مناهل العرفان في علوم القرآن

المبحث السابع عشر: في إعجاز القرآن وما يتعلق به
مدخل
...
المبحث السابع عشر: في إعجاز القرآن وما يتعلق به
إعجاز القرآن مركب إضافي معناه بحسب أصل اللغة إثبات القرآن عجز الخلق عن الإتيان بما تحداهم به فهو من إضافة المصدر لفاعله والمفعول وما تعلق بالفعل محذوف للعلم به والتقدير إعجاز القرآن خلق الله عن الإتيان بما تحداهم به ولكن التعجيز المذكور ليس مقصودا لذاته بل المقصود لازمه وهو إظهار أن هذا الكتاب حق وأن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء به رسول صدق وكذلك الشأن في كل معجزات الأنبياء ليس المقصود بها تعجيز الخلق لذات التعجيز ولكن للأزمة وهو دلالتها على أنهم صادقون فيما يبلغون عن الله فينتقل الناس من الشعور بعجزهم إزاء المعجزات إلى شعورهم وإيمانهم بأنها صادرة عن الإله القادر لحكمة عالية وهي إرشادهم إلى تصديق من جاء بها ليسعدوا باتباعه في الدنيا والآخرة
ولقد تناولنا في المبحث الثالث من هذا الكتاب الكلام على المعجزة ما هي وعلى الفرق بينهما وبين السحر وغير وعلى وجه دلالتهما على تأييد الحق وتصديق الرسل مع ضرب الأمثال ونقض الشبهات فارجع إلى ذلك هناك "ص 56 – 84 من الجزء الأول".
وقبل أن نخوض في موضوعنا هذا ننبهك إلى أننا سنختص سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم بالذكر في نفي نسبة القرآن إليه وذلك للتنصيص من أول الأمر على ما يشبه محل النزاع أو موضع الاشتباه عند كثير من أشباه الناس ولأنه إذا كانت طبيعة القرآن تأبى أن ينسب إلى أفضل الخلق على أنه من تأليفه فأحر بها أن تأبى نسبته إلى غيره بالطريق الأولى ومتى سلم الدليل على أن القرآن كلام الله وحده سلمت نبوة نبي الإسلام وسلم كل ما جاء به القرآن وسلم الإسلام كله بل سلمت الأديان الصحيحة والكتب الإلهية كلها؛

(2/331)


لأنه لم يبق على وجه الأرض شاهد مقبول الشهادة إلا هذا الكتاب الذي أنزله الله مقررا لنبوة الأنبياء السابقين وأديانهم ومصححا لأغلاط اللاغطين فيها والمحرفين لها {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} .
الله أكبر إن دين محمد ... وكتابه أهدى وأقوم قيلا
لا تذكروا الكتب السوالف عنده ... طلع الصباح فأطفئ القنديلا

(2/332)


وجوه إعجاز القرآن
الوجه الأول لغته وأسلوبه
الناظر في هذا الكتاب الكريم بإنصاف تتراءى له وجوه كثيرة مختلفة من الإعجاز كما تتراءى للناظر إلى قطعة من الماس ألوان عجيبة متعددة بتعدد ما فيها من زوايا وأضلاع ومختلفة باختلاف ما يكون عليه الناظر وما تكون عليه قطعة الماس من الأوضاع وسنبدأ بما نراه سليما من المطاعن ثم نقفي بما لا يسلم في نظرنا من طعن.
أما الوجه الأول فلغته وأسلوبه على نحو ما فصلناه في المبحث السابق وبيان ذلك أن القرآن جاء بهذا الأسلوب الرائع الخلاب الذي اشتمل على تلك الخصائص العليا التي تحدثنا عنها والتي لم تجتمع بل لم توجد خاصة واحدة منها في كلام على نحو ما وجدت في القرآن وكل ما كان من هذا القبيل فهو لا شك معجز خصوصا أن النبي صلى الله عليه وسلم تحدى به فأعجز أساطين الفصحاء وأعيا مقاويل البلغاء وأخرس ألسنة فحول البيان من أهل صناعة اللسان وذلك في عصر كانت القوى فيه قد توافرت على الإجادة والتبريز في هذا الميدان وفي أمة كانت مواهبها محشودة للتفوق في هذه الناحية وإذا كان أهل الصناعة هؤلاء قد عجزوا عن معارضة القرآن فغيرهم أشد عجزا وأفحش عيا.
وها قد مرت على اللغة العربية من عهد نزول القرآن إلى عصرنا هذا أدوار مختلفة

(2/332)


بين علو ونزول واتساع وانقباض وحركة وجمود وحضارة وبداوة والقرآن في كل هذه الأدوار واقف في عليائه يطل على الجميع من سمائه وهو يشع نورا وهداية ويفيض عذوبة وجلالة ويسيل رقة وجزالة ويرف جدة وطلاوة ولا يزل كما كان غضا طريا يحمل راية الإعجاز ويتحدى أمم العالم في يقين وثقة قائلا في صراحة الحق وقوته وسلطان الإعجاز وصولته {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} .
القدر المعجز من القرآن
ومن عجيب أمر هذا القرآن وأمر هؤلاء العرب أنه طاولهم في المعارضة وتنازل لهم عن التحدي بجميع القرآن إلى التحدي بعشر سور مثله ثم إلى التحدي بسورة واحدة من مثله وهم على رغم هذه المطاولة ينتقلون من عجز إلى عجز ومن هزيمة إلى هزيمة وهو في كل مرة من مرات هذا التحدي وهذه المطاولة ينتقل من فوز إلى فوز ويخرج من نصر إلى نصر.
تصور أنه قال لهم في سورة الطور أول ما تحداهم: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ؟ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ , فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} فلما انقطعوا مد لهم في الحبل وقال في سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ , فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فلما عجزوا هذه المرة أيضا طاولهم مرة أخرى وأرخى لهم الحبل إلى آخره وقال في سورة البقرة: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} فكان عجزهم بعد ذلك أشنع وأبشع وسجل الله عليهم الهزيمة أبد الدهر فلم يفعلوا ولن يفعلوا ودحضت

(2/333)


حجتهم وافتضح أمرهم وظهر أمر الله وهم كارهون.
بهذا يتبين لك أن القدر المعجز من القرآن هو ما يقدر بأقصر سورة منه وأن القائلين بأن المعجز هو كل القرآن لا بعضه وهم المعتزلة والقائلين بأن المعجز كل ما يصدق عليه أنه قرآن ولو كان أقل من سورة كل أولئك بمنأى عن الصواب وهم محجوجون بما بين يديك من الآيات.
معارضة القرآن
وهل أتاك نبأ الخصم إذ هموا أن يعارضوا القرآن؟ فكان ما أتوا به باسم المعارضة لا يخرج عن أن يكون محاولات مضحكة مخجلة أخجلتهم أمام الجماهير وأضحكت الجماهير منهم فباؤوا بغضب من الله وسخط من الناس وكان مصرعهم هذا كسبا جديدا للحق وبرهانا ماديا على أن القرآن كلام الله القادر وحده لا يستطيع معارضته إنسان ولا جان ومن ارتاب فأمامه الميدان.
يذكر التاريخ أن مسيلمة الكذاب رغم أنه أوحي إليه بكلام كالقرآن ثم طلع على الناس بهذا الهذر إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر وبهذا السخف والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا وأنت خبير بأن مثل ذلك الإسفاف ليس من المعارضة في قليل ولا كثير وأين محاكاة الببغاء من فصاحة الإنسان وأين هذه الكلمات السوقية الركيكة من ألفاظ القرآن الرفيعة ومعانيه العالية وهل المعارضة إلا الإتيان بمثل الأصل في لغته وأسلوبه ومعانيه أو بأرقى منه في ذلك؟
يقول حجة الأدب العربي فقيدنا الرافعي عليه سحائب الرحمة إن مسيلمة لم يرد أن يعرض للقرآن من ناحية الصناعة البيانية إذ كانت هذه الناحية أوضح من أن يلتبس أمرها عليه أو أن يستطيع تلبيسها على أحد من العرب وإنما أراد أن يتخذ سبيله إلى استهواء قومه من ناحية أخرى ظنها أهون عليه وأقرب تأثيرا في نفوسهم ذلك أنه رأى معرب تعظم

(2/334)


الكهان في الجاهلية وكانت عامة أساليب الكهان من هذا السجع القلق الذي يزعمون أنه من كلام الجن كقولهم يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول لا إله إلا الله البخاري في المناقب إسلام عمر فكذلك جعل يطبع مثل هذه الأسجاع في محاكاة القرآن ليوهمهم أنه يوحى إليه كما يوحى إلى محمد كأنما النبوة والكهانة ضرب واحد على أنه لم يفلح في هذه الحيلة أيضا فقد كان كثيرون من أشياعه يعرفونه بالكذب والحماقة ويقولون إنه لم يكن في تعاطيه الكهانة حاذقا ولا في دعوى النبوة صادقا وإنما كان اتباعهم إياه كما قال قائلهم كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر.
ويروي التاريخ أن أبا العلاء المعري وأبا الطيب المتنبي وابن المقفع حدثتهم نفوسهم مرة أن يعارضوا القرآن فما كادوا يبدؤون هذه المحاولة حتى انتهوا منها بتكسير أقلامهم وتمزيق صحفهم لأنهم لمسوا بأنفسهم وعورة الطريق واستحالة المحاولة وأكبر ظني وظن الكاتبين من قبلي أنهم كان يعتقدون من أعماق قلوبهم بلاغة القرآن وإعجازه من أول الأمر وإنما أرادوا أن يضموا دليلا جديدا إلى ما لديهم من أدلة ذاقوها بحاستهم البيانية من باب ولكن ليطمئن قلبي ويا ليت شعري إن لم يتذوق أمثال هؤلاء بلاغة القرآن وإعجازه فمن غيرهم؟!
وتحدثنا الأيام القريبة أن زعماء البهائية والقاديانية وضعوا كتبا يزعمون أنهم يعارضون بها القرآن ثم خافوا وخجلوا أن يظهروها للناس فأخفوها ولكن على أمل أن تتغير الظروف ويأتي على الناس زمان تروج فيه أمثال هذه السفاسف إذ ما استحر فيهم الجهل باللغة العربية آدابها والدين الإسلامي وكتابه ألا خيبهم الله وخيب ما يأملون.
في القرآن آلاف المعجزات
علمنا من قبل أن القرآن يزيد على مائتي آية وستة آلاف آية وعلمنا اليوم أن حبل التحدي قد طال حتى صار بسورة وان السورة تصدق بسورة الكوثر وهي ثلاث آيات

(2/335)


قصار وأن مقدارها من آية أو آيات طويلة له حكم السورة وان لأسلوب التنزيل سبع خواص لا توجد واحدة منها على كمالها في أي كلام آخر كما بسطنا القول في ذلك بالمبحث الآنف فيخلص لنا في ضوء هذه الحقائق أن القرآن مشتمل على آلاف من المعجزات لا معجزة واحدة كما يبدو لبعض السذج والسطحيين وإذا أضفنا إلى هذا ما يحمل القرآن من وجوه الإعجاز التالية تراءت لنا معجزات متنوعات شتى تجل عن الإحصاء والتعداد وسبحان من يجعل من الواحد كثرة ومن الفرد أمة! {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} . {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} . {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} أي لكان هذا القرآن!.
معجزات القرآن خالدة
وهنا نلفت النظر إلى أن القرآن بما اشتمل عليه من هذه المعجزات الكثيرة قد كتب له الخلود فلم يذهب بذهاب الأيام ولم يمت بموت الرسول عليه الصلاة والسلام بل هو قائم في فم الدنيا يحاج كل مكذب ويتحدى كل منكر ويدعو أمم العالم جمعاء إلى ما فيه من هداية الإسلام وسعادة بني الإنسان ومن هذا يظهر الفرق جليا بين معجزات نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم ومعجزات إخوانه الأنبياء عليهم أزكى الصلاة وأتم السلام فمعجزات محمد في القرآن وحده آلاف مؤلفة وهي متمتعة بالبقاء إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم حتى يرث الله الأرض ومن عليها أما معجزات سائر الرسل فمحدودة العدد قصيرة الأمد ذهبت بذهاب زمانهم وماتت بموتهم ومن يطلبها الآن لا يجدها إلا في خبر كان ولا يسلم له شاهد بها إلا هذا القرآن وتلك نعمة يمنها القرآن على سائر الكتب والرسل وما صح من الأديان كافة قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} وقال عز اسمه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} .

(2/336)


حكمة بالغة في هذا الاختيار
وهنا نقف هنيهة لنعلم أن حكمة الله البالغة قضت أن تكون معجزة الإسلام باقية بجانبه تؤيده وتعززه إلى قيام الساعة حتى لا يكون لأحد عذر في ترك هذا الدين الأخير الذي هو خاتمة الأديان والشرائع لذلك اختار سبحانه أن تكون معجزة الإسلام شيئا يصلح للبقاء فكانت دون سواها كلاما يتلى في أذن الدهر وحديث يقرأ على سمع الزمان وكان من أسرار الإعجاز فيه بلوغه من الفصاحة والبيان مبلغا يعجز الخلق أجمعين وكان من عدله تعالى ورحمته أن اللغة التي صيغت بها هذه المعجزة هي اللغة العربية دون غيرها من اللغات لأن اللغة العربية حين مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم كانت قد بلغت لدى الشعب العربي أوج عظمتها من الاعتناء بها والاعتداد بالنابغين فيها والاعتزاز بالجيد منها وكان هذا الشعب العربي قد استكملت له حينذاك ملكة في النقد والمفاضلة تؤهله بسهولة ويسر للحكم على جيد الكلام وزيفه ووضع كل كلام في درجته من العلو أو النزول وترجع براعتهم في هذه الناحية إلى أنهم كانوا قد وقفوا عليها حياتهم والتمسوا من ورائها عظمتهم وعلقوا عليها آمالهم.
ولا يغيبن عنك أن هذا الشعب العربي كان مطبوعا أيامئذ على الصراحة في الرأي لا يعرف النفاق ولا الذبذبة وكانوا فوق ذلك شجعانا يأنفون الذل ويعافون الضيم مهما كلفتهم سجاياهم هذه من بذل مال وسفك دم فلما نزل القرآن لم يسع هذا الشعب الحر الصريح الأبي المتمهر في لغته إلا أن يلقي السلاح من يده ويخضع لسلطان هذا التنزيل وبلاغته ويدين له ويؤمن به عن إدراك ووجدان بعد أن ذاق حلاوته ولمس إعجازه وحكم بملكته العربية الناقدة وصراحته المعروفة السافرة وشجاعته النادرة الفائقة أن هذا الذكر الحكيم لا يمكن أن يكون كلام مخلوق من البشر ولا غير البشر إنما هو تنزيل من حكيم حميد

(2/337)


بهذه الشهادة ينجح العالم كله
شهادة هذا شانها وهذا شان من شهد بها جديرة أن ينجح بها العالم حين يتلقاها بالقبول كما يتلقى بالقبول شهادة لجان التحكيم في هذا العصر ثقة منه بأنهم فنيون يحسنون المقارنة والموازنة واطمئنانا إلى انهم عادلون لا يعرفون المحاباة والمداهنة بل شهادة أولئك العرب أزكى وأطهر وأحكم وأقوم لأنها صدرت عن أعداء القرآن حين نزوله بعد محاولات ومصاولات مخضتهم مخضا عنيفا وأفحمتهم إفحاما مريرا والفضل ما شهدت به الأعداء.
أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوي
ومما يفيد في هذا المقام ويدفع التلبيس أن تعرف بعد ما بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث النبوي الشريف ولا أدل على ذلك من أن بين يدي التاريخ إلى يوم الناس هذا آلافا مؤلفة من كتب السنة تملأ دون الكتب في الشرق والغرب وتنادي كل من له إلمام وذوق في البيان العربي أن هلم لتحس بحاستك البيانية المدى البعيد بين أسلوبي القرآن والحديث ولتؤمن عن وجدان بأن أسلوب التنزيل أعلى وأجل من أسلوب الأحاديث النبوية علوا خارقا للعادة خارجا عن محيط الطاقة البشرية وإن بلغ كلام الرسول صلى الله عليه وسلم في جودته وروعته وجلالته ما جعله خير بيان لخير إنسان.
غير أن هذه الفوارق كما قلنا فوارق فنية لا يدركها إلا الذين أوتوا حظا عظيما من معرفة اللسان العربي والذوق العربي ولقد نزل القرآن أول ما نزل على أمة العرب وهم مطبوعون على اللغة الفصحى منقطعون لإحيائها وترقيتها وكانوا يتفاضلون بينهم بالتفوق في علو البيان وفصاحة اللسان حتى بلغ في تقديسهم لهذا أنهم كانوا يقيمون المعارض العامة للتفاخر والتفاضل بفصيح المنظوم وبليغ المنثور وحتى إن القبيلة كان يرفعها بيت

(2/338)


واحد من الشعر يكون رائعا في مدحها ويضعها بيت يكون لاذعا في ذمها ولقد كان هؤلاء العرب يعرفون نبي الإسلام ويعرفون مقدرته الكلامية من قبل أن يوحى إليه فلم يخطر ببال منصف منهم أن يقول إن هذا القرآن كلام محمد وذلك لما يرى من المفارقات الواضحة بين لغة القرآن ولغة الرسول صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام.
يضاف إلى هذا أنه لم يعرف في نشأته بينهم بالخطابة ولا بالكتابة ولا بالشعر ولم يؤثر أنه شاركهم في معارضهم وأسواقهم العامة التي كانوا يقيمونها للتسابق في البيان بل كان مقبلا على شأنه زاهدا في الظهور ميالا إلى العزلة وكل ما اشتهر به قبل النبوة أنه كان صادقا لم يجربوا عليه كذبا أمينا ما خان أبدا ميمون النقيبة عالي الأخلاق علوا ممتازا فهل يعقل أن رجلا سلخ عهد شبابه وكهولته على هذا النمط يجيء في سن الشيخوخة فينافس العالم كله ويتحداه بشيء من لدنه وهو الذي ما نافس أحدا قبل ذلك ولا تحداه بل كان من خلقه الحياء والتواضع وعدم الاستطالة على خلق الله ثم هل يتصور أن هذا الإنسان الكامل يتورع عن الكذب على الناس في صباه وشبابه وكهولته ثم يجيء في سن الشيخوخة فيكذب أفظع الكذب على الله؟ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} .
ألا إن وجود القرآن كلاما متلوا لم ينقص كلمة ولا حرفا لرحمة واسعة من الله بعباد لم تتسن لأي كتاب في أمة غير هذا الكتاب الذي ينهل الظامئون من بحره الروي في كل عصر ويأوي المنصفون إلى هدية الرباني في كل مصر ويكتسب بما فيه من سمات الألوهية أتباعا في كل أفق مصداقا لقوله سبحانه: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما

(2/339)


كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله تعالى إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" رواه الشيخان.

(2/340)


الوجه الثاني: طريقة تأليفه
وبيان ذلك أن القرآن لم ينزل جملة واحدة وإنما نزل مفرقا منجما على أكثر من عشرين عاما على حسب الوقائع والدواعي المتجددة كما تقدم بيانه في المبحث الثالث من هذا الكتاب وكان الرسول صلى الله عليه وسلم كلما نزل عليه نجم من تلك النجوم قال ضعوه في مكان كذا من سورة كذا وهو بشر لا يدري طبعا ما ستجيء به الأيام ولا يعلم ما سيكون في مستقبل الزمان ولا يدرك ما سيحدث من الدواعي والأحداث فضلا عما سينزل فيها ثم مضى العمر الطويل والرسول على هذا العهد وإذا القرآن كله بعد ذلك يكمل ويتم وينتظم ويتآخى ويأتلف وينسجم ولا يؤخذ عليه شيء من التخاذل والتفاوت بل كان من ضروب إعجازه ما فيه من انسجام ووحده وترابط حتى إن الناظر فيه دون أن يعلم بتنجيم نزوله لا يخطر على باله أنه نزل منجما وحتى إنك مهما أمعنت النظر وبحثت لا تستطيع أن تجد فرقا بين السور التي نزلت جملة والسور التي نزلت منجمة من حيث إحكام الربط في كل منهما فسورة البقرة مثلا وقد نزلت بضعة وثمانين نجما في تسع سنين1 لا تجد فرقا بينها وبين سورة الأنعام التي نزلت دفعة واحدة كما.
يقول الجمهور2 من حيث
__________
1 وجه نزولها في تسع سنين أنها جمعت بين ما نزل في مبادئ السنة الثانية للهجرة كآيات تحويل القبلة وآيات تشريع صوم رمضان وبين آخر القرآن نزولا على الإطلاق وهو آية: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} التي ورد أنها نزلت قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بتسع ليالي فقط.
2 رواه الطبراني موقوفا على ابن عباس ورواه أبي بن كعب مرفوعا بسند ضعيف.

(2/340)


نظام المبنى ودقة المعنى وتمام الوحدة الفنية وإذا قرأت سورة الضحى وسورة اقرأ وسورة الماعون لا تشعر بفارق بينها وبين كثير من السور القصار مثلها من حيث الإحكام والوحدة والانسجام كذلك على حين أن تلك السور الثلاث نزلت كل واحدة منها مفرقة على نجمين فقل لي بربك هل يجوز في عقل عاقل أن يكون هذا القرآن كلام محمد أو غير محمد مع ما علمت من هذا الانفصال الزماني البعيد بين أول ما نزل وآخره ومع ما علمت من ارتباط كل نجم بحادثة من أحداث الزمن ووقائعه ومع ما علمت من أن ترتيب هذه النجوم في القرآن ليس على ترتيب هذا النزول الخاضع للحدثان بدليل أن أول ما نزل من القرآن إطلاقا وهو صدر سورة اقرأ مدون بالمصحف في أواخره وبدليل أن آخر ما نزل منه إطلاقا وهو آية {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} مدون بالمصحف في أوائله؟؟
إن كنت في شك من أن هذا الكتاب المحكم الرصين قد جاء في طريقة تأليفه معجزة فاجمع أهل الدنيا يظاهر بعضهم بعضا واطلب إليهم أن يؤلفوا لك كتابا في حجم سورة البقرة لا في حجم سورة القرآن كله لكن على شرط أن تكون طريقة تأليفه هي الطريقة التي خضعت لها سورة البقرة من الارتباط بأحداث الزمن ووقائعه ومن وضع هذه النجوم مبعثرة غير مرتبة في الكتاب بترتيب الأحداث والوقائع ثم من تمام هذا الكتاب أخيرا على وحدة فنية تربط بين بداياته ونهاياته وأوساطه وسائر أجزائه؟ فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا فاطلب إليهم أن يعمدوا مثلا إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما هو في روعته وبلاغته وطهره وسموه وقد قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلفة واسألهم بعد ذلك هل في مكنتهم أن ينظموا من هذا السرد الشتيت الماثل أمامهم كتابا واحدا يصقله الاسترسال والوحدة كالقرآن من غير أن ينقصوا منه أو يتزيدوا عليه أو يتصرفوا فيه؟؟ ذلك ما لن يكون ولا يمكن أن يكون ومن حاوله من الخلق فإنما يحاول العبث العابث وسيخرج إلى

(2/341)


الناس من هذه المحاولة بثوب مرقع وكلام مشوش ينقصه الترابط والانسجام وتعوزه الوحدة والاسترسال وتمجه الأسماع والأفهام!
إذن فالقرآن الكريم تنطق طريقة تأليفه بأنه لا يمكن أن يكون صادرا إلا ممن له السلطان الكامل على الفلك ودورته والعلم المحيط بالزمن وحوادثه والبقاء السرمدي حتى يبلغ مراده وينفذ مشيئته ذلكم الله وحده الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض والذي يعلم الغيب في السموات وفي الأرض والذي لا يذوق الموت ولا تأخذه سنة ولا نوم لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} .

(2/342)


الوجه الثالث: علومه ومعارفه
بيان ذلك أن القرآن قد اشتمل على علوم ومعارف في هداية الخلق إلى الحق بلغت في نباله القصد ونصاعة الحجة وحسن الأثر وعموم النفع مبلغا يستحيل على محمد وهو رجل أمي نشأ بين الأميين أن يأتي بها من عند نفسه بل يستحيل على أهل الأرض جميعا من علماء وأدباء وفلاسفة ومشترعين وأخلاقيين أن يأتوا من تلقاء أنفسهم بمثلها هذا هو التنزيل الحكيم تقرؤه فإذا بحر العلوم والمعارف متلاطم زاخر وإذا روح الإصلاح فيه قوي قاهر ثم إذا هو يجمع الكمال من أطرافه فبينا تراه يصلح ما أفسده الفلاسفة بفلسفتهم إذ تراه يهدم ما تردى فيه الوثنيون بشركهم وبينا تراه يصحح ما حرفه أهل الأديان في دياناتهم إذ تراه يقدم للإنسانية مزيجا صالحا من عقيدة راشدة ترفع همة العبد وعبادة قويمة تطهر نفس الإنسان وأخلاق عالية تؤهل المرء لأن يكون خليفة الله في الأرض وأحكام شخصية ومدنية واجتماعية تكفل حماية المجتمع من الفوضى والفساد وتضمن له حياة الطمأنينة والنظام والسلام والسعادة دينا قيما يساوق الفطرة ويوائم الطبيعة ويشبع حاجات القلب والعقل ويوفق بين مطالب الروح والجسد ويؤلف بين مصالح الدين والدنيا ويجمع بين عز الآخرة والأولى كل ذلك في قصد واعتدال،

(2/342)


وببراهين واضحة مقنعة تبهر العقل وتملك اللب والكلام على هذه التفاصيل يستنفد مجلدا بل مجلدات فلنجتزئ هنا بأمثلة وإشارات ولنخترها في موضوع العقائد التي هي واحدة في جميع أديان الله بحسب أصلها قبل التعريف ولنتعرض في هذه الأمثلة إلى شيء من المقارنة بين تعاليم الإسلام تعاليم واليهود والنصارى على عهد نزوله ثم إلى شيء من رد القرآن عليهم وتصحيحه لأغلاطهم وفضحه لأباطيلهم ومقصدنا من هذا قطع ألسنة خراصة زعم أصحابها أن تعاليم القرآن استمدها محمد من بعض أهل الكتاب في عصره ثم نسبها إلى ربه ليستمد من هذه النسبة قدسيتها {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} .
أ - أمثلة من عقيدة الإيمان بالله:
1 - جاء في القرآن بالعقيدة في الله بيضاء نقية نزهة فيها عن جميع النقائص نص على استحالة الولد وكل ما يشعر بمشابهة الخالق بالمخلوق ووصف الله بالكمال المطلق ونص على وحدانيته في ربوبيته ووحدانيته في ألوهيته بمعنى أنه أحد في تدبير خلقه وأحد في استحاقة العبادة دون غيره أم تر أنه يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ويقول: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} ويقول: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} ويقول: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ويقول: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ويقول: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} . {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ويقول: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ويقول: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} ويقول: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} ويقول {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}

(2/343)


{إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ , يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ويقول: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} . {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} إلى غير ذلك وهو جد كثير.
2 - وضل اليهود بعد موسى فعبدوا بعلا وزعموا في عهد من عهودهم ما زعمت النصارى من أن لله ابنا وشبهوا الله تعالى بالإنسان فنعتوه بأنه تعب من خلق السماوات والأرض فاستراح يوم السبت وركبوا رؤوسهم فقالوا إنه سبحانه ظهر في شكل إنسان وصارع إسرائيل فلم يقدر على التفلت منه حتى باركه فأطلقه إلى غير ذلك من أغلاطهم وفضائحهم.
3 - وضل النصارى بعد عيسى فذهبوا إلى عقيدة معقدة من التثليث وصارت كنائسهم من عهد قسطنطين كهياكل الوثنية الأولى وخلعوا على رجال كهونتهم ما هو حق الله وحده من التشريع والتحليل والتحريم حتى تعزى بهم وثنيو العرب ورأوا أنهم امثل من هؤلاء المسيحيين في الوثنية {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} وقالوا ءألهتنا خير أم هو ثم احتجوا على شركهم بأنهم ما سمعوا دعوة التوحيد الذي جاء به الإسلام في الملة الآخرة {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ , مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} أي النصرانية.
4 - فانظر مدى البون الشاسع بين الحق الذي جاء به القرآن في هذا الباب وبين الباطل الذي جاء به هؤلاء وهؤلاء على أن كتاب الله لم يكتف بذلك بل رد على المبطلين ببراهينه الساطعة وأدلته القاطعة استمع إليه وهو يقول: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ويقول:

(2/344)


يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً , لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً} ويقول: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ , قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ , قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} ويقول: {َبدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ويقول في نفي التعب الذي افتراه اليهود على الله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} ويقول نعيا عليهم في عبادة بعل: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ , اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} ويقول: نعيا عليهم في فرية أخرى: {َقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} ويقول في نفي البنوة التي زعموها لله هم والنصارى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ , اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ , يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
ب - أمثلة من عقيدة البعث والجزاء:
1 - جاء القرآن بعقيدة البعث بعد الموت واضحة شاملة للروح والجسد عادة لا ظلم

(2/345)


فيها ولا محاباة مقسطة لا شفاعة هتاك بالمعنى الفاسد ولا فداء عامة لا فضل لجنس ولا لطائفة ولا لشخص إلا بالتقوى اقرأ إن شئت قوله سبحانه: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً , ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا وقوله: أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً , أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى , ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى , فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى , أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} وقوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} وقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ , وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} وقوله: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} وقوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} .
2 - وضل اليهود فزعموا أنهم الشعب المختار من بين شعوب الأرض وأنهم أبناء الله وأحباؤه وأن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة هي مدة عبادتهم العجل أربعين يوما.
3 - وضل النصارى فزعموا أيضا أنهم أبناء الله وأحباؤه وذهبوا مذهب الهنود في كرشنة أنه قتل وصلب ليخلص الإنسان ويفديه من الخطيئة فهو المخلص الفادي الذي يخلص الناس من عقوبة الخطايا ويفديهم بنفسه وهو الأقنوم الثاني من الثالوث الإلهي الذي هو عين الأول والثالث وكل منهما عين الآخر كذلك قال الهنود في كرشنة ثم جاء مخرفة النصارى فتابعوهم على هذا الخيال الفاسد الذي تأباه العقول والطباع ولا يتفق وعدل الله وحكمته في الجزاء والمسؤولية ولم يستطع الخابطون في الضلال أن يروجوه في ضحاياهم إلا بترويضهم عليه من عهد الصغر وتنشئتهم على سماعه واعتقاده من غير بحث ولا نظر بل قالوا اعتقد وأنت أعمى.
4 - وضل نساك النصارى فتابعوا الهنود أيضا في احتقار اللذات المادية وفي

(2/346)


تربية النفوس على الحرمان وتعذيب الجسد وزادوا الطين بلة فقالوا إن البعث روحاني مجرد عن إعادة الجسم مخدوعين بتلك النظرية الفلسفية الخاطئة وهي احتقار اللذات المادية وذمهم إياها بأنها حيوانية وغاب عنهم أنها لا تكون نقصا إلا إذا سخر الإنسان عقله وقواه لها وأسرف فيها إسرافا يشغله عن اللذات العقلية والروحية القائمة على العلم النافع والعمل الصالح أما إذا اعتدل فيها ووفق بين المطالب الروحية والجسمية فتلك مفخرة للإنسان وميزة لنوع الإنسان بها صار عالما عجيبا جمع بين روحانية الملائكة وجثمانية الحيوان والنبات وقد خلقه الله في الدنيا مظهرا من مظاهر إبداعه واقتداره فكيف ينقص ملكوت الآخرة هذا المظهر العجيب على حين أن الآخرة هي دار العجائب والغرائب فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؟!" {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .
5 - وكذلك ضل متطرفة اليهود فعكسوا الأمر وأفرطوا في حب المادة حتى أحلوا لأنفسهم جمعها من أي طريق وبالغوا في استنزاف دماء العالم بالربا وأكل أموال الناس بالباطل وظنوا أن لا جناح عليهم إذا رزؤوا أي عنصر غريب عنهم {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} .
6 - ولكن القرآن قد جاء يرد هؤلاء وهؤلاء إلى جادة الاعتدال ووقف موقفا وسطا يرجع إليه المغالي وينتهي إليه المقصر فأعلن عقيدته في وضوح على نحو ما ذكرنا وتناول أخطاءهم المذكورة بالإصلاح والتقويم فقال في معرض الرد على أنهم الشعب المختار: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ , وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} وقال في هذا المعرض أيضا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} وقال أيضا: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً , وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ

(2/347)


مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} قال في معرض الرد على فرية أنهم أبناء الله وأحباؤه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} وقال في تفنيد ما زعموه من أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ , بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ , وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وقال في تكذيب ما زعموا من قتل عيسى وصلبه: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً , بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً , وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} . وقال في دحض عقيدة الفداء: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} .
وقال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ونزلت سورة المسد تسجل العذاب على عم من أعمام أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم وذكر القرآن ما ذكر في ابن نوح ولم يطب القرآن نفسا بضلالة اعتقد وأنت أعمى بل حث على النظر والتفكر وحاكم العقائد والتعاليم الإسلامية إلى العقول السليمة ونعى على المقلدين تقليدا أعمى والأمر في هذا أظهر من أن تساق له أمثلة.
وعالج القرآن شبهة احتقار اللذات المادية بالمعنى الذي أرادوه فقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ , وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} وذم الرهبانية ومبتدعيها فقال:

(2/348)


{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} وعاب على اليهود خيانتهم وظلمهم للشعوب فقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ , بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين , إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} {وقالوَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إلى غير ذلك من آيات كثيرة في هذه المواضيع.
والذي نريد أن تفطن له هنا هو أن هداية القرآن كما رأيت هداية تامة عامة صححت معارف الفلاسفة المكبين على البحث والنظر كما صححت معارف الأميين ومن لا ينتمي إلى العلم بسبب وصححت أغلاط أهل الكتاب من يهود ونصارى كما صححت أغلاط مؤلهة الحجر وعبدة الوثن وإذن فليس يصح في الأذهان شيء إذا قيل إن هذه الهدايات القرآنية ليست وحيا من الله وإنما هي نابغة من نفس محمد الأمي الناشئ في الأميين وليس يصح في الأذهان شيء إذا قيل إنه صلى الله عليه وسلم قد استقى هذه الهدايات من بعض أهل الكتاب الذين لقيهم في الجزيرة العربية ولو صح هذا لكانوا هم أولى منه بدعوى الرسالة والنبوة وكيف يصح هذا والقرآن هو الذي علمهم ما جهلوا من حقائق دينهم؟ وهل فاقد الشيء يعطيه؟. وحسبك ما قدمناه لك من تلك الأمثلة التي تتصل بأساس الأديان وصميم العقائد والتي تريك بالمنظار المكبر أن القرآن جالس على كرسي الأستاذية العليا للعالم كله يعلم اليهود والنصارى وغير اليهود والنصارى لا على مقعد التلمذة الدنيا يتلقف من هؤلاء وهؤلاء.

(2/349)


فإن لم يكفك ما سمعت فدونك القرآن تصفحه وتجول في آفاقه وناهيك مثل قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ , يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ومثل قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
وإن شئت أكثر من هذا فتأمل كيف أعلن الحق في صراحة أن بيانه لأهل الكتاب ما اختلفوا فيه هو من مقاصده الأولى إذ قال في سورة النحل: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} هكذا قدم أنه بيان لما اختلف فيه الكتابيون قبل أن يقول: {وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
وكذلك قال في سورة النمل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ , وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ , إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ , فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} .
لقد لفت القرآن نفسه أنظار الناس إلى هذه الناحية من الإعجاز وأقام الدليل على أنه كلام الله ولا يمكن أن يكون كلام محمد إذ قال جلت حكمته في سورة العنكبوت: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ , وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ , بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} وإذ قال سبحانه مرة أخرى في سورة الشورى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ , صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} .

(2/350)


ويرحم الله البوصيري في قوله:
كفاك بالعلم في الأمي معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم
صلى الله عليه وسلم ومجد وعظم وشرف وكرم ورزقنا كمال الإيمان به وكمال اتباعه آمين.

(2/351)


الوجه الرابع: وفاؤه بحاجات البشر
ومعنى هذا أن القرآن الكريم جاء بهدايات تامة كاملة تفي بحاجات البشر في كل عصر ومصر وفاء لا تظفر به في أي تشريع ولا في أي دين آخر ويتجلى لك هذا إذا استعرضت المقاصد النبيلة التي رمى إليها القرآن في هدايته والتي نعرض عليك من تفاصيلها ما يأتي:
أولا: إصلاح العقائد عن طريق إرشاد الخلق إلى حقائق المبدأ والمعاد وما بينهما تحت عنوان الإيمان بالله تعالى وملائكته ورسله واليوم الآخر.
ثانيا: إصلاح العبادات عن طريق إرشاد الخلق إلى ما يزكي النفوس ويغذي الأرواح ويقوم الإرادة ويفيد الفرد والمجموع منها.
ثالثا: إصلاح الأخلاق عن طريق إرشاد الخلق إلى فضائلهم وتنفيرهم من رذائلها في قصد واعتدال وعند حد وسط لا إفراط فيه ولا تفريط.
رابعا: إصلاح الاجتماع عن طريق إرشاد الخلق إلى توحيد صفوفهم ومحو العصبيات وإزالة الفوارق التي تباعد بينهم وذلك بإشعارهم أنهم جنس واحد من نفس واحدة ومن عائلة واحدة أبوهم آدم وأمهم حواء وأنه لا فضل لشعب على شعب ولا لأحد على أحد إلا بالتقوى وأنهم متساوون أمام الله ودينه وتشريعه متكافئون في الأفضلية وفي الحقوق والتبعات من غير استثناءات ولا امتيازات وأن الإسلام عقد إخاء بينهم أقوى من إخاء النسب والعصب وأن لسانهم العام هو لسان هذا الدين ولسان كتابه لغة العرب وأنهم أمة واحدة يؤلف بينها المبدأ ولا تفرقها الحدود الإقليمية ولا الفواصل

(2/351)


السياسية والوضعية {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} .
خامسا: إصلاح السياسة أو الحكم الدولي عن طريق تقرير العدل المطلق والمساواة بين الناس ومراعاة الفضائل في الأحكام والمعاملات من الحق والعدل والوفاء بالعهود والرحمة والمواساة والمحبة واجتناب الرذائل من الظلم والغدر ونقض العهود والكذب والخيانة والغش وأكل أموال الناس بالباطل كالرشوة والربا والتجارة بالدين والخرافات.
سادسا: الإصلاح المالي عن طريق الدعوة إلى الاقتصاد وحماية المال من التلف والضياع ووجوب إنفاقه في وجوه البر وأداء الحقوق الخاصة والعامة والسعي المشروع.
سابعا الإصلاح النسائي عن طريق حماية المرأة واحترامها وإعطائها جميع الحقوق الإنسانية والدينية والمدنية.
ثامنا: الإصلاح الحربي عن طريق تهذيب الحرب ووضعها على قواعد سليمة لخير الإنسانية في مبدئها وغايتها ووجوب التزام الرحمة فيها والوفاء بمعاهداتها وإيثار السلم عليها والاكتفاء بالجزية عند النصر والظفر فيها.
تاسعا: محاربة الاسترقاق في المستقبل وتحرير الرقيق الموجود بطرق شتى منها الترغيب العظيم في تحرير الرقاب وجعله كفارة للقتل وللظهار ولإفساد الصيام بطريقة فاحشة ولليمين الحانثة ولإيذاء المملوك باللطم أو الضرب.
عاشرا: تحرير العقول والأفكار ومنع الإكراه والاضطهاد والسيطرة الدينية القائمة على الاستبداد والغطرسة {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ , لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} .
دليل على هذا الوجه من الإعجاز:
والدليل على هذا الوجه من إعجاز القرآن أن غير المسلمين كانوا ولا يزالون حائرين يبحثون عن النور وينقبون عما يفي بحاجتهم في كثير من نواحي حياتهم حتى اضطروا تحت ضغط هذه الحاجة وبعد طول المطاف وقسوة التجارب أن يرجعوا إلى هداية القرآن من حيث يشعرون أو لا يشعرون وإليك شواهد على ذلك:

(2/352)


1 - أمريكا حرمت الخمر أخيرا ولكنها فشلت ولم تنجح لأنها لم توفق إلى الطريقة الحكيمة التي اتبعها الإسلام في تحريم الخمر.
2 - أمريكا أباحت الطلاق وإن كانت قد أسرفت فيه إلى درجة ضارة.
3 - أسبانيا أصدرت حكومتها قانونا بمنع البغاء الرسمي في بلادها وبمنع النساء من البروز على الشواطئ في ثياب الاستحمام.
4 - مصلحو أوروبا يرفعون أصواتهم بضرورة الرجوع إلى مبدأ تعدد الزوجات حتى بعض نسائهم طالبن بهذا.
5 - اليهود يطالبون أيضا بتعدد الزوجات وقد تزعم هذه الحركة يهودي اسمه مورشه ليكفر مان وبرهن على أن ذلك من أحكام الدين اليهودي وطلب إلى اليهود إلغاء قرار الحاخام غرشون الذي تعدى حدود الدين اليهودي بإبطاله الزواج بأكثر من واحدة وأصبح له أتباع كثيرون.
6 - زعيم فرنسا نادى غداة هزيمتها في الحرب القائمة الآن يقول إن سبب انهيار دولتهم هو انغماسهم في الشهوات الجنسية وإسرافهم في المفاسد والمفاتن.

(2/353)


الوجه الخامس: موقف القرآن من العلوم الكونية
ومعنى هذا أن القرآن روعيت فيه بالنسبة إلى العلوم الكونية اعتبارات خمسة لا يصدر مثلها عن مخلوق فضلا عن رجل أمي نشأ في الأميين وهو محمد صلى الله عليه وسلم
أولها أنه لم يجعل تلك العلوم الكونية من موضوعه وذلك لأنها خاضعة لقانون النشوء والارتقاء وفي تفاصيلها من الدقة والخفاء ما يعلو على أفهام العامة ثم إن أمرها بعد

(2/353)


ذلك هين بإزاء ما يقصده القرآن من إنقاذ الإنسانية العاثرة وهداية الثقلين إلى سعادة الدنيا والآخرة فالقرآن كما أسلفنا في المبحث الأول كتاب هداية وإعجاز وعلى هذا فلا يليق أن نتجاوز به حدود الهداية والإعجاز حتى إذا ذكر فيه شيء من الكونيات فإنما ذلك للهداية ودلالة الخلق على الخالق ولا يقصد القرآن مطلقا من ذكر هذه الكونيات أن يشرح حقيقة علمية في الهيئة والفلك أو الطبيعة والكيمياء ولا أن يحل مسألة حسابية أو معادلة جبرية أو نظرية هندسية ولا أن يزيد في علم الطب بابا ولا في علم التشريح فصلا ولا أن يتحدث عن علم الحيوان أو النبات أو طبقات الأرض إلى غير ذلك.
ولكن بعض الباحثين طاب لهم أن يتوسعوا في علوم القرآن ومعارفه فنظموا في سلكها ما بدا لهم من علوم الكون وهم في ذلك مخطئون ومسرفون وإن كانت نيتهم حسنة وشعورهم نبيلا ولكن النية والشعور مهما حسنا لا يسوغان أن يحكي الإنسان غير الواقع ويحمل كتاب الله على ما ليس من وظيفته خصوصا بعد أن أعلن الكتاب نفسه هذه الوظيفة وحددها مرات كثيرة منها قوله سبحانه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} ومنها قوله جلت حكمته: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ , يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
ومما يجب التفطن له أن عظمة القرآن لا تتوقف على أن ننتحل له وظيفة جديدة ولا أن نحمله مهمة ما أنزل الله بها من سلطان فإن وظيفته في هداية العالم أسمى وظيفة في الوجود ومهمته في إنقاذ الإنسانية أعلى مهمة في الحياة وما العلوم الكونية بإزاء الهدايات القرآنية؟ أليس العالم الآن يشقى بهذه العلوم ويحترب وينتحر؟ ثم أليست العلوم الكونية هي التي ترمي الناس في هذه الأيام بالمنايا وتقذفهم بالحمم وتظهر لهم على أشكال مخيفة مزعجة من مدافع رشاشة ودبابات فتاكة وطائرات أزازة وقنابل مهلكة وغازات

(2/354)


محرقة ومدمرات في البر والبحر وفي الهواء والماء وما أشبه هذه العلوم للإنسان بعد تجرده من هدى الله ووحي السماء بالأنياب والمخالب للوحوش الضارية والسباع الواغلة في أديم الغبراء!!.
ثانيها أن القرآن دعا إلى هذه العلوم ما دعا إليه من البحث والنظر والانتفاع بما في الكون من نعم وعبر قال سبحانه قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وقال جل شأنه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
ثالثها أن القرآن حين عرض لهذه الكونيات أشعرنا أنها مربوبة له تعالى ومقهورة لمراده ونفى عنها ما علق بأذهان كثير من الضالين الذين توهموها آلهة وهي مألوهة وزعموها ذات تأثير وسلطان بينما هي خاضعة لقدرة الله وسلطانه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} وكذلك أشعرنا القرآن أنها هالكة: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} .
رابعها أن القرآن حين يعرض لآية كونية في معرضة من معارض الهداية يتحدث عنها حديث المحيط بعلوم الكون الخبير بأسرار السموات والأرض الذي لا تخفى عليه خافية في البر والبحر ولا في النجوم والكواكب ولا في السحاب والماء ولا في الإنسان والحيوان والنبات والجماد وذلك هو الذي بهر بعض المشتغلين بالعلوم الكونية وأوقع من أوقع منهم في الإسراف واعتبار هذه العلوم من علوم القرآن.
خامسها أن الأسلوب الذي اختاره القرآن في التعبير عن آيات الله الكونية أسلوب بارع جمع بين البيان والإجمال في سمط واحد بحيث يمر النظم القرآني الكريم

(2/355)


على سامعيه في كل جيل وقبيل فإذا هو واضح فيما سبق له من دلالة الإنسان وهدايته إلى الله ثم إذا هو مجمل التفاصيل يختلف الخلق في معرفة تفاريعه ودقائقه باختلاف ما لديهم من مواهب ومسائل وعلوم وفنون.
ولنضرب لذلك مثلا تلك الآية الحكيمة وهي قوله عز اسمه: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فإنها مرت على بني الإنسان منذ نزلت إلى الآن ففهموا منها جميعا أن الله تعالى يدل على قدرته وإبداعه وكماله بأنه خلق من الأشياء متنوعات مختلفة الأشكال والخصائص لكنهم اختلفوا بعد ذلك فالأوائل يؤثر عنهم أن الزوجين في الآية الكريمة هما الأمران المتقابلان تقابلا ما لا بخصوص الذكورة والأنوثة روي عن الحسن أنه فسر الزوجين بالليل والنهار والسماء والأرض والشمس والقمر والبر والبحر والحياة والموت وهكذا عدد أشياء وقال كل اثنين منها زوج الله تعالى فرد لا مثيل له أما المتأخرون ففهموا أن الزوجين في الآية هما الأمران المتقابلان بالذكورة والأنوثة ويقولون إنه ما من شيء في الوجود إلا منه الذكر والأنثى سواء في ذلك الإنسان والحيوان والجماد وغيرها مما لا نعلم ويستدلون على ذلك بقوله سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} ويقولون إن أحدث نظرية في أصول الأكوان تقرر أن أصول جميع الكائنات تتكون من زوجين اثنين وبلسان العلم الحديث إلكترون وبروتون.
ولا أحب أن نتوسع في هذا فبين أيدينا أمثلة كثيرة ومؤلفات جمة تموج وتضطرب باستنباط علوم الكون من القرآن أو بتفسير القرآن وشرحه بعلوم الكون وأحداثها فيما أعلم كتاب تحت الطبع الآن ألفه شاب فاضل مثقف وسماه بين القرآن والعلم وضمنه شتيتا من الأبحاث المختلفة في الاجتماع وعلم النفس وعلم الوارثة والزراعة والتغذية وفيما وراء الطبيعة مما لا يتسع المقام لذكره ومما لا نرى حاجة إليه خصوصا بعد أن تبين لنا أن العلوم الكونية خاضعة لطبيعة الجزر والمد وأن أبحاثا كثيرة منها لا تزال قلقة حائرة بين

(2/356)


إثبات ونفي فما قاله علماء الهيئة بالأمس ينقضه علماء الهيئة اليوم وما قرره علماء الطبيعة في الماضي يقرر غيره علماء الطبيعة في الحاضر وما أثبته المؤرخون قديما ينفيه المؤرخون حديثا وما أنكره الماديون وأسرفوا في إنكاره باسم العلم أصبحوا يثبتونه ويسرفون في إثباته باسم العلم أيضا إلى غير ذلك مما زعزع ثقتنا بما يسمونه العلم ومما جعلنا لا نطمئن إلى كل ما قرروه باسم هذا العلم حتى لقد ظهر في عالم المطبوعات كتاب خطير من مصدر علمي محترم عندهم له خطورته وجلالته وشأنه فصدع هذا الكتاب بناء علمهم وزلزل أركانه الثقة به بعد أن نقض بالدليل والبرهان كثيرا من المقررات والمسلمات التي يزعمونها يقينية ثم انتهى بقارئه إلى أن هذا الكون غامض متغلغل في الغموض والخفاء ومن هنا سمى تأليفه الكون الغامض وهذا المؤلف هو السير جيمس جينز.
فهل يليق بعد ذلك كله أن نبقى مخدوعين مغرورين بعلمهم الذي اصطلحوا عليه وتحاكموا إليه وقد سجنوه وسجنوا أنفسهم معه في سجن ضيق هو دائرة المادة تلك الدائرة المسجونة هي أيضا في حدود ما تفهم عقولهم وتصل تجاربهم وقد تكون عقولهم خاطئة وتجاربهم فاشلة؟؟! ثم هل يليق بعد ذلك كله أن نحاكم القرآن إلى هذه العلوم المادية القلقة الحائرة بينما القرآن هو تلك الحقائق الإلهية العلوية القارة الثابتة المتنزلة من أفق الحق الأعلى الذي يعلم السر وأخفى؟!
ألا إن القرآن لا يفر من وجه العلم ولكنه يهفوا إلى العلم ويدعو إليه ويقيم بناءه عليه فأثبتوا العلم أولا ووفروا له الثقة وحققوه ثم اطلبوه في القرآن فإنكم لا شك يومئذ واجدوه وليس من الحكمة ولا الإنصاف في شيء أن نحاكم المعارف العليا إلى المعارف الدنيا ولا أن نحبس القرآن في هذا القفص الضيق الذي انحبست فيه طائفة مخدوعة من البشر بل الواجب أن نتحرر من أغلال هذه المادة المظلمة وأن نطير في سموات القرآن حيث نستشرف المعارف النورانية المطلقة والحقائق الإلهية المشرقة وأن نوجه اهتمامنا دائما إلى استجلاء عظات هذا التنزيل وهداياته الفائقة وألا نقطع برأي في تفاصيل

(2/357)


ما يعرض له القرآن من الكونيات إلا إن كان لنا عليه دليل وبرهان لا شك فيه ولا نكران وإلا وجب أن نتوقف عن هذه التفاصيل ونكل علمها إلى العالم الخبير قائلين ما قالت الملائكة حين أظهر الله لهم على لسان آدم ما لم يكونوا يحتسبون {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} .
كلمة في الموضوع:
والآن يروقني أن أنقل لك مقتطفات قيمة للعلامة المرحوم الشيخ عبد العزيز جاويش في هذا الموضوع لكن بتصرف قليل:
1 - ليست مهمة القرآن كسائر الكتب السماوية البحث في الشؤون الكونية والمسائل العلمية والفنية على النحو المألوف في الكتب الخاصة الموضوعة فيها.
2 - لما جاء القرآن الكريم كان في جزيرة العرب من العقائد الفاسدة والعلم الخاطئ بالكونيات أضعاف ما كان منها لدى بني إسرائيل عندما أخرجهم موسى صلى الله عليه وسلم من مصر فكان من الحكمة الإلهية أن يتنزل على محمد صلى الله عليه وسلم في سبيل تصحيح تلك العقائد والمعلومات أضعاف ما تنزل على موسى في سفر التكوين والحكمة البالغة في ذلك أن الدعوة إلى توحيد الخلق وتقرير الحق من العقائد وقبول ما يلي ذلك من الشرائع والأخلاق ما كانت لتجد سبيلها إلى قلوب عرفت للأجرام العلوية في ألوهيتها وتزاوجها وما كان من أثرها في تكوين هذه الكائنات ونظامها ما قررته العقلية القديمة في بلاد مصر والإغريق وما يثبته في جزيرة العرب وما حولها أساطير الأشوريين والبابليين والكلدانيين إذن كان لزاما أن يسترعي القرآن انتباه الناس إلى وجه الخطأ في عقائدهم وأن يشككهم في الباطل الذي اتبعوه لأنهم وجدوا عليه آباءهم وأن يطلقهم بذلك من الحجر الذي أشقاهم وألحقهم بالأنعام من الحيوان.

(2/358)


3 - كانت إذن مهمة القرآن الحكيم التي أرادها لتمهيد السبيل إلى التعريف بالخالق جل شأنه أن يعين العقول بضرب الأمثال لم تفكر؟ وفيم تفكر؟ وكيف تفكر؟ فهو في جهاده هذا كان يخطط أرض العلم لتقيم العقول البشرية عليها صروحه الشامخة المتينة ويرسم الخطوط الأساسية للصور كي يملأها الرسام بما يلزم لها من الألوان والظلال ومعالم الجمال.
4 - لم يقف القرآن الكريم عند هذا الحد فيما ضرب لنا من الأمثال في بيان بعض غوامض الحقائق الكونية بل جاء في ذلك بحقائق أمر الأميين وغير المحصلين بالتسليم بها والتفويض فيها كما أمر العقول الناضجة المقتدرة بطلابها والوقوف على دقائقها والعلم بوجوه الصواب فيها ثم نصح الفريقين أن يعترفا بعجز عقولهم وألا يقطعا بشيء فيما لا تبلغه أبحاثهم وسعيهم بل يتهمون أنفسهم بالعجز والقصور ويسألون أهل الذكر فيما لا يعلمون أو يكلون أمر لا يدركون إلى من يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير.
5 - أن المسيحين حينما ثاروا في وجه العلم ونظام الحكم ثوراتهم التجديدية في أوروبة لم يكونوا ليشبهوا في شيء من مواقفهم تلك أحدا من الشعوب الإسلامية فإنما كان مبعث حركتهم العنيفة ومصدر ثورتهم الدموية أن رجال الكنيسة باسم الدين حجروا على العقول والوجدان وقرروا للكنيسة فلسفة حرموا على الناس حتى استيضاح ما غمض عليهم منها ثم قرروا تكفير من يقول بغيرها ولو اعتمد في رأيه على الحس والمعاينة حتى لقد كان منهم ميلانشتون وكيرمونيني اللذان رفضا أن ينظرا إلى السماء بالآلة المقربة تلسكوب وقد روي عن غاليلو أن من تلاميذ المذهب الارسطاطالي من كانوا ينكرون وجود أجسام علوية مرئية بالفعل وأنهم كانوا يعتبرون فلسفة أرسطو كتلة واحدة لا تقبل التفكيك إذا نقض منها حجر انهار سائر بنيانها على أثره فكان ذلك سبب مغالاتهم في التمسك بها والحرص عليها مجتمعة.

(2/359)


ثم قال في تعدد الأرضين:
لم يذكر القدماء شيئا في أمر تعدد الأرضين سوى ما نقله ابن سينا عن قدماء حكماء الفرس من أن هنالك أراضي كثرة غير أرضنا وما زال الرأي السائد بين سائر الحكماء والفلاسفة يقول بعدم تعددها حتى جاء غاليلو المتوفى سنة 1642 بمناظيره المكبرة والمقربة وكذلك من جاؤوا بعده فأثبتوا بمشاهداتهم العينية الصادقة أن السيارات جميعها أراض كأرضنا وقد يكون بها ما بأرضنا من الجبال والوهاد والماء والهواء والخلائق والعمران ولم يعتمدوا في هذا التجويز إلا على الحدس والظن فإن مناظيرهم لم تثبت لهم ذلك بعد.
أما القرآن فقد صرح بتعدد الأرضين في آية {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} ففي تفسير أبي السعود من مفسري القرن التاسع للهجرة أن الجمهور على أنها سبع أرضين بعضها فوق بعض وفي تفسير النيسابوري أنها سبع أرضين ما بين كل واحدة منها إلى الأخرى مسيرة خمسمائة1 عام وفي كل أرض منها خلق إلى أن قال وهم يشاهدون السماء من جانب أرضهم ويشهدون الضياء منها ومن أصرح الآيات في أن السيارات أرض مأهولة آية الشورى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} إذ المراد بالسموات هنا السيارات على ما يأتي لنا من التأويل ومن الآيات
__________
1 مسألة تقدير المسافات التي مثلا بمسيرة خمسمائة عام يفسرها الشهر ستاني بالدابة تسير فرسخا إسلاميا في كل ساعة على ما هو المعروف وومصطلح عليه في سائر المكتب الإسلامية، مما يبلغ مجموعة نحو 16 ميلا تقريبا وهو قريب جدا من تقديرات المتأخرين للمسافات الفاصلة بين سيارات كما يقول ذلك الأستاذ الشرستاني في كتابه المسمى "الهيئة والإسلام" ص 90 ج أول.
"ومما يجدر ذكره أن الشرستاني هذا ليس هو صاحب الملل والنحل بل هو أحد مجتهدي الشيعة المعاصرين لنا. واسمه هبة الله".

(2/360)


البينة في هذا الموضوع قوله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} :
ومن قصرت عقولهم استبعدوا وجود الحيوان في الأجرام السماوية ولكن نفى الزمخشري والبيضاوي وغيرها استبعاد أن يخلق الله فيها صنوفا من الحيوان يمشون فيها مشي الإنسان على الأرض فالله خلق كما قالوا ما نعلم وما لا نعلم اهـ ما أردنا نقله.

(2/361)


الوجه السادس: سياسته في الإصلاح
ومعنى هذا أن القرآن انتهج طريقا عجيبا في إصلاحه وسلك سياسة حكيمة وصل بها من مكان قريب إلى ما أراد من هداية الخلق فتذرع بجميع الوسائل المؤدية إلى نجاح هذا الإصلاح الوافي بكل ما يحتاج إليه البشر مما يدل بوضوح على أن القرآن في سياسته هذه لا يمكن أن يصدر عن نفس محمد ولا غير محمد.
وبيان ذلك من وجوه:
أولها مجيء هذا الكتاب منجما ومخالفته بذلك سائر كتب الله الإلهية بعدا بالناس عن الطفرة وتيسيرا لتلقيهم إياه وقبولهم ما جاء به على نحو ما بينا في أسرار التنجيم بالمبحث الثالث من هذا الكتاب.
ثانيها مجيء هذا الكتاب بذلك الأسلوب الشائق الرائع الحبيب إلى نفوسهم ليكون لهم من هذا الأسلوب دافع إلى الإقبال عليه والاستئناس بما جاء من تعاليمه وإن كانت مخالفة لما مردوا عليه من قبل.
ثالثها مجيء هذا الكتاب على غير المعهود في تأليف القوانين والعلوم والفنون والآداب من بناء تقسيمها وتبويبها على الموضوعات بحيث يختص كل باب من الكتاب بموضوع معين ويختص كل فصل من فصول هذا الباب بمسألة أو مسائل وهكذا

(2/361)


فأنت تجد في الغالب كل سورة من سور القرآن جامعة لمزيج من مقاصد وموضوعات يشعر الناظر فيها بمتعة ولذة كما تنقل بين هذه المقاصد في السورة الواحدة كما يشعر الآكل باللذة والمتعة كلما وجد ألوانا شتى من الأطعمة على المائدة الواحدة وإذن ففي هذا النمط الذي اختاره القرآن فائدتان دفع السأم والملل عن الناظر في هذا الكتاب وانقياد النفوس إلى هدايته بلباقة من حيث لا تحس بغضاضة يضاف إلى هذا ما نلمحه من الوحدة الفنية في السورة أو القطعة الواحدة ومن وفاء القرآن بجميع الاصطلاحات البشرية على رغم هذا الانتشار القاضي في العادة بعدم الانسجام وبفوات شيء أو أشياء من مقاصد التأليف وأغراض المؤلفين حتى ليبدو ذلك وجها جديدا من وجوه الإعجاز يؤمن به عن خبرة وإحساس كل من ابتلى بتأليف أو مزاولة آثار المؤلفين!.
رابعها تكرار ما يستحق التكرار من الأمور المهمة حتى يجد سبيله إلى النفوس النافرة والطباع العصية فتسلس له القيادة وتلقى إليه السلم مثال ذلك تقرير القرآن لعقيدة التوحيد واستئصاله لشأفة الشرك بوساطة الحديث عنهما مرارا وتكرارا تارة يصرح وأخرى يلوح وتارة يوجز وأخرى يطنب وتارة يذكر العقيدة مرسلة وأخرى يذكرها مدللة وتارة يشفعها بدليل واحد وأخرى بجملة أدلة وتارة يضرب لها الأمثال وأخرى يسوق فيها القصص وتارة يقرنها بالوعد وأخرى بالوعيد وهلم.
خامسها مخاطبة العقول والأفكار ودعوته إلى إعمال النظر وطلب الدليل والبرهان ونعيه على من أهملوا العقول واستمرؤوا التقليد الأعمى وركنوا إلى الجمود اقرأ قوله سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} وقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} وقوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} .

(2/362)


وهكذا كثيرا ما نسمع في القرآن أمثال قوله سبحانه: {أَفَلا يَسْمَعُونَ} {قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ} {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ , وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ , وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ , وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إلى غير ذلك مما يرفع كرامة الإنسان ويحاكم أهم الأمور حتى العقيدة في الله تعالى إلى العقول ليصل المرء من وراء ذلك إلى اقتناع الضمير واطمئنان القلب وبرد اليقين وحرارة الإيمان!.
سادسها استغلاله الغرائز النفسية استغلالا صالحا بعد أن يهذبها بالدليل ويصقلها بالبرهان هذه غريزة التقليد والمحاكاة في الإنسان مثلا قد نأى بها القرآن عن احتذاء الأمثلة السيئة من الجهلة والفسقة وذهب بها إلى مقام أمين من وجوب اتباع الأمثلة الطيبة والتأسي بمن أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء الصالحين {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} .
وهذه غريزة حب البقاء والعلو في الإنسان قد نأى بها القرآن أيضا عن الظلم والبغي وذهب بها إلى حيث الدفاع عن النفس والعرض والدين والوطن وقاد بهم عباد الله إلى الحق والخير إذا وعدهم حياة ثانية في الخلود والبقاء وفيها الملك الواسع والاستعلاء العادل {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} .
وهكذا دخل القرآن على الناس من هذا الباب فقادهم من غرائزهم حتى ناط أوامره بمصالحهم ونواهيه بمفاسدهم وجعل ذلك قاعدة عامة قال فيها {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} .
وأن أردت تفصيلا وتمثيلا فانظر إلى تلك المقارنة الرائعة بين المؤمن والمشرك إذ يقول سبحانه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ

(2/363)


هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} فأنت ترى في هذه الآية الكريمة أن المشرك مع معبوديه مثله مثل عبد اشترك فيه شركاء متنازعون مختلفون كل واحد منهم يدعي أيهم عبده فهم يتجاذبونه ويتعاورونه في أعمال شتى وهو متحير متعب مجهود لا يدري أيهم يرضى بخدمته وعلى أيهم يعتمد في حاجاته؟ ولا يدري ممن يطلب رزقه وممن يلتمس رفقه فهمه شعاع وقلبه أوزاع أما المؤمن فمثله مثل عبد له سيد واحد فهمه وقلبه مجتمع وضميره مستريح وعمله مريح {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار} !.
وإن أردت مثالا ثانيا فاستمع إلى القرآن وهو يقول في فريضة الصلاة: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ} وقوله: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} .
وإن أردت أمثلة أخرى فاقرأ قول سبحانه في فرض الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وفي فرض الصيام كتب عليكم الصيام: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وفي فرض الحج: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} إلخ وفي عموم الإيمان والعمل الصالح: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
سابعها ترتيبه الأوامر والنواهي ترتيبا يسع جميع الناس على تفاوت استعدادهم ومواهبهم فالأوامر الدينية درجات هذا إيمان وهذا إسلام وهذا ركن وهذا فرض وهذا واجب وهذا مندوب مؤكد وهذا مندوب غير مؤكد والمناهي كذلك درجات هذا نفاق وهذا شرك وهذا كفر وهذه كبيرة وهذه صغيرة وهذا مكروه تحريما وهذا مكروه تنزيها وما وراء هذه الأوامر والنواهي فمباحات لكل أن يأخذ وأن يدع منها ما شاء.

(2/364)


ولا ريب أن وضع التشريع على هذا الوجه فيه متسع للجميع وفيه إغراء للنفوس الضعيفة أن تتشرف باعتناق الإسلام ولو في أدنى درجة من درجاته حتى إذا أنست به وذاقت حلاوته تدرجت في مدارج الرقي فمن إيمان إلى إسلام إلى أداء ركن إلى أداء فرض إلى أداء واجب إلى أداء مندوب غير مؤكد ومن ترك نفاق إلى ترك شرك وكفر إلى ترك كبيرة إلى ترك صغيرة إلى ترك مكروه تحريما إلى ترك مكروه تنزيها إلى ترك ما لا بأس به حذرا مما به بأس ومن مجرد أداء للنوافل إلى زيادة فيها وإكثار منها حتى يصل العبد إلى ذلك المقام الذي جاء فيه عن الله تعالى: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى احبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه" رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه.
على ضوء هذه السياسة الشرعية الحكيمة التي نزل بها القرآن كان صلى الله عليه وسلم يتدرج بالأقوام رويدا رويدا كما كان يتساهل معهم تأليفا لقلوبهم واستمالة لهم إلى اعتناق الدين على أي وجه ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد بسنده عن نصر بن عاصم الليثي عن رجل منهم انه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على أن يصلي صلاتين لا خمسا فقبل منه وجاء في رواية أخرى على ألا يصلي إلا صلاة فقبل وعن وهب قال سألت جابر عن شأن ثقيف إذ بايعت فقال اشترطت على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد وأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعد ذلك سيتصدقون ويجاهدون رواه أبو داود وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "أسلم" قال أجدني كارها قال: "أسلم وإن كنت كارها" رواه أحمد قال الشوكاني في نيل الأوطار بعد أن سرد هذه الأحاديث فيها دليل على أنه يجوز مبايعة الكافر وقبول الإسلام منه وإن شرط شرطا باطلا.
والمراقب لنزول القرن وسير التشريع الإسلامي يرى من مظاهر هذه السياسة

(2/365)


البارعة المعجزة شيئا كثيرا وحسبك ان يبتدئ الأمر بتقرير عقيدة التوحيد وألا تفرض الصلوات الخمس إلا بعد عشر سنوات تقريبا من البعثة ثم سائر العبادات بعضها تلو بعض أما المعاملات فلم يستبحر الأمر فيها إلا بعد الهجرة وقل مثل ذلك في المنهيات ولعلك لم تنس التدرج الإلهي الحكيم في تحريم الخمر.
ثامنها مجيء القرآن بمطالب الروح والجسد جميعا بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر وفي ذلك آيات كثيرة تقدم التنويه بها في مناسبات أخرى ومن أجلها كان المسلمون أمة وسطا بين من تغلب عليهم المادية والحظوظ الجسدية كاليهود ومن تغلب عليهم النواحي الروحية وتعذيب الجسد وإذلال النفس كالهندوس والنصارى في تعاليمهم وإن خالفتها الكثرة الغامرة منهم.
تاسعها مجيء القرآن بمطالب الدنيا والآخرة جميعا عن طريق التزام تعاليمه وهداياته التي أجملنا مقاصدها فيما سبق لا عن طريق الاعتقادات الخاطئة والأماني الكاذبة والتواكل وترك العمل والآيات في هذا المعنى أظهر من أن تذكر.
عاشرها مجيء القرآن بالتيسير ورفع الحرج عن الناس: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
{مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} وهذا باب واسع وضع منه علماؤنا قواعد عامة كقولهم المشقة تجلب التيسير والضرورات تبيح المحظورات ثم فرعوا عليها فروعا وسعت ولا تزال تسع الناس أجمعين والحمد لله رب العالمين.

(2/366)


الوجه السابع: أنباء الغيب فيه
ومعنى هذا أن القرآن قد اشتمل على أخبار كثيرة من الغيوب التي لا علم لمحمد صلى الله عليه وسلم بها ولا سبيل لمثله أن يعلمها مما يدل دلالة بينة على أن هذا القرآن المشتمل على تلك الغيوب لا يعقل أن يكون نابعا من نفس محمد ولا غير محمد من الخلق بل هو كلام علام الغيوب وقيوم الوجود الذي يملك زمام العالم {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} .
من ذلك قصص عن الماضي البعيد المتغلغل في أحشاء القدم وقصص عن الحاضر الذي لا سبيل لمحمد إلى رؤيته ومعرفته فضلا عن التحدث به وقصص عن المستقبل الغامض الذي انقطعت دونه الأسباب وقصرت عن إدراكه الفراسة والألمعية والذكاء وسر الإعجاز في ذلك كله أنه وقع كما حدث وما تخلف وجاء على النحو الذي أخبر به في إجمال ما أجمل وتفصيل ما فصل وأنه إن اخبر عن غيب الماضي صدقه ما شهد به التاريخ وإن أخبر عن غيب الحاضر صدقه ما جاء به الأنبياء وما يجد في العالم من تجارب وعلوم وإن أخبر عن غيب المستقبل صدقه ما تلده الليالي وما تجيء به الأيام.
غيب الماضي:
أما غيوب الماضي في القرآن فكثيرة تتمثل في تلك القصص الرائعة التي يفيض بها التنزيل ولم يكن لعلم محمد بها من سبيل.
منها قصة نوح التي قال الله فيها: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} .
ومنها قصة موسى التي يقول الله فيها: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا

(2/367)


إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ َلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .
ومنها قصة مريم وفيها يقول الله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} .
غيب الحاضر:
أما غيب الحاضر فنزيد به ما يتصل بالله تعالى والملائكة والجن والجنة والنار ونحو ذلك مما لم يكن للرسول سبيل إلى رؤيته ولا العلم به فضلا عن أن يتحدث عنه على هذا الوجه الواضح الذي أيده ما جاء به الأنبياء وكتبهم عليهم الصلاة والسلام وأمثلة هذا الضرب كثيرة في القرآن لا تحتاج إلى عرض ولا بيان.
ومنه أيضا ما فضح الله به المنافقين في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم مما كان قائما بهم وخفي أمره عليه كقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وكقوله في مسجد الضرار الذي بناه المنافقون: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .
وسورة التوبة فيها من هذا الضرب شيء كثير.
ومن غيب الحاضر أو الماضي ما جاء في طي القرآن من حقائق ومنافع ومبادئ لم يكشف عنها إلا العلم الحديث وسيأتي التمثيل له.

(2/368)


غيب المستقبل:
وأما غيب المستقبل فنمثل له بأمثلة عشرة:
المثال الأول إخبار القرآن عن الروم بأنهم سينتصرون في بضع سنين من إعلان هذا النبأ الذي يقول الله فيه: {غُلِبَتِ الرُّومُ ,فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ , فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ , بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ , وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} .
وبيان ذلك أن دولة الرومان وهي مسيحية كانت قد انهزمت أمام دولة الفرس وهي وثنية في حروب طاحنة بينهما سنة 614م فاغتم المسلمون بسبب أنها هزيمة لدولة متدينة أمام دولة وثنية وفرح المشركون وقالوا للمسلمين في شماتة العدو إن الروم يشهدون أنهم أهل كتاب وقد غلبهم المجوس وأنتم تزعمون أنكم ستغلبون بالكتاب الذي أنزل عليكم فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم فنزلت الآيات الكريمة يبشر الله فيها المسلمين بأن هزيمة الروم هذه سيعقبها انتصار في بضع سنين أي في مدة تتراوح بين ثلاثة سنوات وتسع ولم يك مظنونا وقت هذه البشارة أن الروم تنتصر على الفرس في مثل هذه المدة الوجيزة بل كانت المقدمات والأسباب تأبى ذلك عليها لأن الحروب الطاحنة أنهكتها حتى غزيت في عقر دارها كما يدل عليه النص الكريم {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} ولأن دولة الفرس كانت قوية منيعة وزادها الظفر الأخير قوة ومنعة حتى إنه بسبب استحالة أن ينتصر الروم عادة أو تقوم لهم قائمة راهن بعض المشركين أبا بكر على تحقق هذه النبوءة ولكن الله تعالى أنجز وعده وتحققت نبوءة القرآن سنة 622 م الموافقة للسنة الثانية من الهجرة المحمدية.
ومما هو جدير بالذكر أن هذه الآية نفسها حملت نبوءة أخرى وهي البشارة بأن المسلمين سيفرحون بنصر عزيز في هذه الوقت الذي ينتصر فيه الروم {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ

(2/369)


بِنَصْرِ اللَّهِ} ولقد صدق الله وعده في هذه كما صدقه في تلك وكان ظفر المسلمين في غزوة بدر الكبرى واقعا في الظرف الذي صدر فيه الرومان وهكذا تحققت النبوءتان في وقت واحد مع تقطع الأسباب في انتصار الروم كما علمت ومع تقطع الأسباب أيضا في انتصار المسلمين على المشركين على عهد هذه البشارة لأنهم كانوا أيامئذ في مكة في صدر الإسلام والمسلمون في قلة وذلة يضطهدهم المشركون ولا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة ولكن على رغم هذا الاستبعاد أو هذه الاستحالة العادية نزلت الآيات كما ترى تؤكد البشارتين وتسوقهما في موكب من التأكيدات البالغة التي تنأى بهما عن التكهنات والتخرصات وإن كنت في شك فأعد على سمعك هذه الكلمات: ِ {بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ , وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} .
ثم ألست ترى معي أن هذه العبارة الكريمة في بضع سنين قد حاطت هاتين النبوءتين بسياج من الدقة والحكمة لا يترك شبهة لمشتبه ولا فرصة لمعاند لأن البضع كما علمت من ثلاثة إلى تسع والناس يختلفون في حساب الأشهر والسنين فمنهم من يؤقت بالشمس ومنهم من يؤقت بالقمر ثم إن منهم من يجبر الكسر ويكمله إذا عد وحسب ومنهم من يلغيه يضاف إلى ذلك أن زمن الانتصار قد يطول حبله فتبتدئ بشائره في عام ولا تنتهي مواقعه الفاصلة إلا بعد عام أو أكثر ونظر الحاسبين يختلف تبعا لذلك في تعيين وقت الانتصار فمنهم من يضيفه إلى وقت تلك البشائر ومنهم من يضيفه إلى يوم الفصل ومنهم من يضيفه إلى ما بينهما لذلك كله جاء التعبير بقوله جلت حكمته: {سَيَغْلِبُونَ , فِي بِضْعِ سِنِينَ} من الدقة البيانية والاحتراس البارع بحيث لا يدع مجالا لطاعن ولا حاسب وظهر أمر الله وصدق وعده على كل اعتبار من الاعتبارات وفي كل اصطلاح من الاصطلاحات {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} .!
المثال الثاني إنباء القرآن بأن الله عاصم رسوله وحافظه من الناس لا يصلون إليه بقتل ولا يتمكنون من اغتيال حياته الشريفة بحال وذلك في قوله عز وجل: {وَاللَّهُ

(2/370)


يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} ولقد تحققت نبوءة القرآن هذه ولم يتمكن أحد من أعداء الإسلام أن يقتله عليه الصلاة والسلام مع كثرة عددهم ووفرة استعدادهم ومع أنهم كانوا يتربصون به الدوائر ويتحينون الفرص للإيقاع به والقضاء عليه وعلى دعوته وهو أضعف منهم استعدادا وأقل جنودا فمن الذي يملك هذا الوعد وتنفيذه إذن إلا الله الذي يغلب ولا يغلب والذي لا يقف شيء في سبيل تنفيذ مراده {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} وإن لم تصدقني فسل التاريخ والمؤرخين كم من الملوك والأمراء والفراعين ضرجت الأرض بدمائهم وهم بين جنودهم وخدمهم وحشمهم!؟
فهل يمكن بعد هذا أن يكون القرآن الذي احتوى ذلك الضمان من كلام محمد وهو من قد علمت ضعفه وقوة أعدائه يومئذ؟ حتى لقد كان يتخذ الحراس قبل نزول هذه الآية فلما نزلت إذا ثقته واعتداده بها أعظم من ثقته واعتداده بمن كانوا يحرسونه وسرعان ما صرف حراسه وسرحهم عند نزول الآية قائلا: "أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله" كما رواه الطبراني عن أبي سعيد الخدري وكذلك روى مسلم في صحيحه عن جابر قال: كنا إذا أتينا في سفرنا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كنا بذات الرقاع نزل نبي الله تحت شجرة وعلق سيفه فيها فجاء رجل من المشركين فأخذ السيف فاخترطه وقال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أتخافني؟ قال: "لا", قال: من يمنعك مني؟ قال: "الله يمنعني منك ضع السيف" فوضعه ومما يجدر التنبيه له أن هذا الأمن كان في الغزوة التي شرعت فيها صلاة الخوف!
ومن شواهد حماية الله لرسوله وإنجازه له هذا الوعد ما ورد عن علي رضي الله عنه قال: كنا إذا احمر البأس وحمي الوطيس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون أحد منا أقرب إلى العدو منه.
ومن أبلغ الشواهد على ذلك أيضا ما ثبت من أنه صلى الله عليه وسلم في يوم حنين حين أعجبت المسلمين كثرتهم وأدبهم الله بالهزيمة حتى ولوا مدبرين أنزل سبحانه سكينته على رسوله

(2/371)


حتى لقد جعل يركض بغلته إلى جهة العدو والعباس بن عبد المطلب آخذ بلجامها يكفها إرادة ألا تسرع فأقبل المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما غشوه لم يفر ولم ينكص بل نزل عن بغلته كأنما يمكنهم من نفسه وجعل يقول: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" كأنما يتحداهم ويدلهم على مكانه فوالله ما نالوا منه نيلا بل أيده الله بجنده وكيف أيديهم عنه بيده رواه الشيخان.
المثال الثالث ما جاء في معرض التحدي بالقرآن من قوله سبحانه: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} وقوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} فإن ما تراه في هاتين الآيتين من القطع بانتفاء قدرة المخاطبين وجميع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن قد تناول أطواء المستقبل والمستقبل غيب لا يملكه محمد ولا مخلوق غيره ومع ذلك فقد تحققت نبوءة القرآن ولا تزال متحققة حيث انقرضت طبقة المخاطبين به دون أن يستطيعوا معارضة أقصر سورة منه ومضت بعدهم أجيال وأجيال من عرب وأعجام وكلهم قد باؤوا بالعجز ولم يستطيعوا المعارضة إلى اليوم مع وجود أعداء للإسلام في هذه العصور المتأخرة أكثر وأقدر وأحرص على هدم بناء هذا الدين من أولئك الأعداء الأولين.
لاحظ مع هذا ما يثيره مثل هذا التحدي الطويل العريض الجريء من الحمية الأدبية التي تبعث روح المنافسة على أشدها في نفوس من يتحداهم ثم لاحظ أن المتأخرين من الناقدين لا يعيبهم في العادة أن يستدركوا على السابقين إما نقصا يعالجونه بالكمال أو كمالا يعالجونه بما هو أكمل منه وإذا فرضنا أن واحدا قد عجز عن هذا فمن البعيد أن تعجز عنه جماعة وإذا عجزت جماعة فمن البعيد أن تعجز أمة وإذا عجز أمة فمن البعيد أن يعجز جيل وإذا عجز جيل فمن البعيد أن تعجز أجيال فكيف يصدر إذن مثل هذا التحدي عن رجل يعرف ما يقول فضلا عن رجل عظيم فضلا عن رسول كريم فضلا عن محمد أفضل المرسلين وهل يمكن أن يفسر هذا التحدي الجريئ الطويل العريض

(2/372)


إلا بأنه استمداد من وحي السماء واستناد إلى من يملك السمع والأبصار وحديث عمن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه؟!
المثال السابع ما جاء من التنبؤ بمستقبل الإسلام ونجاحه نجاحا باهرا فقد أخبر القرآن والمسلمون في مكة قليل مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس بأن الإسلام سيظهر ويبقى وأن كتابه سيكتب له الحفظ والخلود منفردا بهذه الميزة عن سائر كتب الله اقرأ إن شئت قوله تعالى في سورة الرعد: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} وفي سورة إبراهيم: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ , ُتؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} وفي سورة الحجر: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
أجل في هذه السور الثلاث المكية قطع القرآن هذه العهود المؤكدة بتلك اللغة الواثقة والإسلام يومئذ في مكة مدفوع مضطهد والمسلمون قليل مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس وليس هناك من بواسم الآمال ما يلقي ضوءا على نجاح هذا الدين الوليد ولئن التمست هذه الآمال في نفس الداعي من طبيعة دعوته فما كانت لتصل إلى هذا الحد من اليقين والتأكيد ولئن وصلت إلى هذا الحد ما دام صاحبها حيا يتعهدها بنفسه ويغذيها بنشاطه فليس لديه من العوامل ما يجعله يثق بهذا النجاح بعد موته مع ما هو معروف بأن المستقبل مليء بتشتيت المفاجآت والليالي من الزمان حبالى مثقلات والتاريخ لا يزال يقص علينا وعلى الناس نبأ من قتل من الأنبياء وما ضاع أو حرف من كتب الله ووحي السماء وما حبط من دعوات الحق ونهض من دعوات الباطل كل ذلك فقد كان ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يكن في يوم من الأيام بالرجل الأخرق الذي يسير مع الأوهام أو يطير مع الخيال أو يطلب المجد عن طريق الأحلام المكذوبة والآمال المعسولة بل كان معروفا منذ نشأته بتواضعه ورجاحة عقله واتزانه ودقته حتى لقد كان يثبت في كلامه ويتحرى إلى أن لقب واشتهر بأنه صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين وجاء القرآن نفسه يشهد بأنه كان قبل نبوته

(2/373)


لا يطمع في نبوة ولا يأمل وفي {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} وكذلك لم يكن بعد نبوته بالذي يضمن بقاء هذا الوحي {وحفظه وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً , إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} .
فلا مناص إذن من أن تكون تلك البشارات المؤكدة والعهود الموثقة صادرة من أفق غير أفقه آتية من مالك قاهر لا راد لحكمة معبرة عن مراد من يملك العالم ويحكمه في ماضيه وحاضره ومستقبله!
ومما يؤيد صدق هذه التنبؤات أن الإسلام لقي من ضروب النعت مرارا وتكرارا في أزمان متطاولة وعهود مختلفة ما كان بعضه كافيا في محوه وزواله ولكنه على رغم أنف هذه الأعاصير العاتية بقي ثابتا يسامي الجبال شامخا يطاول السماء وكذلك لقي كتابه العزيز ولا يزال يلقى من الهمز واللمز والطعن والسباب والمحاولات القاتلة ما لا يتصوره إنسان في أي زمان وما لم يلق كتاب قبله من الكيد والتضليل والبهتان ومع ذلك كله فالقرآن هو القرآن لا يزال جالسا على عرشه في سمائه يمد العالم كله بحرارته وضيائه ولم تنل منه هذه المحاولات إلا كما ينال نباح الكلاب من عاليات السحاب.
المثال الخامس تنبؤ القرآن بأن المستقبل السعيد يتنظر المسلمين في وقت لم تكن عوامل هذا المستقبل السعيد مواتية ثم إذا تأويل هذا النبأ يأتي على نحو ما أخبر القرآن في أقصر ما يكون من الزمان أجل إننا لنقرأ في سورة الصافات المكية: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} وفي سورة غافر المكية أيضا: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} وكذلك نقرأ في سورة النور المدنية {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} على حين أن سجلات التاريخ لا تزال تحفظ بين طياتها ما يشيب الوليد من ألوان الاضطهاد والأذى الذي أصاب الرسول وأتباعه

(2/374)


في مكة والمدينة على عهد نزول هذه الوعود المؤكدة الكريمة حتى لقد كان أكبر أماني المسلمين بعد هجرتهم وتنفسهم الصعداء قليلا أن يسلم لهم دينهم ويعيشوا آمنين في مهاجرهم كما يدل على ذلك ما صححه الحاكم عن أبي بن كعب قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح ولا يصبحون إلا فيه فقالوا أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله فنزلت الآية وكذلك روى ابن أبي حاتم عن البراء قال نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد أي قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الخ هكذا كان حال الصحابة أيام أن وعدهم الله ما وعد وما أعجل تحقق هذا الوعد الإلهي رغم هذه الحال المنافية في العادة لما وعد فدالت الدولة لهم واستخلفهم في أقطار الأرض وأورثهم ملك كسرى وقيصر ومكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا يا لها نبوءة تأبى عادة أن يتحدث بها إلا من يملك تحقيقها ومن يخرق إن شاء عادات الكون ونواميسه من أجلها. {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} . {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
المثال السادس تنبؤ القرآن بأن الرسول وأصحابه وقد كانوا بالمدينة سيدخلون مكة آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين إذ قال سبحانه: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} ثم وقع هذا التنبؤ كما أخبر مع أن ظروفه لم تكن تسمح به في مجرى العادة فدل ذلك على أن هذا القرآن لا يمكن أن يكون كلام محمد ولا مخلوق سواه بل هو كلام القادر على أن يبلغ مراده ويخرق العادة.
ولزيادة البيان نذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى في نومه كأنه هو وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين فقص رؤياه على أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلوها من عامهم ثم خرجوا محرمين يسوقون الهدي إلى مكة لا يقصدون حربا وإنما يقصدون عمرة ونسكا ولكنهم ما كادوا يبلغون الحديبية حتى صدتهم قريش وأبت

(2/375)


عليهم ما أرادوا وكادت تكون حرب لولا أن الرسول رضي بصلح بينه وبينهم وإن كان قاسيا إيثارا منه للمسألة وحبا للسلام العام ثم قفل راجعا على أن يؤدي نسكه في العام القابل نزولا على مواد هذا الصلح القاسي وعز ذلك على أصحابه واتخذ المنافقون منه حطبا لنفاقهم ومادة لدسهم ولمزهم فقال عبد الله بن أبي رأسهم والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام ولكن على رغم هذا وعلى رغم ما هو معروف من غدر قريش ونكثهم العهود وتقطيعهم الأرحام نزلت الآية الكريمة تحمل هذا الوعد بل تلك الوعود الثلاثة المؤكدة وهي دخول مكة وأداء النسك والأمن على أنفسهم من قريش حتى يتحللوا ويقفلوا راجعين إلى المدينة وقد أنجز الله وعده فتم الأمر على أكمله في العام الذي بعد عام الحديبية {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} !.
المثال السابع تنبؤ القرآن بهزيمة جموع الأعداء في وقت لا مجال فيه لفكرة الحرب فضلا عن التقاء الجمعين وانتصار المسلمين وانهزام المشركين وذلك قوله سبحانه في سورة القمر المكية: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} وأنت خبير بأن الجهاد لم يشرع إلا في السنة الثانية للهجرة فأين ما يتنبأ به القرآن إذن إنه لا بد أن يكون كلاما تنزل ممن يعلم الغيب في السموات والأرض أما محمد الرجل الأمي فأنى له ذلك إن لم يكن تلقاه من لدن حكيم عليم روى ابن أبي حاتم وابن مردويه أن عمر رضي الله عنه جعل يقول حين نزلت هذه الآية أي جمع هذا فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها.
المثال الثامن تنبؤ القرآن في مكة بهذا المستقبل الأسود الذي ينتظر كفار قريش ثم وقوع ذلك كما تنبأ اقرأ قوله سبحانه: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ , يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ , رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ , أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ , ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ , إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ , يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ , وسبب نزول هذه

(2/376)


الآيات أن أهل مكة لما تمردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستعصوا دعا عليهم بسنين كسني يوسف أي بالجوع والقحط الشديدين عسى أن يتوبوا ويؤمنوا بالله ورسوله فأجابه الله بهذه الآيات وفيها عند التأمل خمسة تنبؤات:
أولها الإخبار بما يغشاهم من القحط وشدة الجوع حتى ينظر الرجل إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان.
ثانيها الإخبار بأنهم سيضرعون إلى الله حين تحل بهم هذه الأزمة هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون.
ثالثها الإخبار بأن الله سيكشف عنهم ذلك العذاب قليلا.
رابعها الإخبار بأنهم سيعودون إلى كفرهم وعتوهم.
خامسها الإخبار بأن الله سينتقم منهم يوم البطشة الكبرى وهو يوم بدر.
ولقد حقق الله ذلك كله ما انخرم منه ولا نبوءة واحدة فأصيبوا بالقحط حتى أكلوا العظام وجعل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من شدة جوعه وجهده ثم قالوا متضرعين ذلك الذي حكاه الله عنهم: {هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ , رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} ثم كشف الله عنهم هذا العذاب قليلا ثم عادوا إلى كفرهم وعتوهم ثم انتقم الله منهم يوم بدر فبطش بهم البطشة الكبرى حيث قتل منهم سبعون وأسر سبعون وأديل للمسلمين منهم!.
أرأيت ذلك كله؟ وهل يمكن أن يصدر مثله من مخلوق؟ كلا بل هو الله العزيز الحكيم.
المثال التاسع تنبؤ القرآن بهذا المستقبل المظلم الأسود المضروب على اليهود بوجه مؤكد مؤبد ثم تحقق هذا النبأ كاملا عاما يتناول القرون والأجيال من عهد نزول القرآن

(2/377)


لم ينخرم مرة من المرات في يوم واحد من الأيام اقرأ ما نزل في شأنهم من قوله سبحانه في سورة آل عمران: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} ثم انظر كم تنبؤا في هذا النظم الكريم وضعه الله كأنه الأغلال في عنق هذا الشعب الماكر اللئيم ألست ترى فيه أنهم لا يستطيعون أن ينالوا من المسلمين بالحرب والقتل والأسر؟ إنما ضررهم أذى بالغدر وبسوء الاستغلال والمكر وعلى فرض أنهم يقاتلونهم المسلمين فسيلوذون حينئذ بالفرار ويولون الأدبار ولا سبيل لهم في المستقبل إلى الانتصار ثم إن الذلة قد ضربت عليهم كما ضرب الحجر على السفهاء لا يستطيعون الفكاك إلا أن دخلوا في عهد من الله أو عهد من الناس ثم إن المسكنة وهي خوف الفقر قد ضربت عليهم كذلك فهم أشد الشعوب خوفا من الفقر ولذلك كانوا أشدها طمعا وشرها في جمع الدنيا لا يعرفون القناعة وإن غرقوا في المال إلى أم رؤوسهم ولا يتورعون عن الجري وراء الدنايا بأحط الوسائل وإن كانوا يملكون الآن ما يقرب من نصف ثروة العالم!.
ثم اقرأ في شأن هذه الطائفة قول الله تعالى في سورة الأعراف: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} وخبرني ألست تقرأ في هذا النص الكريم صكا مسجلا بعبودية هؤلاء وذلتهم إلى الأبد ثم ألست ترى أن تداول القرون والأحقاب من لدن نزول القرآن إلى اليوم لم يزد هذا التنبؤ إلا تصديقا وتحقيقا ما خرمه مرة وإنما أشبعه إعجازا وتأييدا؟ إن كنت في شك فسل التاريخ قديمه وحديثه أو فاستمع إلى صوت المآسي الماثلة القريبة ثم قل صدق الله ما القرآن إلا كلامه وما محمد إلا عبده ورسوله!.
وإليك مثالا آخر في شأن هؤلاء أبدع في الإعجاز وأروع.
المثال العاشر تحدي القرآن لأعداء الله اليهود في شيء يظهر أنه سهل بسيط وأنه

(2/378)


كان في متناول قدرتهم وفي دائرة استطاعتهم ومع ذلك انصرفوا عنه وعجزوا فدل هذا التحدي مع الانصراف والعجز على أن القرآن كلام من يستطيع تصريف القلوب وتحريك الألسنة وهو الله وحده أما محمد صلوات الله وسلامه عليه فمحال أن يقامر بنفسه وبدعوته ويتحدى بهذا الأمر الظاهرة سهولته وهو بشر لا يعلم الغيب ولا يستطيع أن يقلب القلوب ولا أن يعقد الألسنة.
وبيان ذلك أن اليهود زعموا أنهم هم الشعب المختار من بين شعوب الخلق وادعوا أن الدار الآخرة وقف عليهم وخالصة لهم من دون الناس فخاطب الله رسوله في سورة البقرة يرد عليهم ويتحداهم بقوله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ثم قال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} فأنت ترى هذا النظم الكريم يبطل مزاعم اليهود بطلب يبدو لكل ناظر أنه هين وهو أن يتمنوا الموت لو كانوا صادقين في ادعائهم أن نعيم الآخرة وقف عليهم ولقد كان بمقدور اليهود في العادة أن يقولا ولو بألسنتهم نحن نتمنى الموت كي تنهض حجتهم على محمد ويكنوه لكنهم صرفوا فلم يقولوا ولم يستطع أحد أن يقول إني أتمنى الموت وعلى ذلك قامت الحجة عليهم وبان كذبهم في كبريائهم وغرورهم وبلغ من أمر القرآن معهم أنه نفى عنهم هذا التمني نفيا يشمل آباد المستقبل فقال: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} .
وها قد مضى على نزول القرآن قريب من أربعة عشر قرنا وما تمنى أحد منهم الموت لو كانوا صادقين بل أعلن القرآن في السورة نفسها مبلغ حرصهم على الحياة وأملهم فيها فقال: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} فكان ذلك علما جديدا من أعلام النبوة لأنه تنويه بغيب حاضر لم يكن يعلمه محمد ولا قومه.

(2/379)


خبرني بربك هل يتصور عاقل أن محمدا وهو في موقف الخصومة الشديدة من اليهود تطوع له نفسه أن يتحداهم هذا التحدي من عنده في لغة الواثق الذي لا يتردد والآمن الذي لا يخاف المستقبل؟ وهل كان يأمن أن يرد عليه واحد منهم فيقول إني أتمنى الموت وهنا تكون القاضية فتنقطع لا قدر الله حجة الرسول ويظهر عجزه وتفشل دعوته أمام قوم هم من أشد الناس عداوة للذين آمنوا ومن أحرصهم على إفحام الرسول وتعجيزه.
فصدور هذا التحدي من رجل عظيم كمحمد ثم استخذاء هؤلاء وانصرافهم عن الرد عليه وعن إسكاته وهو في مقدور أقل رجل منهم ثم تسجيل هذا الاستخذاء عليهم في الحال بقوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} وفي الاستقبال بقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} كل أولئك أدلة ساطعة على أن القرآن كلام علام الغيوب قاهر الألسنة ومقلب القلوب وهي أيضا براهين قاطعة على أن محمدا لا يمكن أن يكون مصدر هذا الكتاب ولا منبع هذا الفيض بل قصاراه أنه مهبط هذا التنزيل وأنه يتلقاه من لدن حكيم عليم.
المثال الحادي عشر وهو من عجائب هذا الباب أن القرآن عرض لتعيين بعض أحداث جزئية تقع في المستقبل لشخص معين ثم تحقق الأمر كما أخبر هذا هو الوليد ابن المغيرة المخزومي يقول الله فيه: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} أي سنجعل له علامة على أنفه يعرف بها وقد كان ففي غزوة بدر الكبرى خطم ذلك الرجل بالسيف أي ضرب به أنفه وبقي أثر هذه الضربة سمة فيه وعلامة له ولعلك لم تنس أن الوليد هو الذي نزل فيه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} وما بعدها من الآيات التي ذكرناها قبلا وهو أيضا الذي نزلت فيه هنا هذه الآيات من سورة القلم: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ , هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ , مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ , عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ , أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ , إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ , سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} نعوذ به تعالى من الكفر والعناد وسوء الأخلاق ونسأله الإيمان الكامل والعمل الصالح والخلق الفاضل آمين.

(2/380)


على هامش الوجه السابع
في هذا الوجه من الإعجاز على ما شرحنا ومثلنا معجزات كثيرة لا معجزة واحدة لأن كل نبأ من أنباء الغيب معجزة فانظر ما عدة تلك الأنباء يتبين لك عدد تلك المعجزات.
وإنه ليروعك هذا الإعجاز إذا لاحظت أن هذه الكثرة الغامرة لم تتخلف منها قط نبوءة واحدة بل وقعت كما أنبأ على الحال الذي أنبأ ولو تخلفت واحدة لقامت الدنيا وقعدت وطبل أعداؤه ورقصوا فرحا بالعثور على سقطة لهذا الذي جاءهم من فوقهم وتحداهم بما ليس في طوقهم وسفه معبوداتهم ومعبودات آبائهم ولو كان ذلك لنقل وتواتر ما دامت هذه الدواعي متوافرة على نقله وتواتره كما ترىز
ويزيد في أمر هذا الإعجاز أن المتحدث بهذه الأنباء الغيبية أمي نشأ في الأميين وأن من هذه الأنباء ما كان تحديا وإجابة لسؤال العلماء من أهل الكتاب كما سألوه صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف وذي القرنين عن الروح ونحوها وأجابهم عما سألوا وهم يعلمون أنه غيب بالنسبة إليه ليست لديه وسيلة عادية للعلم به ولم يؤثر عنهم أنهم كذبوه في شيء مما أخبر تكذيبا يستندون فيه إلى دليل بل هو الذي كان يكذبهم فيما حرفوه ويرشدهم إلى حقيقة ما بدلوه ويتحداهم بما في أيديهم إذا جادلوه وإليك شاهدا على ذلك:
قالت اليهود مرة للنبي صلى الله عليه وسلم إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها فقال عليه السلام كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحله فقالت اليهود إنها لم تزل محرمة في ملة إبراهيم ونوح عليهما السلام فنزل تكذيبا لهم وتحديا بالتوراة التي عندهم: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ

(2/381)


الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ , ُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
يضاف إلى ما ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخفى عليه وجه الصواب في بعض ما يعنيه من الشؤون ويهمه من الأمور فكان يتوقف تارة كما توقف في حديث الإفك مدة حتى نزل الوحي ببراءة عائشة زوجه وبنت صديقه وكان يجتهد ويخطئ تارة أخرى كما حدث في أسرى بدر على ما سيأتي فلو كانت هذه الأنباء الغيبية نابعة من نفسه ولم تكن من ربه لكان الأحرى به أن يعرف وجه الصواب في أمثال تلك الشؤون والمهام مع أن أسباب العلم فيها أقرب إلى اليسر والسهولة من تلك الغيبيات التي تقطعت أسبابها العادية جملة ومع أن الرسول قد آلمه ما أصابه من جراء عدم علمه بأمثال تلك الشؤون والمهام وإلى ذلك يشير القرآن في قوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
معجزات يكشف عنها العلم الحديث
ويتصل بما ذكرنا من أنباء الغيب نوع طريف لم يكشف عنه إلا العلم في العصر الحديث وكان قبل ذلك مخبوءا في ضمير الزمن خفيا على المعاصرين لنزول القرآن حتى صاغ أعداء الله من هذا الخفاء شبهة ولفقوا منه تهمة وما علموا أن جهلهم لا يصح أن يكون حجة: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} وإليك أمثلة ثلاثة من هذا النوع:
1 - معجزة يكشف عنها التاريخ الحديث:
قال العلامة صاحب مجلة الفتح الغراء: في سورة التوبة نقرأ هذه الآية الكريمة:

(2/382)


{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} فصدر هذه الآية وهو جملة {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} يتضمن من وقائع التاريخ وحقائق العلم أمرا لم يكن أحدا يعرفه على وجه الأرض في عصر نزول القرآن.
ذلك أن اسم عزير لم يكن معروفا عند بني إسرائيل إلا بعد دخولهم مصر واختلاطهم بأهلها واتصالهم بعقائد ووثنيتها واسم عزير هو أوزيرس كما ينطق به الإفرنج أو عوزر كما ينطق به قدماء المصريين وقدماء المصريين منذ تركوا عقيدة التوحيد وانتحلوا عبادة الشمس كانوا يعتقدون في عوزر أو أوزيرس أنه ابن الله وكذلك بنو إسرائيل في دور من أدوار حلولهم في مصر القديمة استحسنوا هذه العقيدة عقيدة أن أوزيرس ابن الله وصار اسم أوزيرس أو عوزر عزير من الأسماء المقدسة التي طرأت عليهم من ديانة قدماء المصريين وصاروا يسمون أولادهم بهذا الاسم الذي قدسوه كفرا وضلالا فعاب الله عليهم ذلك في القرآن الحكيم ودلهم على هذه الوقائع من تاريخهم الذي نسيه البشر جميعا.
إن اليهود لا يستطيعون أن يدعوا في وقت من الأوقات أن اسم عزير كان معروفا عندهم قبل اختلاطهم بقدماء المصريين وهذا الاسم في لغتهم من مادة عوزر وهي تدل على الألوهية ومعناه الإله المعين وكانت بالمعنى نفسه عند قدماء المصريين في اسم عوزر أو أوزيرس الذي كان عندهم في الدهر الأول بمعنى الإله الواحد ثم صاروا يعتقدون أنه ابن الله عقب عبادتهم للشمس واليهود أخذوا منهم هذا الاسم في الطور الثاني عندما كانوا يعتقدون أن أوزيرس ابن الله.
فهذا سر من أسرار القرآن لم يكتشف إلا بعد ظهور حقيقة ما كان عليه قدماء المصريين في العصر الحديث وما كان شيء من ذلك معروفا في الدنيا عند نزول القرآن حتى إن أعداء الإسلام كانوا يصوغون من جهلهم بهذه الحقيقة التاريخية شبهة يلطخون بها وجه الإسلام ويطعنون بها في القرآن فقال اليهود منهم إن القرآن يقولنا ما لم نقل

(2/383)


في كتبنا ولا في عقائدنا وأتى دعاة النصرانية منهم بما شاء لهم أدبهم من السب والطعن والزراية بالقرآن ودين الإسلام ونبي الإسلام اهـ بتصرف طفيف
2 - معجزة يكشف عنها الطب الحديث
كتب العلامة المرحوم الدكتور عبد العزيز إسماعيل باشا في مجلة الأزهر الغراء يقول في مقال له تحت عنوان الطب وصيام شهر رمضان من الناس من يتوهم أن في صيام رمضان وهو من أركان الإسلام مضرة تلحق بالصائم لما يصيب الجهاز الهضمي خاصة وغيره عامة ولما يكون من بعض الصائمين من انفعال وغضب وهذا خطأ لأن ما ذهبوا إليه ليس من الصيام في شيء ولكنه من ترك الاعتدال في طعام الإفطار والسحور ولأنهم لم يراعوا ما يتناسب مع خلو المعدة النهار كله في وقت الإفطار لأن السحور يجب أن يقتصر على بضع لقيمات لأنه لا ضرر من الجوع في حد ذاته وبما أن الصيام يستعمل طبيا في حالات كثيرة ووقاية في حالات أكثر وأن كثيرا من الأوامر الدينية لم تظهر حكمتها وستظهر مع تقدم العلوم رأيت من الواجب على أن أكتب عما ظهر طبيا للآن من فوائده هذه الأوامر وإيضاح آيات قرآنية لأبين معناها الذي لا يظهر إلا لمن بحث عنها في نور الطب الحديث وسأبدأ بالصيام.
الصيام:
للصيام فوائد في ثلاث جهات أولاها وأهمها الجهة الروحية وهذه أتركها لعلماء الدين والمتصوفة منهم ثانيها الجهة الأخلاقية وهذه أتركها لعلماء الأخلاق ومن السهل البرهنة على أن الصيام يعود الإنسان النظام والقناعة وطاعة الرؤساء والصبر وكبح شهوات النفس وحب الخير والصدقة وغير ذلك من الفضائل وثالثها وأقلها أهمية الجهة المادية أو الصحية وهي محل بحثنا.

(2/384)


لقد ظهر أن الصيام يفيد في حالات كثيرة وهو العلاج الوحيد في أحوال أخرى وهو أعم علاج إن لم يمكن العلاج الوحيد للوقاية من أمراض شتى.
فللعلاج يستعمل في:
1 - اضطرابات الأمعاء المزمنة المصحوبة بتخمر في المواد الزلالية والنشوية وهنا ينجح الصيام وخصوصا عدم شرب الماء بين الأكلتين وأن تكون بين الأكلة والأخرى مدة طويلة كما في صيام رمضان ويمكن أخذ الغذاء المناسب حسب حالة التخمر وهذه الطريقة هي أنجع طريقة لتطهير الأمعاء.
2 - زيادة الوزن الناشئ من كثرة الغذاء وقلة الحركة فالصيام أنجع من كل علاج مع الاعتدال وقت الإفطار في الطعام والاكتفاء بالماء في السحور.
3 - زيادة الضغط الذاتي وهو آخذ في الانتشار بازدياد الترف والانفعالات النفسية ففي هذه الحالة يكون شهر رمضان نعمة وبركة خصوصا إذا كان وزن الشخص أكثر من الوزن الطبيعي لمثله.
4 - البول السكري وهو منتشر انتشار الضغط ويكون في مدته الأولى وقبل ظهوره مصحوبا غالبا بزيادة الوزن فهنا يكن الصيام علاجا نافعا إذ إن السكر يهبط مع قلة السمن ويهبط السكر في العادة بعد الأكل بخمس ساعات إلى أقل من الحد الطبيعي في حالات البول السكري الخفيف وبعد عشر ساعات إلى أقل من الحد الطبيعي بكثير ولا يزال الصيام مع بعض الملاحظات في الغذاء أهم علاج لهذا المرض حتى بعد ظهور الأنسولين خصوصا إذا كان الشخص يزيد على الوزن الطبيعي ولم يكن هناك علاج لهذا المرض قبل الأنسولين غير الصيام.
5 - التهاب الكلى الحاد والزمن المصحوب بارتشاح وتورم.

(2/385)


6 - أمراض القلب المصحوبة بتورم.
التهاب المفاصل المزمنة خصوصا إذا كانت مصحوبة بسمن كما يحصل عند السيدات غالبا بعد سن الأربعين وقد شوهدت حالات تتمشى في شهر رمضان بالصيام فقط أكثر مما تتمشى مع علاج سنوات بالكهرباء والحقن والأدوية وكل الطب الحديث.
وب سائل يقول ولكن الصيام في كل هذه الحالات يحتاج إلى إرشاد طبيب في كل مرض على حدته والصيام الذي كتب على المسلمين إنما كتب على الأصحاء وهذا صحيح ولكن فائدة الصيام للأصحاء... هي الوقاية من هذه الأمراض وخصوصا الأمراض التي مر ذكرها تحت رقم 1و2و3و7.
وهذه الأمراض كلها تبتدئ في الإنسان تدريجا بحيث لا يمكن الجزم بأول المرض فلا الشخص ولا طبيبه يمكنهما أن يعرفا أول المرض لأن الطب لم يتقدم بعد إلى الحد الذي يعرف فيه أسباب هذه الأمراض كلها ولكن من المؤكد طبيا أن الوقاية من كل هذه الأمراض هي في الصيام بل إن الوقاية فعالة جدا قبل ظهور أعراض المرض بوضوح وقد ظهر بإحصاءات لا تقبل الشك أن زيادة السمن يصحبها استعداد للبول السكري وزيادة الضغط الذاتي للدم والتهاب المفاصل المزمن وغير ذلك ومع قلة الوزن الاستعداد لهذه الأمراض بالنسبة نفسها وهذا هو السر في أن شركات التأمين لا تقبل تأمينا على الأشخاص الذين يزيد وزنهم إلا بشروط تثقل كلما زاد الوزن والصيام مدة شهر كل سنة هو خير وقاية من كل هذه الأمراض.
وهذه الأمراض تنتشر بزيادة الحضارة والترف فقد انتشرت في أوروبا أكثر من الأول وفي مصر يكاد يكون البول السكري وزياد ضغط الدم مقتصرين على الطبقات الوسطى والعليا وهو قليل جدا في الفقراء.
ويغلب على الظن أن ذلك هو السر في الصيام في الإسلام أشد منه في الأديان

(2/386)


السابقة لأن الإسلام وهو آخر الشرائع السماوية جاء في زمن نحتاج فيه إلى الوقاية من أمراض تزداد كلما ازداد الترف اهـ رحمه الله عليه.
3 - معجزة يكشف عنها علم الاجتماع
كتب العلامة مدير مجلة الأزهر الغراء تحت عنوان معجزات القرآن العلمية القرآن يضع أصول علم الاجتماع قبل العلم بأكثر من ألف سنة مقالا ضافيا نقتطف منه ما يلي:
لما جاء الإسلام وشرع أهله في إحياء موات العلم ونقل كتبه القيمة إلى لغتهم نظروا في كل شيء مستهدين بالأصول الأولية للقرآن الكريم كقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} وقوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} فأدركوا على وجه عام أن لكل شيء في هذا الوجود نظاما يجري عليه كما فعل بعض المؤرخين وخاصة ابن خلدون ولكن المعارف التي كانت قد جمعت عن الأمم لم تكن تكفي لتكوين علم خاص بها وتلت هذا الدور نهضة أوروبا فادخر الله هذا السبق للفيلسوف الفرنسي الكبير "أوجست كومت 1798 – 1853" واضع أصول الفلسفة الوضعية فإنه أول من جعل للاجتماع علما ووضعه في رأس جميع العلوم البشرية لشرف موضوعه من ناحية ولأنه لا يتسنى إلا لمن يأخذ من كل علم بطرف لتشعب بحوثه واستنادها على جملة المعارف البشرية.
فعلم الاجتماع البشري أحدث العلوم وضعا ولكنه أشرفها موضوعا إذ يعرفنا على أي الأصول تقوم الجماعات وبأيها تحفظ وجودها وترتقي وما هي عوامل التأليف التي تقوي وجودها وعوامل التحليل التي تفصم عرى ألفتها وهذه كلها معارف عالية ضرورية للمجتمع ضرورة على قوانين الصحة والطب لآحاده.
ثم ذكر من قواعد علم الاجتماع أن الإنسان لا يستطيع أن يؤثر في المجتمع لمجرد رأي

(2/387)


يبدو له في إصلاحه ولكن ذلك لا يكون إلا إذا فهم الكافة سداد هذا الرأي وعملوا به عند ذاك يوجد في المجتمع ميل جديد للتحول عن الجهة التي يراد تحويله منها إلى الوجهة التي يريده على أن يكون عليها وهذا كله مصداق لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} فمعنى الآية أن الأمة التي تريد أن يحول الله عنها حالا لا ترضاه لمجتمعها يجب عليها أن تغير من نفسيتها أولا فإن فعلت حول الله عنها ما تكره ووجه إليها من نعمه ما تحب وهذا وحده معجزة علمية للقرآن كان يجب أن يعقد لها فصل خاص وأن يشاد بذكرها أعظم إشادة فكشف هذا السر يجعلنا ندرك سر تنبيه القرآن على وجوب الدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكر وبعد أن ساق أدلة عن الكتاب والسنة على ذلك قال:
القرآن أثبت أن للاجتماع نواميس ثابتة قبل أن يتخيلها أعلم علماء الأرض تخيلا وقد رأيت أن تعيين تلك النواميس والتحسس مما خفي منها هو الشغل الشاغل اليوم لفلاسفة الاجتماع فقال: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} وقال تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} .
ولم يكتف الكتاب بهذا وحده ولكنه قرر أيضا أن الجماعات كالآحاد لها آجال لا نستطيع أن نتعداها وهو ما هدى إليه علم الاجتماع بعد أن وجد أن وجوه الشبه بين الفرد والمجتمع واحدة فقال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} وقد تكرر مثلها في سور كثيرة من القرآن الكريم.
فالذي يتامل في سبق القرآن الكريم العالم كله أكثر من عشرة قرون في وضع أصول العلم الاجتماعي ويكون من غير أهل هذا الدين يدهش كل الدهش ولا يكاد يصدق عينيه وسندأب نحن من جهتنا على تجلية الأصول العلمية مستخرجين إياها من

(2/388)


الكتاب الكريم ليتحقق العالم أنه على ما يقوله موحيه سبحانه وتعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} .
وبذلك يتضح سر نهضة المسلمين التي حصلت لهم زعامة العلم والحكمة في العالم في سنين معدودة فإنهم لو كانوا بدؤوا حياتهم العلمية على النحو الذي تبدؤها به كل أمة ما استطاعوا أن يبزوا الأمم التي تقدمتهم في هذا السبيل بقرون كثيرة ولكنهم لبدئهم إياها مستنيرين بهذه الأصول القرآنية العالية بلغوا منها أوجا في مدى قصير لم تبلغه أمة في آماد طويلة وعلى المسلمين اليوم أن يدركوا هذا الأمر الجلل وأن يجعلوا كتابهم نبراسا لهم في اقتباسهم العلم عن الأمم الغربية ليبلغوا منه ما بلغه أسلافهم في عهدهم الأول ويزيدوا عليه ما هدى إليه البشر في العصور الأخيرة اهـ.

(2/389)


الوجه الثامن آيات العتاب
ومعنى هذا أن القرآن سجل في كثير من آياته بعض أخطاء في الرأي على الرسول صلى الله عليه وسلم ووجه إليه بسببها عتابا نشعر بلطفه تارة وبعنفه أخرى ولا ريب أن العقل المنصف يحكم جازما بأن هذا القرآن كلام الله وحده ولو كان كلام محمد ما سجل على نفسه هذه الأخطاء وهذا العتاب يتلوهما الناس بل ويتقربون إلى الله بتلاوتهما حتى يوم المآب.
الخطأ في الاجتهاد ليس معصية:
وننبهك في هذه المناسبة إلى أن هذا الخطأ ليس معصية حتى يقدح ذلك في عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم إنما هو خطأ فحسب بل هو من نوع الخطأ الذي يستحق صاحبه أجرا لأنه صادر عن اجتهاد منه والاجتهاد الصالح وهو بذل الجهد في الاطلاع والبحث والموازنة والاستنتاج مجهود شاق يبذله صاحبه لغرض شريف فليس من الإنصاف حرمانه من المكافأة متى كان أهلا للاجتهاد وإن أخطأ لأن الإنسان ليس في وسعه أن يكون معصوما

(2/389)


من الخطأ بل المجتهد يخطئ بعد أن يبذل وسعه في طلب الصواب وهو يتمنى ألا يخطئ بل وهو يخشى أشد الخشية أن يخطئ والله تعالى يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وعلى هذا قررت شريعتنا السمحة أن المجتهد له أجر إن أخطأ وأجران إذا أصاب روى الجماعة كلهم حديث "إذا حكم الحاكم في شيء فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر واحد" بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي أمراء الجيوش والسرايا حق الحكم بما يرون فيه المصلحة ويقول للواحد منهم "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك على أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا" رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه.
ولا ريب أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في موضع الإمامة الكبرى للخلق فكان من حكمة الله أن يجتهد ليقلده الخلق في الاجتهاد وأن يخطئ في بعض الأمور لئلا يصرفهم خوف الخطأ في الاجتهاد عن الاجتهاد ما دام أفضل الخلق على الإطلاق قد أخطأ ومع خطئه لم يمتنع عن الاجتهاد بل عاش طوال حياته يجتهد في كل ما لم ينزل عليه فيه وحي حتى يتقرر في الناس مبدأ الانتفاع بمواهب العقول وثمار القرائح ويتحرر الفكر البشري من رق الجمود والركود ثم كان من حكمة الله أيضا أن يقف رسوله على وجه الصواب فيما أعوزه فيه الصواب ليعلم الناس أنه ليس كأحدهم ولا أن اجتهاده كاجتهادهم بل اجتهاده حجة دونهم لأنه مؤيد من لدن ربه يتولاه مولاه دائما حتى لا يقره على خطأ في الأمور الاجتهادية وهنا يزداد الذين آمنوا إيمانا به وثقة بكل ما صدر عنه ثم يقتدون به في وجوب الخضوع للحق إذا ظهر كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخضع له ويعلنه ويعلن خطأه فيما أخطأ فيه لا تأخذه العزة بالإثم ولا تلويه العظمة عن حق بل هنا سر العظمة وسر النهضة وسر تربية الأمة بالقدوة {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} .

(2/390)


إنما العار الجارح لكرامة البشر أن يجمد الإنسان فلا يجتهد وهو أهل للاجتهاد أو يجمد المجتهد على رأيه وإن كان عظيما بعد أن يستعلن له خطؤه مع أن الرجوع إلى الحق فضيلة والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل والكمال المطلق لله وحده وفي الحديث "كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" .
يضاف إلى ما ذكرنا من الحكم والأسرار في أخطاء الرسول الاجتهادية أمر آخر له قيمته وخطره وهو إقامة أدلة مادية ناطقة على بشرية الرسول وعبوديته وأنه وهو أفضل خلق الله لم يخرج عن أن يكون عبدا من عبيد الله يصيبه من أعراض العبودية ما يصيب العباد ومن ذلك خطؤه في الاجتهاد وبذلك لا يضل المسلمون في إطرائه ولا يغلون في إجلاله كما ضل النصارى في ابن مريم ولقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" رواه البخاري وقال: "إنما أنا بشر مثلكم وإن الظن يخطئ ويصيب ولكن ما قلت لكم قال الله فلن أكذب على الله" رواه أحمد وابن ماجه وقال صلى الله عليه وسلم "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها" رواه مالك والشيخان وأصحاب السنن.
وخلاصة القول أن في هذا المقام أمورا ثلاثة:
أولها أن خطأ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن من جنس الأخطاء المعروفة التي يتردى فيها كثير من ذوي النفوس الوضيعة كمخالفة أمر من الأوامر الإلهية الصريحة أو ارتكاب فعل من الأفعال القبيحة إنما كان خطؤه عليه الصلاة والسلام في أمور ليس لديه فيها نص صريح فأعمل نظره وأجال فكره وبذل وسعه ولكن على رغم ذلك كله أخطأ.

(2/391)


ثانيها أن الله تعالى لم يقر رسوله على خطأ أبدا لأنه لو أقره عليه لكان إقرارا ضمنيا بمساواة الخطأ للصواب والحق للباطل ما دامت الأمة مأمورة من الله باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يقول ويفعل ولكان في ذلك تلبيس على الناس وتضليل لهم عن الحق الذي فرض الله عليهم اتباعه ولكان ذلك مدعاة إلى التشكك فيما يصدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورة أنه على هذا الفرض قد يجتهد ويخطئ ولا يرشده الله إلى وجه الصواب فيما أخطأ وهذه اللوازم كلها باطلة لا محالة فبطل ملزومها وثبت أن الحكيم العليم لا يمكن أن يقر القدوة العظمى على خطأ أبدا بل يبين له وجه الصواب وقد يكون مع هذا البيان لون من ألوان العتاب لطيفا أو عنيفا توجيها له وتكليما لا عقوبة وتنكيلا.
ثالثها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرجع الصواب الذي أرشده مولاه دون أن يبدي غضاضة ودون أن يكتم شيئا مما أوحي إليه من تسجيل الأخطاء عليه وتوجيه العتاب إليه وفي ذلك لا ريب أنصع دليل على عصمته وأمانته وعلى صدقه في كل ما يبلغ عن ربه وعلى أن القرآن ليس من تأليفه ووضعه ولكن تنزيل العزيز الرحيم
آيات العتاب نوعان:
أما بعد فإن العتاب الموجه للرسول في القرآن على نوعين نوع لطيف لين ونوع عنيف خشن ولنمثل لها بأمثله ثلاثة:
المثال الأول قوله تعالى: في سورة التوبة: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} وذلك أنه عليه السلام كان قد أذن لبعض المنافقين في التخلف عن غزوة تبوك حين جاؤوا يستأذنون ويعتذرون فقبل منهم تلك الأعذار أخذا بظواهرهم ودفعا لأن يقال إنه لا يقبل العذر من أصحاب الأعذار ولكن الله تعالى عاتبه كما ترى وأمره بكمال التثبت والتحري وألا ينخدع بتلك الظواهر فإن من وارثها أسفل المقاصد والله أعلم بما يبيتون ولعله لم يخف عليك لطف هذا العتاب بتصدير العفو فبه خطابا للرسول من رب الأرباب!.

(2/392)


المثال الثاني قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ , لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ , فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وذلك أنه وقع في أسر المسلمين يوم بدر سبعون من أشراف قريش فاستشار الرسول أصحابه فيهم فمنهم من اشتد وأبى عليهم إلا السيف ومنهم من رق لحالهم وأشار بقبول الفداء منهم وكان الرسول صلى الله عليه وسلم مطبوعا على الرحمة ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فرجح بمقتضى طبعه الكريم ورحمته الواسعة رأى من أشار بقبول الفداء عسى أن يسلموا أو يخرج الله من أصلابهم من يعبده ويمجده ولينتفع المسلمون بمال الفدية في شؤونهم الخاصة والعامة ولكن ما لبث حتى نزلت الآيات الكريمة المذكورة وفيها تسجيل لخطأ ذلك الإجتهاد المحمدي فلو كان القرآن كلامه ما سجل على نفسه ذلك الخطأ!
أمر آخر في هذه الآيات ظاهرة عجيبة هي الجمع بين متقابلات لا تجتمع في نفس بشر على هذا الوجه فصدرها استنكار للفعل ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن وعقب هذا الاستنكار عتاب قاس مر وتخويف من العذاب تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم وفي أثر هذا الاستنكار والعتاب والتخويف إذن بالأكل ووصف له بالطيب والحل وبشارة بالمغفرة والرحمة لمن أكل فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم ومثلك يعلم أن نظم هذه المتقابلات في سلك واحد بهذه الصورة لآمر واحد ومأمور واحد لا يمكن أن يصدر من نفس بشرية هكذا من غير فاصل بين الإنكار والإذن ولا بين المدح والذم ولا بين الوعيد والوعد لأن من طبيعة البشر أن يشغلهم شأن عن شأن ولا يجتمع لهم في أمر واحد ووقت واحد خاطران متقابلان ولا حالان متنافيان كالغضب والرضا والإستهجان

(2/393)


والاستحسان بل إذا تواردا على النفس فإنما يرادن متعاقبين في زمنين وإذا تعاقب فاللاحق منهما يمحو السابق وإذا محاه لم يبق معنى لإثباته وتسجيله بل من الطبيعي تركه والإضراب عنه خصوصا إذا كان هذا الخاطر الأول وإعلانا لتخطئة المتكلم ونقده ولومه كقبول الفداء في هذا المقام وأكله.
فلا جرم أن هذه الظاهرة تأبى هي الأخرى إلا أن تكون دليل إعجاز وبرهان صدق على أن هنا نفسيتين مختلفتين نفسية لا يشغلها شأن ولا تتأثر ببواعث الغضب والرضا كما يتأثر الإنسان ونفسية نسبتها إلى الأخرى نسبة المأمور من آمره والمسود من سيده ولكن مع الحب والقرب فهذه الآيات الكريمة ليست إلا كلام سيد عزيز يقول لعبده الحبيب أخطأت فيما مضى وما كان لك أن تفعل ولكني عفوت وغفرت وأذنت لك بمثله في المستقبل!
المثال الثالث قول عز وجل: {عَبَسَ وَتَوَلَّى , أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى , وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى , أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى , أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى , فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى , وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى , وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى , وَهُوَ يَخْشَى , فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى , كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مشتغلا ذات يوم بدعوة أشراف من قريش إلى الإسلام وإذا عبد الله بن أم مكتوم يجيء ويسأل الرسول صلى الله عليه وسلم وكان عبد الله رجلا أعمى تشرف بهداية الإسلام من قبل ولم يقدر تشاغله بدعاية هؤلاء الصناديد الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على هدايتهم كل الحرص وكان يستمليهم ويتألفهم إليه طمعا في أن يسلموا فلا يلبث جماهير العرب أن تقتدي بهم في إسلامهم وفي أي شيء جاء هذا الصحابي يسأل أنه مسلم فطبيعي انه لم يسأله عن الإسلام بل جاء يستزيده من الهداية والعلم ويقول: "يا رسول الله علمني مما علمك الله".
وجد الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه بين قوم غلاظ مشركين يدعوهم إلى الإسلام ورجل وديع مسلم يستزيده من العلم فآثر الإقبال على أولئك الصناديد وعبس في وجه ابن أم مكتوم هذا واعرض عنه لا احتقارا له وغضا من شأنه ولكن حرصا على هداية هؤلاء خوفا

(2/394)


من أن تفوت هذه الفرصة السانحة لدعوتهم فأنزل الله على رسوله تلك الآيات السالفة يعاتبه فيها ذلك العتاب القاسي الخشن ويفهمه أن حرصه على الهداية ما كان ينبغي أن يصل به إلى حد الإقبال الشديد على هؤلاء الصناديد وهم عنه معرضون ولا إلى حد الإعراض العابس في وجه هذا الضعيف الأعمى وهو عليه مقبل.
وكأني بك تحسن حرارة هذا العتاب وذلك لتقرير مبدأ من المبادئ العالية هو الإعراض عن المعرضين مهما عظم شانهم والإقبال على المقبلين مهما رق حالهم واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشى يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ولعلك تلمح معي من وراء هذا العتاب رحمة الرسول بأعدائه وإخلاصه لدعوته وتفانيه في وظيفته وحرصه على هداية الناس أجمعين زاده الله شرفا على شرفه وعزا على عزه آمين.

(2/395)


الوجه التاسع: ما نزل بعد طول انتظار
ومعنى هذا أن القرآن آيات كثيرة تناولت مهمات الأمور ومع ذلك لم تنزل إلا بعد تلبث وطول انتظار فدل هذا على أن القرآن كلام الله لا كلام محمد لأنه لو كان كلام محمد ما كان معنى لهذا الانتظار فإن الانتظار في ذاته شاق وتعلقه بمهمات الأمور يجعله أشق خصوصا على رجل عظيم يتحدى قومه بل تحدى العالم كله!.
ولبيان هذا الوجه نمثل بأمثلة خمسة:
أولها حادث تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة نزل فيه قول الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} فأنت تفهم معي من هذه الآية أن محمدا صلى الله عليه وسلم

(2/395)


كان يتحرق شوقا إلى تحويل القبلة إلى الكعبة ومن أجل ذلك كان يقلب وجهه في السماء تلهفا إلى نزول الوحي بهذا التحويل ولقد طال به الأمر سنة ونصف سنة وهو يستقبل بيت المقدس فلو كان القرآن من وضعه لنفس عن نفسه وأسعفها بهذا الذي تهفو إليه نفسه ويصبو إليه قومه لأن الكعبة في نظرهم هي مفخرتهم ومفخرة آبائهم من قبلهم.
ثانيها حادث الإفك وهو من أخطر الأحداث وأشنعها لم ينزل القرآن فيه إلا بعد أن مضى على الحادث قرابة أربعين يوما على حين أنه يتصل بعرض الرسول وعرض صديقه الأول أبي بكر وقام على اتهام أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق ورميها بأقذر العار وهو عار الزنى فلو كان القرآن كلام محمد ما بخل على نفسه بتلك الآيات التي تنقذ سمعته وسمعة زوجه الحصان الطاهرة ولما انتظر يوما واحدا في القضاء على هذه الوشايات الحقيرة الآثمة التي تولى كبرها أعداء الله المنافقون اقرأ قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} - إلى قوله - {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} في سورة النور ثم حدثني بعد قراءتها ألم يكن الواجب على محمد صلى الله عليه وسلم أن يعجل الحكم بهذه البراءة لو كان الأمر إليه خصوصا أنه قد علم الناس وجوب الدفاع عن العرض ولو بالنفس؟ ثم أخبرني ألا ترى فارقا كبيرا بين هذه اللغة الجريئة القاطعة المنذرة والمبسرة التي صيغت بها آيات البراءة وبين لغة الرسول الحذرة المتحفظة التي رويت عنه في هذه الحادثة إن كنت في شك فأمامك آيات البراءة وهاك كلمتين مما أثر عنه في هذا الأمر الجلل ورد أنه قال حين طال الانتظار وبلغت القلوب الحناجر إني لا أعلم إلا خيرا وورد أنه قال قبيل الساعة التي نزلت فيها آيات البراءة يا عائشة أما إنه قد بلغني كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله.
فهل يجوز في عقل عاقل أن يكون صاحب هذا الكلام هو صاحب آيات البراءة؟

(2/396)


دع عنك الأسلوبين ولكن تأمل النفسيتين المتميزتين في الكلامين تميز السيد من المسود والعابد من المعبود!
ثالثها ما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فقال لسائليه ائتوني غدا أخبركم ولم يقل إن شاء الله فأبطأ عليه الوحي حتى شق ذلك عليه وكذبته قريش وقالوا ودعه ربه وقلاه أي تركه ربه وأبغضه فأنزل الله: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} ثم نهاه مولاه أن يترك المشيئة مرة أخرى إذ قال له في سورة الكهف: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} ولما نزل جبريل بعد هذا الإبطاء والتمهل قال له ما حكاه الله عنه في سورة مريم: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} يعني أن عدم الإسراع بالنزول لم يكن سببه إعراض الله عنه كما يزعمون بل كان لعدم الإذن به لحكم بالغة قد عرضنا لبعضها في الكلام على أسرار تنجيم القرآن بالجزء الأول وحسبك هنا أن يستدل المنصف بهذا الإبطاء والتراخي على أن القرآن تنزيل العزيز الرحيم لا كلام النبي الكريم.
رابعها ما ورد من أنه لما نزل قوله سبحانه: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} انخلعت قلوب الصحابة وذعروا ذعرا شديدا لأنهم فهموا من هذه الآية أن الله تعالى سيحاسبهم على كل ما يجول بخاطرهم ولو كانت خواطر رديئة ثم سألوا فقالوا يا رسول الله أنزلت علينا هذه الآية ولا نطيقها فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" فجعلوا يقولونها ويضرعون إلى الله بها حتى أنزل تقدست أسماؤه الآية الأخيرة من سورة البقرة وهي: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} إلى آخر السورة فسكنت نفوسهم واطمأنت قلوبهم وفهموا أنهم لا يحاسبون إلا على ما يقع تحت اختيارهم

(2/397)


وفي دائرة طاقتهم من نية وعزم وقول وعمل أما خلجات الضمائر العابرة وخطرات السوء ولو كانت كافرة فلا يتعلق بها تكليف لأنها ليست في مقدور العبد والقرآن يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} .
فأنت ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين لهم هذا البيان حين سألوه لأنه لم يوح وقتئذ إليه ولو كان من وحي نفسه كما يقول الأفاكون لأسعف أصحابه بالآية الأخيرة وأنقذهم من هول هذا الخوف الذي أكل قلوبهم لا سيما أنهم أصحابه وهو نبيهم ومن خلقه الرحمة خصوصا بهم {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وأيضا لو كان يملك هذا الكلام لعاجلهم بالبيان وإلا كان كاتما للعلم وكاتم العلم ملعون فأين يذهبون؟.
خامسها ورد أن كبير المنافقين عبد الله بن أبي لما توفي قام إليه النبي صلى الله عليه وسلم فكفنه في ثوبه وأراد أن يستغفر له فقال له عمر أتستغفر له وتصلي عليه وقد نهاك ربك فقال إنما خيرني ربي فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وسأزيده على السبعين ثم صلى عليه فأنزل الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} فترك الصلاة عليهم.
اقرأ الرواية بتمامها في الصحيحين ثم نبئني هل يعقل أن يكون القرآن كلام محمد مع ما ترى من أنه صلى الله عليه وسلم فهم في الآية الأولى غير ما فهم عمر ثم جاءت الآية الثانية صارفة للرسول عن فهمه ومؤيده لعمر أفما كان الأجدر به لو كان القرآن كلامه أن يكون هو أدرى الناس بمراده منه وأعرفهم بحقيقة المقصود من ألفاظه وأن يجيء آخر الكلام مؤيدا لما فهمه هو لا لما فهمه غيره لكن الواقع غير ذلك فقد سبق إلى فهمه أن كلمة {أَوْ} في الآية الأولى للتخيير وفهم عمر أنها للمساواة وفهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن المراد بكلمة {سَبْعِينَ} حقيقة العدد المعروف في العشرات بين الستين والثمانين وفهم عمر أنها للمبالغة للتحديد فلا مفهوم لها ولما كان ما فهمه الرسول صلى الله عليه وسلم جاريا على أصل الوضع في معنى {أَوْ} وفي معنى {سَبْعِينَ مَرَّةً}

(2/398)


تمسك برأيه خصوصا أن فيه رحمة برجل من الناس وإن كان منافقا وكان صلى الله عليه وسلم مطبوعا على الرحمة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} .

(2/399)


الوجه العاشر: مظهر النبي صلى الله عليه وسلم عند هبوط الوحي عليه
وبيان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أول عهده بالوحي يتعجل في تلقفه ويحرك لسانه بالقرآن من قبل أن يفرغ أمين الوحي من إيحائه إليه وذلك للإسراع بحفظه والحرص على استظهاره حتى يبلغه للناس كما أنزل وكان عليه الصلاة والسلام يجد من ذلك شدة على نفسه فوق الشدة العظمى التي يحسها من نزول الوحي عليه حتى إن جبينه ليتفصد عرقا في اليوم الشديد البرد وحتى إن جسمه ليثقل بحيث يحس ثقله من بجواره وحتى أن وجهه ليحمر ويسمع له غطيط روى مسلم "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد وجهه الشريف" فاقتضت رحمة الله بمصطفاه أن يخفف عنه هذا العناء فأنزل عليه في سورة القيامة: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ , إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ , فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ , ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} وبهذا اطمأن الرسول صلى الله عليه وسلم ثقة بأن الله قد تكفل له بأن يجمع القرآن في صدره وأن يقرأه على الناس كاملا لا ينقص كلمة ولا حرفا وأن يبين له معناه فلا تخفى عليه خافية منه كذلك قال الله في سورة الأعلى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} وقال له مرة ثالثة في سورة طه: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} .
ألا ترى في هذا كله نورا يهدي إلى أن القرآن كلام الله وحده ومحال أن يكون كلام محمد وإلا لما احتاج إلى هذا العناء الذي كان يعانيه في نزول القرآن عليه ولكان الهدوء والسكون والصمت أجدى في إنضاج الفكرة وانتقاء ألفاظها لديه ولما كان ثمة من داع إلى أن يطمأن على حفظه وتبليغه وبيان معانيه أضف إلى ذلك أن هذه الحال

(2/399)


التي كانت تعروه صلى الله عليه وسلم عند الوحي لم تكن من عادته في تحضير كلامه لا قبل النبوة ولا بعدها ولم تكن من عادة أحد من قومه بل كان ديدنهم جميعا تحضير الكلام في نفوسهم وكفى!

(2/400)


الوجه الحادي عشر: آية المباهلة
وذلك أن القرآن دعا إلى المباهلة وهي مفاعلة من الابتهال والضراعة إلى الله بحرارة واجتهاد فأبى المدعوون وهم النصارى من أهل نجران أن يستجيبوا لها وخافوها ولاذوا بالفرار منها مع أنها لا تكلفهم شيئا سوى أن يأتوا بأبنائهم ونسائهم ويأتي الرسول بأبنائه ونسائه ثم يجتمع الجميع في مكان واحد يبتهلون إلى الله ويضرعون إليه بإخلاص وقوة أن ينزل لعنته وغضبه على من كان كاذبا من الفريقين قال سبحانه في سورة آل عمران: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ , إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
"ورد أنه عليه السلام لما دعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى ننظر فقال العاقب وكان ذا رأيهم والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل وما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لتهلكن فإن أبيتم إلا إلف دينكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا متحضنا للحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها وهو يقول: "إذا أنا دعوت فآمنوا" فقال أسقف نجران يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني فقالوا: يا أبا القاسم رأينا ألا نباهلك فصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على ألفي حلة كل سنة فقال عليه السلام: "والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير" .

(2/400)


وإنما ضم الأبناء والنساء وإن كان المباهلة مختصة به وبمن يكذبه لأن ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحالة واستيفائه بصدقه حتى جرؤ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده لذلك ولم يقتصر على تعريض نفسه له وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته إن تمت المباهلة وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على قرب مكانهم ومنزلتهم وفيه دليل على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لو لم يرو أحد من موافق أو مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك اهـ من تفسير النسفي.
ونقول: أليس هذا دليلا ماديا على أن القرآن كلام القادر على إنزال اللعنة وإهلاك الكاذب ثم أليس قبول محمد لهذه المبالهة مع امتناع أعدائه دليلا على أن صدقه في نبوته كان أمرا معروفا مقررا حتى في نفوس مخالفيه من أهل الكتاب وإلا فلماذا نكصوا على أعقابهم ولاذوا بالفرار من المباهلة تأمل كلمة العاقب وأسقف نجران في الرواية الآنفة لكنه الحقد والكبرياء أكلا قلوبهم فحسدوه أن آتاه الله النبوة دونهم مع أنه أمي وهم أهل كتاب وكبر عليهم أن يؤمنوا به ويدينوا له فتضيع رياستهم وتنحط منزلتهم في نفوس العامة والحسد والكبر من الحجب الكثيفة التي تحول بين المرء وسعادته فالحسود لا يسود والمتكبر مخذول لا يسترشد ولا يتوب؛ {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} معاذا بك اللهم من مقتك وغضبك ومن كل ما يؤدي إلى مقتك وغضبك آمين.

(2/401)


الوجه الثاني عشر: عجز الرسول عن الإتيان ببدل له
وذلك أن أعداء الإسلام طلبوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي بقرآن غير هذا القرآن أو أن

(2/401)


يبدله فلم يفعل وما ذاك إلا لأن القرآن ليس كلامه بل هو خارج عن طوقه آت من فوقه ولو كان كلامه لاستطاع أن يأتي بغيره وأن يبدله حين اقترحوا عليه وحينئذ يكتسب أنصارا إلى أنصاره ويضم أعوانا إلى أعوانه ويكون ذلك أروج لدعوته التي يحرص على نجاحها لكنه أعلن عجزه عن إجابة هذه المقترحات وأبدى مخاوفه إن هو أقدم على هذا الذي سألوه وتنصل من نسبة القرآن إليه مع أنه الفخر كل الفخر وألقمهم حجرا في أفواههم بتلك الحجة التي أقامها عليهم وهي أنه نشأ فيهم لا يعرف ولا يعرفون عنه ذلك الذي جاء به وهو القرآن.
اقرأ - إن شئت - هاتين الآيتين في سورة يونس: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ , قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} والمعنى أن القرآن فوق طاقتي وليس من مقدوري وما أنا إلا ناقل له أتبع ما يوحى إلي منه وإني أخاف سطوة صاحب هذا الكتاب إذا أنا تلاعبت بنصوصه أو غيرت فيه فالقرآن كلامه ولو أراد ألا أكون رسولا بينه وبينكم ما كانت لي حيلة إلى أن أتلو هذا الكتاب عليكم وتأخذوه عني فقد نشأت بينكم ومكثت أكثر من أربعين سنة قبل نزوله - وهو عمر طويل - وأنتم لا تعرفون مني هذا الاستعداد الأعلى ولا تسمعون مني مطلقا مثل هذا الكلام المعجز ولم تأخذوا علي قط أني كذبت مرة على عبد من عباد الله فكيف أكذب على الله بعد هذا العمر الطويل {أَفَلا تَعْقِلُونَ} يا لها كلمة فيها من لذعة التعنيف والتخجيل بمقدار ما فيها من لفت النظر إلى قوة الدليل!!

(2/402)


الوجه الثالث عشر: الآيات التي تجرد الرسول من نسبتها إليه
وذلك أنك تقرأ القرآن فتجد فيه آيات كثيرة تجرد الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم من أن يكون له فيها حرف أو كلمة وتصفه بأنه كان قبل نزول القرآن لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان وتمتن عليه بأن الله آتاه الكتاب والحكمة بعد أن كان بعيدا عنهما وغير مستعد لهما ولم يكن عنده رجاء من قبل لأن يكون منهل هذا الفيض ولا مشرق ذلك النور اقرأ قوله سبحانه في سورة النساء: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} وقوله في ختام سورة الشورى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ} وقوله في سورة القصص: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} .
بل كان صلى الله عليه وسلم يخاف انقطاع هذا المدد الفياض عنه فإذا فتر الوحي عراه من الحزن على فترته والتلهف على عودته ما يجعله يمشي في الشعاب والجبال كأنه يتلمسه حتى لقد كاد يتردى مرة من شاهق وهو يطلبه وأكثر من هذا أنه كان يخشى أن يتلفت منه شيء أثناء إيحائه إليه لولا أن طمأنه الله عليه كما تقدم شرحه في الوجه العاشر وأكثر من هذا وذاك أنه كان يخاف أن ينزع الله من قبله ما أنزل عليه وحفظه إياه، {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً , إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} .
قل لي - وربك هل يتصور - منصف على وجه الأرض أن القرآن كلام محمد بعد ما قصصنا عليك من هذه الآيات التي تجرده من إنشائه ووضعه بل تجرده من رجاء نزوله عليه قبل مبعثه ومن رجاء بقائه لديه بعد نزوله عليه وهل يصح في الأذهان أن أحدا

(2/403)


يبتكر بعبقريته أمرا هو مفخرة المفاخر ومعجزة المعجزات ثم يقول للعالم في صراحة ليس هذا الفخر فخري وما هو من صنعي وما كان لدي استعداد أن آتي بشيء منه وأنتم تعرفونني وتعرفون استعدادي من قبل؟
ألا إن هذا يخالف العقل والمنطق ويجافي العرف والعادة وينافي مقررات علم النفس وعلم الاجتماع فإن النفوس البشرية مجبولة على الرغبة في جلائل الأمور ومعاليها مطبوعة على حب كل ما يخلد ذكرها ويرفع شأنها لا سيما إذا كان ذلك نابعا منها وصادرا عنها وكان صاحب هذه النفس صدوقا ما كذب قط رافعا عقيرته بزعامة الناس ودعوتهم إلى الحق وليس شيء أجل شأنا ولا أخلد ذكرا من القرآن الكريم الذي جمع الله به شمل أمة وأقام به خير ملة وأسس به أعظم دولة فما كان لمحمد أن يزهد في هذا المجد الخالد ولا أن يتنصل من نسبته إليه لو كان من وصفه وصنعه وهو يدعو الخلق إلى الإيمان به وبما جاء به!
وأي وجه لمحمد في أن يتنصل من نسبة القرآن إليه وهو صاحبه إنه إن كان يطلب الوجاهة والعلو والمجد فليس شيء أوجه له ولا أعلى ولا أمجد من أن يكون هذا القرآن كلامه وإن كان يطلب هداية الناس فالناس يسرهم أن يأخذوا الهداية مباشرة ممن يعجز الجن والإنس بكلامه ويتحدى كل جيل وقبيل ببيانه ويقهر كل معارض ومكابر ببرهانه ولو كان القرآن من تأليف محمد لأثبت به ألوهيته بدلا من نبوته لأن هذا القرآن لا يمكن أن يصدر إلا عن إله كما بينا في الوجوه السالفة للإعجاز وإذن لكانت تلك الألوهية أبلغ في نجاح دعوته وأرجى في ترويج ديانته لأن الناس تبهرهم الألوهية أكثر مما تبهرهم النبوة ويشرفهم أنهم أتباع إله أكثر من أن يشرفهم أنهم أتباع رسول لم يخرج ولن يخرج يوما من أرض العبودية ولم يرتق ولن يرتقي يوما إلى سماء الربوبية.

(2/404)


فلو كان محمد صاحب هذا التنزيل لخرج عن مستوى الخلق جملة ولظهر في أفق الألوهية يطل على العالم بعظمه تنقطع دونها الأعناق وتخضع لها الرقاب وأن يحقق كل ما اقترحه معارضوه من الآيات ولكنه اعترف بعبوديته حينذاك وتبرأ من حوله وقوته إزاء هذا الكتاب وغيره من المعجزات وخوارق العادات اقرأ في سورة الإسراء: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً , أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً , أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً , أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} ؟.

(2/405)


الوجه الرابع عشر: تأثير القرآن ونجاحه
ومعنى هذا أن القرآن بلغ في تأثيره ونجاحه مبلغا خرق به العادة في كل ما عرف من كتب الله والناس وخرج عن المعهود في سنن الله من التأثير النافع بالكلام وغير الكلام وبيان ذلك أن الإصلاح العام الذي جاء به القرآن والانقلاب العالمي الذي تركه هذا الكتاب ما حدث ولم يكن ليحدث في أي عهد من عهود التاريخ قديمه وحديثه إلا على أساس من الإيمان العميق القائم على وجدان قوي بحيث يكون له من السلطان القاهر على النفوس والحكم النافذ على العواطف والميول ما يصد الناس عن نهجهم الأول في عقائدهم التي توارثوها وعبادتهم التي ألفوها وأخلاقهم التي نشؤوا عليها وعاداتهم التي امتزجت بدمائهم وما يحملهم على اعتناق هذا الدين الجديد الذي هدم تلك الموروثات فيهم وحارب تلك الأوضاع المألوفة لديهم.
وهذا الأساس الذي لا بد منه تقصر عنه في العادة جميع الكتب التعليمية التي يؤلفها العلماء والمصلحون وتعجز عن إيجاده كافة القوانين البشرية التي يضعها القادة والمشترعون لأن قصارى هذه الكتب والقوانين إذا وفقت أن تشرح الحقائق وتبين الواجهات

(2/405)


لا أن تحمل على الإيمان والإذعان وتدفع إلى العمل بوحي هذا الإيمان وإذا فرض أن يؤمن بها أصحاب الاستعداد السليم فإيمان مجرد حينئذ من قوة الدفع ودفعة التحويل ولا سبيل في العادة إلى التأثير بها على الجماهير ونجاحها فيهم نجاحا عاما إلا بأمرين أحدهما تربية الأحداث وترويضهم عليها علما وعملا من عهد الطفولة والآخر قوة حاكمة تحمل الكبار على احترامها حملا بالقوة والقهر ومع هذا وذاك فتربية الصغار على هذا الغرار هيهات أن تكون تربية استقلالية بل هي تقليدية تفقد الدليل والبرهان وكذلك إجبار الكبار هيهات أن يصل إلى موضع الإذعان والوجدان!.
لكن القرآن الكريم وحده وهو الذي نفخ الإيمان في الكبار والصغار نفخا وبثه روحا عاما وأشعر النفوس بما جاء فيه إشعارا ودفعها إلى التخلي عن موروثاتها ومقدساتها جملة وحملها على التحلي بهدية الكريم علما وعملا على حين أن الذي أتى بهذا القرآن رجل أمي لا دولة له ولا سلطان ولا حكومة ولا جند ولا اضطهاد ولا إجبار إنما هو الاقتناع والرغبة والرضا والإذعان {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} أما السيف ومشروعية الجهاد في الإسلام فلم يكن لأجل تقرير عقيدة في نفس ولا لإكراه شخص أو جماعة على عبادة ولكن لدفع أصحاب السيوف عن إذلاله واضطهاده وحملهم على أن يتركوا دعوة الحق حرة طليقة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.
هذا الأساس الذي وضعه القرآن وحده هو سر نهضته وإن شئت فقل هو نار ثورته بل هو نور هدايته والروح الساري لإحياء العالم بدعوته وذلك عن طريق أسلوبه المعجز الذي هو النفوس والمشاعر وملك القلوب والعقول وكان له من السلطان ما جعل أعداءه منذ نزوله إلى اليوم يخشون بأسه وصولته ويخافون تأثيره وعمله أكثر مما يخافون الجيوش الفاتحة والحرب الجائحة لأن سلطان الجيوش والحروب لا يعدو هياكل

(2/406)


الأجسام والأشباح أما سلطان هذا الكتاب فقد امتد إلى حرائر النفوس وكرائم الأرواح بما لم يعهد له نظير في أية نهضة من النهضات!.
ولقد أشار القرآن نفسه إلى هذه الوجه من وجوه إعجازه حين سمى الله كتابه روحا من أمره بقوله {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} وحين سماه نورا بقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} وحين وصف بالحياة والنور من آمن به في قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} وفي قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} وفي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} .
هذا التأثير الخارق أو النجاح الباهر الذي نتحدث فيه أدركه ولا يزال يدركه كل من قرأ القرآن في تدبر وإمعان ونصفه حاذقا لأساليبه العربية ملما بظروفه وأسباب نزوله أما الذين لم يحذقوا لغة العرب ولم يحيطوا بهذه الظروف والأسباب الخاصة فيكفيهم أن يسألوا التاريخ عما حمل هذا الكتاب من قوة محولة غيرت صورة العالم ونقلت حدود الممالك وعن طريق استيلائها على قلوب المخاطبين به لأول مرة استيلاء أشبه بالقهر وما هو بالقهر وأفعل من السحر وما هو بالسحر سواء في ذلك أنصاره وأعداؤه ومحالفوه ومخالفوه وما ذاك إلا لأنهم ذاقوا بسلامة فطرتهم العربية بلاغته ولمسوا بحاستهم البيانية إعجازه فوجد تياره الكهربائي موضعا في نفوسهم لشرارة ناره أو لهطول غيثه وانبلاج أنواره!.
تأثيره في أعدائه:
أما أعداؤه المشركين فقد ثبت أنه جذبهم إليه بقوته في مظاهر كثيرة نذكر بعضها على سبيل التمثيل:

(2/407)


الأجسام والأشباح أما سلطان هذا الكتاب فقد امتد إلى حرائر النفوس وكرائم الأرواح بما لم يعهد له نظير في أية نهضة من النهضات!.
ولقد أشار القرآن نفسه إلى هذه الوجه من وجوه إعجازه حين سمى الله كتابه روحا من أمره بقوله {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} وحين سماه نورا بقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} وحين وصف بالحياة والنور من آمن به في قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} وفي قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} وفي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} .
هذا التأثير الخارق أو النجاح الباهر الذي نتحدث فيه أدركه ولا يزال يدركه كل من قرأ القرآن في تدبر وإمعان ونصفه حاذقا لأساليبه العربية ملما بظروفه وأسباب نزوله أما الذين لم يحذقوا لغة العرب ولم يحيطوا بهذه الظروف والأسباب الخاصة فيكفيهم أن يسألوا التاريخ عما حمل هذا الكتاب من قوة محولة غيرت صورة العالم ونقلت حدود الممالك وعن طريق استيلائها على قلوب المخاطبين به لأول مرة استيلاء أشبه بالقهر وما هو بالقهر وأفعل من السحر وما هو بالسحر سواء في ذلك أنصاره وأعداؤه ومحالفوه ومخالفوه وما ذاك إلا لأنهم ذاقوا بسلامة فطرتهم العربية بلاغته ولمسوا بحاستهم البيانية إعجازه فوجد تياره الكهربائي موضعا في نفوسهم لشرارة ناره أو لهطول غيثه وانبلاج أنواره!.
تأثيره في أعدائه:
أما أعداؤه المشركين فقد ثبت أنه جذبهم إليه بقوته في مظاهر كثيرة نذكر بعضها على سبيل التمثيل:

(2/408)


في المدينة هما مصعب بن عمير وعبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنهما وقد نجح هذان في مهمتهما أكثر نجاح وأحدثا في المدينة ثورة فكرية أو حركة تبشيرية جزع لها سعد بن معاذ سيد قبيلة الأوس حتى قال لابن أخيه أسيد بن حضير ألا تذهب إلى هذين الرجلين اللذين أتيا يسفهان ضعفاءنا فتزجرهما فلما انتهى إليهما أسيد قال لهما ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا ثم هددهما وقال اعتزلا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة رضي الله عن مصعب فقد تغاضى عن هذه التهديد وقال لأسيد في وقار المؤمن وثباته أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كفننا عنك ما تكره ثم قرأ مصعب القرآن وأسيد يسمع فما قام من مجلسه حتى أسلم ثم كر راجعا إلى سعد فقال له والله ما رأيت بالرجلين بأسا فغضب سعد وذهب هو نفسه ثائرا مهتاجا فاستقبله مصعب بما استقبل به أسيدا وانتهى الأمر بإسلامه أيضا ثم كر راجعا فجمع قبيلته وقال لهم ما تعدونني فيكم قالوا سيدنا وابن سيدنا فقال سعد كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تسلموا فأسلموا أجمعين!.
تأثير القرآن في نفوس أوليائه:
تلك مظاهر لفعل القرآن بنفوس شانئيه فهل تدري ماذا فعل بهم بعد أن دانوا له وآمنوا به وأصبحوا من تابعيه ومحبيه لعلك لم تنس ما فعل القرآن بعمر وسعد وأسيد الذين نوهنا بهم بين يديك ألم يعودوا من خيرة جنود الإسلام ودعاته من يوم أسلموا بل من ساعة أسلموا وهناك مظاهر أربعة لهذا الضرب أيضا.
المظهر الأول تنافسهم في حفظه وقراءته في الصلاة وفي غير الصلاة حتى لقد طاب لهم أن يهجروا لذيد منامهم من أجل تهجدهم به في الأسحار ومناجاتهم العزيز الغفار وما كان هذا حالا نادرا فيهم بل ورد أن المار على بيوت الصحابة بالليل كان يسمع لها دويا كدوي النحل بالقرآن وكان التفاضل بينهم بمقدار ما يحفظ أحدهم من القرآن وكانت

(2/409)


المرأة ترضى بل تغتبط أن يكون مهرها سورة يعلمها إياها زوجها من القرآن؟.
المظهر الثاني: عملهم به وتنفيذهم لتعاليمه في كل شأن من شؤونهم تاركين كل ما كانوا عليه مما يخالف تعاليمه ويجافي هداياته طيبة بذلك نفوسهم طيعة أجسامهم سخية أيديهم وأرواحهم حتى صهرهم القرآن في بوتقته وأخرجهم للعالم خلقا آخر مستقيم العقيدة قويم العبادة طاهر العادة كريم الخلق نبيل المطمح!.
المظهر الثالث: استبسالهم في نشر القرآن والدفاع عنه وعن هدايته فأخلصوا له وصدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه وهو مدافع عنه ومنهم من انتظر حتى أتاه اليقين وهو مجاهد في سبيله مضح بنفسه ونفيسه ولقد بلغ الأمر إلى حد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرد بعض من يتطوع بالجندية من الشباب لحداثة أسنانهم وكان كثير من ذوي الأعذار يؤلمهم التخلف عن الغزو حتى يضطر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتخلف معهم جبرا لخاطرهم ويرسل سراياه وبعوثه بعد أن ينظمها ويزودها بما تحتاجه ولا يخرج معهم روى مالك والشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل"!.
المظهر الرابع: ذلك النجاح الباهر الذي أحرزه القرآن في هداية العالم فقد وجد قبل النبي صلى الله عليه وسلم أنبياء ومصلحون وعلماء ومشترعون وفلاسفة وأخلاقيون وحكام ومتحكمون فما تسنى لأحد من هؤلاء بل ما تسنى لجميعهم أن يحدثوا مثل هذه النهضة الرائعة التي أحدثها محمد في العقائد والأخلاق وفي العبادات والمعاملات وفي السياسة والإدارة وفي كافة نواحي الإصلاح الإنساني وما كان لمحمد ولا لألف رجل غير محمد أن يأتوا بمثل هذا الدستور الصالح الذي أحيا موات الأمة العربية في أقل من عشرين سنة ثم نفخ فيهم من روحه فهبوا بعد وفاته ينقذون العالم ففتحوا ملك كسر وقيصر ووضعوا رجلا

(2/410)


في الشرق ورجلا في الغرب وخفقت رايتهم على نصف المعمور في أقل من قرن ونصف قرن من الزمان.
أفسحر هذا؟ أم هو برهان عقلي لمحه المنصفون من الباحثين فاكتفوا من محمد صلى الله عليه وسلم بهذا النجاح الباهر دليلا على أنه رسول من رب العالمين.
هذا فيلسوف من فلاسفة فرنسا يذكر في كتاب له ما زعمه دعاة النصرانية من أن محمدا لم يأت بآية على نبوته كآيات موسى وعيسى ثم يفند هذا الزعم ويقول إن محمدا كان يقرأ القرآن خاشعا أواها متألها فتفعل قراءته في جذب الناس إلى الإيمان به ما لم تفعله جميع آيات الأنبياء الأولين!
أجل لقد صدق الرجل فإن فعل القرآن في نفوس العرب كان أشد وأرقى وأبلغ مما فعلت معجزات جميع الأنبياء وإن شئت مقارنة بسيطة فهذا موسى عليه السلام قد أتى بني إسرائيل بآيات باهرة من عصا يلقيها فإذا هي ثعبان مبين ومن يد يخرجها فإذا هي بيضاء للناظرين ومن انفلاق البحر فإذا هو طريق يابسة يمشون فيها ناجين آمنين إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في مصر وفي طور سينا مدة التيه فهل تعلم مدى تأثير هذه الهدايات في إيمانهم بالله ووحدانيته وإخلاصهم لدينه ونصرة رسوله إنهم ما كادوا يخرجون من البحر بهذه المعجزة الإلهية الكبرى ويرون بأعينهم عبدة الأصنام والأوثان حتى كان منهم ما حكاه الله في القرآن: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}.
ثم لما ذهب موسى إلى مناجاة ربه واستخلف عليهم أخاه هارون عليهما السلام نسوا الله تعالى وحنوا إلى ما وقر في نفوسهم من الوثنية المصرية وخرافاتها فعبدوا العجل كما تحدثت سورة الأعراف بذلك: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ

(2/411)


خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ولما دعاهم موسى إلى قتال الجبارين ودخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم أبوا وخالفوا وفضلوا القعود والاستخذاء على الجلاد والنزول إلى ميادين الجهاد {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} !.. هؤلاء أصحاب موسى فانظر إلى أصحاب محمد كيف تأثروه بالقرآن حتى ليحدث التاريخ عنهم أنهم قطعوا شجرة الرضوان وهي تلك الشجرة التاريخية المباركة التي ورد ذكرها في القرآن وما هذا إلا لأن الناس تبركوا بها فخاف عمر إن طال الزمان بالناس أن يعودوا إلى وثنيتهم ويعبدوها فأمر بقطعها ووافقه الصحابة على ذلك!.
وكذلك يذكر التاريخ أن محمدا صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه حين عزم على قتال المشركين في غزوة بدر فقالوا: والله لو استعرضت بنا هذا البحر يريدون البحر الأحمر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد إنا لا نقول لك ما قال قوم موسى لموسى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} : ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون هكذا كانوا يفضلون مصافحة المنايا في ميادين الجهاد ويتهافتون على الغزو طمعا في الاستشهاد وهكذا حرصوا على الموت فوهبهم الله الحياة وأتقنوا صناعة الموت فدانت لهم الملوك وعنت الكماة {وَ َمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} . {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .

(2/412)


وجوه معلولة
ذكر بعضهم وجوها أخرى للإعجاز ولكنها لا تسلم في نظرنا من طعن لأن منها ما يتداخل بعضه في بعض ومنها ما لا يجوز أن يكون وجها من وجوه الإعجاز بحال ونمثل لهذا الذي ذكروه بتلك الأوجه العشرة التي عدها القرطبي وهي:
1 - نظمه البديع المخالف لكل نظم معهود.
2 - أسلوبه العجيب المخالف لجميع الأساليب.
3 - جزالته التي لا تمكن لمخلوق.
4 - التصرف في الألفاظ العربية على وجه لا يستقل به عربي.
5 - الوفاء بالوعد المدرك بالحسن والعيان كوعد المؤمنين بالنصر وغير ذلك.
6 - الأخبار عن المغيبات المستقبلة التي لا يطلع عليها إلا بالوحي.
7 - ما تضمنه القرآن من العلوم المختلفة التي بها قوام الأنام.
8 - اشتماله على الحكم البالغة.
9 - عدم الاختلاف والتناقض بين معانيه.
10 - الإخبار عن الأمور التي تقدمت من أول الدنيا إلى وقت نزوله بما لم تجر العادة بصدوره ممن لم يقرأ الكتاب ولم يتعلم ولم يسافر إلى حيث يختلط بأهل الكتاب.
فإن المتأمل في هذه الأوجه يلاحظ أن أسلوب القرآن العجيب يشمل جزالته التي لا تمكن لمخلوق ويشمل التصرف في الألفاظ العربية على وجه لا يستقل به عربي ويلاحظ أيضا أن الوفاء بالوعد المدرك بالحس والعيان كوعد المؤمنين بالنصر ينضوي تحت مضمون الإخبار بالمغيبات وكذلك الأمور التي تقدمت من أول الدنيا إلى وقت نزوله تنتظم في سلك الإخبار بالغيبات ويلاحظ كذلك أن الاشتمال على الحكم البالغة وعدم الاختلاف والتناقض بين معانيه لا يصلح واحد منها أن يكون وجها من وجوه الإعجاز لأنهما لا يخرجان عن حدود الطاقة بل كثيرا ما نجد كلام الناس مشتملا على حكم وسليما من التناقض والاختلاف.
وبعضهم جعل وجه الإعجاز في القرآن هو الفصاحة وحدها وذلك غير سديد أيضا

(2/413)


لأن مجرد الفصاحة دون مراعاة لمقتضى الحال أمر لا يخرج بالكلام عن المعهود في مقدور البشر فكثيرا ما يكون الكلام البشري فصيحا لكن تعوزه الخصائص والنكات الزائدة التي هي مناط بلاغته في أقل درجاته فضلا عن إعجازه.

(2/414)


شبهة القول بالصرفة
ومن الباحثين من طوعت له نفسه أن يذهب إلى القول بأن وجه إعجاز القرآن هو الصرفة أي صرف الله العرب عن معارضته على حين أنه لم يتجاوز في بلاغته مستوى طاقتهم البشرية وضربوا لذلك مثلا فقالوا إن الإنسان كثيرا ما يترك عملا هو من جنس أفعاله الاختيارية ومما يقع مثله في دائرة كسبه وقدرته إما لأن البواعث على هذا العمل لم تتوافر وإما لأن الكسل أو الصدود أصابه فأقعد همته وثبط عزيمته وإما لأن حادثا مفاجئا لا قبل له به قد اعترضه فعطل آلاته ووسائله وعاق قدرته قهرا عنه على رغم انبعاث همته نحوه وتوجه إرادته إليه فكذلك انصراف العرب عن معارضتهم للقرآن لم ينشأ من أن القرآن بلغ في بلاغته حد الإعجاز الذي لا تسمو إليه قدرة البشر عادة بل لواحد من ثلاثة:
أولها أن بواعث هذه المعارضة ودواعيها لم تتوافر لديهم.
ثانيها أن صارفا إليها زهدهم في المعارضة فلم تتعلق بها إرادتهم ولم تنبعث إليها عزائمهم فكسلوا وقعدوا على رغم توافر البواعث والدواعي.
ثالثها أن عارضا مفاجئا عطل مواهبهم البيانية وعاق قدرهم البلاغية وسلبهم أسبابهم العادية إلى المعارضة على رغم تعلق إرادتهم بها وتوجه همتهم إليها.
بهذا التوجيه أو نحوه يعزى القول بالصرفة إلى أبي إسحاق الإسفراييني من أهل السنة والنظام من المعتزلة والمرتضى من الشيعة وأنت إذا تأملت هذه الفروض الثلاثة التي التمسوها أو التمست لهم علمت أن عدم معارضة العرب للقرآن لم تجيء من ناحية إعجازه البلاغي في زعمهم بل جاءت على الفرضين الأولين من ناحية عدم اكتراث العرب بهذه

(2/414)


المعارضة ولو أنهم حاولوها لنالوها وجاءت على الفرض الأخير من ناحية عجزهم عنه لكن بسبب خارجي عن القرآن وهو وجود مانع منعهم منها قهرا ذلك المانع هو حماية الله لهذا الكتاب وحفظه إياه من معارضة المعارضين وإبطال المبطلين ولو أن هذا المانع زال لجاء الناس بمثله لأنه لا يعلو على مستواهم في بلاغته ونظمه.
تفنيد هذا القول
وهذا القول بفروضه التي افترضوها أو بشبهاته التي تخيلوها لا يثبت أمام البحث ولا يتفق والواقع.
أما الفرض الأول فينقضه ما سجل التاريخ وأثبت التواتر من أن دواعي المعارضة كانت قائمة موفورة ودوافعها كانت مائلة متآخذة وذلك لأدلة كثيرة:
منها أن القرآن تحداهم غير مرة أن يأتوا ولو بمثل أقصر سورة منه ثم سجل العجز عليهم وقال بلغة واثقة إنهم لا يستطيعوا أن يفعلوا ولن يفعلوا ولو ظاهرهم الإنس والجن فكيف لا تثور حميتهم إلى المعارضة بعد هذا ولو كانوا أجبن خلق الله؟.
ومنها أن العرب الذين تحداهم القرآن كانوا مضرب المثل في الحمية والأنفة وإباء الضيم فكيف لا يحركهم هذا التحدي والاستفزاز؟.
ومنها أن صناعتهم البيان وديدنهم التنافس في ميادين الكلام فكيف لا يطيرون بعد هذه الصيحة إلى حلبة المساجلة؟.
ومنها أن القرآن أثار حفائظهم وسفه عقولهم وعقول آبائهم ونعى عليهم الجمود والجهالة والشرك فكيف يسكتون بعد هذا التقريع والتشنيع؟.
ومنها أن القرآن أقام حربا شعواء على أعز شيء لديهم وهي عقائدهم المتغلغة فيهم وعوائدهم المتمكنة منهم فأي شيء يلهب المشاعر ويحرك الهمم إلى المساجلة أكثر من هذا ما دامت هذه المساجلة هي السبيل المتعين لإسكات خصمهم لو استطاعوا.

(2/415)


وأما الفرض الثاني فينقضه الواقع التاريخي أيضا ودليلنا على هذا ما تواترت به الأنباء من أن بواعث العرب إلى المعارضة قد وجدت سبيلها إلى نفوسهم ونالت منالها من عزائمهم فهبوا هبة رجل واحد يحاولون القضاء على دعوة القرآن بمختلف الوسائل فلم يتركوا طريقا إلا سلكوه ولم يدعوا بابا إلا دخلوه.
لقد آذوه صلى الله عليه وسلم وآذوا أصحابه فسبوا من سبوا وعذبوا من عذبوا وقتلوا من قتلوا.
ولقد طلبوا إلى عمه أبي طالب أن يكفه وإلا نازلوه وإياه.
ولقد قاطعوه وقاطعوا أسرته الكريمة لا يبيعون لهم ولا يبتاعون ولا يتزوجون منهم ولا يزوجون واشتد الأمر حتى أكلت الأسرة الكريمة ورق الشجر.
ولقد فاوضوه أثناء هذه المقاطعة التي تلين الحديد مفاوضات عدة وعرضوا عليه عروضا سخية مغرية منها أن يعطوه حتى يكون أكثرهم مالا وأن يعقدوا له لواء الزعامة فلا يقطعوا أمرا دونه وأن يتوجوه ملكا عليهم إن كان يريد ملكا وأن يلتمسوا له الطب إن كان به مس من الجن كل ذلك في نظير أن يترك هذا الذي جاء به ولما أبي عليهم ذلك عرضوا عليه أن يهادنهم ويداهنهم فيعبد آلهتهم سنة ويعبدون إلهه سنة فأبى أيضا ونزل قول الله: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} ونزلت كذلك سورة الكافرون.
ولقد صادروه وصادروا أصحابه في عبادتهم وانبعث شقي منهم فوضع النجاسة على ظهره صلى الله عليه وسلم وهو يصلي وخنقه طاغية من طواغيتهم لولا أن جاء أبو بكر فدفعه وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ}.
ولقد اتهموه صلى الله عليه وسلم مرة بالسحر وأخرى بالشعر وثالثه بالجنون ورابعة بالكهانة وكانوا يتعقبونه وهو يعرض نفسه على قبائل العرب أيام الموسم فيبهتونه ويكذبونه أمام من لا يعرفونه ولقد شدوا وطأتهم على أتباعه حتى اضطروهم أن يهاجروا من وطنهم ويتركوا أهلهم وأولادهم وأموالهم فرارا إلى الله بدينهم
ولقد تآمروا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه لولا أن حفظه الله وحماه من مكرهم وأمره بالهجرة من بينهم.

(2/416)


ولقد أرسلوا إليه الأذى بعد ذلك في مهاجره فشبت الحرب بينه وبينهم في خمس وسبعين موقعة منها سبع وعشرون غزوة وثمان وأربعون سرية.
فهل يرضى عاقل لنفسه أن يقول بعد ذلك كله إن العرب كانوا مصروفين عن معارضة القرآن ونبي القرآن وإنهم كانوا مخلدين إلى العجز والكسل زاهدين في النزول إلى هذا الميدان؟
وهل يصح مع هذا كله أن يقال إنهم كانوا في تشاغل عن القرآن غير معنيين به ولا آبهين له؟
وإذا كان أمر القرآن لم يحركهم ولم يسترع انتباههم فلماذا كانت جميع هذه المهاترات والمصاولات مع أن خصمهم الذي يزعمون خصومته قد قصر لهم المسافة ودلهم على أن سبيلهم إلى إسكاته هو أن يأتوا بمثل أقصر سورة مما جاءهم به أليس ذلك دليلا ماديا على أن قعودهم عن معارضة القرآن ليست إلا بسبب شعورهم بعجزهم عن هذه المعارضة واقتناعهم بإعجاز القرآن وإلا فلماذا آثروا الملاكمة على المكالمة والمقارعة بالسيوف على المعارضة بالحروف؟!
وقد يظن جاهل أن حماستهم في خصومتهم هذه ليس مبعثها شعورهم بقوة القرآن وإعجازه وإنما مبعثها بغضهم لمحمد وأصحابه ولكن هذا الظن يكذبه ما هو مقرر تاريخيا وثابت ثبوتا قطعيا من أن محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم تكن بينهم وبين هؤلاء عداوة قبل نزول القرآن بل كانوا أمة واحدة وقبيلة واحدة وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أحب الناس إليهم لدماثه أخلاقهم وللرحم الماسة التي بينهم.
وقد يظن آخر أنت حماسة قريش في خصومتهم للنبي وأتباعه إنما كان مبعثها مجرد المخالفة في الدين بقطع النظر عن إعجاز هذا القرآن الكريم وهذا ظن خاطئ أيضا

(2/417)


لأمرين أحدهما أنه كان بين المشركين في جزيرة العرب يهود وأهل كتاب يخالفونهم في الدين فما أرث ذلك بينهم حربا ولا أوقد لخصومتهم نارا على مثل ما كان بينهم وبين محمد والآخر أنه كان يوجد بين العرب حنفاء من مقاويل الخطباء وفحول الشعراء كأمية بن أبي الصلت وقس بن ساعدة فما كان هذا ليثير حفائظهم ولا ليقفهم موقف الخصومة منهم بل رضوا بتحنفهم ومخالفتهم لدينهم ودين آبائهم وزادوا على ذلك أن سجلوا كلامهم في التوحيد وشعرهم في التنزيه والتمجيد لأنهم لم يجدوا في هذا المنظوم والمنثور مثل ما وجدوا في القرآن من شدة التأثير وقوة الدفع ذلك الكتاب الذي جاءهم من فوقهم وكان له شأن غير شأنهم ورأوا فيه من مسحة الألوهية ما جعله روحا من أمر الله يتحرك به كل من سمع صوته ويهتز له كل من شام برقه ولا سبيل إلى وقف تياره وأثره إلا بالوقوف في وجهه والحيلولة بين الناس وبينه روى أبو داود والترمذي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "ألا رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي" فتأمل كلمة "أن أبلغ كلام ربي" ولم يقل منعوني أن أتلو أو أعمل في نفسي بكلام ربي لأن التلاوة والعمل من غير استعلان بالقرآن ونشر له كان لا يؤثر على قريش كثيرا إنما الذي كان يحز في نفوسهم ويقض من مضاجعهم هو نشر هذا النور الذي يكاد يخطف الأبصار وإعلان هذا الكتاب الذي يجذب القلوب والأفكار وكان من تأثيره وفتحه وعزوة للنفوس ما ألمعنا إليه في إسلام عمر وسعد وأسيد!
وأما الفرض الثالث فينقضه ما هو معروف من أن العرب حين خوطبوا بالقرآن قعدوا عن معارضته اقتناعا بإعجازه وعجزهم الفطري عن مساجلته ولو أن عجزهم هذا كان لطارئ مباغت عطل قواهم البيانية لأثر عنهم أنهم حاولوا المعارضة بمقتضى تلك الدوافع القوية التي شرحناها ففوجئوا بما ليس في حسبانهم ولكان ذلك مثار عجب لهم ولأعلنوا ذلك في الناس ليلتمسوا العذر لأنفسهم وليقللوا من شأن القرآن في ذاته ولعمدوا إلى كلامهم القديم فعقدوا مقارنة بينه وبين القرآن يغضون بها من مقام القرآن وإعجازه ولكانوا بعد

(2/418)


نزول القرآن أقل فصاحة وبلاغة منهم قبل نزوله ولأمكننا نحن الآن وأمكن المشتغلين بالأدب العربي في كل عصر أن يتبينوا الكذب في دعوى إعجاز القرآن وكل هذه اللوازم باطلة؟ فبطل ما استلزمها وهو القول بالصرفة بناء على هذه الشبهة الهازلة.
ثم ألم يكف هؤلاء شهادة أعداء القرآن أنفسهم في أوقات تخليهم من عنادهم كتلك الشهادة التي خرجت من فم الوليد والفضل ما شهدت به الأعداء؟
ثم ألم يكفهم ما في القرآن من وجوه الإعجاز الكثيرة التي دللنا عليها فيما سبق؟ والتي لا تزال قائمة ماثلة ناطقة إلى يومنا هذا ولا تزيدها الأيام وما يجد في العالم من علوم ومعارف وتجارب إلا وضوحا وبيانا؟!.
إني لأعجب من القول بالصرفة في ذاته ثم ليشتد عجبي وأسفي حين ينسب إلى ثلاثة من علماء المسلمين الذي نرجوهم للدفاع عن القرآن ونربأ بأمثالهم أن يثيروا هذه الشبهات في إعجاز القرآن!.
على أنني أشك كثيرا في نسبة هذه الآراء السقيمة إلى أعلام من العلماء ويبدو لي أن الطعن في نسبتها إليهم والقول بأنها مدسوسة من أعداء الإسلام عليهم أقرب إلى العقول وأقوى في الدليل لأن ظهور وجوه الإعجاز في القرآن من ناحية وعلم هؤلاء من ناحية أخرى قرينتان مانعتان من صحة عزو هذا الرأي الآثم إليهم.
ولقد عودنا أعداء الإسلام أن يفتروا على رسول الله وعلى أصحابه وعلى الأئمة والعلماء فلم لا يكون هذا منه؟
على أن الحق لا يعرف بالرجال إنما يعرف الحق بسلامة الاستدلال وها قد طاش هذا الرأي في الميزان فلنرده على قائله أيا كان.
وليس كل خلاف جاء معتبرا ... إلا خلاف له حظ من النظر

(2/419)


وأحب أن تلتفت إلى أن هذه الشبهة قد أثارها أعداء الإسلام فيما أثاروا وصوبوا منها سهما طائشا إلى القرآن وإعجازه فلنكتف بنقضنا لها هنا عن إعادتها بين ما سنذكره في دفع الشبهات هناك إن شاء الله.

(2/420)


دفع الشبهات الواردة في هذا المقام
لقد كان ما ذكرناه من وجوه الإعجاز الأربعة عشر كافيا للقضاء على كل شبهة ولرد كل فرية ومحو كل تهمة لولا أن المخذولين من أعداء الإسلام وجدوا آذانا صاغية من نفوس عزيزة علينا وفئات متعلمة تعلما مدنيا فتأثروا بدجلهم ثم رضوا أن يكونوا أبواقا لهم يرددون شبهاتهم على تلاميذنا في الجامعات والمدارس ويطلقون بخورهم على جماهيرنا في المطبوعات والأندية والمجالس لهذا كان من واجبنا أن نحشد قوانا لتطهير الجو الإسلامي من هذه الجراثيم الفتاكة والمطاعن الجارية الهدامة وألا نكتفي عند المناسبة بذكر أحد المتلازمين عن الآخر اللهم إلا إذا كان الأمر ظاهرا لا يحتاج إلى تنبيه أما عند الحاجة فقد نكرر ما سبق لنا ذكره ولكن بمقدار الحاجة من غير إكثار.
ونلفت نظرك إلى ما أسلفناه من الكلام على الوحي بين مثبتيه ومنكريه بالمبحث الثالث من هذا الكتاب "ص 57 – 84" من الجزء الأول وإلى ما حواه هذا الكلام من أدلة علمية عقلية ومن تفنيد شبهات عشر تتصل بإعجاز القرآن عن قرب أو بعد.
ثم نلفت نظرك أيضا إلى نقض تلك الشبهات الست التي أثيرت حول المكي والمدني من القرآن "ص 198 - 232 بالجزء الأول".
ونرشدك إلى أننا راعينا عند كلامنا على أسلوب القرآن وإعجازه تفصيلات

(2/420)


وتوجيهات نعتقد أن فيها غناء عن دفع كثير من الشبهات فاحرص عليها ثم اشدد يديك على ما يلقى إليك.
الشبهة الأولى ودفعها:
يقولون إن محمدا لقي بحيرا الراهب فأخذ عنه وتعلم منه وما تلك المعارف التي في القرآن إلا ثمرة هذا الأخذ وذاك التعلم.
وندفع هذا أولا بأنها دعوى مجردة من الدليل خالية من التحديد والتعيين ومثل هذه الدعاوى لا تقبل ما دامت غير مدللة وإلا فليخبرونا ما الذي سمعه محمد من بحيرا الراهب ومتى كان ذلك وأين كان؟.
ثانيا أن التاريخ لا يعرف أكثر من أنه صلى الله عليه وسلم سافر إلى الشام في تجارة مرتين مرة في طفولته ومرة في شبابه ولم يسافر غير هاتين المرتين ولم يجاوز سوق بصرى فيهما ولم يسمع من بحيرا ولا من غيره شيئا من الدين ولم يك أمره سرا هناك بل كان معه شاهد في المرة الأولى وهو عمه أبو طالب وشاهد في الثانية وهو ميسرة غلام خديجة التي خرج الرسول بتجارتها أيامئذ وكل ما هنالك أن بحيرا الراهب رأى سحابة تظلله من الشمس فذكر لعمه أن سيكون لهذا الغلام شأن ثم حذره عليه من اليهود وقد رجع به عمه خوفا عليه ولم يتم رحلته كذلك روي هذا الحادث من طرق في بعض أسانيدها ضعف ورواية الترمذي ليس فيها اسم بحيرا وليس في شيء من الروايات أنه صلى الله عليه وسلم سمع من بحيرا أو تلقى منه درسا واحدا أو كلمة واحدة لا في العقائد ولا في العبادات ولا في المعاملات ولا في الأخلاق فأنى يؤفكون؟.
ثالثا أن تلك الروايات التاريخية نفسها تحيل أن يقف هذا الراهب موقف المعلم المرشد لمحمد لأنه بشره أو بشر عمه بنبوته وليس بمعقول أن يؤمن

(2/421)


رجل بهذه البشارة التي يزفها ثم ينصب نفسه أستاذا لصاحبها الذي سيأخذ عن الله ويتلقى عن جبريل ويكون هو أستاذ الأستاذين وهادي الهداة والمرشدين وإلا كان هذا الراهب متناقضا مع نفسه.
رابعا أن بحيرا الراهب لو كان مصدر هذا الفيض الإسلامي المعجز لكان هو الأحرى بالنبوة والرسالة والانتداب لهذا الأمر العظيم.
خامسها أنه يستحيل في مجرى العادة أن يتم إنسان على وجه الأرض تعليمه وثقافته ثم ينضج النضج الخارق للمعهود فيما تعلم وتثقف بحيث يصبح أستاذ العالم كله لمجرد أنه لقي مصادقة واتفاقا راهبا من الرهبان مرتين على حين أن التلميذ كان في كلتا المرتين مشتغلا عن التعليم بالتجارة وكان أميا لا يعرف القراءة والكتابة وكان صغيرا تابعا لعمه في المرة الأولى وكان حاملا لأمانة ثقيلة في عنقه لا بد أن يؤديها كاملة في المرة الثانية وهي أمانة العمل والإخلاص في مال خديجة وتجارتها.
سادسا أن طبيعة الدين الذي ينتمي إليه الراهب بحيرا تأبى أن تكون مصدرا للقرآن وهداياته خصوصا بعد أن أصاب ذلك الدين ما أصابه من تغيير وتحريف.
وحسبك أدلة على ذلك ما أقمناه من المقارنات السابقة بين تعاليم القرآن وتعاليم غيره وما قررناه من الوفاء في تعاليم القرآن دون غيره وما أشرنا إليه من أن القرآن قد صور علوم أهل الكتاب في زمانه بأنها الجهالات ثم تصدى لتصحيحها وصور عقائدهم بأنها الضلالات ثم عمل على تقويمها وصور أعمالهم بأنها المخازي والمنكرات ثم حض على تركها فارجع إلى ما أسلفناه ثم تذكر أن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه وأن الخطأ لا يمكن أن يكون مصدرا للصواب وأن الظلام لا يمكن أن يكون مشرقا للنور.
سابعا أن أصحاب هذه الشبهة من الملاحدة يقولون إن القرآن هو الأثر التاريخي

(2/422)


الوحيد الذي يمثل روح عصره أصدق تمثيل فإذا كانوا صادقين في هذه الكلمة فإننا نحاكمهم في هذه الشبهة إلى القرآن نفسه وندعوهم أن يقرؤوه ولو مرة واحدة بتعقل ونصفه ليعرفوا منه كيف كانت الأديان وعلماؤها وكتابها في عصره وليعلموا أنها ما كانت تصلح لأستاذية رشيدة بل كانت هي في أشد الحاجة إلى أستاذية رشيدة إنهم إن فعلوا ذلك فسيستريحون ويريحون الناس من هذا الضلال والزيغ ومن ذلك الخبط والخلط هدانا وهداهم الله فإن الهدي هداه. {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} .
ثامنا أن هذه التهمة لو كان لها نصيب من الصحة لفرح بها قومه وقاموا لها وقعدوا لأنهم كانوا أعرف الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أحرص الناس على تبهيته وتكذيبه وإحباط دعوته بأية وسيلة لكنهم كانوا أكرم على أنفسهم من هؤلاء الملاحدة فحين أرادوا طعنه بأنه تعلم القرآن من غيره لم يفكروا بأن يقولوا إنه تعلم من بحيرا الراهب كما قال هؤلاء لأن العقل لا يصدق ذلك والهزل لا يسعه بل لجؤوا إلى رجل في نسبة الأستاذية إليه شيء من الطرافة والهزل حتى إذا مجت العقول نسبة الأستاذية إليه لاستحالتها قبلتها النفوس لهزلها وطرافتها فقالوا إنما يعلمله بشر وأرادوا بالبشر حدادا روميا منهمكا بين مطرقته وسندانه ضالا طول يومه في خبث الحديد وناره ودخانه غير أنه اجتمع فيه أمران حسبوهما مناط ترويج تهمتهم أحدهما أنه مقيم بمكة إقامة تيسر لمحمد الاتصال الدائم الوثيق به والتلقي عنه والآخر غريب عنهم وليس منهم ليخيلوا إلى قومهم أن عند هذا الرجل علم ما لم يعلموا هم ولا آباؤهم فيكون ذلك أدنى إلى التصديق بأستاذيته لمحمد وغاب عنهم أن الحق لا يزال نوره ساطعا يدل عليه لأن هذا الحداد الرومي أعجمي لا يحسن العربية فليس بمعقول أن يكون مصدرا لهذا القرآن الذي هو أبلغ نصوص العربية بل هو معجزة المعجزات ومفخرة العرب واللغة العربية. {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} !.

(2/423)


الشبهة الثانية ودفعها:
يقولون نحن لا نشك في صدق محمد في إخباره عما رأى وسمع ولكنا نعتقد أن نفسه هي منبع هذه الأخبار لأنه لم يثبت علميا أن هناك غيبا وراء المادة يصح أن يتنزل منه قرآن أو يفيض عنه علم أو يأتي منه دين ثم ضربوا لذلك مثلا فقالوا إن الفتاة الفرنسية جان دارك الناشئة في القرن الخامس عشر الميلادي قد حدث التاريخ عنها أنها اعتقدت وهي في بيت أهلها بعيدة عن التكاليف السياسية أنها مرسلة من عند الله لإنقاذ وطنها ودفع العدو عنه واعتقدت أنها تسمع صوت الوحي الإلهي يحضها على القتال والجهاد وانطلقت تحت هذا التأثير فجردت حملة على أعداء وطنها وقادت الجيش بنفسها فقهرتهم ثم دارت الدائرة فوقعت أسيرة وماتت ميتة الأبطال في ميدان النزال ولا يزال ذكرها يتلألأ نورا ويعبق أريجا حتى لقد قررت الكنيسة الكاثوليكية قداستها بعد موتها بزمن.
وندفع هذه الشبهة بأمور:
أولها تلك الأدلة العلمية التي أقمناها هناك على إثبات الوحي الإلهي الحقيقي لا الوحي النفسي الخيالي مع دفع الشبهات الواردة عليها بالمبحث الثالث من هذا الكتاب.
ثانيها هذه الأدلة الأربعة عشر التي أقمناها وجوها لإعجاز القرآن في هذا المبحث ففي كل وجه منها دفع كاف لهذه الشبهة عند التأمل والإنصاف لأن الإنسان محدود القوى والمواهب فلا يستطيع أن يخرق النواميس الكونية العادية وما ذكرناه من وجوه إعجاز القرآن فيه أربعة عشر دليلا على حرف القرآن للنواميس الكونية المعتادة وخرقها لا يملكها إلا من قهر الكون ونواميسه وكان له السلطان المطلق على العالم وما فيه وهو الله وحده لا محمد ولا غير محمد لا بالعقل الباطن ولا الظاهر لا بالوحي النفسي ولا الانفعال العصبي.

(2/424)


ثالثها أن الدراس لتاريخ هذه الفتاة يعلم أن أعصابها كانت ثائرة لتلك الانقسامات الداخلية التي مزقت فرنسا والتي كانت تراها وتسمعها كل يوم بين أهلها وفي بلدها جوارد ورمي مع ما شاع في عهدها من خرافات كان لها أثرها في نفسها وعقلها ومخها من تلك الخرافات أن فتاة عذراء ستبعث في هذا الزمن تخلص فرنسا من عدوها يضاف إلى هذا أن الفتاة كانت بعيدة الخيال تسبح فيه يقظة ومناما وتتوهم منذ حداثتها بأنها ترى وتسمع ما لم تر ولم تسمع حتى خيل إليها أنها دعيت لتخلص بلادها وتتوج ملكها ولما تعدى البرغنيور على قريتها التي ولدت فيها قوي عندها هذا الخيال حتى صار عقيدة إلى غير ذلك مما يدل على أن الفتاة كانت أعصابها متهيجة تهيجا ناشئا عن تألمها من الحال السياسة السيئة في بلادها وعن تأثرها بالاعتقادات الخرافية التي سادت زمنها.
وليس هذا بدعا فكم رأينا وسمعنا أصحاب دعايات عريضة يعتمدون فيها على مثل هذه الخيالات الباطلة كالذين قاموا باسم المهدي المنتظر يدعون ويحاربون وكغلام أحمد القادياني والباب البهائي الذين أقام كل منهما نحلته الباطلة على أوهام فارغة.
لكن محمدا لم يك عصبيا ثائرا مهتاجا بل كان وقورا متزن العقل ثابت الفؤاد قوي الأعصاب يثور الشجعان من حوله وهو لا يثور ويشطح الناس ويسرفون في الخيال وهو واقف مع الحجة يكره الشطح والإسراف في الخيال بل يحارب الإسراف في الخيال وما يستلزمه ويرد هؤلاء المسرفين إلى حظيرة الحقائق ويحاكمهم إلى العقل ألم تر إلى القرآن كيف يذم الشعراء الذين يركبون مطايا الخيال إلى حد الغواية ويقول: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ , أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ , وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ , إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} .

(2/425)


وانظر كيف ينفي القرآن أنه شعر وأن الرسول شاعر فيقول: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ , لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} .
وتأمل ما جاء في صحيح مسلم وغيره من أنه صلى الله عليه وسلم أبى على عائشة أم المؤمنين أن تقول في شأن صبي من الأنصار جيء به ميتا ليصلي عليه طوبى لهذا لم يعمل شرا فقال صلى الله عليه وسلم: "أو غير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم" . مع أن أطفال المسلمين يعلم الله أنهم في الجنة لكن توقف الرسول صلى الله عليه وسلم وإباءه على عائشة أن تقول هذا كان قبل أن يعلمه الله ذلك فلم يسمح لها أن تسير مع الوهم أو الظن ما دام الأمر غيبا ولا يعلم الغيب إلا الله.
وتدبر ما رواه البخاري من أنه لما توفي عثمان بن مظعون رضي الله عنه قالت أم العلاء امرأة من الأنصار رحمه الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله, فقال صلى عليه وسلم: "وما يدريك أن الله أكرمه؟" فقالت: بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله؟ الله قال: "أما هو فقد جاءه اليقين. والله إني لأرجو له الخير. والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي", قالت: فوالله لا أزكى أحدا بعده أبدا وكذلك يقول القرآن الكريم: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} .
فهل يعقل أن يقاس صاحب هذه الدقة البالغة والتثبت الدقيق بفتاة خفيفة سابحة في أوهامها غريقة في أحلامها؟!.
رابعها: أن تلك الفتاة جان دارك لم تأت ولا بدليل واحد معقول على صدق أوهامها وتخيلاتها التي تزعمها وحيا وحديثا من الله إليها لكن محمدا صلى الله عليه وسلم له على وحيه

(2/426)


الذي يدعيه ألف دليل ودليل كما سبق بيانه فأين الثرى من الثريا وأين الظلام من النور؟.
خامسها أن هذه الفتاة الهائجة الثائرة لم تكن صاحبة دعوة إلى إصلاح ولا ذات أثر باق في التاريخ إنما كانت صاحبة سيف ومسعرة حرب في فترة من الزمن لغرض مشترك بين الإنسان والحيوان وهو الدفاع عن النفس والوطن بمقتضى غريزة حب البقاء ثم لم تلبث جذوتها أن بردت وحماستها أن خمدت.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فأين هذه الآنسة الثائرة من أفضل الخلق في دعوته الكبرى وأثره الخالد في إصلاح أديان البشر وشرائعهم وأعمالهم وأخلاقهم وفي إنقاذ الإنسانية العانية وتجديد دمها بدينه الجديد الذي قلب به أوضاع الدنيا ونقل بسببه العالم إلى طور سعيد بل إلى الطور السعيد الذي لولاه لدام يتخبط في الظلمات ولبات في عداد الأموات أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها؟!
الشبهة الثالثة ودفعها:
يقولون إنه: صلى الله عليه وسلم كان يلقى ورقة بن نوفل فيأخذ عنه ويسمع منه وورقة لا يبخل عليه لأنه قريب لخديجة زوج محمد يريدون بهذا أن يوهموا قراءهم وسامعيهم بأن هذا القرآن استمد علومه من هذا النصراني الكبير الذي يجيد اللغة العبرية ويقرأ بها ما شاء الله.
وندفع هذه الشبهة بمثل ما دفعنا به ما قبلها ونقرر أنه لا دليل عندهم على هذا الذي يتوهمونه ويوهمون الناس به بل الدليل قائم عليهم فإن الروايات الصحيحة تثبت أن خديجة ذهبت بالنبي حين بدأه الوحي إلى ورقة ولما قص الرسول قصصه قال:

(2/427)


هذا هو الناموس الذي أنزل الله على موسى ثم تمنى أن يكون شابا فيه حياة وقوة ينصر بهما الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤازره حين يخرجه قومه ولم تذكر هذه الروايات الصحيحة أنه ألقى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عظة أو درس له درسا في العقائد أو التشريع ولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتردد عليه كما يتوهمون أو يوهمون فأنى لهم ما يقولون وأي منصف يسمع كلمة ورقة هذه ولا يفهم منها أنه كان يتمنى أن يعيش حتى يكون تلميذا لمحمد وجنديا مخلصا في صفه ينصره ويدافع عنه في وقت المحنة ولكن القوم ركبوا رؤوسهم على رغم ذلك وحاولوا قلب الأوضاع وإيهام أن ورقة هو الأستاذ الخصوصي الذي استقى منه محمد دينه وقرآنه ألا ساء ما يحكمون؟.
الشبهة الرابعة ودفعها:
يقولون: إن إعجاز القرآن للبشر عن أن يأتوا بمثله لا يدل على قدسيته وأنه كلام الله وشاهد ذلك أن لكل متأدب أسلوبا خاصا به يتبع استعداده الأدبي ومزاجه الشخصي وهذا الأسلوب الخاص يستحيل على غيره أن يأتي بمثله ضرورة اختلاف مواهب المتأدبين وأمزجتهم ومع هذا فإعجاز كل أسلوب لغير صاحبه وعجز كل متأدب عن الإتيان بأسلوب غيره لم يضف على الأساليب البشرية شيئا من القدسية وأنها كلام الله فكذلك القرآن يزعمون أنه كلام محمد ويعترفون بإعجازه على هذا النحو.
وندفع هذه الشبهة أولا بوجوه الإعجاز التي بسطناها سابقا غير وجه الإعجاز بالأسلوب.
ثانيا أن هذه الشبهة مغالطة فإن التحدي بالقرآن ليس معناه مطالبة الناس أن يجيئوا بنفس صورته الكلامية ومنهاجه المعين الذي انفرد به أسلوبه حتى ترد هذه الشبهة بل معناه مطالبة الناس أن يجيئوا بكلام من عندهم أيا كانت صورته ومزاجه وأيا كان نمطه ومنهاجه ولكن على شرط ألا يطيش في الميزان إذا قيس هو والقرآن

(2/428)


بمقياس واحد من البيان بل يظهر أنه يماثله أو يقاربه في خصائصه وإن كان على صورة بيانية غير صورته هذا هو ما يتحداهم به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي يتنافس فيه البلغاء عادة فيتماثلون أو يتفاضلون مع احتفاظ كل منهم بمنهاجه الخاص ونمطه المعين.
ومثال ذلك أن يتبارى قوم في العدو والجري إلى هدف واحد ويرسم لكل واحد من هؤلاء المتبارين طريق معين بحيث لا يمشي أحدهم من طريق صاحبه ولا يضع قدمه في موضع قدم أخيه بل يمشي في طريقه هو غير مزاحم ولا مزاحم ويسير موازيا لقرنه في المبدأ وفي الاتجاه ثم يمضون جميعا إلى الهدف المشترك الذي إليه يتسابقون وإذا هم بعد ذلك بين سابق مبرز ولاحق متخلف ومساو متكافئ دون أن يكون اختلاف طرقهم قادحا فيما يكون بينهم من هذا التفاضل أو التماثل بل يعرف التناسب بينهم بمعرفة نسبة ما قطعه كل من طريقه إلى ذلك الهدف المشترك كذلك المتنافسون في ميدان البيان يختار كل منهم طريقته التي يستمدها من مزاجه الشخصي واستعداده الخاص للوصول إلى الغاية البيانية العامة ثم هم بعد ذلك يتفاوتون أو يتعادلون بمقدار وفائهم بخصائص البيان أو نقصهم منها فالمدعوون إلى معارضة القرآن إن افترضتهم أكفاء لنبي القرآن فسيأتون بمثل ما جاء به وإن افترضتهم أعلى منه كعبا فسيأتون بأحسن مما جاء به وإن افترضتهم دونه فلن يشق عليهم أن يأتوا بقريب مما جاء به مع احتفاظ كل منهم بنمطه في الكلام ومنهجه في البيان لكن شيئا من هذه المراتب الثلاث لم يكن فلم يستطيعوا أن يأتوا بمثل القرآن ولا بما يعلوه ولا بما يقرب منه لا بالنسبة إليه كله ولا بالنسبة لعشر سور ولا بالنسبة لسورة واحدة من مثله لا منفردين ولا مجتمعين ولو كان معهم الإنس والجن وكان بعضهم لبعض ظهيرا يضاف إلى ذلك أنهم كانوا أئمة البيان ونقدة الكلام وكانوا أهل إباء وضيم يحرصون على الغلبة في هذه الحلبة من معارضة القرآن.
أليس ذلك بدليل كاف على أن هذا الكتاب تنزيل العزيز الرحيم ولا يمكن أن يكون كلام محمد ولا غير محمد من المخلوقين؟!

(2/429)


الشبهة الخامسة ودفعها:
يقولون إن عجز الناس عن الإتيان بمثل القرآن ما هو إلا نظير عجزهم عن الإتيان بمثل الكلام النبوي وإذن فلا يتجه القول بقدسية القرآن وأنه كلام الله كما لا يتجه القول بقدسية الحديث النبوي وأنه كلام الله!.
وندفع هذه الشبهة أولا بأن الحديث النبوي إن عجز عامة الناس عن الإتيان بمثله فلن يعجز أحد خاصتهم عن الإتيان ولو بمقدار سطر واحد منه وإذا عجز أحد هؤلاء الممتازين عن مقدار سطر واحد منه نفسه فلن يعجز عن مقدار سطر واحد من مماثله القريب منه وإن عجز أن يأتي بسطر من هذا المثل وهو وحده فلن يعجز عنه إذا انضم إليه ظهير ومعين أيا كان ذلك الظهير والمعين وإن عجز عن هذا مع الظهير والمعين أيا كان فلن يعجز الإنس والجن جميعا أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا كما قال القرآن.
ذلك شأن الحديث النبوي مع معارضيه أما القرآن الكريم فله شأن آخر لأن أحدا لا يستطيع الإتيان بمثل أقصر سورة منه لا هو وحده ولا مع غيره ولو اجتمع من بأطرافها من الثقلين.
وإنما قلنا إن الحديث النبوي لا يعجز بعض الخواص الممتازين أن يأتي بمثله لأن التفاوت بين الرسول وبلغاء العرب مما يتفق مثله في مجاري العادة بين بعض الناس وبعض في حدود الطاقة البشرية كالتفاوت بين البليغ والأبلغ والفصيح والأفصح والحسن والأحسن وليس هذا التفاوت بالأمر الشاذ الخارق للنواميس العادية جملة بحيث تنقطع الصلة بين الرسول وسائر البلغاء جميعا لاختصاصه من بينهم بفطرة شاذة لا تمت إلى سائر الفطر بنسب إلا كما ينتسب النقيض إلى النقيض والضد إلى الضد كلا بل إن هذا القول باطل من وجهين:
أحدهما أنه يخالف المعقول والمشاهد لما هو معروف من أن الطبيعة الإنسانية

(2/430)


العامة واحدة ومن أن الطبائع الشخصية يقع بينها التشابه والتماثل في شيء أو أشياء في واحد أو أكثر في زمن قريب أو أزمنة متطاولة في كل فنون الكلام او في بعض فنونه والآخر انه يخالف المنقول في الكتاب والسنة من أن البشرية قدر مشترك بين الرسول وجميع آحاد الأمة ولا ريب أن هذه البشرية المشتركة وجه شبه يؤدي لا محالة إلى المماثلة بين كلامه وكلام من تجمعه بهم رابطة أو روابط خاصة على نحو ما قررنا أليس الله يقول: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً} ويقول: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى} إلي ثم أليس الرسول يقول في الحديث الآنف: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي" الخ ويقول لرجل رآه فامتلأ منه فرقا ورعبا: هون عليك فإني لست بملك إنا أنت ابن امرأة من قريش تأكل القديد!.
ثانيا أننا نجد تشابها بين كلام النبوة وكلام بعض الخواص من الصحابة والتابعين حتى لقد نسمع الحديث فيشتبه علينا أمره أهو مرفوع ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أم موقوف عند الصحابي أم مقطوع عند التابعي؟ إلى أن يرشدنا السند إلى عين قائله.
ومن أوتي حاسة بيانية يدرك هذا الشبه كثيرا كلما كان صاحب البيان المشابه تصله بالرسول صلات قوية كتلك الصلات أو العوامل المتآخذة التي توافرت في علي بن أبي طالب حتى مسحت بيانه مسحة نبوية وجعلت نفسه في الكلام من أشبه الأنفاس بكلام رسول الله إن لم يكن أشبهها.
أما القرآن وما أدراك ما القرآن فلن تستطيع أن تجد له شبيها أو ندا لأن الذي صنعه على عينه لن نستطيع أن تجد له شبيها أو ندا! فكيف يقاس القرآن بالحديث في هذا المقام أم كيف يجمع بينهما في قران.
ثالثا أن القرآن لو كان كلام محمد كالحديث الشريف لكان أسلوبهما واحدا ضرورة أنهما على هذا الفرض صادران عن شخص واحد استعداده واحد ومزاجه واحد ولكن الواقع غير ذلك فأسلوب القرآن ضرب وحده تظهر عليه سمات الألوهية التي تجل عن المشابهة

(2/431)


والمماثلة وأسلوب الحديث النبوي ضرب آخر لا يجل عن المشابهة والمماثلة بل هو محلق في جو البيان يعلو أساليب الناس في جملته دون تفصيله ولا يستطيع بحال أن يصعد إلى سماء إعجاز القرآن! فإن افترضت أنه كان له أسلوبا مختلفان أحدهما يحضره ويتعمل له وهو ما سماه بالقرآن والآخر يرسله ولا يحضره وهو ما سمي بالحديث إن افترضت ذلك فانظر علاج الشبهة العاشرة في المبحث الثالث من هذا الكتاب من "ص 78 – 84 الجزء الأول" فإن فيه شفاء ما في نفسك والله يكتب العافية لي ولك.
الشبهة السادسة ودفعها:
يقولون إن أنباء القرآن الغيبية لا تستقيم أن تكون وجها من وجوه الإعجاز الدالة على أنه كلام الله بل هو كلام محمد استقى أبناءه من أهل الكتاب في الشام وغيرها أو رمى فيه الكلام على عواهنه فصادف الحقيقة اتفاقا أو استنبط الأنباء برأيه استنباطا ثم نسبها إلى الله.
وندفع هذه الشبهة أولا بأن أكثر أنباء الغيب التي في القرآن لم يكن لأهل الكتاب علم بها على عهده.
ثانيا أنه صحح أغلاطهم في كثير من هذه الأنباء فليس بمعقول أن يأخذها عنهم وهو الذي صححها لهم!.
ثالثا أن أهل الكتاب في زمنه كانوا أبخل الناس بما في أيديهم من علم الكتاب.
رابعا أنه لو كان لهذه الشبهة ظل من الحقيقة لطار بها أهل الكتاب فرحا وطعنوا بها في محمد وقرآنه ولطبل لها المشركون ورقصوا لكن شيئا من ذلك لم يكن بل إن جلة من علماء أهل الكتاب آمنوا بهذا القرآن ثم لم يمض زمن طويل حتى أعطت قريش مقادتها لها عن إيمان وإذعان.

(2/432)


خامسا أن محمدا كان رجلا عظيما بشهادة هؤلاء الطاعنين وصاحب هذه العظمة البشرية يستحيل أن يكون ممن يرمي الكلام على عواهنه خصوصا أنه رجل مسؤول في موقف الخصومة بينه وبين أعداء ألداء فما يكون له أن يرجم بالغيب ويقامر بنفسه وبدعوته وهو لا يضمن الأيام وما تأتي به مما ليس في الحسبان.
سادسا أنه على فرض رجمه بالغيب جزافا من غير حجة يستحيل في مجرى العادة أن يتحقق كل ما جاء به مع هذه الكثرة بل كان يخطئ ولو مرة واحدة إما في غيوب الماضي أو الحاضر أو المستقبل لكنه لم يخطئ في واحدة منها على كثرتها وتنوعها.
سابعا أن هذه الأنباء الغيبية ليست في كثرتها مما يصلح أن يكون مجالا للرأي ثم إن ما يصلح أن يكون مجالا للرأي أخبر محمد صلى الله عليه وسلم في بعضه بغير ما يقضي به ظاهر الرأي والاجتهاد انظر ما ذكرناه تحت عنوان أنباء الغيب من هذا المبحث وتأمل نبوءة انتصار الروم على الفرس وانتصار المسلمين على المشركين في وقت لم تتوافر فيه عوامل هذا الانتصار كما بينا سابقا.
الشبهة السابعة ودفعها:
يقولون إن ما تذكرونه من علوم القرآن ومعارفه وتشريعاته الكاملة لا يستقيم أن يكون وجها من وجوه الإعجاز فهذا سولون اليوناني وضع وحده قانونا وافيا كان موضع التقدير والإجلال والطاعة وما قال أحد إنه أتى بذلك معجزة ولا إنه صار بهذا التشريع نبيا.
وندفع هذه الشبهة أولا بأن البون شاسع بين ما جاء به القرآن وما جاء به هذا القانون السولوني اليوناني ونحن نتحداهم أن يثبتوا لنا كماله ووفاءه بكافة ضروب الإصلاح البشري على نحو ما شرحنا سابقا بالنسبة إلى القرآن الكريم.

(2/433)


ثانيا أن الفرق بعيد بين ظروف محمد صلى الله عليه وسلم التي جاء فيها بالقرآن وظروف سولون التي وضع فيها القانون وهذا الفرق البعيد له مدخل كبير في إثبات هذا الوجه من الإعجاز بالنسبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم دون سولون فمحمد كان أميا نشأ في الأميين أما سولون فكان فيلسوفا نشأ بين فلاسفة ومتعلمين بل هو أحد الفلاسفة السبعة الذين كان يشار إليهم بالبنان في القرن السابع قبل الميلاد المسيحي...
ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يتقلد قبل القرآن أعمالا إدارية ولا عسكرية بل جاءه القرآن بعد أن حببت إليه الخلوة والعزلة أما سولون فقد تولى قبل وضعه القانون أعمالا إدارية وعسكرية وانتخب في عام 594 قبل الميلاد أرجونا أي رئيسا على الأمة بإجماع أحزابها وقلدوه سلطة مطلقة ليغير ما شاء من نظم البلاد وقانونها الذي وضعه زراكوت من قبله فوضع لها نظاما جديدا أقرته الأمة حكومة وشعبا وقررت اتباعه والعمل به عشر سنين.
فهل يجوز حتى في عقول المغفلين أن تقام موازنة ويصاغ قياس مع هذه المفارقات الهائلة بين محمد الأمي الناشئ في الأمين وسولون الفيلسوف والحاكم والقائد والزعيم والناشئ في أعظم أمة من أمم الحكمة والحضارة؟!
ثالثا أين ذلك القانون الذي وضعه أو عدله سولون؟ وما أثره وما مبلغ نجاحه بجانب قانون القرآن الجامع ودستوره الخالد وأثره البارز ونجاحه المعجز ثم ما قيمة قانون وضع تحت تأثير تلك الظروف ومات وأصبح في خبر كان بجانب القرآن الذي جاء في ظروف مضادة جعلته معجزة بل معجزات ثم حي حياة دائمة لا مؤقتة ولا يزال يزداد مع مرور العصور والقرون جدة وحياة وثباتا واستقرارا حتى أصبح كثير من الأمم المتحضرة تستمد منه وقررت مؤتمرات دولية اعتباره مصدرا من مصادر القانون المقارن في هذا العصر إلى غير ذلك مما أشرنا إليه قبلا؟!

(2/434)


خلاصة
والخلاصة أن القرآن من آية ناحية أتيته لا ترى فيه إلا أنوارا متبلجة وأدلة ساطعة على أنه كلام الله ولا يمكن أن تجد فيه نكتة من كذب ولا وصمة من زور ولا لطخة من جهل وإني لأقضي العجب من هؤلاء الذين أغمضوا أعينهم عن هذه الأنوار وطوعت لهم أنفسهم اتهام محمد صلى الله عليه وسلم بالكذب وزعموا أن القرآن من تأليفه هو لا من تأليف ربه مع أن الكاذب لا بد أن تكشف عن خبيئته الأيام والمضلل لا مناص له من أن يفتضح أمره ويتهتك ستره.
ثوب الرياء يشف عما تحته ... فإن التحفت به فإنك عار
فيا أيها اللاعبون بالنار الهازئون بقوانين العقل والمنطق العابثون بمقررات علم النفس وعلم الاجتماع الغافلون عن نواميس الكون وأوضاع التاريخ الساخرون بدين الله وكتابه ورسوله كلمة واحدة أقولها لكم فاعقلوها معقول أن يكذب الكاذب ليجلب إلى نفسه أسباب العظمة والمجد وليس بمعقول أبدا حتى عند البهائم أن يكذب الصادق الأمين ليبعد عن نفسه أعظم عظمة وأمجد مجد ولا شئ أعظم من القرآن ولا أمجد فكيف يتنصل محمد صلى الله عليه وسلم منه ولا يتشرف بنسبته إليه لو كان من تأليفه ووضعه؟!
يمينا لا حنث فيها لو أن محمدا كان كاذبا لكذب في أن ينسب هذا القرآن إلى نفسه على حين أنه ليس من إنشائه ورصفه كيما يحرز به الشرف الأعلى ويدرك به المقام الأسمى لو كان ينال شرف ويعلو مقام بالافتراء والكذب ولكن كيف يكذب الصادق الأمين ومولاه يتوعد ويقول: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ , لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ , ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ , فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ , وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ

(2/435)


لِلْمُتَّقِينَ , وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ , وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ , وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ , فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} .
ومن أعجب العجب أن نسمع أمثال تلك الشبهات الساقطة في محيطنا الإسلامي على حين أن طوائف كثيرة من علماء الإفرنج في هذه العصور الأخيرة قد أعلنوا بعد دراستهم للقرآن ونبي القرآن إن محمدا كان سليم الفطرة وكامل العقل كريم الأخلاق صادق الحديث عفيف النفس قنوعا بالقليل من الرزق غير طموع في المال ولا جنون إلى الملك ولم يعن بما كان يعنى به قومه من الفخر والمباراة في تحبير الخطب وقرض الشعر وكان يمقت ما كانوا عليه من الشرك وخرافات الوثنية ويحتقر ما يتنافسون فيه من الشهوات البهيمة كالخمر والميسر وأكل أموال الناس بالباطل وبهذا كله وبما ثبت من سيرته ويقينه بعد النبوة جزموا بأنه كان صادقا فيما ادعاه بعد استكمال الأربعين من سنه من رؤية ملك الوحي ومن إقرائه إياه هذا القرآن ومن إنبائه بأنه رسول من الله لهداية قومه وسائر الناس ولقد وصل الأمر ببعض هؤلاء الباحثين الأجانب أن أعلن هذه الحقيقة لو وجدت نسخة من القرآن ملقاة في فلاه ولم يخبرنا أحد عن اسمها ومصدرها لعلمنا بمجرد دراستها أنها كلام الله ولا يمكن أن تمون كلام سواه.

(2/436)


كلمة الختام
أما بعد الكلام في إعجاز جميع الشبهات التي لفقها أعداء الإسلام أطول حتى لقد اطلعت على رسالة خبيثة أسموها حسن الإيجاز في إبطال الإعجاز فوجدتها قد حملت من الأكاذيب والأراجيف ومن اللف والدوران أشكالا وألوانا في الصفيحة الواحدة وعقيدتي أن ما بسطناه في هذا المبحث وما يتصل به فيه الكفاية لمن أراد الهداية ولو أننا استقصينا وجوه الرد على مثل هذه الرسالة لاقتضينا الأمر كتابا كبيرا كاملا على حين أنها هي لا تزيد على اثنتين وعشرين صفحة من القطع الصغير ثم أنى لنا ذلك الرد المسهب الآن وأزمة الورق طاحنه وأدوات الطباعة عزيزة حتى لقد اضطررنا من أجل هذا أن نقف في الكتابة عند هذا الحد بالطبع ولقد كنا نود أن نمضي قدما حتى نأتي على قصص القرآن وأمثاله وجدله ولكن الضرورات تبيح المحظورات وعسى أن يكون خيرا.
نحمده سبحانه أن كتب لنا التوفيق في هذه المحنة حتى انتهينا إلى هذه الغاية ونستغفره ونتوب إليه من كل خطأ ونسأله القبول والمزيد والتعجيل بتفريج الكروب وأن يصلح الحال والمآل لنا وللمسلمين جميعا في مشارق الأرض ومغاربها.

(2/437)