يمتنع في مقام آخر ولولا هذا لكان الوصول إلى الطرف الأعلى من البلاغة هينا ولأصبح كلام الناس لونا واحدا وطعما واحدا ولكن الأمر يرجع إلى حسن الاختيار من هذه المتنوعات بحسب ما يناسب الأحوال والمقامات فخطاب الأذكياء غير خطاب الأغبياء وموضوع العقائد التي يتحمس لها الناس غير موضوع القصص وميدان الجدل الصاخب غير مجلس التعليم الهادئ ولغة الوعد والتبشير غير لغة الوعيد والإنذار إلى غير ذلك مما يجعل اختيار المناسبات عسيرا ضرورة أن الإحاطة بجميع أحوال المخاطبين قد تكون متعسرة أو متعذرة ومما يجعل اللفظ الواحد في موضع من المواضع كأنه نجمة وضاءة لامعة وفي موضع آخر كأنه نكتة سوداء مظلمة.
ولعلمائنا أكرمهم الله أذواق مختلفة في استنباط الفروق الدقيقة بين استعمال حرف أو كلمة مكان حرف أو كلمة ومن السابقين في حلبة هذا الاستنباط الخطيب الإسكافي المتوفى سنة 412هـ في كتابه درة التنزيل وغرة التأويل وهاك مثالا منه يفيدنا فيما نحن فيه إذ يتحدث عن سر التعبير بالفاء في لفظ {كُلُوا} من قوله سبحانه في سورة البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} وعن سر التعبير بالواو لا بالفاء في لفظ {كُلُوا} أيضا لكن من قوله سبحانه في سورة الأعراف: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ} مع أن القصة واحدة ومدخول الحرف واحد قال رحمه الله الأصل أن كل فعل عطف عليه ما تعلق به تعلق الجواب بالابتداء وكان الأول مع الثاني بمعنى الشرط والجزاء فالأصل فيه عطف الثاني على الأول بالفاء ومنه {وَإِذْ قُلْنَا

(2/306)


ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا} فإن وجود الأكل متعلق بالدخول والدخول موصل إلى الأكل فالأكل وجوده معلق بوجوده بخلاف {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا} لأن السكنى مقام مع طول لبث والأكل لا يختص وجوده بوجوده لأن من يدخل بستانا قد يأكل منه مجتازا فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجواب بالابتداء وجب العطف بالواو دون الفاء اهـ.
تفاوت القوى والقدر:
ولا ريب أن القوى والقدر تتفاوت تفاوتا بعيدا فيما نعرف من الأحوال ومناسباتها وأن ميدان الاختيار فسيح مليء بشتى الألوان والصور للمفردات ومركباتها فماذا عسى أن تبلغ قدرة الإنسان في استعراض كل هذه الألوان والصور وفي إقامة ميزان دقيق بينها تمهيدا لحسن الاختيار على ضوء تلك الأحوال المقتضية لما ينبغي أن يكون منها هنا ينفسح المجال ثم ينفسح فما يهتدي إليه متكلم قد يغفل عنه متكلم وما يتيقظ له كاتب قد يغفل عنه كاتب وما يدركه شاعر قد يفوت شاعرا آخر بل ما يدركه الإنسان الواحد في موضع قد يخطئه في موضع سواه وهكذا.
وليس من غرضنا هنا أن نستقصي الأحوال والمناسبات ولا أن نضرب الأمثال والشواهد لكل حال وما يناسبها فلذلك محله من علوم اللغة وكتبها كما قلنا ولكن الذي نريد أن نضع يدك عليه في هذا المقام هو أن أسلوب أي كلام بليغ معناه صورته الفنية أو طابعه الخاص أو مزاجه الشخصي الذي تهيأ له برعاية صاحبه لجملة الأحوال ومناسباتها في هذا الكلام وأنه على حسب ما تحتوي أساليب الكلام من الأحوال والمناسبات يتفاوت هذا الكلام في درجات البلاغة علوا ونزولا وفي حظه عند السامعين ردا وقبولا وأنه لم يظفر الوجود بكلام إلهي ولا بشري بلغ الطرف الأعلى في البلاغة ووصل إلى قمة الإعجاز من هذه الناحية غير القرآن الكريم لأن منشئ هذا الكتاب هو وحده الذي تعلقت إرادته بأن تكون معجزة نبي الإسلام من هذا الطراز لحكمة شرحناها وقد تعرض لها فيما يأتي ولأنه سبحانه هو الذي انتهت إليه الإحاطة بجميع أحوال الخلق وحده

(2/307)


ولأنه عز سلطانه هو القادر وحده على تضمين كلامه كل المناسبات التي اقتضتها تلك الأحوال الكثيرة التي لم يحط ولن يحيط بها سواه ومن الذي يستطيع أن يحيط بكل أحوال الخلق وفيها الخفي الذي لا يعلمه إلا من يعلم السر وأخفي ثم من ذا الذي يستطيع أن يحيط بكل أحوال الخلق وهم أجيال متعددة منهم من لم يخلقوا وقت نزول القرآن ومنهم من لم يعرفوا لنا إلى الآن بعد بضعة عشر قرنا من نزول هذا القرآن وأنت خبير بأن القرآن هو كتاب الساعة الذي يخاطب الأجيال كافة حتى يرث الله الأرض ومن عليها فلا غرو أن يضمنه منزله كل ما تحتاج إليه الأمم على اختلاف أجيالها من المناسبات الملائمة لأحوالهم وليس ذلك في قدرة أحد إلا العليم بأسرار الخلق وخفيات السموات والأرض {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} .
ومن شواهد ما نذكر أننا نلاحظ في كثير من ألفاظ القرآن أنها اختيرت اختيارا يتجلى فيه وجه الإعجاز من هذا الاختيار وذلك في الألفاظ التي نمر بها على القرون والأجيال منذ نزل القرآن إلى اليوم فإذا بعض الأجيال يفهم منها ما يناسب تفكيره ويلائم ذوقه ويوائم معارفه وإذا أجيال أخرى تفهم من هذه الألفاظ عينها غير ما فهمته تلك الأجيال ولو استبدلت هذه الألفاظ بغيرها لم يصلح القرآن لخطاب الناس كافة وكان ذلك قدحا في أنه كتاب الدين العام الخالد ودستور البشرية في كل عصر ومصر فسبحان من أنزل هذا القرآن مشبعا لحاجات الجميع وافيا تجارب الجميع ملائما لأذواق الجميع متفقا ومعارف الجميع مما يدل دلالة واضحة على أنه كلام الله وحده أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا.
ولعل لنا عودة لمثل هذا الكلام في فرصة أخرى فلنمسك القلم عن الجولان في هذا الميدان ولنرجع عودا على بدء إلى أسلوب القرآن ولنذكر شيئا من خصائص

(2/308)


أسلوب القرآن ومزاياه التي انفرد بها وكانت هي السر في إعجازه اللغوي أو البلاغي أو الأسلوبي.

(2/309)


خصائص أسلوب القرآن:
إن الخصائص التي امتاز بها أسلوب القرآن والمزايا التي توافرت فيه حتى جعلت له طابعا معجزا في لغته وبلاغته أفاض العلماء فيها بين مقل ومكثر ولكنهم بعد أن طال بهم المطاف وبعد أن دميت أقدامهم وحفيت أقلامهم لم يزيدوا على أن قدموا إلينا قلا من كثره وقطرة من بحر معترفين بأنهم عجزوا عن الوفاء وأن ما خفي عليهم فلم يذكروه أكثر مما ظهر لهم فذكروه وأنهم لم يزيدوا على أن قربوا لنا البعيد بضرب من التمثيل رجاء الإيضاح والتبيين أما الاستقصاء والإحاطة بمزايا الأسلوب القرآني وخصائصه على وجه الاستيعاب فأمر استأثر به منزله الذي عنده علم الكتاب.
وإذن فلنذكر نحن بدورنا شيئا من خصائص أسلوب القرآن على وجه التمثيل والتقريب أيضا وما لا يدرك كله لا يترك أقله.
الخاصة الأولى:
مسحة القرآن اللفظية فإنها مسحة خلابة عجيبة تتجلى في نظامه الصوتي وجماله اللغوي.
1 - ونريد بنظام القرآن الصوتي اتساق القرآن وائتلافه في حركاته وسكناته ومداته وغناته واتصالاته وسكتاته اتساقا عجيبا وائتلافا رائعا يسترعي الأسماع ويستهوي النفوس بطريقة لا يمكن أن يصل إليها أي كلام آخر من منظوم ومنثور وبيان ذلك أن من ألقى سمعه إلى مجموعة القرآن الصوتية وهي مرسلة على وجه السذاجة

(2/309)


في الهواء مجردة من هيكل الحروف والكلمات كأن يكون السامع بعيدا عن القارئ المجود بحيث لا تبلغ إلى سمعه الحروف والكلمات متميزا بعضها عن بعض بل يبلغه مجرد الأصوات الساذجة المؤلفة من المدات والغنات والحركات والسكنات والاتصالات والسكتات نقول إن من ألقى سمعه إلى هذه المجموعة الصوتية الساذجة يشعر من نفسه ولو كان أعجميا لا يعرف العربية بأنه أمام لحن غريب وتوقيع عجيب يفوق في حسنه وجماله كل ما عرف من توقيع الموسيقى وترنيم الشعر لأن الموسيقى تتشابه أجراسها وتتقارب أنغامها فلا يفتأ السمع أن يملها والطبع أن يمجها ولأن الشعر تتحد فيه الأوزان وتتشابه القوافي في القصيدة الواحدة غالبا وإن طالت على نمط يورث سامعه السأم والملل بينما سامع لحن القرآن لا يسأم ولا يمل لأنه يتنقل فيه دائما بين ألحان متنوعة وأنغام متجددة على أوضاع مختلفة يهز كل وضع منها أوتار القلوب وأعصاب الأفئدة.
وهذا الجمال الصوتي أو النظام التوقيعي هو أول شيء أحسته الآذان العربية أيام نزول القرآن ولم تكن عهدت مثله فيما عرفت من منثور الكلام سواء أكان مرسلا أم مسجوعا حتى خيل إلى هؤلاء العرب أن القرآن شعر لأنهم أدركوا في إيقاعه وترجيعه لذة وأخذتهم من لذة هذا الإيقاع والترجيع هزة لم يعرفوا شيئا قريبا منها إلا في الشعر ولكن سرعان ما عادوا على أنفسهم بالتخطئة فيما ظنوا حتى قال قائلهم وهو الوليد بن المغيرة وما هو بالشعر معللا ذلك بأنه ليس على أعاريض1 الشعر في رجزه2 ولا في قصيدة بيد انه تورط في خطأ أفحش من هذا الخطأ حين زعم في ظلام العناد
__________
1 جمع عروض على غير قياس كأنهم جمعوا عريضا. وهو ميزان الشعر أو الجزء الذي في آخر النصف الأول من البيت؟ مختار.
2 الرجز ضرب من الشعر وزنه مستفعلن ست مرات. وزعم الخليل أمه ليس بشعر وإنما هو أنصاف أبيات أو ثلاثة؟ قاموس.

(2/310)


والحيرة أنه سحر لأنه اخذ من النثر جلاله وروعته ومن النظم جماله ومتعته ووقف منهما في نقطة وسط خارقة لحدود العادة البشرية بين إطلاق النثر وإرساله وتقييد الشعر وأوزانه ولو أنصف هؤلاء لعلموا أنه كلام منثور لكنه معجز ليس كمثله كلام لأنه صادر من متكلم قادر ليس كمثله شيء وما هو بالشعر ولا بالسحر لأن الشعر معروف لهم بتقفيته ووزنه وقانونه ورسمه والقرآن ليس منه ولأن السحر محاولات خبيثة لا تصدر إلا من نفس خبيثة ولقد علمت قريش أكثر من غيرهم طهارة النفس المحمدية وسموها ونبلها إذ كانوا أعلم الناس به وأعرفهم بحسن سيرته وسلوكه وقد نشأ فيه وشب وشاب بينهم هذا إلى أن القرآن كله ما هو إلا دعوة طيبة لأهداف طيبة لا محل فيها إلى خبث ورجس بل هي تحارب السحر وخبثه ورجسه وتسمه بأنه كفر إذ قال: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} .
ثم إن السحر معروف المقدمات والوسائل فليس بمعجز ولا يمكنه ولن يمكنه أن يأتي في يوم من الأيام بمثل هذا الذي جاء به القرآن
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأ عليه القرآن كأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال له يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله بكسر القاف وفتح الباء قال الوليد لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا قال فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له وكاره قال وماذا أقول فوالله ما فيكم من رجل أعلم مني بالشعر لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا ووالله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمنير أعلاه مشرق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه ليحطم ما تحته قال أبو جهل للوليد لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه فقال الوليد دعني أفكر فلما فكر قال هذا سحر يأثره عن غيره وفي ذلك نزل

(2/311)


قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً , وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً , وَبَنِينَ شُهُوداً , وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً , ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ , كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً , سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً , إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ , فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ , ثم قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ , ثُمَّ نَظَرَ , ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ , ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ , فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ , إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} رواه الحاكم وقال صحيح على شرط البخاري فانظر إلى الرجل حين أرسل نفسه على سجيتها العربية وبديهتها الفطرية كيف أنصف في حكمه حين تجرد ساعة من عناده وكفره وقال والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا إلى أن قال وإنه ليحطم ما تحته ثم انظر إلى الرجل حين غلبت عليه شقوته وعاوده عناده وتعصبه كيف قاوم فطرته وأكره نفسه على مخالفة شعوره ووجدانه وقال ما قال بعد أن حار وذهب كل مذهب في ضلاله وحيرته على نحو ما يصور القرآن تلك الحيرة والمقاومة والاستكراه بقوله إنه فكر وقدر الخ نسأل الله الحماية والهداية بمنه وكرمه آمين.
2 - ونريد بجمال القرآن اللغوي تلك الظاهرة العجيبة التي امتاز بها القرآن في رصف حروفه وترتيب كلماته ترتيبا دونه كل ترتيب ونظام تعاطاه الناس في كلامهم وبيان ذلك أنك إذا استمعت إلى حروف القرآن خارجة من مخارجها الصحيحة تشعر بلذة جديدة في رصف هذه الحروف بعضها بجانب بعض في الكلمات والآيات هذا ينقر وذاك يصفر وهذا يخفى وذاك يظهر وهذا يهمس وذاك يجهر إلى غير ذلك مما هو مقرر في باب مخارج الحروف وصفاتها في علم التجويد ومن هنا يتجلى لك جمال لغة القرآن حين خرج إلى الناس في هذه المجموعة المختلفة المؤتلفة الجامعة بين اللين والشدة والخشونة والرقة والجهر والخفية على وجه دقيق محكم وضع كلا من الحروف وصفاتها المتقابلة في موضعه بميزان حتى تألف من المجموع قالب لفظي مدهش وقشرة سطحية أخاذة امتزجت فيها جزالة البداوة في غير خشونة برقة الحضارة من غير ميوعة وتلاقت عندها أذواق القبائل العربية على اختلافها بكل يسر وسهولة ولقد وصل هذا الجمال اللغوي إلى قمة الإعجاز بحيث

(2/312)


لو داخل في القرآن شيء من كلام الناس لاعتل مذاقه في أفواه قارئيه واختل نظامه في آذان سامعيه.
ومن عجيب أمر هذا الجمال اللغوي وذاك النظام الصوتي أنهما كما كانا دليل إعجاز من ناحية كانا سورا منيعا لحفظ القرآن من ناحية أخرى وذلك أن من شأن الجمال اللغوي والنظام الصوتي أن يسترعي الأسماع ويثير الانتباه ويحرك داعية الإقبال في كل إنسان إلى هذا القرآن الكريم وبذلك يبقى أبد الدهر سائدا على ألسنة الخلق وفي آذانهم ويعرف بذاته ومزاياه بينهم فلا يجرؤ أحد على تغييره وتبديله مصداقا لقوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
الخاصة الثانية:
إرضاؤه العامة والخاصة ومعنى هذا أن القرآن الكريم إذا قرأته على العامة أو قرئ عليهم أحسوا جلاله وذاقوا حلاوته وفهموا منه على قدر استعدادهم ما يرضي عقولهم وعواطفهم وكذلك الخاصة إذا قرؤوه أو قرئ عليهم أحسوا جللاه وذاقوا حلاوته وفهموا منه أكثر مما يفهم العامة ورأوا أنهم بين يدي كلام ليس كمثله كلام لا في إشراق ديباجته ولا في امتلائه وثروته ولا كذلك كلام البشر فإنه إن أرضى الخاصة والأذكياء لجنوحه إلى التجوز والإغراب والإشارة لم يرض العامة لأنهم لا يفهمونه وإن أرضى العامة لجنوحه إلى التصريح والحقائق العارية المكشوفة لم يرض الخاصة لنزوله إلى مستوى ليس فيه متاع لأذواقهم ومشاربهم وعقولهم.
الخاصة الثالثة:
إرضاؤه العقل والعاطفة ومعنى هذا أن أسلوب القرآن يخاطب العقل والقلب معا

(2/313)


ويجمع الحق والجمال معا انظر إليه مثلا وهو في معمعان الاستدلال العقلي على البعث والإعادة في مواجهة منكريهما كيف يسوق استدلاله سوقا يهز القلوب هزا ويمتع العاطفة إمتاعا بما جاء في طي هذه الأدلة المسكتة المقنعة إذ قال الله سبحانه في سورة فصلت {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وإذا قال في سورة ق: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ , وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ , تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ , وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ , وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ , رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} تأمل في الأسلوب البارع الذي أقنع العقل وأمتع العاطفة في آن واحد حتى في الجملة التي هي بمثابة النتيجة من مقدمات الدليل إذ قال في الآية الأولى إن الذي أحياها لمحي الموتى وفي الآيات الأخيرة كذلك الخروج يا للجمال الساحر ويا للإعجاز الباهر الذي يستقبل عقل الإنسان وقلبه معا بأنصع الأدلة وأمتع المعروضات في هذه الكلمات المعدودات!.
ثم انظر إلى القرآن وهو يسوق قصة يوسف مثلا كيف يأتي في خلالها بالعظات البالغة ويطلع من خلالها بالبراهين الساطعة على وجوب الاعتصام بالعفاف والشرف والأمانة إذ قال في فصل من فصول تلك الرواية الرائعة {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} فتأمل في هذه الآية كيف قوبلت دواعي الغواية الثلاث بدواعي العفاف الثلاث مقابلة صورت من القصص الممتع جدالا عنيفا بين جند الرحمن وجند الشيطان ووضعتها أمام العقل المنصف في كفتي ميزان! وهكذا تجد القرآن كله مزيجا حلوا سائغا يخفف على النفوس أن تجرع الأدلة العقلية ويرفه عن العقول باللفتات العاطفية ويوجه العقول والعواطف معا جنبا إلى جنب لهداية الإنسان وخير الإنسان!.

(2/314)


وهل تسعد بمثل هذا في كلام البشر؟ لا ثم لا بل كلامهم إن وفى بحق العقل بخس العاطفة حقها وإن وفى بحق العاطفة بخس العقل حقه وبمقدار ما يقرب من أحدهما يبعد عن الآخر حتى لقد بات العرف العام يقسم الأساليب البشرية إلى نوعين لا ثالث لهما أسلوب علمي وأسلوب أدبي فطلاب العلم لا يرضيهم أسلوب الأدب وطلاب الأدب لا يرضيهم أسلوب العلم وهكذا تجد كلام العلماء والمحققين فيه من الجفاء والعري ما لا يهز القلوب ويحرك النفوس وتجد في كلام الأدباء والشعراء من الهزال والعقم العلمي ما لا يغذي الأفكار ويقنع العقول ذلك لأن القوى العاقلة والقوى الشاعرة في بني الإنسان غير متكافئة وعلى فرض تكافئها في شخص فإنهما لا تعملان دفعة واحدة بل على سبيل البدع والمناوبة فكلام الشخص إما وليد فكرة وإما وليد عاطفة وإما ثوب مرقع يتألف من جمل نظرية تكون ثمرة للتفكير ومن جمل عاطفية تكون ثمرة للشعور أما إن تأتي كل جملة من جملة جامعة للغايتين معا فدون ذلك صعود السماء وكيف يتسنى ذلك للإنسان وهو لم يوهب القوتين متكافئتين ولو تكافأتا لديه فإنه لا يستطيع أن يوجههما اتجاها واحدا في آن واحد متقارنتين {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} أما القرآن فإنه انفرد بهذه الميزة بين أنواع الكلام لأنه تنزيل من القادر الذي لا يشغله شأن عن شأن والذي جمع بين الروح والجسد في قران {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
الخاصة الرابعة:
جودة سبك القرآن وإحكام سرده1 ومعنى هذا أن القرآن بلغ من ترابط أجزائه وتماسك كلماته وجملة وآياته وسورة مبلغا لا يداينه فيه أي كلام آخر مع طول نفسه
__________
1 يقال درع مسردة أي منسوجة متداخلة حلفها بعضها في بعض فالمراد هنا أن القرآن مترابط الأجزاء متناسب تناسب قويا.

(2/315)


وتنوع مقاصده وافتنانه وتلوينه في الموضوع الواحد وآية ذلك أنك إذا تأملت في القرآن الكريم وجدت منه جسما كاملا تربط الأعصاب والجلود والأغشية بين أجزائه ولمحت فيه روحا عاما يبعث الحياة والحس على تشابك وتساند بين أعضائه فإذا هو وحدة متماسكة متآلفة على حين أنه كثرة متنوعة متخالفة فبين كلمات الجملة السورة الواحدة من والتناسق ما جعلها رائعة التجانس والتجاذب وبين حمل السورة الواحدة من التشابك والترابط ما جعلها وحدة صغيرة متآخذة الأجزاء متعانقة الآيات وبين سور القرآن من التناسب ما جعله كتابا سوي الخلق حسن السمت {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} فكأنما هو سبيكة واحدة تأخذ بالأبصار وتلعب بالعقول والأفكار على حين أنها مؤلفة من حلقات لكل حلقة منها وحدة مستقلة في نفسها ذات أجزاء ولكل جزء موضع خاص من الحلقة ولكل حلقة وضع خاص من السبيكة لكن على وجه من جودة السبك وإحكام السرد جعل من هذه الأجزاء المنتشرة المتفرقة وحدة بديعة متآلفة تريك كمال الانسجام بين كل جزء وجزء ثم بين كل حلقة وحلقة ثم بين أوائل السبيكة وأواخرها وأواسطها.
يعرف هذا الإحكام والترابط في القرآن كل من ألقى باله إلى التناسب الشائع فيه من غير تفكك ولا تخاذل ولا انحلال ولا تنافر بينما الموضوعات مختلفة متنوعة فمن تشريع إلى قصص إلى جدل إلى وصف إلى غير ذلك وكتب التفسير طافحة ببيان المناسبات فنحيلك عليها ونكتفي بمثل واحد نضربه مع الاختصار والاقتصار.
هذه سورة الفاتحة تأمل كيف تترابط وتتناسق في حسن تخلص من معنى إلى معنى ومن مقصد إلى مقصد لقد افتتحت متوجة "باسم الله" كما يتوج القاضي كل حكم من أحكامه باسم جلالة الملك لإعلان الجهة التي يستمد منها نفوذه في صدور أحكامه ثم انتقل الكلام فيها سريعا إلى الاستدلال على أن الاستعانة إنما هي به تعالى وحده وذلك بإضافة الاسم إلى لفظ الجلالة الذي هو اسم الذات الجامع لصفات الكمال وبوصف لفظ الجلالة

(2/316)


بأنه {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم انتقل الكلام إلى إعلان أنه تعالى مستحق للمحامد كلها ما دام أنه المستعان وحده بالدليل ثم انتقل الكلام إلى تدعيم هذا الاستحقاق بأدلة ثلاثة جرت على اسم الجلالة مجرى الأوصاف في مقام حمده {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ثم انتقل الكلام إلى إعلان وحدانيته في ألوهيته وربوبيته {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ما دام أنه هو المعين وحده ومستحق المحامد كلها وحده ثم انتقل الكلام في براعة إلى بيان المطمح الأعلى للإنسان وأن هذا المطمح الأعلى هو الهداية إلى الصراط المستقيم وأنه لا سبيل إلى الوصول إلى هذا المطمح عن طريق أحد إلا عن طريق الله وحده بقرينة ما سبق من أدلة التوحيد والتمجيد قبله {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ثم انتقل الكلام من حيث لا تشعر أو من حيث تشعر إلى تقسيم الخلق بالنسبة إلى هذه الهداية ثلاثة أقسام تنبيها وإغراء على المقصود وتحذيرا وتنفيرا من الوقوع في نقيض هذا المقصود {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} وإذا الناس أمام عينيك بين منعم عليه بمعرفة الحق واتباعه ومغضوب عليه بمخالفة الحق مع العلم به وضال رضي أن يعيش عيشة الأنعام في متاهة الجهالة والحيرة والضلال لا يكلف نفسه عناء البحث عن الحق ليتشرف بمعرفته ويسعد باتباعه ثم تنظر في سورة البقرة فإذا هي وما بعدها ترتبط بالفاتحة ارتباط المفصل بالمجمل فالهداية إلى الصراط المستقيم صراط من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين تشرحها سور البقرة وما وليها من سورة القرآن حيث جاءتنا بتفاصيل هذه الهداية في بيان كامل وعرض شامل.
أما بعد فقد يظن بعض الجهلة أن هذه الوحدة الفنية البيانية في القرآن أمر تافه هين لا يسمو إلى حد التنويه به فضلا عن أن ينظم في عداد ما هو مناط للإعجاز ولأجل الرد على هؤلاء نطلب منهم أن ينظروا نظرة فاحصة في كلام البلغاء وحملة الأقلام فإن لم يكن عندهم نظر ولا ذوق فليستمعوا إلى حكم نقدة البيان وصيارفته عليهم بأنهم

(2/317)


كثيرا ما يخطئون في تنظيم أغراضهم إذا قالوا بل يأتون بها شتيتا مفككا غير متماسك ولا متجاذب مما يعاب الشعراء من أجله بسوء التخلص حين ينتقلون من غرض إلى غرض في القصيدة الواحدة ومما يضطر الكاتب والعلماء والمؤلفين إلى تلافي هذا النقص بما يستخدمون في تنقلاتهم بين أغراضهم من أسماء الإشارة وأدوات التنبيه والحديث عن النفس وكثرة التقسيم والترقيم والتبويب والعنونة ولفظ أما بعد نحو هذا وان ألا وإن قلنا كذا ونقول كذا ينقسم الكتاب إلى مباحث المبحث الأول في كذا الخ ينقسم هذا المبحث إلى نقاط أولها كذا الخ ملاحظة تنبيه فذلكة أما بعد الخ.
هذا في كلام البشر أما كلام مالك القوى والقدر فإنه على تنوع أغراضه وطول نفسه في سوره وآياته ينتقل من مقصد إلى مقصد وينقلك أنت معه بين هذه المقاصد غير مستعين بوسائل العجز المذكورة بل بطريقة سحرية قد تشعر بها وقد لا تشعر وحسبك أن تنظر في المثال الآنف الذي قدمناه لك في سورة الفاتحة وحبذا أن تنظر في أطول سور القرآن وهي سورة البقرة فإنك ستطرب وتعجب وسيذهب بك الطرب والعجب إلى حد الذوق البالغ لهذا اللون من الإعجاز القاهر وأدلك على كتاب النبأ العظيم فقد أجاد في بيان هذا اللون وأبدع وأشبع العقول والقلوب وأمتع بما عرض من التناسب والترابط بين آحاد هذه السورة!.
الخاصة الخامسة:
براعته في تصريف القول وثروته في أفانين الكلام ومعنى هذا أنه يورد المعنى الواحد بألفاظ وبطرق مختلفة بمقدرة فائقة خارقة تنقطع في حلبتها أنفاس الموهوبين من الفصحاء والبلغاء ولسنا هنا بسبيل الاستيعاب والاستقراء ولكنها أمثلة تهديك ونماذج تكفيك.

(2/318)


أ - منها تعبيره عن طلب الفعل من المخاطبين بالوجوه الآتية:
1 - الإتيان بصريح مادة الأمر نحو قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}
2 - والأخبار بأن الفعل مكتوب على المكلفين نحو {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} .
3 - والإخبار بكونه على الناس نحو {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} .
4 - والإخبار عن المكلفين بالفعل المطلوب منه نحو {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} قروء أي مطلوب منهن أن يتربصن.
5 - والإخبار عن المبتدأ بمعنى يطلب تحقيقه من غيره نحو {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} أي مطلوب من المخاطبين تأمين دخل الحرم.
6 - وطلب الفعل بصيغة فعل الأمر نحو حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى أو بلام الأمر نحو {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} .
7 - والإخبار عن الفعل بأنه خير {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} .
8 - ووصف الفعل وصفا عنوانيا بأنه بر نحو {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} .
9 - ووصف الفعل بالفريضة نحو {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} أي من بذل المهور والنفقة
10 - وترتيب الوعد والثواب على الفعل نحو مَنْ {ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
11 - وترتيب الفعل على شرط قبله نحو {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} .

(2/319)


12 - وإيقاع الفعل منفيا معطوفا عقب استفهام نحو {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي تذكروا.
13 - وإيقاع الفعل عقب ترج نحو {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
14 - وترتيب وصف شنيع على ترك الفعل نحو {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} .
ب - ومنها تعبيره عن النهي بالوسائل الآتية:
1 - الإتيان في جانب الفعل بمادة الفعل بمادة النهي نحو {إِِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ} .
2 - والإتيان في جانبه بمادة التحريم نحو {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} .
3 - ونفي الحل عنه نحو {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} .
4 - والنهي عنه بلفظ لا نحو {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
5 - ووصفه بأنه ليس برا نحو {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} .
6 - ووصفه بأنه شر نحو {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} .
7 - وذكر الفعل مقرونا بالوعيد نحو {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} الخ.
8 - وذكر الفعل منسوبا إليه الإثم نحو {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}.

(2/320)


9 – 15 ونظم الأمر في سلك ما هو بالغ الإثم والحرمة والإخبار عن الفعل بأنه رجس ووصفه بأنه من عمل الشيطان والأمر باجتنابه ورجاء الفلاح في تركه وترتيب مضار مؤذية على فعله والأمر بالانتهاء عنه في صورة الاستفهام ونمثل لهذه الطرق كلها بتحريم الخمر والميسر في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ , إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}.
ج - ومنها تعبيره عن إباحة الفعل بالطرق الآتية:
1 - التصريح في جانبه بمادة الحل نحو {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} .
2 - والأمر به مع قرينه صارفة عن الطلب نحو {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} .
3 - ونفي الإثم عن الفعل نحو {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} .
4 - ونفي الحرج عنه نحو {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} أي في ترك القتال أو في الأكل من البيوت1.
5 - ونفي الجناح عنه في غير ما ادعى فيه الحرمة نحو {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الخ2 أما ما ادعى
__________
1 تجد هذا النص الكريم في سورة الفتح عقب توعد من يتخلف عن القتال في قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ} إلخ. ثم تجد هذا النص الكريم أيضا في سورة النور نازلا بسبب وهو أن المسلمين كانوا إذا خرجوا إلى الغزو ووضعوا مفاتح بيوتهم عند الأعمى والمريض والأعرج وعند أقاربهم ويأذنونهم أن يأكلوا من بيوتهم فكانوا يتحرجون ويقولون.. نخشى ألا تكون نفوسهم بذلك طيبة.
2 نزلت فيمن تعاطى شيئا من الخمر والميسر قبل التحريم. فقرر لهم أن ذلك مباحا لهم

(2/321)


فيه الحرمة فإن نفى الجناح عنه يصدق بوجوبه نحو {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} .
6 - وإنكار تحريمه في صورة استفهام نحو {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} .
7 - والامتنان بالشي ووصفه بأنه رزق حسن نحو {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} .
وهكذا تجد القرآن يفتن في أداء المعنى الواحد بألفاظ وطرق متعددة بين إنشاء وإخبار وإظهار وإضمار وتكلم وغيبة وخطاب ومضي وحضور واستقبال واسمية وفعليه واستفهام وامتنان ووصف ووعد ووعيد إلى غير ذلك ومن عجب أنه في تحويله الكلام من نمط إلى نمط كثيرا ما تجده سريعا لا يجاري في سرعته ثم هو على هذه السرعة الخارقة لا يمشي مكبا على وجهه مضطربا أو متعثرا بل هو محتفظ دائما بمكانته العليا من البلاغة {يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
ولقد خلع هذا التصرف والافتنان لباسا فضفاضا من الجدة والروعة على القرآن ومسحه بطابع من الحلاوة والطلاوة حتى لا يمل قارئه ولا يسأم سامعه مهما كثرت القراءة والسماع بل ينتقل كل منهما من لون إلى لون كما ينتقل الطائر في روضة غناء من فنن إلى فنن ومن زهر إلى زهر.
واعلم أن تصريف القول في القرآن على هذا النحو كان فنا من فنون إعجازه الأسلوبي كما ترى وكان في الوقت نفسه منة يمنها الله على الناس ليستفيدوا عن طريقها كثرة النظر في القرآن والإقبال عليه قراءة وسماعا وتدبرا وعملا وأنه لا عذر معها لمن أهمل هذه النعمة وسفه نفسه اقرأ إن شئت قوله سبحانه: في سورة الإسراء: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً}

(2/322)


وقوله سبحانه: في سورة الكهف: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} وقوله سبحانه: في سورة الرعد: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} .
الخاصة السادسة:
جمع القرآن بين الإجمال والبيان مع أنهما غايتان متقابلتان لا يجتمعان في كلام واحد للناس بل كلامهم إما مجمل وإما مبين1. لأن الكلمة إما واضحة المعنى لا تحتاج إلى بيان وإما خفية المعنى تحتاج إلى بيان ولكن القرآن وحده هو الذي انحرقت له العادة فتسمع الجملة منه وإذا هي بينة مجملة في آن واحد أما أنها بينة أو مبينة بتشديد الياء وفتحها فلأنها واضحة المغزى وضوحا يريح النفس من عناء التنقيب والبحث لأول وهلة فإذا أمنعت النظر فيها لاحت منها معان جديدة كلها صحيح أو محتمل لأن يكون صحيحا وكلما أمنعت فيها النظر زادتك من المعارف والأسرار بقدر ما تصيب أنت من النظر وما تحمل من الاستعداد على حد قول القائل:
يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا
ولهذا السر وسع كتاب الله جميع أصحاب المذهب الحضر من أبناء البشر ووجد أصحاب هذه المذاهب المختلفة والمشارب المتباينة شقاء أنفسهم وعقولهم فيه وأخذت الأجيال المتعاقبة من مدده الفياض ما جعلهم يجتمعون عليه ويدينون به ولا كذلك البشر
__________
1 المجمل ما له درلة واضحة فخرج المهمل والمبين. والمبين ما لا خفاء فيه لا ما وقع إليه السياق. مثال الأول لفظ القرء ولفظ مختار وقوقله تعالى: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} لأن الأول متردد بين الحيض والطهر والثاني بين الفاعل والمفعول والثالث مجهول معناه قبل نزول آية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} . والمبين نحو: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} – و – {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} .

(2/323)


في كلامهم فإنهم إذا قصدوا إلى توضيح أغراضهم ضاقت ألفاظهم ولم تتسع لاستنباط وتأويل وإذا قصدوا إلى إجمالها لم يتضح ما أرادوه وربما التحق عندئذ بالألغاز وما لا يفيد.
والأمر في هذه الخاصة ظاهر غني بظهوره عن التمثيل وحسبك أن ترجع إلى كتب التفسير ففيها من ذلك الشيء الكثير {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} .
الخاصة السابعة:
قصد القرآن في اللفظ مع وفائه بالمعنى ومعنى هذا إنك في كل من جمل القرآن تجد بيانا قاصدا مقدرا على حاجة النفوس البشرية من الهداية الإلهية دون أن يزيد اللفظ على المعنى أو يقصر عن الوفاء بحاجات الخلق من هداية الخالق ومع هذا القصد اللفظي البريء من الإسراف والتقتير تجده قد جلى لك المعنى في صورة كاملة لا تنقص شيئا يعتبر عنصرا أصليا فيها أو حلية مكملة لها كما أنها لا تزيد شيئا يعتبر دخيلا فيها وغريبا عنها بل هو كما قال الله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} .
ولا يمكن أن تظفر في غير القرآن بمثل هذا الذي تظفر به في القرآن بل كل منطيق بليغ مهما تفوق في البلاغة والبيان تجده بين هاتين الغايتين كالزوج بين ضرتين بمقدار ما يرضي إحداهما يغضب الأخرى فإن ألقى البليغ باله إلى القصد في اللفظ وتخليصه مما عسى أن يكون من الفضول فيه حمله ذلك في الغالب على أن يغض من شأن المعنى فتجيء صورته ناقصة خفية ربما يصل اللفظ معها إلى حد الإلغاز والتعمية وإذا ألقى البليغ باله إلى الوفاء بالمعنى وتجلية صورته كاملة حمله ذلك على أن يخرج عن حد القصد في اللفظ راكبا متن الإسهاب والإكثار حرصا على أن يفوته شيء من المعنى الذي يقصده ولكن ينذر حينئذ أن يسلم هذا اللفظ من داء التخمة في إسرافه وفضوله تلك التخمة التي تذهب ببهائه ورونقه وتجعل السامع يتعثر في ذيوله لا يكاد يميز بين زوائد المعنى وأصوله.

(2/324)


وإذا افترضنا أن بليغا كتب له التوفيق بين هاتين الغايتين وهما القصد في اللفظ مع الوفاء بالمعنى في جملة أو جملتين من كلامه فإن الكلال والإعياء لا بد لاحقا به في بقية هذا الكلام وندر أن يصادفه هذا التوفيق مرة ثانية إلا في الفينة بعد الفينة كما تصادف الإنسان قطعة من الذهب أو الماس في الحين بعد الحين وهو يبحث في التراب أو ينقب بين الصخور.
وإن كنت في شك فسائل أئمة البيان وصيارفته هل ظفرتم بقطعة من النثر أو بقصيدة من الشعر كانت كلها أو أكثرها جامعا بين وفاء المعنى وقصد اللفظ؟ ها هم أولاء يعلنون حكمهم صريحا بأن أبرع الشعراء لم يكتب له التبريز والإجادة والجمع بين المعنى الناصع واللفظ الجامع إلا في أبيات معدودة من قصائد محدودة أما سائر شعرهم بعد فبين متوسط ورديء وها هم أولاء يعلنون حكمهم هذا نفسه أو أقل منه على الناثرين من الخطباء والكتاب.
وإن أردت أن تلمس بيدك هذه الخاصة فافتح المصحف الشريف مرة واعمد إلى جملة من كتاب الله وأحصها عددا ثم خذ بعدد تلك الكلمات من أي كلام آخر وقارن بين الجملتين ووازن بين الكلامين وانظر أيهما أملأ بالمعاني مع القصد في الألفاظ ثم انظر أي كلمة تستطيع أن تسقطها أو تبدلها بما هو خير منها في ذلك الكلام الإلهي وكم كلمة يجب أن تسقطها أو تبدلها في ذلك الكلام البشري؟ إنك إذا حاولت هذه المحاولة فستنتهي إلى هذه الحقيقة التي أعلنها ابن عطية فيما يحكي السيوطي عنه وهو يتحدث عن القرآن الكريم إذ يقول لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم توجد اهـ وذلك بخلاف كلام الناس مهما سما وعلا حتى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم وأشرقت نفسه بنور النبوة والوحي وصيغ على أكمل ما خلق الله فإنه مع تحليقه في سماء البيان وسموه على كلام كل إنسان لا يزال هناك بون بعيد بينه وبين القرآن وسبحان الله وبحمده سبحانه الله العظيم!.

(2/325)


تعليق وتمثيل:
يحلو لي أن أسوق إليك هنا كلمة قيمة فيها تعليق وتمثيل لما نحن بصدده وهي لصديقنا العلامة الجليل الشيخ محمد عبد الله دارز في كتابه النبأ العظيم الذي اقتبسنا منه فيما يتصل بإعجاز القرآن كثيرا.
قلنا إن القرآن الكريم يستثمر دائما برفق أقل ما يمكن من اللفظ في توليد أكثر ما يمكن من المعاني أجل تلك ظاهرة بارزة فيه كله يستوي فيها مواضع إجماله التي يسميها الناس مقام الإيجاز ومواضع تفصيله التي يسمونها مقام الإطناب ولذلك نسميه إيجازا كله لأننا نراه في كلا المقامين لا يجاوز سبيل القصد ولا يميل إلى الإسراف ميلا ما ونرى أن مراميه في كلا المقامين لا يمكن تأديتها كاملة العناصر والحلي بأقل من ألفاظه ولا بما يساويها فليس فيه كلمة إلا هي مفتاح لفائدة جليلة وليس فيه حرف إلا جاء لمعنى.
دع عنك قول الذي يقول في بعض الكلمات القرآنية إنها مقحمة وفي بعض حروفة إنها زائدة زيادة معنوية ودع عنك قول الذي يستخف كلمة التأكيد فيرمي بها في كل موطن يظن فيها الزيادة لا يبالي أن تكون تلك الزيادة فيها معنى المزيد عليه فتصلح لتأكيده أو لا تكون ولا يبالي أن يكون بالموضع حاجة إلى هذا التأكيد أو لا حاجة له به أجل دع عنك هذا وذاك فإن الحكم في القرآن بهذا الضرب من الزيادة أو شبهها إنما هو ضرب من الجهل مستورا أو مكشوفا بدقة الميزان الذي وضع عليه أسلوب القرآن وخذ نفسك أنت بالغوص في طلب أسراره البيانية على ضوء هذا المصباح فإن عمي عليك وجه الحكمة في كلمة منه أو حرف فإياك أن تعجل كما يعجل هؤلاء الظانون ولكن قل قولا سديدا هو أدنى إلى الأمانة والإنصاف قل الله أعلم بأسرار كلامه ولا علم لنا إلا بتعليمه ثم إياك أن تركن إلى راحة اليأس فتقعد عن استجلاء تلك الأسرار

(2/326)


قائلا: أين أنا من فلان وفلان كلا فرق صغير مفضول قد فظن إلى ما يفطن له الكبير الفاضل ألا ترى إلى قصة عمر في الأحجية المشهورة 1فجد في الطلب وقل رب زدني علما فعسى الله أن يفتح لك بابا من الفهم تكشف به شيئا مما عمي على غيرك والله ولي الذين آموا يخرجهم من الظلمات إلى النور.
ولنضرب لك مثلا قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
أكثر أهل العلم قد ترادفت كلمتهم على زيادة الكاف بل على وجوب زيادتها في هذه الجملة فرارا من المحال العقلي الذي يفضي إليه بقاؤها على معناها الأصلي من التشبيه إذ رأوا أنها حينئذ تكون نافية التشبيه عن مثل الله فتكون تسليما بثبوت المثل له سبحانه أو على الأقل محتملة لثبوته وانتفائه لأن السالبة كما يقول علماء المنطق تصدق بعدم الموضع أو لأن النفي كما يقول علماء النحو قد يوجه2 إلى المقيد وقيده جميعا تقول ليس لفلان ولد يعاونه إذا لم يكن له ولد قط أو كان له ولد لا يعاونه وتقول ليس محمد أخا لعلي إذ كان أخا لغير علي أو لم يكن أخا لأحد وقليل منهم من ذهب إلى انه لا بأس ببقائها على أصلها إذ رأى أنها لا تؤدي إلى ذلك المحال لا نصا
__________
1 قرأ النبي صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} الآية 24 سورة إبراهيم "14" وقال: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها لمثل المسلم. فحدثوني ما هي؟" فخفى على القوم علمها وجعلوا يذكرون أنواعا من شجر البادية. وفهم ابن عمر أنها النخلة وكان عاشر عشرة هو أحدثهم سنا وفيهم أبو بكر وعمر فقال صلى الله عليه وسلم: "هي النخلة" الحديث رواه الشيخان. وفي القرآن: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} الآية 79 من سورة الأنبياء "21".
2 لعل تمام الكلام: أو ل، النفي – كما يقول علماء النحو – قد يوجه إلى القيد وحده وقد يوجه إلى المقيد وقيده جميعا إلخ.

(2/327)


ولا احتمالا لأن نفي مثل المثل يتبعه في العقل نفي المثل أيضا وذلك أنه لو كان هناك مثل لله لكان لهذا المثل مثل قطعا وهو الإله الحق نفسه فإن كل متماثلين يعد كلاهما مثلا لصاحبه وإذا لا يتم انتفاء مثل المثل إلا بانتفاء المثل وهو المطلوب.
وقصارى هذا التوجيه لو تاملته أنه مصحح لا مرجح أي أنه ينفي الضرر عن هذا الحرف ولكنه لا يثبت فائدته ولا يبين مسيس الحاجة إليه ألست ترى أن مؤدي الكلام معه كمؤداه بدونه سواء وأنه إن كان قد ازداد به شيئا فإنما ازداد شيئا من التكلف والدوران وضربا من التعمية والتعقيد وهل سبيله إلا سبيل الذي أراد أن يقول هذا أخو فلان فقال هذا ابن أخت خالة فلان فماله إذا إلى القول بالزيادة التي يسترونها باسم التأكيد ذلك الاسم الذي لا نعرف له مسمى ها هنا فإن تأكيد المماثلة ليس مقصودا ألبتة وتأكيد النفي بحرف يدل على التشبيه هو من الإحالة بمكان.
ولو رجعت إلى نفسك قليلا لرأيت هذا الحرف في موقعه محتفظا بقوة دلالته قائما بقسط جليل من المعنى المقصود في جملته وأنه لو سقط منها لسقطت معه دعامة المعنى أو لتهدم ركن من أركانه ونحن نبين لك هذا من طريقين أحدهما أدق مسلكا من الآخر الطريق الأول وهو أدنى الطريقين إلى فهم الجمهور أنه لو قيل ليس مثله شيء لكان ذلك نفيا للمثل المكافئ وهو المثل التام المماثلة فحسب إذ إن هذا المعنى هو الذي ينساق إليه الفهم من لفظ المثل عند إطلاقه وإذا لدب إلى النفس دبيب الوساوس والأوهام أن لعل هنالك رتبة لا تضارع رتبة الألوهية ولكنها تليها وأن عسى أن تكون هذه المنزلة للملائكة والأنبياء أو للكواكب وقوى الطبيعة أو للجن والأوثان والكهان فيكون لهم بالإله الحق شبه ما في قدرته أو علمه وشرك ما في خلقه أو أمره فكان وضع هذا الحرف في ا لكلام إقصاء للعالم كله عن المماثلة وعما يشبه المماثلة وما يدنو منها كأنه قيل ليس هناك شيء يشبه أن يكون مثلا لله فضلا عن أن يكون مثلا له على الحقيقة وهذا باب من التنبيه بالأدنى على الأعلى على حد قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} نهيا عن يسير الأذى صريحا وعما فوق اليسير بطريق الأحرى.

(2/328)


الطريق الثاني وهو أدق مسلكا أن المقصود الأول من هذه الجملة وهو نفي الشبيه وإن كان يكفي لأدائه أن يقال ليس كالله شيء أو ليس كمثله شيء لكن هذا القدر ليس هو كل ما ترمي إليه الآية الكريمة بل إنها كما تريد أن تعطيك هذا الحكم تريد في الوقت نفسه أن تلفتك إلى وجه حجتك وطريق برهانه العقلي.
ألا ترى أنك إذا أردت أن تنفي عن امرئ نقيصة في خلقه فقلت فلان لا يكذب ولا يبخل أخرجت كلامك عنه مخرج الدعوى المجردة عن دليلها فإذا زدت فيه كلمة فقلت مثل فلان لا يكذب ولا يبخل لم تكن بذلك مشيرا إلى شخص آخر يماثله مبرأ من تلك النقائص بل كان هذا تبرئة له هو ببرهان كلي وهو أن من يكون على مثل صفاته وشيمه الكريمة لا يكون كذلك لوجود التنافي بين طبيعة هذه الصفات وبين ذلك النقص الموهوم.
على هذا المنهج البليغ وضعت الآية الكريم الحكيمة قائلة مثله تعالى لا يكون له مثل تعني أن من كانت له تلك الصفات الحسنى وذلك المثل الأعلى لا يمكن أن يكون له شبيه ولا يتسع الوجود لاثنين من جنسه فلا جرم جيء فيها بلفظين كل واحد منهما يؤدي معنى المماثلة ليقوم أحدهما ركنا في الدعوى والآخر دعامة لها وبرهانا فالتشبيه المدلول عليه بالكاف لما تصوب إليه النقي تأدى به أصل التوحيد المطلوب ولفظ المثل المصرح به في مقام لفظ الجلالة أو ضميره نبه على برهان ذلك المطلوب.
واعلم أن البرهان الذي ترشد إليه الآية على هذا الوجه برهان طريف في إثبات وحده الصانع لا نعلم أحدا من علماء الكلام حام حوله فكل براهينهم في الوحدانية قائمة على إبطال التعدد بإبطال لوازمه وآثاره العلمية حسب ما أرشد إليه قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} .
أما آية الشورى المذكورة فإنها ناظرة إلى معنى وراء ينقض فرض التعدد من

(2/329)


أساسه ويقرر استحالته الذاتية في نفسه بقطع النظر عن تلك الآثار فكأننا بها تقول لنا:
إن حقيقة الإله ليس من تلك الحقائق التي تقبل التعدد والاشتراك والتماثل في مفهومها كلا فإن الذي يقبل ذلك إنما هو الكمال الإضافي الناقص أما الكمال التام المطلق الذي هو قوام معنى الإلهية فإن حقيقته تأبى على العقل أن يقبل فيها المشابهة والاثنينية لأنك مهما حققت معنى الإلهية حققت تقدما على كل شيء وإنشاء لكل شيء {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وحققت سلطانا على كل شيء وعلوا فوق كل شيء {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لو ذهبت تفترض اثنين يشتركان في هذه الصفات لتناقضت إذ تجعل كل واحد منهما سابقا مسبوقا ومنشئا ومنشأ ومستعليا مستعلى عليه أو لأحلت الكمال المطلق إلى كمال مقيد فيهما إذ تجعل كل واحد منهما بالإضافة إلى صاحبه ليس سابقا ولا مستعليا فأنى يكون كل منهما إلها وللإله المثل الأعلى؟!.
أرأيت كم أفدنا من هذه الكاف وجوها من المعاني كلها شاف كاف فاحفظ هذا المثال وتعرف به دقة الميزان الذي وضع عليه النظام الحكيم حرفا حرفا اهـ وهو كلام جد نفيس فاحرص عليه.

(2/330)


الشبهات الواردة على أسلوب القرآن
تنمر أعداء الله على القرآن وألقوا في طريق الإيمان به حبالا وعصيا من التخييلات والأوهام من ذلك شبهات لفقوها ووجهوها إلى أسلوبه وهي مع التوائها وخبثها تراها مفضوحة منقوضة في هذا الكتاب "بالجزء الأول،من ص 72 – 74 ومن صفحة 199 – 232 بالطبعة" فارجع إلى ذلك هناك والله يتولى بتوفيقه هدانا وهداك وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(2/330)