نواسخ القرآن ناسخ القرآن ومنسوخه ت آل زهوي

... الباب التاسع باب ذكر الآيات اللواتي ادّعي عليهنّ النسخ في سورة البقرة
ذكر الآية الأولى
: قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 3] اختلف المفسرون في المراد بهذه النفقة على أربعة أقوال:
الأول: أنها النفقة على الأهل والعيال، قاله ابن مسعود وحذيفة.
والثاني: الزكاة المفروضة، قاله ابن عباس، وقتادة.
والثالث: الصدقات النوافل، قاله مجاهد والضحاك.
والرابع: أن الإشارة بها إلى نفقة كانت واجبة قبل الزكاة.
ذكره بعض ناقلي التفسير، وزعموا: أنه كان فرض على الإنسان أن يمسك مما في يده قدر كفايته يومه وليلته ويفرق باقيه على الفقراء، ثم نسخ بآية الزكاة (1).
وهذا قوله ليس بصحيح لأن لفظ الآية لا يتضمن ما ذكروا وإنما يتضمن مدح المنفق، والظاهر أنها تشير إلى الزكاة لأنها قرنت مع الإيمان بالصلاة.
وعلى هذا؛ لا وجه للنسخ، وإن كانت تشير إلى الصدقات النوافل والحث عليها باق، والذي أرى ما بها مدح لهم على جميع نفقاتهم في الواجب والنفل، وقد قال أبو جعفر يزيد بن القعقاع: نسخت آية الزكاة كل صدقة كانت قبلها، ونسخ صوم رمضان كل صوم كان قبله. والمراد بهذا كل صدقة وجبت بوجود المال مرسلا كهذه الآية.

ذكر الآية الثانية
: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا [البقرة: 62] اختلف المفسرون في معنى هذه الآية على ثلاثة أقوال:
الأول: أن المعنى: إن الذين آمنوا من هذه الأمة، والذين هادوا، وهم أتباع
__________
(1) انظر «صفوة الراسخ في علم المنسوخ والناسخ» لشمس الدين الموصلي (ص 40).

(1/36)


موسى، والنصارى؛ وهم أتباع عيسى، والصابئون؛ الخارجون من الكفر إلى الإسلام، من آمن، أي: من دام منهم على الإيمان.
والثاني: إن الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون، والذين هادوا؛ وهم اليهود، والنصارى والصابئون؛ وهم كفار أيضا، من آمن؛ أي: من دخل في الإيمان بنية صادقة.
والثالث: إن المعنى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 62] ومن آمن من الذين هادوا، فيكون قوله بعد هذا: من آمن راجعا إلى المذكورين مع الذين آمنوا، ومعناه: من يؤمن منهم. وعلى هذه الأقوال الثلاثة لا وجه لادّعاء نسخ هذه الآية.
وقد قيل: إنها منسوخة بقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85].
[15] (1) - فأخبرنا المبارك بن علي الصيرفي قال: أخبرنا أحمد بن الحسن بن قريش، قال: أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل الوراق، قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي داود، قال: حدّثنا يعقوب بن سفيان قال:
حدّثنا أبو صالح، قال: حدّثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ الآية. قال:
فأنزل الله تعالى بعد هذه الآية وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ.
قلت: فكأنه أشار بهذا إلى النسخ وهذا القول لا يصح لوجهين (2):
الأول: أنه إن أشير بقوله: وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى إلى من كان تابعا لنبيه قبل أن يبعث النبي الآخر، فأولئك على الصواب. وإن أشير إلى من كان في زمن نبينا صلّى الله عليه وسلّم، فإن من ضرورة من لم يبدل دينه ولم يحرف أن يؤمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ويتبعه.
والثاني: أن هذه الآية خبر والأخبار لا يدخلها النسخ.

ذكر الآية الثالثة
: قوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة: 81].
__________
(1) إسناده ضعيف.
تقدم أن علي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس.
(2) انظر «الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه» لمكي بن أبي طالب (ص 123 - 124) و «صفوة الراسخ» (ص 41).

(1/37)


جمهور المفسرين على أن المراد بالسيئة الشرك (1)، ولا يتوجه على هذا القول نسخ أصلا، وقد روى السّدّي عن أشياخه: أن المراد بالسيئة الذنب من الذنوب التي وعد الله تعالى عليها النار (2). فعلى هذا يتوجه النسخ بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 116] على أنه يجوز أن يحمل ذلك، على من أتى السيئة مستحلا فلا يكون نسخا (3).

ذكر الآية الرابعة
: قوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة: 83] اختلف المفسرون في المخاطبين بهذا على قولين:
الأول: أنهم اليهود، والتقدير: من سألكم عن شأن محمد صلّى الله عليه وسلّم فاصدقوه وبينوا له صفته ولا تكتموا أمره، قاله ابن عباس، وابن جبير، وابن جريج، ومقاتل (4).
والثاني: أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
ثم اختلف أرباب هذا القول، فقال الحسن: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر (5). وقال أبو العالية: وقولوا للناس معروفا (6). وقال محمد بن علي بن الحسين: كلّموهم بما تحبون أن يقولوا لكم، فعلى هذا الآية محكمة.
وذهب قوم إلى أن المراد بذلك: مساهلة المشركين في دعائهم إلى الإسلام، فالآية عند هؤلاء منسوخة بآية السيف. وهذا قول بعيد؛ لأن لفظ الناس عام فتخصيصه بالكفار يفتقر إلى دليل، ولا دليل هاهنا، ثم إن إنذار الكفار من الحسنى (7).

ذكر الآية الخامسة
: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا [البقرة: 104] قال
__________
(1) انظر «تفسير ابن كثير» بتحقيق الشيخ الحويني (2/ 562).
(2) أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (1/ 305/ 1426).
(3) انظر «صفوة الراسخ» (ص 42).
(4) انظر «تفسير ابن أبي حاتم» (1/ 161/ 845).
(5) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 161/ 846) وضعّفه الشيخ أبو إسحاق الحويني- حفظه الله- في تحقيقه على «تفسير ابن كثير» (2/ 571).
(6) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 161/ 843).
(7) انظر «صفوة الراسخ» (ص 42 - 43) و «الإيضاح لناسخ القرآن» (ص 124) و «تفسير القرطبي- الجامع لأحكام القرآن-» (2/ 17).

(1/38)


المفسرون: كانت هذه الكلمة لغة في الأنصار، وهي من راعيت الرجل إذا تأملته وتعرفت أحواله، ومنه قولهم: أرعني سمعك. وكانت الأنصار تقولها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهي بلغة اليهود سبّ بالرعونة، وكانوا يقولونها له وينوون بها السب، فنهى الله سبحانه المؤمنين عن قولها لئلا يقولها اليهود، وأمرهم أن يجعلوا مكانها أنظرنا (1). وقرأ الحسن والأعمش وابن المحيصن (راعنا) بالتنوين فجعلوه مصدرا، أي: لا تقولوا رعونة (2).
وقرأ ابن مسعود: (لا تقولوا راعونا) على الأمر بالجماعة، كأنه نهاهم أن يقولوا ذلك فيما بينهم، والنهي في مخاطبة النبي بذلك أولى. وهذه الآية قد ذكروها في المنسوخ، ولا وجه لذلك بحال، ولولا إيثاري ذكر ما ادّعي عليه النسخ لم أذكرها. قال أبو جعفر النحاس: هي ناسخة لما كان مباحا قبله.
قلت: وهذا تحريف في القول، لأنه إذا نهى عن شيء لم تكن الشريعة أتت به لم يسم النهي نسخا.

ذكر الآية السادسة
: قوله تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة: 109] قال المفسرون: أمر الله بالعفو والصفح عن أهل الكتاب قبل أن يؤمر بقتالهم، ثم نسخ العفو والصفح
بقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [التوبة: 29] هذا مروي عن ابن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهما وغيرهما (3).
[16] (4) - أخبرنا أبو بكر بن حبيب العامري قال: أخبرنا علي بن الفضل، قال: أخبرنا عبد الصمد، قال: أخبرنا ابن حموية، قال: أخبرنا إبراهيم بن حريم، قال ابن عبد الحميد، قال: بنا مسلم بن إبراهيم؛ وأخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: أخبرنا أبو الفضل البقال، قال: ابنا ابن بشران قال: أخبرنا إسحاق الكاذي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثنا عبد الصمد، كلاهما عن همام بن يحيى، عن قتادة قال: أمر الله نبيه أن يعفو
__________
(1) انظر «تفسير ابن أبي حاتم» (1/ 196 - 197) و «تفسير ابن كثير» (1/ 198) و «الجامع لأحكام القرآن» (2/ 57) و «فتح القدير» للشوكاني (1/ 247 - 249) و «الإيضاح لناسخ القرآن» (ص 125).
(2) انظر «فتح القدير» (1/ 248).
(3) انظر تفسير المصنف «زاد المسير» (1/ 132) و «الجامع لأحكام القرآن» (2/ 71) و «الإيضاح» (ص 125 - 126).
(4) أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (2/ 503).

(1/39)


عنهم ويصفح، حتى يأتي الله بأمره، فأنزل في براءة قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 29] فنسخها بهذه الآية، وأمره فيها بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا، أو يقروا بالجزية.
قال أحمد: وحدّثنا عبد الرزاق، قال: حدّثنا معمر، عن قتادة فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة: 109] نسختها: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5].
[17] (1) - أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا علي بن أيوب قال: أخبرنا ابن شاذان، قال: أخبرنا أبو بكر النجاد، قال: أخبرنا أبو داود السجستاني، قال: بنا أحمد بن محمد المروزي، قال أخبرنا آدم بن أبي إياس، قال: حدّثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا قال: نسخ بقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية.

فصل
واعلم أن تحقيق الكلام دون التحريف فيه أن يقال: إن هذه الآية ليست بمنسوخة، لأنه لم يأمر بالعفو مطلقا، وإنما أمر به إلى غاية، وبيّن الغاية بقوله:
حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة: 109] وما بعد الغاية يكون حكمه مخالفا لما قبلها، وما هذا سبيله لا يكون أحدهما ناسخا للآخر، بل يكون الأول قد انقضت مدته بغايته والآخر محتاجا إلى حكم آخر، وقد ذهب إلى ما قالته جماعة من فقهاء المفسرين وهو الصحيح، وهذا إذا قلنا: إن المراد العفو عن قتالهم، وقد قال الحسن: هذا فيما بينكم وبينهم دون ترك حق الله تعالى حتى يأتي الله بالقيامة.
وقال غيره: بالعقوبة، فعلى هذا يكون الأمر بالعفو محكما لا منسوخا.

ذكر الآية السابعة
: قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115]. اختلف المفسرون في المراد بهذه الآية على ثمانية أقوال:
القول الأول: أنها نزلت في اشتباه القبلة
__________
(1) إسناده ضعيف.
أبو جعفر الرازي؛ هو عيسى بن أبي عيسى عبد الله بن ماهان؛ «صدوق سيئ الحفظ».
«تقريب» (8077).
والربيع بن أنس؛ «صدوق له أوهام».
والخبر أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 206/ 1090) من طريق: أبي جعفر به.

(1/40)


[18] (1) - أخبرنا أبو بكر بن حبيب قال: أخبرنا علي بن الفضل، قال أخبرنا
__________
(1) - إسناده ضعيف جدا.
فيه أشعث بن سعيد السمّان؛ «متروك» كما في «التقريب».
وعاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب؛ «ضعيف».
والخبر أخرجه: ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 211/ 1120) والترمذي في «الجامع» (345، 2957) وابن ماجة (1020) أو (1029) - بترقيم الشيخ علي الحلبي- وابن جرير الطبري في «تفسيره» (1/ 401) أو رقم (1841 - 1843) - شاكر- وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند (316) والواحدي في «أسباب النزول» (ص 37 - الحميدان) والطبراني في «الأوسط» (1/ 284/ 463) والطيالسي في «مسنده» (1145) أو (1/ 85/ 268 - منحة المعبود) والبيهقي (2/ 11) والدارقطني (1/ 272) وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (1/ 179 - 180) والعقيلي في «الضعفاء» (1/ 31).
كلهم من طريق: أشعث بن سعيد السمّان، عن عاصم بن عبيد الله به.
قال الترمذي: «هذا حديث ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمّان.
وأشعث بن سعيد أبو الربيع السمّان؛ يضعّف في الحديث».
قلت: وقع عند عبد بن حميد في مطبوعة عالم الكتب من «المنتخب»: «سعد بن سعيد»! فليصحّح.
وقد أغرب الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تحقيقه على جامع الترمذي (2/ 176 - 177) بتحسين إسناد الخبر. وبقوله عن أشعث هذا؛ «أنه تكلّم فيه من قبل حفظه، وهو صدوق»! والحديث حسّنه الشيخ الألباني- رحمه الله- في «إرواء الغليل» (1/ 323/ 291) باعتبار متابعة عمرو بن قيس لأشعث كما هي عند الطيالسي، فقال: «وقد تابعه عند الطيالسي عمرو بن قيس؛ وهو الملائي، احتج به مسلم».
قلت: كذا وقع عند الطيالسي: (عمرو بن قيس) في المسندة وفي «منحة المعبود»، وهو تصحيف، صوابه: «عمر بن قيس» المعروف بسندل- وهو متروك أيضا- هذا ما ترجّح عندي؛ لثلاثة أمور:
الأول: أن العلامة المباركفوري نقل في «تحفة الأحوذي» (2/ 335) عن الحافظ العراقي قوله:
تابعه عليه عمر بن قيس الملقب بسندل، عن عاصم. أخرجه أبو داود الطيالسي في «مسنده» والبيهقي في «سننه». إلا أن عمر بن قيس مشارك لأشعث في الضعف، بل ربما يكون أسوأ حالا منه، فلا عبرة حينئذ بمتابعته، وإنما ذكرته ليستفاد منه».
الثاني: أن عاصم بن عبيد الله يروي عن عمر بن قيس (سندل)، لا عمرو بن قيس الملائي، انظر «تهذيب الكمال» (21/ 488 و 22/ 200).
الثالث: أن الحافظ ابن حجر العسقلاني- رحمه الله- أثبت هذا الاسم على الصواب في كتابه «العجاب في بيان الأسباب» كما في مخطوطة الكتاب (ق 40/ أ). ووقع في هامش المطبوع بتحقيق عبد الحكيم الأنيس (1/ 363) بعد أن أثبت في المتن اسم (عمرو بن قيس) قال: «في الأصل (عمر) والصواب ما أثبتّ»! قلت: الصواب ما كان في الأصل.
فتحصّل مما سبق أن الصواب في الاسم هو «عمر بن قيس» وما في «المسند» للطيالسي تصحيف

(1/41)


محمد بن عبد الصمد، قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد، قال: أخبرنا إبراهيم بن حريم قال: حدّثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا أشعث بن سعيد قال: حدّثنا عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزاة في ليلة سوداء مظلمة، فلم نعرف القبلة، فذكرنا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ.
وروى جابر بن عبد الله قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرية كنت فيها، فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة، فقالت طائفة: القبلة هاهنا، فصلوا وخطوا خطا، وقال بعضهم هاهنا، فصلوا وخطوا خطا، فلما أصبحنا أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة، فلما قفلنا من سفرنا سألنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فسكت، فأنزل الله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ (1).
__________
[ثم تأكدت بعد من هذا بمراجعة أحد الأخوة الأفاضل للمخطوطة الهندية لمسند الطيالسي (ق 142/ أ) والاسم على الجادة فيها] فالحمد لله على إنعامه.
فالخبر ضعيف لا يصح، كما قال ابن حزم في «المحلى» (3/ 137) والنووي في «المجموع» (3/ 224). والحمد لله على توفيقه، وهو سبحانه وتعالى أعلم.
(1) أخرجه الحاكم (1/ 206) والدارقطني (1/ 271) والبيهقي (2/ 10).
من طريق: محمد بن يزيد الواسطي، عن محمد بن سالم، عن عطاء، عن جابر به.
قال الحاكم: «هذا حديث محتج برواته كلهم، غير محمد بن سالم فإني لا أعرفه بعدالة ولا جرح». وقال الذهبي: «هو أبو سهل؛ واه».
وقال الدارقطني؛ «كذا قال: عن محمد بن سالم. وقال غيره: عن محمد بن يزيد، عن محمد بن عبيد الله العرزمي، عن عطاء. وهما ضعيفان».
وقال الدارقطني في «العلل» (4/ ق 131/ أ): «يرويه محمد بن يزيد الواسطي، واختلف عنه.
فرواه داود بن عمرو، عن محمد بن يزيد، عن محمد بن سالم، عن عطاء، عن جابر. وغيره يرويه عن محمد بن يزيد، عن محمد بن عبيد الله العرزمي، عن عطاء، عن جابر. وكلاهما ضعيفان».
وأخرجه البيهقي (2/ 11) والدارقطني (1/ 271) والواحدي في «أسباب النزول» (ص 34). من طريق: أحمد بن عبيد الله بن الحسن العنبري، قال: وجدت في كتاب أبي؛ ثنا عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر .. ».
قال البيهقي: «ولا نعلم لهذا الحديث إسنادا صحيحا قويا، وذلك لأن عاصم بن عبيد الله بن عمر العمري، ومحمد بن عبيد الله العرزمي، ومحمد بن سالم الكوفي، كلهم ضعفاء والطريق إلى عبد الملك العرزمي غير واضح لما فيه من الوجادة».
ونقل شمس الحق العظيم آبادي في «التعليق المغني على سنن الدارقطني» عن ابن القطان قوله:
«وعلّة هذا، الانقطاع فيما بين أحمد بن عبد الله وأبيه والجهل بحال أحمد المذكور».

(1/42)


قلت: وهذا الحكم باق عندنا، وإن من اشتبهت عليه القبلة فصلّى بالاجتهاد فصلاته صحيحة مجزية، وهو قول سعيد بن المسيب، ومجاهد، وعطاء، والشعبي، والنخعي، وأبي حنيفة. وللشافعي قولان:
الأول: كمذهبنا.
والثاني: يجب الإعادة، وقال الحسن والزهري وربيعة: يعيد في الوقت، فإذا فات الوقت لم يعد، وهو قول مالك.
القول الثاني: أن المراد بالآية صلاة التطوع [19] (1) - أخبرنا أبو بكر بن حبيب، قال: بنا علي بن الفضل، قال: أخبرنا ابن عبد الصمد، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حموية قال: ابنا إبراهيم بن حريم، قال: حدّثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، قال: سمعت سعيد بن جبير يحدّث عن ابن عمر قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلّي على راحلته تطوعا أينما توجهت به، وهو جاء من مكة إلى المدينة، ثم قرأ ابن عمر: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فقال ابن عمر رضي الله عنه: في هذا أنزلت الآية.
القول الثالث: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما صلّى على النجاشي، قال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كيف نصلّي على رجل مات وهو يصلي على غير قبلتنا؟ وكان يصلي إلى بيت المقدس حتى مات، وقد صرفت القبلة إلى الكعبة، فنزلت هذه الآية. رواه عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما (2).
القول الرابع: أن المراد بالآية: أينما كنتم من شرق أو غرب فاستقبلوا الكعبة، قاله مجاهد (3).
__________
وأعله الحافظ ابن حجر في «العجاب» (1/ 362) بالانقطاع.
وأخرجه البيهقي (2/ 11) من طريق: الحارث بن نبهان، عن محمد بن عبيد الله العرزمي، عن عطاء به.
وإسناده ضعيف جدا؛ لأجل الحارث بن نبهان، وهو «متروك».
فالحديث ضعيف من جميع طرقه وشواهده، والله تعالى أعلم.
(1) أخرجه مسلم (700) وأحمد (2/ 20) أو رقم (4714) - أحمد شاكر- والترمذي (2958) والنسائي (1/ 244) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 212/ 1121) وابن خزيمة في «صحيحه» (2/ 252 - 253/ 1267، 1269) وابن جرير في «تفسيره» (1/ 503) والدارقطني (1/ 272) والبيهقي (2/ 4) وغيرهم.
(2) انظر «أسباب النزول» (ص 38).
(3) أخرجه ابن أبي حاتم (1/ 212/ 1122).

(1/43)


القول الخامس: أن اليهود لما تكلموا حين صرفت القبلة إلى الكعبة نزلت هذه الآية، ومعناها: لا تلتفتنّ إلى اعتراض اليهود بالجهل، وإن المشرق والمغرب لله يتعبدكم بالصلاة إلى مكان ثم يصرفكم عنه كما يشاء. ذكره أبو بكر بن الأنباري، وقد روى معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما.
القول السادس: أنه ليس المراد بالصلاة وحدها وإنما معنى الآية من أي وجه قصدتم الله وعلى أي حال عبدتموه علم ذلك وأثابكم عليه.
والعرب تجعل الوجه بمعنى القصد، قال الشاعر:
أستغفر الله ذنبا لست محصيه ... ربّ العباد إليه الوجه والعمل
معناه: إليه القصد والتقدم. ذكره محمد بن القاسم أيضا.
القول السابع: أن معنى الآية أينما كنتم من الأرض فعلم الله بكم محيط لا يخفى عليه شيء من أعمالكم. ذكره ابن القاسم أيضا، وعلى هذه الأقوال الآية محكمة.
القول الثامن: ذكر أربابه أنها منسوخة، فروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول ما نسخ من القرآن شأن القبلة، قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115] فاستقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بصلاته صخرة بيت المقدس فصلّى إليها، وكانت قبلة اليهود، ليؤمنوا به وليتبعوه وليدعوا بذلك الأميين من العرب، فنسخ ذلك وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 150].
[20] (1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد السمرقندي قال: ابنا أبو الفضل عمر بن عبيد الله البقال قال: ابنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران، قال: ابنا أبو الحسين إسحاق بن أحمد الكاذي، قال: بنا عبد الله بن حنبل، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني حجاج بن محمد، قال: ابنا ابن جريح، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول ما نسخ من القرآن- فيما ذكر لنا والله أعلم- شأن القبلة، قال: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فاستقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلّى نحو بيت المقدس، وترك البيت العتيق ثم صرفه الله إلى البيت العتيق فقال:
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها [البقرة: 142] يعنون بيت
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 212/ 1123) وابن جرير الطبري في «تفسيره» (2/ 527/ 1833 - شاكر) والحاكم (2/ 267) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (21).
من طريق ابن جريج به.
وصحح إسناده الحاكم، ووافقه الذهبي. وقال الشيخ أحمد شاكر: «وهو كما قالا».

(1/44)


المقدس، فنسخها وصرف إلى البيت العتيق فقال: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ.
قال أحمد بن حنبل: وحدّثنا عبد الوهاب بن عطاء، أخبرنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ قال: كانوا يصلون نحو بيت المقدس ونبي الله بمكة وبعدها هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، ثم وجهه الله تعالى بعد ذلك نحو الكعبة البيت الحرام (1).
قال أحمد: وبنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: بنا همام قال: بنا قتادة:
فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ قال: وكانوا يصلون نحو بيت المقدس ثم وجهه الله نحو الكعبة.
وقال عزّ وجلّ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة: 144] فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من قبلة.
[21]- أخبرنا محمد بن عبد الله العامري، قال: ابنا علي بن الفضل، قال:
ابنا محمد بن عبد الصمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد، قال: ابنا إبراهيم بن حريم، قال: بنا عبد الحميد، قال: بنا يونس، عن شيبان، عن قتادة فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115] قال: نسخ هذا بعد ذلك، فقال الله عزّ وجلّ: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. قلت: وهذا قول أبي العالية والسدي.

فصل
واعلم: أن قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ليس فيه أمر بالتوجه إلى بيت المقدس ولا إلى غيره، بل هو دال على أن الجهات كلها سواء في جواز التوجه إليها.
فأما التوجه إلى بيت المقدس فاختلف العلماء؛ هل كان برأي النبي صلّى الله عليه وسلّم واجتهاده، أو كان عن وحي؟
فروي عن ابن عباس وابن جريج أنه كان عن أمر الله تعالى، لقوله عزّ وجلّ:
وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ [البقرة: 143].
[22]- وأخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا إبراهيم بن عمر البرمكي، قال: حدّثنا محمد بن إسماعيل بن العباس،
__________
(1) أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (2/ 529/ 1835 - 1837).

(1/45)


قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا محمد بن الحسين قال: بنا كثير بن يحيى قال: بنا أبي، قال: بنا أبو بكر الهدبي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالت اليهود: إن محمدا مخالف لنا في كل شيء فلو تابعنا على قبلتنا، أو على شيء تابعناه، فظن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن هذا منهم جد، وعلم الله منهم الكذب، وأنهم لا يفعلون فأراد الله أن يبين ذلك لنبيه صلّى الله عليه وسلّم فقال: إذا قدمت المدينة فصلّ قبل بيت المقدس، ففعل ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت اليهود: قد تابعنا على قبلتنا ويوشك أن يتابعنا على ديننا، فأنزل الله عزّ وجلّ: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ فقد علمنا أنهم لا يفعلون، ولكن أردنا أن نبين ذلك لك.
وقال الحسن وعكرمة وأبو العالية والربيع: بل كان برأيه واجتهاده.
وقال قتادة: كان الناس يتوجهون إلى أي جهة شاءوا، بقوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ثم أمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم باستقبال بيت المقدس.
وقال ابن زيد: كانوا ينحون أن يصلوا إلى قبلة شاءوا، لأن المشارق والمغارب لله، وأنزل الله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «هؤلاء يهود قد استقبلوا بيتا من بيوت الله- يعني بيت المقدس- فصلوا إليه» فصلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بضعة عشر شهرا، فقالت اليهود: ما اهتدى لقبلته حتى هديناه، فكره النبي صلّى الله عليه وسلّم قولهم ورفع طرفه إلى السماء فأنزل الله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ (1) [البقرة: 144].
[32]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل الوراق، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا محمد بن أيوب قال: بنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: بنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: حدّثني أبو العالية: أن نبيّ الله خيّر بين أن يوجه حيث يشاء، فاختار بيت المقدس، لكي يتألف أهل الكتاب، ثم وجهه الله إلى البيت الحرام.
واختلف العلماء في سبب اختياره بيت المقدس على قولين:
الأول: أن العرب لما كانت تحج ولم تألف بيت المقدس، أحب الله امتحانهم بغير ما ألفوه ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه، كما قال تعالى:
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (2/ 529/ 1838).

(1/46)


وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وهذا قول الزجاج.
والثاني: أنه اختاره ليتألف أهل الكتاب، قاله: أبو جعفر بن جرير الطبري.
قلت: فإذا ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اختار بيت المقدس فقد وجب استقباله بالسنة، ثم نسخ ذلك بالقرآن.
والتحقيق في هذه الآية أنها أخبرت أن الإنسان أين تولى بوجهه فثم وجه الله، فيحتاج مدّعي نسخها أن يقول: فيها إضمار، تقديره: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ [البقرة: 150] في الصلاة أين شئتم ثم نسخ ذلك المقدر، وفي هذا بعد، والصحيح إحكامها.

ذكر الآية الثامنة
: قوله تعالى: وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ [البقرة: 139] قد ذهب بعض المفسرين إلى أن هذا الكلام اقتضى نوع مساهلة للكفار ثم نسخ بآية السيف، ولا أرى هذا القول صحيحا، لأربعة أوجه:
الأول: أن معنى الآية: أتخاصموننا في دين الله؟ وكانوا يقولون: نحن أولى بالله منكم، لأننا أبناء الله وأحباؤه، ومنا كانت الأنبياء، وهو ربنا وربكم؛ أي:
نحن كلنا في حكم العبودية سواء، فكيف يكونون أحق به؟ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ أي لا اختصاص لأحد به إلا من جهة الطاعة والعمل، وإنما يجازي كل منا بعمله، ولا تنفع الدعاوي وعلى هذا البيان لا وجه للنسخ.
والثاني: أنه خبر خارج مخرج الوعيد والتهديد.
والثالث: أنا قد علمنا أعمال أهل الكتاب وعليها أقررناهم.
والرابع: أن المنسوخ ما لا يبقى له حكم، وحكم هذا الكلام لا يتغير فإن كل عامل له جزاء عمله، فلو ورد الأمر بقتالهم لم يبطل تعلق أعمالهم بهم.

ذكر الآية التاسعة
: قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة: 158].
قد ذكر عن بعض المفسرين أنه قال: معنى الآية فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما. قال: ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة: 130] والسعي بينهما من ملة إبراهيم.
قلت: وهذا قول مردود، لا يصلح الالتفات إليه، لأنه يوجب إضمارا في الآية، ولا يحتاج إليه، وإن كان قد قرئ به فإنه مروي عن ابن مسعود، وأبي بن

(1/47)


كعب، وابن جبير، وابن سيرين، وميمون بن مهران أنهم قرءوا فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ [البقرة: 158]، ولهذه القراءة وجهان:
الأول: أن تكون دالة على أن السعي بينهما لا يجب.
والثاني: أن يكون «لا» صلة. كقوله: ما منعك أن لا تسجد، فيكون معناه معنى القراءة المشهورة، وقد ذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أن السعي من أركان الحج، وقال أبو حنيفة وأصحابه: هو واجب يجزي عنه الدم.
والصحيح في سبب نزول هذه الآية.
[24] (1) - ما أخبرنا به أبو بكر بن حبيب، قال: ابنا علي بن الفضل، قال: ابنا محمد بن عبد الصمد، قال: ابنا ابن حموية، قال: ابنا إبراهيم بن حريم، قال:
ابنا عبد الحميد، قال: ابنا عبد الوهاب بن عطاء، عن داود، عن عامر، قال: كان على الصفا وثن يدعى أساف، ووثن على المروة يدعى نائلة، وكان أهل الجاهلية يسعون بينهما ويمسحون الوثنين، فلما جاء الإسلام أمسك المسلمون عن السعي بينهما فنزلت هذه الآية.
قلت: فقد بان بهذا أن المسلمين إنما امتنعوا عن الطواف لأجل الصنمين، فرفع الله عزّ وجلّ الجناح عمن طاف بينهما، لأنه إنما يقصد تعظيم الله تعالى بطوافه دون الأصنام.

ذكر الآية العاشرة
: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى إلى قوله: اللَّاعِنُونَ [البقرة: 159] قد زعم قوم من القراء الذين قل حظهم من علم العربية والفقه أن هذه الآية منسوخة بالاستثناء بعدها، ولو كان لهم نصيب من ذلك، لعلموا أن الاستثناء ليس بنسخ، وإنما هو إخراج بعض ما شمله اللفظ، وينكشف هذا من وجهين:
الأول: أن الناسخ والمنسوخ لا يمكن العمل بأحدهما إلا بترك العمل بالآخر، وهاهنا يمكن العمل بالمستثنى والمستثنى منه.
والثاني: أن الجمل إذا دخلها الاستثناء بثبت أن المستثنى لم يكن
__________
(1) أخرجه الواحدي في «الوسيط» كما في «العجاب» (1/ 410) وابن جرير الطبري في «تفسيره» (3/ 231/ 2335).
وداود هو؛ ابن أبي هند.
وعامر؛ هو: الشعبي.

(1/48)


مرادا دخوله في الجملة السابقة، وما لا يكون مرادا باللفظ الأول لا يدخل عليه النسخ.

ذكر الآية الحادية عشر
: قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ [البقرة: 173].
ذهب جماعة من مفسّري القرآن إلى أن أول هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [البقرة: 173].
وزعم بعضهم أنه إنما نسخ منها حكم الميتة والدم، بقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أحلّت لنا ميتتان ودمان؛ السمك والجراد، والكبد والطحال» (1). وكلا القولين باطل، لأن الله تعالى استثنى من التحريم حال الضرورة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم استثنى بالتخصيص ما ذكره في الحديث ولا وجه للنسخ بحال.
__________
(1) أخرجه أحمد (2/ 97) أو رقم (5723) - شاكر- وابن ماجة (3218، 3314) والبيهقي في «السنن» (1/ 254) وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (820) والبغوي في «شرح السنة» (11/ 244) والشافعي في «مسنده: (ص 240 - العلمية) والدارقطني (2/ 271) وابن عدي في «الكامل» (4/ 1582). من طريق: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر مرفوعا.
وإسناده ضعيف؛ لأجل عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف جدا.
وتابعه أخوه عبد الله عند الدارقطني (2/ 272) وابن عدي في «الكامل» (4/ 1503) والبيهقي (1/ 254) وكذا أخوه أسامة.
قال البيهقي: «أولاد زيد كلهم ضعفاء، جرحهم يحيى بن معين، وكان أحمد بن حنبل وعلي بن المديني يوثقان عبد الله بن زيد، إلا أن الصحيح من هذا الحديث الأول».
قلت: يريد الموقوف على ابن عمر، فقد أخرجه (1/ 254) من طريق: ابن وهب، عن سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر موقوفا.
وأخرجه الخطيب البغدادي في «تاريخه» (13/ 245) من طريق: يحيى بن حسان، عن مسور بن الصلت، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري مرفوعا، بنحو منه.
وإسناده ضعيف جدا لأجل مسور بن الصلت؛ فهو متروك كما قال النسائي وغيره.
خلاصة القول أن الحديث لم يصحّ مرفوعا، ولكنه صحّ موقوفا والموقوف هنا له حكم المرفوع، لأن قول الصحابي: «أحلّ لنا كذا» أو «حرم علينا كذا». هو من نوع المرفوع كما هو مقرر في الأصول.
والحديث صحّحه موقوفا؛ أبو حاتم الرازي والدارقطني والبيهقي والنووي وابن حجر وأحمد شاكر والألباني وغيرهم.
انظر «المجموع» (9/ 25) و «التلخيص الحبير» (1/ 36) و «فتح الباري» (9/ 536) و «كشف الخفاء» (1/ 60 - 61/ 148) و «نصب الراية» (4/ 202) وتعليق العلامة أحمد شاكر على «المسند» (8/ 102 - 105/ 5723) فقد أسهب في الكلام على الحديث و «الصحيحة» (1118).

(1/49)


ذكر الآية الثانية عشر
: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى [البقرة: 178] ذهب بعض المفسرين إلى أن دليل خطاب هذه الآية منسوخ، لأنه لما قال: الْحُرُّ بِالْحُرِّ اقتضى أن لا يقتل العبد بالحر، وكذا لما قال:
وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى اقتضى أن لا يقتل الذكر بالأنثى من جهة دليل الخطاب، وذلك منسوخ بقوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة: 45] وإلى هذا أشار ابن عباس فيما رواه عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس قال: نسختها الآية التي في المائدة أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ (1)، وإلى نحو هذا ذهب سعيد بن جبير ومقاتل (2).
[25] (3) - أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال ابنا أبو إسحاق البرمكي، قال: ابنا أبو بكر محمد بن إسماعيل أذنا، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: ابنا يعقوب بن سفيان، قال: ابنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدّثني عبد الله بن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، أن حيّين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات، حتى قتلوا العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، وكان أحد الحيّين يتطاولون على الآخر في العدة والأموال، فحلفوا أن لا نرضى حتى نقتل بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم فنزل فيهم: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فرضوا بذلك فصارت آية الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى منسوخة نسخها النَّفْسَ بِالنَّفْسِ.
قلت: وهذا القول ليس بشيء لوجهين:
الأول: أنه إنما ذكر في آية المائدة ما كتبه على أهل التوراة، وذلك لا يلزمنا، وإنما نقول في إحدى الروايتين عن أحمد: إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 362/ 572) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (252) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 294/ 1578).
وانظر «الناسخ والمنسوخ» لأبي جعفر النحاس (ص 19) و «الإيضاح» (ص 134).
(2) انظر «صفوة الراسخ» (ص 47 - 49) و «أحكام القرآن» للجصاص (1/ 133) و «التفسير القرطبي» (2/ 246 - 247).
(3) إسناده ضعيف.
عبد الله بن لهيعة فيه كلام، وكان قد اختلط، ثم هو مرسل؛ أرسله سعيد بن جبير.
وقد أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 293/ 1576).

(1/50)


يثبت نسخه، وخطابنا بعد خطابهم قد ثبت النسخ، فتلك الآية أولى أن تكون منسوخة بهذه من هذه بتلك.
الثاني: أن دليل الخطاب عند الفقهاء حجة ما لم يعارضه دليل أقوى منه، وقد ثبت بلفظ الآية أن الحر يوازي الحر فلأن الحر يوازي العبد أولى، ثم إن أول الآية يعم، وهو قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ وإنما الآية نزلت فيمن كان يقتل حرا بعبد وذكرا بأنثى، فأمروا بالنظر في التكافؤ.
[26]- أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن حبيب قال: ابنا علي بن الفضل، قال: ابنا محمد بن عبد الصمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد السرخسي، قال: ابنا إبراهيم بن حريم،
قال: ابنا عبد الحميد، قال: ابنا يونس، عن شيبان، عن قتادة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى [البقرة: 178] قال: كان أهل الجاهلية فيهم بغي وطاعة للشيطان، فكان الحيّ منهم إذا كان فيه عدد وعدّة، فقتل لهم عبد قتله عبد قوم آخرين. قالوا: لن نقتل به إلا حرا تعززا وتفضلا على غيرهم في أنفسهم. وإذا قتلت لهم أنثى قتلتها امرأة.
قالوا: لن نقتل بها إلا رجلا، فأنزل الله هذه الآية يخبرهم أن الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى، وينهاهم عن البغي، ثم أنزل في سورة المائدة: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ إلى قوله: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ [المائدة: 45].

ذكر الآية الثالثة عشر
: قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة: 180] اختلف المفسرون في هذه الوصية، هل كانت واجبة أم لا، على قولين:
الأول: أنها كانت ندبا لا واجبة، وهذا مذهب جماعة منهم الشعبي والنخعي (1)، واستدلوا بقوله: بِالْمَعْرُوفِ، قالوا: المعروف لا يقتضي الإيجاب وبقوله: عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة: 180] والواجب لا يختص به المتقون.
والثاني: أنها كانت فرضا ثم نسخت، وهو قول جمهور المفسرين (2)، واستدلوا بقوله: كُتِبَ وهو بمعنى فرض كقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ
__________
(1) انظر مصنف عبد الرزاق (3/ 57) و «تفسير الطبري» (3/ 392) و «الإيضاح» لمكي بن أبي طالب (ص 144) و «الناسخ والمنسوخ» لأبي جعفر النحاس (ص 21) و «صفوة الراسخ» (ص 49 - 50) و «تفسير القرطبي» (2/ 259).
(2) انظر المصادر السابقة.

(1/51)


[البقرة: 183] وقد نص أحمد في رواية الفضل بن زياد على نسخ هذه الآية، فقال: الوصية للوالدين منسوخة.
وأجاب أرباب هذا القول أهل القول الأول، فقالوا: ذكر المعروف لا يمنع الوجوب، لأن المعروف بمعنى العدل الذي لا شطط فيه ولا تقصير، كقوله تعالى:
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 233] ولا خلاف في وجوب هذا الرزق والكسوة، فذكر المعروف في الوصية لا يمنع وجوبها بل يؤكده، وكذلك تخصيص الأمر بالمتقين دليل على توكيده لأنها إذا وجبت على المتقين كان وجوبها على غيرهم أولى، وإنما خصهم بالذكر، لأن فعل ذلك من تقوى الله تعالى، والتقوى لازمة لجميع الخلق.

فصل
ثم اختلف القائلون بإيجاب الوصية ونسخها بعد ذلك في المنسوخ من الآية على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن جميع ما في الآية من إيجاب الوصية منسوخ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
[27] (1) - أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: ابنا أبو الفضل بن خيرون، وأبو طاهر الباقلاوي، قالا: أخبرنا ابن شاذان، قال: ابنا أحمد بن كامل، قال: ابنا محمد بن سعد، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمي الحسين بن الحسن بن عطية قال: حدّثني أبي، عن جدي، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة: 180]. قال: نسخت الفريضة التي للوالدين والأقربين الوصية.
[28] (2) - أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب، قال: ابنا ابن شاذان، قال:
ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود السجستاني، قال: ابنا الحسن بن محمد؛ وأخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله البقال، قال: ابنا علي بن محمد بن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد الكاذي قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي قال: بنا حجاج قال: بنا ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما. كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ
__________
(1) أخرجه ابن جرير (3/ 291/ 2653) وانظر الذي بعده.
(2) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 299/ 1604) والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص 21) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (423)، من طريق حجاج بن محمد به.

(1/52)


نسختها: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ [النساء: 7].
[29] (1) - أخبرنا عبد الحق بن عبد الخالق بن يوسف قال: ابنا محمد بن مرزوق، قال: ابنا أبو بكر الخطيب، قال: ابنا ابن رزق، قال: ابنا أحمد بن سليمان، قال: بنا أبو داود، قال: بنا أحمد بن محمد- هو المروزي- قال:
حدّثني علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فكانت الوصية كذلك
حتى نسختها آية الميراث.
[30] (2) - أخبرنا أبو بكر العامري، قال: ابنا علي بن الفضل، قال: ابنا ابن عبد الصمد، قال: ابنا ابن حموية، قال: بنا إبراهيم بن حريم، قال: بنا عبد الحميد، قال: ابنا النضر بن شميل، قال: ابنا ابن عون، عن ابن سيرين، قال: كان ابن عباس يخطب، فقرأ هذه الآية: إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ فقال: هذه نسخت.
قال عبد الحميد: وحدّثنا يحيى بن آدم، عن ابن حماد الحنفي، عن جهضم، عن عبد الله بن بدر الحنفي، قال: سمعت ابن عمر يسأل عن هذه الآية:
الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ قال: نسختها آية المواريث.
قال عبد الحميد: وحدّثنا يحيى بن آدم، عن محمد بن الفضل، عن أشعث، عن الحسن إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ قال: نسختها آية الفرائض.
قال عبد الحميد: وأخبرني شبابة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان الميراث للولد، والوصيّة للوالدين والأقربين، فهي منسوخة.
__________
(1) أخرجه أبو داود (2869) والنسائي (206، 207) والبيهقي (6/ 265) والخطيب البغدادي في «الفقيه والمتفقه» (1/ 245/ 240).
من طريق: أحمد بن محمد المروزي به.
وفي إسناده علي بن حسين بن واقد؛ «صدوق يهم» لكنه توبع.
وقال الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2493): «حسن صحيح».
(2) أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (3/ 291/ 2652) والحاكم (2/ 273) وسعيد بن منصور في «سننه» (2/ 663/ 252 - آل حميد) والبيهقي (6/ 265 و 7/ 427 - 428) وأبو عبيد في «ناسخه» (421).
من طريق: إسماعيل بن إبراهيم بن عليّة، عن يونس بن عبيد، عن محمد بن سيرين به.
وإسناده صحيح إلى ابن سيرين، وهو لم يسمع من ابن عباس. لكن يشهد له ما قبله.

(1/53)


وكذلك قال: سعيد بن جبير: إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ قال: نسخت.
القول الثاني: أنه نسخ منها الوصية للوالدين [31] (1) - أخبرنا عبد الوهاب، قال: ابنا أبو طاهر الباقلاوي، قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا عبد الرحمن بن الحسن، قال: بنا إبراهيم بن الحسين، قال: بنا آدم، عن الورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ قال: كان الميراث للولد، والوصية للوالدين والأقربين ثم نسخ منه الوالدين.
[32]- أخبرنا إسماعيل، قال: ابنا أبو الفضل البقال، قال: ابنا بن بشران، قال: ابنا إسحاق الكاذي، قال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: بنا أسود بن عامر، قال: بنا إسرائيل، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال:
كانت الوصية للوالدين فنسختها آية الميراث، وصارت الوصية للأقربين.
قال أحمد: وحدّثنا أبو داود، عن زمعة، عن ابن طاوس، عن أبيه قال:
نسخت الوصية عن الوالدين، وجعلت للأقربين.
قال أبو داود: وحدّثنا حماد بن مسلمة، عن عطاء بن أبي ميمونة، قال:
سألت العلاء بن زياد ومسلم بن يسار عن الوصية، فقالا: هي للقرابة (2).
القول الثالث: أن الذي نسخ من الآية الوصية لمن يرث، ولم ينسخ الأقربون الذين لا يرثون، رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو قول الحسن والضحاك وأبي العالية.
[33]- أخبرنا أبو بكر العامري، قال: ابنا علي بن الفضل، قال: ابنا ابن عبد الصمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد، قال: ابنا إبراهيم بن حريم، قال: بنا عبد الحميد، قال: بنا مسلم بن إبراهيم، عن همام بن يحيى، عن قتادة، قال:
أمر أن يوصي لوالديه، وأقربيه، ثم نسخ الوالدين، والحق لكل ذي ميراث نصيبه منها، وليست لهم منه وصية فصارت الوصية لمن لا يرث من قريب أو غير قريب.
[34] (3) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا أبو الفضل البقال، قال: بنا أبو الحسن بن بشران قال: ابنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل،
__________
(1) أخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (424) من طريق: حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
(2) أخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (426).
(3) أخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (425).
وانظر «تفسير الطبري» (3/ 389/ 2644، 2645) و «السنن الكبرى» للبيهقي (6/ 265).

(1/54)


قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا هشيم، قال: ابنا يونس، عن الحسن، قال: كانت الوصية للوالدين والأقربين فنسخ ذلك، وأثبتت لهما نصيبهما في سورة النساء وصارت الوصية
للأقربين الذين لا يرثون، ونسخ من الأقربين كل وارث.
قال أحمد: وحدّثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ قال: أمر الله أن يوصي لوالديه وأقربائه ثم نسخ ذلك في سورة النساء، فألحق لهم نصيبا معلوما، وألحق لكل ذي ميراث نصيبه منه وليست لهم وصية، فصارت الوصية لمن لا يرث من قريب أو بعيد (1).
[35] (2) - أخبرنا أبو بكر العامري، قال: ابنا علي بن الفضل، قال: ابن
__________
(1) أخرجه الدارمي في «سننه» (2/ 511/ 3261) عن يزيد بن هارون، عن همام، عن قتادة به.
(2) أخرجه أحمد (5/ 267) وأبو داود (2870) و (3565) والترمذي (2203) وابن ماجة (2713) وسعيد بن منصور في «سننه» (1/ 107/ 427) - الأعظمي- والطيالسي (1127) وعبد الرزاق في «مصنف» (4/ 148 - 149/ 7277) و (9/ 48/ 16308) والطبراني في «المعجم الكبير» (8/ رقم: 15، 76) وابن أبي شيبة في «مصنفه» (11/ 149/ 10765) والبيهقي في «سننه (6/ 212، 244، 264) والدارقطني (3/ 40 - 41) وابن عبد البر في «التمهيد» (1/ 230 و 14/ 298 - 299 و 24/ 439) والدولابي في «الكنى» (1/ 64). وابن عدي في «الكامل» (1/ 290).
من طريق: إسماعيل بن عياش، قال: حدّثني شرحبيل بن مسلم الخولاني، قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: فذكره مرفوعا.
قال الترمذي: «هذا حديث حسن».
قلت: إسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن أهل بلده، وهذا منها، فإن شرحبيل شامي ثقة.
وحسّن إسناده الحافظ ابن حجر في «التلخيص الحبير» (3/ 1082) والشيخ الألباني في «إرواء الغليل» (6/ 88).
والحديث مروي عن جمع من الصحابة؛ منهم:
1 - عمرو بن خارجة رضي الله عنه:
أخرجه أحمد (4/ 176 - 186، 187، 187، 238) والنسائي (6/ 247) والترمذي (2121) وابن ماجة (2712) والطيالسي (1317) والدارقطني (4/ 152) والبيهقي (6/ 264) والطبراني في «الكبير» (17/ رقم: 60، 71) وفي «الأوسط» (8/ 388/ 7787) وأبو يعلى في «مسنده» (3/ 78/ 1508) وابن عبد البر في «التمهيد» (14/ 299) وسعيد بن منصور في «سننه» (1/ 126/ 428 - الأعظمي) والدارمي (2/ 511/ 3260) وابن إسحاق كما في سيرة ابن هشام (2/ 605).
كلهم من طريق: شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن عمرو بن خارجة به.
قال الترمذي: «حديث حسن صحيح».
قلت: في إسناده شهر بن حوشب؛ وهو ضعيف.
لذا قال المحدث الألباني في «إرواء الغليل» (6/ 89): «لعلّ تصحيحه من أجل شواهده الكثيرة، وإلا فشهر بن حوشب ضعيف لسوء حفظه».

(1/55)


عبد الصمد، قال: ابنا ابن حموية، قال: ابنا إبراهيم، قال: بنا عبد الحميد،
__________
2 - عبد الله بن عباس رضي الله عنه:
أخرجه الدارقطني (4/ 98) والبيهقي (6/ 263) وابن عدي في «الكامل» (4/ 1570) وابن عبد البر في «التمهيد» (14/ 299).
من طريق: عبد الله بن محمد بن ربيعة، عن محمد بن مسلم الطائفي، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس به مرفوعا.
وإسناده ضعيف، لأجل عبد الله بن محمد بن ربيعة، أبو محمد المصيصي.
قال ابن عدي: «عامة أحاديثه غير محفوظة، وهو ضعيف على ما تبيّن لي من روايته، واضطراب فيها، ولم أر للمتقدمين فيه كلاما فأذكره».
وقال ابن حبان في «المجروحين» (2/ 39 - 40): «لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل الاعتبار». وقال الذهبي في «ميزان الاعتدال» (2/ 488 - 489/ 4544): «أحد الضعفاء؛ أتى عن مالك بمصائب».
وقد حسّن إسناده الحافظ ابن حجر في «التلخيص» (3/ 1082) فأغرب.
وقد رواه طاوس مرسلا، وهو الصواب كما سيأتي.
3 - أنس بن مالك رضي الله عنه:
أخرجه ابن ماجة (2714) أو (2764) - علي الحلبي- والدارقطني (4/ 70) والبيهقي (6/ 264) والضياء في «المختارة» (6/ 150/ 2146) وابن عدي في «الكامل» (4/ 1575).
من طريق: عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، نا سعيد بن أبي سعيد، عن أنس بن مالك مرفوعا.
قال البوصيري في زوائده: «وهذا إسناد صحيح، ورجاله ثقات».
وسعيد بن أبي سعيد؛ هو الساحلي، لا المقبري. كما رجّحه العلامة الألباني في «إرواء الغليل» (6/ 90، 91).
وعلى هذا فالإسناد ضعيف.
وأخرجه تمام في «الفوائد» (1/ 36/ 66 - السّلفي) من طريق: سليمان بن سالم الحرّاني، عن الزهري، عن أنس به.
وإسناده ضعيف لأجل سليمان بن سالم؛ فهو ضعيف.
4 - جابر بن عبد الله رضي الله عنه:
أخرجه الدارقطني (4/ 97) وابن عدي في «الكامل» (1/ 202).
من طريق: إسحاق بن إبراهيم الهروي، نا سفيان، عن عمرو، عن جابر به مرفوعا.
وانظر تعليق المحدث الألباني على هذه الطريق في «الإرواء» (6/ 92 - 93).
وله طريق أخرى عن جابر؛ أخرجها أبو نعيم في «أخبار أصبهان» (1/ 227) وأبو الشيخ في «طبقات المحدثين بأصبهان» (3/ 172 - 173/ 433).
من طريق: نوح بن دراج، عن أبان بن تغلب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر به.
وإسناده واه جدا؛ نوح بن دراج متروك الحديث، وقد كذّبه ابن معين وغيره.
5 - عبد الله بن عمرو رضي الله عنه:
أخرجه الدارقطني (4/ 98) وابن عدي (2/ 817).
من طريق: حبيب بن الشهيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده به.

(1/56)


قال: بنا يحيى بن آدم، قال: بنا إسماعيل بن عياش، قال: بنا شرحبيل بن مسلم، قال: سمعت أبا أمامة الباهلية يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث».
__________
وحسّن إسناده الشيخ الألباني في «إرواء الغليل» (6/ 91).
قلت: في إسناد الدارقطني سهل بن عمار؛ وهو متروك.
لكنه توبع عند ابن عدي، لكنه اختلف فيه، فوقع عند الدارقطني حبيب ابن الشهيد، وعند ابن عدي حبيب المعلم، والله أعلم.
6 - علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أخرجه الدارقطني (4/ 97) والبيهقي (6/ 267) والخطيب البغدادي في «الموضح لأوهام الجمع والتفريق» (2/ 88).
من طريق: يحيى بن أبي أنيسة الجزري، عن أبي إسحاق الهمداني، عن عاصم بن ضمرة، عن علي به مرفوعا.
وإسناده ضعيف جدا؛ لأجل يحيى بن أبي أنيسة، فهو متروك.
وتابعه ناصح بن عبد الله الكوفي عن أبي إسحاق الهمداني به عند ابن عدي (7/ 2511).
لكن ناصح هذا ضعيف؛ ضعّفه النسائي كما أشار ابن عدي، وفي إسناده عنده أيضا الحارث الأعور؛ وهو ضعيف، فلا يصلح للاعتبار.
وضعّف إسناده الحافظ في «التلخيص».
7 - زيد بن أرقم والبراء بن عازب:
أخرجه ابن عدي (6/ 2349) من طريق: موسى بن عثمان الحضرمي، عن أبي إسحاق، عن البراء وزيد بن أرقم به.
قال ابن عدي عن موسى الحضرمي: «حديثه ليس بمحفوظ».
8 - أسماء بنت يزيد:
أخرجه إسحاق بن راهويه في «مسنده» (5/ 165/ 2287) من طريق: يحيى بن يمان، نا سفيان، عن ليث، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد، قال:- أراها رفعته- قالت: «لا وصية لوارث».
وهذا إسناد ضعيف مسلسل بالضعفاء، يحيى بن يمان؛ صدوق يخطئ كثيرا. وليث هو: ابن سليم ضعيف لسوء حفظه واختلاطه فترك حديثه. وشهر بن حوشب ضعيف.
9 - طاوس مرسلا.
أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (11/ 151/ 10774) و (11/ 166/ 10833) وعبد الرزاق في «مصنفه» (9/ 81 - 82/ 16426، 16437 و 9/ 87/ 16450) وسعيد بن منصور في «سننه» (1/ 93/ 358 - الأعظمي و 2/ 665/ 253 - آل حميد) والبيهقي (6/ 265) وابن عدي (4/ 1570).
من طرق؛ عن طاوس به مرسلا.
خلاصة الكلام: أن الحديث صحيح، بل عدّه العلماء من المتواتر لكثرة طرقه، وفيها الحسن لذاته والحسن لغيره والضعيف الذي ينجبر، وشديد الضعف.
وانظر «فتح الباري» (5/ 438 - 439) و «إرواء الغليل» (6/ 87 - 96/ 1655).

(1/57)


ذكر الآية الرابعة عشر
: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 183] أما قوله: كُتِبَ فمعناه: فرض، والذين من قبلنا؛ هم أهل الكتاب. وفي كاف التشبيه في قوله: كَما ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها ترجع إلى حكم الصوم وصفته لا إلى عدده [36] (1) - أخبرنا عبد الحق بن عبد الخالق، قال: ابنا محمد بن مرزوق، قال:
ابنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: ابنا عبد الله بن يحيى السكري، قال: ابنا جعفر الخلدي، وقال: ابنا أبو علاثة محمد بن عمرو بن خالد، قال: بنا أبي قال: بنا يونس بن راشد، عن عطاء الخراساني، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[37] (2) - وأخبرنا إسماعيل بن أحمد، وقال: بنا أبو الفضل البقال، قال: ابنا أبو الحسن بن بشران قال: بنا إسحاق الكاذي قال: بنا عبد الله بن أحمد قال:
حدّثني أبي قال: بنا حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما- ولم يذكر عكرمة- قال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني بذلك: أهل الكتاب، وكان كتاب على أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم؛ أن الرجل كان يأكل ويشرب وينكح، ما بينه وبين أن يصلي العتمة، أو يرقد وإذا صلّى العتمة أو رقد منع ذلك إلى مثلها، فنسختها هذه الآية أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [البقرة: 187].
[38] (3) - أخبرنا محمد بن أبي منصور قال: ابنا علي بن أبي أيوب، قال: ابنا أبو
__________
(1) أخرجه الخطيب البغدادي في «الفقيه والمتفقه» (1/ 251/ 248) من طريق: يونس بن راشد به.
وإسناده حسن.
(2) أخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (51) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 305/ 1628).
من طريق: حجاج به.
وإسناده ضعيف، لأجل تدليس ابن جريج، والانقطاع بين عطاء وابن عباس.
وأخرجه أبو داود (2313) من طريق: علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس.
وعلي بن الحسين بن واقد؛ «صدوق يهم».
فالإسناد حسن بما قبله.
وقال الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2028): «حسن صحيح».
(3) أخرجه البخاري (1915) وأحمد (4/ 295) وأبو داود (2314) والترمذي (2968) والنسائي (4/ 147) والواحدي في «أسباب النزول» (ص 50 - 51) وغيرهم. من طريق: إسرائيل به.

(1/58)


علي بن شاذان، قال: أخبرنا أبو بكر النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني، قال: ابنا نصر بن علي، قال: بنا أبو أحمد، قال: بنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: كان الرجل إذا صام فنام لم يأكل إلى مثلها من القابلة، وإن قيس بن صرمة أتى امرأته، وكان صائما فقال: عندك شيء؟ قالت لعلي أذهب فأطلب لك، فذهبت وغلبته عينه فجاءت فقالت: خيبة لك. فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ إلى قوله: مِنَ الْفَجْرِ [البقرة: 187].
وقال سعيد بن جبير: كتب عليهم إذا نام أحدهم قبل أن يطعم لم يحل له أن يطعم إلى القابلة، والنساء عليهم حرام ليلة الصيام، وهو عليهم ثابت وقد أرخص لكم.
فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة بقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ الآية.
وقد روي أن قيس بن صرمة أكل بعد ما نام، وأن عمر بن الخطاب جامع زوجته بعد أن نامت، فنزل فيهما قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ الآية.
القول الثاني: أنها ترجع إلى عدد الصوم لا إلي صفته، ولأرباب هذا القول في ذلك ثلاثة أقوال:
[39]- أما الأول: فأخبرنا أبو بكر بن حبيب، قال: ابنا علي بن الفضل العامري قال: ابنا ابن عبد الصمد، قال: ابنا ابن حموية، قال: ابنا إبراهيم بن حريم قال: حدّثنا عبد الحميد، قال: بنا هاشم بن القاسم، قال: بنا محمد بن طلحة، عن الأعمش، قال: قال ابن عباس رضي الله عنهما: كتب على النصارى الصيام كما كتب عليكم، فكان أول أمر النصارى أن قدموا يوما قالوا: حتى لا نخطئ، قال: ثم آخر أمرهم صار إلى أن قالوا: نقدمه عشرا ونؤخر عشرا حتى لا نخطئ، فضلوا.
وقال دغفل بن حنظلة: كان على النصارى صوم رمضان، فمرض ملكهم، فقالوا: إن شفاه الله ليزيدن سبعة أيام، ثم ملك بعده ملك، فقال: ما ندع من هذه الثلاثة الأيام أن نتمها، ونجعل صومنا في الربيع، ففعل فصارت خمسين يوما (1).
وروى السدي عن أشياخه، قال: اشتدّ على النصارى صيام رمضان، وجعل يتقلب عليهم في الشتاء والصيف، فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صياما في الفصل
__________
(1) أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (4/ رقم: 4203).
من طريق: معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن دغفل بن حنظلة، موقوفا.

(1/59)


بين الشتاء والصيف، وقالوا: نزيد عشرين يوما نكفّر بها ما صنعنا، فجعلوا صيامهم خمسين يوما. فعلى هذا البيان الآية محكمة غير منسوخة.
[40]- وأما الثاني: فأخبرنا عبد الوهاب، قال: ابنا أبو الفضل بن خيرون، وأبو طاهر الباقلاوي، قالا: أخبرنا أبو علي بن شاذان، قال: ابنا أحمد بن كامل، قال: ابنا محمد بن سعد، قال: حدّثنا أبي قال: حدّثني عمي الحسين بن الحسن بن عطية، قال: حدّثني أبي، عن جدي، عن ابن عباس رضي الله عنهما أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ
هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ
فكان ثلاثة أيام في كل شهر، ثم نسخ ذلك ما أنزل من صيام رمضان.
وقال قتادة: كتب الله عزّ وجلّ على الناس قبل نزول شهر رمضان ثلاثة أيام من كل شهر.
وأما الثالث: فقد روى النزال بن سبرة عن ابن مسعود، أنه قال: ثلاثة أيام من كل شهر، ويوم عاشوراء.
وقد زعم أرباب هذا القول أن الآية منسوخة بقوله: شَهْرُ رَمَضانَ [البقرة: 185]. وفي هذا بعد كثير، لأن قوله: شَهْرُ رَمَضانَ جاء عقيب قوله:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ فهو كالتفسير للصيام والبيان له.
القول الثالث: إن التشبيه راجع إلى نفس الصوم لا إلى صفته ولا إلى عدده وبيان ذلك، أن قوله تعالى: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لا يدل على عدد ولا صفة، ولا وقت، وإنما يشير إلى نفس الصيام كيف وقد عقبه الله بقوله تعالى:
أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [البقرة: 184] فتلك يقع على يسير الأيام وكثيرها، فلما قال تعالى في نسق التلاوة شَهْرُ رَمَضانَ بين عدد الأيام المعدودات ووقتها، وأمر بصومها؛ فكان التشبيه الواقع في نفس الصوم. والمعنى: كتب عليكم أن تصوموا كما كتب عليهم، وأما صفة الصوم وعدده فمعلوم من وجوه أخر لا من نفس الآية.
وهذا المعنى مرويّ عن ابن أبي ليلى (1). وقد أشار إليه السّدّي والزجاج، والقاضي
__________
وإسناده ضعيف لانقطاعه، فالحسن لا يعرف له سماعا من دغفل.
وأخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (3/ 254/ 880) والطبراني في «المعجم الأوسط» كما في «مجمع البحرين» مرفوعا. وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/ 139): «رجال إسنادهما رجال الصحيح».
قلت: إضافة إلى الانقطاع بين الحسن ودغفل؛ فإن دغفل لا يعرف له إدراك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، كما قال البخاري وغيره. والله تعالى أعلم.
(1) أخرجه البخاري في «صحيحه» معلّقا- 30 - كتاب الصوم، 39 - باب (وعلى الذين يطيقونه

(1/60)


أبو يعلى. وما رأيت مفسرا يميل إلى التحقيق إلا وقد أومى إليه، وهو الصحيح.
وما ذكره المفسّرون فإنه شرح حال صوم المتقدمين، وكيف كتب عليهم لأنه تفسير للآية، وعلى هذا البيان لا تكون الآية منسوخة أصلا.

ذكر الآية الخامسة عشر
: قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ [البقرة: 184] اختلف المفسرون في معنى الآية على قولين:

القول الأول: أنه يقتضي التخيير بين الصوم والإفطار مع الإطعام
، لأن معنى الكلام: وعلى الذين يطيقونه ولا يصومونه فدية، فعلى هذا يكون الكلام منسوخا بقوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185].
[41] (1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا أبو الفضل البقال، قال: ابنا ابن بشران، قال: بنا الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي أحمد بن حنبل، قال: بنا عبد الرزاق قال: بنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ قال: نسختها فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.
قال أحمد: وحدّثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ وكانت الإطاقة أن الرجل والمرأة يصبح صائما، ثم إن شاء أفطر وأطعم لذلك مسكينا، فنسختها: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (2).
__________
فدية). قال: وقال ابن نمير: حدثنا الأعمش، حدثنا عمرو بن مرة، حدثنا ابن أبي ليلى، حدثنا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم: «نزل رمضان فشقّ عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه، ورخّص لهم في ذلك، فنسختها: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ فأمروا بالصوم».
ووصله أبو نعيم في «المستخرج» كما في «الفتح» (4/ 223).
وأخرجه أبو داود (506) ضمن حديث طويل، من طريق: شعبة، عن عمرو بن مرة به.
وأخرجه الطبري أيضا (3/ 415/ 2731) وأبو عبيد في «ناسخه» (58).
وأخرجه ابن أبي حاتم (1/ 306، 309/ 1632، 1646) من طريق الأعمش، عن عمرو بن مرة به.
وأخرجه أحمد (5/ 246 - 247) وأبو داود (507) والطبري (3/ 414/ 2729) والحاكم (2/ 274).
من طريق: المسعودي، عن عمرو بن مرة.
والمسعودي؛ صدوق لكنه اختلط.
لذا قال الحافظ في «العجاب» (1/ 430): «رواية شعبة أصح».
(1) تقدّم أن ابن سيرين لم يسمع من ابن عباس.
(2) أخرجه ابن أبي حاتم (1/ 307/ 1637) وأبو عبيد في «ناسخه» (59).

(1/61)


قال أحمد: وحدّثنا عبد الله بن إدريس، قال: بنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ قال: نسختها فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.
قال أحمد: وحدّثنا وكيع، قال: بنا محمد بن سليم، عن ابن سيرين، عن عبيدة وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ قال: نسختها التي بعدها والتي تليها (1).
[42] (2) - أخبرنا أبو بكر بن حبيب، قال: ابنا علي بن الفضل، قال: ابنا ابن عبد الصمد، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: بنا إبراهيم بن حريم، قال: بنا عبد الحميد، قال: ابنا عبيد الله موسى، عن إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة قال: كانوا إذا أراد الرجل أن يفطر يوما من رمضان من غير مرض أفطر وأطعم نصف صاع حتى نسختها فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فلم يكن إلا لهما.
قال عبد بن حميد: وحدّثنا مسلم بن إبراهيم: قال: بنا وهيب بن خالد، عن ابن شبرمة، عن الشعبي، قال: لما نزلت وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ. أفطر الأغنياء وأطعموا وحصل الصوم على الفقراء، فأنزل الله تعالى:
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فصام الناس جميعا (3).
[43]- أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: ابنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: ابنا أبو عمرو بن مهدي، قال: ابنا محمد بن مخلد، قال: بنا القاسم بن عياد، قال: بنا بشر بن عمر، قال: بنا حماد بن زيد، عن سلمة بن علقمة، عن ابن سيرين؛ أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ قال: هذه منسوخة.
وروى عطية وابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان في الصوم الأول فدية طعام مسكين فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يطعم مسكينا ويفطر كان ذلك رخصة له، ثم نسخ ذلك.
[44] (4) - أخبرنا محمد بن ناصر، قال: ابنا علي بن أيوب، قال: ابنا علي بن
__________
(1) أخرجه عبد بن حميد كما «العجاب» (1/ 432). وقال الحافظ هناك: «وهذا أيضا مرسل، وسنده معدود في أصح الأسانيد».
(2) أخرجه ابن جرير الطبري في «تفسيره» (3/ 420/ 2736) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (62).
(3) ذكره الحافظ بن حجر في «العجاب» (1/ 432)، عن عبد بن حميد، وقال: «وهذا مرسل صحيح السند».
(4) أخرجه البخاري (4507) ومسلم (1145) وأبو داود (2315) والنسائي (4/ 190 المجتبى)

(1/62)


شاذان، قال: بنا أبو بكر النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني قال: بنا قتيبة. وابنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا أبو بكر محمد بن هبة الله الطبري، قال: ابنا أبو الحسين بن الفضل القطان، قال: بنا أبو محمد بن درستويه قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال بنا أبو صالح، قال: بنا بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن يزيد مولى أم سلمة، عن سلمة بن الأكوع قال:
لما نزلت: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ كان من أراد منا أن يفطر ويفتدي فعل، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.
وقال أنس رضي الله عنه: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة أمرهم بصيام ثلاثة أيام، وكانوا قوما لم يتعوّدوا الصيام، وكان الصوم عليهم شديدا، وكان من لم يصم أطعم مسكينا.
وقد روى هذا المعنى: أنه كان من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى لقوله:
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ إلى أن نزل قوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فنسخ ذلك بهذه، عن جماعة منهم معاذ بن جبل وابن مسعود، وابن عمر، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، والنخعي، والزهري رضي الله عنهم.

والقول الثاني: أنه محكم غير منسوخ
، وأن فيه إضمارا تقديره: وعلى الذين كانوا يطيقوه أو لا يطيقونه فدية. وأشير بذلك إلى الشيخ الفاني الذي يعجز عن الصوم، والحامل التي تتأذّى بالصوم والمرضع.
[45] (1) - أخبرنا عبد الوهاب قال: ابنا أبو الفضل بن خيرون، وأبو طاهر الباقلاوي، قالا: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا أحمد بن كامل قال: ابنا محمد بن سعد العوفي، قال: حدّثني أبي قال: بنا عمي الحسين بن حسن بن عطية، قال:
حدّثني أبي، عن جدي، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ وهو الشيخ الكبير كان يطيق صيام رمضان وهو شاب فكبر وهو عليه لا يستطيع صومه، فليتصدّق على مسكين واحد كلّ يوم أقط.
[46] (2) - وأخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله البقال،
__________
وفي «الكبرى» (6/ 295 - 296/ 11017) والترمذي (798) والحاكم (1/ 423) وابن حبان (5/ 198/ 3469) والبيهقي (4/ 200) وابن خزيمة (1903) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (61)
والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص 26). من طرق؛ عن بكير به.
(1) إسناده ضعيف.
(2) أخرجه البخاري (4505) والنسائي في «الصغرى» (4/ 190 - 191) وفي «الكبرى» (6/ 296/ 11018) وعبد الرزاق (4/ رقم: 7577) وابن أبي حاتم (1/ 407/ 1634) والطبراني في

(1/63)


قال: ابنا بشران قال: ابنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد قال: حدّثني أبي، قال: بنا روح قال: بنا زكريا بن إسحاق، قال: بنا عمرو بن دينار، عن عطاء؛ أنه سمع ابن عباس يقرأ: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ قال: ليست بمنسوخة وهو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعما مكان كل يوم مسكينا.
[47]- أخبرنا أبو بكر العامري، قال: ابنا علي بن الفضل، قال: ابنا بن عبد الصمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد، قال: ابنا إبراهيم بن حريم، قال: ابنا عبد الحميد، قال: ابنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة، قال:
كان ابن عباس يقول: لم ينسخ.
قال عبد الحميد: وأخبرنا النضر بن شميل، قال: بنا حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ قال: هم الذي يكلفونه ولا يطيقونه هو الشيخ والشيخة.
قال عبد الحميد: وأخبرنا إبراهيم، عن أبيه، عن عكرمة وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ قال: هو الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصيام يطعم عنه لكل يوم مسكين.
وقد روى قتادة عن عكرمة قال: نزلت في الحامل والمرضع.
[48] (1) - وقد أخبرنا ابن الحصين، قال: ابنا أبو طالب بن غيلان، قال: ابنا أبو بكر الشافعي، قال: ابنا إسحاق بن إبراهيم بن الحسن، قال: بنا موسى بن مسعود النهدي، قال: بنا سفيان الثوري، عن منصور، عن مجاهد، قال: كان ابن عباس رضي الله عنهما يقرؤها وعلى الذين «يطوّقونه» قال: الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصيام يطعم عنه.
[49] (2) - وبالإسناد؛ حدّثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيب وعلى الذين «يطوقونه» قال: الشيخ الكبير الذي يصوم فيعجز والحامل إن اشتد عليها الصوم يطعمان لكل يوم مسكينا.
__________
«الكبير» (11/ رقم: 11388) والحاكم (1/ 440) والبيهقي (4/ 271) والدارقطني (2/ 205) وابن جرير الطبري (3/ 431 - 433/ 2778، 2785).
من طرق؛ عن عمرو بن دينار به.
(1) أخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (71). من طريق: سفيان به.
(2) أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (2/ 680/ 264 آل حميد) والبيهقي (4/ 271 - 272) بإسناد ضعيف.

(1/64)


قلت: هذه القراءة لا يلتفت إليها لوجوه:
الأول: أنها شاذة خارجة عما اجتمع عليه المشاهير فلا يعارض ما تثبت الحجة بنقله (1).
والثاني: أنها تخالف ظاهر الآية، لأن الآية تقتضي الإطاقة لقوله: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 184] وهذه القراءة تقتضي نفيها.
والثالث: إن الذين يطيقون الصوم ويعجزون عنه ينقسمون إلى قسمين (2):
الأول: من يعجز لمرض أو لسفر، أو لشدة جوع أو عطش، فهذا يجوز له الفطر ويلزمه القضاء من غير كفارة.
والثاني: من يعجز لكبر السّن، فهل يلزمه الكفارة من غير قضاء؟ لم يلزمه القضاء والكفارة، وقد يجوز الإفطار للعذر لا للعجز، كما نقول في الحامل والمرضع إذا خافتا على الولد، وهذا كله ليس بمستفاد من الآية، إنما المعتمد فيه على السنة وأقوال الصحابة.
فعلى هذا البيان يكون النسخ أولى من الآية بالإحكام، يدل على ما قلنا قوله تعالى في تمام الآية: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ وغير جائز أن يعود هذا الكلام إلى المرضى والمسافرين، ولا إلى الشيخ الكبير، ولا إلى الحامل والمرضع إذا خافتا على الولد، لأن الفطر في حق هؤلاء أفضل من الصوم من جهة أنهم قد نهوا أن يعرضوا أنفسهم للتلف، وإنما عاد الكلام إلى الأصحّاء المقيمين خيروا بين الصوم والإطعام فانكشف بما أوضحنا أن الآية منسوخة.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: لا تكون الآية على القراءة الثانية، وهي:
يُطِيقُونَهُ إلا منسوخة (3).

ذكر الآية السادسة عشر
: قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة: 190] اختلف المفسرون في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة على قولين (4):
__________
(1) انظر «الجامع لأحكام القرآن» (2/ 286 - 287) و «فتح الباري» (8/ 29).
(2) انظر «الناسخ والمنسوخ» لأبي عبيد (ص 48).
(3) «الناسخ والمنسوخ» لأبي عبيد (ص 47).
(4) انظر «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (1/ 296 - 297) و «الجامع لأحكام القرآن» (2/ 347 - 350) و «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص 27 - 28) و «الناسخ والمنسوخ» لعبد القاهر البغدادي (ص 31 - 32) و «صفوة الراسخ» (ص 55).

(1/65)


القول الأول: أنها منسوخة
، ثم اختلف أرباب هذا القول في المنسوخ منها على قولين:
الأول: أنه أولها، وهو قوله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، قالوا:
وهذا يقتضي أن القتال إنما يباح في حق من قاتل من الكفار فأما من لم يقاتل فإنه لا يقاتل ولا يقتل.
ثم اختلف هؤلاء في ناسخ ذلك على أربعة أقوال:
الأول: أنه قوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة: 36].
والثاني: أنه قوله تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ [البقرة: 191].
والثالث: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 29].
والرابع: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5].
قلت: وهذا القول الذي قالوا، وإنما أخذوه من دليل الخطاب؛ إنما هو حجّة ما لم يعارضه دليل أقوى منه، وقد عارضه ما هو أقوى منه؛ كآية السّيف وغيرها مما يقتضي إطلاق قتل الكفار، قاتلوا أو لم يقاتلوا.
فأما الآية الأولى التي زعموا أنها ناسخة فإنها تشبه المنسوخة وتوافقها في حكمها، لأنها إنما تضمّنت قتال من قاتل.
وأما الآية الثانية؛ فإنها إنما تضمّنت قتال الذين أمروا بقتالهم؛ لأن قوله:
وَاقْتُلُوهُمْ عطف على المأمور بقتالهم.
وأما الآية الثالثة؛ فإنها تتضمّن قتال أهل الكتاب، والآية التي ادّعي نسخها مطلقة في كل من يقاتل.
وأما الرابعة؛ تصلح ناسخة لو وجدت ما تنسخه، وليس هاهنا إلا دليل الخطاب، وليس بحجة هاهنا على ما بيّنا.
القول الثاني: أن المنسوخ منها قوله: وَلا تَعْتَدُوا للمفسّرين في معنى هذا الاعتداء خمسة أقوال:
الأول: لا تعتدوا بقتل النساء والولدان، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وابن أبي نجيح عن مجاهد.

[القول الثاني انها محكمة]
الثاني: بقتال من لم يقاتلكم؛ قاله أبو العالية، وسعيد بن جبير، وابن زيد.
وهؤلاء إن عنوا من لم يقاتل، لأنه لم يعد نفسه للقتال كالنساء، والولدان،

(1/66)


والرهبان، فالآية محكمة، لأن هذا الحكم ثابت. وإن عنوا من لم يقاتل من الرجال المستعدين للقتال توجّه النّسخ.
والثالث: أن الاعتداء إتيان ما نهى الله عنه، قاله الحسن.
والرابع: أنه ابتداء المشركين بالقتال في الشهر الحرام في الحرم قاله مقاتل.
والخامس: لا تعتدوا بقتال من وادعكم وعاقدكم. قاله ابن قتيبة (1). والظاهر إحكام الآية كلها، ويبعد ادّعاء النسخ فيها.

ذكر الآية السابعة عشر
: قوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [البقرة: 191] اختلف العلماء هل هذه الآية منسوخة أو محكمة على قولين:

القول الأول: أنها منسوخة
، واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] فأمر بقتلهم في الحل والحرم، قاله قتادة.
[50] (2) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا أبو الفضل البقّال، قال: ابنا ابن بشران قال: ابنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: بنا عبد الوهاب، عن همام، عن قتادة وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، فأمر أن لا يبدءوا بقتال، ثم قال: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة: 217] ثم نسخت الآيتان في براءة فقال: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.
قال أحمد: وحدّثنا حسين، عن شيبان، عن قتادة وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. قال: كانوا لا يقاتلون به حتى يقاتلوهم، ثم نسخ ذلك فقال: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ
فأمر الله بقتالهم في الحل والحرم وعلى كل حال.
والثاني: قوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة: 193] قاله الربيع بن أنس وابن زيد.
والثالث: قوله تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ قاله مقاتل.

والقول الثاني: أنها محكمة
، وأنه لا يجوز أن يقاتل أحد في المسجد الحرام حتى يقاتل، وهذا قول مجاهد والمحقّقين. ويدلّ عليه ما روي في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في مكة:
__________
(1) كما في «القرطين» - كتابي مشكل القرآن وغريبه- (ص 69).
(2) أخرجه أبو داود في «ناسخه» كما في «فتح القدير» للشوكاني (1/ 347).

(1/67)


«إنها لا تحلّ لأحد من بعدي، وإنما أحلّت لي ساعة من نهار» (1).
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
«إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولا يحلّ إلا ساعة من نهار» (2).
وقد ادّعى بعض من لا علم له أن هذه الآية نسخت بحديث أنس رضي الله عنه:
«أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل مكة وعلى رأسه المغفر، فأمر بقتل ابن خطل وهو متعلّق بأستار الكعبة» (3).
وهذا باطل من وجهين:
الأول: أن القرآن لا ينسخ إلا بالقرآن (4)، ولو أجزنا نسخه بالسنة لاحتجنا إلى أن نعتبر في نقل ذلك الناسخ ما اعتبرنا في نقل المنسوخ، وطريق الرواية لا يثبت ثبوت القرآن.
والثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد بيّن أنه إنما خصّ بالإباحة في ساعة من نهار، والتخصيص ليس بنسخ، لأن النسخ ما رفع الحكم على الدوام كما كان ثبوت حكم المنسوخ على الدوام، فالحديث دال على التخصيص لا على النسخ. ثم إنما يكون النسخ مع تضاد اجتماع الناسخ والمنسوخ، وقد أمكن الجمع بين ما ادّعوه ناسخا ومنسوخا وصح العمل بهما، فيكون قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وقوله:
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ في غير الحرم، بدليل قوله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ وكذلك قوله: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي: في غير الحرم، بدليل قوله عقيب ذلك وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ [البقرة: 191]. ولو جاز قتلهم في الحرم لم يحتج إلى ذكر الإخراج، فقد بان مما أوضحنا إحكام الآية، وانتفى النسخ عنها.

ذكر الآية الثامنة عشر
: قوله تعالى: فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: 192] اختلف المفسرون في المراد بهذا الانتهاء على قولين:
الأول: أنه الانتهاء عن الكفر.
__________
(1) أخرجه البخاري (112، 2434، 6880) ومسلم (1355) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري (1349) - وانظر أطرافه هناك- ومسلم (1353).
(3) أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 284/ 247) في- 20 - الحج، (81) جامع الحج. والبخاري (1846) و (3044) و (4286) ومسلم (1357) وأبو داود (2685) والنسائي (5/ 200 - 201) والترمذي (1963) وغيرهم.
(4) والصحيح من أقوال أهل العلم المحقّقين؛ أن القرآن ينسخ بالسنة الصحيحة.

(1/68)


والثاني: عن قتال المسلمين لا عن الكفر.
فعلى القول الأول الآية محكمة، والثاني يختلف في المعنى؛ فمن المفسرين من يقول: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إذ لم يأمركم بقتالهم في الحرم، بل يخرجون منه على ما ذكرنا في الآية التي قبلها، فلا يكون نسخ أيضا. ومنهم من يقول: المعنى اعفوا عنهم وارحموهم، فيكون لفظ الآية لفظ خبر، ومعناه: الأمر بالرحمة لهم والعفو عنهم، وهذا منسوخ بآية السيف.

ذكر الآية التاسعة عشر
: قوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [البقرة: 194] اختلف العلماء هل في هذه الآية منسوخ أم لا على قولين:

الأول: أن فيها منسوخا
. واختلف أرباب هذا القول فيه على قولين:
الأول: أنه قوله: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ قالوا: وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اعتمر في ذي القعدة فصدّه المشركون عن أداء عمرته فقضاها في السنة الثانية في ذي القعدة (1). فاقتضى هذا أن من فاته أداء ما وجب عليه بالإحرام الذي عقده في الأشهر الحرم أنه يجب عليه قضاؤه في مثل ذلك الشهر الحرام، ثم نسخ ذلك وجعل له قضاؤه أي وقت شاء، إما في مثل ذلك الشهر أو غيره، قال شيخنا علي بن عبيد الله: وممن حكي ذلك عنه عطاء.
قلت: وهذا القول لا يعرف عن عطاء ولا يشترط أحد من الفقهاء المشهورين على من منع من عمرته أو أفسدها أن يقضيها في مثل ذلك الشهر.
والثاني: أنه قوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194].
ثم اختلف أرباب هذا القول في معنى الكلام ووجه نسخه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن هذا نزل بمكة، والمسلمون قليل ليس لهم سلطان يقهرون به المشركين، وكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى، فأمر الله تعالى المسلمين أن يأتوا إليهم مثل ما أتوا إليهم أو يعفوا ويصبروا، فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وأعزّ الله سلطانه؛ نسخ ما كان تقدم من ذلك، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما (2).
__________
(1) انظر «أسباب النزول» للواحدي (ص 55 - 56) و «تفسير الطبري» (3/ 576).
وأخرج القصة الطبري (3/ 575 - 576/ 3130) عن ابن عباس؛ بإسناد ضعيف جدا.
(2) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (1/ 329/ 1740).
وإسناده ضعيف، علي بن أبي طلحة؛ قال عنه الحافظ في «التقريب» (4788): «أرسل عن ابن عباس، ولم يره، صدوق قد يخطئ».

(1/69)


والثاني: أنه كان في أول الأمر إذا اعتدي على الإنسان فله أن يقتصّ لنفسه بنفسه من غير مرافعة إلى سلطان المسلمين، ثم نسخ ذلك بوجوب الرجوع إلى السلطان في إقامة الحدود والقصاص، قال شيخنا: وممن حكي ذلك عنه ابن عباس رضي الله عنهما.
قلت: وهذا لا يثبت عن ابن عباس ولا يعرف له صحة، فإن الناس ما زالوا يرجعون إلى رؤسائهم، وسلاطينهم في الجاهلية والإسلام، إلا أنه لو أن إنسانا استوفى حق نفسه من خصيمه من غير سلطان أجزأ ذلك، وهل يجوز له ذلك؟ فيه روايتان عن أحمد.
والثالث: أن معنى الآية فمن اعتدى عليكم في الشهر الحرام فاعتدوا عليه فيه ثم نسخ ذلك، وهذا مذكور عن مجاهد، ولا يثبت، ولو ثبت كان مردودا، بأن دفع الاعتداء جائز في جميع الأزمنة عند جميع العلماء، وهذا حكم غير منسوخ،

[الثانى أنها محكمة غير منسوخة]
والصحيح في هذه الآية أنها محكمة غير منسوخة، فأما أولها فإن المشركين لما منعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من دخول مكة في شهر حرام اقتصّ لنبيه عليه السلام بإدخاله مكة في شهر حرام.
[51] (1) - أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: ابنا أحمد بن المشن بن خيرون وأبو طاهر الباقلاوي، قال: ابنا أبو علي بن شاذان، قال: ابنا أحمد بن كامل القاضي، قال: ابنا محمد بن سعد العوفي، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمي الحسين بن حسن بن عطية، قال: حدّثني أبي، عن جدي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان المشركون حبسوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذي القعدة عن البيت ففخروا عليه بذلك فرجعه الله في ذي القعدة، فأدخله البيت الحرام فاقتص له منهم.
فأما قوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فقال سعيد بن جبير: كان المشركون قد عاهدوه يوم الحديبية أن يخلوا له مكة ولأصحابه العام المقبل ثلاثة أيام، فلما جاء العام الذي كان الشرط بينهما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه محرمين بعمرة، فخافوا أن لا يوف لهم المشركون بما شرطوا وأن يقتلوهم عند المسجد الحرام، وكره المسلمون القتال في شهر حرام وبلد حرام؛ فنزلت: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ أي: من قاتلكم من المشركين في الحرم فقاتلوه (2).
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 578/ 3138).
(2) أخرجه ابن أبي حاتم (1/ 329/ 1741) عن سعيد بن جبير مختصرا.
وفي إسناده عبد الله بن لهيعة، ثم هو مرسل.

(1/70)


فإن قال قائل: فكيف يسمى الجزاء اعتداء؟
فالجواب: إن صورة الفعلين واحدة وإن اختلف حكمهما، قال الزجّاج:
والعرب تقول: ظلمني فلان فظلمته: أي: جازيته بظلمه، وجهل عليّ فجهلت عليه، أي: جازيته بجهله.
قلت: فقد بان بما ذكرنا أن الآية محكمة ولا وجه لدخولها في المنسوخ أصلا.

ذكر الآية العشرين
: قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: 196] اختلف المفسرون في المراد بإتمامها على خمسة أقوال:
الأول: أن يحرم بهما من دويرة أهله، قاله علي وسعيد بن جبير وطاوس.
والثاني: الإتيان بما مر الله به فيهما، قاله مجاهد.
والثالث: إفراد كل واحد عن الآخر، قاله الحسن وعطاء.
والرابع: أن لا يفسخهما بعد الشروع فيهما، رواه عطاء عن ابن عباس.
والخامس: أن يخرج قاصدا لهما لا يقصد شيئا آخر من تجارة أو غيرها، وهذا القول فيه بعد.
وقد ادّعى بعض العلماء على قائله أنه يزعم أن الآية نسخت بقوله تعالى:
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 198].
والصحيح في تفسير الآية ما قاله ابن عباس، وهو محمول على النهي عن فسخهما لغير عذر أو قصد صحيح، وليست هذه الآية بداخلة في المنسوخ أصلا.

ذكر الآية الحادية والعشرين
: قوله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة: 196].
ذكر بعض المفسرين أن هذا الكلام اقتضى تحريم حلق الشعر، سواء وجد به أذى أو لم يوجد، ولم يزل الأمر على ذلك حتى رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كعب بن عجرة والقمل يتناثر على وجهه، فقال: «أتجد شاة؟» فقال: لا. فنزلت: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ (1) [البقرة: 196]. والمعنى:
فحلق ففدية.
__________
(1) أخرجه البخاري (1814، 1818، 4159، 4190، 4191، 4517، 5665) ومسلم (1201) وغيرهما.

(1/71)


فاقتضى هذا الكلام إباحة حلق الشعر عند الأذى مع الفدية وصار ناسخا لتحريمه المتقدم.
قلت: وفي هذا بعد من وجهين:
الأول: أنه يحتاج أن يثبت أن نزول قوله: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً تأخّر عن نزول أول الآية، ولا يثبت هذا. والظاهر نزول الآية في مرة، بدليل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«أتجد شاة» والشاة هي النسك المذكور في قوله: أَوْ نُسُكٍ.
والثاني: إنا لو قدرنا نزوله متأخرا فلا يكون نسخا، لأنه قد بان بذكر العذر أن الكلام الأول لمن لا عذر له، فصار التقدير: ولا تحلقوا رءوسكم إلا أن يكون منكم مريض أو من يؤذيه هوامه، فلا ناسخ ولا منسوخ.

ذكر الآية الثانية والعشرين
: قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ [البقرة: 215].
اختلفوا: هل هذه منسوخة أم محكمة؟ روى السّدّي عن أشياخه أنه يوم نزلت هذه لم تكن زكاة، وإنما هي نفقة الرجل على أهله، والصدقة يتصدقون بها فنسختها الزكاة (1).
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نسخت هذه بآية الصدقات في براءة.
وروى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نسخ منها الصدقة على الوالدين، وصارت الصدقة لغيرهم الذين لا يرثون من الفقراء والمساكين والأقربين.
وقد قال الحسن البصري: والمراد بها التطوع على من لا يجوز إعطاؤه الزكاة؛ كالوالدين والمولودين، وهي غير منسوخة.
وقال ابن زيد: هي في النوافل وهم أحق بفضلك.
قلت: من قال بنسخها ادّعى أنه وجب عليهم أن ينفقوا فسألوا عن وجوه الإنفاق فدلّوا على ذلك، وهذا يحتاج إلى نقل، والتحقيق أن الآية عامة في الفرض والتطوع، فحكمها ثابت غير منسوخ، لأن ما يجب من النفقة على الوالدين والأقربين إذا كانوا فقراء لم ينسخ بالزكاة، وما يتطوّع به لم ينسخ بالزكاة. وقد قامت الدلالة على أن الزكاة لا تصرف إلى الوالدين والولد، وهذه الآية بالتطوع أشبه، لأن
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 381/ 2010).

(1/72)


ظاهرها أنهم طلبوا بيان الفضل في إخراج الفضل فبينت لهم وجود الفضل.

ذكر الآية الثالثة والعشرين
: قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ [البقرة: 216].
اختلفوا في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة؟
فقال قوم: هي منسوخة لأنها تقتضي وجوب القتال على الكل؛ لأن الكل خوطبوا بها، وَكِتابٌ بمعنى فرض.
قال ابن جريج سألت عطاء، أواجب الغزو على الناس من أجل هذه الآية؟
فقال: إنما كتب على أولئك حينئذ.
وقال ابن أبي نجيح سألت مجاهدا هل الغزو واجب على الناس؟ فقال: لا؛ إنما كتب عليهم يومئذ.
وقد اختلف أرباب هذا القول في ناسخها على قولين:
الأول: أنه قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] قاله عكرمة.
والثاني: قوله: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة: 122].
وقد زعم بعضهم أنها ناسخة من وجه، ومنسوخة من وجه، وذلك أن الجهاد كان على ثلاث طبقات:
المنع من القتال، وذلك مفهوم من قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [النساء: 77] فنسخت بهذه الآية ووجب بها التعين على الكل، وساعدها قوله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا [التوبة: 41] ثم استقرّ الأمر على أنه إذا قام بالجهاد قوم سقط عن الباقين بقوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ والصحيح أن قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ [البقرة: 216] محكم، وأن فرض الجهاد لازم للكل، إلا أنه من فروض الكفايات، إذا قام به قوم سقط عن الباقين.
فلا وجه للنسخ (1).

ذكر الآية الرابعة والعشرين
: قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة: 217].
سبب سؤالهم عن هذا، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث سرية فقتلوا عمرو بن الحضرمي في
__________
(1) انظر «صفوة الراسخ» (ص 57 - 58).

(1/73)


أول ليلة من رجب، فعيّرهم المشركون بذلك، فنزلت هذه الآية (1). وهي تقتضي
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 384/ 2022) والطبراني في «المعجم الكبير» (2/ 162/ 1670) والطبري في «تفسيره» (4/ 306) وفي «تاريخه» (2/ 45) والبيهقي في «سننه» (9/ 11 - 12) وأبو يعلى في «مسنده» (3/ 102 - 103/ 1534).
من طريق: معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحضرمي، عن أبي السوار، عن جندب بن عبد الله، وذكر القصة.
وحسّن إسناده الحافظ في «العجاب» (1/ 539) فقال: «وهذا سند حسن، وقد علّق البخاري طرفا منه في كتاب العلم من «صحيحه»».
قلت: يشير إلى قول الإمام البخاري في كتاب العلم (3) باب (7) ما يذكر في المناولة، وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان. قال: «واحتج بعض أهل الحجاز في المناولة بحديث النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث كتب لأمير السرية كتابا، وقال: لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا، فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس وأخبرهم بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم».
قال الحافظ في «الفتح» (1/ 186): «والحديث الذي أشار إليه لم يورده موصولا في هذا الكتاب؛ وهو صحيح، وقد وجدته من طريقين:
إحداهما مرسلة، ذكرها ابن إسحاق في «المغازي» عن يزيد بن رومان وأبو اليمان في نسخته عن شعيب، عن الزهري، كلاهما عن عروة بن الزبير.
والأخرى موصولة؛ أخرجها الطبراني من حديث جندب البجلي، بإسناد حسن. ثم وجدت له شاهدا من حديث ابن عباس عند الطبري في «التفسير». فبمجموع هذه الطرق يكون صحيحا» اه.
وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/ 198): «رواه الطبراني، ورجاله ثقات».
وصحّح إسناده السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 250) والشوكاني في «فتح القدير» (1/ 385) والشيخ أحمد شاكر في «عمدة التفسير» (2/ 88).
وأخرجه ابن إسحاق وعنه الطبري في «التفسير» (4/ 302/ 4082) وفي «التاريخ» (2/ 410 - 413) وابن أبي حاتم (2/ 385/ 2024) والبيهقي في «دلائل النبوة» (3/ 18 - 19).
قال: حدثني يزيد بن رومان والزهري، عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن جحش .. فذكره.
وإسناده حسن مرسلا.
وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» (ص 69) عن محمد بن إسحاق، عن الزهري مرسلا، ولم يذكر فيه عروة.
وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» (ص 68) والبيهقي في «دلائل النبوة» (3/ 17).
من طريق: أبي اليمان؛ الحكم بن نافع، أخبرني شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، قال:
أخبرني عروة بن الزبير، فذكره.
وأخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 308/ 4087)، عن ابن عباس؛ بإسناد ضعيف.
وأخرجه عبد الرزاق (1/ 101) - التفسير- وابن جرير (4/ 308/ 4086) وابن أبي حاتم (2/ 384/ 2023).
عن معمر، عن الزهري وعثمان الجزري، عن مقسم مولى ابن عباس.

(1/74)


تحريم القتال في الشهر الحرام، لقوله: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما: لا يحل. وفي رواية أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: عظم العقوبة، وهذا إقرار لهم على ما كانوا عليه في الجاهلية فإنهم كانوا يحرمون القتال في الأشهر الحرم.
[52]- أخبرنا أبو الحسن الأنصاري، قال: ابنا عبد الله بن علي الألوسي، قال: أخبرني عبد الملك بن عمر الرزّاز، قال: ابنا ابن شاهين، قال: بنا يحيى بن محمد صاعد، قال: بنا محمد بن توبة العنبري، قال: ابنا أزهر بن سعد، قال: بنا ابن عون، قال: أبو رجاء العطاردي: كان إذا دخل شهر رجب قالوا: قد جاء منصل الأسنة فيعمد أحدهم إلى سنان رمحه فيخلعه ويدفعه إلى النساء، فيقول:
اشددن هذا في عكومكن (1) فلو مر أحدنا على قاتل أبيه لم يوقظه.
قلت: واختلف العلماء هل هذا التحريم باق أم نسخ.
[53]- وأخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله البقال، قال: ابنا ابن بشران، قال: بنا الكاذي قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي قال: بنا حجاج عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ ما لهم إذ ذلك لا يحل لهم أن يغزو أهل الشرك في الشهر الحرام ثم غزوهم فيه بعد، فحلف لي بالله؛ ما يحل للناس الآن أن يغزو في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه أو يغزو ومنا نسخت.
وروى عبد خير، عن علي عليه السلام في قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قال: نسختها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.
وقال سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار وسائر علماء الأمصار: إن القتال في الشهر الحرام جائز، فإن هذه الآية منسوخة بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5]
__________
وأخرجه البزار (3/ 41/ 2191 - كشف الأستار) من طريق: أبي سعيد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس.
قال الهيثمي في «المجمع» (6/ 196): «وفيه أبو سعيد البقال؛ وهو ضعيف».
على كل حال القصة صحيحة بمجموعة طرقها، كما قال الحافظ وغيره.
وانظر: «تاريخ الإسلام» للذهبي- المغازي- (ص 48 - 50) و «عيون الأثر» لابن سيد الناس (1/ 227) و «البداية والنهاية» (3/ 248 - 252) و «السرايا والبعوث النبوية حول المدينة ومكة» للدكتور بريك محمد بريك العمري (ص 95 - 106) ط. دار ابن الجوزي.
(1) العكوم: الأحكام والغرائر التي تكون فيها الأمتعة وغيرها. أو: الحبل الذي تشد عليه الثياب.
انظر «لسان العرب» (9/ 343 - 344) و «النهاية في غريب الحديث والأثر» (3/ 258).

(1/75)


وقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 29].
[54]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا أبو الفضل البقال قال: ابنا ابن بشران قال: ابنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: قال: حدّثني أبي قال: بنا عبد الرازق، عن معمر قال: قال الزهري: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما بلغنا يحرم القتال في الشهر الحرام ثم أحل له بعد.

ذكر الآية الخامسة والعشرين
: قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [التوبة: 219].
اختلف العلماء في هذه الآية: فقال قوم: إنها تضمنت ذم الخمر لا تحريمها، وهو مذهب ابن عباس وسعيد بن جبير، ومجاهد وقتادة.
وقال آخرون: بل تضمنت تحريمها، وهو مذهب الحسن وعطاء.
فأما قوله تعالى: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [البقرة: 219] فيتجاذبه أرباب القولين، فأما أصحاب القول الأول فإنهم قالوا: إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبله.
وقال أصحاب القول الثاني: إثمهما قبل التحريم أكبر من نفعهما حينئذ أيضا، لأن الإثم الحادث عن شربها من ترك الصلاة والإفساد الواقع عن السكر لا يوازي منفعتها
الحاصلة من لذة أو بيع، ولما كان الأمر محتملا للتأويل، قال عمر بن الخطاب بعد نزول هذه الآية: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا (1)، وعلى القول الأول يتوجه النسخ بقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: 90].

ذكر الآية السادسة والعشرين
: قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: 219]، فالمراد بهذا الإنفاق ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه الصدقة والعفو ما يفضل عن الإنسان.
[55]- أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: ابنا أبو الفضل بن خيرون وأبو طاهر الباقلاوي، قال: ابنا أبو علي بن شاذان، قال: ابنا أحمد بن كامل قال: ابنا
__________
(1) أخرجه أحمد (1/ 53) وأبو داود (3670) والترمذي (3049) والنسائي (8/ 286) والحاكم (4/ 143) وغيرهم.

(1/76)


محمد بن إسماعيل بن سعد قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمي، قال: حدّثني أبي، عن جدي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قُلِ الْعَفْوَ قال: ما أتوك به من شيء قليل أو كثير فاقبله منهم. لم يفرض فيه فريضة معلومة، ثم نزلت بعد ذلك الفرائض مسماة.
وقد قيل: إن المراد بهذه الصدقة الزكاة.
[56] (1) - أخبرنا محمد بن عبد الله بن حبيب، قال: ابنا علي بن الفضل، قال: ابنا عبد الصمد، قال: ابنا عبد الله بن حموية، قال: ابنا إبراهيم بن حريم، قال: ابنا عبد الحميد، قال: بنا شبابة، عن ورقاء، عن ابن نجيح، عن مجاهد، قال: العفو الصدقة المفروضة.
والقول الثاني: أنه كان فرض عليهم قبل الزكاة أن ينفقوا ما يفضل عنهم، فكان أهل الحرث يأخذون قدر ما يكفيهم من نصيبهم، ويتصدّقون بالباقي، وأهل الذهب والفضة يأخذون قدر ما يكفيهم في تجارتهم ويتصدقون بالباقي، ذكره بعض المفسرين.
والثالث: أنها نفقة التطوع، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما حثهم على الصدقة ورغبهم بها قالوا: ماذا ننفق؟ وعلى من ننفق؟ فنزلت هذه الآية.
قال مقاتل بن حيان في قوله: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قال: هي النفقة في التطوع، فكان الرجل يمسك من ماله ما يكفيه سنة ويتصدق بسائره، وإن كان ممن يعمل ببدنه أمسك ما يكفيه يوما ويتصدق بسائره، وإن كان من أصحاب الحقل والزرع أمسك ما يكفيه سنة ويتصدق بسائره، فاشتد ذلك على المسلمين فنسختها آية الزكاة.
قلت: فعلى هذا القول معنى قوله: اشتد ذلك على المسلمين، أي: صعب ما ألزموا نفوسهم به، فإن قلنا هذه النفقة نافلة أو هي الزكاة فالآية محكمة، وإن قلنا إنها نفقة فرضت قبل الزكاة فهي منسوخة بآية الزكاة، والأظهر في أنها الإنفاق في المندوب إليه (2).

ذكر الآية السابعة والعشرين
: قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: 221] اختلف المفسّرون في المراد بالمشركات هاهنا على قولين:
الأول: أنهن الوثنيات.
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (2/ 393/ 2072).
(2) انظر «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص 52 - وما بعدها) و «صفوة الراسخ» (ص 60، 61).

(1/77)


[57]- أخبرنا أبو بكر بن حبيب العامري قال: ابنا علي بن الفضل، قال:
ابنا محمد بن عبد الصمد، قال: ابنا عبد الله بن أحمد، قال: ابنا إبراهيم بن حريم، قال: بنا عبد الحميد، قال: بنا قبيصة، عن حماد، قال: سألت إبراهيم عن تزويج اليهودية والنصرانية، قال: لا بأس به. فقلت: أليس الله تعالى يقول:
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ قال: إنما ذلك المجوسيات وأهل الأوثان.
قال عبد الحميد: حدّثنا يونس، عن سفيان، عن قتادة وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ قال: المشركات العرب اللاتي ليس لهن كتاب يقرأنه.
قال سعيد بن جبير: هن المجوسيات وعابدات الأوثان.
والثاني: أنه عام في الكتابيات وغيرهن من الكافرات، فالكل مشركات، وافترق أرباب هذا القول على قولين:
الأول: أن هذا القدر من الآية نسخ بقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة: 5].
[58]- فأخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله البقال، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال:
حدّثني أبي، قال: ابنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني، قال بنا ابن مبارك، عن يونس، عن الزهري وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ثم أحل نكاح المحصنات من أهل الكتاب فلم ينسخ من هذه الآية غير ذلك، فنكاح كل مشرك سوى نساء أهل الكتاب حرام.
والثاني: أن قوله: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ لفظ عام خص منه الكتابيات بآية المائدة وهذا تخصيص لا نسخ، وعلى هذا الفقهاء وهو الصحيح، وقد زعم قوم أن أهل الكتاب
ليسوا مشركين، وهذا فاسد، لأنهم قالوا عزير ابن الله، والمسيح ابن الله فهم بذلك مشركون.

ذكر الآية الثامنة والعشرين
: قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً [البقرة: 222].
توهّم قوم قلّ علمهم أن هذه الآية منسوخة، فقالوا: هي تقتضي مجانبة الحائض على الإطلاق كما يفعله اليهود، ثم نسخت بالسنة، وهو ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أباح الاستمتاع بالحائض إلا النكاح، وكان صلّى الله عليه وسلّم يستمتع من الحائض بما دون الإزار. وهذا ظن منهم فاسد، لأنه لا خلاف بين الآية والأحاديث. قال أحمد بن حنبل: الحيض موضع الدم. ويوضّح هذا التعليل للنهي بأنه أذى، فخصّ المنع

(1/78)


مكان الأذى. ثم لو كانت الأحاديث تضاد الآية قدمت الآية، لما بينا في أول الكتاب من أن الناسخ ينبغي من أن يشابه المنسوخ في قوته، والقرآن أقوى من السنة.

ذكر الآية التاسعة والعشرين
: قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228].
قد ذهب جماعة من القدماء إلى أن في هذه الآية منسوخا، ثم اختلفوا في المنسوخ منها على قولين:

القول الأول: أنه قوله: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ.
قالوا: فكان يجب على كل مطلقة أن تعتدّ ثلاثة قروء، فنسخ من ذلك حكم الحامل بقوله: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4] ونسخ حكم الآيسة والصغيرة من ذلك بقوله: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق: 4]، ونسخ حكم المطلقة قبل الدخول بقوله:
إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها [الأحزاب: 49]، وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة إلا أن ابن عباس استثنى، ولفظ قتادة نسخ.
[59]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا أبو الفضل البقال، قال: ابنا أبو الحسين بن بشران، قال: ابنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: بنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة، وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ قال: فجعل عدة المطلقة ثلاث حيض، ثم نسخ منها التي لم يدخل بها فقال: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فهذه ليس لها عدة، وقد نسخ من الثلاثة قروء، امرأتان، فقال: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فهذه العجوز التي لا تحيض عدتها ثلاثة أشهر، ونسخ من الثلاثة قروء الحامل فقال: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.

والقول الثاني: أن أول الآية محكم، وإنما المنسوخ منها قوله: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [البقرة: 228]
قالوا: فكان الرجل إذا طلق ارتجع، سواء كان الطلاق ثلاثا أو دون ذلك، فنسخ هذا بقوله: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 230].

(1/79)


واعلم: أن القول الصحيح المعتمد عليه أن هذه الآية كلها محكمة، لأن أولها عام في المطلقات، وما ورد في الحامل والآيسة والصغيرة فهو مخصوص من جملة العموم، وليس على سبيل النسخ. وأما الارتجاع فإن الرجعية زوجة، ولهذا قال: وَبُعُولَتُهُنَّ ثم بين الطلاق الذي يجوز منه الرجعة، فقال: الطَّلاقُ مَرَّتانِ [البقرة: 229] إلى قوله: فَإِنْ طَلَّقَها يعني الثلاثة: فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ.

ذكر الآية الثلاثين
: قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ قد زعم قوم: أن هذه الآية نسخت ما كانوا عليه، من أن أحدهم كان يطلق ما شاء.
[60]- أخبرنا ابن ناصر، قال: بنا علي بن أيوب، قال: ابنا ابن شاذان، قال بنا أبو بكر النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني، قال: بنا أحمد بن محمد، قال: بنا علي بن الحسين، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الرجل إذا طلّق امرأته فهو أحق برجعتها، وإن طلقها ثلاثا، فنسخ الله ذلك، فقال: الطَّلاقُ مَرَّتانِ الآية.
وروي عن سعيد، عن قتادة في قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ قال: فنسخ هذا ما كان قبله وجعل الله حد الطلاق ثلاثا.
قلت: وهذا يجوز في الكلام يريدون به تغيير تلك الحال وإلا فالتحقيق أن هذا لا يقال فيه ناسخ ولا منسوخ، وإنما هو ابتداء شرع وإبطال لحكم العادة.
وزعم آخرون: أن هذه الآية لما اقتضت إباحة الطلاق على الإطلاق من غير تعيين زمان، نزل قوله: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1] أي: من قبل عدّتهنّ وذلك أن تطلّق المرأة في زمان طهرها لتستقبل الاعتداد بالحيض.
وهذا قول من لا يفهم الناسخ والمنسوخ وإنما أطلق الطلاق في هذه الآية وبين في الأخرى كيف ينبغي أن يوقع. ثم إن الطلاق واقع، وإن طلقها في زمان الحيض، فعلم أنه تعليم أدب، والصحيح أن الآية محكمة.

ذكر الآية الحادية والثلاثين
: قوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة: 229].
هذه الآية مبينة لحكم الخلع، ولا تكاد تقع الفرقة بين الزوجين إلا بعد فساد

(1/80)


الحال، ولذلك علّق القرآن جوازه مخافة تركهما القيام بالحدود، وهذا أمر ثابت والآية محكمة عند عامة العلماء.
[61]- إلا أنه قد أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله البقال قال: ابنا أبو الحسين بن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد الكاذي، قال:
بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: بنا حماد بن خالد الخياط، قال: بنا عقبة بن أبي الصهباء، قال: سألت بكر بن عبد الله عن رجل سألته امرأته الخلع؟ فقال: لا يحل له أن يأخذ منها شيئا، قلت له: يقول الله عزّ وجلّ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [البقرة: 229] قال: نسخت، قلت: فأين جعلت؟ قال: في سورة النساء: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [النساء: 20].
قلت: وهذا قول بعيد من وجهين:
الأول: أن المفسرين قالوا في قوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ نزلت في الرجل يريد أن يفارق امرأته ويكره أن يصل إليها ما فرض لها من المهر فلا يزال يتبعها بالأذى حتى ترد عليه ما أعطاها لتخلص منه. فنهى الله تعالى عن ذلك، فأما آية الخلع فلا تعلق لها بشيء من ذلك.
والثاني: أن قوله: فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً إذا كان النشوز من قبله، وأراد استبدال غيرها، وقوله: فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ إذا كان النشوز من قبلها فلا وجه للنسخ.
وقد ذكر السّدّي في هذه الآية نسخا من وجه آخر فقال: قوله: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً منسوخ بالاستثناء وهو قوله: إِلَّا أَنْ يَخافا.
قلت وهذا من أرذل الأقوال، لأن الاستثناء إخراج بعض ما شمله اللفظ وليس بنسخ.

ذكر الآية الثانية والثلاثين
: قوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [البقرة: 233].
عامة أهل العلم على أن هذا الكلام محكم، والمقصود منه بيان مدة الرضاع، ويتعلق بهذه المدة أحكام الرضاع.
وذهب قوم من القراء إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: فَإِنْ أَرادا فِصالًا [البقرة: 233] قالوا فنسخ تمام الحولين باتفاقهما على ما دون ذلك وهذا ليس بشيء، لأن الله تعالى قال: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة: 233]، فلما قال:
فَإِنْ أَرادا فِصالًا. خيّر بين الإرادتين فلا تعارض.

(1/81)


وفي الآية موضع آخر: وهو قوله تعالى: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ [البقرة: 233].
اختلفوا في الوارث:
فقال بعضهم: هو وارث المولود.
وقال بعضهم: هو وارث الوالد.
وقال بعضهم: المراد بالوارث الباقي من والدي الولد بعد وفاة الآخر.
وقيل: المراد بالوارث الصبي نفسه، عليه لأمه مثل ما كان على أبيه لها من الكسوة والنفقة.
وقيل: بل على الوارث أن لا يضار.
واعلم: أن قول من قال: الوارث الصبي والنفقة عليه لا ينافي قول من قال:
المراد بالوارث وارث الصبي لأن النفقة إنما تجب على الوارث إذا ثبت إعسار المنفق عليه.
وقال مالك بن أنس: لا يلزم الرجل نفقة أخ ولا ذي قرابة، ولا ذي رحم منه، قال: وقول الله عزّ وجلّ: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ منسوخ ولم يبين مالك ما الناسخ.
قال أبو جعفر النحاس: ويشبه أن يكون الناسخ عنده أنه لما أوجب الله عزّ وجلّ للمتوفى عنها زوجها من مال المتوفى نفقة حول والسكنى، ثم نسخ ذلك ورفعه نسخ ذلك أيضا عن الوارث (1).

ذكر الآية الثالثة والثلاثين
: قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ [البقرة: 240].
قال المفسرون: كان أهل الجاهلية إذا مات أحدهم مكثت زوجته في بيته حولا ينفق عليها من ميراثه، فإذا تم الحول خرجت إلى باب بيتها ومعها بعرة فرمت بها كلبا، وخرجت بذلك من عدتها وكان معنى رميها بالبعرة؛ أنها تقول: مكثي بعد وفاة زوجي أهون عندي من هذه البعرة. ثم جاء الإسلام فأقرهم على ما كانوا عليه من مكث الحول بهذه الآية، ثم نسخ ذلك بالآية المتقدمة في نظم القرآن على هذه الآية (2). وهي قوله تعالى وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة: 234] ونسخ الأمر بالوصية لها بما فرض لها من ميراثه وهذا مجموع قول الجماعة.
__________
(1) «الناسخ والمنسوخ» للنحاس (ص 68، 69).
(2) «صفوة الراسخ» (ص 65).

(1/82)


[62] (1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا أبو الفضل عمر بن عبيد الله البقال: قال، ابنا أبو الحسن بن بشران، قال: ابنا إسحاق بن أحمد الكاذي، قال:
بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال حدّثني أبي، قال: بنا حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فكان للمتوفى زوجها نفقتها وسكناها في الدار سنة، فنسخها آية الميراث فجعل لهن الربع والثمن مما ترك الزوج.
وقال أحمد: وحدّثنا عبد الصمد، عن همام، عن قتادة مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ فنسختها يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فنسخت ما كان قبلها من أمر النفقة في الحول ونسخت الفريضة الثمن والربع ما كان قبلها من نفقة في الحول (2).
قال أحمد: وحدّثنا محمد بن جعفر الوركاني، قال: بنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ قال:
نسختها وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً.
قال أحمد: وحدّثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ قال: كانت المرأة في الجاهلية تعطى سكنى سنة من يوم توفي زوجها فنسختها أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً.
وعن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت قال: سمعت إبراهيم قال: هي منسوخة.
قال أحمد: وحدّثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ قال: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولا من ماله ما لم تخرج من بيته، ثم نسخ ذلك بقوله: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً.

ذكر الآية الرابعة والثلاثين
: قوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: 256].
اختلف العلماء هل هذا القدر من الآية محكم أو منسوخ.
__________
(1) أخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (233) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 451/ 2390) وغيرهما.
(2) أخرجه ابن أبي حاتم (2/ 452/ 2392) من طريق: سعيد بن عامر، عن همام به.

(1/83)


فذهب قوم إلى أنه محكم
، ثم اختلفوا في وجه إحكامه على قولين:
الأول: أنه من العام المخصوص وأنه خصّ منه أهل الكتاب فإنهم لا يكرهون على الإسلام، بل يخيّرون بينه وبين أداء الجزية، وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
وكان السبب في نزول هذه الآية:
[63] (1) - ما أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله البقال، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق الكاذي، قال: ابنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: بنا علي بن عاصم، قال: بنا داود بن أبي هند، عن عامر، قال: كانت المرأة في الأنصار إذا كانت لا يعيش لها ولد تدعى المقلاة، فكانت المرأة إذا كانت كذلك نذرت إن هي أعاشت ولدا تصبغه يهوديا، فأدرك الإسلام طوائف من أولاد الأنصار- وهم كذلك- فقالوا إنما صبغناهم يهودا ونحن نرى أن اليهود خير من عباد الأوثان، فأما إذ جاء الله بالإسلام فإنا نكرههم على الإسلام، فأنزل الله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ.
قال أحمد، وحدّثنا حسين، قال: بنا أبو هلال، قال: بنا داود، قال: قال عامر: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ كانت تكون المرأة مقلاة في الجاهلية لا يعيش لها ولد، فكانت تنذر لله عليها؛ إن عاش لها ولد لتسلّمنه في خير دين تعلمه، ولم يكن في الجاهلية دين أفضل من اليهودية فتسلّمه في اليهودية، فلما جاء الله بالإسلام قالوا:
يا نبي الله كنا لا نعلم أو لا نرى أن دينا أفضل من اليهودية، فلما جاء الله بالإسلام نرتجعهم، فأنزل الله عزّ وجلّ: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ لا تكرهوهم ولا ترتجعوهم.
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 408/ 5814) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (516). من طريق:
داود بن هند به.
وأخرجه أبو داود (2682) والنسائي في التفسير من «الكبرى» (6/ 304/ 11048) والطبري في «تفسيره» (5/ 408/ 5813) وابن حبان (1/ 352/ 140) والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» (ص 76)
وفي «معاني القرآن» (1/ 266 - 267) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 493/ 2609) والواحدي في «أسباب النزول» (ص 83) والبيهقي في «سننه» (9/ 186) والخطابي في «غريب الحديث» (3/ 80 - 81).
من طرق؛ عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به.
وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين.
وصحّحه العلامة الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2333).
وقال العلامة مقبل بن هادي الوادعي- عافاه الله من كل سوء- في «الصحيح المسند من أسباب النزول» (ص 47): «رجاله رجال الصحيح».

(1/84)


قال أحمد: وبنا وكيع، قال: بنا سفيان، عن خصيف، عن مجاهد، قال:
كان ناس مسترضعون في بني قريظة فأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام فنزلت:
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ (1).
[64] (2) - أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: ابنا ابن جبرون، وأبو طاهر الباقلاوي، قالا: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا ابن كامل قال: بنا محمد بن سعد قال:
أخبرني أبي، قال: حدّثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس رضي الله عنهما: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قال: وذلك لما دخل الناس في الإسلام وأعطى أهل الكتاب الجزية.
والثاني: أن المراد به ليس الدين ما يدين به في الظاهر على جهة الإكراه عليه ولم يشهد به القلب وينطوي عليه الضمائر، وإنما الدين هو المعتقد بالقلب، وهذا قول أبي بكر بن الأنباري.

والقول الثاني: أنه منسوخ
؛ لأن هذه الآية نزلت قبل الأمر بالقتال ثم نسخت بآية السيف، وهذا قول الضحاك والسّدّي وابن زيد.
[65] (3) - أخبرنا ابن ناصر، قال: ابنا ابن أيوب، قال: بنا ابن شاذان، قال:
ابنا أبو بكر النجاد، قال: ابنا أبو داود، قال: بنا جعفر بن محمد، قال: بنا عمرو بن طلحة القناد، قال: بنا أسباط بن نصر، عن إسماعيل السّدّي فأسنده إلى من فوقه لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قال: نسخ وأمر بقتال أهل الكتاب في براءة.
[66]- أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسن بن قريش، قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي قال: ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا حمر بن نوح، قال: بنا أبو معاذ قال: بنا أبو مصلح، عن الضحاك لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قال: نزلت هذه الآية قبل أن يؤمر بالقتال.
قال أبو بكر: وذكر المسيب بن واضح، عن بقية بن الوليد، عن عتبة بن أبي حكيم، عن سليمان بن موسى قال: هذه الآية منسوخة لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ نسختها: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة: 73].
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (2/ 493/ 2611).
(2) أخرجه ابن أبي حاتم (2/ 495/ 2617).
(3) أخرجه الطبري (5/ 410/ 5819) وإسماعيل القاضي في «أحكام القرآن» وأبو داود في «الناسخ والمنسوخ» كما في «العجاب في بيان الأسباب» للحافظ ابن حجر العسقلاني (1/ 611 - 612).

(1/85)


ذكر الآية الخامسة والثلاثين
: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة: 282].
هذه الآية تتضمن الأمر بإثبات الدين في كتاب، وإثبات الشهادة في البيع والدين، واختلف العلماء هل هذا أمر وجوب أم استحباب، فذهب الجمهور إلى أنه أمر ندب واستحباب (1).
[67] (2) - أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر، قال: ابنا أبو محمد الجوهري، قال:
ابنا محمد بن المظفر، قال: ابنا علي بن إسماعيل، قال: ابنا أبو حفص عمرو بن علي قال: بنا معمر بن سليمان، قال: سمعت أبي يقول: سألت الحسن عن الرجل يبيع ولا يشهد فقال: أليس ما قال الله عزّ وجلّ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [البقرة: 283].
قال أبو حفص: وحدّثنا يزيد بن زريع قال: بنا داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: إن شاء أشهد (3).
[68]- وأخبرنا ابن الحصين، قال: ابنا أبو طالب بن غيلان، قال: ابنا أبو بكر الشافعي، قال: ابنا إسحاق بن ميمون، قال: بنا موسى بن مسعود، قال: بنا الثوري، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد ثم قرأ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً.
فعلى هذا القول الآية محكمة، وذهب آخرون إلى أن الكتابة والإشهاد واجبان، وهو مرويّ عن ابن عمر وأبي موسى ومجاهد وعطاء وابن سيرين والضحاك وأبي قلابة والحكم وابن زيد في آخرين.
ثم اختلف أرباب هذا القول هل نسخ أم لا؟ فذهب قوم منهم عطاء وإبراهيم إلى أنه لم ينسخ، وذهب آخرون منهم أبو سعيد الخدري والشعبي وابن زيد إلى أنه نسخ بقوله: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً.
[69]- أخبرنا محمد بن عبد الباقي البزاز قال: ابنا أبو محمد الجوهري، قال: ابنا محمد بن المظفر، قال: بنا علي بن إسماعيل بن حماد، قال: ابنا أبو حفص عمرو بن علي قال: بنا محمد بن مروان، قال: بنا عبد الملك بن أبي
__________
(1) انظر «الجامع لأحكام القرآن» (3/ 402 - 405).
(2) أخرجه أبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (268).
(3) أخرجه الطبري (6/ 50/ 6335) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (266).

(1/86)


نضرة، عن أبيه، عن أبي سعيد، أنه قرأ هذه الآية: إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ حتى بلغ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً قال: هذه نسخت ما قبلها.
[70]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله البقال، قال:
ابنا بن بشران، قال: ابنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال:
حدّثني أبي قال: بنا عفان، قال: بنا عبد الوارث.
[71]- وأخبرنا محمد بن أبي القاسم، قال: ابن أحمد بن أحمد، قال: بنا أبو نعيم الحافظ، قال: ابنا أحمد بن إسحاق قال: بنا أبو يحيى الرازي، قال: بنا عبد الرحمن بن عمر قال: بنا عبد الرحمن بن مهدي قال: بنا محمد بن دينار، كلاهما عن يونس، عن الحسن؛ وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ [البقرة: 282] قال:
نسختها: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً.
قلت: وهذا ليس بنسخ، لأن الناسخ ينافي المنسوخ ولم يقل هاهنا فلا تكتبوا، ولا تشهدوا، وإنما بين التسهيل في ذلك. ولو كان مثل هذا ناسخا لكان قوله: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا [المائدة: 6] ناسخا للوضوء بالماء، وقوله: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ [النساء: 92] ناسخا قوله: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [النساء:
92] والصحيح أنه ليس هاهنا نسخ وأنه أمر ندب.
وقد اشترى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الفرس الذي شهد فيه خزيمة بلا إشهاد (1).
[72] (2) - أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش،
__________
(1) أخرجه أحمد (5/ 215 - 216) وأبو داود (3607) والنسائي (7/ 301) من حديث عمارة بن خزيمة بن ثابت، أن عمّه حدّثه- وهو من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ابتاع فرسا من أعرابي، فاستتبعه النبي صلّى الله عليه وسلّم ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس، ولا يشعرون أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ابتاعه، فنادى الأعرابي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إن كنت مبتاعا هذا الفرس وإلا بعته، فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم حين سمع نداء الأعرابي فقال: «أو ليس قد ابتعته منك»؟ فقال الأعرابي: لا؛ والله ما بعتكه! فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بلى قد ابتعته منك» فطفق الأعرابي يقول: هلمّ شهيدا. فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بايعته. فأقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم على خزيمة فقال: «بم تشهد»؟ فقال: بتصديقك يا رسول الله.
فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شهادة خزيمة بشهادة رجلين. والحديث صحيح، صحّحه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (3073).
وانظر أخي القارئ الكريم في هذه القصة كيف كانت سيرة أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ناصعة نقية؛ كيف صدّق هذا الصحابي نبيّه وشهد على البيع مع أنه لم يره، ما دفعه إلا أنه متيقّن من صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «بتصديقك يا رسول الله». هكذا كان أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فرضي عنهم وأرضاهم وأرضى من أحبهم ووالاهم، وسخط الله على من تنقّص منهم وأبغضهم وعاداهم، اللهم آمين.
(2) إسناده صحيح موقوفا.

(1/87)


قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا محمد بن بشار، قال: بنا محمد، قال: بنا شعبة، عن فراس، عن الشعبي، عن أبي بردة، عن أبي موسى، قال: «ثلاثة يدعون الله فلا
__________
وأخرجه الخرائطي في «مساوئ الأخلاق» رقم (6) من طريق: عمرو بن مرزوق، ثنا شعبة به.
والحديث روي مرفوعا:
أخرجه الحاكم (2/ 302) والبيهقي في «السنن» (10/ 146) وفي «شعب الإيمان» (6/ 249/ 8041) وابن شاذان في «المشيخة الصغرى» كما في «الصحيحة» (4/ 420).
من طريق: أبي المثنى معاذ بن المثنى بن معاذ بن معاذ العنبري، حدثنا أبي، ثنا أبي، ثنا شعبة، عن فراس، عن الشعبي، عن أبي بردة، عن أبي موسى مرفوعا.
ووقع عند الحاكم: «أبو المثنى معاذ بن معاذ العنبري، ثنا أبي، ثنا شعبة به».
وقد أشار الطحاوي إلى هذه الرواية في «مشكل الآثار» (3/ 216/ 211).
قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه لتوقيف أصحاب شعبة هذا الحديث على أبي موسى».
قال الذهبي في «التلخيص»: «ولم يخرجاه لأن الجمهور رووه عن شعبة موقوفا، ورفعه معاذ بن معاذ عنه».
وقال في «المهذب» - أي: تهذيب السنن للبيهقي- كما نقله عنه المناوي في «فيض القدير» (6/ 2848 - ط الباز): «هو مع نكارته إسناده نظيف».
وتابع معاذ بن معاذ عليه؛ داود بن إبراهيم الواسطي، عن شعبة به عند أبي نعيم في «مسانيد أبي يحيى فراس الهمداني» (ص 94 رقم: 29).
قال الشيخ الألباني: «وداود هذا ثقة كما قال في «الجرح» (1/ 2/ 407)».
قلت: داود بن إبراهيم الواسطي «متروك الحديث كان يكذب».
أما الذي وثقه أبو حاتم هو داود بن إبراهيم الواسطي، لكنه ليس راوي هذا الخبر؛ إنما هو آخر الذي يروي عن حبيب بن سالم.
فاختلط الأمر على الشيخ الألباني- رحمه الله- فظن أن الموثق هو راوي هذا الحديث والصواب أنه «متروك الحديث».
وسبب هذا الوهم أن أبا حاتم ترجم للرجلين معا، وقد ذكر أن الأول يروي عن حبيب بن سالم، وهو ثقة.
والثاني يروي عن شعبة، وهو متروك الحديث، وهو الراوي هنا.
وانظر «الجرح والتعديل» (3/ 407/ 1866).
وتابعه أيضا عمرو بن حكام، عن شعبة به. عند الطحاوي في «مشكل الآثار» (3/ 216).
وعمرو بن حكام؛ «ليس بالقوي» كما قال أبو زرعة؛ انظر «الجرح والتعديل» (6/ 227 - 228/ 1265).
فالحديث مختلف في رفعه على شعبة والصواب فيه أنه موقوف.
وقد أعلّه الشيخ المحدث مقبل بن هادي الوادعي- سلّمه الله- فأودعه في كتابه الماتع «أحاديث معلة ظاهرها الصحة» (ص 270 رقم: 293).
وأودعه الشيخ الألباني في «الصحيحة» (1805). والله تعالى أعلم بالصواب.

(1/88)


يستجاب لهم ... أحدهم: رجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه».

ذكر الآية السادسة والثلاثين
: قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة: 284].
أما إبداء ما في النفس فإنه العمل بما أضمره العبد أو نطق به، وهذا مما يحاسب عليه العبد، ويؤاخذ به، فأما ما يخفيه في نفسه فاختلف العلماء في المراد بالمخفي في هذه الآية على قولين:
الأول: أنه عام في جميع المخفيات، وهو قول الأكثرين، ثم اختلفوا هل هذا الحكم ثابت في المؤاخذة أم منسوخ؟ على قولين:
الأول: أنه منسوخ بقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] هذا قول علي بن مسعود في آخرين.
[73] (1) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: ابنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال:
حدّثني أبي، قال: بنا عبد العزيز- يعني ابن أبان- قال: بنا إسرائيل، عن السدّي، عمن سمع عليا رضي الله عنه قال: نزلت: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة: 284] أحزنتنا وهمتنا فقلنا: يحدّث أحدنا نفسه فيحاسب به، فلم ندر ما يغفر منه وما لم يغفر، فنزلت بعدها فنسختها: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.
[74]- أخبرنا المبارك بن علي قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريض، قال: ابنا إسحاق البرمكي قال ابنا: محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود قال: بنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد، قال: بنا حجاج قال: بنا هشيم، عن سيار أبي الحكم، عن الشعبي، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود، في قوله: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ قال: نسختها الآية التي تليها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة: 286].
[75] (2) - أخبرنا أبو بكر العامري، قال: ابنا أبو عبد الله الطوسي، قال: ابنا
__________
(1) إسناده ضعيف.
وأخرجه عبد بن حميد كما في «العجاب» (1/ 652) والترمذي (2990) وضعّف إسناده الألباني في «ضعيف سنن الترمذي» رقم (573).
(2) أخرجه مسلم (125) وأحمد (2/ 412) وأبو عوانة في «مسنده» (1/ 75 - 76/ 222) وابن حبان (1/ 250 - 251/ 139) والواحدي في «أسباب النزول» (ص 94) وابن أبي حاتم في «تفسيره» (2/ 573/ 3060).
من طرق؛ عن العلاء بن عبد الرحمن به.

(1/89)


علي بن أحمد النيسابوري قال: ابنا عبد القاهر بن ظاهر، قال: ابنا محمد بن عبد الله بن علي قال: ابنا محمد بن إبراهيم اليوشنجي، قال: ابنا أمية بن بسطام، قال: بنا يزيد بن زريع، قال: بنا روح بن القاسم، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما أنزل الله عزّ وجلّ: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ اشتدّ ذلك على أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: كلّفنا من الأعمال ما نطيق؛ الصلاة والصيام والجهاد، والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم» - أراه قال: سمعنا وعصينا- قولوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285] فلما اقترأها القوم وذلّت بها ألسنتهم، فأنزل الله عزّ وجلّ في إثرها: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ [البقرة: 285] كلها، ونسخها الله تعالى فأنزل الله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها الآية إلى آخرها.
[76]- أخبرنا عبد الوهاب، قال: ابنا أبو طاهر الباقلاوي، قال: ابنا ابن شاذان، قال: بنا عبد الرحمن بن الحسن، قال: بنا إبراهيم بن الحسين، قال: بنا آدم، قال: بنا ورقاء، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ نسختها الآية التي بعدها: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها (1).
[77] (2) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله البقال قال:
ابنا ابن بشران، قال: بنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال:
حدّثني أبي، قال: بنا علي بن حفص، قال: بنا ورقاء، عن عطاء بن السائب، عن ابن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها قال:
نسخت هذه الآية: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ.
قال أحمد: وحدّثنا محمد بن حميد، عن سفيان، عن آدم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ شق ذلك على المسلمين، قال: فنزلت: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فنسختها.
__________
(1) أخرجه مسلم (125) وأحمد (1/ 233) والطبري في «تفسيره» (6/ 104/ 6457) وأبو عوانة في «المسند» (1/ 75/ 220).
من طريق: آدم بن سليمان به.
(2) انظر الذي قبله.

(1/90)


[78]- أخبرنا بن ناصر، قال: بنا علي بن أيوب، قال: ابنا علي بن شاذان، قال: ابنا أبو بكر النجاد، قال: بنا أبو داود السجستاني، قال: بنا أحمد بن محمد بن ثابت، قال: حدّثني علي بن الحسين، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ قال: نسخت، فقال الله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.
[79] (1) - أخبرنا المبارك بن علي، قال: بنا أحمد بن الحسين، قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا علي بن سهل بن المغيرة، قال: بنا عفان، قال: بنا أبو عوانة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
نسختها الآية التي بعدها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ.
[80] (2) - أخبرنا عبد الوهاب، قال: ابنا عاصم بن الحسن، قال: ابنا أبو عمر بن مهدي، قال: بنا الحسين بن إسماعيل المحاملي، قال: بنا يعقوب الدورقي، قال: بنا يزيد بن هارون، قال: ابنا سفيان عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه تلا هذه الآية: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فدمعت عيناه فبلغ صنيعه ابن عباس رضي الله عنهما فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن لقد صنع ما صنع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين نزلت فنسختها لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.
[81] (3) - أخبرنا ابن الحصين، قال: ابنا ابن المذهب، قال: ابنا أحمد بن جعفر، قال: بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي، قال: بنا عبد الرزاق، قال: بنا معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، قال: دخلت على ابن عباس، فقلت: يا ابن عباس كنت عند ابن عمر، فقرأ هذه الآية، فبكى قال:
أية آية؟ قلت: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ قال ابن عباس:
إن هذه الآية حين أنزلت غمت أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غما شديدا، وغاظتهم غيظا شديدا يعني وقالوا: يا رسول الله هلكنا إن كنا نؤاخذ بما تكلمنا به وبما نعمل به، فأما قلوبنا فليست بأيدينا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قولوا سمعنا وأطعنا» قالوا:
__________
(1) أخرجه أبو عوانة في «مسنده» (1/ 75/ 221).
(2) أخرجه أبو عبيد في «ناسخه» (507) والنحاس في «ناسخه» (ص 82) وابن جرير الطبري في «تفسيره» (6/ 108/ 6462) من طريق: سفيان به.
(3) أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» كما في «العجاب» (1/ 649).

(1/91)


سمعنا وأطعنا، قال: فنسختها هذه الآية آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ [البقرة: 285] إلى لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ.
[82]- أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله البقال، قال:
ابنا ابن بشران، قال: بنا إسحاق بن أحمد الكاذي، بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي: قال بنا وكيع، قال: بنا سفيان؛ عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، وعن إبراهيم بن مهاجر عن إبراهيم، وعن جابر عن مجاهد، قال: ونسخت هذه الآية لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها نسخت وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ.
قال أحمد: وحدّثنا معاوية بن عمرو، قال: بنا زائدة عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ، نسخت: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ.
قال أحمد: وحدّثنا يونس قال: بنا حماد يعني ابن سلمة، عن حميد، عن الحسن وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ قال: نسختها لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.
قال أحمد: وحدّثنا عبد الوهاب، عن سعيد، عن قتادة قال: نزلت هذه الآية فكبرت عليهم، فأنزل الله تعالى بعدها آية فيها تيسير وعافية وتخفيف لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.
[83] (1) - أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل الوراق، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا زيادة بن أيوب، قال: بنا هشيم، عن يسار، عن الشعبي قال: لما نزلت: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ كان فيها شدة حتى نزلت الآية التي بعدها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ فنسخت ما قبلها.
قال أبو بكر: وحدّثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: بنا الأسود، عن حماد، عن يونس، عن الحسن وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ قال نسختها لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.
__________
(1) أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (3/ 1017/ 480) من طريق: هشيم به.
وأخرجه ابن أبي حاتم (2/ 578/ 3089) من طريق هشيم، ثنا سيار أبو الحكم، عن الشعبي، عن أبي عبيدة بن عبد الله.

(1/92)


وإلى هذا القول ذهبت عائشة رضي الله عنها، وعلي بن الحسين، وابن سيرين، وعطاء الخراساني، والسدي، وابن زيد، ومقاتل.
والقول الثاني: أنه لم تنسخ، ثم اختلف أرباب هذا القول على ثلاثة أقوال:
الأول: أنه ثابت في المؤاخذة على العموم فيؤاخذ به من يشاء ويغفر لمن يشاء. وهذا مروي عن ابن عباس أيضا وابن عمر، والحسن واختاره أبو سليمان الدمشقي، والقاضي أبو يعلى.
والثاني: أن المؤاخذة به واقعة، ولكن معناها اطلاع العبد على فعله السيّئ.
[84] (1) - أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا يعقوب بن سفيان، قال: بنا أبو صالح قال: ابنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ قال: هذه الآية لم تنسخ، ولكن الله عزّ وجلّ إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول لهم: إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدّثوا به أنفسهم، وهو قوله: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ يقول: يخبركم به الله. وفي رواية أخرى:
وأما أهل الشرك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب وهو قوله: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ [البقرة: 284].
وقال أبو بكر: وحدّثنا محمد بن أيوب، قال: بنا أحمد بن عبد الرحمن، قال: بنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قال: هي محكمة لم ينسخها شيء بقوله: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ يقول: يعرّفه يوم القيامة أنك أخفيت في صدرك كذا وكذا فلا يؤاخذه (2).
والثالث: أن محاسبة العبد به نزول الغم والحزن والعقوبة والأذى به في الدنيا، وهذا قول عائشة رضي الله عنها.
والقول الثاني: أنه أمر به خاص في نوع من المخفيات. ثم لأرباب هذا القول فيه قولان:
__________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (2/ 572/ 3057) وأبو عبيد في «الناسخ والمنسوخ» (512) والطبري في «تفسيره» (6/ 113/ 6481) من طريق: أبي صالح به.
(2) أخرجه ابن أبي حاتم (2/ 572/ 3055) من طريق: أحمد بن عبد الرحمن به. ثم أخرجه (2/ 574 - 575/ 3065).

(1/93)


الأول: أنه في الشهادة، والمعنى: إن تبدوا بها الشهود ما في أنفسكم من كتمان الشهادة أو تخفوه.
[85] (1) - أخبرنا المبارك بن علي، قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا إسحاق البرمكي، قال: ابنا محمد بن إسماعيل، قال: بنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا زياد بن أيوب.
وأخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: ابنا عاصم بن الحسن، قال: ابنا أبو عمر بن مهدي، قال: ابنا أبو عبد الله المحاملي، قال: بنا يعقوب الدورقي.
وأخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال: ابنا عمر بن عبيد الله، قال: ابنا ابن بشران، قال: بنا الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد، قال: حدّثني أبي، قال: بنا هشيم، قال: ابنا يزيد بن أبي زيادة، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ قال: نزلت في كتمان الشهادة، وإقامتها.
قال أحمد: وحدّثنا يونس، قال: بنا حماد، عن حميد، عن عكرمة، قال:
هذه في الشهادة وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة: 283] وبهذا قال الشعبي.
والثاني: أنه الشك واليقين.
[86] (2) - أخبرنا إسماعيل بن أحمد، قال ابنا عمر بن عبيد الله البقال، قال:
ابنا ابن بشران قال: بنا إسحاق الكاذي، قال: بنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدّثني أبي.
وأخبرنا المبارك بن علي قال: ابنا أحمد بن الحسين بن قريش، قال: ابنا أبو إسحاق البرمكي قال: ابنا محمد بن إسماعيل بن العباس، قال: ابنا أبو بكر بن أبي داود، قال: بنا المؤمل بن هشام قال: بنا إسماعيل بن علية.
وأخبرنا عبد الوهاب، قال: ابنا أبو طاهر الباقلاوي، قال: ابنا ابن شاذان، قال: ابنا عبد الرحمن بن الحسن، قال: بنا إبراهيم بن الحسين، قال: بنا آدم،
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 102 - 103/ 6450/ 6454) وأبو عبيد في «ناسخه» (502).
من طريق: يزيد بن أبي زياد به. وإسناده ضعيف لأجل يزيد بن أبي زياد.
وأخرجه ابن جرير الطبري (6/ 102/ 6449) وابن أبي حاتم (2/ 572/ 3056) وسعيد بن منصور في «سننه» (3/ 1004/ 473 - آل حميد).
من طريق يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس به.
(2) أخرجه أبو عبيد (501) والنحاس (ص 82).

(1/94)


قال: بنا ورقاء، كلاهما عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ من الشك واليقين.
فعلى هذا الآية محكمة.
قال ابن الأنباري: والذي نختاره أن تكون الآية محكمة لأن النسخ إنما يدخل على الأمر والنهي.
وقال أبو جعفر النحاس (1): لا يجوز أن يقع في مثل هذه الآية نسخ؛ لأنها خبر، وإنما التأويل أنه لما أنزل الله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ اشتد عليهم ووقع في قلوبهم منه شيء عظيم، فنسخ ذلك قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي: نسخ ما وقع بقلوبهم، أي: أزاله ورفعه.

ذكر الآية السابعة والثلاثين
: قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها اختلفوا في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة على قولين:

الأول: أنها محكمة
وأن الله تعالى إنما يكلف العباد قدر طاقتهم فحسب وهذا مذهب الأكثرين.

والثاني [أنها منسوخة]:
أنها اقتضت التكليف بمقدار الوسع بحيث لا ينقص منه، فنزل قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ [البقرة: 285] وذلك ينقص عن مقدار الوسع فنسختها. والقول الأول أصح.