نواسخ القرآن ناسخ القرآن ومنسوخه ت آل زهوي

... الباب الخامس باب ذكر ما اختلف فيه هل هو شرط في النسخ أم لا؟
اتفق العلماء على جواز نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة، فأما نسخ القرآن بالسنة، فالسنة تنقسم قسمين:
__________
(1) أخرجه مسلم (977، 1977). من حديث بريدة بن الحصيب.

(1/21)


القسم الأول: ما ثبت بنقل متواتر، كنقل القرآن، فهل يجوز أن ينسخ القرآن بمثل هذا؟ حكى فيه شيخنا علي بن عبيد الله روايتين عن أحمد، قال: والمشهور أنه لا يجوز (1)، وهو مذهب الثوري والشافعي.
والرواية الثانية يجوز؛ وهو قول أبي حنيفة، ومالك (2) قال: ووجه الأولى؛ قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [البقرة: 106] والسنة ليست مثلا للقرآن، وروى الدارقطني من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كلامي لا ينسخ القرآن، ينسخ بعضه بعضا» (3).
ومن جهة المعنى؛ فإن السنة تنقص عن درجة القرآن فلا تقدم عليه.
ووجه الرواية الثانية؛ قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] والنسخ في الحقيقة بيان مدة المنسوخ، فاقتضت هذه الآية قبول هذا البيان، قال: وقد نسخت الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة: 180] بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا وصية لوارث» (4). ونسخ قوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [البقرة: 191] بأمره عليه الصلاة والسلام، أن يقتل ابن خطل، وهو متعلّق بأستار الكعبة (5).
ومن جهة المعنى؛ أن السنة مفسرة للقرآن، وكاشفة لما يغمض من معناه، فجاز أن ينسخ بها.
والقول الأول هو الصحيح، لأن هذه الأشياء تجري مجرى البيان للقرآن، لا
__________
(1) انظر «الواضح في أصول الفقه» (1/ 288) و (4/ 258 - 259) و «العدة» لأبي يعلى (3/ 788) و «التمهيد في أصول الفقه» للكلوذاني (2/ 382) و «المحصول» (3/ 347) و «الإحكام» للآمدي (3/ 153).
(2) «الواضح في أصول الفقه» (4/ 259) و «أصول السرخسي» (2/ 267).
(3) أخرجه الدارقطني (4/ 145) وابن عدي في «الكامل» (2/ 180) من طريق: جبرون بن واقد، نا سفيان بن عيينة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله به مرفوعا.
قال الذهبي في «ميزان الاعتدال» في ترجمة جبرون بن واقد رقم (1437): «متهم، فإنه روى بقلّة حياء عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا: «كلام الله ينسخ كلامي». وهذا الحديث موضوع».
وحكم عليه بالوضع المحدث الألباني في «المشكاة» (1/ 68/ 195).
(4) أخرجه أحمد (5/ 267) وأبو داود (2870) و (3565) والترمذي (2120) وابن ماجة (2713) وغيرهم، من حديث أبي أمامة الباهلي. وهو حديث صحيح، وفي الباب عن غيره من الصحابة تخريجها في «نصب الراية» (4/ 403).
(5) انظر «صحيح البخاري» (1846، 3044، 4286، 5808) و «صحيح مسلم» (1357).

(1/22)


النسخ، وقد روى أبو داود السجستاني قال: سمعت أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقول: السنة تفسر القرآن، ولا ينسخ القرآن إلا القرآن. وكذلك قال الشافعي: إنما ينسخ الكتاب الكتاب، والسنة ليست ناسخة له (1).
والقسم الثاني: الأخبار المنقولة بنقل الآحاد؛ فهذه لا يجوز بها نسخ القرآن (2)، لأنها لا توجب العلم، بل تفيد الظن، والقرآن يوجب العلم، فلا يجوز ترك المقطوع به لأجل مظنون، وقد احتجّ من رأى جواز نسخ التواتر بخبر الواحد بقصة أهل قباء لما استداروا بقول واحد، فأجيب بأن قبلة بيت المقدس لم تثبت بالقرآن، فجاز أن تنسخ بخبر الواحد.

فصل
واتفق العلماء على جواز نسخ نطق الخطاب، واختلفوا في نسخ ما ثبت بدليل الخطاب وتنبيه وفحواه، فذهب عامة العلماء إلى جواز ذلك، واستدلوا بشيئين:
أحدهما: أن دليل الخطاب دليل شرعي يجري مجرى النطق في وجوب العمل به فجرى مجراه في النسخ.
والثاني: أنه قد وجد ذلك، فروى جماعة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «الماء من الماء» (3). وعملوا بدليل خطابه، فكانوا لا يغتسلون من التقاء الختانين، ثم نسخ ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا التقى الختان بالختان وجب الغسل أنزل أو لم ينزل» (4). وقد حكي عن جماعة من أهل الظاهر أنه لا يجوز نسخ ما ثبت بدليل الخطاب وفحواه، قالوا: لأن ذلك معلوم بطريق القياس، والقياس لا يكون ناسخا ولا منسوخا، وليس الأمر على ما ذكر، بل هو مفهوم من معنى النطق وتنبيهه.
فصل
واتفق العلماء على أن الحكم المأمور به إذا عمل به ثم نسخ بعد ذلك؛ أن النسخ يقع صحيحا جائزا.
__________
(1) انظر «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البر (2/ 1194 - 1195/ 2355) ط. ابن الجوزي.
(2) ونقل ابن عقيل في «الواضح» (4/ 290) رواية عن الإمام أحمد في جواز ذلك.
(3) أخرجه مسلم (343) وأحمد (3/ 29، 36) وأبو داود (217) وغيرهم، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وفي الباب عن غيره من الصحابة.
(4) أخرجه بهذا اللفظ أحمد (2/ 247، 470) وأصله عند البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، وهو مروي عن عائشة رضي الله عنها. انظر تخريجه في «إرواء الغليل» رقم (80).

(1/23)


واختلفوا؛ هل يجوز نسخ الحكم قبل العمل به؟
فظاهر كلام أحمد: جواز ذلك، وهو اختيار عامة أصحابنا، وكان أبو الحسن التميمي يقول: لا يجوز ذلك، وهو قول أصحاب أبي حنيفة. واحتجّ الأولون بأن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده، ثم نسخ ذلك بالفداء قبل فعله. وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فرض عليه وعلى أمته ليلة المعراج خمسون صلاة ثم نسخ ذلك بخمس صلوات.
ومن جهة المعنى: فإن الأمر بالشيء يقع فيه تكليف الإيمان به والاعتقاد له، ثم تكليف العزم على فعله في الزمان الذي عين له، ثم إذا فعل على الوجه المأمور به، فجاز أن ينسخ قبل الأداء، لأنه لم يفقد من لوازمه غير الفعل، والنية نائبة عنه.
واحتج من منع من ذلك؛ بأن الله تعالى إنما يأمر عباده بالعبادة لكونها حسنة، فإذا أسقطها قبل فعلها خرجت عن كونها حسنة، وخروجه قبل الفعل يؤدي إلى البداء.
وهذا كلام مردود بما بينا من الإيمان والامتثال، والعزم يكفي في تحصيل المقصود من التكليف بالعبادة.