الإعراب المحيط من تفسير البحر المحيط سورة البقرة
{الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى
لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ
وَيُقِيمُونَ الصَّلوةَ وَمِمَّا رَزَقْنَهُمْ يُنفِقُونَ *
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ
مِن قَبْلِكَ وَبِالأٌّخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ
عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ} .
{الم} أسماء مدلولها حروف المعجم، ولذلك نطق بها نطق حروف
المعجم، وهي موقوفة الآخر، لا يقال إنها معربة لأنها لم يدخل
عليها عامل فتعرب ولا يقال إنها مبنية لعدم سبب البناء، لكن
أسماء حروف المعجم قابلة لتركيب العوامل عليها فتعرب، تقول:
هذه ألف حسنة ونظير سرد هذه الأسماء موقوفة، أسماء العدد، إذا
عدّوا يقولون: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة. وقد اختلف
الناس في المراد بها، وسنذكر اختلافهم إن شاء الله تعالى.
{ذلك} ، ذا: إسم إشارة ثنائي الوضع لفظاً، ثلاثي الأصل، لا
أحادي الوضع، وألفه ليست زائدة، خلافاً للكوفيين والسهيلي، بل
ألفه منقبلة عن ياء، ولامه خلافاً لبعض البصريين في زعمه أنها
منقلبة من واو من باب طويت وهو مبني. ويقال فيه: ذا وذائه وهو
يدل على القرب، فإذا دخلت الكاف فقلت: ذاك دل على التوسط، فإذا
أدخلت اللام فقلت: ذلك دل على البعد، وبعض النحويين رتبة
المشار إليه عنده قرب وبعد، فمتى كان مجرداً من اللام والكاف
كان للقرب، ومتى كانتا فيه أو إحداهما كان للبعد، والكاف حرف
خطاب تبين أحوال المخاطب من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث
كما تبينها إذا كان ضميراً، وقالوا: ألك في معنى ذلك؟ ولاسم
الإشارة أحكام ذكرت في النحو.
{لا} نافية، والنفي أحد أقسامها، وقد تقدمت. {ريب} ، الريب:
الشك بتهمة راب حقق التهمة قال:
ليس في الحق يا أمية ريب
إنما الريب ما يقول الكذوب
{فيه} : في للوعاء حقيقة أو مجاز، أو زيد
للمصاحبة، وللتعليل، وللمقايسة، وللموافقة على، والباء مثل ذلك
زيد في المسجد {ولكم في القصاص حياة} (البقرة: 179) ادخلوا في
أمم} (الأعراف: 38) لمسكم فيما أفضتم} (النور: 14) ، في الحياة
الدنيا وفي الآخرة} (اليونس: 64) في جذوع النخل} (طه: 71)
يذرؤكم فيه} (الشورى: 11) ، أي يكثركم به. الهاء المتصلة بفي
من فيه ضمير غائب مذكر مفرد، وقد يوصل بياء، وهي قراءة ابن
كثير، وحكم هذه الهاء بالنسبة إلى الحركة والإسكان والاختلاس
والإشباع في كتاب النحو. هدى} ، الهدى: مصدر هدي، وتقدم معنى
الهداية، والهدي مذكر وبنو أسد يؤنثونه، يقولون: هذه هدي حسنة،
قاله الفراء في كتاب المذكر والمؤنث. وقال ابن عطية: الهدي لفظ
مؤنث، وقال اللحياني: هو مذكر. انتهى كلامه.
وهو على وزن فعلى أعني (هدى) ، كالسرى والبكى. وزعم بعض أكابر
نحاتنا أنه لم يجىء من فعلى مصدر سوى هذه الثلاثة، وليس بصحيح،
فقد ذكر لي شيخنا اللغوي الإمام في ذلك رضي الدين أبو عبد الله
محمد بن علي بن يوسف الشاطبي أن العرب قالت: لقيته لقى،
وأنشدنا لبعض العرب:
وقد زعموا حلماً لقاك ولم أزد
بحمد الذي أعطاك حلماً ولا عقلا
وقد ذكر ذلك غيره من اللغويين، وفعل يكون
جمعاً معدولاً وغير معدول، ومفرداً وعلماً معدولاً وغير معدول،
واسم جنس لشخص ولمعنى وصفة معدولة وغير معدولة، مثل ذلك: جمع
وغرف وعمر وأدد ونغر وهدى وفسق وحطم. {للمتقين} المتقي اسم
فاعل من اتقى، وهو افتعل من وقى بمعنى حفظ وحرس، وافتعل هنا:
للاتخاذ أي اتخذ وقاية، وهو أحد المعاني الإثني عشر التي جاءت
لها افتعل، وهو: الاتخاذ، والتسبب، وفعل الفاعل بنفسه،
والتخير، والخطفة، ومطاوعة أفعل، وفعل، وموافقة تفاعل، وتفعل،
واستفعل، والمجرد، والإغناء عنه، مثل ذلك: اطبخ، واعتمل
واضطرب، وانتخب، واستلب، وانتصف مطاوع أنصف، واغتم مطاوع
غممته، واجتور، وابتسم، واعتصم، واقتدر، واستلم الحجر. وإبدال
الواو في اتقى تاء وحذفها مع همزة الوصل قبلها فيبقى تقى مذكور
في علم التصريف.
فأما هذه الحروف المقطعة أوائل السور، فجمهور المفسرين على
أنها حروف مركبة ومفردة، وغيرهم يذهب إلى أنها أسماء عبر بها
عن حروف المعجم التي ينطق بالألف واللام منها في نحو: قال،
والميم في نحو: ملك، وبعضهم يقول: إنها أسماء السور، قاله زيد
بن أسلم.
وقد أطال الزمخشري وغيره الكلام على هذه
الحروف بما ليس يحصل منه كبير فائدة في علم التفسير، ولا يقوم
على كثير من دعاويه برهان. وقد تكلم المعربون على هذه الحروف
فقالوا: لم تعرب حروف التهجي لأنها أسماء ما يلفظ، فهي
كالأصوات فلا تعرب إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها،
ويحتمل محلها الرفع على المبتدأ أو على إضمار المبتدأ، والنصب
بإضمار فعل، والجر على إضمار حرف القسم، هذا إذا جعلناها اسماً
للسور، وأما إذا لم تكن إسماً للسور فلا محل لها، لأنها إذ ذاك
كحروف المعجم أو رُدت مفردة من غير عامل فاقتضت أن تكون مستكنة
كأسماء الأعداد، أو ردتها لمجرد العدد بغير عطف، وقد تكلم
النحويون على هذه الحروف على أنها أسماء السور، وتكلموا على ما
يمكن إعرابه منها وما لا يمكن، وعلى ما إذا أعرب فمنه ما يمنع
الصرف، ومنه ما لا يمنع الصرف، وتفصيل ذلك في علم النحو.
وقد ركبوا وجوهاً من الإعراب في قوله: {ذلك
الكتاب لا ريب فيه} . والذي نختاره منها أن قوله: {ذلك الكتاب}
جملة مستقلة من مبتدأ وخبر، لأنه متى أمكن حمل الكلام على غير
إضمار ولا افتقار، كان أولى أن يسلك به الإضمار والافتقار،
وهكذا تكون عادتنا في إعراب القرآن، لا نسلك فيه إلا الحمل على
أحسن الوجوه، وأبعدها من التكلف، وأسوغها في لسان العرب. ولسنا
كمن جعل كلام الله تعالى كشعر امرىء القيس، وشعر الأعشى، يحمله
جميع ما يحتمله اللفظ من وجوه الاحتمالات. فكما أن كلام الله
من أفصح كلام، فكذلك ينبغي إعرابه أن يحمل على أفصح الوجوه،
هذا على أنا إنما نذكر كثيراً مما ذكروه لينظر فيه، فربما يظهر
لبعض المتأملين ترجيح شيء منه، فقالوا: يجوز أن يكون ذلك خبر
المبتدأ محذوف تقديره هو ذلك الكتاب، والكتاب صفة أو بدل أو
عطف بيان، ويحتمل أن يكون مبتدأ وما بعده خبراً. وفي موضع خبر
{الم} {ولا ريب} جملة تحتمل الاستئناف، فلا يكون لها موضع من
الإعراب، وأن تكون في موضع خبر لذلك، والكتاب صفة أو بدل أو
عطف أو خبر بعد خبر، إذا كان الكتاب خبراً، وقلت بتعدد الأخبار
التي ليست في معنى خبر واحد، وهذا أولى بالبعد لتباين أحد
الخبرين، لأن الأول مفرد والثاني جملة، وأن يكون في موضع نصب
أي مبرأ من الريب، وبناء ريب مع لا يدل على أنها العاملة عمل
إن، فهو في موضع نصب ولا وهو في موضع رفع بالابتداء، فالمرفوع
بعده على طريق الإسناد خبر لذلك المبتدأ فلم تعمل حالة البناء
إلا النصب في الاسم فقط، هذا مذهب سيبويه. وأما الأخفش فذلك
المرفوع خبر للا، فعملت عنده النصب والرفع، وتقرير هذا في كتب
النحو. وإذا عملت عمل إن أفادت الاستغراق فنفت هنا كل ريب،
والفتح هو قراءة الجمهور.
وقرأ أبو الشعثاء: {لا ريب فيه} بالرفع،
وكذا قراءة زيد بن علي حيث وقع، والمراد أيضاً هنا الاستغراق،
لا من اللفظ بل من دلالة المعنى، لأنه لا يريد نفي ريب واحد
عنه، وصار نظير من قرأ: {فلا رفث ولا فسوق} (البقرة: 197)
بالبناء والرفع، لكن البناء يدل بلفظه على قضية العموم، والرفع
لا يدل لأنه يحتمل العموم، ويحتمل نفي الوحدة، لكن سياق الكلام
يبين أن المراد العموم، ورفعه على أن يكون ريب مبتدأ وفيه
الخبر، وهذا ضعيف لعدم تكرار لا، أو يكون عملها إعمال ليس،
فيكون فيه في موضع نصب على قول الجمهور من أن لا إذا عملت عمل
ليس رفعت الإسم ونصبت الخبر، أو على مذهب من ينسب العمل لها في
رفع الإسم خاصة، وأما الخبر فمرفوع لأنها وما عملت فيه في موضع
رفع بالابتداء كحالها إذا نصبت وبني الإسم معها، وذلك في مذهب
سيبويه، وسيأتي الكلام مشبعاً في ذلك عند قوله تعالى: فلا رفث
ولا فسوق ولا جدال في الحج (البقرة: 197) ، وحمل لا في قراءة
لا ريب على أنها تعمل عمل ليس ضعيف لقلة إعمال لا عمل ليس،
فلهذا كانت هذه القراءة ضعيفة. وقرأ الزهري، وابن محيصن، ومسلم
بن جندب، وعبيد بن عمير، فيه: بضم الهاء، وكذلك إليه وعليه وبه
ونصله ونوله وما أشبه ذلك حيث وقع على الأصل. وقرأ ابن أبي
إسحاق: فهو بضم الهاء ووصلها بواو، وجوزوا في قوله: أن يكون
خبراً للا على مذهب الأخفش، وخبراً لها مع اسمها على مذهب
سيبويه، أن يكون صفة والخبر محذوف، وأن يكون من صلة ريب بمعنى
أنه يضمر عامل من لفظ ريب فيتعلق به، إلا أنه يكون متعلقاً
بنفس لا ريب، إذ يلزم إذ ذاك إعرابه، لأنه يصير اسم لا مطولاً
بمعموله نحو: لا ضارباً زيداً عندنا، والذي نختاره أن الخبر
محذوف لأن الخبر في باب لا العاملة عمل إن إذا علم لم تلفظ به
بنو تميم، وكثر حذفه عند أهل الحجاز، وهو هنا معلوم، فاحمله
على أحسن الوجوه في الإعراب
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ}
وبعضهم جعله على حذف مضاف، أي لا سبب فيه لوضوح آياته وإحكام
معانيه وصدق أخباره. وهذه التقادير لا يحتاج إليها. واختيار
الزمخشري أن فيه خبر، وبذلك بني عليه سؤالاً وهو أن قال: هلا
قدم الظرف على الريب كما قدم على القول في قوله تعالى: {لا
فيها غول} (الصافات: 47) ؟ وأجاب: بأن التقديم يشعر بما يبعد
عن المراد، وهو أن كتاباً غيره فيه الريب، كما قصد في قوله:
{لا فيها غول} تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال
العقول كما تغتالها هي، كأنه قيل: ليس فيها ما في غيرها من هذا
العيب والنقيصة. وقد انتقل الزمخشري من دعوى الاختصاص بتقديم
المفعول إلى دعواه بتقديم الخبر، ولا نعلم أحداً يفرق بين: ليس
في الدار رجل، وليس رجل في الدار، وعلى ما ذكر من أن خمر الجنة
لا يغتال، وقد وصفت بذلك العرب خمر الدنيا، قال علقمة بن عبدة:
تشفي الصداع ولا يؤذيك طالبها
ولا يخالطها في الرأس تدويم
وأبعد من ذهب إلى أن قوله: لا ريب صيغة خبر
ومعناه النهي عن الريب. وجوزوا في قوله تعالى: {هدى للمتقين}
أن يكون هدى في موضع رفع على أنه مبتدأ، وفيه في موضع الخبر،
أو خبر مبتدأ محذوف، أي هو هدى، أو على فيه مضمرة إذا جعلنا
فيه من تمام لا ريب، أو خبر بعد خبر فتكون قد أخبرت بالكتاب عن
ذلك، وبقوله لا ريب فيه، ثم جاء هذا خبراً ثالثاً، أو كان
الكتاب تابعاً وهدى خبر ثان على ما مر في الإعراب، أو في موضع
نصب على الحال، وبولغ بجعل المصدر حالاً وصاحب الحال اسم
الإشارة، أو الكتاب، والعامل فيها على هذين الوجهين معنى
الإشارة أو الضمير في فيه، والعامل ما في الظرف من الاستقرار
وهو مشكل لأن الحال تقييد، فيكون انتقال الريب مقيداً بالحال
إذ لا ريب فيه يستقر فيه في حال كونه هدى للمتقين، لكن يزيل
الإشكال أنها حال لازمة. والأولى: جعل كل جملة مستقلة، فذلك
الكتاب جملة، ولا ريب جملة، وفيه هدى للمتقين جملة، ولم يحتج
إلى حرف عطف لأن بعضها آخذ بعنق بعض. فالأولى أخبرت بأن المشار
إليه هو الكتاب الكامل، كما تقول: زيد الرجل، أي الكامل في
الأوصاف. والثانية نعت لا يكون شيء ما من ريب. والثالثة أخبرت
أن فيه الهدى للمتقين.
ومضمون هذه الجملة على ما اخترناه من
الإعراب، الإخبار عن المشار إليه الذي هو الطريق الموصل إلى
الله تعالى، هو الكتاب أي الكامل في الكتب، وهو المنزل على
رسول الله صلى الله عليه وسلّمالذي قال فيه: {ما فرطنا في
الكتاب من شيء} (الأنعام: 38) ، فإذا كان جميع الأشياء فيه،
فلا كتاب أكمل منه، وأنه نفى أن يكون فيه ريب وأنه فيه الهدى.
ففي الآية الأولى الإتيان بالجملة كاملة الأجزا حقيقة لا مجاز
فيها، وفي الثانية مجازاً لحذف لأنا اخترنا حذف الخبر بعد لا
ريب، وفي الثانية تنزيل المعاني منزلة الأجسام، إذ جعل القرآن
ظرفاً والهدى مظروفاً، فألحق المعنى بالعين، وأتى بلفظة في
التي تدل على الوعاء كأنه مشتمل على الهدى ومحتو عليه احتواء
البيت على زيد في قولك: زيد في البيت. الذين يؤمنون بالغيب} :
الإيمان: التصديق، {وما أنت بمؤمن لنا} (يوسف: 17) ، وأصله من
الأمن أو الأمانة، ومعناهما الطمأنينة، منه: صدقه، وأمن به:
وثق به، والهمزة في أمن للصيرورة كأعشب، أو لمطاوعة فعل كأكب،
وضمن معنى الاعتراف أو الوثوق فعدى بالباء، وهو يتعدى بالباء
واللام فما آمن لموسى} (يونس: 83) ، والتعدية باللام في ضمنها
تعد بالباء، فهذا فرق ما بين التعديتين. الغيب: مصدر غاب يغيب
إذا توارى، وسمي المطمئن من الأرض غيباً لذلك أو فعيل من غاب
فأصله غيب، وخفف نحو: لين في لين، والفارسي لا يرى ذلك قياساً
في بنات الياء، فلا يجيز في لين التخفيف ويجيزه في ذوات الواو،
نحو: سيد وميت، وغيره قاسه فيهما. وابن مالك وافق أبا علي في
ذوات الياء. وخالف الفارسي في ذوات الواو، فزعم أنه محفوظ لا
مقيس، وتقرير هذا في علم التصريف. ويقيمون الصلاة} والإقامة:
التقويم، أقام العود قومه، أو الإدامة أقامت الغزالة سوق
الضراب، أي أدامتها من قامت السوق، أو التشمر والنهوض من قام
بالأمر، والهمزة في أقام للتعدية. الصلاة: فعلة، وأصله الواو
لاشتقاقه من الصلى، وهو عرق متصل بالظهر
يفترق من عند عجب الذنب، ويمتد منه عرقان
في كل ورك عرق يقال لهما الصلوان فإذا ركع المصلي انحنى صلاه
وتحرك فسمي بذلك مصلياً.
{وَمِمَّا رَزَقْنَهُمْ يُنفِقُونَ} من حرف جر. وزعم الكسائي
أن أصلها منا مستدلاً بقول بعض قضاعة:
بذلنا مارن الخطي فيهم
وكل مهند ذكر حسام منا أن ذر قرن الشمس حتى
أغاب شريدهم قتر الظلام
وتأول ابن جني، رحمه الله، على أنه مصدر على فعل من منى يمنى
أي قدر. واغتر بعضهم بهذا البيت فقال: وقد يقال منا. وقد تكون
لابتداء الغاية وللتبعيض، وزائدة وزيد لبيان الجنس، وللتعليل،
وللبدل، وللمجاوزة والاستعلاء، ولانتهاء الغاية، وللفصل،
ولموافقة الباء، ولموافقة في. مثل ذلك: سرت من البصرة إلى
الكوفة، أكلت من الرغيف، ما قام من رجل، {يحلون فيها من أساور
من ذهب} (الحج: 22) ، في آذانهم من الصواعق} (البقرة: 19) ،
بالحياة الدنيا من الآخرة} (التوبة: 38) ، غدوت من أهلك} (آل
عمران: 121) ، قربت منه، ونصرناه من القوم} (الأنبياء: 77) ،
يعلم المفسد من المصلح} (البقرة: 220) ينظرون من طرف خفي}
(الشورى: 45) ماذا خلقوا من الأرض} (فاطر: 40) . ما تكون
موصولة، واستفهامية، وشرطية، وموصوفة، وصفة، وتامة. مثل ذلك:
ما عندكم ينفذ مال هذا الرسول} (الفرقان: 7) ، ما يفتح الله
للناس من رحمة} (فاطر: 2) ، مررت بما معجب لك، لأمر ما جدع
قصير أنفه، ما أحسن زيداً. رزقناهم} الرزق: العطاء، وهو الشيء
الذي يرزق كالطحن، والرزق المصدر، وقيل الرزق أيضاً مصدر رزقته
أعطيته، {ومن رزقناه منا رزقاً حسناً} (النحل: 75) ، وقال:
رزقت مالاً ولم ترزق منافعه
إن الشقي هو المحروم ما رزقا}
{يُنفِقُونَ} ، الإنفاق: الإنفاذ، أنفقت الشيء وأنفذته بمعنى
واحد، والهمزة للتعدية، يقال نفق الشيء نفذ، وأصل هذه المادة
تدل على الخروج والذهاب، ومنه: نافق، والنافقاء، ونفق..
{والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من
قبلك وبالآخرة هم يوقنون} ، الذين ذكروا في إعرابه الخفض على
النعت للمتقين، أو البدل والنصب على المدح على القطع، أو
بإضمار أعني على التفسير قالوا، أو على موضع المتقين، تخيلوا
أن له موضعاً وأنه نصب، واغتروا بالمصدر فتوهموا أنه معمول له
عدي باللام، والمصدر هنا ناب عن اسم الفاعل فلا يعمل، وإن عمل
اسم الفاعل وأنه بقي على مصدريته فلا يعمل، لأنه هنا لا ينحل
بحرف مصدر وفعل، ولا هو بدل من اللفظ بالفعل، بل للمتقين بتعلق
بمحذوف صفة لقوله هدى، أي هدى كائن للمتقين، والرفع على القطع
أي هم الذين، أو على الابتداء والخبر.
{أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، أولئك المتقدمة، وأولئك
المتأخرة، والواو مقحمة، وهذا الأخير إعراب منكر لا يليق مثله
بالقرآن، والمختار في الإعراب الجر على النعت والقطع، إما
للنصب، وإما للرفع، وهذه الصفة جاءت للمدح. وقرأ الجمهور:
يؤمنون بالهمزة ساكنة بعد الياء، وهي فاء الكلمة، وحذف همزة
أفعل حيث وقع ذلك ورش وأبو عمر، وإذا أدرج بترك الهمز. وروي
هذا عن عاصم، وقرأ رزين بتحريك الهمزة مثل: يؤخركم، ووجه
قراءته أنه حذف الهمزة التي هي فاء الكلمة لسكونها، وأقر همزة
أفعل لتحركها وتقدمها واعتلالها في الماضي والأمر، والياء
مقوية لوصول الفعل إلى الإسم، كمررت بزيد، فتتعلق بالفعل، أو
للحال فتتعلق بمحذوف، أي ملتبسين بالغيب عن المؤمن به، فيتعين
في هذا الوجه المصدر، وأما إذا تعلق بالفعل فعلى معنى الغائب
أطلق المصدر وأريد به اسم الفاعل، قالوا: وعلى معنى الغيب أطلق
المصدر وأريد به اسم المفعول نحوه: هذا خلق لله، ودرهم ضرب
الأمير، وفيه نظر لأن الغيب مصدر غاب اللازم، أو على التخفيف
من غيب كلين، فلا يكون إذ ذاك مصدراً وذلك على مذهب من أجاز
التخفيف، وأجاز ذلك في الغيب الزمخشري، ولا يصار إلى ذلك حتى
يسمع منقلاً من كلام العرب.
{ويقيمون الصلاة} ، وقالوا: وقد يعبر بالإقامة عن الأداء، وهو
فعلها في الوقت المحدود لها.
{وَمِمَّا رَزَقْنَهُمْ يُنفِقُونَ} ومن كتبت متصلة بما محذوفة
النون من الخط، وكان حقها أن تكون منفصلة لأنها موصولة بمعنى
الذي، لكنها وصلت لأن الجار والمجرور كشيء واحد، ولأنها قد
أخفيت نون من في اللفظ فناسب حذفها في الخط، وهنا للتبعيض، إذ
المطلوب ليس إخراج جميع ما رزقوا لأنه منهي عن التبذير
والإسراف.
وجعل صلات الذين أفعالاً مضارعة، ولم يجعل
الموصول أل فيصله باسم الفاعل لأن المضارع فيما ذكر البيانيون
مشعر بالتجدد والحدوث بخلاف اسم الفاعل، لأنه عندهم مشعر
بالثبوت والأمدح في صفة المتقين تجدد الأوصاف، وقدم المنفق منه
على الفعل اعتناءً بما خول الله به العبد إشعاراً أن المخرج هو
بعض ما أعطى العبد، ولتناسب الفواصل وحذف الضمير العائد على
الموصول لدلالة المعنى عليه، أي ومما رزقناهموه، واجتمعت فيه
شروط جواز الحذف من كونه متعيناً للربط معمولاً لفعل متصرف
تام. وأبعد من جعل ما نكرة موصوفة وقدر، ومن شيء رزقناهمو لضعف
المعنى بعد عموم المرزوق الذي ينفق منه فلا يكون فيه ذلك
التمدح الذي يجعل ما موصولة لعمومها، ولأن حذف العائد على
الموصول أو جعل ما مصدرية، فلا يكون في رزقناهم ضمير محذوف بل
ما مع الفعل بتأويل المصدر، فيضطر إلى جعل ذلك المصدر المقدر
بمعنى المفعول، لأن نفس المصدر لا ينفق منه إنما ينفق من
المرزوق.
{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} إلى حرف جر
معناه انتهاء الغاية وزيد كونها للمصاحبة وللتبيين ولموافقة
اللام وفي ومن، وأجاز الفراء زيادتها، مثل ذلك: سرت إلى
الكوفة، {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} (النساء: 2) ، السجن
أحب إلي} (يوسف: 33) ، والأمر إليك} (النمل: 33) ، والكاف
المتصلة بها ضمير المخاطب المذكر، وتكسر للمؤنث، ويلحقها ما
يلحق أنت في التثنية والجمع دلالة عليهما، وربما فتحت للمؤنث،
أو اقتصر عليها مكسورة في جمعها نحو:
ولست بسائل جارات بيتي
أغياب رجالك أم شهود}
{وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} قبل وبعد ظرفا زمان وأصلهما
الوصف ولهما أحكام تذكر في النحو، ومدلول قبل متقدم، كما أن
مدلول بعد متأخر. الآخرة تأنيث الآخر مقابل الأول وأصل الوصف
{تلك الدار الآخرة} (القصص: 83) ، ولدار الآخرة} (يوسف: 109) .
وافعل بمعنى استفعل كابل بمعنى استبل. وقرأ
الجمهور: {بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك} مبنياً للمفعول،
وقرأهما النخعي وأبو حيوة ويزيد بن قطيب مبنياً للفاعل.
وإعادة الموصول بحرف العطف يحتمل المغايرة في الذات وهو الأصل،
فيحتمل أن يراد مؤمنو أهل الكتاب لإيمانهم بكل وحي، فإن جعلت
الموصول معطوفاً على الموصول اندرجوا في جملة المتقين، إن لم
يرد بالمتقين بوصفه مؤمنو العرب، وذلك لانقسام المتقين إلى
القسمين. وإن جعلته معطوفاً على المتقين لم يندرج لأنه إذ ذاك
قسيم لمن له الهدى لا قسم من المتقين. ويحتمل المغايرة في
الوصف، فتكون الواو للجمع بين الصفات، ولا تغاير في الذوات
بالنسبة للعطف وحذف الفاعل في قراءة الجمهور، وبني الفعلان
للمفعول للعلم بالفاعل، نحو: أنزل المطر، وبناؤهما للفاعل في
قراءة النخعي، وأبي حيوة، ويزيد بن قطيب، فاعله مضمر، قيل:
الله أو جبريل. قالوا: وقوة الكلام تدل على ذلك وهو عندي من
الالتفات لأنه تقدم قوله: {ومما رزقناهم} ، فخرج من ضمير
المتكلم إلى ضمير الغيبة، إذ لو جرى على الأول لجاء بما أنزلنا
إليك، وما أنزلنا من قبلك، وجعل صلة ما الأولى ماضية لأن أكثره
كان نزل بمكة والمدينة، فأقام الأكثر مقام الجميع، أو غلب
الموجود لأن الإيمان بالمتقدم الماضي يتقدم الإيمان بالمتأخر،
لأن موجب الإيمان واحد. وأما صلة الثانية فمتحققة المضي ولم
يعد حرف الجر فيما الثانية ليدل أنه إيمان واحد، إذ لو أعاد
لأشعر بأنهما إيمانان.
وبالآخرة: تقدم أن المعنى بها الدار الآخرة للتصريح بالموصوف
في بعض الآي.
وقدم المجرور اعتناء به ولتطابق الأواخر.
وإيراد هذه الجملة إسمية وإن كانت الجملة معطوفة على جملة
فعلية آكد في الإخبار عن هؤلاء بالإيقان، لأن قولك: زيد فعل
آكد من فعل زيد لتكرار الإسم في الكلام بكونه مضمراً، وتصديره
مبتدأ يشعر بالاهتمام بالمحكوم عليه، كما أن التقديم للفعل
مشعر بالاهتمام بالمحكوم به. وذكر لفظة هم في قوله: {هم
يوقنون} ، ولم يذكر لفظة هم في قوله: {ومما رزقناهم ينفقون}
لأن وصف إيقانهم بالآخرة أعلى من وصفهم بالإنفاق، فاحتاج هذا
إلى التوكيد ولم يحتج ذلك إلى تأكيد، ولأنه لو ذكرهم هناك لكان
فيه قلق لفظي، إذ كان يكون ومما رزقناهم هم ينفقون. أولئك: اسم
إشارة للجمع يشترك فيه المذكر والمؤنث. والمشهور عند أصحابنا
أنه للرتبة القصوى كأولالك، وقال بعضهم: هو للرتبة الوسطى،
قاسه على ذا حين لم يزيدوا في الوسطى عليه غيرحرف الخطاب،
بخلاف أولالك. ويضعف قوله كون هاء التنبيه لا ندخل عليه.
وكتبوه بالواو فرقاً بينه وبين إليك، وبني لافتقاره إلى حاضر
يشار إليه به، وحرك لالتقاء الساكنين، وبالكسر على أصل
التقائهما. إن من وجهي رفعه كونه مبتدأ، فعلى هذا يكون أولئك
مع ما بعده مبتدأ وخبر في موضع خبر الذين، ويجوز أن يكون بدلاً
وعطف بيان، ويمتنع الوصف لكونه أعرف. ويكون خبر الذين إذ ذاك
قوله: {على هدى} ، وإن كان رفع الذين على أنه خبر مبتدأ محذوف،
أو كان مجروراً أو منصوباً، كان أولئك مبتدأ خبره {على هدى} ،
وقد تقدم أنا لا نختار الوجه الأول لانفلاته مما قبله والذهاب
به مذهب الاستئناف مع وضوح اتصاله بما قبله وتعلقه به.
وقد تكون ثم صفة محذوفة أي على هدى، وحذف الصفة لفهم المعنى
جائز، وقد لا يحتاج إلى تقدير الصفة لأنه لا يكفي مطلق الهدى
المنسوب إلى الله تعالى. ومن لابتداء الغاية أو للتبعيض على
حذف مضاف، أي من هدى ربهم.
وقرأ ابن هرمز: من ربهم بضم الهاء، وكذلك
سائرها آت جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعى فيها
سبق كسر أو ياء، ولما أخبر عنهم بخبرين مختلفين كرر أولئك ليقع
كل خبر منهما في جملة مستقلة وهو آكد في المدح إذ صار الخبر
مبنياً على مبتدأ. وهذان الخبران هما نتيجتا الأوصاف السابقة
إذ كانت الأوصاف منها ما هو متعلقه أمر الدنيا، ومنها ما
متعلقه أمر الآخرة، فأخبر عنهم بالتمكن من الهدى في الدنيا
وبالفوز في الآخرة. ولما اختلف الخبران كما ذكرنا، أتى بحرف
العطف في المبتدأ، ولو كان الخبر الثاني في معنى الأول، لم
يدخل العاطف لأن الشيء لا يعطف على نفسه. ألا ترى إلى قوله
تعالى: {أولئك هم الغافلون} (الأعراف: 179) بعد قوله: أولئك
كالأنعام} (الأعراف: 179) كيف جاء بغير عاطف لاتفاق الخبرين
اللذين للمبتدأين في المعنى؟ ويحتمل هم أن يكون فصلاً أو بدلاً
فيكون المفلحون خبراً عن أولئك، أو المبتدأ والمفلحون خبره،
والجملة من قوله: هم المفلحون في موضع خبر أولئك، وأحكام الفصل
وحكمة المجيء به مذكورة في كتب النحو.
وقد جمعت أحكام الفصل مجردة من غير دلائل
في نحو من ست ورقات، وإدخال هو في مثل هذا التركيب أحسن، لأنه
محل تأكيد ورفع توهم من يتشكك في المسند إليه الخبر أو ينازع
فيه، أو من يتوهم التشريك فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وأنه
هو أضحك وأبكى، وأنه هو أمات وأحيا} (النجم: 4344) ، وأنه هو
أغنى وأقنى} (النجم: 44) ، وقوله: وأنه خلق الزوجين الذكر
والأنثى} (النجم: 45) ، وأنه أهلك عادا الأولى} (النجم: 50) ،
كيف أثبت هو دلالة على ما ذكر، ولم يأت به في نسبة خلق الزوجين
وإهلاك عاد، إذ لا يتوهم إسناد ذلك لغير الله تعالى ولا الشركة
فيه. وأما الإضحاك والإبكاء والإماتة والإحياء والإغناء
والإقناء فقد يدعي ذلك، أو الشركة فيه متواقح كذاب كنمروذ.
وأما قوله تعالى: وأنه هو رب الشعرى} (النجم: 49) ، فدخول هو
للإعلام بأن الله هو رب هذا النجم، وإن كان رب كل شيء، لأن هذا
النجم عُبِد من دون الله واتُّخذ إلهاً، فأتى به لينبه بأن
الله مستبد بكونه رباً لهذا المعبود، ومن دونه لا يشاركه في
ذلك أحد. والألف واللام في المفلحون لتعريف العهد في الخارج أو
في الذهن، وذلك أنك إذا قلت: زيد المنطلق، فالمخاطب يعرف وجود
ذات صدر منها انطلاق، ويعرف زيداً ويجهل نسبة الانطلاق إليه،
وأنت تعرف كل ذلك فتقول له: زيد المنطلق، فتفيده معرفة النسبة
التي كان يجهلها، ودخلت هو فيه إذا قلت: زيد هو المنطلق.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْءَأَنذَرْتَهُمْ
أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَرِهِمْ غِشَوَةٌ
وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} .
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ
عَلَيْهِمْ} ، إن: حرف توكيد يتشبث بالجملة المتضمنة الإسناد
الخبري، فينصب المسند إليه، ويرتفع المسند وجوباً عند الجمهور،
ولها ولأخواتها باب معقود في النحو. وتأتي أيضاً حرف جواب
بمعنى نعم خلافاً لمن منع ذلك.
{ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}
إخبار بانتفاء إيمانهم على تقدير إنذارك وعدم إنذارك، وأما
سواء الواقع في الاستثناء في قولهم: قاموا سواك بمعنى قاموا
غيرك، فهو موافق لهذا في اللفظ، مخالف في المعنى، فهو من باب
المشترك، وله أحكام ذكرت في باب الاستثناء. الهمزة للنداء،
وزيد وللاستفهام الصرف، وذلك ممن يجهل النسبة فيسأل عنها، وقد
يصحب الهمزة التقرير: {أأنت قلت للناس} (المائدة: 116) ؟
والتحقيق: ألستم خير من ركب المطايا. والتسوية: سواء عليهم
أأنذرتهم} ، والتوبيخ: {أذهبتم طيباتكم} (الأحقاف: 20) ،
والإنكار أن يدنيه لمن قال جاء زيد، وتعاقب حرف القسم الله
لأفعلن. الإنذار: الإعلام مع التخويف في مدة تسع التحفظ من
المخوف، وإن لم تسع سمي إعلاماً وإشعاراً وإخباراً، ويتعدى إلى
اثنين: إنا أنذرناكم عذاباً قريباً} (النبأ: 40) ، فقل أنذرتكم
صاعقة} (فصلت: 13) ، والهمزة فيه للتعدية، يقال: نذر القوم إذا
علموا بالعدو. وأم حرف عطف، فإذا عادل الهمزة وجاء بعده مفرداً
أو جملة في معنى المفرد سميت أم متصلة، وإذا انخرم هذان
الشرطان أو أحدهما سميت منفصلة، وتقرير هذا في النحو، ولا تزاد
خلافاً لأبي زيد. لم حرف نفي معناه النفي وهو مما يختص
بالمضارع، اللفظ الماضي معنى، فعمل فيه ما يخصه، وهو الجزم،
وله أحكام ذكرت في النحو.
{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى
سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَرِهِمْ غِشَوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ
عظِيمٌ} الختم: الوسم بطابع أو غيره مما يوسم به. القلب: مصدر
قلب، والقلب: اللحمة الصنوبرية المعروفة سميت بالمصدر، وكني به
في القرآن وغيره عن العقل، وأطلق أيضاً على لب كل شيء وخالصه.
السمع: مصدر سمع سمعاً وسماعاً وكني به في بعض المواضع عن
الأذن. البصر: نور العين، وهو ما تدرك به المرئيات. الغشاوة:
الغطاء، غشاه أي غطاه، وتصحح الواو لأن الكلمة بنيت على تاء
التأنيث، كما صححوا اشتقاقه، وعلى تقدير إعراب الذين يؤمنون،
الأول والثاني مبتدأ، فإنما هو في معنى من تمام صفة المتقين،
وسواء وما بعده يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون لا موضع له من
الإعراب، ويكون جملة اعتراض من مبتدأ وخبر، بجعل سواء المبتدأ
والجملة بعده الخبر أو العكس، والخبر قوله: لا يؤمنون، ويكون
قد دخلت جملة الاعتراض تأكيداً لمضمون الجملة، لأن من أخبر
الله عنه أنه لا يؤمن استوى إنذاره وعدم إنذاره. والوجه
الثاني: أن يكون له موضع من الإعراب، وهو أن يكون في موضع خبر
إن، فيحتمل لا يؤمنون أن يكون له موضع من الإعراب، إما خبر بعد
خبر على ذهب من يجيز تعداد الأخبار، أو خبر مبتدأ محذوف أي هم
لا يؤمنون، وجوزوا فيه أن يكون في موضع الحال وهو بعيد، ويحتمل
أن يكون لا موضع له من الإعراب فتكون جملة تفسيرية لأن عدم
الإيمان هو استواء الإنذار وعدمه، كقوله تعالى: {وعد الله
الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة} (المائدة: 9) ، أو
يكون جملة دعائية وهو بعيد، وإذا كان لقوله تعالى: أأنذرتهم أم
لم تنذرهم} موضع من الإعراب فيحتمل أن يكون سواء خبر إن،
والجملة في موضع رفع على الفاعلية، وقد اعتمد بكونه خبر الذين،
والمعنى: إن الذين كفروا مستو إنذارهم وعدمه. وفي كون الجملة
تقع فاعلة خلاف مذهب جمهور البصريين أن الفاعل لا يكون إلا
اسماً أو ما هو في تقديره، ومذهب هشام
وثعلب وجماعة من الكوفيين جواز كون الجملة
تكون فاعلة، وأجازوا: يعجبني يقوم زيد، وظهر لي أقام زيد أم
عمرو، أي قيام أحدهما، ومذهب الفراء وجماعة: أنه إن كانت
الجملة معمولة لفعل من أفعال القلوب وعلق عنها، جاز أن تقع في
موضع الفاعل أو المفعول الذي لم يسم فاعله وإلا فلا، ونسب هذا
لسيبويه. قال أصحابنا: والصحيح المنع مطلقاً وتقرير هذا في
المبسوطات من كتب النحو. ويحتمل أن يكون قوله: {سواء عليهم
أأنذرتهم أم لم تنذرهم} مبتدأ وخبراً على التقديرين اللذين
ذكرناهما إذا كانت جملة اعتراض، وتكون في موضع خبر إن،
والتقديران المذكوران عن أبي علي الفارسي وغيره. وإذا جعلنا
سواء المبتدأ والجملة الخبر، فلا يحتاج إلى رابط لأنها المبتدأ
في المعنى والتأويل، وأكثر ما جاء سواء بعده الجملة المصدرة
بالهمزة المعادلة بأم {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا} (إبراهيم:
21) ، سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون} (الأعراف: 193) ،
وقد تحذف تلك الجملة للدلالة عليها، اصبروا أو لا تصبروا، سواء
عليكم} (الطور: 16) أي أصبرتم أم لم تصبروا، وتأتي بعده الجملة
الفعلية المتسلطة على اسم الاستفهام، نحو: سواء علي أي الرجال
ضربت، قال زهير:
سواء عليه أي حين أتيته
أساعة نحس تتقي أم بأسعد
وقد جاء بعده ما عري عن الاستفهام، وهو الأصل، قال:
سواء صحيحات العيون وعورها
وأخبر عن الجملة بأن جعلت فاعلاً بسواء أو مبتدأة، وإن لم تكن
مصدرة بحرف مصدري حملاً على المعنى وكلام العرب منه ما طابق
فيه اللفظ المعنى، نحو: قام زيد، وزيد قائم، وهو أكثر كلام
العرب، ومنه ما غلب فيه حكم اللفظ على المعنى، نحو: علمت أقام
زيد أم قعد، لا يجوز تقديم الجملة على علمت، وإن كان ليس ما
بعد علمت استفهاماً، بل الهمزة فيه للتسوية. ومنه ما غلب فيه
المعنى على اللفظ، وذلك نحو الإضافة للجملة الفعلية نحو:
على حين عاتبت المشيب على الصبا
إذ قياس الفعل أن لا يضاف إليه، لكن لوحظ
المعنى، وهو المصدر، فصحت الإضافة. والمفعول الثاني لأنذر
محذوف لدلالة المعنى عليه، التقدير أأنذرتهم العذاب على كفرهم
أم لم تنذرهموه؟
وقرأ الجمهور: غشاوة بكسر الغين ورفع التاء، وكانت هذه الجملة
ابتدائية ليشمل الكلام الإسنادين: إسناد الجملة الفعلية وإسناد
الجملة الابتدائية، فيكون ذلك آكد لأن الفعلية تدل على التجدد
والحدوث، والإسمية تدل على الثبوت. وكان تقديم الفعلية أولى
لأن فيها أن ذلك قد وقع وفرغ منه، وتقديم المجرور الذي هو على
أبصارهم مصحح لجواز الابتداء بالنكرة، مع أن فيه مطابقة
بالجملة قبله لأنه تقدم فيها الجزء المحكوم به. وهذه كذلك
الجملتان تؤول دلالتهما إلى معنى واحد، وهو منعهم من الإيمان،
ونصب المفضل غشاوة يحتاج إلى إضمار ما أظهر في قوله: {وجعل على
بصره غشاوة} ، أي وجعل على أبصارهم غشاوة، أو إلى عطف أبصارهم
على ما قبله ونصبها على حذف حرف الجر، أي بغشاوة، وهو ضعيف.
ويحتمل عندي أن تكون اسماً وضع موضع مصدر من معنى ختم، لأن
معنى ختم غشي وستر، كأنه قيل تغشية على سبيل التأكيد، وتكون
قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوماً عليها مغشاة. وقال أبو علي:
وقراءة الرفع أولى لأن النصب إما أن يحمله على ختم الظاهر
فيعرض في ذلك أنك حلت بين حرف العطف والمعطوف به، وهذا عندنا
إنما يجوز في الشعر، وما أن تحمله على فعل يدل عليه ختم تقديره
وجعل على أبصارهم فيجيء الكلام من باب:
متقلداً سيفاً ورمحاً
وقول الآخر:
علفتها تبناً وماء بارداً
ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حال سعة
واختيار، فقراءة الرفع أحسن، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة.
انتهى كلام أبي علي، رحمه الله تعالى. ولا أدري ما معنى قوله:
لأن النصب إنما يحمله على ختم الظاهر، وكيف تحمل غشاوة المنصوب
على ختم الذي هو فعل؟ هذا ما لا حمل فيه اللهم إلا إن أراد أن
يكون قوله تعالى: {ختم الله على قلوبهم} دعاء عليهم لا خبراً،
فإن ذلك يناسب مذهبه لاعتزاله، ويكون غشاة في معنى المصدر
المدعو به عليهم القائم مقام الفعل فكأنه قيل: وغشى الله على
أبصارهم، فيكون إذ ذاك معطوفاً على ختم عطف المصدر النائب مناب
فعله في الدعاء، نحو قولك: رحم الله زيداً وسقياً له، وتكون إذ
ذاك قد حلت بين غشاوة المعطوف وبين ختم المعطوف عليه بالجار
والمجرور. وأما إن جعلت ذلك خبراً محضاً وجعلت غشاوة في موضع
المصدر البدل عن الفعل في الخبر فهو ضعيف لا ينقاس ذلك بل
يقتصر فيه على مورد السماع.
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُءَامَنَّا بِاللَّهِ
وَبِالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ *
يُخَدِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَءَامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ
إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ
فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا
كَانُواْ يَكْذِبُونَ} .
من: موصولة، وشرطية، واستفهامية، ونكرة موصوفة.
يقول: القول: هو اللفظ الموضوع لمعنى وينطلق على اللفظ الدال
على النسبة الإسنادية، وهو الكلام وعلى الكلام النفساني،
ويقولون في أنفسهم: {لولا يعذبنا الله} (المجادلة: 8) ،
وتراكيبه الستة تدل على معنى الخفة والسرعة، وهو متعد لمفعول
واحد، فإن وقعت جملة محكية كانت في موضع المفعول، وللقول فصل
معقود في النحو.
{إلا أنفسهم} إلا: حرف، وهو أصل لذوات الاستثناء، وقد يكون ما
بعده وصفاً، وشرط الوصف به جواز صلاحية الموضع للاستثناء.
وأحكام إلا مستوفاة في علم النحو.
{فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ
اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ
يَكْذِبُونَ} ، المرض: مصدر مرض، ويطلق في اللغة على الضعف
والفتور، ومنه قيل: فلان يمرض الحديث أي يفسده ويضعفه.
وقيل: المرض: الفساد، وقال أهل اللغة: المرض والألم والوجع
نظائر. الزيادة: قبلها يتعدى إلى اثنين من باب أعطى وكسى، وقد
تستعمل لازماً نحو: زاد المال. {أليم} : فعيل من الألم بمعنى
مفعل، كالسميع بمعنى المسمع، أو للمبالغة وأصله ألم. كان: فعل
يدخل على المبتدأ والخبر بالشروط التي ذكرت في النحو، فيدل على
زمان مضمون الجملة فقط، أو عليه وعلى الصيرورة، وتسمى ناقصة
وتكتفي بمرفوع فتارة تكون فعلاً لازماً وتارة متعدياً، بمعنى
كفل أو غزل: كنت الصبي كفلت، وكنت الصوف غزلته، وهذا من غريب
اللغات، وقد تزاد ولا فاعل لها إذ ذاك خلافاً لأبي سعيد،
وأحكامها مستوفاة في النحو.
ومن في قوله: {ومن الناس} للتبعيض، وأبعد من ذهب إلى أنها
لبيان الجنس لأنه لم يتقدم شيء مبهم فيبين جنسه. والألف واللام
في الناس للجنس أو للعهد.
ومن: في قوله تعالى: {مَن يَقُولُ} نكرة
موصوفة مرفوعة بالابتداء، والخبر الجار والمجرور المتقدم
الذكر. {ويقول} : صفة، هذا اختيار أبي البقاء، وجوز الزمخشري
هذا الوجه. وكأنه قال: ومن الناس ناس يقولون كذا، كقوله: {من
المؤمنين رجال صدقوا} (الأحزاب: 23) قال: إن جعلت اللام للجنس
يعني في قوله: ومن الناس} ، قال: وإن جعلها للعهد فموصولة
كقوله: {ومنهم الذين يؤذون النبي} (التوبة: 61) . واستضعف أبو
البقاء أن تكون موصولة بمعنى الذي قال، لأن الذي يتناول قوماً
بأعيانهم، والمعنى هنا على الإبهام والتقدير، ومن الناس فريق
يقول: وما ذهب إليه الزمخشري من أن اللام في الناس، إن كانت
للجنس كانت من نكرة موصوفة، وإن كانت للعهد كانت موصولة، أمر
لا تحقيق له، كأنه أراد مناسبة الجنس للجنس والعهد للعهد، ولا
يلزم ذلك، بل يجوز أن تكون اللام للجنس ومن موصولة، ويجوز أن
تكون للعهد، ومن نكرة موصوفة فلا تلازم بين ما ذكره.
والذي نختار أن تكون من موصولة، وإنما
اخترنا ذلك لأنه الراجح من حيث المعنى ومن حيث التركيب الفصيح.
ألا ترى جعل من نكرة موصوفة إنما يكون ذلك إذا وقعت في مكان
يختص بالنكرة في أكثر كلام العرب، وهذا الكلام ليس من المواضع
التي تختص بالنكرة، وأما أن تقع في غير ذلك فهو قليل جداً، حتى
أن الكسائي أنكر ذلك وهو إمام نحو وسامع لغة، فلا نحمل كتاب
الله ما أثبته بعض النحويين في قليل وأنكر وقوعه أصلاً
الكسائي، فلذلك اخترنا أن تكون موصولة. ومن: من الأسماء التي
لفظها مفرد مذكر دائماً، وتنطلق عليه فروع المفرد والمذكر إذا
كان معناها كذلك فتارة يراعي اللفظ فيفرد ما يعود على من
مذكراً، وتارة يراعي المعنى فيحمل عليه ويطلق المعربون ذلك،
وفي ذلك تفصيل كثير ذكر في النحو. قال ابن عطية: من يقول آمنا
رجع من لفظ الواحد إلى لفظ الجمع بحسب لفظ من ومعناها وحسن ذلك
لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة، ولا يجوز أن يرجع متكلم من
لفظ جمع إلى توحد، لو قلت: ومن الناس من يقولون ويتكلم لم يجر،
انتهى كلامه، وما ذكر من أنه لا يرجع من لفظ جمع إلى توحد خطأ،
بل نص النحويون على جواز الجملتين، لكن البدء بالحمل على اللفظ
ثم على المعنى أولى من الابتداء بالحمل على المعنى، ثم يرجع
إلى الحمل على اللفظ، ومما رجع فيه إلى الإفراد بعد الجمع قول
الشاعر:
لست ممن يكع أو يستكينو
ن إذا كافحته خيل الأعادي
وفي بعض هذه المسائل تفصيل، كما أشرنا إليه. {ويقول} : أفرد
فيه الضمير مذكراً على لفظ من، {وآمنا} : جملة هي المقولة، فهي
في موضع المفعول وأتى بلفظ الجمع رعياً للمعنى.
والباء في {بمؤمنين} زائدة والموضع نصب لأن ما حجازية وأكثر
لسان الحجاز جر الخبر بالباء، وجاء القرآن على الأكثر، وجاء
النصب في القرآن في قوله: {ما هذا بشراً} (يوسف: 31) وما هنّ
أمّهاتهم} (المجادلة: 2) . وأما في أشعار العرب فزعموا أنه لم
يحفظ منه أيضاً إلا قول الشاعر:
وأنا النذير بحرة مسودة
تصل الجيوش إليكم أقوادها} أبناؤها متكنفون أباهم
حنقوا الصدور وما هم أولادها
ولا تختص زيادة الباء باللغة الحجازية، بل تزاد في لغة تميم
خلافاً لمن منع ذلك، وإنما ادعينا أن قوله: {بمؤمنين} في موضع
نصب لأن القرآن نزل بلغة الحجاز، لأنه حين حذفت الباء من الخبر
ظهر النصب فيه، ولها أحكام كثيرة في باب معقود في النحو. وإنما
زيدت الباء في الخبر للتأكيد، ولأجل التأكيد في مبالغة نفي
إيمانهم، جاءت الجملة المنفية إسمية مصدرة بهم، وتسلط النفي
على إسم الفاعل الذي ليس مقيداً بزمان ليشمل النفي جميع
الأزمان، إذ لو جاء اللفظ منسحباً على اللفظ المحكي الذي هو:
آمناً، لكان: وما آمنوا، فكان يكون نفياً للإيمان الماضي،
والمقصود أنهم ليسوا متلبسين بشيء من الإيمان في وقت مّا من
الأوقات، وهذا أحسن من أن يحمل على تقييد الإيمان المنفي، أي
وما هم بمؤمنين بالله واليوم الآخر، ولم يردّ الله تعالى عليهم
قولهم: آمنا، إنما رد عليهم متعلق القول وهو الإيمان، وفي ذلك
رد على الكرامية في قولهم: إن الإيمان قول باللسان وإن لم
يعتقد بالقلب. وهم في قوله: {وما هم بمؤمنين} عائد على معنى
من، إذ أعاد أولاً على اللفظ فأفرد الضمير في يقول، ثم أعاد
على المعنى فجمع. وهكذا جاء في القرآن أنه إذا اجتمع اللفظ
والمعنى بدىء باللفظ ثم أتبع بالحمل على المعنى. قال تعالى:
{ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا}
(التوبة: 49) ، ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن}
(التوبة: 75) الآية، ومن يقنت منكنّ لله ورسوله وتعمل صالحاً}
(الأحزاب: 31) .
وقراءة الجمهور: يخادعون الله، مضارع خادع.
وقرأ عبد الله وأبو حياة يخدعون الله، مضارع خدع المجرد،
ويحتمل قوله: {يخادعون الله} أن يكون مستأنفاً، كأن قائلاً
يقول: لم يتظاهرون بالإيمان وليسوا بمؤمنين في الحقيقة؟ فقيل:
يخادعون، ويحتمل أن يكون بدلاً من قوله: يقول آمنا، ويكون ذلك
بياناً، لأن قولهم: آمنا وليسوا بمؤمنين في الحقيقة مخادعة،
فيكون بدل فعل من فعل لأنه في معناه، وعلى كلا الوجهين لا موضع
للجملة من الإعراب. ويحتمل أن تكون الجملة في موضع الحال، وذو
الحال الضمير المستكن في يقول، أي: ومن الناس من يقول آمنا،
مخادعين الله والذين آمنوا. وجوّز أبو البقاء أن يكون حالاً،
والعامل فيها اسم الفاعل الذي هو: بمؤمنين، وذو الحال: الضمير
المستكن في اسم الفاعل. وهذا إعراب خطأ، وذلك أن ما دخلت على
الجملة فنفت نسبة الإيمان إليهم، فإذا قيدت تلك النسبة بحال
تسلط النفي على تلك الحال، وهو القيد، فنفته، ولذلك طريقان في
لسان العرب: أحدهما: وهو الأكثر أن ينتفي ذلك القيد فقط، ويكون
إذ ذاك قد ثبت العامل في ذلك القيد، فإذا قلت: ما زيد أقبل
ضاحكاً فمهومه نفي الضحك ويكون قد أقبل غير ضاحك، وليس معنى
الآية على هذا، إذ لا ينفي عنهم الخداع فقط، ويثبت لهم الإيمان
بغير خداع، بل المعنى: نفي الإيمان عنهم مطلقاً. والطريق
الثاني: وهو الأقل، أن ينتفي القيد وينتفي العامل فيه، فكأنه
قال في المثال السابق: لم يقبل زيد ولم يضحك: أي لم يكن منه
إقبال ولا ضحك. وليس معنى الآية على هذا، إذ ليس المراد نفي
الإيمان عنهم ونفي الخداع.
والعجب من أبي البقاء كيف تنبه لشيء من هذا
فمنع أن يكون يخادعون في موضع الصفة فقال: ولا يجوز أن يكون في
موضع جر على الصفة لمؤمنين، لأن ذلك يوجب نفي خداعهم، والمعنى
على إثبات الخداع، انتهى كلامه. فأجاز ذلك في الحال ولم يجز
ذلك في الصفة، وهما سواء، ولا فرق بين الحال والصفة في ذلك، بل
كل منهما قيد يتسلط النفي عليه، والله تعالى هو العالم الذي لا
يخفى عليه شيء.
ومن قرأ: وما يخادعون أو يخدعون مبنياً للمفعول، فانتصاب ما
بعد إلا على ما انتصب عليه زيد غبن رأيه، إما على التمييز على
مذهب الكوفيين، وإما على التشبيه بالمفعول به على ما زعم
بعضهم، وإما على إسقاط حرف الجر، أي: في أنفسهم، أو عن أنفسهم،
أو ضمن الفعل معنى ينتقضون ويستلبون، فينتصب على أنه مفعول به،
كما ضمن الرفث معنى الإفضاء فعدي بإلى في قوله: {الرفث إلى
نسائكم} (البقرة: 187) ، ولا يقال رفث إلى كذا، وكما ضمن هل لك
إلى أن تزكى} (النازعات: 18) ، معنى أجذبك، ولا يقال: إلا هل
لك في كذا. وفي قراءة: وما يخدعون، فالتشديد إما للتكثير
بالنسبة للفاعلين أو للمبالغة في نفس الفعل، إذ هو مصير إلى
عذاب الله وإما لموافقة فعل نحو: قدر الله وقدر، وقد تقدم ذكر
معاني فعل. وقراءة من قرأ: وما يخدعون، أصلها يختدعون فأدغم،
ويكون افتعل فيه موافقاً لفعل نحو: اقتدر على زيد، وقدر عليه،
وهو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل، وهي اثنا عشر معنى، وقد
تقدم ذكرها. وما يشعرون} : جملة معطوفة على: وما يخادعون إلا
أنفسهم، فلا موضع لها من الإعراب، ومفعول يشعرون محذوف تقديره
إطلاع الله نبيه على خداعهم وكذبهم، روي ذلك عن ابن عباس، أو
تقديره: هلاك أنفسهم وإيقاعها في الشقاء الأبدي بكفرهم
ونفاقهم، روي ذلك عن زيد. ويحتمل أن يكون وما يشعرون: جملة
حالية تقديره وما يخادعون إلا أنفسهم غير شاعرين بذلك، لأنهم
لو شعروا أن خداعهم لله وللمؤمنين إنما هو خداع
لأنفسهم لما خادعوا الله والمؤمنين. وجاء:
يخادعون الله بلفظ المضارع لا بلفظ الماضي لأن المضي يشعر
بالانقطاع بخلاف المضارع، فإنه يشعر في معرض الذم أو المدح
بالديمومة، نحو: زيد يدع اليتيم، وعمرو يقري الضيف.
{فَزَادَهُمُ} ، ولم يقل: فزادها، يحتمل وجهين: أحدهما: أن
يكون على حذف مضاف، أي فزاد الله قلوبهم مرضاً، والثاني: أنه
زاد ذواتهم مرضاً لأن مرض القلب مرض لسائر الجسد، فصح نسبة
الزيادة إلى الذوات، ويكون ذلك تنبيهاً على أن في ذواتهم
مرضاً، وإنما أضاف ذلك إلى قلوبهم لأنها محل الإدراك والعقل.
وأمال حمزة فزادهم في عشرة أفعال ألفها منقلبة عن ياء إلا
فعلاً واحداً ألفه منقلبة عن واو ووزنه فعل بفتح العين، إلا
ذلك الفعل فإن وزنه فعل بكسر العين، وقد جمعتها في بيتين في
قصيدتي المسماة، بعقد اللآلي في القراءآت السبع العوالي، وهما:
وعشرة أفعال تمال لحمزة
فجاء وشاء ضاق ران وكملا
بزاد وخاب طاب خاف معاً
وحاق زاغ سوى الأحزاب مع صادها فلا
يعني أنه قد استثنى حمزة، {وإذ زاغت الأبصار} ، في سورة
الأحزاب} (الآية: 10) ، {وإذا زاغت عنهم الأبصار} ، في سورة
ص،} (الآية: 63) ، فلم يملها.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ قَالُواْ
إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ
الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} .
الأرض: مؤنثة، وتجمع على أرض وأراض،
وبالواو والنون رفعاً وبالياء والنون نصباً وجراً شذوذاً،
فتفتح العين، وبالألف والتاء، قالوا: أرضات، والأراضي جمع جمع
كأواظب. إنما: ما: صلة لأن وتكفها عن العمل، فإن وليتها جملة
فعلية كانت مهيئة، وفي ألفاظ المتأخرين من النحويين وبعض أهل
الأصول إنها للحصر، وكونها مركبة من ما النافية، دخل عليها إن
التي للإثبات فأفادت الحصر، قول ركيك فاسد صادر عن غير عارف
بالنحو، والذي نذهب إليه أنها لا تدل على الحصر بالوضع، كما أن
الحصر لا يفهم من أخواتها التي كفت بما، فلا فرق بين: لعل
زيداً قائم، ولعل ما زيد قائم، فكذلك: إن زيداً قائم، وإنما
زيد قائم، وإذا فهم حصر، فإنما يفهم من سياق الكلام لا أن إنما
دلت عليه، وبهذا الذي قررناه يزول الإشكال الذي أوردوه في نحو
قوله تعالى: {إنما أنت منذر} (الرعد: 7) ، قل إنما أنا بشر}
(الكهف: 110) ، إنما أنت منذر من يخشاها} (النازعات: 45) .
وأعمال إنما قد زعم بعضهم أنه مسموع من لسان العرب، والذي عليه
أصحابنا أنه غير مسموع.
{نحن} : ضمير رفع منفصل لمتكلم معه غيره أو
لمعظم نفسه، وفي اعتلال بنائه على الضم أقوال تذكر في النحو.
{ألا} : حرف تنبيه زعموا أنه مركب من همزة الاستفهام ولا
النافية للدلالة على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على
النفي أفاد تحقيقاً، كقوله تعالى: {أليس ذلك بقادر} (القيامة:
40) ، ولكونها من المنصب في هذه لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا
مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم، وقال ذلك الزمخشري. والذي
نختاره أن ألا التنبيهية حرف بسيط، لأن دعوى التركيب على خلاف
الأصل، ولأن ما زعموا من أن همزة الاستفهام دخلت على لا
النافية دلالة على تحقق ما بعدها، إلى آخره خطاً، لأن مواقع
ألا تدلّ على أن لا ليست للنفي، فيتم ما ادعوه، ألا ترى أنك
تقول: ألا إن زيداً منطلق، ليس أصله لا أن زيداً منطلق، إذ ليس
من تراكيب العرب بخلاف ما نظر به من قوله تعالى: أليس ذلك
بقادر} (القيامة: 40) ، لصحة تركيب، ليس زيد بقادر، ولوجودها
قبل رب وقبل ليت وقبل النداء وغيرها مما لا يعقل فيه أن لا
نافية، فتكون الهمزة للاستفهام دخلت على لا النافية فأفادت
التحقيق، قام امرؤ القيس:
ألا رب يوم لك منهن صالح
ولا سيما يوم بدارة جلجل} وقال الآخر:
ألا ليت شعري كيف حادت وصلها
وكيف تراعي وصلة المتغيب
وقال الآخر:
ألا يا لقومي للخيال المشوق
وللدار تنأى بالحبيب ونلتقي
وقال الآخر:
ألا يا قيس والضحاك سيرا
فقد جاوزتما خمر الطريق
إلى غير هذا مما لا يصلح دخول لا فيه. وأما قوله: لا تكاد تقع
الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يلتقي به القسم فغير صحيح، ألا
ترى أن الجملة بعدها تستفتح، برب، وبليت، وبفعل الأمر،
وبالنداء، وبحبذا، في قوله:
ألا حبذا هند وأرض بها هند
ولا يلتقي بشيء من هذا القسم وعلامة ألا
هذه التي هي تنبيه واستفتاح صحة الكلام دونها، وتكون أيضاً حرف
عرض فيليها الفعل، وإن وليها الاسم فعلى إضمار الفعل، وحرف
جواب بقول القائل: ألم تقم فتقول: ألا بمعنى بلى؟ نقل ذلك صاحب
كتاب «وصف المباني في حروف المعاني» قال: وهو قليل شاذ، وأما
ألا التي للتمني في قولهم: إلا ماء، فذكرها النحاة في فصل لا
الداخل عليها الهمزة. لكن: حرف استدراك، فلا يجوز أن يكون ما
قبلها موافقاً لما بعدها، فإن كان نقيضاً أو ضداً جاز، أو
خلافاً ففي الجواز خلاف، وفي التصحيح خلاف. وحكى أبو القاسم بن
الرمال جواز أعمالها مخففة عن يونس، وحكى ذلك غيره عن الأخفش،
وحكى عن يونس أنها ليست من حروف العطف، ولم تقع في القرآن
غالباً إلا وواو العطف قبلها، ومما جاءت فيه من غير واو قوله
تعالى: {لكن الذين اتقوا ربهم} (آل عمران: 198) ، لكن الله
يشهد} (النساء: 166) ، وفي كلام العرب:
إن ابن ورقاء لا تخشى غوائله
لكن وقائعه في الحرب تنتظر}
وبقية أحكام لكن مذكورة في النحو. الكاف: حرف تشبيه تعمل الجر
وأسميتها مختصة عندنا بالشعر، وتكون زائدة وموافقة لعلى، ومن
ذلك قولهم: كخبر في جواب من قال كيف أصبحت، ويحدث فيها معنى
التعليل، وأحكامها مذكورة في النحو.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ}
جملة شرطية، ويحتمل أن تكون من باب عطف الجمل استئنافاً ينعي
عليهم قبائح أفعالهم وأقوالهم، ويحتمل أن يكون كلاماً، وفي
الثاني جزء كلام لأنها من تمام الصلة. وأجاز الزمخشري، وأبو
البقاء أن تكون معطوفة على يكذبون، فإذ ذاك يكون لها موضع من
الإعراب، وهو النصب، لأنها معطوفة على خبر كان، والمعطوف على
الخبر خبر، وهي إذ ذاك جزء من السبب الذي استحقوا به العذاب
الأليم. وعلى الاحتمالين الأولين لا تكون جزءاً من الكلام،
وهذا الوجه الذي أجازاه على أحد وجهي ما من قوله بما كانوا
يكذبون خطأ، وهو أن تكون ما موصولة بمعنى الذي، وذلك أن
المعطوف على الخبر خبر، فيكذبون قد حذف منه العائد على ما،
وقوله: وإذا قيل لهم إلى آخر الآية لا ضمير فيه يعود على ما،
فبطل أن يكون معطوفاً عليه، إذ يصير التقدير: ولهم عذاب أليم
بالذي كانوا، {إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن
مصلحون} ، وهذا كلام غير منتظم لعدم العائد. وأما وجهها الآخر،
وهو أن تكون ما مصدرية، فعلى مذهب الأخفش يكون هذا الإعراب
أيضاً خطأ، إذ عنده أن ما المصدرية اسم يعود عليها من صلتها
ضمير، والجملة المعطوفة عارية منه. وأما على مذهب الجمهور،
فهذا الإعراب شائع، ولم يذكر الزمخشري، وأبو البقاء إعراب هذا
سوى أن يكون معطوفاً على يكذبون، أو على يقول، وزعما أن الأول
وجه، وقد ذكرنا ما فيه، والذي نختاره الاحتمال الأول، وهو أن
تكون الجملة مستأنفة، كما قررناه، إذ هذه الجملة والجملتان
بعدها هي من تفاصيل الكذب ونتائج التكذيب. ألا ترى قولهم:
{إنما نحن مصلحون} ، وقولهم: {أنؤمن كما آمن السفهاء} ، وقولهم
عند لقاء المؤمنين {آمنا} كذب محض؟ فناسب جعل ذلك جملاً مستقلة
ذكرت لإظهار كذبهم ونفاقهم ونسبة السفه للمؤمنين واستهزائهم،
فكثر بهذه الجمل واستقلالها ذمهم والرد عليهم، وهذا أولى من
جعلها سيقت صلة جزء كلام لأنها إذ ذاك لا تكون
مقصودة لذاتها، إنما جيء بها معرفة للموصول
إن كان اسماً، ومتممة لمعناه إن كان حرفاً. والجملة بعد إذا في
موضع خفض بالإضافة، والعامل فيها عند الجمهور الجواب، فإذا في
الآية منصوبة بقوله: {إنما نحن مصلحون} . والذي نختاره أن
الجملة بعدها تليها هي الناصبة لإذا لأنها شرطية، وأن ما بعدها
ليس في موضع خفض بالإضافة، فحكمها حكم الظروف التي يجازى بها
وإن قصرت عن عملها الجزم. على أن من النحويين من أجاز الجزم
بها حملاً على متى منصوباً بفعل الشرط، فكذلك إذا منصوبة بفعل
الشرط بعدها، والذي يفسد مذهب الجهور جواز: إذا قمت فعمر
وقائم، لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها، وجواز وقوع إذا
الفجائية جواباً لإذا الشرطية، قال تعالى: {وإذا أذقنا الناس
رحمة من بعد ضراء مستهم} (يونس: 21) إذا لهم مكر في آياتنا،
وما بعد إذا الفجائية لا يعمل فيما قبلها، وحذف فاعل القول هنا
للإبهام، فيحتمل أن يكون الله تعالى، أو الرسول، أو بعض
المؤمنين، وكل من هذا قد قيل، والمفعول الذي لم يسم فاعله،
فظاهر الكلام أنها الجملة المصدرة بحرف النهي وهي: لا تفسدوا
في الأرض} ، إلا أن ذلك لا يجوز إلا على مذهب من أجاز وقوع
الفاعل جملة، وليس مذهب جمهور البصريين.
وقد تقدمت المذاهب في ذلك عند الكلام على
قوله تعالى: {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم، والمفعول الذي
لم يسم فاعله في ذلك حكمه حكم الفاعل، وتخريجه على مذهب جمهور
البصريين أن المفعول الذي لم يسمّ فاعله هو مضمر تقديره هو،
يفسره سياق الكلام كما فسر المضمر في قوله تعالى: حتى توارت
بالحجاب سياق الكلام والمعنى، وإذا قيل لهم قول شديد فأضمر هذا
القول الموصوف وجاءت الجملة بعده مفسرة، فلا موضع لها من
الإعراب لأنها مفسرة لذلك المضمر الذي هو القول الشديد، ولا
جائز أن يكون لهم في موضع المفعول الذي لم يسمّ فاعله لأنه لا
ينتظم منه مع ما قبله كلام، لأنه يبقي لا تفسدوا لا ارتباط له،
إذ لا يكون معمولاً للقول مفسراً له.
وزعم الزمخشري أن المفعول الذي لم يسم فاعله هو الجمة التي هي:
لا تفسدوا، وجعل ذلك من باب الإسناد اللفظي ونظره بقولك ألف
حرف من ثلاثة أحرف، ومنه زعموا مطية الكذب، قال: كأنه قيل،
وإذا قيل لهم هذا القول وهذا الكلام، انتهى. فلم يجعله من باب
الإسناد إلى معنى الجملة لأن ذلك لا يجوز على مذهب جمهور
البصريين، فعدل إلى الإسناد اللفظي، وهو الذي لا يختص به الاسم
بل يوجد في الإسم والفعل والحرف والجملة، وإذا أمكن الإسناد
المعنوي لم يعدل إلى الإسناد اللفظي، وقد أمكن ذلك بالتخريج
الذي ذكرناه. واللام في قوله: لهم، للتبليغ، وهو أحد المعاني
السبعة عشر الت ذكرناها للام عند كلامنا على قوله تعالى:
{الحمد لله.
وقابلوا النهي عن الإفساد بقولهم: {إنما
نحن مصلحون، فأخرجوا الجواب جملة اسمية لتدل على ثبوت الوصف
لهم، وأكدوها بإنما دلالة على قوة اتصافهم بالإصلاح. وفي
المعنى الذي اعتقدوا أنهم مصلحون. أقوال: أحدها:} قول ابن
عباس: إن ممالأتنا الكفار إنما نريد بها الإصلاح بينهم وبين
المؤمنين. والثاني: قول مجاهد وهو: أن تلك الممالأة هدى وصلاح
وليست بفساد. والثالث: أن ممالأه النفس والهوى صلاح وهدى.
والرابع: أنهم ظنوا أن في ممالأة الكفار صلاحاً لهم، وليس كذلك
لأن الكفار لو ظفروا بهم لم يبقوا عليهم، ولذلك قال: {ألا إنهم
هم المفسدون ولكن لا يشعرون. والخامس:} أنهم أنكروا أن يكونوا
فعلوا ما نهوا عنه من ممالأة الكفار، وقالوا: {إنما نحن مصلحون
باجتناب ما نهينا عنه.
ويحتمل هم أن يكون تأكيداً للضمير في أنهم وإن كان فصلاً، فعلى
هذين الوجهين يكون المفسدون خبراً لأن، وأن يكون مبتدأ ويكون
المفسدون خبره. والجملة خبر لأن، وقد تقدم ذكر فائدة الفصل عند
الكلام على قوله: {وأولئك هم المفلحون.
قالوا: ومفعول يشعرون محذوف لفهم المعنى تقديره أنهم مفسدون،
أو أنهم معذبون، أو أنهم ينزل بهم الموت فتقطع التوبة، والأولى
الأول.
والكلام على قوله تعالى: {وإذا قيل لهم آمنوا، كالكلام على
قوله تعالى: وإذا قيل لهم لا تفسدوا من حيث عطف هذه الجملة على
سبيل الاستئناف، أو عطفها على صلة من قوله: من يقول، أو عطفها
على يكذبون، ومن حيث العامل في إذا، ومن حيث حكم الجملة بعد
إذا، ومن حيث المفعول الذي لم يسم فاعله.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْءَامِنُواْ
كَمَآءَامَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ
السُّفَهَآءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَكِن لاَّ
يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَءَامَنُواْ
قَالُواءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَطِينِهِمْ
قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ *
اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَنِهِمْ
يَعْمَهُونَ} {وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن
كما آمن السفهاء، ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون} ،
السفه: الخفة. ومنه قيل للثوب الخفيف النسخ سفيه، وفي الناس
خفة الحلم، قاله ابن كيسان، أو البهت والكذب والتعمد خلاف ما
يعلم، قاله مؤرج، أو الظلم والجهل، قاله قطرب. والسفهاء جمع
سفيه، وهو جمع مطرد في فعيل الصحيح الوصف المذكر العاقل الذي
بينه وبين مؤنثه التاء، والفعل منه سفه بكسر العين وضمها، وهو
القياس لأجل اسم الفاعل. قالوا: ونقيض السفه: الرشد، وقيل:
الحكمة، يقال رجل حكيم، وفي ضده سفيه، ونظير السفه النزق
والطيش.
والكاف من قوله: {كما آمن الناس} في موضع
نصب، وأكثر المعربين يجعلون ذلك نعتاً لمصدر محذوف التقدير
عندهم: آمنوا إيماناً كما آمن الناس، وكذلك يقولون: في سير
عليه شديد، أو: سرت حثيثاً، إن شديداً وحثيثاً نعت لمصدر محذوف
التقدير: سير عليه سيراً شديداً، وسرت سيراً حثيثاً. ومذهب
سيبويه، رحمه الله، أن ذلك ليس بنعت لمصدر محذوف، وإنما هو
منصوب على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم
المحذوف بعد الإضمار على طريق الاتساع، وإنما لم يجز ذلك لأنه
يؤدي إلى حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في غير المواضع التي
ذكروها. وتلك المواضع أن تكون الصفة خاصة بجنس الموصوف، نحو:
مررت بكاتب ومهندس، أو واقعة خبراً، نحو: زيد قائم، أو حالاً،
نحو: مررت بزيد راكباً، أو وصفاً لظرف، نحو: جلست قريباً منك،
أو مستعملة استعمال الأسماء، وهذا يحفظ ولا يقاس عليه، نحو:
الأبطح والأبرق. وإذا خرجت الصفة عن هذه المواضع لم تكن إلا
تابعة للموصوف، ولا يكتفي عن الموصوف، ألا ترى أن سيبويه منع:
ألا ماء ولو بارداً وأن تقدم ما يدل على حذف الموصوف وأجاز:
ولو بارداً، لأنه حال، وتقرير هذا في كتب النحو. وما، من: {كما
آمن الناس} ، مصدرية التقدير كإيمان الناس، فينسبك من ما،
والفعل بعدها مصدر مجرور بكاف التشبيه التي هي نعت لمصدر
محذوف، أو حال على القولين السابقين، وإذا كانت ما مصدرية
فصلتها جملة فعلية مصدرة بماض متصرف أو مضارع، وشذ وصلها بليس
في قول الشاعر:
بما لستما أهل الخيانة والغدر
ولا توصل بالجملة الإسمية خلافاً لقوم، منهم: أبو الحجاج
الأعلم، مستدلين بقوله:
وجدنا الحمر من شر المطايا
كما الحبطات شر بني تميم
وأجاز الزمخشري، وأبو البقاء في ما من
قوله: كما آمن، أن تكون كافة للكاف عن العمل مثلها في: ربما
قام زيد، وينبغي أن لا تجعل كافة إلا في المكان الذي لا تتقدر
فيه مصدرية، لأن إبقاءها مصدرية مبق للكاف على ما استقر فيها
من العمل، وتكون الكاف إذ ذاك مثل حروف الجر الداخلة على ما
المصدرية، وقد أمكن ذلك في: كما آمن الناس، فلا ينبغي أن تجعل
كافة. والألف واللام في الناس يحتمل أن تكون للجنس، فكأنه قال:
الكاملون في الإنسانية، أو عبر بالناس عن المؤمنين لأنهم هم
الناس في الحقيقة، ومن عداهم صورته صورة الناس، وليس من الناس
لعدم تمييزه، كما قال الشاعر:
ليس من الناس ولكنه
يحسبه الناس من الناس
ويحتمل أن تكون الألف واللام للعهد، ويعني
به رسول الله صلى الله عليه وسلّموأصحابه، قاله ابن عباس، أو
عبد الله بن سلام، ونحوه ممن حسن إسلامه من اليهود، قاله
مقاتل، أو معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وأسيد بن الحضير، وجماعة
من وجوه الأنصار عدهم الكلبي. والأولى حملها على العهد، وأن
يراد به من سبق إيمانه قبل قول ذلك لهم، فيكون حوالة على من
سبق إيمانه لأنهم معلومون معهودون عند المخاطبين بالأمر
بالإيمان. والتشبيه في: {كما آمن الناس} إشارة إلى الإخلاص،
وإلا فهم ناطقون بكلمتي الشهادة غير معتقديها. أنؤمن: معمول
لقالوا، وهو استفهام معناه الإنكار أو الاستهزاء. ولما كان
المأمور به مشبهاً كان جوابهم مشبهاً في قولهم: {أنؤمن كما آمن
السفهاء} ، والقول في الكاف وما في هذا كالقول فيهما في: {كما
آمن الناس} . والألف واللام في السفهاء للعهد، فيعني به
الصحابة، قاله ابن عباس؛ أو الصبيان والنساء، قاله الحسن، أو
عبد الله بن سلام وأصحابه، قاله مقاتل، ويحتمل أن تكون للجنس
فيندرج تحته من فسر به الناس من المعهودين، أو الكاملون في
السفه، أو لأنهم انحصر السفه فيهم إذ لا سفيه غيرهم. وأبعد من
ذهب إلى أن الألف واللام للصفة الغالبة نحو: العيوق والدبران،
لأنه لم يغلب هذا الوصف عليهم، فصاروا إذا قيل: السفهاء، فهم
منه ناس مخصوصون، كما يفهم من العيوق نجم مخصوص. ويحتمل قولهم:
{كما آمن السفهاء} أن يكون ذلك من باب التعنت والتجلد حذراً من
الشماتة، وهم عالمون بأنهم ليسوا بسفهاء. ويحتمل أن يكون ذلك
من باب الاعتقاد الجزم عندهم، فيكونوا قد نسبوهم للسفه معتقدين
أنهم سفهاء، وذلك لما أخلوا به من النظر والفكر الصحيح المؤدّي
إلى إدراك الحق، وهم كانوا في رئاسة ويسار، وكان المؤمنون إذ
ذاك أكثرهم فقراء وكثير منهم موال، فاعتقدوا أن من كان بهذه
المثابة كان من السفهاء لأنهم اشتغلوا ما لا يجدي عندهم وكسلوا
عن طلب الرئاسة والغنى وما به
السؤدد في الدنيا، وذلك هو غاية السفه
عندهم. وفي قوله: {كما آمن السفهاء} إثبات منهم في دعواهم بسفه
المؤمنين أنهم موصوفون بضد السفه، وهو رزانة الأحلام ورجحان
العقول، فرد الله عليهم قولهم وأثبت أنهم هم السفهاء، وصدر
الجملة بألا التي للتنبيه لينادي عليهم المخاطبين بأنهم
السفهاء، وأكد ذلك بأن وبلفظ هم. وإذا التقت الهمزتان والأولى
مضمومة والثانية مفتوحة من كلمتين نحو: (السفهاء ألا) ، ففي
ذلك أوجه:
أحدها: تحقيق الهمزتين، وبذلك قرأ الكوفيون، وابن عامر.
والثاني: تحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واواً كحالها
إذا كانت مفتوحة قبلها ضمة في كلمة نحو: أواتي مضارع آتي، فاعل
من أتيت، وجؤن تقول: أواتي وجون، وبذلك قرأ الحرميان، وأبو
عمرو. والثالث: تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو، وتحقيق
الثانية. والرابع: تسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو
وإبدال الثانية واواً. وأجاز قوم وجهاً خامساً: وهو جعل الأولى
بين الهمزة والواو، وجعل الثانية بين الهمزة والواو، ومنع
بعضهم ذلك لأن جعل الثانية بين الهمزة والواو تقريباً لها من
الألف، والألف لا تقع بعد الضمة، والأعاريب الثلاثة التي جازت
في: هم، في قوله: {هم المفسدون} ، جائزة في: هم، من قوله: {هم
السفهاء} .
{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَءَامَنُواْ
قَالُواءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَطِينِهِمْ
قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ}
اللقاء: استقبال الشخص قريباً منه، والفعل منه لقي يلقى، وقد
يقال: لاقى، وهو فاعل بمعنى الفعل المجرّد، وسمع للقى أربعة
عشر مصدراً، قالوا: لقى، لقيا، ولقية، ولقاة، ولقاء، ولقاء،
ولقى، ولقي، ولقياء، ولقياء، ولقيا، ولقيانا، ولقيانة، وتلقاء.
الخلو: الانفراد، خلا به أي انفرد، أو المضي، {قد خلت من قبلكم
سنن} (آل عمران: 137) . الشيطان، فيعال عند البصريين، فنونه
أصلية من شطن، أي بعد، واسم الفاعل شاطن، قال أمية:
أيما شاطن عصاه عكاه
ثم يلقى في السجن والأكبال}
وقال رؤبة:
وفي أخاديد السياط المتن
شاف لبغي الكلب المشيطن
ووزنه فعلان عند الكوفيين، ونونه زائدة من شاط يشيط إذا هلك،
قال الشاعر:
قد تظفر العير في مكنون قائلة
وقد تشطو على أرماحنا البطل والشيطان كل متمرد من الجن والإنس
والدواب، قاله ابن عباس، وأنثاه شيطانة، قال الشاعر:
هي البازل الكوماء لا شيء غيرها
وشيطانة قد جن منها جنونها وشياطين: جمع
شيطان، نحو غراثين في جمع غرثان، وحكاه الغراء، وهذا على تقدير
أن نونه زائدة تكون نحو: غرثان، مع اسم معناه الصحبة اللائقة
بالمذكور، وتسكينها قبل حركة لغة ربيعة وغنم، قاله الكسائي.
وإذا سكنت فالأصح أنها اسم، وإذا ألقيت ألف اللام أو ألف
الوصل، فالفتح لغة عامّة العرب، والكسر لغة ربيعة، وتوجيه
اللغتين في النحو، ويستعمل ظرف مكان فيقع خبراً عن الجثة
والأحداث، وإذا أفرد نوّن مفتوحاً، وهي ثلاثي الأصل من باب
المقصور إذ ذاك لا من باب يد، خلافاً ليونس، وأكثر استعمال
معاً حال، نحو: جميعاً، وهي أخص من جميع لأنها تشرك في الزمان
نصاً، وجميع تحتمله. وقد سأل أحمد بن يحيى أحمد بن قادم عن
الفرق بين: قام عبد الله وزيد معاً، وقام عبد الله وزيد
جميعاً، قال: فلم يزل يركض فيها إلى الليل، وفرق ابن يحيى: بأن
جميعاً يكون القيام في وقتين وفي وقت واحد، وأما إذا قلت:
معاً، فيكون في وقت واحد.
قرأ ابن السميفع اليماني، وأبو حنيفة: وإذا لاقوا الذين، وهي
فاعل بمعنى الفعل المجرد، وهو أحد معاني فاعل الخمسة، والواو
المضمومة في هذه القراءة هي واو الضمير تحركت لسكون ما بعدها،
ولم تعد لام الكلمة المحذوفة لعروض التحريك في الواو
وقيل: بمعنى الباء، لأن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، وهذا
ضعيف، إذ نيابة الحرف عن الحرف لا يقول بها سيبويه، والخليل،
وتقرير هذا في النحو.
{وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَنِهِمْ يَعْمَهُونَ} يعمهون: جملة في
موضع الحال، نصب على الحال، إما من الضمير في يمدهم وإما من
الضمير في طغيانهم لأنه مصدر مضاف للفاعل، وفي طغيانهم يحتمل
أن يكون متعلقاً بيمدهم، ويحتمل أن يكون متعلقاً بيعمهون. ومنع
أبو البقاء أن يكون في طغيانهم ويعمهون حالين من الضمير في
يمدهم، قال: لأن العامل لا يعمل في حالين. انتهى كلامه.
وهذا الذي ذهب إليه يحتاج إلى تقييد، وهو
أن تكون الحالان لذي حال واحدة، فإن كانا لذوي حال جاز، نحو:
لقيت زيداً مصعداً منحدراً فأما إذا كانا لذي حال واحد، كما
ذكرناه، ففي إجازة ذلك خلاف. ذهب قوم إلى أن ذلك لا يجوز كما
لم يجز ذلك للعامل أن يقضي مصدرين، ولا ظرفي زمان، ولا ظرفي
مكان، فكذلك لا يقضي حالين. وخصص أهل هذا المذهب هذا القول بأن
لا يكون الثاني على جهة البدل، أو معطوفاً، فإنه إذا كانا كذلك
جازت المسألة. قال بعضهم: إلا أفعل التفضيل، فإنها تعمل في
ظرفي زمان، وظرفي مكان، وحالين لذي حال، فإن ذلك يجوز، وهذا
المذهب اختاره أبو الحسن بن عصفور. وذهب قوم إلى أنه يجوز
للعامل أن يعمل في حالين لذي حال واحد، وإلى هذا أذهب، لأن
الفعل الصادر من فاعل، أو الواقع بمفعول، يستحيل وقوعه في
زمانين، وفي مكانين. وأما الحالان فلا يستحيل قيامهما بذي حال
واحد، إلا إن كانا ضدين، أو نقيضين. فيجوز أن تقول: جاء زيد
ضاحكاً راكباً، لأنه لا يستحيل مجيئه وهو ملتبس بهذين الحالين.
فعلى هذا الذي قررناه من الفرق يجوز أن يجيء الحالان لذي حال
واحد، والعامل فيهما واحد.
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَلَةَ بِالْهُدَى
فَمَا رَبِحَت تِّجَرَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} .
الاشتراء والشراء بمعنى: الاستبدال بالشيء
والاعتياض منه، إلا أن الاشتراء يستعمل في الابتياع والبيع،
وهو مما جاء فيه افتعل بمعنى الفعل المجرد، وهو أحد المعاني
التي جاء لها افتعل. الربح: هو ما يحصل من الزيادة على رأس
المال. التجارة: هي صناعة التاجر، وهو الذي يتصرف في المال
لطلب النموّ والزيادة. المهتدي: اسم فاعل من اهتدى وافتعل فيه
للمطاوعة، هديته فاهتدى، نحو: سويته فاستوى، وغممته فاغتم.
والمطاوعة أحد المعاني التي جاءت لها افعل، ولا تكون افتعل
للمطاوعة مبنية إلا من الفعل المتعَدّي، وقد وهم من زعم أنها
تكون من اللازم، وأن ذلك قليل فيها، مستدلاً بقول الشاعر:
حتى إذا اشتال سهيل في السحر
كشعلة القابس ترمي بالشرر
لأن افتعل في البيت بمعنى، فعل. تقول: شال يشول، واشتال يشتال
بمعنى واحد، ولا تتعقل المطاوعة، إلا بأن يكون المطاوع
متعدياً.
أولئك: اسم أشير به إلى الذين تقدم ذكرهم، الجامعين للأوصاف
الذميمة من دعوى الإصلاح، وهم المفسدون، ونسبة السّفه
للمؤمنين، وهم السفهاء، والاستخفاف بالمؤمنين بإظهار الموافقة
وهم مع الكفار. وقرأ الجمهور: اشتروا الضلالة، بضم الواو. وقرأ
أبو السماك قعنب العدوي: اشتروا الضلالة بالفتح. ولاعتلال ضمة
الواو وجوه أربعة مذكورة في النحو، ووجه الكسر أنه الأصل في
التقاء الساكنين، نحو: {وأن لو استقاموا} (الجن: 16) ، ووجه
الفتح إتباعها لحركة الفتح قبلها. وأمال حمزة والكسائي الهدى،
وهي لغة بني تميم، والباقون بالفتح، وهي لغة قريش. والاشتراء
هنا مجاز كني به عن الاختيار، لأن المشتري للشيء مختار له
مؤثر، فكأنه قال: اختاروا الضلالة على الهدى، وجعل تمكنهم من
اتباع الهدى كالثمن المبذول في المشترى، وإنما ذهب في الاشتراء
إلى المجاز لعدم المعاوضة، إذ هي استبدال شيء في يدك لشيء في
يد غيرك، وهذا مفقود هنا.
وعطف: {فما ربحت} ، بالفاء، يدل على تعقب
نفي الربح للشراء، وأنه بنفس ما وقع الشراء تحقق عدم الربح.
وزعم بعض الناس أن الفاء في قوله: {فما ربحت تجارتهم} دخلت لما
في الكلام من معنى الجزاء والتقديران اشتروا. والذين إذا كان
في صلة فعل، كان في معنى الشرط، ومثله {الذين ينفقون أموالهم}
(البقرة: 274) ، وقع الجواب بالفاء في قوله: فلهم أجرهم}
(البقرة: 274) ، وكذلك الذي يدخل الدار فله درهم، انتهى. وهذا
خطأ لأن الذين ليس مبتدأ، فيشبه بالشرط الذي يكون مبتدأ، فتدخل
الفاء في خبره، كما تدخل في جواب الشرط. وأما الذين خبر عن
أولئك، وقوله: فما ربحت ليس بخبر، فتدخله الفاء، وإنما هي جملة
فعلية معطوفة على صلة الذين، فهي صلة لأن المعطوف على الصلة
صلة، وقوله وقع الجواب بالفاء في قوله: فلهم أجرهم} خطأ، لأنه
ليس بجواب، إنما الجملة خبر المبتدأ الذي هو ينفقون، ولا يجوز
أن يكون أولئك مبتدأ، والذين اشتروا مبتدأ، وفما ربحت تجارتهم
خبر عن الذين، والذين وخبره خبر عن أولئك لعدم الرابط في هذه
الجملة الواقعة خبراً لأولئك. ولتحقق مضي الصلة، وإذا كانت
الصلة ماضية معنى لم تدخل الفاء في خبر موصولها المبتدأ، ولا
يجوز أن يكون أولئك مبتدأ، والذين بدل منه، وفما ربحت خبر لأن
الخبر إنما تدخله الفاء لعموم الموصول، ولإبدال الذين من
أولئك، صار الذين مخصوصاً لأنه بدل من مخصوص، وخبر المخصوص لا
تدخله الفاء، ولأن معنى الآية ليس إلا على كون أولئك مبتدأ
والذين خبراً عنه.
وانتصاب مهتدين على أنه خبر كان، فهو منصوب بها وحدها خلافاً
لمن زعم أنه منصوب بكان والاسم معاً، وخلافاً لمن زعم أن أصل
انتصابه على الحال، وهو الفراء، قال: لشغل الإسم برفع كان، إلا
أنه لما حصلت الفائدة من جهته كان حالاً خبراً فأتى معرفة،
فقيل: كان أخوك زيداً تغليباً للخبر، لا للحال.
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ
نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ
بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ *
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} .
لما: حرف نفي يعمل الجزم وبمعنى إلا، وظرفاً بمعنى حين عند
الفارسي، والجواب عامل فيها إذ الجملة بعدها في موضع جر، وحرف
وجوب لوجوب عند سيبويه، وهو الصحيح لتقدمها على ما نفي بما،
ولمجيء جوابها مصدراً بإذا الفجائية. الإضاءة: الإشراق، وهو
فرط الإنارة. وحوله: ظرف مكان لا ينصرف، ويقال: حوال بمعناه،
ويثنيان ويجمع أحوال، وكلها لا تنصرف وتلزم الإضافة.
والرجوع، إن لم يتعد، فهو بمعنى: العود، وإن تعدى فبمعنى:
الإعادة. وبعض النحويين يقول: إنها تضمن معنى صار فتصير من باب
كان، ترفع الإسم وتنصب الخبر.
{مثلهم} : مبتدأ والخبر في الجار والمجرور بعده، والتقدير كائن
كمثل، كما يقدر ذلك في سائر حروف الجر. وقال ابن عطية: الخبر
الكاف، وهي على هذا اسم، كما هي في قول الأعشى:
أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط
كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
انتهى.
وهذا الذي اختاره ينبأ به غير مختار، وهو مذهب أبي الحسن، يجوز
أن تكون الكاف اسماً في فصيح الكلام، وتقدم أنا لا نجيزه إلا
في ضرورة الشعر، وقد ذكر ابن عطية الوجه الذي بدأنا به بعد ذكر
الوجه الذي اختاره، وأبعد من زعم أن الكاف زائدة مثلها في
قوله: فصيروا مثل: {كعصف مأكول} (الفيل: 5) . وحمله على ذلك،
والله أعلم، وتقدم الكلام على الذي، وتقدم قول الفارسي في أنه
يجري مجرى من في الإفراد والجمع، وقول الأخفش أنه مفرد في معنى
الجمع، والذي نختاره أنه مفرد لفظاً وإن كان في المعنى نعتاً
لما تحته أفراد، فيكون التقدير كمثل الجمع الذي استوقد ناراً
كأحد التأويلين في قوله:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم
ولا يحمل على المفرد لفظاً ومعنى بجمع
الضمير في {ذهب الله بنورهم} ، وجمعه في دمائهم. وأما من زعم
أن الذي هنا هو الذين وحذفت النون لطول الصلة، فهو خطأ لإفراد
الضمير في الصلة، ولا يجوز الإفراد للضمير لأن المحذوف
كالملفوظ به. ألا ترى جمعه في قوله تعالى: {وخضتم كالذي خاضوا}
(التوبة: 69) على أحد التأويلين، وجمعه في قول الشاعر:
يا رب عبس لا تبارك في أحد
في قائم منهم ولا فيمن قعدإلا الذي قاموا بأطراف المسد
وأما قول الفارسي: إنها مثل مَن، ليس كذلك
لأن الذي صيغة مفرد وثني وجمع بخلاف مَن، فلفظ مَن مفرد مذكر
أبداً وليس كذلك الذي، وقد جعل الزمخشري ذلك مثل قوله تعالى:
{وخضتم كالذي خاضوا} ، وأعل لتسويغ ذلك بأمرين، قال: أحدهما:
أن الذي لكونه صلة إلى وصف كل معرفة واستطالته بصلته حقيق
بالتخفيف، ولذلك نهكوه بالحذف، فحذفوا ياءه ثم كسرته ثم
اقتصروا على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين، وهذا الذي
ذكره من أنهم حذفوه حتى اقتصروا به على اللام، وإن كان قد
تقدمه إليه بعض النحويين، خطأ، لأنه لو كانت اللام بقية الذي
لكان لها موضع من الإعراب، كما كان للذي، ولما تخطى العامل إلى
أن يؤثر في نفس الصلة فيرفعها وينصبها ويجرها، ويجاز وصلها
بالجمل كما يجوز وصل الذي إذا أقرت ياؤه أو حذفت، قال:
والثاني: إن جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون، إنما ذلك
علامة لزيادة الدلالة، ألا ترى أن سائر الموصولات لفظ الجمع
والواحد فيهن سواء؟ انتهى. وما ذكره من أن جمعه ليس بمنزلة جمع
غيره بالواو والنون صحيح من حيث اللفظ، وأما من حيث المعنى
فليس كذلك، بل هو مثله من حيث المعنى، ألا ترى أنه لا يكون
واقعاً إلا على من اجتمعت فيه شروط ما يجمع بالواو والنون من
الذكورية والعقل؟ ولا فرق بين الذين يفعلون والفاعلين من جهة
أنه لا يكون إلا جمعاً لمذكر عاقل، ولكنه لما كان مبنياً التزم
فيه طريقة واحدة في اللفظ عند أكثر العرب، وهذيل أتت بصيغة
الجمع فيه بالواو والنون رفعاً والياء والنون نصباً وجراً، وكل
العرب التزمت جمع الضمير العائد عليه من صلته كما يعود على
الجمع المذكر العاقل، فدل هذا كله على أن ما ذكره ليس بمسوغ
لأن يوضع الذي موضع الذين إلا على التأويل الذي ذكرناه من
إرادة الجمع أو النوع، وقد رجع إلى ذلك الزمخشري أخيراً.
وقرأ ابن السميفع: كمثل الذين، على الجمع،
وهي قراءة مشكلة، لأنا قد ذكرنا أن الذي إذا كان أصله الذين
فحذفت نونه تخفيفاً لا يعود الضمير عليه إلا كما يعود على
الجمع، فكيف إذا صرح به؟ وإذا صحت هذه القراءة فتخريجها عندي
على وجوه: أحدها: أن يكون إفراد الضمير حملاً على التوهم
المعهود مثله في لسان العرب، كأنه نطق بمن الذي هو لفظ ومعنى،
كما جزم بالذي من توهم أنه نطق بمن الشرطية، وإذا كان التوهم
قد وقع بين مختلفي الحد، وهو إجراء الموصول في الجزم مجرى اسم
الشرط، فبالحري أن يقع بين متفقي الحد، وهو الذين، ومن
الموصولان مثال الجزم بالذي، قول الشاعر، أنشده ابن الأعرابي:
كذاك الذي يبغي على الناس ظالماً
تصبه على رغم عواقب ما صنع الثاني: أن يكون إفراد الضمير، وإن
كان عائداً على جمع اكتفاء بالإفراد عن الجمع كما تكتفي
بالمفرد الظاهر عن الجمع، وقد جاء مثل ذلك في لسان العرب، أنشد
أبو الحسن:
وبالبدو منا أسرة يحفظوننا
سراع إلى الداعي عظام كراكره
أي كراكرهم.
والثالث: أن يكون الفاعل الذي في استوقد ليس عائداً على الذين،
وإنما هو عائد على اسم الفاعل المفهوم من استوقد، التقدير
استوقد هو، أي المستوقد، فيكون نحو قوله تعالى: {ثم بدا لهم من
بعد ما رأوا الآيات} (يوسف: 35) أي هو أي البداء المفهوم من
بدا على أحد التأويلات في الفاعل في الآية، وفي العائد على
الذين وجهان على هذا التأويل. أحدهما:} أن يكون حذف وأصله لهم،
أي كمثل الذي استوقد لهم المستوقد ناراً وإن لم تكن فيه شروط
الحذف المقيس، فيكون مثل قول الشاعر:
ولو أن ما عالجت لين فؤادها
فقسا استلين به للآن الجندل
يريد ما عالجت به، فحذف حرف الجر والضمير،
وإن لم يكن فيه شروط الحذف المقيس، وهي مذكورة في مبسوطات كتب
النحو، وضابطها أن يكون الضمير مجروراً بحرف جر ليس في موضع
رفع، وأن يكون الموصول، أو الموصوف به الموصول، أو المضاف
للموصول قد جر بحرف مثل ذلك الحرف لفظاً ومعنى، وأن يكون الفعل
الذي تعلق به الحرف الذي جر الضمير، مثل ذلك الفعل الذي تعلق
به الحرف السابق. والوجه الثاني: أن تكون الجملة الأولى
الواقعة لا عائد فيها، لكن عطف عليها جملة بالفاء، وهي جملة
لما وجوابها، وفي ذلك عائد على الذي، فحصل الربط بذلك العائد
المتأخر، فيكون شبيهاً بما أجازوه من الربط في باب الابتداء من
قولهم: زيد جاءت هند فضربتها، ويكون العائد على الذين الضمير
الذي في جواب لما، وهو قوله تعالى: {ذهب الله بنورهم} ، ولم
يذكر أحد ممن وقفنا على كلامه تخريج قراءة ابن السميفع.
والفاء في فلما للتعقيب، وهي عاطفة جملة الشرط على جملة الصلة،
ومن زعم أنها دخلت لما تضمنته الصلة من الشرط وقدره أن استوقد
فهو فاسد من وجوه، وقد تقدم الرد على ما يشبه هذا الزعم في
قوله: {فما ربحت تجارتهم} ، فأغنى عن إعادته هنا.
وأضاءت: قيل متعد وقيل لازم ومتعد، قالوا:
وهو أكثر وأشهر، فإذا كان متعدياً كانت الهمزة فيه للنقل، إذ
يقال: ضاء المكان، كما قال العباس بن عبد المطلب، في النبي
عليه الصلاة والسلام: وأنت لما ولدت أشرقت الأرض وضاءت بنورك
الأفق. والفاعل إذ ذاك ضمير النار وما مفعولة وحوله صلة معمولة
لفعل محذوف لا نكرة موصوفة وحوله صفة لقلة استعمال ما نكرة
موصوفة، وقد تقدم لنا الكلام في ذلك، أي فلما أضاءت النار
المكان الذي حوله، وإذا كان لازماً فقالوا: إن الضمير في أضاءت
للنار، وما زائدة، وحوله ظرف معمول للفعل، ويجوز أن يكون
الفاعل ليس ضمير النار، وإنما هو ما الموصولة وأنث على المعنى،
أي: فلما أضاءت الجهة التي حوله، كما أنثوا على المعنى في
قولهم: ما جاءت حاجتك. وقد ألم الزمخشري بهذا الوجه، وهذا أولى
مما ذكروه لأنه لا يحفظ من كلام العرب: جلست ما مجلساً حسناً،
ولا قمت ما يوم الجمعة، والحمل على المعنى محفوظ، كما ذكرناه،
ولو سمع زيادة في ما نحو هذا، لم يكن ذلك من مواضع اطراد زيادة
ما، والأولى في الآية بعد ذلك أن يكون أضاءت متعدية، فلا تحتاج
إلى تقدير زيادة، ولا حمل على المعنى.
وقرأ ابن السميفع، وابن أبي عبلة: فلما
ضاءت ثلاثياً فيتخرج على زيادة ما وعلى أن تكون هي الفاعلة،
إما موصولة وإما موصوفة، كما تقدم، ولما جوابها: {ذهب الله
بنورهم} ، وجمع الضمير في: بنورهم حملاً على معنى الذي، إذ
قررنا أن المعنى كالجمع الذي استوقد، أو على ذلك المحذوف الذي
قدره بعضهم، وهو كمثل أصحاب الذي استوقد، وأجازوا أن يكون جواب
لما محذوفاً لفهم المعنى، كما حذفوه في قوله: {فلما ذهبوا به
وأجمعوا} (يوسف: 15) ، الآية. قال الزمخشري: وإنما جاز حذفه
لاستطالة الكلام مع أمن الإلباس الدال عليه، انتهى. وقوله:
لاستطالة الكلام غير مسلم لأنه لم يستطل الكلام، لأنه قدره
خمدت، وأي استطالة في قوله: فلما أضاءت ما حوله} ، خمدت؟ بل
هذا لما وجوابها، فلا استطالة بخلاف قوله: {فلما ذهبوا به} ،
فإن الكلام قد طال بذكر المعاطيف التي عطفت على الفعل وذكر
متعلقاتها بعد الفعل الذي يلي لما، فلذلك كان الحذف سائغاً
لاستطالة الكلام. وقوله: مع أمن الإلباس، وهذا أيضاً غير مسلم،
وأي أمن إلباس في هذا ولا شيء يدل على المحذوف؟ بل الذي يقتضيه
ترتيب الكلام وصحته ووضعه مواضعه أن يكون {ذهب الله بنورهم} هو
الجواب، فإذا جعلت غيره الجواب مع قوة ترتب ذهاب الله بنورهم
على الإضاءة، كان ذلك من باب اللغز، إذ تركت شيئاً يبادر إلى
الفهم وأضمرت شيئاً يحتاج في تقديره إلى وحي يسفر عنه، إذ لا
يدل على حذفه اللفظ مع وجود تركيب {ذهب الله بنورهم} .
ولما جوز واحذف الجواب تكلموا في قوله
تعالى: {ذهب الله بنورهم} ، فخرجوا ذلك على وجهين: أحدهما: أن
يكون مستأنفاً جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما بالهم قد أشبهت
حالهم حال هذا المستوقد؟ فقيل: ذهب الله بنورهم. والثاني: أن
يكون بدلاً من جملة التمثيل على سبيل البيان، قالهما الزمخشري،
وكلا الوجهين مبنيان على أن جواب لما محذوف، وقد اخترنا غيره
وأنه قوله تعالى: {ذهب الله بنورهم} والوجه الثاني من
التخريجين اللذين تقدم ذكرهما، وهو أن يكون قوله: {ذهب الله
بنورهم} بدلاً من جملة التمثيل، على سبيل البيان، لا يظهر في
صحته، لأن جملة التمثيل هي قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد
ناراً} ، فجعله {ذهب الله بنورهم} بدلاً من هذه الجملة، على
سبيل البيان، لا يصح، لأن البدل لا يكون في الجمل إلا إن كانت
الجملة فعلية تبدل من جملة فعلية، فقد ذكروا جوازه. ذلك. أما
أن تبدل جملة فعلية من جملة إسمية فلا أعلم أحداً أجاز ذلك،
والبدل على نية تكرار العامل. والجملة الأولى لا موضع لها من
الإعراب لأنها لم تقع موقع المفرد، فلا يمكن أن تكون الثانية
على نية تكرار العامل، إذ لا عامل في الأولى فتكرر في الثانية
فبطلت جهة البدل فيها، ومن جعل الجواب محذوفاً جعل الضمير في
بنورهم عائداً على المنافقين. والباء في بنورهم للتعدية، وهي
إحدى المعاني الأربعة عشر التي تقدم أن الباء تجيء لها، وهي
عند جمهور النحويين ترادف الهمزة. فإذا قلت: خرجت بزيد؛
فمعناه: أخرجت زيداً، ولا يلزم أن تكون أنت خرجت، وذهب أبو
العباس إلى أنك إذا قلت: قمت بزيد، دل على أنك قمت وأقمته،
وإذا قلت: أقمت زيداً، لم يلزم أنك قمت، ففرق بين الباء
والهمزة في التعدية. وإلى نحو من مذهب أبي العباس ذهب السهيلي،
قال: تدخل الباء، يعني المعدية، حيث تكون من الفاعل بعض مشاركة
للمفعول في ذلك الفعل نحو: أقعدته، وقعدت به، وأدخلته الدار،
ودخلت به، ولا يصح هذا في مثل: أمرضته، وأسقمته. فلا
بد إذن من مشاركة، ولو باليد، إذا قلت:
قعدت به، ودخلت به. ورد على أبي العباس بهذه الآية ونحوها.
والذي يفسد مذهب أبي العباس من التفرقة بين الباء والهمزة قول
الشاعر:
ديار التي كانت ونحن على منى
تحل بنا لولا نجاء الركائب
أي تحلنا، ألا ترى أن المعنى تصيرنا حلالاً غير محرمين، وليست
تدخل معهم في ذلك لأنها لم تكن حراماً، فتصير حلالاً بعد ذلك؟
ولكون الباء بمعنى الهمزة لا يجمع بينهما، فلا يقال: أذهبت
بزيد، ولقوله تعالى: {تنبت بالدهن} (المؤمنون: 20) ، في قراءة
من جعله رباعياً تخريج يذكر في مكانه، إن شاء الله تعالى.
ولباء التعدية أحكام غير هذا ذكرت في النحو. وقرأ اليماني:
أذهب الله نورهم، وهذا يدل على مرادفة الباء للهمزة.
وقرأ الجمهور: {في ظلمات} بضم اللام، وقرأ
الحسن، وأبو السماك: بسكون اللام، وقرأ قوم: بفتحها. وهذه
اللغى الثلاث جائزة في جمع فعلة الاسم الصحيح العين، غير
المضعف، ولا المعل اللام بالتاء. فإن اعتلت بالياء نحو: كلية،
امتنعت الضمة، أو كان مضعفاً نحو: درة، أو معتل العين نحو:
سورة، أو وصفاً نحو: بهمة امتنعت الفتحة والضمة. وقرأ قوم: إن
ظلمات، بفتح اللام جمع ظلم، الذي هو جمع ظلمة. فظلمات على هذا
جمع جمع، والعدول إلى الفتح تخفيفاً أسهل من ادعاء جمع الجمع،
لأن العدول إليه قد جاء في نحو: كسرات جمع كسرة جوازاً، وإليه
في نحو: جفنة وجوباً. وفعلة وفعلة أخوات، وقد سمع فيها الفتح
بالقيود التي تقدمت، وجمع الجمع ليس بقياس، فلا ينبغي أن يصار
إليه إلا بدليل قاطع. وقرأ اليماني: في ظلمة، على التوحيد
ليطابق بين إفراد النور والظلمة وقراءة الجمع، لأن كل واحد له
ظلمة تخصه، فجمعت لذلك. وحيث وقع ذكر النور والظلمة في القرآن
جاء على هذا المنزع من إفراد النور وجمع الظلمات. وتكررت
الظلمات ولم تضف إلى ضميرهم كما أضيف النور اكتفاء بما دل عليه
المعنى من إضافتها إليهم من جهة المعنى واختصار اللفظ، وإن كان
ترك متعدياً لواحد فيحتمل أن يكون: في ظلمات، في موضع الحال من
المفعول، فيتعلق بمحذوف، {ولا يبصرون} في موضع الحال أيضاً،
إما من الضمير في تركهم وإمّا من الضمير المستكن في المجرور
فيكون حالاً متداخلة، وهي في التقديرين حال مؤكدة. ألا ترى أن
من ترك في ظلمة لزم من ذلك أنه لا يبصر؟ وإن كان ترك مما يتعدى
إلى اثنين كان في ظلمات في موضع المفعول الثاني، ولا يبصرون
جملة حالية؟ ولا يجوز أن يكون في ظلمات في موضع الحال، ولا
يبصرون جملة في موضع المفعول الثاني، وإن كان يجوز ظننت زيداً
منفرداً لا يخاف، وأنت تريد ظننت زيداً في حال انفراده لا يخاف
لأن المفعول الثاني أصله خبر المبتدأ، وإذا كان كذلك فلا يأتي
الخبر على جهة التأكيد،
إنما ذلك على سبيل بعض الأحوال لا الإخبار.
فإذا جعلت في ظلمات في موضع الحال كان قد فهم منها أن من هو في
ظلمة لا يبصر، فلا يكون في قوله لا يبصرون من الفائدة إلا
التوكيد، وذلك لا يجوز في الإخبار. ألا ترى إلى تخريج النحويين
قول امرىء القيس:
إذا ما بكى من خلفها انحرفت له
بشق وشق عندنا لم يحول
على أن وشق مبتدأ وعندنا في موضع الخبر، ولم يحول جملة حالية
أفادت التأكيد، وجاز الابتداء بالنكرة لأنه موضع الخبر، لأنه
يؤدي إلى مجيء الخبر مؤكداً، لأن نفي التحويل مفهوم من كون
الشق عنده، فإذا استقر عنده ثبت أنه لم يحول عنه.
قرأ الجمهور: {صم بكم عمي} ، بالرفع وهو على إضمار مبتدأ
تقديره هم صم، وهي أخبار متباينة في اللفظ والدلالة الوضعية،
لكنها في موضع خبر واحد.
وقرأ عبد الله بن مسعود، وحفصة أم المؤمنين: صماً بكماً عمياً،
بالنصب، وذكروا في نصبه وجوهاً: أحدها: أن يكون مفعولاً ثانياً
لترك، ويكون في ظلمات متعلقاً بتركهم، أو في موضع الحال، ولا
يبصرون. حال. الثاني: أن يكون منصوباً على الحال من المفعول في
تركهم، على أن تكون لا تتعدى إلى مفعولين، أو تكون تعدت إليهما
وقد أخذتهما. الثالث: أن يكون منصوباً بفعل محذوف تقديره:
أعني. الرابع: أن يكون منصوباً على الحال من الضمير في يبصرون،
وفي ذلك نظر. الخامس: أن يكون منصوباً على الذم، صماً بكماً،
فيكون كقول النابغة:
أقارع عوف لا أحاول غيرها
وجوه قرود تبتغي من تخادع
وفي الوجوه الأربعة السابقة لا يتعين أن
تكون الأوصاف الثلاثة من أوصاف المنافقين، إذ هي متعلقة في
العمل بما قبلها، وما قبلها الظاهر أنه من أوصاف المستوقدين،
إلا إن جعل الكلام في حال المستوقد قد تم عند قوله: {فلما
أضاءت ما حوله} ، وكان الضمير في نورهم يعود على المنافقين،
فإذ ذاك تكون الأوصاف الثلاثة لهم. وأما في الوجه الخامس فيظهر
أنها من أوصاف المنافقين، لأنها حالة الرفع من أوصافهم. ألا
ترى أن التقدير هم صم، أي المنافقون؟ فكذلك في النصب. ونص بعض
المفسرين على ضعف النصب على الذم، ولم يبين جهة الضعف، ووجهه:
أن النصب على الذم إنما يكون حيث يذكر الإسم السابق فتعدل عن
المطابقة في الإعراب إلى القطع، وهاهنا لم يتقدم اسم سابق تكون
هذه الأوصاف موافقة له في الإعراب فتقطع، فمن أجل هذا ضعف
النصب على الذم. فهم لا يرجعون: جملة خبرية معطوفة على جملة
خبرية، وهي من حيث المعنى مترتبة على الجملة السابقة
ومتعقبتها.
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَتٌ وَرَعْدٌ
وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْبِعَهُمْ فِىءَاذَانِهِم مِّنَ
الصَّوَعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ
بِالْكفِرِينَ} .
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ فِيهِ
ظُلُمَتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} . أو، لها خمسة معان: الشك،
والإبهام، والتخيير، والإباحة، والتفصيل. وزاد الكوفيون أن
تكون بمعنى الواو وبمعنى بل، وكان شيخنا أبو الحسن بن الصائغ
يقول: أو لأحد الشيئين أو الأشياء. وقال السهيلي: أو للدلالة
على أحد الشيئين من غير تعيين، ولذلك وقعت في الخبر المشكوك
فيه من حيث أن الشك تردد بين أمرين من غير ترجيح، لا أنها وضعت
للشك، فقد تكون في الخبر، ولا شك إذا أبهمت على المخاطب. وأما
التي للتخيير فعلى أصلها لأن المخبر إنما يريد أحد الشيئين،
وأما التي زعموا أنها للإباحة فلم تؤخذ الإباحة من لفظ أو ولا
من معناها، إنما أخذت من صيغة الأمر مع قرائن الأحوال، وإنما
دخلت لغلبة العادة في أن المشتغل بالفعل الواحد لا يشتغل
بغيره، ولو جمع بين المباحين لم يعص، علماً بأن أو ليست معتمدة
هنا.
ووزن صيب فيعل عند البصريين، وهو من الأوزان المختصة بالمعتل
العين، إلا ما شذ في الصحيح من قولهم: صيقل بكسر القاف علم
لامرأة، وليس وزنه فعيلاً، خلافاً للفراء. وقد نسب هذا المذهب
للكوفيين وهي مسألة يتكلم عليها في علم التصريف. وقد تقدم
الكلام على تخفيف مثل هذا.
{يَجْعَلُونَ أَصْبِعَهُمْ فِىءَاذَانِهِم
مِّنَ الصَّوَعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ
بِالْكفِرِينَ} . جعل: يكون بمعنى خلق أو بمعنى ألقى فيتعدى
لواحد، وبمعنى صير أو سمى فيتعدى لاثنين، وللشروع في الفعل
فتكون من أفعال المقاربة، تدخل على المبتدأ والخبر بالشروط
المذكورة في بابها. الأصبع: مدلولها مفهوم، وهي مؤنثة، وذكروا
فيها تسع لغات وهي: الفتح للهمزة، وضمها، وكسرها مع كل من ذلك
للباء. وحكوا عاشرة وهي: أصبوع، بضمها، وبعد الباء واو. وجميع
أسماء الأصابع مؤنثة إلا الإبهام، فإن بعض بني أسد يقولون: هذا
إبهام، والتأنيث أجود، وعليه العرب غير من ذكر. الأذن: مدلولها
مفهوم، وهي مؤنثة، كذلك تلحقها التاء في التصغير قالوا: أذينة،
ولا تلحق في العدد، قالوا: ثلاث آذان، قال أبو ثروان في أحجية
له:
ما ذو ثلاث آذان
يسبق الخيل بالرديان
يريد السهم وآذانه وقدده.
أو كصيب: معطوف على قوله: {كمثل الذي
استوقد} (البقرة: 17) ، وحذف مضافان، إذ التقدير: أو: كمثل ذوي
صيب، نحو قوله تعالى: كالذي يغشى عليه من الموت} (الأحزاب: 19)
، أي كدوران عين الذي يغشى عليه. وأو هنا للتفصيل، وكان من نظر
في حالهم منهم من يشبهه بحال المستوقد، ومنهم من يشبهه بحال
ذوي صيب، ولا ضرورة تدعو إلى كون أو للتخيير. وإن المعنى أيهما
شئت مثلهم به، وإن كان الزجاج وغيره ذهب إليه، ولا إلى أن أو
للإباحة، ولا إلى أنها بمعنى الواو، كما ذهب إليه الكوفيون
هنا. ولا إلى كون أو للشك بالنسبة للمتخاطبين، إذ يستحيل وقوعه
من الله تعالى، ولا إلى كونها بمعنى بل، ولا إلى كونها
للإبهام، لأن التخيير والإباحة إنما يكونان في الأمر أو ما في
معناه. وهذه جملة خبرية صرف. ولأن أو بمعنى الواو، أو بمعنى
بل، لم يثبت عند البصريين، وما استدل به مثبت ذلك مؤوّل، ولأن
الشك بالنسبة إلى المخاطبين، أو الإبهام بالنسبة إليهم لا معنى
له هنا، وإنما المعنى الظاهر فيها كونها للتفصيل.
والكاف في موضع رفع لأنها معطوفة على ما موضعه رفع. والجملة من
قوله: {ذهب الله بنورهم} (البقرة: 17) إذا قلنا ليست جواب لما
جملة اعتراض فصل بها بين المعطوف والمعطوف عليه، وكذلك أيضاً
صم بكم عمي} (البقرة: 18) إذا قلنا إن ذلك من أوصاف المنافقين.
فعلى هذين القولين تكون الجملتان جملتي اعتراض بين المعطوف
والمعطوف عليه، وقد منع ذلك أبو علي، وردّ عليه بقول الشاعر:
لعمرك والخطوب مغيرات
وفي طول المعاشرة التقالي} لقد باليت مظعن أمّ أوفى
ولكن أمّ أوفى لا تبالي
ففصل بين القسم وجوابه بجملتي الاعتراض. {من السماء} متعلق
بصيب فهو في موضع نصب ومن فيه لابتداء الغاية، ويحتمل أن تكون
في موضع الصفة فتعلق بمحذوف، وتكون من إذ ذاك للتبعيض، ويكون
على حذف مضاف التقدير، أو كمطر صيب من أمطار السماء.
و {ظلمات} : مرتفع بالجار والمجرور على
الفاعلية، لأنه قد اعتمد إذا وقع صفة، ويجوز أن تكون فيه من
موضع الحال من النكرة المخصصة بقوله: {من السماء} ، إما تخصيص
العمل، وإما تخصيص الصفة على ما قدمناه من الوجهين في إعراب
{من السماء} ، وأجازوا أن يكون {ظلمات} مرفوعاً بالابتداء،
وفيه في موضع الخبر. والجملة في موضع الصفة، ولا حاجة إلى هذا
لأنه إذا دار الأمر بين أن تكون الصفة من قبيل المفرد، وبين أن
تكون من قبيل الجمل، كان الأولى جعلها من قبيل المفرد.
الإعراب، لأنها جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فكيف حالهم مع مثل
ذلك الرعد؟ فقيل: يجعلون، وقل: الجملة لها موضع من الإعراب وهو
الجر لأنها في موضع الصفة لذوي المحذوف، كأنه قيل: جاعلين،
وأجاز بعضهم أن تكون في موضع نصب على الحال من الضمير الذي هو
الهاء في فيه. والراجع على ذي الحال محذوف نابت الألف واللام
عنه التقدير من صواعقه، ومن تتعلق بقوله يجعلون، وهي سببية، أي
من أجل الصواعق وحذر الموت مفعول من أجله، وشروط المفعول من
أجله موجودة فيه، إذ هو مصدر متحد بالعامل فاعلاً وزماناً،
هكذا أعربوه، وفيه نظر لأن قوله: {من الصواعق} هو في المعنى
مفعول من أجله، ولو كان معطوفاً لجاز، كقول الله تعالى:
{ابتغاء مرضات الله} (البقرة: 207 و 265) وتثبيتاً من أنفسهم}
(البقرة: 265) ، وقول الراجز:
يركب كل عاقر جمهور
مخافة وزعل المحبور والهول من تهول الهبور
وقالوا أيضاً: يجوز أن يكون مصدراً، أي يحذرون حذر الموت، وهو
مضاف للمفعول. وقرأ قتادة، والضحاك بن مزاحم، وابن أبي ليلى:
حذار الموت، وهو مصدر حاذر، قالوا: وانتصابه على أنه مفعول له.
وهذه الجملة اعتراضية لأنها دخلت بين هاتين الجملتين اللتين
هما: {يجعلون أصابعهم} ، و {يكاد البرق} ، وهما من قصة واحدة.
{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَرَهُمْ
كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ
عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ
بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَرِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ
قَدِيرٌ} .
يكاد: مضارع كاد التي هي من أفعال المقاربة، ووزنها فعل يفعل،
نحو خاف يخاف، منقلبة عن واو، وفيها لغتان: فعل كما ذكرنا،
وفعل، ولذلك إذا اتصل بها ضمير الرفع لمتكلم أو مخاطب أو نون
إناث ضموا الكاف فقالوا: كدت، وكدت، وكدن، وسمع نقل كسر الواو
إلى الكاف، مع ما إسناده لغير ما ذكر قول الشاعر:
وكيدت ضباع القف يأكلن جثتي
وكيد خراش عند ذلك ييتم يريد، وكادت، وكاد،
وليس، من أفعال المقاربة ما يستعمل منها مضارع إلا: كاد،
وأوشك. وهذه الأفعال هي من باب كان، ترفع الإسم وتنصب الخبر،
إلا أن خبرها لا يكون إلا مضارعاً، ولها باب معقود في النحو،
وهي نحو من ثلاثين فعلاً ذكرها أبو إسحاق البهاري في كتابه
«شرح جمل الزجاجي» وقال بعض المفسرين: يكاد فعل ينفي المعنى مع
إيجابه ويوجبه مع النفي، وقد أنشدوا في ذلك شعراً يلغز فيه
بها، وهذا الذي ذكر هذا المفسر هو مذهب أبي الفتح وغيره،
والصحيح عند أصحابنا أنها كسائر الأفعال في أن نفيها نفي
وإيجابها إيجاب، والاحتجاج للمذهبين مذكور في كتب النحو. كل:
للعموم، وهو اسم جمع لازم للإضافة، إلا أن ما أضيف إليه يجوز
حذفه ويعوض منه التنوين، وقيل: هو تنوين الصرف، وإذا كان
المحذوف معرفة بقيت كل على تعريفها بالإضافة، فيجيء منها
الحال، ولا تعرف باللام عند الأكثرين، وأجاز ذلك الأخفش،
والفارسي، وربما انتصب حالاً، والأصل فيها أن تتبع توكيداً
كأجمع، وتستعمل مبتدأ، وكونها كذلك أحسن من كونها مفعولاً،
وليس ذلك بمقصور على السماع ولا مختصاً بالشعر خلافاً لزاعمه.
وإذا أضيفت كل إلى نكرة أو معرفة بلام الجنس حسن أن تلي
العوامل اللفظية، وإذا ابتدىء بها مضافة لفظاً إلى نكرة طابقت
الأخبار وغيرها ما تضاف إليه وإلى معرفة، فالأفصح إفراد العائد
أو معنى لا لفظاً، فالأصل، وقد يحسن الإفراد وأحكام كل كثيرة.
وقد ذكرنا أكثرها في كتابنا الكبير الذي سميناه بـ «التذكرة» ،
وسردنا منها جملة لينتفع بها، فإنها تكررت في القرآن كثيراً.
{لو} : عبارة سيبويه، إنها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وهو
أحسن من قول النحويين إنها حرف امتناع لامتناع.
وتكون لو أيضاً شرطاً في المستقبل بمعنى أن، ولا يجوز الجزم
بها خلافاً لقوم، قال الشاعر:
لا يلفك الراجوك إلا مظهراً
خلق الكرام ولو تكون عديماً
وتشرب لو معنى التمني، وسيأتي الكلام على
ذلك عند قوله تعالى: {فلو أن لنا كرة فنتبرأ منهم} (البقرة:
167) ، إن شاء الله تعالى، ولا تكون موصولة بمعنى أن خلافاً
لزاعم ذلك. شاء} : بمعنى أراد، وحذف مفعولها جائز لفهم المعنى،
وأكثر ما يحذف مع لو، لدلالة الجواب عليه. قال الزمخشري: ولقد
تكاثر هذا الحذف في شاء وأراد، يعني حذف مفعوليهما، قال: لا
يكادون يبرزون هذا المفعول إلا في الشيء المستغرب، نحو قوله:
فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته
وقوله تعالى: {لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه} (الأنبياء:
17) ، ولو أراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى} (الزمر: 4) ، انتهى
كلامه. قال صاحب التبيان، وذلك بعد أن أنشد قوله:
فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته
عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
متى كان مفعول المشيئة عظيماً أو غريباً، كان الأحسن أن يذكر
نحو: لو شئت أن ألقى الخليفة كل يوم لقيته، وسر ذكره أن السامع
منكر لذلك، أو كالمنكر، فأنت تقصد إلى إثباته عنده، فإن لم يكن
منكراً فالحذف نحو: لو شئت قمت. وفي التنزيل: {لو نشاء لقلنا
مثل هذا} (الأنفال: 31) ، انتهى. وهو موافق لكلام الزمخشري.
وليس ذلك عندي على ما ذهبنا إليه من أنه إذا كان في مفعول
المشيئة غرابة حسن ذكره، وإنما حسن ذكره في الآية والبيت من
حيث عود الضمير، إذ لو لم يذكر لم يكن للضمير ما يعود عليه،
فهما تركيبان فصيحان، وإن كان أحدهما أكثر. فأحدهما} الحذف
ودلالة الجواب على المحذوف، إذ يكون المحذوف مصدراً دل عليه
الجواب، وإذا كانوا قد حذفوا أحد جزأي الإسناد، وهو الخبر في
نحو: لولا زيد لأكرمتك، للطول بالجواب، وإن كان المحذوف من غير
جنس المثبت فلأن يحذف المفعول الذي هو فضلة لدلالة الجواب
عليه، إذ هو مقدر من جنس المثبت أولى. والثاني: أن يذكر مفعول
المشيئة فيحتاج أن يكون في الجواب ضمير يعود على ما قبله، نحو
قوله تعالى: {لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه} (الأنبياء: 17)
، وقول الشاعر:
فلو شئت أن أبكي دماً لبكيته
وأما إذا لم يدل على حذفه دليل فلا يحذف، نحو قوله تعالى لمن
شاء منكم أن يستقيم: {لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر}
(المدثر: 37) .
الجملة من قوله: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} لا موضع لها من
الإعراب إذ هي مستأنفة جواب قائل قال: فكيف حالهم مع ذلك
البرق؟ فقيل: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} ، ويحتمل أن تكون في
موضع جر صفة لذوي المحذوفة التقدير كائد البرق يخطف أبصارهم،
والألف واللام في البرق للعهد، إذ جرى ذكره نكرة في قوله: {فيه
ظلمات ورعد وبرق} (البقرة: 19) ، فصار نظير: لقيت رجلاً فضربت
الرجل، وقوله تعالى: أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون
الرسول} (المزمل: 16) . وقرأ مجاهد، وعلي بن الحسين، ويحيى بن
زيد: يخطف بسكون الخاء وكسر الطاء، قال ابن مجاهد: وأظنه غلطاً
واستدل على ذلك بأن أحداً لم يقرأ بالفتح إلا من خطف الخطفة}
(الصافات: 10) . وقال الزمخشري: الفتح، يعني في المضارع أفصح،
انتهى. والكسر في طاء الماضي لغة قريش، وهي أفصح، وبعض العرب
يقول: خطف بفتح الطاء، يخطف بالكسر. قال ابن عطية، ونسب
المهدوي هذه القراءة إلى الحسن وأبي رجاء، وذلك وهم. وقرأ علي،
وابن مسعود: يختطف. وقرأ أبي: يتخطف. وقرأ الحسن أيضاً: يخطف،
بفتح الياء والخاء والطاء المشددة. وقرأ الحسن أيضاً،
والجحدري، وابن أبي إسحاق: يخطف، بفتح الياء، والخاء وتشديد
الطاء المكسورة، وأصله يختطف. وقرأ الحسن أيضاً، وأبو رجاء،
وعاصم الجحدري، وقتادة: يخطف، بفتح الياء وكسر الخاء والطاء
المشددة. وقرأ أيضاً الحسن، والأعمش: يخطف، بكسر الثلاثة
وتشديد الطاء. وقرأ زيد بن علي: يخطف، بضم الياء وفتح الخاء
وكسر الطاء المشددة من خطف، وهو تكثير مبالغة لا تعدية. وقرأ
بعض أهل المدينة: يخطف، بفتح الياء وسكون الخاء وتشديد الطاء
المكسورة، والتحقيق أنه اختلاس لفتحة الخاء لا إسكان، لأنه
يؤدّي إلى التقاء الساكنين على غير
حد التقائهما.
فهذا الحرف قرىء عشر قراءات: السبعة يخطف، والشواذ: يخطف يختطف
يتخطف يخطف وأصله يتخطف، فحذف التاء مع الياء شذوذاً، كما
حذفها مع التاء قياساً. يخطف يخطف يخطف يخطف، والأربع الأخر
أصلها يختطف فعرض إدغام التاء في الطاء فسكنت التاء للإدغام
فلزم تحريك ما قبلها، فإما بحركة التاء، وهي الفتح مبينة أو
مختلسة، أو بحركة التقاء الساكنين، وهي الكسر. وكسر الياء
اتباع لكسرة الخاء، وهذه مسألة إدغام اختصم به، وهي مسألة
تصريفية يختلف فيها اسم المفعول والمصدر، وتبيين ذلك في علم
التصريف. ومن فسر البرق بالزجر والوعيد قال: يكاد ذلك يصيبهم.
ومن مثله بحجج القرآن وبراهينه الساطعة قال: المعنى يكاد ذلك
يبهرهم.
وكل: منصوب على الظرف وسرت إليه الظرفية من إضافته لما
المصدرية الظرفية لأنك إذا قلت: ما صحبتني أكرمتك، فالمعنى
مدّة صحبتك لي أكرمك، وغالب ما توصل به ما هذه بالفعل الماضي،
وما الظرفية يراد بها العموم، فإذا قلت: أصحبك ما ذر لله شارق،
فإنما تريد العموم. فكل هذه أكدت العموم الذي أفادته ما
الظرفية، ولا يراد في لسان العرب مطلق الفعل الواقع صلة لما،
فيكتفى فيه بمرة واحدة، ولدلالتها على عموم الزمان جزم بها بعض
العرب.
وما أضاء: في موضع خفض بالإضافة، إذ التقدير كل إضاءة، وهو على
حذف مضاف أيضاً، معناه: كل وقت إضاءة، فقام المصدر مقام الظرف،
كما قالوا: جئتك خفوق النجم. والعامل في كلما قوله: مشوا فيه،
وأضاء عند المبرد هنا متعد التقدير، كلما أضاء لهم البرق
الطريق.
وقرأ يزيد بن قطيب والضحاك: وإذا أظلم مبنياً للمفعول، وأصل
أظلم أن لا يتعدى، يقال: أظلم الليل. وظاهر كلام الزمخشري أن
أظلم يكون متعدياً بنفسه لمفعول، فلذلك جاز أن يبنى لما لم يسم
فاعله. قال الزمخشري: أظلم على ما لم يسم فاعله، وجاء في شعر
حبيب بن أوس الطائي:
هما أظلما حاليّ ثمت أجليا
ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب
وهو أن كان محدثاً لا يستشهد بشعره في
اللغة، فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه.
ألا ترى إلى قول العلماء الدليل عليه بيت الحماسة، فيقتنعون
بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه، انتهى كلامه. فظاهره كما قلنا
أنه متعدّ وبناؤه لما لم يسم فاعله، ولذلك استأنس بقول أبي
تمام: هما أظلما حالي، وله عندي تخريج غير ما ذكر الزمخشري،
وهو أن يكون أظلم غير متعدّ بنفسه لمفعول، ولكنه يتعدى بحرف
جر. ألا ترى كيف عدي أظلم إلى المجرور بعلى؟ فعلى هذا يكون
الذي قام مقام الفاعل أو حذف هو الجار والمجرور، فيكون في موضع
رفع، وكان الأصل: وإذا أظلم الليل عليهم، ثم حذف، فقام الجار
والمجرور مقامه، نحو: غضب زيد على عمرو، ثم تحذف زيداً وتبني
الفعل للمفعول فتقول: غضب على عمرو، فليس يكون التقدير إذ ذاك:
وإذا أظلم الله الليل، فحذفت الجلالة وأقيم ضمير الليل مقام
الفاعل. وأما ما وقع في كلام حبيب فلا يستشهد به، وقد نقد على
أبي علي الفارسي الاستشهاد بقول حبيب:
من كان مرعى عزمه وهمومه
روض الأماني لم يزل مهزولاً
وكيف يستشهد بكلام من هو مولد، وقد صنف الناس فيما وقع له من
اللحن في شعره؟
ومفعول شاء هنا محذوف للدلالة عليه التقدير: ولو شاء الله
إذهاب سمعهم وأبصارهم. والكلام في الباء في بسمعهم كالكلام
فيها في: {ذهب الله بنورهم} (البقرة: 17) ، هذا السياق الذي
نوقل في ذروة الإحسان وتمكن في براعة أقسام البديع وبلاغة
معاني البيان.
{يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ
خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
* الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأٌّرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَآءَ
بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَرَتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ
أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
يا: حرف نداء، وزعم بعضهم أنها اسم فعل
معناها: أنادي، وعلى كثرة وقوع النداء في القرآن لم يقع نداء
إلا بها، وهي أعم حروف النداء، إذ ينادى بها القريب والبعيد
والمستغاث والمندوب. وأمالها بعضهم، وقد تتجرد للتنبيه فيليها
المبتدأ والأمر والتمني والتعليل، والأصح أن لا ينوي بعدها
منادى. أي: استفهام وشرط وصفة ووصلة لنداء ما فيه الألف
واللام، وموصولة، خلافاً لأحمد بن يحيى، إذ أنكر مجيئها
موصولة، ولا تكون موصوفة خلافاً للأخفش. ها: حرف تنبيه، أكثر
استعمالها مع ضمير رفع منفصل مبتدأ مخبر عنه باسم إشارة
غالباً، أو مع اسم إشارة لا لبعد، ويفصل بها بين أي في النداء
وبين المرفوع بعده، وضمها فيه لغة بني مالك من بني أسد،
يقولون: يا أيه الرجل، ويا أيتها المرأة.
وعطف قوله: {والذين من قبلكم} على الضمير المنصوب في خلقكم،
والمعطوف متقدّم في الزمان على المعطوف عليه وبدأ به، وإن كان
متأخراً في الزمان، لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه
بأحوال غيره.
وأي في أيها منادى مفرد مبني على الضم، وليست الضمة فيه حركة
إعراب خلافاً للكسائي والرياشي، وهي وصلة لنداء ما فيه الألف
واللام ما لم يمكن أن ينادى توصل بنداء أي إلى ندائه، وهي في
موضع نصب، وهاء التنبيه كأنها عوض مما منعت من الإضافة وارتفع
الناس على الصفة على اللفظ، لأن بناء أي شبيه بالإعراب، فلذلك
جاز مراعاة اللفظ، ولا يجوز نصبه على الموضع، خلافاً لأبي
عثمان. وزعم أبو الحسن في أحد قوليه أن أيا في النداء موصولة
وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ محذوف، فإذا قال: يا أيها الرجل،
فتقديره: يا من هو الرجل. والكلام على هذا القول وقول أبي
عثمان مستقصى في النحو.
وقرأ ابن السميفع: وخلق من قبلكم، جعله من
عطف الجمل. وقرأ زيد بن علي: {والذين من قبلكم} فتح ميم من،
قال الزمخشري: وهي قراءة مشكلة ووجهها على إشكالها أن يقال:
أقحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيداً، كما أقحم جرير
في قوله:
يا تيم تيم عدي لا أبا لكم
تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه، وكإقحامهم لام الإضافة
بين المضاف والمضاف إليه في لا أبا لك، انتهى كلامه. وهذا
التخريج الذي خرج الزمخشري قراءة زيد عليه هو مذهب لبعض
النحويين زعم أنك إذا أتيت بعد الموصول بموصول آخر في معناه
مؤكد له، لم يحتج الموصول الثاني إلى صلة، نحو قوله:
من النفر اللائي الذين أذاهم
يهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا
فإذا وجوابها صلة اللائي، ولا صلة للذين، لأنه إنما أتى به
للتأكيد. قال أصحابنا: وهذا الذي ذهب إليه باطل، لأن القياس
إذا أكد الموصول أن تكرره مع صلته لأنها من كماله، وإذا كانوا
أكدوا حرف الجر أعادوه مع ما يدخل عليه لافتقاره إليه، ولا
يعيدونه وحده إلا في ضرورة، فالأحرى أن يفعل مثل ذلك بالموصول
الذي الصلة بمنزلة جزء منه. وخرج أصحابنا البيت على أن الصلة
للموصول الثاني وهو خبر مبتدأ محذوف، ذلك المبتدأ والموصول في
موضع الصلة للأول تقديره من النفر اللائي هم الذين أذاهم، وجاز
حذف المبتدأ وإضماره لطول خبره، فعلى هذا يتخرج قراءة زيد أن
يكون قبلكم صلة من، ومن خبر مبتدأ محذوف، وذلك المبتدأ وخبره
صلة للموصول الأول وهو الذين، التقدير والذين هم من قبلكم.
وعلى قراءة الجمهور تكون صلة الذين قوله: {من قبلكم} ، وفي ذلك
إشكال، لأن الذين أعيان، ومن قبلكم جار ومجرور ناقص ليس في
الإخبار به عن الأعيان فائدة، فكذلك الوصل به إلا على تأويل،
وتأويله أنه يؤول إلى أن ظرف الزمان إذا وصف صح وقوعه خبراً
نحو: نحن في يوم طيب، كذلك يقدر هذا والذين كانوا من زمان قبل
زمانكم.
والموصول الثاني في قوله: {الذي جعل} يجوز
رفعه ونصبه، فرفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، فهو رفع على
القطع، إذ هو صفة مدح، قالوا: أو على أنه مبتدأ خبره قوله:
{فلا تجعلوا لله أنداداً} ، وهو ضعيف لوجهين: أحدهما: أن صلة
الذي وما عطف عليها قد مضيا، فلا يناسب دخول الفاء في الخبر.
الثاني: أن ذلك لا يتمشى إلا على مذهب أبي الحسن، لأن من
الروابط عنده تكرار المبتدأ بمعناه، فالذي مبتدأ، و {فلا
تجعلوا لله أنداداً} جملة خبرية، والرابط لفظ الله من لله كأنه
قيل: {فلا تجعلوا لله أنداداً} ، وهذا من تكرار المبتدأ
بمعناه. ولا نعرف إجازة ذلك إلا عن أبي الحسن. أجاز أن تقول:
زيد قام أبو عمرو، إذا كان أبو عمرو كنية لزيد، ونص سيبويه على
منع ذلك. وأما نصبه فيجوز أن يكون على القطع، إذ هو وصف مدح،
كما ذكرنا، ويجوز أن يكون وصفاً لما كان له وصفاً الذي خلقكم،
وهو ربكم، قالوا: ويجوز نصبه على أن يكون نعتاً لقوله: {الذي
خلقكم} ، فيكون نعتاً للنعت ونعت النعت مما يحيل تكرار النعوت.
والذي نختاره أن النعت لا ينعت، بل النعوت كلها راجعة إلى
منعوت واحد، إلا إن كان ذلك النعت لا يمكن تبعيته للمنعوت،
فيكون إذ ذاك نعتاً للنعت الأول، نحو قولك: يا أيها الفارس ذو
الجمة. وأجاز أبو محمد مكي نصبه بإضمار أعني، وما قبله ليس
بملتبس، فيحتاج إلى مفسر له بإضمار أعني، وأجاز أيضاً نصبه
بتتقون، وهو إعراب غث ينزه القرآن عن مثله. وإنما أتى بقوله
الذي دون واو لتكون هذه الصفة وما قبلها راجعين إلى موصوف
واحد، إذ لو كانت بالواو لأوهم ذلك موصوفاً آخر، لأن العطف
أصله المغايرة.
وجعل: بمعنى صير، لذلك نصبت الأرض. وفراشاً، ولكم متعلق بجعل،
وأجاز بعضهم أن ينتصب فراشاً وبناء على الحال، على أن يكون جعل
بمعنى خلق، فيتعدى إلى واحد.
والثانية جملة صالحة بنفسها أن تكون صلة
تامة لولا عطفها، ومن متعلقة بأنزل وهي لابتداء الغاية، ويحتمل
أن تتعلق بمحذوف على أن تكون في موضع الحال من ماء، لأنه لو
تأخر لكان نعتاً فلما تقدم انتصب على الحال، ومعناها إذ ذاك
التبعيض، ويكون في الكلام مضاف محذوف أي من مياه السماء ونكر
ماء لأن المنزل لم يكن عاماً فتدخل عليه الألف واللام وإنما هو
ما صدق عليه الاسم. فأخرج به: والهاء في به عائدة إلى الماء،
والباء معناها السببية. فالماء سبب للخروج، كما أن ماء الفحل
سبب في خلق الولد، وهذه السببية مجاز، إذ الباري تعالى قادر
على أن ينشىء الأجناس، وقد أنشأ من غير مادة ولا سبب، ولكنه
تعالى لما أوجد خلقه في بعض الأشياء عند أمر ما، أجرى ذلك
الأمر مجرى السبب لا أنه سبب حقيقي. ولله تعالى في إنشاء
الأمور منتقلة من حال إلى حال حكم يستنصر بها، لم يكن في
إنشائها دفعة واحدة من غير انتقال أطوار، لأن في كل طور مشاهدة
أمر من عجيب التنقل وغريب التدريج تزيد المتأمل تعظيماً
للباري. {من الثمرات} من للتبعيض، والألف واللام في الثمرات
لتعريف الجنس وجمع لاختلاف أنواعه، ولا ضرورة تدعو إلى ارتكاب
أن الثمرات من باب الجموع التي يتفاوت بعضها موضع بعض
لالتقائهما في الجمعية، نحو: {كم تركوا من جنات} (الدخان: 25)
، وثلاثة قروء} (البقرة: 228) ، فقامت الثمرات مقام الثمر أو
الثمار على ما ذهب إليه الزمخشري، لأن هذا من الجمع المحلى
بالألف واللام، فهو وإن كان جمع قلة، فإن الألف واللام التي
للعموم تنقله من الاختصاص لجمع القلة للعموم، فلا فرق بين
الثمرات والثمار، إذ الألف واللام للاستغراق فيهما، ولذلك رد
المحققون على من نقد على حسان قوله:
لنا الجفنات الغر يا معن في الضحى
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما} بأن هذا جمع
قلة، فكان ينبغي على زعمه أن يقول: الجفان وسيوفنا، وهو نقد
غير صحيح لما ذكرناه من أن الاستغراق ينقله، وأبعد من جعل من
زائدة، وجعل الألف واللام للاستغراق لوجهين: أحدهما: زيادة من
في الواجب، وقيل معرفة، وهذا لا يقول به أحد من البصريين
والكوفيين إلا الأخفش. والثاني: أنه يلزم منه أن يكون جميع
الثمرات التي أخرجها رزقاً لنا، وكم من شجرة أثمرت شيئاً لا
يمكن أن يكون رزقاً لنا، وإن كانت للتبعيض كان بعض الثمار
رزقاً لنا وبعضها لا يكون رزقاً لنا، وهو الواقع. وناسب في
الآية تنكير الماء وكون من دالة على التبعيض وتنكير الرزق، إذ
المعنى: وأنزل من السماء بعض الماء فأخرج به بعض الثمرات بعض
رزق لكم، إذ ليس جميع رزقهم هو بعض الثمرات، إنما ذلك بعض
رزقهم، ومن الثمرات يحتمل أن يكون في موضع المفعول به بأخرج،
ويكون على هذا رزقاً منصوباً على الحال إن أُريد به المرزوق
كالطحن والرعي، أو مفعولاً من أجله إن أريد به المصدر، وشروط
المفعول له فيه موجودة، ويحتمل أن يكون متعلقاً بأخرج، ويكون
رزقاً مفعولاً بأخرج.
و {لكم} : إن أريد بالرزق المصدر كانت الكاف مفعولاً به واللام
منوية لتعدّي المصدر إليه نحو: ضربت ابني تأديباً له، أي
تأديبه، وإن أريد به المرزوق كان في موضع الصفة فتتعلق اللام
بمحذوف، أي كائناً لكم، ويحتمل أن تكون لكم متعلقاً بأخرج، أي
فأخرج لكم به من الثمرات رزقاً.
النهي متعلق بالأمر في قوله: {اعبدوا ربكم}
، أي فوحدوه وأخلصوا له العبادة، لأن أصل العبادة هو التوحيد.
قال الزمخشري: متعلق بلعل، على أن ينتصب تجعلوا انتصاب فأطّلع
في قوله: {لعلي أبلغ الأسباب، أسباب السموات فأطَّلع إلى إله
موسى} (غافر: 36 37) ، في رواية حفص عن عاصم، أي خلقكم لكي
تتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه، انتهى كلامه. فعلى هذا
لا تكون لا ناهية بل نافية، وتجعلوا منصوب على جواب الترجي،
وهو لا يجوز على مذهب البصريين، إنما ذهب إلى جواز ذلك
الكوفيون، أجروا لعل مجرى هل. فكما أن الاستفهام ينصب الفعل في
جوابه فكذلك الترجي. فهذا التخريج الذي أخرجه الزمخشري لا يجوز
على مذهب البصريين.
ويجوز أن يكون متعلقاً بالذي إذا جعلته خبر مبتدأ محذوف، أي هو
الذي جعل لكم هذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة الشاهدة
بالوحدانية، فلا تجعلوا له أنداداً.
{وأنتم تعلمون} : جملة حالية، ومفعول تعلمون متروك.
لا تنوب إنّ ومعمولاها مناب مفعوليها، بخلاف ظن، فإنها تنوب
مناب مفعوليها، ولذلك سر ذكر في علم العربية.
{وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا
فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم
مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * فَإِن لَّمْ
تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى
وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَفِرِينَ}
.
{إن} : حرف ثنائي الوضع يكون شرطاً، وهو
أصل أدواته، وحرف نفي، وفي إعماله أعمال ما الحجازية خلاف،
وزائداً مطرداً بعد ما النافية، وقبل مدة الإنكار، ولا تكون
بمعنى إذ خلا لزاعمه، ولا يعد من مواضعه المخففة من الثقيلة
لأنها ثلاثية الوضع، ولذلك اختلف حكمها في التصغير. العبد: لغة
المملوك الذكر من جنس الإنسان، وهو راجع لمعنى العبادة، وتقدم
شرحها. الإتيان: المجيء، والأمر منه: ائت، كما جاء في لفظ
القرآن، وشذ حذف فائه في الأمر قياساً واستعمالاً، قال الشاعر:
ت لي آل عوف فاندهم لي جماعة
وسلٍ آل عوف أي شيء يضيرها وقال آخر:
فإن نحن لم ننهض لكم فنبركم
فتونا قفوا دونا إذن بالجرائم من مثله: المماثلة تقع بأدنى
مشابهة، وقد ذكر سيبويه، رحمه الله، أن: مررت برجل مثلك، يحتمل
وجوهاً ثلاثة، ولفظه مثل لازمة الإضافة لفظاً، ولذلك لحن بعض
المولدين في قوله:
ومثلك من يملك الناس طراً
على أنه ليس في الناس مثل
ولا يكون محلاً خلافاً للكوفيين. وله في باب الصفة، إذا جرى
على مفرد ومثنى ومجموع، حكم ذكر في النحو.
{دون} : ظرف مكان ملازم للظرفية الحقيقية أو المجازية، ولا
يتصرف فيه بغير من. قال سيبويه: وأما دونك فلا يرفع أبداً. قال
افراء: وقد ذكر دونك وظروفاً نحوها لا تستعمل أسماء مرفوعة على
اختيار، وربما رفعوا. وظاهر قول الأخفش: جواز تصرفه، خرج قوله
تعالى، {ومنا دون ذلك} (الجن: 11) على أنه مبتدأ وبني لإضافته
إلى المبنى، وقد جاء مرفوعاً في الشعر أيضاً، قال الشاعر:
ألم ترني أني حميت حقيبتي
وباشرت حد الموت والموت دونها}
وتجيء دون صفة بمعنى رديء، يقال: ثوب دون،
أي رديء، حكاه سيبويه في أحد قوليه، فعلى هذا يعرب بوجوه
الإعراب ويكون دون مشتركاً. {لن} : حرف نفي ثنائي الوضع بسيط،
لا مركب من لا إن خلافاً للخليل في أحد قوليه، ولا نونها بدل
من ألف، فيكون أصلها لا خلافاً للفرّاء، ولا يقتضي النفي على
التأييد خلافاً للزمخشري في أحد قوليه، ولا هي أقصر نفياً من
لا إذ لن تنفي ما قرب، ولا يمتد معنى النفي فيها كما يمتد في
لا خلافاً لزاعمه، ولا يكون دعاء خلافاً لزاعمه، وعملها النصب،
وذكروا أن الجزم بها لغة، وأنشد ابن الطراوة:
لن يخب الآن من رجائك من
حرك دون بابك الحلقة
ولها أحكام كثيرة ذكرت في النحو، ولما كانوا في ريب حقيقة،
وكانت إن الشرطية إنما تدخل على الممكن أو المحقق المبهم زمان
وقوعه، ادعى بعض المفسرين أن إن هنا معناها: إذاً، لأن إذا
تفيد مضي ما أضيفت إليه، ومذهب المحققين أن إن لا تكون بمعنى
إذا. وزعم المبرد ومن وافقه أن لكان الماضية الناقصة معان
حكماً ليست لغيرها من الأفعال الماضية، فلقوة كان زعم أن إن لا
يقلب معناها إلى الاستقبال، بل يكون على معناه من المضي إن
دخلت عليه إن، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أن كان كغيرها
من الأفعال، وتأولوا ما ظاهره ما ذهب إليه المبرد، إما على
إضمار يكن بعد إن نحو: {إن كان قميصه قدّ} (يوسف: 26) أي إن
يكن كان قميصه، أو على أن المراد به التبيين، أي أن يتبين كون
قميصه قدّ.
فعلى قول أبي العباس يكون كونهم في ريب ماضياً، ويصير نظير ما
لو جاء إن كنت أحسنت إليّ فقد أحسنت إليك، إذا حمل على ظاهره
ولم يتأول.
ومن تحتمل ابتداء الغاية والسببية، ولا يجوز أن تكون للتبعيض.
وما موصولة، أي من الذي نزلنا، والعائد محذوف، أي نزلناه، وشرط
حذفه موجود. وأجاز بعضهم أن تكون ما نكرة موصوفة، وقد تقدم لنا
الكلام على ما النكرة الموصوفة.
و {نزلنا} لم يكن متعدياً قبل التضعيف إنما
كان لازماً، وتعديه إنما يفيده التضعيف أو الهمزة، فإن جاء في
لازم فهو قليل. قالوا: مات المال، وموت المال، إذا كثر ذلك
فيه، وأيضاً، فالتضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة
وقوع الفعل، أما أن يجعل اللازم متعدياً فلا، و {نزلنا} قبل
التضعيف كان لازماً ولم يكن متعدياً، فيكون التعدي المستفاد من
التضعيف دليلاً على أنه للنقل لا للتكثير، إذ لو كان للتكثير،
وقد دخل على اللازم، بقي لازماً نحو: مات المال، وموّت المال.
فمن: للتبعيض وهي في موضع الصفة لسورة أي بسورة كائنة من مثله.
وأجاز المهدوي وأبو محمد بن عطية أن تكون لبيان الجنس على
تقدير أن يكون الضمير عائداً على المنزل، وتفسر المثلية بنظمه
ورصفه وفصاحة معانيه التي تعرفونها، ولا يعجزهم إلا التأليف
الذي خص به القرآن، أو في غيوبه وصدقه، وأجازا على هذا الوجه
أيضاً أن تكون زائدة.
وقد اختلف النحويون في إثبات هذا المعنى لمن، والذي عليه
أصحابنا أن من لا تكون لبيان الجنس، والفرق بين كونها للتبعيض
ولبيان الجنس مذكور في كتب النحو. وأما كونها زائدة في هذا
الموضع فلا يجوز، على مذهب الكوفيين وجمهور البصريين.
فمن متعلقة بقوله: فأتوا من مثل الرسول بسورة. ومعنى من على
هذا الوجه ابتداء الغاية، ويجوز أن تكون في موضع الصفة فتتعلق
بمحذوف. وهي أيضاً لابتداء الغاية، أي بسورة كائنة من رجل مثل
الرسول، أي ابتداء كينونتها من مثله.
قال الزمخشري: لو لم يعدل عن لفظ الإتيان
إلى لفظ الفعل لاستطيل أن يقال: فإن لم تأتوا بسورة من مثله،
ولن تأتوا بسورة من مثله، ولا يلزم ما قال الزمخشري، لأنه لو
قيل: فإن لم تأتوا ولن تأتوا، كان المعنى على ما ذكر ويكون قد
حذف ذلك اختصاراً، كما حذف اختصاراً مفعول لم تفعلوا ولن
تفعلوا. ألا ترى أن التقدير: فإن لم تفعلوا الإتيان بسورة من
مثله ولن تفعلوا الإتيان بسورة من مثله فهما سيان في الحذف؟
وفي كتاب ابن عطية تعليل غريب لعمل لم الجزم، قال: وجزمت لم
لأنها أشبهت لا في التبرئة في أنهما ينفيان، فكما تحذف لا
تنوين الاسم، كذلك تحذف لم الحركة أو العلامة من الفعل.
وفي قوله: {ولن تفعلوا} إثارة لهممهم ليكون
عجزهم بعد ذلك أبلغ وأبدع، وفي ذلك دليلان على إثبات النبوة.
أحدهما: صحة كون المتحدى به معجزاً، الثاني: الإخبار بالغيب من
أنهم لن يفعلوا، وهذا لا يعلمه إلا الله تعالى، ويدل على ذلك
أنهم لو عارضوه لتوفرت الدواعي على نقله خصوصاً من الطاعنين
عليه، فإذا لم ينقل على أنه إخبار بالغيب وكان ذلك معجزة. وأما
ما أتى به مسيلمة الكذاب في هذره، وأبو الطيب المتنبي في عبره
ونحوهما، فلم يقصدوا به المعارضة، إنما ادعوا أنه نزل عليهم
وحي بذلك، فأتوا من ذلك باللفظ الغث، والمعنى السخيف، واللغة
المهجنة، والأسلوب الرذل، والفقرة غير المتمكنة، والمطلع
المستقبح، والمقطع المستوهن، بحيث لو قرن ذلك بكلامهم في غير
ما ادّعوا أنه وحي، كان بينهما من التفاوت في الفصاحة والتباين
في البلاغة ما لا يخفى عمن له يسير تمييز في ذلك: فكيف
الجهابذة النقاد والبلغاء الفصحاء، فسلبهم الله فصاحتهم
بادعائهم وافترائهم على الله الكذب. وقوله: {ولن تفعلوا} جملة
اعتراض، فلا موضع لها من الإعراب، وفيها من تأكيد المعنى ما لا
يخفى، لأنه لما قال: فإن لم تفعلوا، وكان معناه نفي في
المستقبل مخرجاً ذلك مخرج الممكن، أخبر أن ذلك لا يقع، وهو
إخبار صدق، فكان في ذلك تأكيد أنهم لا يعارضونه. واقتران الفعل
بلن مميز لجملة الإعتراض من جملة الحال، لأن جملة الحال لا
تدخل عليها لن، وكان النفي بلن في هذه الجملة دون لا، وإن
كانتا أختين في نفي المستقبل، لأن في لن توكيداً وتشديداً،
تقول لصاحبك: لا أقيم غداً، فإن أنكر عليك قلت: لن أقيم غداً،
كما تفعل في: أنا مقيم، وإنني مقيم، قاله الزمخشري، وما ذكره
هنا مخالف لما حكى عنه أن لن تقتضي النفي على التأبيد. وأما ما
ذهب إليه ابن خطيب زملكي من أن لن تنفي ما قرب وأن لا يمتد
النفي فيها، فكاد يكون عكس قول الزمخشري.
وهذه الأقوال، أعني التوكيد والتأبيد ونفي
ما قرب: أقاويل المتأخرين، وإنما المرجوع في معاني هذه الحروف
وتصرفاتها لأئمة العربية المقانع الذين يرجع إلى أقاويلهم. قال
سيبويه، رحمه الله: ولن نفي لقوله: سيفعل، وقال: وتكون لا
نفياً لقوله: تفعل، ولم تفعل، انتهى كلامه. ويعني بقوله: تفعل،
ولم تفعل المستقبل، فهذا نص منه أنهما ينفيان المستقبل إلا أن
لن نفي لما دخلت عليه أداة الاستقبال، ولا نفي للمضارع الذي
يراد به الاستقبال. فلن أخص، إذ هي داخلة على ما ظهر فيه دليل
الاستقبال لفظاً. ولذلك وقع الخلاف في لا: هل تختص بنفي
المستقبل، أم يجوز أن تنفي بها الحال؟ وظاهر كلام سيبويه، رحمه
الله، هنا أنها لا تنفي الحال، إلا أنه قد ذكر في الاستثناء من
أدواته لا يكون ولا يمكن حمل النفي فيه على الاستقبال لأنه
بمعنى إلا، فهو للإنشاء، وإذا كان للإنشاء فهو حال، فيفيد كلام
سيبويه في قوله: وتكون لا نفياً لقوله يفعل، ولم يفعل هذا الذي
ذكر في الاستثناء، فإذا تقرر هذا الذي ذكرناه، كان الأقرب من
هذه الأقوال قول الزمخشري: أولاً: من أن فيها توكيداً وتشديداً
لأنها تنفي ما هو مستقبل بالأداة، بخلاف لا، فإنها تنفي المراد
به الاستقبال مما لا أداة فيه تخلصه له، ولأن لا قد ينفى بها
الحال قليلاً، فلن أخص بالاستقبال وأخص بالمضارع، ولأن ولن
تفعلوا أخصر من ولا تفعلون، فلهذا كله ترجح النفي بلن على
النفي بلا.
{فاتقوا النار} جواب للشرط.
والجملة من قوله: {أعدت للكافرين} في موضع
الحال من النار، والعامل فيها: فاتقوا، قاله أبو البقاء، وفي
ذلك نظر، لأن جعله الجملة حالاً يصير المعنى: فاتقوا النار في
حال إعدادها للكافرين، وهي معدّة للكافرين، اتقوا النار أو لم
يتقوها، فتكون إذ ذاك حالاً لازمة. والأصل في الحال التي ليست
للتأكيد أن تكون منتقلة، والأولى عندي أن تكون الجملة لا موضع
لها من الإعراب، وكأنها سؤال جواب مقدّر كأنه لما وصفت بأن
وقودها الناس والحجارة قيل: لمن أعدت؟ فقيل: أعدت للكافرين.
{وَبَشِّرِ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ
أَنَّ لَهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ
كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ
هَذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ
مُتَشَبِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ
فِيهَا خَلِدُونَ} .
تحت: ظرف مكان لا يتصرف فيه بغير من، نص على ذلك أبو الحسن.
قال العرب: تقول تحتك رجلاك، لا يختلفون في نصب التحت.
والجملة في قوله: وبشر معطوفة على ما قبلها، وليس الذي اعتمد
بالعطف هو الأمر حتى يطلب مشاكل من أمر أو نهي بعطف عليه، إنما
المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين، فهي معطوفة على
جملة وصف عقاب الكافرين، كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والإزهاق،
وبشر عمراً بالعفو والإطلاق، قال هذا الزمخشري وتبعه أبو
البقاء فقال: الواو في وبشر عطف بها جملة ثواب المؤمنين على
جملة عقاب الكافرين، انتهى كلامه.
أن يكون وبشر في موضع الحال، فالأصح أن تكون جملة معطوفة على
ما قبلها، وإن لم تتفق معاني الجمل، كما ذهب إليه سيبويه وهو
الصحيح، وقد استدل لذلك بقول الشاعر:
تناغى غزالاً عند باب ابن عامر
وكحل مآقيك الحسان بإثمد
وبقول امرىء القيس:
وإن شفائي عبرة إن سفحتها
وهل عند رسم دارس من معوّل
وأجاز سيبويه: جاءني زيد، ومن أخوك
العاقلان، على أن يكون العاقلان خبر ابتداء و {الصالحات} : جمع
صالحة، وهي صفة جرت مجرى الأسماء في إيلائها العوامل، قال
الحطيئة:
كيف الهجاء وما ينفك صالحة
من آل لام بظهر الغيب تأتيني
فعلى هذا انتصابها على أنها مفعول بها، والألف واللام في
الصالحات للجنس لا للعموم، و {بشر} يتعدى لمفعولين: أحدهما
بنفسه، والآخر بإسقاط حرف الجر. فقوله: {أن لهم جنات} هو في
موضع هذا المفعول، وجاز حذف حرف الجر مع أن قياساً مطرداً،
واختلفوا بعد حذف الحرف، هل موضع أن ومعموليها جر أم نصب؟
فمذهب الخليل والكسائي: أن موضعه جر، ومذهب سيبويه والفراء: أن
موضعه نصب، والاستدلال في كتب النحو.
والألف واللام في {الأنهار} للجنس، قال الزمخشري: أو يراد
أنهارها، فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة، كقوله تعالى:
{واشتعل الرأس شيباً} (مريم: 4) ، وهذا الذي ذكره الزمخشري،
وهو أن الألف واللام تكون عوضاً من الإضافة، ليس مذهب
البصريين، بل شيء ذهب إليه الكوفيون، وعليه خرج بعض الناس قوله
تعالى: مفتحة لهم الأبواب} (ص: 50) ، أي أبوابها. وأما
البصريون فيتأولون هذا على غير هذا الوجه ويجعلون الضمير
محذوفاً، أي الأبواب منها، ولو كانت الألف واللام عوضاً من
الإضافة لما أتى بالضمير مع الألف واللام، وقال الشاعر:
قطوب رحيب الجيب منها رقيقة
بجس الندامى بضة المتجرد}
ويجوز أن تكون الألف واللام للعهد الثابت في الذهن من الأنهار
الأربعة المذكورة في سورة القتال.
والأحسن في هذه الجملة أن تكون مستأنفة لا
موضع لها من الإعراب، وأجيز أن تكون الجملة لها موضع من
الإعراب: نصب على تقدير كونه صفة للجنات، ورفع: على تقدير خبر
مبتدأ محذوف. ويحتمل هذا وجهين: إما أن يكون المبتدأ ضميراً
عائداً على الجنات، أي هي {كلما رزقوا منها} ، أو عائداً على
{الذين آمنوا} ، أي هم كلما رزقوا، والأولى الوجه الأول
لاستقلال الجملة فيه لأنها في الوجهين السابقين تتقدّر
بالمفرد، فهي مفتقرة إلى الموصوف، أو إلى المبتدأ المحذوف.
وأجاز أبو البقاء أن تكون حالاً من الذين آمنوا تقديره مرزوقين
على الدوام، ولا يتم له ذلك إلا على تقدير أن يكون الحال
مقدرة، لأنهم وقت التبشير لم يكونوا مرزوقين على الدوام. وأجاز
أيضاً أن تكون حالاً من جنات لأنها نكرة قد وصفت بقوله: تجري،
فقربت من المعرفة، وتؤول أيضاً إلى الحال المقدرة. والأصل في
الحال أن تكون مصاحبة، فلذلك اخترنا في إعراب هذه الجملة غير
ما ذكره أبو البقاء. ومن: في قوله: منها، هي لابتداء الغاية،
وفي: {من مثمرة} كذلك، لأنه بدل من قوله: منها، أعيد معه حرف
كقوله تعالى: {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها}
(الحج: 22) ، على أحد الاحتمالين، وكلتاهما تتعلق برزقوا على
جهة البدل، كما ذكرناه، لأن الفعل لا يقضي حرفي جر في معنى
واحد إلا بالعطف، أو على طريقة البدل، وهذا البدل هو بدل
الاشتمال. وقد طول الزمخشري في إعراب قوله: من ثمرة، ولم يفصح
بالبدل، لكن تمثيله يدل على أنه مراده، وأجاز أن يكون من ثمرة
بياناً على منهاج قولك: رأيت منك أسداً، تريد أنت أسد، انتهى
كلامه. وكون من للبيان ليس مذهب المحققين من أهل العربية، بل
تأولوا ما استدل به من أثبت ذلك، ولو فرضنا مجيء من للبيان،
لما صح تقديرها للبيان هنا، لأن القائلين بأن من للبيان قدروها
بمضمر وجعلوه صدراً لموصول صفة، إن كان قبلها معرفة، نحو:
فاجتنبوا الرجس من الأوثان} (الحج: 30) ، أي الرجس
الذي هو الأوثان، وإن كان قبلها نكرة، فهو
يعود على تلك النكرة نحو: من يضرب من رجل، أي هو رجل، ومن هذه
ليس قبلها ما يصلح أن يكون بياناً له، لا نكرة ولا معرفة، إلا
إن كان يتمحل لذلك أنها بيان لما بعدها، وأن التقدير: كلما
رزقوا منها رزقاً من ثمرة، فتكون من مبينة لرزقاً، أي: رزقاً
هو ثمرة، فيكون في الكلام تقديم وتأخير. فهذا ينبغي أن ينزه
كتاب الله عن مثله. وأما: رأيت منك أسداً، فمن لابتداء الغاية
أو للغاية ابتداء وانتهاء، نحو: أخذته منك.
{قَالُواْ هَذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} ، قالوا: هو
العامل في كلما، وهذا الذي: مبتدأ معمول للقول. فالجملة في
موضع مفعول.
ومن متعلقة برزقاً، وهي لابتداء الغاية. وقيل: مقطوع عن
الإضافة، والمضاف إليه معرفة محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره
من قبله: أي من قبل المرزوق.
وقال بعض المفسرين: معناه هذا الذي وعدنا في الدنيا أن نرزقه
في الآخرة، فعلى هذا القول يكون المبتدأ، هو نفس الخبر، ولا
يكون التقدير مثل.
وكون الخبر يكون غير المبتدأ أيضاً مجاز، إلا أن هذا المجاز
أكثر وأسوغ.
ومجيء الجملة المصدرة بماض حالاً ومعها الواو على إضمار قد
جائز في فصيح الكلام.
وانتصب متشابهاً على الحال من الضمير في به، وهي حال لازمه،
لأن التشابه ثابت له، أتوا به أو لم يؤتوا.
فقال تعالى: {ولهم فيها أزواج} والأولى أن
تكون هذه الجملة مستأنفة. كما اخترنا في قوله: {كلما رزقوا}
لأن جعلها استئنافاً يكون في ذلك اعتناء بالجملة، إذ سيقت
كلاماً تاماً لا يحتاج إلى ارتباط صناعي، ومن جعلها صفة فقد
سلك بها مسلك غير ما هو أصل للحمل. وارتفاع أزواج على
الابتداء، وكونه لم يشرك في العامل في جنات يدل على ما قلناه
من الاستئناف أيضاً، وخبر أزواج في المجرور الذي هو لهم وفيها
متعلق بالعامل في لهم الذي هو خبر. ومطهرة: صفة للأزواج مبنية
على طهرت كالواحدة المؤنثة. وقرأ زيد بن علي: مطهرات، فجمع
بالألف والتاء على طهرن. قال الزمخشري: هما لغتان فصيحتان،
يقال: النساء فعلن، وهن فاعلات، والنساء فعلت، وهي فاعلة، ومنه
بيت الحماسة:
وإذا العذارى بالدخان تقنت
واستعجلت نصب القدور فملت
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا
بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَءَامَنُواْ
فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا
الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ
بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ
كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَسِقِينَ * الَّذِينَ
يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَقِهِ وَيَقْطَعُونَ
مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي
الأٌّرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ * كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَتًا فَأَحْيَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * هُوَ الَّذِى
خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأٌّرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى
إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ
بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} .
أن: حرف ثنائي الوضع ينسبك منه مع الفعل
الذي يليه مصدر، وعمله في المضارع النصب، إن كان معرباً،
والجزم بها لغة لبني صباح، وتوصل أيضاً بالماضي المتصرف،
وذكروا أنها توصل بالأمر، وإذا نصبت المضارع فلا يجوز الفصل
بينهما بشيء. وأجاز بعضهم الفصل بالظرف، وأجاز الكوفيون الفصل
بينها وبين معمولها بالشرط. وأجازوا أيضاً إلغاءها وتسليط
الشرط على ما كان يكون معمولاً لها لولاه، وأجاز الفراء تقديم
معمول معمولها عليها، ومنعه الجمهور. وأحكام أن الموصولة
كثيرة، ويكون أيضاً حرف تفسير خلافاً للكوفيين، إذ زعموا أنها
لا تأتي تفسيراً، وسيأتي الكلام على التفسيرية عند قوله تعالى:
{وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي} (البقرة: 125) ،
إن شاء الله تعالى. وتكون أن أيضاً زائدة وتطرد زيادتها بعد
لما، ولا تفيد إذ ذاك غير التوكيد، خلافاً لمن زاد على ذلك
أنها تفيد اتصال الفعل الواقع جواباً بالفعل الذي زيدت قبله،
وبعد القسم قبل لو والجواب خلافاً لمن زعم أنها إذ ذاك رابطة
لجملة القسم بالمقسم عليه إذا كان لو والجواب، ولا تكون أن
للمجازاة خلافاً للكوفيين، ولا بمعنى أن المكسورة المخففة من
الثقيلة خلافاً للفارسي، ولا للنفي، ولا بمعنى إذ، ولا بمعنى
لئلا خلافاً لزاعمي ذلك. وأما أن المخففة من الثقيلة فحرف
ثلاثي الوضع، وسأتي الكلام عليه عند أول ما يذكر، إن شاء الله
تعالى.
والبعوضة: واحد البعوض، وهي طائر صغير جداً
معروف، وهو في الأصل صفة على فعول كالقطوع فغلبت، واشتقاقه من
البعض بمعنى القطع. أما: حرف، وفيه معنى الشرط، وبعضهم يعبر
عنها بحرف تفصيل، وبعضهم بحرف إخبار، وأبدل بنو تميم الميم
الأولى ياء فقالوا: أيما. وقال سيبويه في تفسير أما: أن المعنى
مهما يكن من شيء فزيد ذاهب، والذي يليها مبتدأ وخبر وتلزم
الفاء فيما ولي الجزاء الذي وليها، إلا إن كانت الجملة دعاء
فالفاء فيما يليها ولا يفصل بغيرها من الجمل بينها وبين الفاء،
وإذا فصل بها فلا بد من الفصل بينها وبين الجملة بمعمول يلي
أما، ولا يجوز أن يفصل بين أما وبين الفاء بمعمول خبر أن
وفاقاً لسيبويه وأبي عثمان، وخلافاً للمبرد وابن درستويه، ولا
بمعمول خبر ليت ولعل خلافاً للفراء. ومسألة أما علماً، فعالم
يلزم أهل الحجاز فيه النصب وتختاره تميم، وتوجيه هاتين
المسألتين مذكور في النحو.
ماذا: الأصل في ذا أنها اسم إشارة، فمتى أريد موضوعها الأصلي
كانت ماذا جملة مستقلة، وتكون ما استفهامية في موضع رفع
بالابتداء وذا خبره. وقد استعملت العرب ماذا ثلاثة استعمالات
غير الذي ذكرناه أولاً: أحدها: أن تكون ما استفهاماً وذا
موصولاً بدليل وقوع الاسم جواباً لها مرفوعاً في الفصيح،
وبدليل رفع البدل قال الشاعر:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول
أنحب فيقضي أم ضلال وباطل
الثاني: أن تكون ماذا كلها استفهاماً، وهذا الوجه هو الذي يقول
بعض النحويين فيه: إن ذا لغو ولا يريد بذلك الزيادة بل المعنى
أنها ركبت مع ما وصارت كلها استفهاماً، ويدل على هذا الوصف
وقوع الإسم جواباً لها منصوباً في الفصيح، وقول العرب: عماذا
تسأل بإثبات ألف ما، وقول الشاعر:
يا خزر تغلب ماذا بال نسوتكم
لا يستفقن إلى الديرين تحتانا
ولا يصح موصولية ذا هنا، الثالث: أن تكون ما مع ذا اسماً
موصولاً، وهو قليل، قال الشاعر:
دعي ماذا علمت سأتقيه
ولكن بالمغيب نبئيني
فعلى هذا الوجه والأول يكون الفعل بعدها صلة لا موضع له من
الإعراب ولا يتسلط على ماذا: وعلى الوجه الثاني يتسلط على ماذا
إن كان مما يمكن أن يتسلط. وأجاز الفارسي أن تكون ماذا نكرة
موصوفة وجعل منه: دعي ماذا علمت.
كيف: اسم، ودخول حرف الجر عليها شاذ، وأكثر ما تستعمل
استفهاماً، والشرط بها قليل، والجزم بها غير مسموع من العرب،
فلا نجيزه قياساً، خلافاً للكوفيين وقطرب، وقد ذكر خلاف فيها:
أهي ظرف أم اسم غير ظرف؟ والأول عزوه إلى سيبويه، والثاني إلى
الأخفش والسيرافي، والبدل منها والجواب إذا كانت مع فعل مستغن
منصوبان، ومع ما لا يستغنى مرفوع إن كان مبتدأ، ومنصوب إن كان
ناسخاً.
وقرأ ابن كثير في رواية شبل، وابن محيصن، ويعقوب: يستحي بياء
واحدة، وهي لغة بني تميم، يجرونها مجرى يستبي. قال الشاعر:
ألا تستحي منا ملوك وتتقي
محارمنا لا يبوء الدم بالدم
والماضي: استحى، قال الشاعر:
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه
كرعن بست في إناء من الورد
واختلف النحاة في المحذوفة، فقيل لام الكلمة، فالوزن يستفع،
فنقلت حركة العين إلى الفاء وسكنت العين فصارت يستفع. وقيل
المحذوف العين، فالوزن يستيفل ثم نقلت حركة اللام إلى الفاء
وسكنت اللام فصارت يستفل. وأكثر نصوص الأئمة على أن المحذوف هو
العين.
وقد تكلمنا على هذه المسألة في «كتاب
التكميل لشرح التسهيل» من تأليفنا، وليس هذا الحذف مختصاً
بالماضي والمضارع، بل يكون أيضاً في سائر التصرفات، كاسم
الفاعل، واسم المفعول، وغير ذلك. وهذا الفعل مما نقلوا أنه
يكون متعدياً بنفسه، ويكون متعدياً بحرف جر، يقال: استحييته
واستحييت منه. فعلى هذا يحتمل {أن يضرب} أن يكون مفعولاً به
على أن يكون الفعل تعدى إليه بنفسه، أو تعدى إليه على إسقاط
حرف الجر. وفي ذلك الخلاف الذي ذكرناه في قوله تعالى: {أن لهم
جنات} (البقرة: 25) ، أذلك في موضع نصب بعد حذف حرف الجر أم في
موضع جر؟.
ويضرب: قيل معناه: يبين، وقيل: يذكر، وقيل: يضع، من ضربت عليهم
الذلة، وضرب البعث على بني فلان، ويكون يضرب قد تعدى إلى واحد،
وقيل يضرب: في معنى يجعل ويصير، كما تقول: ضربت الطين لبناً،
وضربت الفضة خاتماً. فعلى هذا يتعدى لاثنين، والأصح أن ضرب لا
يكون من باب ظن وأخواتها، فيتعدى إلى اثنين، وبطلان هذا المذهب
مذكور في كتب النحو. وما: إذا نصبت بعوضة زائدة للتأكيد أو صفة
للمثل تزيد الكرة شياعاً، كما تقول: ائتني برجلٍ ما، أي: أيّ
رجل كان. وأجاز الفراء، وثعلب، والزجاج: أن تكون ما نكرة،
وينتصب بدلاً من قوله: مثلاً. وقرأ الجمهور: بنصب بعوضة.
واختلف في توجيه النصب على وجوه:
أحدها: أن تكون صفة لما، إذا جعلنا ما
بدلاً من مثل، ومثلاً مفعول بيضرب، وتكون ما إذ ذاك قد وصفت
باسم الجنس المتنكر لإبهام ما، وهو قول الفراء. الثاني: أن
تكون بعوضة عطف بيان، ومثلاً مفعول بيضرب. الثالث: أن تكون
بدلاً من مثل. الرابع: أن تكون مفعولاً ليضرب، وانتصب مثلاً
حالاً من النكرة مقدمة عليها. والخامس: أن تكون مفعولاً ليضرب
ثانياً، والأول هو المثل على أن يضرب يتعدى إلى اثنين.
والسادس: أن تكون مفعولاً أول ليضرب، ومثلاً المفعول الثاني.
والسابع: أن تكون منصوباً على تقدير إسقاط الجار، والمعنى {أن
يضرب مثلاً} ما بين {بعوضة فما فوقها} ، وحكوا له عشرون ما
ناقة فجملاً، ونسبه ابن عطية لبعض الكوفيين، ونسبه المهدوي
للكوفيين، ونسبه غيرهما للكسائي والفراء، ويكون: مثلاً مفعولاً
بيضرب على هذا الوجه، وأنكر هذا النصب، أعني نصب بعوضة على هذا
الوجه، أبو العباس. وتحرير نقل هذا المذهب: أن الكوفيين يزعمون
أن ما تكون جزاء في الأصل وتحول إلى لفظ الذي، فينتصب ما
بعدها، سواء كان نكرة أم غير نكرة، ويعطف عليه بالفاء فقط،
وتلزم ولا يصلح مكانها الواو، ولا ثم، ولا أو، ولا لا، ويجعلون
النصب في ذلك الاسم على حذف مضاف، وهو بين. فلما حذف بين، قام
هذا مقامه في الإعراب. ويقدرون الفاء بإلى، وقد جاء التصريح
بها في بعض المواضع. حكى الكسائي عن العرب: مطرنا مازبالة
فالثعلبية، وما منصوبة بمطرنا. وحكى الكسائي والفراء عن العرب:
هي أحسن الناس ما قرنا، وانتصاب ما في هذه المسألة على
التفسير، وتقول: هي حسنة ما قرنها إلى قدمها. قال الفراء:
أنشدنا أعرابي من بني سليم:
يا أحسن الناس ما قرنا إلى قدم
ولا حبال محب واصل تصل
وقال الكسائي: سمعت أعرابياً نظر إلى
الهلال فقال: الحمد لله ما إهلالك إلى سرارك، وحكى الفراء عن
العرب: الشنق ما خما فعشرين. والمعنى فيما تقدم ما بين كذا إلى
كذا، وما في هذا المعنى لا تسقط، فخطأ أن يقول: مطرنا زبالة
فالثعلبية. وهذا الذي ذهب إليه الكوفيون لا يعرفه البصريون،
ورده إلى قواعد البصريين مذكور في غير هذا، والذي نختاره من
هذه الأعاريب أن ضرب يتعدى إلى اثنين هو الصحيح، وذلك الواحد
هو مثلاً لقوله تعالى: ضرب مثل، ولأنه المقدم في التركيب،
وصالح لأن ينتصب بيضرب. وما: صفة تزيد النكرة شياعاً، لأن
زيادتها في هذا الموضع لا تنقاس. وبعوضة: بدل لأن عطف البيان
مذهب الجمهور فيه أنه لا يكون في النكرات، إنما ذهب إلى ذلك
الفارسي، ولأن الصفة بأسماء الأجناس لا تنقاس. وقرأ الضحاك،
وإبراهيم بن أبي عبلة، ورؤبة بن العجاج، وقطرب: بعوضة بالرفع،
واتفق المعربون على أنه خبر، ولكن اختلفوا فيما يكون عنه
خبراً، فقيل: خبر مبتدأ محذوف تقديره هو بعوضة، وفي هذا وجهان:
أحدهما: أن هذه الجملة صلة لما، وما موصولة بمعنى الذي، وحذف
هذا العائد وهذا الإعراب لا يصح إلا على مذهب الكوفيين، حيث لم
يشترطوا في جواز حذف هذا الضمير طول الصلة. وأما البصريون
فإنهم اشترطوا ذلك في غير أيّ من الموصولات، وعلى مذهبهم تكون
هذه القراءة على هذا التخريج شاذة، ويكون إعراب ما على هذا
التخريج بدلاً، التقدير: مثلاً الذي هو بعوضة. والوجه الثاني:
أن تكون ما زائدة أو صفة وهو بعوضة وما بعده جملة، كالتفسير
لما انطوى عليه الكلام السابق، وقيل: خبر مبتدأ ملفوظ به وهو
ما، على أن تكون استفهامية.
والمختار الوجه الثاني لسهولة تخريجه، لأن
الوجه الأول لا يجوز فصيحاً على مذهب البصريين، والثاني فيه
غرابة واستبعاد عن معنى الاستفهام، وما من قوله: فما معطوفة
على قوله بعوضة إن نصبنا لما موصولة وصلتها الظرف، أو موصوفة
وصفتها الظرف، والموصوفة أرجح. وإن رفعنا بعوضة، وكانت ما
موصولة فعطف ما الثانية عليها أو استفهاماً، فذلك من عطف
الجمل، أو كانت البعوضة خبراً لهو محذوفة، وما زائدة، أو صفة
فعطف على البعوضة، إما موصولة أو موصوفة.
وقد تقدم الكلام على أقسام ماذا، وهي ههنا
تحتمل وجهين من تلك الأقسام. أحدهما: أن تكون ما استفهاماً في
موضع رفع بالابتداء، وذا بمعنى الذي خبر عن ما. وأراد صلة لذا
الموصولة والعائد محذوف، إذ فيه شروط جواز الحذف، والتقدير ما
الذي أراده الله. والثاني: أن تكون ماذا كلها استفهاماً،
وتركيب ذا مع ما، وتكون مفعولاً بإرادة التقدير، أي شيء أراده
الله، وهذان الوجهان فصيحان. قال ابن عطية: واختلف النحويون في
ماذا فقيل: هي بمنزلة اسم واحد بمعنى أي شيء أراد الله، وقيل:
ما اسم وذا اسم آخر بمعنى الذي، فما في موضع رفع بالابتداء وذا
خبره. انتهى كلام ابن عطية، وظاهره اختلاف النحويين في ماذا
هنا وليس كذلك، إذ هما وجهان سائغان فصيحان في لسان العرب
وليست مسألة خلاف عند النحويين، بل كل من شدا طرفاً من علم
النحو يجوز هذين الوجهين في ماذا هنا، وكذا كل من وقفنا على
كلامه من المفسرين والمعربين ذكروا الوجهين في ماذا هنا.
وانتصاب مثلاً على التمييز عند البصريين، أي من مثل، وأجاز
بعضهم نصبه على الحال من اسم الإشارة، أي متمثلاً به، والعامل
فيه اسم الإشارة، وهو كقولك لمن حمل سلاحاً رديئاً: ماذا أردت
بهذا سلاحاً، فنصبه من وجهين: التمييز والحال من اسم الإشارة.
وأجاز بعضهم أن يكون حالاً من الله تعالى، أي متمثلاً. وأجاز
الكوفيون أن يكون منصوباً على القطع، ومعنى هذا أنه كان يجوز
أن يعرب بإعراب الاسم الذي قبله، فإذا لم تتبعه في الإعراب
وقطعته عنه نصب على القطع، وجعلوا من ذلك.
وعالين قنوانا من البسر أحمرا
فأحمر عندهم من صفات البسر، إلا أنه لما
قطعته عن إعرابه نصبته على القطع وكان أصله من البسر الأحمر،
كذلك قالوا: ما أراد الله بهذا المثل. فلما لم يجر على إعراب
هذا، انتصب مثلاً على القطع، وإذا قلت: عبد الله في الحمام
عرياناً، ويجيء زيد راكباً، فهذا ونحوه منصوب على القطع عند
الكسائي. وفرق الفراء فزعم أن ما كان فيما قبله دليل عليه فهو
المنصوب على القطع، وما لا فمنصوب على الحال، وهذا كله عند
البصريين منصوب على الحال، ولم يثبت البصريون النصب على القطع.
والاستدلال على بطلان ما ذهب إليه الكوفيون مذكور في مبسوطات
النحو، والمختار انتصاب مثل على التمييز، وجاء على معنى
التوكيد لأنه من حيث أشير إليه علم أنه مثل، فجاء التمييز بعده
مؤكداً للاسم الذي أشير إليه.
اختار بعض المعربين والمفسرين أن يكون قوله تعالى: {يضلّ به
كثيراً ويهدي به كثيراً} في موضع الصفة لمثل.
{وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَسِقِينَ} والفاسقين: مفعول
يضلّ لأنه استثناء مفرغ، ومنع أبو البقاء أن يكون منصوباً على
الاستثناء. ويكون مفعول يضل محذوفاً تقديره: وما يضل به أحداً
إلا الفاسقين، وليس بممتنع، وذلك أن الاسم بعد إلا: إما أن
يفرغ له العامل، فيكون على حسب العامل نحو: ما قام إلا زيد،
وما ضربت إلا زيداً، وما مررت إلا بزيد، إذا جعلت زيداً وبزيد
معمولاً للعامل قبل لا، أو لا يفرغ. وإذا لم يفرغ، فأما أن
يكون العامل طالباً مرفوعاً، فلا يجوز إلا ذكره قبل إلا،
وإضماره إن كان مما يضمر، أو منصوباً، أو مجروراً، فيجوز حذفه
لأنه فضلة وإثباته. فإن حذفته كان الاسم الذي بعد إلا منصوباً
على الاستثناء فتقول: ما ضربت إلا زيداً، تريد ما ضربت أحداً
إلا زيداً، وما مررت إلا عمراً، تريد ما ضربت أحداً إلا زيداً،
وما مررت إلا عمراً، قال الشاعر:
نجا سالم والنفس منه بشدقه
ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا
يريد ولم ينج بشيء إلا جفن سيف، وإن أثبته،
ولم يحذفه، فله أحكام مذكورة. فعلى هذا الذي قد قعده النحويون
يجوز في الفاسقين أن يكون معمولاً ليضل، ويكون من الاستثناء
المفرغ، ويجوز أن يكون منصوباً على الاستثناء، ويكون معمول يضل
قد حذف لفهم المعنى.
{الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَقِهِ} :
يحتمل النصب والرفع. فالنصب من وجهين: إما على الاتباع، وإما
على القطع، أي أذم الذين. والرفع من وجهين: إما على القطع، أي
هم الذين، وإما على الابتداء، ويكون الخبر الجملة من قوله:
{أولئك هم الخاسرون} . وعلى هذا الإعراب تكون هذه الجملة كأنها
كلام مستأنف، لا تعلق لها بما قبلها إلا على بعد، فالأولى من
هذا الإعراب والأعاريب التي ذكرناها وأولاها الاتباع، ومن
متعلقة بقوله ينقضون، وهي لابتداء الغاية.
وقيل: من زائدة وهو بعيد، والميثاق مفعول من الوثاقة، وهو
الشدّ في العقد، وقد ذكرنا أنه العهد المؤكد باليمين. وليس
المعنى هنا على ذلك، وإنما كني به عن الالتزام والقبول. قال
أبو محمد بن عطية: هو اسم في موضع المصدر، كما قال عمرو ابن
شييم:
أكفراً بعد رد الموت عني
وبعد عطائك المائة الرتاعا
أراد بعد إعطائك، انتهى كلامه. ولا يتعين
ما ذكر، بل قد أجاز الزمخشري أن يكون بعد التوثقة، كما أن
الميعاد بمعنى الوعد، والميلاد بمعنى الولادة، وظاهر كلام
الزمخشري أن يكون مصدراً، والأصل في مفعال أن يكون وصفاً نحو:
مطعام ومسقام ومذكار. وقد طالعت كلام أبي العباس بن الحاج،
وكلام أبي عبد الله بن مالك، وهما من أوعب الناس لأبنية
المصادر، فلم يذكرا مفعالاً في أبنية المصادر. والضمير في
ميثاقه عائد على العهد لأنه المحدث عنه، وأجيز أن يكون عائداً
على الله تعالى، أي من توثيقه عليهم، أو من بعد ما وثق به عهده
على اختلاف التأويلين في الميثاق. قال أبو البقاء: إن أعدت
الهاء على اسم الله كان المصدر مضافاً إلى الفاعل، وإن أعدتها
إلى العهد كان مضافاً إلى المفعول، وهذا يدل على أن الميثاق
عنده مصدر.
{وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} وما
موصولة بمعنى الذي، وأجاز أبو البقاء أن تكون ما نكرة موصوفة،
وقد بينا ضعف القول بأن ما تكون موصوفة خصوصاً هنا، إذ يصير
المعنى: ويقطعون شيئاً أمر الله به أن يوصل.
وأمر يتعدى إلى اثنين، والأول محذوف لفهم المعنى، أي ما أمر
الله به، وأن يوصل في موضع جر بدل من الضمير في به تقديره به
وصله، أي ما أمرهم الله بوصله، نحو قال الشاعر:
أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص
فتقصر عنها حقبة وتبوص
أي أمن ذكر سلمى نأيها.
وأجاز المهدوي وابن عطية وأبو البقاء أن
تكون أن يوصل في موضع نصب بدلاً من ما، أي وصله، والتقدير:
ويقطعون وصل ما أمر الله به. وأجاز المهدوي وابن عطية أن تكون
في موضع نصب مفعولاً من أجله، وقدره المهدوي كراهية أن يوصل،
فيكون الحامل على القطع لما أمر الله كراهية أن يوصل. وحكى أبو
البقاء وجه المفعول من أجله وقدره لئلا، وأجاز أبو البقاء أن
يكون أن يوصل في موضع رفع، أي هو أن يوصل. وهذه الأعاريب كلها
ضعيفة، ولولا شهرة قائلها لضربت عن ذكرها صفحاً. والأول الذي
اخترناه هو الذي ينبغي أن يحمل عليه كلام الله وسواه من
الأعاريب، بعيد عن فصيح الكلام أفصح الكلام وهو كلام الله.
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ
أَمْوَتًا فَأَحْيَكُمْ} {كيف} : قد تقدم أنه اسم استفهام عن
حال، وصحبه معنى التقرير والتوبيخ، فخرج عن حقيقة الاستفهام.
وقيل: صحبه الإنكار والتعجب، والواو في قوله: {وكنتم أمواتاً
فأحياكم} : واو الحال، نحو قوله تعالى: {وقال الذي نجا منهما
وادّكر بعد أمة} (يوسف: 45) ، ونادى نوح ابنه وكان في معزل}
(هود: 42) . قال الزمخشري: فإن قلت فكيف صح أن يكون حالاً، وهو
ماض؟ ولا يقال: جئت وقام الأسير، ولكن: وقد قام، إلا أن يضمر
قد. قلت: لم تدخل الواو على كنتم أمواتاً وحده، ولكن على جملة
قوله: كنتم أمواتاً إلى ترجعون، كأنه قيل: كيف تكفرون بالله
وقصتكم هذه وحالكم أنكم كنتم أمواتاً نطفاً في أصلاب آبائكم
فجعلكم أحياء؟ ثم يميتكم} بعد هذه الحياة؟ {ثم يحييكم} بعد
الموت ثم يحاسبكم؟ انتهى كلامه. ونحن نقول: إنه على إضمار قد،
كما ذهب إليه أكثر الناس، أي وقد كنتم أمواتاً فأحياكم.
والجملة الحالية عندنا فعلية. وأما أن نتكلف ونجعل تلك الجملة
اسمية حتى نفر من إضمار قد، فلا نذهب إلى ذلك، وإنما حمل
الزمخشري على ذلك اعتقاده أن جميع الجمل مندرجة في الحال،
ولذلك قال: فإن قلت، بعض القصة ماض وبعضها مستقبل، والماضي
والمستقبل كلاهما لا يصح أن يقع حالاً حتى يكون فعلاً حاضراً
وقت وجود ما هو حال عنه، فما الحاضر الذي وقع حالاً؟ قلت: هو
العلم بالقصة، كأنه قيل: كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة،
وبأولها وبآخرها؟ انتهى كلامه.
ولا يتعين أن تكون جميع الجمل مندرجة في الحال، إذ يحتمل أن
يكون الحال قوله: {وكنتم أمواتاً فأحياكم} .
{هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى
الأٌّرْضِ جَمِيعاً} ولكم: متعلق بخلق، واللام فيه، قيل:
للسبب، أي لأجلكم ولانتفاعكم، وقدر بعضهم لاعتباركم. وقيل:
للتمليك والإباحة، فيكون التمليك خاصاً، وهو تمليك ما ينتفع
الخلق به وتدعو الضرورة إليه. وقيل: للاختصاص، وهو أعم من
التمليك، والأحسن حملها على السبب فيكون مفعولاً من أجله.
وانتصب جميعاً على الحال من المخلوق، وهي حال مؤكدة لأن لفظة
ما في الأرض عام، ومعنى جميعاً العموم.
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ
سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ} وقد أعرب بعضهم سبع
سموات بدلاً من الضمير على أن الضمير عائد على ما قبله، وهو
إعراب صحيح، نحو: أخوك مررت به زيد، وأجازوا في سبع سموات أن
يكون منصوباً على المفعول به، والتقدير: فسوى منهن سبع سموات،
وهذا ليس بجيد من حيث اللفظ ومن حيث المعنى. أما من حيث اللفظ
فإن سوى ليس من باب اختار، فيجوز حذف حرف الجر منه في فصيح
الكلام، وأما من حيث المعنى فلأنه يدل على أن السموات كثيرة،
فسوى منهن سبعاً، والأمر ليس كذلك، إذ المعلوم أن السموات سبع.
وأجازوا أيضاً أن يكون مفعولاً ثانياً لسوى، ويكون معنى سوى:
صير، وهذا ليس بجيد، لأن تعدي سوى لواحد هو المعلوم في اللغة،
{فسواك فعدلك} (الانفطار: 7) ، قادرين على أن نسوّي بنانه}
(القيامة: 4) . وأما جعلها بمعنى صير، فغير معروف في اللغة.
وأجازوا أيضاً النصب على الحال، فتلخص في نصب سموات أوجه البدل
باعتبارين، والمفعول به، ومفعول ثان، وحال، والمختار البدل
باعتبار عود الضمير على ما قبله والحال، ويترجح البدل بعدم
الاشتقاق.
{بكل} متعلق بقوله: {عليم} ، وكان القياس
التعدي باللام حالة التقديم، أو بنفسه. وأما حالة التأخير
فبنفسه لأنه من فعل متعد، وهو أحد الأمثلة الخمسة التي
للمبالغة، وقد حدث فيها بسبب المبالغة من الأحكام ما ليس في
فعلها ولا في اسم الفاعل، وذلك أن هذا المبني للمبالغة
المتعدي، إما أن يكون فعله متعدياً بنفسه، أو بحرف جر، فإن كان
متعدياً بحرف جر تعدى المثال بحرف الجر نحو: زيد صبور على
الأذى زهيد في الدنيا، لأن صبر يتعدى بعلى، وزهد يتعدى بفي،
وإن كان متعدياً بنفسه. فإما أن يكون ما يفهم علماً وجهلاً، أو
لا. إن كان مما يفهم علماً أو جهلاً تعدى المثال بالباء نحو:
زيد عليم بكذا، وجهول بكذا، وخبير بذلك، وإن كان لا يفهم علماً
ولا جهلاً فيتعدى باللام نحو قوله تعالى: {فعال لما يريد}
(هود: 107) وفي تعديها لما بعدها بغير الحرف ونصبها له خلاف
مذكور في النحو، وإنما خالفت هذه الأمثلة التي للمبالغة
أفعالها المتعدية بنفسه، لأنها بما فيها من المبالغة أشبهت
أفعل التفضيل، وأفعل التفضيل حكمه هكذا.m
قال تعالى: ربكم أعلم بكم (الإسراء: 54) ، وقال الشاعر:
أعطى لفارهة حلو مراتعها
وقال:
أكر وأحمى للحقيقة منهم
فإن جاء بعده ما ظاهره أنه منصوب به نحو قوله: تعالى {إن ربك
هو أعلم من يضل} } (الأنعام: 117) ، وقول الشاعر:
وأضرب منا بالسيوف القوانسا
أول بأنه معمول لفعل محذوف يدل عليه أفعل التفضيل.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَئِكَةِ
إِنِّي جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ
نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ
مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَءَادَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا
ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِى
بِأَسْمَآءِ هَؤُلاَءِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * قَالُواْ
سُبْحَنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ
أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَاءَادَمُ أَنبِئْهُم
بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِم قَالَ
أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ
وَالأٌّرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ
تَكْتُمُونَ} .
إذ: اسم ثنائي الوضع مبني لشبهه بالحرف وضعاً أو افتقاراً، وهو
ظرف زمان للماضي، وما بعده جملة اسمية أو فعلية، وإذا كانت
فعلية قبح تقديم الاسم على الفعل وإضافته إلى المصدرة
بالمضارع، وعمل المضارع فيه مما يجعل المضارع ماضياً، وهو
ملازم للظرفية إلا أن يضاف إليه زمان، ولا يكون مفعولاً به،
ولا حرفاً للتعليل أو المفاجأة، ولا ظرف مكان، ولا زائدة،
خلافاً لزاعمي ذلك، ولها أحكام غير هذا ذكرت في النحو.
وسبحان اسم وضع موضع المصدر، وهو مما ينتصب بإضمار فعل من
معناه لا يجوز إظهاره، وهو من الأسماء التي لزمت النصب على
المصدرية، ويضاف ويفرد، فإذا أفرد كان منوناً، نحو قول الشاعر:
سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به
وقبلنا سبح الجودي والجمد
فقيل: صرفه ضرورة، وقيل: لجعله نكرة غير منون، نحو قول الشاعر:
أقول لما جاءني فخبره
سبحان من علقمة الفاخر
جعله علماً فمنعه الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون. وزعم بعض
النحويين أنه إذا أفرد كان مقطوعاً عن الإضافة، فعاد إليه
التنوين، ومن لم ينونه جعله بمنزلة قبل وبعد، وقد ردّ هذا
القول في كتب النحو.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَئِكَةِ} :
واختلف المعربون في إذ، فذهب أبو عبيدة وابن قتيبة إلى
زيادتها، وهذا ليس بشيء، وكان أبو عبيدة وابن قتيبة ضعيفين في
علم النحو. وذهب بعضهم إلى أنها بمعنى قد، التقدير: وقد قال
ربك، وهذا ليس بشيء، وذهب بعضهم إلى أنه منصوب نصب المفعول به
بأذكر، أي واذكر: {إذ قال ربك} ، وهذا ليس بشيء، لأن فيه
إخراجها عن بابها، وهو أنه لا يتصرف فيها بغير الظرفية، أو
بإضافة ظرف زمان إليها. وأجاز ذلك الزمخشري وابن عطية وناس
قبلهما وبعدهما، وذهب بعضهم إلى أنها ظرف. واختلفوا، فقال
بعضهم: هي في موضع رفع، التقدير: ابتداء خلقكم. وقال بعضهم: في
موضع نصب، التقدير: وابتداء خلقكم، إذ قال ربك.
{إِنِّي جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً} ، لأن الفعل العامل
في الظرف لا بد أن يقع فيه، أما أن يسبقه أو يتأخر عنه، فلا
لأنه لا يكون له ظرفاً. وذهب بعضهم إلى أن إذ منصوب يقال
بعدها، وليس بشيء، لأن إذ مضافة إلى الجملة بعدها والمضاف إليه
لا يعمل في المضاف. وذهب بعضهم إلى أن نصبها بأحياكم، تقديره:
{وهو الذي أحياكم} (الحج: 66) } ، {إذ قال ربك} ، وهذا ليس
بشيء لأنه حذف بغير دليل، وفيه أن الإحياء ليس واقعاً في وقت
قول الله للملائكة، وحذف الموصول وصلته، وإبقاء معمول الصلة.
وذهب بعضهم إلى أنه معمول لخلقكم من قوله تعالى: {اعبدوا ربكم
الذي خلقكم} (البقرة: 21) } {إذ قال ربك} ، فتكون الواو زائدة،
ويكون قد فصل بين العامل والمعمول بهذه الجمل التي كادت أن
تكون سوراً من القرآن، لاستبداد كل آية منها بما سيقت له، وعدم
تعلقها بما قبلها التعلق الإعرابي.
فهذه ثمانية أقوال ينبغي أن ينزّه كتاب
الله عنها. والذي تقتضيه العربية نصبه بقوله: {قالوا أتجعل} ،
أي وقت قول الله للملائكة: {إني جاعل في الأرض} ، {قالوا:
أتجعل} ، كما تقول في الكلام: إذ جئتني أكرمتك، أي وقت مجيئك
أكرمتك، وإذ قلت لي كذا قلت لك كذا. فانظر إلى حسن هذا الوجه
السهل الواضح، وكيف لم يوفق أكثر الناس إلى القول به، وارتبكوا
في دهياء وخبطوا خبط عشواء.
واللام في للملائكة: للتبليغ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها
اللام، ومعمول القول إني جاعل، وكان ذلك مصدراً بأن، لأن
المقصود تأكيد الجملة المخبر بها، وإن هذا واقع لا محالة وإن
تكسر بعد القول، ولفتحها بعده عند أكثر العرب شروط ذكرت في
النحو، وبنو سليم يفتحونها بعده من غير شرط، وقال شاعرهم:
إذا قلت إني آيب أهل بلدة
نزعت بها عنها الولية بالهجر
جاعل: اسم فاعل بمعنى الاستقبال، ويجوز إضافته للمفعول إلا إذا
فصل بينهما كهذا، فلا يجوز، وإذا جاز إعماله، فهو أحسن من
الإضافة، نص على ذلك سيبويه، وقال الكسائي: هما سواء، والذي
أختاره أن الإضافة أحسن، وقد ذكرنا وجه اختيارنا ذلك في بعض ما
كتبناه في العربية. وفي الجعل هنا قولان: أحدهما: أنه بمعنى
الخلق، فيتعدى إلى واحد، قاله أبو روق، وقريب منه ما روي عن
الحسن وقتادة أنه بمعنى فاعل، ولم يذكر ابن عطية غير هذا.
والثاني: أنه بمعنى التصيير، فيتعدى إلى اثنين.
وقرأ ابن هرمز: ويسفك بنصب الكاف، فمن رفع الكاف عطف على يفسد،
ومن نصب فقال المهدوي: هو نصب في جواب الاستفهام، وهو تخريج
حسن وذلك أن المنصوب في جواب الاستفهام أو غيره بعد الواو
بإضمار أن يكون المعنى على الجمع، ولذلك تقدر الواو بمعنى مع،
فإذا قلت: أتأتينا وتحدثنا ونصبت، كأن المعنى على الجمع بين أن
تأتينا وتحدثنا، أي ويكون منك إتيان مع حديث، وكذلك قوله:
أبيت ريان الجفون من الكرى
وأبيت منك بليلة الملسوع
معناه: أيكون منك مبيت ريان مع مبيتي منك
بكذا، وكذلك هذا يكون منك جعل مفسد مع سفك الدماء. وقال أبو
محمد بن عطية: النصب بواو الصرف قال: كأنه قال من يجمع أن يفسد
وأن يسفك، انتهى كلامه. والنصب بواو الصرف ليس من مذاهب
البصريين. ومعنى واو الصرف: أن الفعل كان يستحق وجهاً من
الإعراب غير النصب فيصرف بدخول الواو عليه عن ذلك الإعراب إلى
النصب كقوله تعالى: {ويعلم الذين يجادلون} (الشورى: 35) } ، في
قراءة من نصب، وكذلك: {ويعلم الصابرين} (آل عمران: 142) } .
فقياس الأول الرفع، وقياس الثاني الجزم، فصرفت الواو الفعل إلى
النصب، فسميت واو الصرف، وهذا عند البصريين منصوب بإضمار أن
بعد الواو. والعجب من ابن عطية أنه ذكر هذا الوجه أولاً وثنى
بقول المهدوي، ثم قال: والأول أحسن. وكيف يكون أحسن وهو شيء لا
يقول به البصريون وفساده مذكور في علم النحو؟
{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ} : جملة حالية، {بِحَمْدِكَ} : في موضع
الحال، والباء فيه للحال، أي نسبح ملتبسين بحمدك، كما تقول:
جاء زيد بثيابه، وهي حال متداخلة لأنها حال في حال. وقيل:
الباء للسبب، أي بسبب حمدك، والحمد مصدر مضاف إلى المفعول نحو
قوله: من دعاء الخير، أي بحمدنا إياك. والفاعل عند البصريين
محذوف في باب المصدر، وإن كان من قواعدهم أن الفاعل لا يحذف
وليس ممنوع في المصدر، كما ذهب إليه بعضهم، لأن أسماء الأجناس
لا يضمر فيها، لأنه لا يضمر إلا فيما جرى مجرى الفعل، إذ
الإضمار أصل في الفعل، ومعنى التقديس كما ذكرنا التطهير،
ومفعوله أنفسنا لك من الأدناس، قاله الضحاك وغيره.
واللام في لك زائدة، أي نقدّسك. وقيل: لام
العلة متعلقة بنقدّس، قيل: أو بنسبّح وقيل: معدية للفعل، كهي
في سجدت لله، وقيل: اللام للبيان كاللام بعد سقياً لك، فتتعلق
إذ ذاك بمحذوف دلّ عليه ما قبله، أي تقديسنا لك. والأحسن أن
تكون معدية للفعل، كهي في قوله: {يسبح لله} (الجمعة: 1) } ، و
{سبح لله} (الحديد:1 الحشر: 1 الصف: 1) } . وقد أبعد من ذهب
إلى أن هذه الجملة من قوله: {ونحن نسبح} استفهامية حذف منها
أداة الاستفهام وأن التقدير، أو نحن نسبح بحمدك، أم نتغير،
بحذف الهمزة من غير دليل، ويحذف معادل الجملة المقدرة دخول
الهمزة عليها، وهي قوله: أم نتغير، وليس ذلك مثل قوله:
لعمرك ما أدري وإن كنت دارياً
بسبع رمين الجمر أم بثمان
يريد: أبسبع، لأن الفعل المعلق قبل بسبع والجزء المعادل بعده
يدلان على حذف الهمزة.
قال: {إني أعلم} ، مضارع علم وما مفعولة بها موصولة، قيل: أو
نكرة موصوفة، وقد تقدم: أنا لا نختار، كونها نكرة موصوفة.
وأجاز مكي بن أبي طالب والمهدوي وغيرهما أن تكون أعلم هنا
اسماً بمعنى فاعل، وإذا كان كذلك جاز في ما أن تكون مجرورة
بالإضافة، وأن تكون في موضع نصب، لأن هذا الاسم لا ينصرف،
وأجاز بعضهم أن تكون أفعل التفضيل. والتقدير: أعلم منكم، وما
منصوبة بفعل محذوف يدل عليه أعلم، أي علمت، وأعلم ما لا
تعلمون.
وهذا القول فيه خروج عن الظاهر وادعاء
حذفين: أحدهما: حذف المفضل عليه وهو منكم. والثاني: الفعل
الناصب للموصول، وأما ما أجازه مكي فهو مبني على أمرين غير
صحيحين. أحدهما: ادّعاءان أفعل تأتي بمعنى فاعل، وهذا قال به
أبو عبيدة من المتقدمين، وخالفه النحويون وردوا عليه قوله،
وقالوا: لا يخلو أفعل من التفضيل، وإن كان يوجد في كلام بعض
المتأخرين أن أفعل قد يخلو من التفضيل، وبنوا على ذلك جواز
مسألة يوسف أفضل إخوته، حتى أن بعضهم ذكر في جواز اقتياسه
خلافاً، تسليماً منه أن ذلك مسموع من كلام العرب فقال:
واستعماله عارياً دون من مجرداً عن معنى التفضيل، مؤولاً باسم
فاعل أو صفة مشبهة، مطرد عند أبي العباس، والأصح قصره على
السماع، انتهى كلامه. والأمر الثاني: أنه إذا سلم وجود أفعل
عارياً من معنى التفضيل، فهو يعمل عمل اسم الفاعل أم لا.
والقائلون بوجود ذلك لا يقولون بإعماله عمل اسم الفاعل إلا
بعضهم، فأجاز ذلك، والصحيح ما ذهب إليه النحويون المتقدمون من
كون أفعل لا يخلو من التفضيل، ولا مبالاة بخلاف أبي عبيدة لأنه
كان يضعف في النحو، ولا بخلاف بعض المتأخرين لأنهم مسبوقون بما
هو كالإجماع من المتقدمين، ولو سلمنا إسماع ذلك من العرب، فلا
نسلم اقتياسه، لأن المواضع التي أوردت دليلاً على ذلك في غاية
من القلة، مع أنها قد تؤولت. ولو سلمنا اقتباس ذلك، فلا نسلم
كونه يعمل عمل اسم الفاعل. وكيف نثبت قانوناً كلياً ولم نسمع
من العرب شيئاً من أفراد تركيباته لا يحفظ: هذا رجل أضرب
عمراً، بمعنى ضارب عمراً، ولا هذه امرأة أقتل خالداً، بمعنى
قاتلة خالداً، ولا مررت برجل أكسى زيداً جبة، بمعنى: كاس زيداً
جبة. وهل هذا إلا إحداث تراكيب لم تنطق العرب بشيء من نظيرها؟
فلا يجوز ذلك. وكيف يعدل في كتاب الله عن الشيء الظاهر الواضح
من كون أعلم فعلاً مضارعاً إلى هذا الذي هو؟ كما رأيت في علم
النحو، وإنما طوّلت في هذه المسألة لأنهم يسلكون ذلك
في مواضع من القرآن سيأتي بيانها، إن شاء
الله تعالى، فينبغي أن يتجنب ذلك. ولأن استعمال أفعل عارية من
معنى التفضيل مشهور عند بعض المتأخرين، فنبهت على ما في ذلك،
والمسألة مستوفاة الدلائل. تذكر في علم النحو.
{وَعَلَّمَءَادَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا} وقرأ اليماني ويزيد
اليزيدي: وعلم آدم مبنياً للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به
والتضعيف في علم للتعدية، إذ كان قبل التضعيف يتعدى لواحد،
فعدي به إلى اثنين. وليست التعدية بالتضعيف مقيسة، إنما يقتصر
فيه على مورد السماع، سواء كان الفعل قبل التضعيف لازماً أم
كان متعدياً، نحو: علم المتعدية إلى واحد. وأما إن كان متعدياً
إلى اثنين، فلا يحفظ في شيء منه التعدية بالتضعيف إلى ثلاث.
وقد وهم القاسم بن علي الحريري في زعمه في شرح «الملحة» له أن
علم تكون منقولة من علم التي تتعدى إلى اثنين فتصير بالتضعيف
متعدية إلى ثلاثة، ولا يحفظ ذلك من كلامهم.
وقد ذهب بعض النحويين إلى اقتباس التعدية بالتضعيف. قال الإمام
أبو الحسين بن أبي الربيع في كتاب «التلخيص» من تأليفه: الظاهر
من مذهب سيبويه أن النقل بالتضعيف سماع في المتعدي واللازم.
وقد تقدم لنا أن اللام عوض من الإضافة ليس مذهب البصريين،
ويحتمل أن يكون التقدير مسميات الأسماء، فحذف المضاف وأقيم
المضاف إليه مقامه.
{فَقَالَ} : الفاء: للتعقيب.
{إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ} شرط جوابه محذوف
تقديره فأنبئوني يدل عليه أنبئوني السابق، ولا يكون أنبئوني
السابق هو الجواب، هذا مذهب سيبويه وجمهور البصريين، وخالف
الكوفيون وأبو زيد وأبو العباس، فزعموا أن جواب الشرط هو
المتقدّم في نحو هذه المسألة، هذا هو النقل المحقق، وقد وهم
المهدوي، وتبعه ابن عطية، فزعما أن جواب الشرط محذوف عند
المبرد، التقدير: فأنبئوني، إلا إن كانا اطلعا على نقل آخر
غريب عن المبرد يخالف مشهور ما حكاه الناس، فيحتمل. وكذلك وهم
ابن عطية وغيره، فزعما أنّ مذهب سيبويه تقديم الجواب على
الشرط، وأن قوله: أنبئوني المتقدم هو الجواب.
أبعد من جعل إن بمعنى إذ، فأخرجها عن الشرطية إلى الظرفية.
{قَالُواْ سُبْحَنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ} : أي تنزيهك عن
الادعاء وعن الاعتراض. وقيل: معناه تنزيه لك بعد تنزيه لفظه
لفظ تثنية، والمعنى كذلك كما قالوا في لبيك، ومعناه: تلبية بعد
تلبية. وهذا قول غريب يلزم عنه أن مفرده يكون سبحاً، وأنه لا
يكون منصوباً بل مرفوعاً، وأنه لم تسقط النون للإضافة، وأنه
التزم فتحها. والكاف في سبحانك مفعول به أضيف إليه. وأجاز
بعضهم أن يكون فاعلاً، لأن المعنى تنزهت. وقد ذكرنا، حين
تكملنا على المفردات، أنه منصوب على معنى المصدر بفعل من معناه
واجب الحذف. وزعم الكسائي أنه منادى مضاف، ويبطله أنه لا يحفظ
دخول حرف النداء عليه، ولو كان منادى لجاز دخول حرف النداء
عليه.
وخبر: لا علم، في الجار والمجرور. وتقدم
لنا الكلام في لا ريب فيه، ولا علم مثله، فأغنى عن إعادته. وما
موصولة يحتمل أن تكون في موضع نصب على الاستثناء، والأولى أن
تكون في موضع رفع على البدل. وحكى ابن عطية عن الزهراوي: أن
موضع ما من قولهم: ما {علمتنا} ، نصب بعلمتنا، وهذا غير معقول.
ألا ترى أن ما موصولة، وأن الصلة: علمتنا، وأن الصلة لا تعمل
في الموصول ولكن يتكلف به وجه وهو أن يكون استثناء منقطعاً
فيكون معنى إلا: لكن، على التقدير الذي استقر في الاستثناء
المنقطع، وتكون ما شرطية منصوبة بعلمتنا، ويكون الجواب
محذوفاً.
و {أنت} : يحتمل أن يكون توكيداً للضمير، فيكون في موضع نصب،
أو مبتدأ فيكون في موضع رفع، والعليم خبره، أو فضلاً فلا يكون
له موضع من الإعراب، على رأي البصريين، ويكون له موضع من
الإعراب على رأي الكوفيين. فعند الفراء موضعه على حسب الاسم
قبله، وعند الكسائي على حسب الاسم بعده.
{قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ} ؛ جواب فلما، وقد تقدّم ذكر
الخلاف في لما المقتضية للجواب، أهي حرف أم ظرف؟ ورجحنا الأول
وذكرنا أنه مذهب سيبويه. وألم: أقل تقرير، لأن الهمزة إذا دخلت
على النفي كان الكلام في كثير من المواضع تقريراً نحو قوله
تعالى: {ألست بربكم} (الأعراف: 172) } ؟ {ألم نشرح لك صدرك}
(الشرح: 1) } ؟ {ألم نربِّك فينا وليداً} (الشعراء: 18) } ؟
ولذلك جاز العطف على جملة إثباتية نحو: ووضعنا، ولبثت، ولكم
فيه.
وقد تقدم أن اللام في نحو: قلت لك، أو لزيد، للتبليغ، وهو أحد
المعاني التي ذكرناها فيها.
والخلاف الذي تقدم في أعلم من كونه منصوباً أو مجروراً جار
هنا، وقد تقدم إيضاحه هناك فلا نعيده هنا.
وقد حكى ابن عطية عن المهدوي ما نصه: قال
المهدوي: ويجوز أن يكون قوله: أعلم اسماً بمعنى التفضيل في
العلم، فتكون ما في موضع خفض بالإضافة. قال ابن عطية: وإذا قدر
الأول اسماً، فلا بد من إضمار فعل ينصب غيب، تقديره: إني أعلم
من كل أعلم غيب، وكونها في الموضعين فعلاً مضارعاً أخصر وأبلغ.
انتهى. وما نقله ابن عطية عن المهدوي وهم. والذي ذكر المهدوي
في تفسيره ما نصه: {وأعلم ما تبدون} ، يجوز أن ينتصب ما بأعلم
على أنه فعل، ويجوز أن يكون بمعنى عالم، أو يكون ما جراً
بالإضافة، ويجوز أن يقدر التنوين في أعلم إذا قدرته بمعنى عالم
وتنصب ما به، فيكون بمعنى حواج بيت الله، انتهى. فأنت ترى أنه
لم يذهب إلى أن أفعل للتفضيل وأنه لم يجز الجر في ما والنصب،
وتكون أفعل اسماً إلا إذا كان بمعنى فاعل لا أفعل تفضيل، ولا
يمكن أن يقال ما نقله ابن عطية عن المهدوي من جواز أن يكون
أعلم أفعل بمعنى التفضيل، وخفض ما بالإضافة ألبتة.
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَئِكَةِ اسْجُدُواْ لأًّدَمَ
فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ
مِنَ الْكَفِرِينَ} .
{إبليس} : اسم أعجميّ منع الصرف للعجمة
والعلمية، قال الزجاج: ووزنه فعليل، وأبعد أبو عبيدة وغيره في
زعمه أنه مشتق من الإبلاس، وهو الإبعاد من الخير، ووزنه على
هذا، فعيل، لأنه قد تقرر في علم التصريف أن الاشتقاق العربي لا
يدخل في الأسماء الأعجمية، واعتذر من قال بالاشتقاق فيه عن منع
الصرف بأنه لا نظير له في الأسماء، وردّنا: غريض، وإزميل،
وإخريط، وإجفيل، وإعليط، وإصليت، وإحليل، وإكليل، وإحريض. وقد
قيل: شبه بالأسماء الأعجمية، فامتنع الصرف للعلمية، وشبه
العجمة، وشبه العجمة هو أنه وإن كان مشتقاً من الإبلاس فإنه لم
يسم به أحد من العرب، فصار خاصاً بمن أطلقه الله عليه، فكأنه
دليل في لسانهم، وهو علم مرتجل. وقد روي اشتقاقه من الإبلاس عن
ابن عباس والسدي، وما إخاله يصح. الإباء: الامتناع، قال
الشاعر:
وأما أن تقولوا قد أبينا
فشرّ مواطن الحسب الإباء
والفعل منه: أبى يأبى، ولما جاء مضارعه على يفعل بفتح العين
وليس بقياس أحرى، كأنه مضارع فعل بكسر العين، فقالوا فيه: يئبى
بكسر حرف المضارعة، وقد سمع فيه أبي بكسر العين فيكون بأبي على
هذه اللغة قياساً، ووافق من قال أبي بفتح العين على هذه اللغة.
وقد زعم أبو القاسم السعدي أن أبى يأتي بفتح العين لا خلاف
فيه، وليس بصحيح، فقد حكى أبى بكسر العين صاحب «المحكم» . وقد
جاء يفعل في أربعة عشر فعلاً وماضيها فعل، وليست عينه ولا لامه
حرف حلق. وفي بعضها سمع أيضاً فعل بكسر العين، وفي بعض مضارعها
سمع أيضاً يفعل ويفعل بكسر العين وضمها، ذكرها التصريفيون.
الاستكبار والتكبر: وهو مما جاء فيه استفعل بمعنى تفعل، وهو
أحد المعاني الإثني عشر التي جاءت لها استفعل، وهي مذكورة في
شرح نستعين.
وإذ: ظرف كما سبق فقيل بزيادتها. وقيل:
العامل فيها فعل مضمر يشيرون إلى ادكر. وقيل: هي معطوفة على ما
قبلها، يعني قوله: {وإذ قال ربك} (البقرة: 30) } ، ويضعف الأول
بأن الأسماء لا تزاد، والثاني أنها لازم ظرفيتها، والثالث
لاختلاف الزمانين فيستحيل وقوع العامل الذي اخترناه في إذ
الأولى في إذ هذه. وقيل: العامل فيها أبى، ويحتمل عندي أن يكون
العامل في إذ محذوف دل عليه قوله: {فسجدوا} ، تقديره: انقادوا
وأطاعوا.
وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع وسليمان بن مهران: بضم التاء
{للملائكةُ} ، اتباعاً لحركة الجيم ونقل أنها لغة أزدشنوءة.
قال الزجاج: هذا غلط من أبي جعفر، وقال الفارسي: هذا خطأ، وقال
ابن جني: لأن كسرة التاء كسرة إعراب، وإنما يجوز هذا الذي ذهب
إليه أبو جعفر، إذا كان ما قبل الهمزة ساكناً صحيحاً نحو:
{وقالت اخرج} (يوسف: 31) } . وقال الزمخشري: لا يجوز لاستهلاك
الحركة الإعرابية بحركة الاتباع إلا في لغة ضعيفة كقولهم:
{الحمد لله} ، انتهى كلامه. وإذا كان ذلك في لغة ضعيفة، وقد
نقل أنها لغة أزدشنوءة، فلا ينبغي أن يخطأ القارىء بها ولا
يغلط، والقارىء بها أبو جعفر، أحد القراء المشاهير الذين أخذوا
القرآن عرضاً عن عبد الله بن عباس وغيره من الصحابة، وهو شيخ
نافع بن أبي نعيم، أحد القراء السبعة، وقد علل ضم التاء لشبهها
بألف الوصل، ووجه الشبه أن الهمزة تسقط في الدرج لكونها ليست
بأصل، والتاء في الملائكة تسقط أيضاً لأنها ليست بأصل. ألا
تراهم قالوا: الملائك؟ وقيل: ضمت لأن العرب تكره الضمة بعد
الكسرة لثقلها.
{فَسَجَدُواْ} واللام في لآدم للتبيين، وهو أحد المعاني السبعة
عشر التي ذكرناها عند شرح {الحمد لله} . {إلا إبليس} : هو
مستنثى من الضمير في {فسجدوا} ، وهو استثناء من موجب في نحو
هذه المسألة فيترجح النصب، وهو استثناء متصل عند الجمهور.
وقيل: هو استثناء منقطع.
والخلاف الذي أشرنا إليه هو أنك إذا قلت:
قام القوم إلا زيداً، فمذهب الكسائي أن التخريج من الاسم، وأن
زيداً غير محكوم عليه بقيام ولا غيره، فيحتمل أن يكون قد قام،
وأن يكون غير قائم. ومذهب الفراء أن الاستثناء من القول،
والصحيح مذهبنا، وهو أن الاسم مستثنى من الاسم وأن الفعل
مستثنى من الفعل. ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب النحو،
ومفعول أبى محذوف لأنه يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد، قال
الشاعر:
أبى الضيم والنعمان يحرق نابه
عليه فأفضى والسيوف معاقله
والتقدير: أبى السجود، وأبى من الأفعال الواجبة التي معناها
النفي، ولهذا يفرغ ما بعد إلا كما يفرغ الفعل المنفي، قال
تعالى: {ويأبى الله إلا أن يتم نوره} (التوبة: 32) } ، ولا
يجوز: ضربت إلا زيداً على أن يكون استثناء مفرغاً لأن إلا لا
تدخل في الواجب، وقال الشاعر:
أبى الله إلا عدله ووفاءه
فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
{وَقُلْنَا يَاءَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ
وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا
هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّلِمِينَ} .
{رغداً} : أي واسعاً كثيراً لا عناء فيه، قال امرؤ القيس:
بينما المرء تراه ناعماً
يأمن الأحداث في عيش رغد
وتميم تسكن الغين. وزعم بعض الناس أن كل
اسم ثلاثي حلقي العين صحيح اللام يجوز فيه تحريك عينه
وتسكينها، مثل: بحر وبحر، ونهر ونهر، فأطلق هذا الإطلاق، وليس
كذلك، بل ما وضع من ذلك على فعل بفتح العين لا يجوز فيه
التسكين نحو: السحر لا يقال فيه السحر، وإنما الكلام في فعل
المفتوح الفاء الساكن العين، وفي ذلك خلاف. ذهب البصريون إلى
أن فتح ما ورد من ذلك مقصور على السماع، وهو مع ذلك مما وضع
على لغتين، لا أن أحدهما أصل للآخر. وذهب الكوفيون إلى أن بعضه
ذو لغتين، وبعضه أصله التسكين ثم فتح. وقد اختار أبو الفتح
مذهب الكوفيين، والاستدلال مذكور في كتب النحو. {حيث} : ظرف
مكان مبهم لازم الظرفية، وجاء جره بمن كثيراً وبفي، وإضافة لدى
إليه قليلاً، ولإضافتها لا ينعقد منها مع ما بعدها كلام، ولا
يكون ظرف زمان خلافاً للأخفش، ولا ترفع اسمين نائبة عن ظرفين،
نحو: زيد حيث عمر، وخلافاً للكوفيين، ولا يجزم بها دون ما
خلافاً للفراء، ولا تضاف إلى المفرد خلافاً للكسائي، وما جاء
من ذلك حكمنا بشذوذه، وهي مبنية وتعتقب على آخرها الحركات
الثلاث، ويجوز: حوث، بالواو وبالحركات الثلاث. وحكى الكسائي أن
إعرابها لغة بني فقعس.
و {أنت} : توكيد للضمير المستكن في أسكن،
وهذا أحد المواضع التي يستكن فيها الضمير وجوباً. {وزوجك} :
معطوف على ذلك الضمير المستكن، وحسن العطف عليه تأكيده بأنت،
ولا يجوز عند البصريين العطف عليه دون تأكيد أو فصل يقوم مقام
التأكيد، أو فصل بلا بين حرف العطف والمعطوف، وما سوى ذلك
ضرورة وشاذ. وقد روي: قم وزيد، وأجاز الكوفيون العطف على ذلك
الضمير من غير توكيد ولا فصل. وتظافرت نصوص النحويين والمعربين
على ما ذكرناه من أن وزوجك معطوف على الضمير المستكن في اسكن،
ويكون إذ ذاك من عطف المفردات. وزعم بعض الناس أنه لا يجوز إلا
أن يكون من عطف الجمل، التقدير: ولتسكن زوجك، وحذف: ولتسكن،
لدلالة اسكن عليه، وأتى بنظائر من هذا الباب نحو: لا نخلفه نحن
ولا أنت، ونحو: تقوم أنت وزيد، ونحو: ادخلوا أولكم وآخركم،
وقوله:
نطوف ما نطوف ثم يأوي
ذوو الأموال منا والعديم
إذا أعربناه بدلاً لا توكيداً، هو على إضمار فعل، فتقديره
عنده، ولا تخلفه أنت، ويقوم زيد، وليدخل أولكم وآخركم، ويأوي
ذوو الأموال. وزعم أنه استخرج ذلك من نص كلام سيبويه، وليس كما
زعم بل نص سيبويه على مسألة العطف في كتابه، كما ذهب إليه
النحويون. قال سيبويه، رحمه الله: وأما ما يقبح أن يشركه
المظهر فهو الضمير المرفوع، وذلك فعلت وعبد الله، وأفعل وعبد
الله، ثم ذكر تعليل الخليل لقبحه، ثم قال: فإن نعته حسن أن
يشركه المظهر، وذلك قولك: ذهبت أنت وزيد. وقال الله عز وجل:
{اذهب أنت وربك فقاتلا} (المائدة: 24) واسكن أنت وزوجك الجنة}
(البقرة: 35) (الأعراف: 19) ، انتهى.
فهذا نص من سيبويه على أنه من عطف المظهر على المضمر، وقد أجمع
النحويون على جواز: تقوم عائشة وزيد، ولا يمكن لزيد أن يباشر
العامل، ولا نعلم خلافاً أن هذا من عطف المفردات. ولتكميل
الكلام على هذه المسألة مكان غير هذا.
والأصل في: كل أؤكل. الهمزة الأولى هي
المجتلبة للوصل، والثانية هي فاء الكلمة، فحذفت الثانية
لاجتماع المثلين حذف شذوذ، فوليت همزة الوصل الكاف، وهي
متحركة، وإنما اجتلبت للساكن، فلما زال موجب اجتلابها زالت هي.
قال ابن عطية وغيره: وحذفت النون من كلا للأمر، انتهى كلامه.
وهذا الذي ذكر ليس على طريقة البصريين، فإن فعل الأمر عندهم
مبني على السكون، فإذا اتصل به ضمير بارز كانت حركة آخره
مناسبة للضمير، فتقول: كلي، وكلا، وكلوا، وفي الإناث يبقى
ساكناً نحو: كلن. وللمعتل حكم غير هذا، فإذا كان هكذا فقوله:
وكلا، لم تكن فيه نون فتحذف للأمر، وإنما يكون ما ذكره على
مذهب الكوفيين، حيث زعموا أن فعل الأمر معرب، وأن أصل: كل
لتأكل، ثم عرض فيه من الحذف بالتدريج إلى أن صار: كل. فأصل
كلا: لتأكلا، وكان قبل دخول لام الأمر عليه فيه نون، إذ كان
أصله: تأكلان، فعلى قولهم يتم قول ابن عطية: إن النون من كلا
حذفت للأمر.
وانتصاب {رغداً} ، قالوا: على أنه نعت لمصدر محذوف تقديره أكلا
رغداً. وقال ابن كيسان: هو مصدر في موضع الحال، وفي كلا
الإعرابين نظر. أما الأول: فإن مذهب سيبويه يخالفه، لأنه لا
يرى ذلك، وما جاء من هذا النوع جعله منصوباً على الحال من
الضمير العائد على المصدر الدال عليه الفعل. وأما الثاني: فإنه
مقصور على السماع. وشاء في وزنه خلاف، فنقل عن سيبويه: أن وزنه
فعل بكسر العين فنقلت حركتها إلى الشين فسكنت، واللام ساكنة
للضمير، فالتقى ساكنان، فحذفت لالتقاء الساكنين، وكسرت الشين
لتدل على أن المحذوف هو ياء، كما صنعت في بعت.
{الشجرة} : نعت لإسم الإشارة، فتكونا منصوب
جواب النهي، ونصبه عند سيبويه والبصريين بأن مضمرة بعد الفاء،
وعند الجرمي بالفاء نفسه، وعند الكوفيين بالخلاف. وتحرير القول
في هذه المذاهب يذكر في كتب النحو. وأجازوا أن يكون فتكونا
مجزوماً عطفاً على تقربا، قاله الزجاج وغيره، نحو قوله:
فقلت له صوب ولا تجهدنه
فيذرك من أعلى القطاة فتزلق
والأول أظهر لظهور السببية، والعطف لا يدل عليها.
{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَنُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا
كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِى الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَعٌ إِلَى
حِينٍ * فَتَلَقَّىءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ
عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا
اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى
هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ
هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ
بِآيَتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَلِدُونَ} .
{بعض} : أصله مصدر بعض يبعض بعضاً، أي قطع، ويطلق على الجزء،
ويقابله كل، وهما معرفتان لصدور الحال منهما في فصيح الكلام،
قالوا: مررت ببعض قائماً، وبكل جالساً، وينوي فيهما الإضافة،
فلذلك لا تدخل عليهما الألف واللام، ولذلك خطؤا أبا القاسم
الزجاجي في قوله: ويبدل البعض من الكل، ويعود الضمير على بعض،
إذا أريد به جمع مفرداً ومجموعاً. وكذلك الخبر والحال والوصف
يجوز إفراده إذ ذاك وجمعه.
المستقر: مستفعل من القرار، وهو اللبث والإقامة، ويكون مصدراً
وزماناً ومكاناً لأنه من فعل زائد على ثلاثة أحرف، فيكون لما
ذكر بصورة المفعول.
الآية: العلامة، ويجمع آيا وآيات، قال النابغة:
توهمت آيات لها فعرفتها
لستة أعوام وذا العام سابع
ووزنها عند الخليل وسيبويه: فعلة، فأعلت
العين وسلمت اللام شذوذاً والقياس العكس. وعند الكسائي: فاعلة،
حذفت العين لئلا يلزم فيه من الإدغام ما لزم في دابة، فتثقل،
وعند الفراء: فعلة، فأبدلت العين ألفاً استثقالاً للتضعيف، كما
أبدلت في قيراط وديوان، وعند بعض الكوفيين: فعلة: استثقل
التضعيف فقلبت الفاء الأولى ألفاً لانكسارها وتحرك ما قبلها،
وهذه مسألة ينهى الكلام عليها في علم التصريف.
{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَنُ عَنْهَا} : الهمزة: كما تقدم في
أزل للتعدية، والمعنى: جعلهما زلاً بإغوائه وحملهما على أن
زلاً وحصلا في الزلة، هذا أصل همزة التعدية. وقد تأتي بمعنى
جعل أسباب الفعل، فلا يقع إذ ذاك الفعل. تقول: أضحكت زيداً فما
ضحك وأبكيته فما بكى، أي جعلت له أسباب الضحك وأسباب البقاء
فما ترتب على ذلك ضحكه ولا بكاؤه، والأصل هو الأول.
{قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا} وهذه الجملة
في موضع الحال، أي اهبطوا متعادين، والعامل فيها اهبطوا. فصاحب
الحال الضمير في اهبطوا، ولم يحتج إلى الواو لإغناء الرابط
عنها، واجتماع الواو والضمير في الجملة الإسمية الواقعة حالاً
أكثر من انفراد الضمير. وفي كتاب الله تعالى: {ويوم القيامة
ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة} (الزمر: 60) ، وليس
مجيئها بالضمير دون الواو شاذاً، خلافاً للفراء ومن وافقه
كالزمخشري. وقد روى سيبويه عن العرب كلمته: فوه إلى فيّ، ورجع
عوده على بدئه، وخرجه على وجهين: أحدهما: أن عوده مبتدأ وعلى
بدئه خبر، والجملة حال، وهو كثير في لسان العرب، نظمها ونثرها،
فلا يكون ذلك شاذاً. وأجاز مكي بن أبي طالب أن تكون الجملة
مستأنفة إخباراً من الله تعالى بأن بعضهم لبعض عدوّ، فلا يكون
في موضع الحال، وكأنه فر من الحال، لأنه تخيل أنه يلزم من
القيد في الأمر أن يكون مأموراً به، أو كالمأمور. ألا ترى أنك
إذا قلت قم ضاحكاً كان المعنى الأمر بإيقاع القيام مصحوباً
بالحال فيكون مأموراً بها أو كالمأمور، لأنك لم تسوّغ له
القيام إلا في حال الضحك وما يتوصل إلى فعل المأمور إلا به
مأمور به؟ والله تعالى لا يأمر بالعداوة ولا يلزم ما يتخيل من
ذلك.
وقوله: لبعض متعلق بقوله عدوّ، واللام مقوية لوصول عدوّ إليه،
وأفرد عدوّ على لفظ بعض أو لأنه يصلح للجمع، كما سبق ذكر ذلك
عند الكلام على بعض وعلى عدوّ حالة الإفراد.
{وَلَكُمْ فِى الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} :
مبتدأ وخبر. لكم هو الخبر، وفي الأرض متعلق بالخبر، وحقيقته
أنه معمول للعامل في الخبر، والخبر هنا مصحح لجواز الابتداء
بالنكرة، ولا يجوز {في الأرض} أن يتعلق بمستقر، سواء كان يراد
به مكان استقرار كما قاله أبو العالية وابن زيد، أو المصدر، أي
استقرار، كما قاله السدي، لأن اسم المكان لا يعمل، ولأن المصدر
الموصول لا يجوّز بعضهم تقديم معموله عليه، ولا يجوز في الأرض
أن يكون خبراً، ولكم متعلق بمستقرّ لما ذكرناه، أو في موضع
الحال من مستقر، لأن العامل إذ ذاك فيها يكون الخبر، وهو عامل
معنوي، والحال متقدمة على جزأي الإسناد، فلا يجوز ذلك، وصار
نظير: قائماً زيد في الدار، أو قائماً في الدار زيد، وهو لا
يجوز بإجماع.
{وَمَتَعٌ إِلَى حِينٍ} ويتعلق إلى بمحذوف،
أي ومتاع كائن إلى حين، أو بمتاع، أي واستمتاع إلى حين، وهو من
باب الإعمال، أعمل فيه الثاني ولم يحتج إلى إضمار في الأول،
لأن متعلقه فضلة، فالأولى حذفه، ولا جائز أن يكون من أعمال
الأول، لأن الأولى أن لا يحذف من الثاني والأحسن حمل القرآن
على الأولى. والأفصح لا يقال إنه لا يجوز أن يكون من باب
الإعمال، وإن كان كل من مستقرّ ومتاع يقتضيه من جهة المعنى
بسبب أن الأول لا يجوز أن يتعلق به إلى حين، لأنه يلزم من ذلك
الفصل بين المصدر ومعموله بالمعطوف، والمصدر موصول فلا يفصل
بينه وبين معموله، لأن المصدر هنا لا يكون موصولاً، وذلك أن
المصدر منه ما يلحظ فيه الحدوث فيتقدر بحرف مصدري مع الفعل،
وهذا هو الموصول، وإنما كان موصولاً باعتبار تقديره بذلك الحرف
الذي هو موصول بالفعل، وإلا فالمصدر من حيث هو مصدر لا يكون
موصولاً، ومنه ما لا يلحظ فيه الحدوث، نحو وله: لزيد معرفة
بالنحو، وبصر بالطب، وله ذكاء ذكاء الحكماء. فمثل هذا لا يتقدر
بحرف مصدري والفعل، حتى ذكر النحويون أن هذا المصدر إذا أضيف
لم يحكم على الاسم بعده، لا برفع ولا بنصب، قالوا: فإذا قلت:
يعجبني قيام زيد، فزيد فاعل القيام تأويله يعجبني أن يقوم زيد،
وممكن أن زيداً يعرا منه القيام، ولا يقصد فيه إلى إفادة
المخاطب أنه فعل القيام فيما مضى، أو يفعله فيما يستقبل، بل
تكون النية في الإخبار كالنية في: يعجبني خاتم زيد المحدود
المعروف بصاحبه والمخفوض بالمصدر. على هذه الطريقة لا يقضى
عليه برفع، ولا يؤكد، ولا ينعت، ولا يعطف عليه إلا بمثل ما
يستعمل مع المخفوضات الصحاح، انتهى.
فأنت ترى تجويزهم أن لا يكون موصولاً مع
المصدر الذي يمكن أن يكون موصولاً، وهو قولهم: يعجبني قيام
زيد، فكيف مع ما لا يجوز أن يكون موصولاً نحو: ما مثلنا به من
قوله: له ذكاء ذكاء الحكماء، وبصر بالطب، ونحو ذلك، فكذلك يكون
مستقر ومتاع من قبيل ما لا يكون موصولاً. ولا يمتنع أن يعمل في
الجار والمجرور، وإن لم يكن موصولاً، كما مثلنا في قوله: له
معرفة بالنحو، لأن الظرف والجار والمجرور يعمل فيهما روائح
الأفعال، حتى الأسماء الأعلام، نحو قولهم: أنا أبو المنهال بعض
الأحيان، وأنا ابن ماوية إذ جدّ النقر. وأما أن تعمل في
الفاعل، أو المفعول به فلا. وأما إذا قلنا بمذهب الكوفيين، وهو
أن المصدر إذا نون، أو دخلت عليه الألف واللام، تحققت له
الاسمية وزال عنه تقدير الفعل، فانقطع عن أن يحدث إعراباً،
وكانت قصته قصة زيد وعمرو والرجل والثوب، فيمكن أيضاً أن يخرج
عليه قوله تعالى: {مستقر ومتاع إلى حين} ، ولا يبعد على هذا
التقدير تعلق الجار والمجرور بكل منهما، لأنه يتسع فيهما ما لا
يتسع في غيرهما، ولأن المصدر إذ ذاك لا يكون بأبعد في العمل في
الظرف أو المجرور من الاسم العلم.
{جَمِيعاً} : حال من الضمير في {اهبطوا} ،
وأبعد ابن عطية في قوله: كأنه قال هبوطاً جميعاً، أو هابطين
جميعاً، فجعله نعتاً لمصدر محذوف، أو لاسم فاعل محذوف، كل
منهما يدل عليه الفعل. قال: لأن جميعاً ليس بمصدر ولا اسم
فاعل، مع منافاة ما قدره للحكم الذي صدره، لأنه قال: أولاً
وجميعاً حال من الضمير في اهبطوا. فإذا كان حالاً من الضمير في
اهبطوا على ما قرر أولاً، فكيف يقدر ثانياً؟ كأنه قال: هبوطاً
جميعاً، أو هابطين جميعاً. فكلامه أخيراً يعارض حكمه أولاً،
ولا ينافي كونه ليس بمصدر ولا اسم فاعل وقوعه حالاً حتى يضطر
إلى هذا التقدير الذي قدره. وأبعد غيره أيضاً في زعمه أن
التقدير: وقلنا اهبطوا مجتمعين، فهبطوا جميعاً، فجعل ثم حالاً
محذوفة لدلالة جميعاً عليها، وعاملاً محذوفاً لدلالة اهبطوا
عليه. ولا يلتئم هذا التقدير مع ما بعده إلا على إضمار قول: أي
فقلنا: إما يأتينكم.
{فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى}
وإن شرطية وما زائدة بعدها للتوكيد، والنون في يأتينكم نون
التوكيد، وكثر مجيء هذا النحو في القرآن: {فإما ترين} (مريم:
26) ، وإما ينزغنك} (الأعراف: 200) ، فإما نذهبن} (الزخرف: 41)
. قال أبو العباس المهدوي: إن: هي، التي للشرط زيدت عليها ما
للتأكيد ليصح دخول النون للتوكيد في الفعل، ولو سقطت، يعني ما
لم تدخل النون، فما تؤكد أول الكلام، والنون تؤكد آخره. وتبعه
ابن عطية في هذا فقال: فإن هي للشرط، دخلت ما عليها مؤكدة ليصح
دخول النون المشددة، فهي بمثابة لام القسم التي تجيء لمجيء
النون، انتهى كلامه. وهذا الذي ذهبا إليه من أن النون لازمة
لفعل الشرط إذا وصلت إن بما، هو مذهب المبرد والزجاج، زعما
أنها تلزم تشبيهاً بما زيدت للتأكيد في لام اليمين نحو: والله
لأخرجن. وزعموا أن حذف النون إذا زيدت ما بعد إن ضرورة. وذهب
سيبويه والفارسي وجماعة من المتقدمين إلى أن ذلك لا يختص
بالضرورة، وأنه يجوز في الكلام إثباتها وحذفها، وإن كان
الإثبات أحسن. وكذلك يجوز حذف ما وإثبات النون، قال سيبويه في
هذه المسألة: وإن شئت لم تقحم النون، كما أنك إن شئت لم تجيء
بما، انتهي كلامه. وقد كثر السماع بعدم النون بعد إما، قال
الشنفري:
فإما تريني كابنة الرمل ضاحياً
على رقة أحفى ولا أتنعل}
وقال آخر:
يا صاح إما تجدني غير ذي جدة
فما التخلي عن الإخوان من شيمي
وقال آخر:
زعمت تماضر أنني إما أمت
تسددا بينوها الأصاغر خلتي
والقياس يقبله، لأن ما زيدت حيث لا يمكن دخول النون، نحو قول
الشاعر:
إمّا أقمت وإمّا كنت مرتحلاً
فالله يحفظ ما تبقى وما تذر
فكما جاءت هنا زائدة بعد أن، فكذلك في نحو: إما تقم يأتينكم،
مبني مفتوح الآخر. واختلف في هذه الفتحة أهي للبناء، أم بني
على السكون وحرك بالفتحة لالتقاء الساكنين: وقد أوضحنا ذلك في
كتابنا المسمى «بالتكميل لشرح التسهيل» .
{فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} فمن تبع: الفاء مع
ما دخلت عليه جواب لقوله: {فإما يأتينكم} . وقال السجاوندي:
الجواب محذوف تقديره فاتبعوه، انتهى. فكأنه على رأيه حذف
لدلالة قوله بعده: {فمن تبع هداي} . وتظافرت نصوص المفسرين
والمعربين على أن: من، في قوله: فمن تبع، شرطية، وأن جواب هذا
الشرط هو قوله: {فلا خوف} ، فتكون الآية فيها شرطان. وحكي عن
الكسائي أن قوله: {فلا خوف} جواب للشرطين جميعاً، وقد أتقنا
مسألة اجتماع الشرطين في «كتاب التكميل» ، ولا يتعين عندي أن
تكون من شرطية، بل يجوز أن تكون موصولة، بل يترجح ذلك لقوله في
قسيمه: {والذين كفروا وكذبوا} (البقرة: 39) ، فأتى به موصولاً،
ويكون قوله: فلا خوف} جملة في موضع الخبر. وأما دخول الفاء في
الجملة الواقعة خبراً، فإن الشروط المسوّغة لذلك موجودة هنا.
{فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} : قرأ الجمهور
بالرفع والتنوين، وقرأ الزهري وعيسى الثقفي ويعقوب بالفتح في
جميع القرآن، وقرأ ابن محيصن باختلاف عنه بالرفع من غير تنوين
وجه قراءة الجمهور مراعاة الرفع في {ولا هم يحزنون} ، فرفعوا
للتعادل. قال ابن عطية: والرفع على إعمالها إعمال ليس، ولا
يتعين ما قاله، بل الأولى أن يكون مرفوعاً بالابتداء لوجهين:
أحدهما: أن إعمال لا عمل ليس قليل جداً، ويمكن النزاع في صحته،
وإن صح فيمكن النزاع في اقتياسه. والثاني: حصول التعادل
بينهما، إذ تكون لا قد دخلت في كلتا الجملتين على مبتدأ ولم
تعمل فيهما. ووجه قراءة الزهري ومن وافقه أن ذلك نص في العموم،
فينفي كل فرد فرد من مدلول الخوف، وأما الرفع فيجوزه وليس
نصاً، فراعوا ما دل على العموم بالنص دون ما يدل عليه بالظاهر.
وأما قراءة ابن محيصن فخرجها ابن عطية على أنه من إعمال لا عمل
ليس، وأنه حذف التنوين تخفيفاً لكثرة الاستعمال. وقد ذكرنا ما
في إعمال لا عمل ليس، فالأولى أن يكون مبتدأ، كما ذكرناه، إذا
كان مرفوعاً منوناً، وحذف تنوينه كما قال لكثرة الاستعمال،
ويجوز أن يكون عري من التنوين لأنه على نية الألف واللام،
فيكون التقدير: فلا الخوف عليهم، ويكون مثل ما حكى الأخفش عن
العرب: سلام عليكم، بغير تنوين. قالوا: يريدون السلام عليكم،
ويكون هذا التخريج أولى، إذ يحصل التعادل في كون لا دخلت على
المعرفة في كلتا الجملتين، وإذا دخلت على المعارف لم تجز مجرى
ليس، وقد سمع من ذلك بيت للنابغة الجعدي، وتأوله النحاة وهو:
وحلت سواد القلب لا أنا باغياً
سواها ولا في حبها متراخياً
وقد لحنوا أبا الطيب في قوله:
فلا الحمد مكسوباً ولا المال باقياً
{ِوَالَّذِينَ
كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَبُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ} وبآياتنا متعلق بقوله:
{وكذبوا} ، وهو من إعمال الثاني، إن قلنا: إن كفروا، يطلبه من
حيث المعنى، وإن قلنا: لا يطلبه، فلا يكون من الإعمال، ويحتمل
الوجهين. و {أولئك} مبتدأ، {وأصحاب} : خبر عنه، والجملة خبر عن
قوله: {والذين كفروا} ، وجوزوا أن يكون أولئك بدلاً وعطف بيان،
فيكون أصحاب النار، إذ ذاك، خبراً عن الذين كفروا.
{هم فيها خالدون} . ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالية، كما جاء
في مكان آخر: {أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها} (الأحقاف: 14) ،
فيكون، إذ ذاك، لها موضع من الإعراب نصب. ويحتمل أن تكون جملة
مفسرة لما انبهم في قوله: أولئك أصحاب النار} ، ففسر وبين أن
هذه الصحبة لا يراد بها مطلق الاقتران، بل الخلود، فلا يكون
لها إذ ذاك موضع من الإعراب. ويحتمل أن يكون خبراً ثانياً
للمبتدأ الذي هو: أولئك، فيكون قد أخبر عنه بخبرين: أحدهما
مفرد، والآخر جملة، وذلك على مذهب من يرى ذلك، فيكون في موضع
رفع.
{يَبَنِى إِسْرَءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِى
أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّىَ فَارْهَبُونِ * وَءَامِنُواْ بِمَآ
أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ
أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَتِي ثَمَنًا
قَلِيلاً وَإِيَّىَ فَاتَّقُونِ * وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ
بِالْبَطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ *
وَأَقِيمُواْ الصَّلوةَ وَآتُواْ الزَّكَوةَ وَارْكَعُواْ مَعَ
الرَّاكِعِينَ} .
ابن: محذوف اللام، وقيل: الياء خلاف، وفي
وزنه على كلا التقديرين خلاف، فقيل: فعل، وقيل: فعل. فمن زعم
أن أصله ياء جعله مشتقاً من البناء، وهو وضع الشيء على الشيء.
والابن فرع عن الأب، فهو موضوع عليه، وجعل قولهم: البنوّة شاذ
كالفتوّة، ومن زعم أن أصله واو، وإليه ذهب الأخفش، جعل البنوّة
دليلاً على ذلك، ولكون اللام المحذوفة واواً أكثر منها ياء.
وجمع ابن جمع تكسير، فقالوا: أبناء، وجمع سلامة، فقالوا: بنون،
وهو جمع شاذ، إذ لم يسلم فيه بناء الواحد، فلم يقولوا: ابنون،
ولذلك عاملت العرب هذا الجمع في بعض كلامها معاملة جمع
التكسير، فألحقت التاء في فعله، كما ألحقت في فعل جمع التكسير،
قال النابغة:
قالت بنو عامر خالو بني أسد
يا بؤس للجهل ضرّاراً لأقوام
وقد سمع الجمع بالواو والنون فيه مصغراً، قال يسدد:
أبينوها الأصاغر خلتي
وهو شاذ أيضاً.
{إسرائيل} : اسم عجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة، وقد ذكروا
أنه مركب من إسرا: وهو العبد، وإيل: اسم من أسماء الله تعالى،
فكأنه عبد الله، وذلك باللسان العبراني.
{أول} : عند سيبويه: أفعل، وفاؤه وعينه
واوان، ولم يستعمل منه فعل لاستثقال اجتماع الواوين، فهو مما
فاؤه وعينه من جنس واحد، لم يحفظ منه إلا: ددن، وققس، وببن،
وبابوس. وقيل: إن بابوساً أعجمي، وعند الكوفيين أفعل من وأل
إذا لجأ، فأصله أوأل، ثم خفف بإبدال الهمزة واواً، ثم
بالإدغام، وهذا تخفيف غير قياسي، إذ تخفيف مثل هذا إنما هو
بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها. وقال بعض الناس: هو
أفعل من آل يؤل، فأصله أأول، ثم قلب فصار أوأل أعفل، ثم خفف
بإبدال الهمزة واواً، ثم بالإدغام. وهذان القولان ضعيفان،
ويستعمل أول استعمالين: أحدهما: أن يجري مجرى الأسماء، فيكون
مصروفاً، وتليه العوامل نحو: أفكل، وإن كان معناه معنى قديم،
وعلى هذا قول العرب: ما تركت له أولاً ولا آخراً، أي ما تركت
له قديماً ولا حديثاً. والاستعمال الثاني: أن يجري مجرى أفعل
التفضيل، فيستعمل على ثلاثة أنحائه من كونه بمن ملفوظاً بها،
أو مقدرة، وبالألف واللام، وبالإضافة. وقالت العرب: ابدأ بهذا
أول، فهذا مبني على الضم باتفاق، والخلاف في علة بنائه ذلك
لقطعه عن الإضافة، والتقدير: أول الأشياء، أم لشبه القطع عن
الإضافة، والتقدير: أول من كذا. والأولى أن تكون العلة القطع
عن الإضافة، والخلاف إذا بني، أهو ظرف أو اسم غير ظرف؟ وهو
خلاف مبني على أن الذي يبنى للقطع شرطه أن يكون ظرفاً، أو لا
يشترط ذلك فيه، وكل هذا مستوفى في علم النحو.
{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ
بِعَهْدِكُمْ} وانجزام المضارع بعد الأمر نحو: اضرب زيداً
يغضب، يدل على معنى شرط سابق، وإلا فنفس الأمر وهو طلب إيجاد
الفعل لا يقتضي شيئاً آخر، ولذلك يجوز الاقتصار عليه فتقول:
أضرب زيداً، فلا يترتب على الطلب بما هو طلب شيء أصلاً، لكن
إذا لوحظ معنى شرط سابق ترتب عليه مقتضاه. وقد اختلف النحويون
في ذلك، فذهب بعضهم إلى أن جملة الأمر ضمنت معنى الشرط، فإذا
قلت: اضرب زيداً يغضب، ضمن اضرب معنى: أن تضرب، وإلى هذا ذهب
الأستاذ أبو الحسن بن خروف. وذهب بعضهم إلى أن جملة الأمر نابت
مناب الشرط، ومعنى النيابة أنه كان التقدير: اضرب زيداً، إن
تضرب زيداً يغضب، ثم حذفت جملة الشرط وأنيبت جملة الأمر
منابها. وعلى القول الأول ليس ثم جملة محذوفة، بل عملت الجملة
الأولى الجزم لتضمن الشرط، كما عملت من الشرطية الجزم لتضمنها
معنى إن. وعلى القول الثاني عملت الجزم لنيابتها مناب الجملة
الشرطية، وفي الحقيقة، العمل إنما هو للشرط المقدر، وهو اختيار
الفارسي والسيرافي، وهو الذي نص عليه سيبويه عن الخليل.
والترجيح بين القولين يذكر في علم النحو.
إياي: منصوب بفعل محذوف مقدراً بعده لانفصال الضمير، وإياي
ارهبوا، وحذف لدلالة ما بعده عليه وتقديره قبله، وهم من
السجاوندي، إذ قدره وارهبوا إياي، وفي مجيئه ضمير نصب مناسبة
لما قبله، لأن قبله أمر، ولأن فيه تأكيداً، إذ الكلام مفروغ في
قالب جملتين. ولو كان ضمير رفع لجاز، لكن يفوت هذان المعنيان.
وحذفت الياء ضمير النصب من فارهبون لأنها فاصلة.
والفاء في قوله: فارهبون، دخلت في جواب أمر
مقدّر، والتقدير: تنبهوا فارهبون. وقد ذكر سيبويه في كتابه ما
نصه: تقول: كل رجل يأتيك فاضرب، لأن يأتيك صفة ههنا، كأنك قلت:
كل رجل صالح فاضرب، انتهى. قال ابن خروف: قوله كل رجل يأتيك
فاضرب، بمنزلة زيداً فاضرب، إلا أن هنا معنى الشرط لأجل النكرة
الموصوفة بالفعل، فانتصب كل وهو أحسن من: زيداً فاضرب، انتهى.
ولا يظهر لي وجه إلا حسنية التي أشار إليها ابن خروف، والذي
يدل على أن هذا التركيب، أعني: زيداً فاضرب، تركيب عربي صحيح،
قوله تعالى: {بل الله فاعبد} (الزمر: 66) ، وقال الشاعر:
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
{وَإِيَّىَ فَارْهَبُونِ}
قال بعض أصحابنا: الذي ظهر فيها بعد البحث أن الأصل في: زيداً
فاضرب، تنبه: فاضرب زيداً، ثم حذف تنبه فصار: فاضرب زيداً.
فلما وقعت الفاء صدراً قدّموا الاسم إصلاحاً للفظ، وإنما دخلت
الفاء هنا لتربط هاتين الجملتين، انتهى ما لخص من كلامه. وإذا
تقرر هذا فتحتمل الآية وجهين: أحدهما: أن يكون التقدير وإياي
ارهبوا، تنبهوا فارهبون، فتكون الفاء دخلت في جواب الأمر،
وليست مؤخرة من تقديم. والوجه الثاني: أن يكون التقدير وتنبهوا
فارهبون، ثم قدّم المفعول فانفصل، وأخرت الفاء حين قدم المفعول
وفعل الأمر الذي هو تنبهوا محذوف، فالتقى بعد حذفه حرفان:
الواو العاطفة والفاء، التي هي جواب أمر، فتصدّرت الفاء، فقدم
المفعول وأخرت الفاء إصلاحاً للفظ، ثم أعيد المفعول على سبيل
التأكيد ولتكميل الفاصلة، وعلى هذا التقدير الأخير لا يكون
إياي معمولاً لفعل محذوف، بل معمولاً لهذا الفعل الملفوظ به،
ولا يبعد تأكيد الضمير المنفصل بالضمير المتصل، كما أكد المتصل
بالمنفصل في نحو: ضربتك إياك، وما في قوله: {بما أنزلت}
موصولة، أي بالذي أنزلت، والعائد محذوف تقديره: أنزلته، وشروط
جواز الحذف فيه موجودة.
وأبعد من جعل ما مصدرية، وأن التقدير:
وآمنوا بإنزالي لما معكم من التوراة، فتكون اللام في لما من
تمام المصدر لا من تمام. {مصدّقاً} . وعلى القول الأول يكون
{لما معكم} من تمام {مصدقاً} ، واللام على كلا التقديرين في
لما مقوية للتعدية، كهي في قوله تعالى: {فعال لما يريد} (هود:
107) (البروج: 16) . وإعراب مصدقاً على قول من جعل ما مصدرية
حال من ما في قوله: لما معكم} . ولا نقول: يبعد ذلك لدخول حرف
الجر على ذي الحال، لأن حرف الجر كما ذكرناه هو مقوّ للتعدية،
فهو كالحرف الزائد، وصار نظير: زيد ضارب، مجردة لهند، التقدير:
ضارب هنداً مجردة، ثم تقدمت هذه الحال، وهذا جائز عندنا، ويبعد
أن يكون حالاً من المصدر المقدر لوجهين: أحدهما: الفصل بين
المصدر ومعموله الحال المصدر. والوجه الثاني: أنه يبعد وصف
الإنزال بالتصديق إلا أن يتجوّز به، ويراد به المنزل، وعلى هذا
التقدير لا يكون لما معكم من تمامه، لأنه إذا أريد به المنزل
لا يكون متعدياً للمفعول. والظاهر أن مصدقاً حال من الضمير
العائد على الموصول المحذوف، وهي حال مؤكدة، والعامل فيها
أنزلت. وقيل: حال من ما في قوله: بما أنزلت، وهي حال مؤكدة
أيضاً.
{وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} : أفعل التفضيل إذا
أضيف إلى نكرة غير صفة، فإنه يبقى مفرداً مذكراً، والنكرة
تطابق ما قبلها، فإن كان مفرداً كان مفرداً، وإن كان تثنية كان
تثنية، وإن كان جمعاً كان جمعاً، فتقول: زيد أفضل رجل، وهند
أفضل امرأة، والزيدان أفضل رجلين، والزيدون أفضل رجال. ولا
تخلو تلك النكرة المضاف إليها أفعل التفضيل من أن تكون صفة أو
غير صفة، فإن كانت غير صفة فالمطابقة كما ذكرنا. وأجاز أبو
العباس: إخوتك أفضل رجل، بالإفراد، ومنع ذلك الجمهور. وإن كانت
صفة، وقد تقدم أفعل التفضيل جمع جازت المطابقة وجاز الإفراد،
قال الشاعر: أنشده الفراء:
وإذا هم طعموا فألأم طاعم
وإذا هم جاعوا فشرّ جياع فأفرد بقوله:
طاعم، وجمع بقوله: جياع. وإذا أفردت النكرة الصفة، وقبل أفعل
التفضيل جمع، فهو عند النحويين متأوّل، قال الفراء: تقديره من
طعم، وقال غيره: يقدر وصفاً لمفرد يؤدي معنى جمع، كأنه قال:
فألأم طاعم، وحذف الموصوف، وقامت الصفة مقامه، فيكون ما أضيف
إليه في التقدير وفق ما تقدمه. وقال بعض الناس: يكون التجوز في
الجمع، فإذا قيل مثلاً الزيدون أفضل عالم، فالمعنى: كل واحد من
الزيدين أفضل عالم. وهذه النكرة أصلها عند سيبويه التعريف
والجمع، فاختصروا الألف واللام وبناء الجمع. وعند الكوفيين أن
أفعل التفضيل هو النكرة في المعنى، فإذا قلت: أبوك أفضل عالم،
فتقديره عندهم: أبوك الأفضل العالم، وأضيف أفضل إلى ما هو هو
في المعنى. وجميع أحكام أفعل التفضيل مستوفاة في كتب النحو.
{وَإِيَّىَ فَاتَّقُونِ} : الكلام عليه إعراباً، كالكلام على
قوله: {وإيّاي فارهبون. {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ
بِالْبَطِلِ} . وظاهر هذا التركيب أن الباء في قوله بالباطل
للإلصاق، كقولك: خلطت الماء باللبن، فكأنهم نهوا عن أن يخلطوا
الحق بالباطل، فلا يتيمز الحق من الباطل، وجوز الزمخشري أن
تكون الباء للاستعانة، كهي في كتبت بالقلم، قال: كان المعنى:
ولا تجعلوا الحق ملتبساً مشتبهاً بباطلكم، وهذا فيه بعد عن هذا
التركيب، وصرف عن الظاهر بغير ضرورة تدعو إلى ذلك.
{وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ} : مجزوم عطفاً
على تلبسوا، والمعنى: النهي عن كل واحد من الفعلين، كما قالوا:
لا تأكل السمك وتشرب اللبن، بالجزم نهياً عن كل واحد من
الفعلين، وجوزوا أن يكون منصوباً على إضمار أن، وهو عند
البصريين عطف على مصدر متوهم، ويسمى عند الكوفيين النصب على
الصرف. والجرمي يرى أن النصب بنفس الواو، وهذا مذكور في علم
النحو. وما جوزوه ليس بظاهر، لأنه إذ ذاك يكون النهي منسحباً
على الجمع بين الفعلين، كما إذا قلت: لا تأكل السمك وتشرب
اللبن، معناه: النهي عن الجمع بينهما، ويكون بالمفهوم يدل على
جواز الالتباس بواحد منهما، وذلك منهي عنه، فلذلك رجح الجزم.
وقرأ عبد الله: {وتكتمون الحق} ، وخرج على أنها جملة في موضع
الحال، وقدره الزمخشري: كاتمين، وهو تقدير معنى لا تقدير
إعراب، لأن الجملة المثبتة المصدّرة بمضارع، إذا وقعت حالاً لا
تدخل عليها الواو، والتقدير الإعرابي هو أن تضمر قبل المضارع
هنا مبتدأ تقديره: وأنتم تكتمون الحق، ولا يظهر تخريج هذه
القراءة على الحال، لأن الحال قيد في الجملة السابقة، وهم قد
نهوا عن لبس الحق بالباطل، على كل حال فلا يناسب ذلك التقييد
بالحال إلا أن تكون الحال لازمة، وذلك أن يقال: لا يقع لبس
الحق بالباطل إلا ويكون الحق مكتوماً، ويمكن تخريج هذه القراءة
على وجه آخر، وهو أن يكون الله قد نعى عليهم كتمهم الحق مع
علمهم أنه حق، فتكون الجملة الخبرية عطفت على جملة النهي، على
من يرى جواز ذلك، وهو سيبويه وجماعة، ولا يشترط التناسب في عطف
الجمل، وكلا التخريجين تخريج شذوذ.
{وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة حالية، ومفعول تعلمون محذوف
اقتصاراً، وقال ابن عطية: وأنتم تعلمون، جملة في موضع الحال
ولم يشهد تعالى لهم بعلم، وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا،
انتهى.
ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص
في أمر محمد صلى الله عليه وسلّم ولم يشهد لهم بعلم على
الإطلاق، قال: ولا تكون الجملة على هذا في موضع الحال، انتهى.
يعني أن الجملة تكون معطوفة، وإن كانت ثبوتية على ما قبلها من
جملة النهي، وإن لم تكن مناسبة في الإخبار على ما قررناه من
الكلام في تخريجنا لقراءة عبد الله: وتكتمون.
والأظهر من هذه الأقاويل ما قدّمناه أوّلاً من كون العلم حذف
مفعوله حذف اقتصار.
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ
وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَبَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ *
وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةِ وَإِنَّهَا
لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ
أَنَّهُم مُّلَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَجِعُونَ}
.
والفعل منه: أمر يأمر، على: فعل يفعل، وتحذف فاؤه في الأمر منه
بغير لام، فتقول: مر زيداً وإتمامه قليل، أو مر زيداً، فإن
تقدم الأمر واو أو فاء، فإثبات الهمزة أجود، وهو مما يتعدّى
إلى مفعولين: أحدهما بنفسه، والآخر بحرف جر. ويجوز حذف ذلك
الحرف، وهو من أفعال محصورة تحذف من ثاني مفعوليها حرف الجر
جوازاً تحفظ ولا يقاس عليها. {بالصبر} صبر يصبر على فعل يفعل،
وأصله أن يتعدى لواحد. قال الشاعر:
فصبرت عارفة لذلك حرّة
ترسو إذا نفس الجبان تطلع
وقد كثر حذف مفعوله حتى صار كأنه غير متعدّ. وفي كلا
الاستعمالين يدخل على ما أصله المبتدأ والخبر بالشروط التي
ذكرت في النحو، خلافاً لأبي زيد السهيلي، إذ زعم أنها ليست من
نواسخ الابتداء. والظنّ أيضاً يستعمل بمعنى: التهمة، فيتعدى إذ
ذاك لواحد، قال الفراء: الظنّ يقع بمعنى الكذب، والبصريون لا
يعرفون ذلك.
{وَتَنسَوْنَ} : معطوف على تأمرون.
{وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} الجملة حالية.
{خَيْرٌ وَأَبْقَى} : مذهب سيبويه
والنحويين: أن أصل الكلام كان تقديم حرف العطف على الهمزة في
مثل هذا ومثل {أو لم يسيروا} (الروم: 9) (فاطر: 44) (غافر: 21)
أثم إذا ما وقع، لكن لما كانت الهمزة لها صدر الكلام، قدمت على
حرف العطف، وذلك بخلاف هل. وزعم الزمخشري أن الواو والفاء وثم
بعد الهمزة واقعة موقعها، ولا تقديم ولا تأخير، ويجعل بين
الهمزة وحرف العطف جملة مقدرة يصح العطف عليها، وكأنه رأى أن
الحذف أولى من التقديم والتأخير. وقد رجع عن هذا القول في بعض
تصانيفه إلى قول الجماعة، وقد تكلمنا على هذه المسألة في شرحنا
لكتاب التسهيل} . فعلى قول الجماعة يكون التقدير: فألا تعقلون،
وعلى قول الزمخشري يكون التقدير: أتعقلون فلا تعقلون، أمكثوا
فلم يسيروا في الأرض، أو ما كان شبه هذا الفعل مما يصح أن يعطف
عليه الجملة التي بعد حرف العطف.
{إِلاَّ عَلَى الْخَشِعِينَ} : استثناء مفرغ.
ويجوز في {الَّذِينَ} الاتباع والقطع إلى الرفع أو النصب، وذلك
صفة مدح، فالقطع أولى بها.
والظن في كلا استعماليه من اليقين، أو الشك يتعدّى إلى اثنين،
وتأتي بعد الظن أن الناصبة للفعل وإنّ الناصبة للاسم الرافعة
للخبر فتقول: ظننت أن تقوم، وظننت أنك تقوم. وفي توجيه ذلك
خلاف. مذهب سيبويه: أن أن وإن كل واحدة منهما مع ما دخلت عليه
تسد مسد المفعولين، وذلك بجريان المسند والمسند إليه في هذا
التركيب. ومذهب أبي الحسن وأبي العباس: أن أن وما عملت فيه في
موضع مفعول واحد أول، والثاني مقدّر، فإذا قلت: ظننت أن زيداً
قائم، فتقديره: ظننت قيام زيد كائناً أو واقعاً، والترجيح بين
المذهبين يذكر في علم النحو.
{أَنَّهُم مُّلَقُوا رَبِّهِمْ} ،
الملاقاة: مفاعلة تكون من اثنين، لأن من لاقاك فقد لاقيته.
وقال المهدوي والماوردي وغيرهما: الملاقاة هنا، وإن كانت
صيغتها تقتضي التشريك، فهي من الواحد كقولهم: طارقت النعل،
وعاقبت اللص، وعافاك الله، قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لأن لقي
يتضمن معنى لاقى، وليست كذلك الأفعال كلها، بل فعل خلاف في
المعنى لفاعل، انتهى كلامه. ويحتاج إلى شرح، وذلك أنه ضعفه من
حيث أن مادة لقي تتضمن معنى الملاقاة، بمعنى أن وضع هذا الفعل،
سواء كان مجرداً أو على فاعل، معناه واحد من حيث أن من لقيك
فقد لقيته، فهو لخصوص مادة يقتضي المشاركة، ويستحيل فيه أن
يكون لواحد. وهذا يدل على أن فاعل يكون لموافقة الفعل المجرد،
وهذا أحد معاني فاعل، وهو أن يوافق الفعل المجرد. وقول ابن
عطية: وليست كذلك الأفعال كلها كلام صحيح، أي ليست الأفعال
مجردها بمعنى فاعل، بل فاعل فيها يدل على الاشتراك. وقوله: بل
فعل خلاف فاعل يعني بل المجرد فيها يدل على الانفراد، وهو خلاف
فاعل، لأنه يدل على الاشتراك، فضعف بأن يكون فاعل من اللقاء من
باب: عاقبت اللص، حيث أن مادة اللقاء تقتضي الاشتراك، سواء كان
بصيغة المجرد أو بصيغة فاعل. وهذه الإضافة غير محضة، لأنها
إضافة اسم الفاعل بمعنى الاستقبال. وقد تقدم لنا الكلام على
اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال، أو الاستقبال بالنسبة إلى
أعماله في المفعول، وإضافته إليه.
{يَبَنِى إِسْرَءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِى
الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى
الْعَلَمِينَ * وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن
نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَعَةٌ وَلاَ
يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِذْ
نَجَّيْنَكُم مِّنْءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ
الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ
نِسَآءَكُمْ وَفِى ذَلِكُمْ بَلاَءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ}
.
{فَضَّلْتُكُمْ} وفعله فعّل يُفَعِّلُ، وأصله أن يتعدى بحرف
الجر، وهو على ثم بحذف على، على حد قول الشاعر، وقد جمع بين
الوجهين:
وجدنا نهشلاً فضلت فقيما
كفضل ابن المخاض على الفصيل
وأما في الفضلة من الشيء، وهي البقية، فيقال: فضل يفضل، كالذي
قدمناه، وفضل يفضل، نحو: سمع يسمع، وفضل يفضل، بكسرها من
الماضي، وضمها من المضارع، وقد أولع قوم من النحويين بإجازة
فتح ضاد فضلت في البيت وكسرها، والصواب الفتح.
الآل: قيل بمعنى الأهل، وزعم أن ألفه بدل عن هاء، وأن تصغيره
أهيل، وبعضهم ذهب إلى أن ألفه بدل من همزة ساكنة، وتلك الهمزة
بدل من هاء، وقيل: ليس بمعنى الأهل لأن الأهل القرابة، والآل
من يؤول من قرابة أو ولي أو مذهب، فألفه بدل من واو. ولذلك قال
يونس: في تصغيره أويل، ونقله الكسائي نصاً عن العرب، وهذا
اختيار أبي الحسن بن الباذش، ولم يذكر سيبويه في باب البدل أن
الهاء تبدل همزة، كما ذكر أن الهمزة تبدل هاء في: هرقت، وهيا،
وهرحت، وهياك. وقد خصوا آلا بالإضافة إلى العلم ذي الخطر ممن
يعلم غالباً، فلا يقال: آل الإسكاف والحجام، قال الشاعر:
نحن آل اللَّه في بلدتنا
لم نزل آلا على عهد إرم
قال الأخفش: لا يضاف آل إلا إلى الرئيس
الأعظم، نحو: آل محمد صلى الله عليه وسلّم وآل فرعون لأنه
رئيسهم في الضلالة، قيل: وفيه نظر، لأنه قد سمع عن أهل اللغة
في البلدان فقالوا: آل المدينة، وآل البصرة. وقال الكسائي: لا
يجوز أن يقال: فلان من آل البصرة، ولا من آل الكوفة، بل يقال:
من أهل البصرة، ومن أهل الكوفة، انتهى قوله. وقد سمع إضافته
إلى اسم الجنس وإلى الضمير، قال الشاعر:
وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك
وقال هدبة:
أنا الفارس الحامي حقيقة والدي
وآلي كما تحمي حقيقة آلكا
وقد اختلف في اقتباس جواز إضافته إلى المضمر، فمنع من ذلك
الكسائي، وأبو جعفر النحاس، وأبو بكر الزبيدي، وأجاز ذلك
غيرهم. وجمع بالواو والنون رفعاً وبالياء والنون جراً ونصباً،
كما جمع أهل فقالوا: آلون.
{وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ} ثم عطف التفضيل على النعمة، وهو من
عطف الخاص على العام لأن النعمة اندرج تحتها التفضيل المذكور،
وهو ما انفردت به الواو دون سائر حروف العطف، وكان أستاذنا
العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي يذكر لنا
هذا النحو من العطف، وأنه يسمى بالتجريد، كأنه جرد من الجملة
وأفرد بالذكر على سبيل التفضيل، وقال الشاعر:
أكر عليهم دعلجاً ولبانه
إذا ما اشتكى وقع القناة تحمحما دعلج: هنا اسم فرس، ولبانه:
صدره.
{وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ
شَيْئًا} وانتصاب يوماً، إما على الظرف والمتقى محذوف تقديره:
اتقوا العذاب يوماً، وإما على المفعول به اتساعاً أو على حذف
مضاف، أي عذاب يوم، أو هول يوم. وقيل معناه: جيئوا متقين،
وكأنه على هذا التقدير لم يلحظ متعلق الاتقاء، فإذ ذاك ينتصب
يوماً على الظرف.
قرأ ابن السماك العدوي لا تجزي من أجزأ، أي
أغنى، وقيل جزا، وأجزا، بمعنى واحد، وهذه الجملة صفة لليوم،
والرابط محذوف، فيجوز أن يكون التقدير: لا تجزي فيه، فحذف حرف
الجر، فاتصل الضمير بالفعل، ثم حذف الضمير، فيكون الحذف بتدريج
أو عداه إلى الضمير أولاً اتساعاً. وهذا اختيار أبي عليّ،
وإيّاه نختار. قال المهدوي: والوجهان، يعني تقديره: لا تجزي
فيه ولا تجزيه جائزان عند سيبويه والأخفش والزجاج. وقال
الكسائي: لا يكون المحذوف إلا لهاء، قال: لا يجوز أن تقول: هذا
رجل قصدت، ولا رأيت رجلاً أرغب، وأنت تريد قصدت إليه وأرغب
فيه، انتهى. وحذف الضمير من الجملة الواقعة صفة جائز، ومنه
قوله:
فما أدري أغيرهم تناء
وطول العهد أم مال أصابوا
يريد: أصابوه، وما ذهبوا إليه من تعيين الربط أنه فيه، أو
الضمير هو الظاهر، وقد يجوز على رأي الكوفيين أن يكون ثم رابط،
ولا تكون الجملة صفة، بل مضاف إليها ويوم محذوف لدلالة ما قبله
عليه، التقدير: واتقوا يوماً يوم لا تجزي، فحذف يوم لدلالة
يوماً عليه، فيصير المحذوف في الإضافة نظير الملفوظ به في نحو
قوله تعالى: {هذا يوم لا ينطقون} (المرسلات: 35) ، ونظير يوم
لا تملك، لا تحتاج الجملة إلى ضمير، ويكون إعراب ذلك المحذوف
بدلاً، وهو بدل كل من كل، ومنه قول الشاعر:
رحم الله أعظماً دفنوها
بسجستان طلحة الطلحات}
في رواية من خفض التقدير أعظم طلحة. وقد
قالت العرب: يعجبني الإكرام عندك سعد، بنية: يعجبني الإكرام
إكرام سعد. وحكى الكسائي عن العرب: أطعمونا لحماً سميناً شاة
ذبحوها، أي لحم شاة. وحكى الفراء عن العرب: أما والله لو
تعلمون العلم الكبيرة سنه، الدقيق عظمه، على تقديره: لو تعلمون
علم الكبيرة سنه، فحذف الثاني اعتماداً على الأول، ولم يجز
البصريون ما أجازه الكوفيون من حذف المضاف وترك المضاف إليه
على خفضه في: يعجبني القيام زيد، ولا يبعد ترجيح حذف يوم
لدلالة ما قبله عليه بهذا المسموع الذي حكاه الكسائي والفراء
عن العرب.
ويحسن هذا التخريج كون المضاف إليه جملة، فلا يظهر فيها إعراب،
فيتنافر مع إعراب ما قبله، فإذا جاز ذلك في نثرهم مع التنافر،
فلأن يجوز مع عدم التنافر أولى. ولم أر أحداً من المعربين
والمفسرين خرجوا هذه الجملة هذا التخريج، بل هم مجمعون على أن
الجملة صفة ليوم، ويلزم من ذلك حذف الرابط أيضاً من الجمل
المعطوفة على {لا تجزي} ، أي ولا يقبل منها شفاعة فيه، ولا
يؤخذ منها عدل فيه، ولا هم ينصرون فيه، وعلى ذلك التخريج لا
يحتاج إلى إضمار هذه الرّوابط. وانتصاب شيئاً على أنه مفعول
به، أي لا يقضي شيئاً، أي حقاً من الحقوق، ويجوز أن يكون
انتصابه على المصدر، أي: ولا تجزي شيئاً من الجزاء، قاله
الأخفش، وفيه إشارة إلى القلة، كقولك: ضربت شيئاً من الضرب.
{وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَعَةٌ وَلاَ
يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} ويحتمل رفع
هذا الضمير وجهين من الإعراب. أحدهما: وهو المتبادر إلى أذهان
المعربين أنه مبتدأ، والجملة بعده في موضع رفع على الخبر.
والوجه الثاني: وهو أغمض الوجهين وأغربهما أنه مفعول لم يسم
فاعله، يفسر فعله الفعل الذي بعده، وتكون المسألة من باب
الاشتغال، وذلك أن لا هي من الأدوات التي هي أولى بالفعل،
كهمزة الاستفهام. فكما يجوز في: أزيد قائم، وأزيد يضرب، الرفع
على الاشتغال، فكذلك هذا، ويقوي هذا الوجه أنه تقدم جملة
فعلية.
والحكم في باب الاشتغال أنه إذا تقدمت جملة فعلية وعطف عليها
بشرط العطف المذكور في ذلك الباب، فالأفصح الحمل على الفعل،
ويجوز الابتداء كما ذكرنا أولاً، ويقوي عود الضمير إلى نفس
الثانية بناء الفعل للمفعول، إذا لو كان عائداً على نفس الأولى
لكان مبنياً للفاعل، كقوله: لا تجزي. ومن المفسرين من جعل
الضمير في ولا هم عائداً على النفسين معاً، قال: لأن التثنية
جمع قالوا.
{وَإِذْ نَجَّيْنَكُم مِّنْءَالِ
فِرْعَوْنَ} : تقدم الكلام على إذ في قوله: {وإذ قال ربك
للملائكة إني جاعل} (البقرة: 30) . ومن أجاز نصب إذ هناك
مفعولاً به بإضمار اذكر أو ادّعى زيادتها، فقياس قوله هناك
إجازته هنا، إذ لم يتقدم شيء تعطفه عليه إلا أن ادّعى مدّع أن
إذ معطوفة على معمول اذكروا، كأنه قال: اذكروا نعمتي وتفضيلي
إياكم، ووقت تنجيتكم. ويكون قد فصل بين المعطوف والمعطوف عليه
بجملة الاعتراض التي هي: واتقوا يوماً} . وقد قدمنا أنا لا
نختار أن يكون مفعولاً به بأذكر، لا ظاهرة ولا مقدرة، لأن ذلك
تصرف فيها، وهي عندنا من الظروف التي لا يتصرف فيها إلا بإضافة
اسم زمان إليها على ما قرر في النحو. وإذا كان كذلك، فالذي
نختاره أن ينتصب على الظرف، ويكون العامل فيه فعلاً محذوفاً
يدل عليه ما قبله، تقديره: وأنعمنا عليكم إذ نجيناكم من آل
فرعون، وتقدير هذا الفعل أولى من كل ما قدمناه.
{يَسُومُونَكُمْ} : يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة، وهي
حكاية حال ماضية، ويحتمل أن تكون في موضع الحال: أي سائميكم،
وهي حال من آل فرعون. {وسوء العذاب} : أشقه وأصعبه وانتصابه،
مبني على المراد بيسومونكم، وفيه للمفسرين أقوال: السوم: بمعنى
التكليف أو الإبلاء، فيكون سوء العذاب على هذا القول مفعولاً
ثانياً السام، أي يكلفونكم.
وعلى هذه الأقوال غير القولين الأولين يكون {سُوءَ الْعَذَابِ}
مفعولاً على إسقاط حرف الجر. وقال بعض الناس: ينتصب سوء العذاب
نصب المصدر، ثم قدره سوماً شديداً.
{يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ}
ويذبحون بدل من يسومونكم، بدل الفعل من الفعل، نحو قوله تعالى:
{يلق أثاماً يضاعف له العذاب} (الفرقان: 68) ، وقول الشاعر:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا
تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا}
ويحتمل أن تكون مما حذف منه حرف العطف
لثبوته في إبراهيم. وقول من ذهب إلى أن الواو زائدة لحذفها هنا
ضعيف. وقال الفراء: الموضع الذي حذفت فيه الواو تفسير لصفات
العذاب، والموضع الذي فيه الواو يبين أنه قد مسهم العذاب، غير
الذبح، ويجوز أن يكون يذبحون: في موضع الحال، من ضمير الرفع
في: يسومونكم، ويجوز أن يكون مستأنفاً.
{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَكُمْ
وَأَغْرَقْنَاءَالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * وَإِذْ
وَعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ
الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَلِمُونَ * ثُمَّ عَفَوْنَا
عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *
وَإِذْءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ} .
{موسى} : اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والعلمية. يقال: هو مركب
من مو: وهو الماء، وشاو: وهو الشجر. فلما عرّب أبدلوا شينه
سيناً، وإذا كان أعجمياً فلا يدخله اشتقاق عربي. وقد اختلفوا
في اشتقاقه، فقال مكيّ: موسى مفعل من أوسيت، وقال غيره: هو
مشتق من ماس يميس، ووزنه: فعلى، فأبدلت الياء واواً الضمة ما
قبلها، كما قالوا: طوبى، وهي من ذوات الياء، لأنها من طاب
يطيب. وكون وزنه فعلى هو مذهب المعربين. وقد نص سيبويه على أن
وزن موسى مفعل، وذلك فيما لا ينصرف. واحتج سيبويه في الأبنية
على ذلك بأن زيادة الميم أولاً أكثر من زيادة الألف آخراً،
واحتج الفارسي على كونه مفعلاً لا فعلى، بالإجماع على صرفه
نكرة، ولو كان فعلى لم ينصرف نكرة لأن الألف كانت تكون
للتأنيث، وألف التأنيث وحدها تمنع الصرف في المعرفة والنكرة.
الأربعون: ليس بجمع سلامة، بل هو من قبيل المفرد الذي هو اسم
جمع، ومدلوله معروف، وقد أعرب إعراب الجمع المذكر السالم.
الاتخاذ: افتعال من الأخذ، وكان القياس أن
لا تبدل الهمزة إلا ياء، فتقول: ايتخذ كهمزة إيمان إذ أصله:
إإمان، وكقولهم: ائتزر: افتعل من الإزار، فمتى كانت فاء الكلمة
واواً أو ياء، وبنيت افتعل منها، فاللغة الفصحى إبدالها تاء
وإدغامها في تاء الافتعال، فتقول: اتصل واتسر من الوصل واليسر،
فإن كانت فاء الكلمة همزة، وبنيت افتعل، أبدلت تلك الهمزة ياء
وأقررتها. هذ هو القياس، وقد تبدل هذه الياء تاء فتدغم، قالوا:
إتمن، وأصله: إئتمن. وعلى هذا جاء: اتخذ. ومما علق بذهني من
فوائد الشيخ الإمام بهاء الدين أبي عبد الله محمد بن إبراهيم
بن محمد بن أبي نصر الحلبي، عرف بابن النحاس، رحمه الله، وهو
كان المشتهر بعلم النحو في ديار مصر: أن اتخذ مما أبدل فيه
الواو تاء على اللغة الفصحى، لأن فيه لغة أنه يقال: وخذ
بالواو، فجاء هذا على الأصل في البدل، وإن كان مبنياً على
اللغة القليلة، وهذا أحسن، لأنهم نصوا على أن اتمن لغة رديئة،
وكان رحمه الله يغرب بنقل هذه اللغة. وقد خرج الفارسي مسألة
اتخذ على أن التاء الأولى أصلية، إذ قلت: قالت العرب تخذ بكسر
الخاء، بمعنى: أخذ، قال: تعالى: {لتخذت عليه أجراً} (الكهف:
77) ، في قراء من قرأ كذلك، وأنشد الفارسي، رحمه الله:
وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها
نسيفاً كأفحوص القطاة المطوّق} فعلى قوله:
التاء أصل، وبنيت منه افتعل، فقلت: اتخذ، كما تقول: اتبع،
مبنياً من تبع، وقد نازع أبو القاسم الزجاجي في تخذ، فزعم أن
أصله: اتخذ، وحذف كما حذف اتقى، فقالوا: تقى، واستدل على ذلك
بقولهم: تخذ بفتح التاء مخففة، كما قالوا: يتقى ويتسع بحذف
التاء التي هي بدل من فاء الكلمة. ورد السيرافي هذا القول
وقال: لو كان محذوفاً منه ما كسرت الخاء، بل كانت تكون مفتوحة،
كقاف تقي، وأما يتخذ فمحذوف مثل: يتسع، حذف من المضارع دون
الماضي، وتخذ بناء أصلي، انتهى. وما ذهب إليه الفارسي
والسيرافي من أنه بناء أصلي على حده هو الصحيح، بدليل ما حكاه
أبو زيد وهو: تخذ يتخذ تخذاً، قال الشاعر:
ولا تكثرن اتخذ العشار فإنها
تريد مباآت فسيحاً بناؤها
وذكر المهدوي في «شرح الهداية» : أن الأصل واو مبدلة من همزة،
ثم قلبت الواو تاء وأدغمت في التاء، فصار في اتخذ أقوال:
أحدها: التاء الأولى أصل. الثاني: أنها بدل من واو أصلية.
الثالث: أنها بدل من تاء أبدلت من همزة. الرابع: أنها بدل من
واو أبدلت من همزة، واتخذ تارة يتعدى لواحد، وذلك نحو قوله
تعالى: {اتخذت بيتاً} (العنكبوت: 41) ، وتارة لاثنين نحو قوله
تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} (الفرقان: 43) : بمعنى صير.
العجل} : معروف، وهو ولد البقرة الصغير الذكر. بعد: ظرف زمان،
وأصله الوصف، كقبل، وحكمه حكمه في كونه يبنى على الضم إذا قطع
عن الإضافة إلى معرفة، ويعرب بحركتين، فإذا قلت: جئت بعد زيد،
فالتقدير: جئت زماناً بعد زمان مجيء زيد، ولا يحفظ جرّه إلا
بمن وحدها.
شكر يشكر شكراً وشكوراً، ويتعدى لواحد تارة بنفسه وتارة بحرف
جر، وهو من ألفاظ مسموعة تحفظ ولا يقاس عليها، وهو قسم برأسه،
تارة يتعدى بنفسه وتارة بحرف جر على حد سواء، خلافاً لمن زعم
استحالة ذلك. وكان شيخنا أبو الحسين بن أبي الربيع يذهب إلى أن
شكر أصله أن يتعدى بحرف جر، ثم أسقط اتساعاً.
{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} :
معطوف على: وإذ نجيناكم فالعامل فيه ما ذكر أنه العامل في إذ
تلك بواسطة الحرف. بكم: متعلق بفرّقنا، والباء معناها: السبب،
أي بسبب دخولكم، أو المصاحبة: أي ملتبساً، كما قال:
تدوس بنا الجماجم والتريبا
أي ملتبسة بنا.
{وَأَغْرَقْنَاءَالَ فِرْعَوْنَ} والهمزة في أغرقنا للتعدية،
ويعدى أيضاً بالتضعيف.
{وأنتم تنظرون} : جملة حالية.
{وَإِذْ وَعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ونصب أربعين
على المفعول الثاني لواعدنا، على أنها هي الموعودة، أو على حذف
مضاف التقدير تمام، أو انقضاء أربعين حذف وأقيم المضاف إليه
مقامه فأعرب إعرابه، قاله الأخفش، فيكون مثل قوله:
فواعديه سر حتى مالك
أو النقا بينهما أسهلا أي إتيان سر حتى مالك، ولا يجوز نصب
أربعين على الظرف لأنه ظرف معدود، فيلزم وقوع العامل في كل فرد
من أجزائه، والمواعدة لم تقع كذلك. وليلة: منصوب على التمييز
الجائي بعد تمام الاسم، والعامل في هذا النوع من التمييز اسم
العدد قبله شبه أربعين بضاربين، ولا يجوز تقديم هذا النوع من
التمييز على اسم العدد بإجماع، ولا الفصل بينهما بالمجرور إلا
ضرورة، نحو:
على أنني بعدما قد مضى
ثلاثون للهجر حولاً كميلا وعشرين منها أصبعاً من ورائنا
ولا تعريف للتمييز، خلافاً لبعض الكوفيين وأبي الحسين بن
الطراوة. وأول أصحابنا ما حكاه أبو زيد الأنصاري من قول العرب:
ما فعلت العشرون الدرهم، وما جاء نحو: هذا مما يدل على
التعريف، وذلك مذكور في علم النحو.
{ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} ويحتمل
اتخذ هنا أن تكون متعدية لواحد، أي صنعتم عجلاً، كما قال:
{واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار}
(الأعراف: 148) ، على أحد التأويلين، وعلى هذا التقدير: يكون
ثم جملة محذوفة يدل علىها المعنى، وتقديرها: وعبدتموه إلهاً،
ويحتمل أن تكون مما تعدّت إلى اثنين فيكون المفعول الثاني
محذوفاً لدلالة المعنى، التقدير: ثم اتخذتم العجل إلهاً،
والأرجح القول الأوّل، إذ لو كان مما يتعدّى في هذه القصة
لاثنين لصرح بالثاني، ولو في موضع واحد، ألا ترى أنه لم يعد
إلى اثنين بل إلى واحد في هذا الموضع، وفي: اتخذ قوم موسى}
(الأعراف: 148) ، وفي: اتخذوه وكانوا ظالمين} (الأعراف: 148) ،
وفي: إن الذين اتخذوا العجل} (الأعراف: 152) ، وفي قوله في هذه
السورة أيضاً: إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} (البقرة: 54)
، لكنه يرجح القول الثاني لاستلزام القول الأوّل حذف جملة من
هذه الآيات، ولا يلزم في الثاني إلا حذف المفعول، وحذف المفرد
أسهل من حذف الجملة.
{وأنتم ظالمون} : جملة حالية.
{وَإِذْءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ وَالْفُرْقَانَ} أو
القرآن. والمعنى أن الله آتى موسى ذكر نزول القرآن على محمد
صلى الله عليه وسلّمحتى آمن به، حكاه ابن الأنباري، أو القرآن
على حذف مفعول، التقدير: ومحمداً الفرقان، وحكي هذا عن الفراء
وقطرب وثعلب، وقالوا: هو كقول الشاعر:
وزججن الحواجب والعيونا
التقدير: وكحلن العيون. ورد هذا القول مكي والنحاس وجماعة،
لأنه لا دليل على هذا المحذوف، ويصير نظير: أطعمت زيداً خبزاً
ولحماً، ويكون: اللحم أطعمته غير زيد، ولأن الأصل في العطف أنه
يشارك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم السابق، إذا كان العطف
بالحروف المشتركة في ذلك، وليس مثل ما مثلوا به من: وزججن
الحواجب والعيون، لما هو مذكور في النحو.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ
إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ
فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ
ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ
إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَإِذْ قُلْتُمْ
يَمُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ
بَعَثْنَكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ
الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَتِ مَا رَزَقْنَكُمْ
وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
{خيرٌ} : هي أفعل التفضيل، حذفت همزتها شذوذاً في الكلام فنقص
بناؤها فانصرفت، كما حذفوها شذوذاً في الشعر من أحب للتي
للتفضيل، وقال الأحوص:
وزادني كلفاً بالحب أن منعت
وحب شيء إلى الإنسان ما منعا
وقد نطقوا بالهمزة في الشعر، قال الشاعر:
بلال خير الناس وابن الأخير
واسم المفعول، تقول: يرى وترى ونرى وأرى زيداً، وأريت زيداً،
ورَزيداً، ومر زيداً، ومرى. وتثبت في الرؤية والرأي والرؤيا
والمرأى والمرئي والمرأة واسترأى وأرأى من كذا، وفي ما أرأاه
وأرئه في التعجب. وهذا الحذف الذي ذكرناه هو إذا كان مدلول رأى
ما ذكرناه من الإبصار في يقظة أو نوم أو الاعتقاد، فإن كانت
رأى بمعنى أصاب رئته، فلا تحذف الهمزة، بل تقول: رآه يرآه: أي
أصاب رئته، نقله صاحب كتاب الأمر. ولغة تميم إثبات الهمزة فيما
حذف منه غيرهم، فيقولون: يرأى وأرئي؟ وقال بعض العرب: فجمع بين
حذف الهمزة والإثبات:
ألم تر ما لاقيت والدهر أعصر
ومن يتمل العيش يرأى ويسمع
واللام في قوله: {لقومه} ، للتبليغ، و {يا
قوم} : منادى مضاف إلى ياء المتكلم، وقد حذفت واجتزىء بالكسرة
عنها، وهذه اللغة أكثر ما في القرآن. وقد جاء إثباتها كقراءة
من قرأ: يا عبادي فاتقون، بإثبات الياء ساكنة، ويجوز فتحها،
فتقول: يا غلامي، وفتح ما قبلها وقلب الياء ألفاً، فتقول: يا
غلاماً. وأجاز الأخفش حذف الألف والاجتزاء بالفتحة عنها،
فتقول: يا غلام، وأجازوا ضمه وهو على نية الإضافة فتقول: يا
غلام، تريد: يا غلامي. وعلى ذلك قراءة من قرأ: قل {ربّ احكم
بالحق} (الأنبياء: 112) ، قال ربّ السجن أحب إليّ} (يوسف: 33)
، هكذا أطلقوا، وفصل بعضهم بين أن يكون فعلاً أو اسماً، إن كان
فعلاً فلا يجوز بناؤه على الضم، ومثل الفعل بمثل: يا ضاربي،
فلا يجيز في هذا يا ضارب.
والباء في {باتخاذكم العجل} سببية.
وقرأ الجمهور: بظهور حركة الإعراب في بارئكم، وروي عن أبي
عمرو: الاختلاس، روى ذلك عنه سيبويه، وروى عنه: الإسكان، وذلك
إجراء للمنفصل من كلمتين مجرى المتصل من كلمة، فإنه يجوز تسكين
مثل إبل، فأجرى المكسوران في بارئكم مجرى إبل، ومنع المبرد
التسكين في حركة الإعراب، وزعم أن قراءة أبي عمرو لحن، وما ذهب
إليه ليس بشيء، لأن أبا عمرو لم يقرأ إلا بأثر عن رسول الله
صلى الله عليه وسلّم ولغة العرب توافقه على ذلك، فإنكار المبرد
لذلك منكر، وقال الشاعر:
فاليوم أشرب غير مستحقب
إثماً من الله ولا واغل
وقال آخر:
رحت وفي رجليك ما فيهما
وقد بداهنك من المئزر
وقال آخر:
أو نهر تيرى فما تعرفكم العرب
وقد خلط المفسرون هنا في الردّ على أبي
العباس، فأنشدوا ما يدل على التسكين مما ليست حركته حركة
إعراب. قال الفارسي: أما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز
تسكينها، ومما يدل على صحة قراءة أبي عمرو ما حكاه أبو زيد من
قوله تعالى: {ورسلنا لديهم يكتبون} (الزخرف: 80) . وقراءة
مسلمة ابن محارب: وبعولتهنّ أحقّ بردّهن في ذلك} (البقرة: 288)
. وذكر أبو عمرو: أن لغة تميم تسكين المرفوع من يعلمه ونحوه،
ومثل تسكين بارئكم، قراءة حمزة، ومكر السيىء} (فاطر: 43) .
وقرأ الزهريّ: باريكم، بكسر الياء من غير همز، وروي ذلك عن
نافع. ولهذه القراءة تخريجان أحدهما:} أن الأصل الهمز، وأنه من
برأ، فخففت الهمزة بالإبدال المحض على غير قياس، إذ قياس هذا
التخفيف جعلها بين بين. والثاني: أن يكون الأصل باريكم، بالياء
من غير همز، ويكون مأخوذاً من قولهم: بريت القلم، إذا أصلحته،
أو من البري: وهو التراب، ثم حرك حرف العلة، وإن كان قياسه
تقديراً لحركة في مثل هذا رفعاً وجراً، وقال الشاعر:
خبث الثرى كأبي الأزيد
وهذا كله تعليل شذوذ.
والفاء في قوله: {فاقتلوا أنفسكم} ، إن قلنا: إن التوبة هي نفس
القتل، وأن الله تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم، فتكون هذه
الجملة بدلاً من قوله، فتوبوا، والفاء كهي في فتوبوا معها
السببية. وإن قلنا: إن القتل هو تمام توبتهم، فتكون الفاء
للتعقيب. {لكم} : متعلق بخير إن كان للتفضيل، وإن كانت على
أنها خير من الخيور فيتعلق بمحذوف، أي خير كائن لكم.
والتخريجان يجريان في نصب قوله: {عند بارئكم} .
{فَتَابَ عَلَيْكُمْ} : ظاهره أنه إخبار من
الله تعالى بالتوبة عليهم، ولا بد من تقدير محذوف عطفت عليه
هذه الجملة، أي فامتثلتم ذلك فتاب عليكم. وتكون هاتان الجملتان
مندرجتين تحت الإضافة إلى الظرف الذي هو: إذ في قوله: {وإذ قال
موسى لقومه} (البقرة: 67) . وأجاز الزمخشري أن يكون مندرجاً
تحت قول موسى على تقدير شرط محذوف، كأنه قال: فإن فعلتم فقد
تاب عليكم، فتكون الفاء إذ ذاك رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط
المحذوفة، هي وحرف الشرط، وما ذهب إليه الزمخشري لا يجوز، وذلك
أن الجواب يجوز حذفه كثيراً للدليل عليه. وأما فعل الشرط وحده
دون الأداة فيجوز حذفه إذا كان منفياً بلا في الكلام الفصيح،
نحو قوله:
فطلقها فلست لها بكفؤ
وإن لا يعل مفرقك الحسام}
التقدير: وأن لا تطلقها يعل، فإن كان غير منفي بلا، فلا يجوز
ذلك إلا في ضرورة، نحو قوله:
سقته الرواعد من صيف وإن
من خريف فلن يعدما
التقدير: وإن سقته من خريف فلن يعدم الري، وذلك على أحد
التخريجين في البيت، وكذلك حذف فعل الشرط وفعل الجواب دون أن
يجوز في الضرورة، نحو قوله:
قالت بنات العمّ يا سلمى وإن
كان عيياً معدماً قالت وإن
التقدير: وإن كان عيياً معدماً أتزوجه. وأما حذف فعل الشرط
وأداة الشرط معاً، وإبقاء الجواب، فلا يجوز إذا لم يثبت ذلك من
كلام العرب. وأما جزم الفعل بعد الأمر والنهي وأخواتهما فله
ولتعليل ما ذكرنا من الأحكام مكان آخر يذكر في علم النحو.
وظاهر قوله: {فتاب عليكم} أنه كما قلنا: إخبار عن المأمورين
بالقتل الممتثلين ذلك. وقال ابن عطية: معناه على الباقين، وجعل
الله القتل لمن قتل شهادة، وتاب على الباقين وعفا عنهم، انتهى
كلامه. {إنه هو التواب الرحيم} : تقدم الكلام على هذه الجملة
عند قوله تعالى في قصة آدم: {فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم}
(البقرة: 37) ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
{وَإِذْ قُلْتُمْ يَمُوسَى} : هذه محاورة
بني إسرائيل لموسى، وذلك بعد محاورته لهم في الآية قبل هذا.
والضمير في قلتم قيل للسبعين المختارين، قاله ابن مسعود
وقتادة، وذكر في اختيار السبعين كيفية ستأتي، إن شاء الله
تعالى، في مكانها في الأعراف. وقيل: الضمير لسائر بني إسرائيل
إلا من عصمه الله، قاله ابن زيد. وقيل: الذين انفردوا مع هارون
ولم يعبدوا العجل.
{حتى نرى الله جهرة} حتى: هنا حرف غاية، وانتصاب جهرة على أنه
مصدر مؤكد مزيل لاحتمال الرّؤية أن تكون مناماً أو علماً
بالقلب. والمعنى حتى نرى الله عياناً، وهو مصدر من قولك: جهر
بالقراءة وبالدعاء، أي أعلن بها فأريد بها نوع من الرّؤية،
فانتصابها على حدّ قولهم: قعد القرفصاء، وفي نصب هذا النوع
خلاف مذكور في النحو. والأصح أن يكون منصوباً بالفعل السابق
يعدى إلى النوع، كما تعدّى إلى لفظ المصدر الملاقي مع الفعل في
الاشتقاق، وقيل انتصابه على أنه مصدر في موضع الحال على تقدير
الحذف، أي ذوي جهرة، أو على معنى جاهرين بالرؤية لا على طريق
المبالغة نحو: رجل صوم، لأن المبالغة لا تراد هنا.
{وأنتم تنظرون} : جملة حالية.
{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} : مفعول على إسقاط حرف
الجرّ، أي بالغمام، كما تقول: ظللت على فلان بالرداء، أو مفعول
به لا على إسقاط الحرف، ويكون المعنى جعلناه عليكم ظللاً. فعلى
هذا الوجه الثاني يكون فعل فيه، بجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه
كقولهم: عدّلت زيداً، أي جعلته عدلاً، فكذلك هذا معناه: جعلنا
الغمام عليكم ظلة، وعلى الوجه الأول تكون فعل فيه بمعنى أفعل،
فيكون التضعيف أصله للتعدية، ثم ضمن معنى فعل يعدى بعلى، فكان
الأصل: وظللناكم، أي أظللناكم بالغمام، نحو ما ورد في الحديث:
«سبعة يظلهم الله في ظله» ، ثم ضمن ظلل معنى كلل أو شبهه مما
يمكن تعديته بعلى، فعداه بعلى. وقد تقدم ذكر معاني فعل.
{من طيبات} : من: للتبعيض لأن المن والسلوى
بعض الطيبات، وأبعد من ذهب إلى أنها زائدة، ولا يتخرج ذلك إلا
على قول الأخفش، وأبعد من هذا قول من زعم أنها للجنس، لأن التي
للجنس في إثباتها خلاف، ولا بد أن يكون قبلها ما يصلح أن يقدر
بعده موصول يكون صفة له. وقول من زعم أنها للبدل، إذ هو معنى
مختلف في إثباته، ولم يدع إليه هنا ما يرجح ذلك.
وما في قوله: {ما رزقناكم} موصولة، والعائد محذوف، أي ما
رزقناكموه، وشروط الحذف فيه موجودة، ولا يبعد أن يجوز مجوّز
فيها أن تكون مصدرية، فلا يحتاج إلى تقدير ضمير، ويكون يطلق
المصدر على المفعول، والأول أسبق إلى الذهن.
{وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} : لكن هنا وقعت
أحسن موقع، لأنه تقدم قبلها نفي وجاء بعدها إيجاب، نحو قوله
تعالى: {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم} (هود: 101) ، وكذلك
العكس، نحو قوله تعالى: ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون}
(البقرة: 13) ، أعني أن يتقدم إيجاب ثم يجيء بعدها نفي، لأن
الاستدراك الحاصل بها إنما يكون يدل عليه ما قبلها بوجه ما.
وأحسن مواقعها أن تكون بين المتضادين، ويليه أن تقع بين
النقيضين، ويليه أن تقع بين الخلافين، وفي هذا الأخير خلاف بين
النحويين. أذلك تركيب عربي أم لا؟ وذلك نحو قولك: ما زيد قائم،
ولكن هو ضاحك، وقد تكلم على ذلك في علم النحو. واتفقوا على
أنها لا تقع بين المتماثلين نحو: ما خرج زيد ولكن لم يخرج
عمرو. وطباق الكلام أن يثبت ما بعد لكن على سبيل ما نفي قبلها،
نحو قوله: {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم} (هود: 101) }
ويظلمون: صورته صورة المضارع، وهو ماض من حيث المعنى، وهذا من
المواضع التي يكون فيها المضارع بمعنى الماضي.
ولم يذكره ابن مالك في «التسهيل» ولا فيما
وقفنا عليه من كتبه، وذكر ذلك غيره وقدم معمول الخبر عليه هنا
وهو قوله: {أنفسهم} ، ليحصل بذلك توافق رؤوس الآي والفواصل،
وليدل على الاعتناء بالإخبار عمن حل به الفعل، ولأنه من حيث
المعنى صار العامل في المفعول توكيداً لما يدل عليه ما قبله.
فليس ذكره ضروريًّا، وبأن التوكيد أن يتأخر عن المؤكد، وذلك
أنك تقول: ما ضربت زيداً ولكن ضربت عمراً، فذكر ضربت الثانية
أفادت التأكيد، لأن لكن موضوعها أن يكون ما بعدها منافياً لما
قبلها، ولذلك يجوز أن تقول: ما ضربت زيداً ولكن عمراً، فلست
مضطراً لذكر العامل. فلما كان معنى قوله: {ولكن كانوا أنفسهم
يظلمون} في معنى: {ولكن ظلموا أنفسهم} (هود: 101) ، كان ذكر
العامل في المفعول ليس مضطراً إليه، إذ لو قيل: وما ظلمونا
ولكن أنفسهم، لكان كلاماً عربياً، ويكتفى بدلالة لكن أن ما
بعدها مناف لما قبلها، فلما اجتمعت هذه المحسنات لتقديم
المفعول كان تقديمه هنا الأفصح.
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ
الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا
وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ
لَكُمْ خَطَيَكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ
الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ
فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ
السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ * وَإِذِ اسْتَسْقَى
مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ
فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ
كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ
اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأٌّرْضِ مُفْسِدِينَ * وَإِذْ
قُلْتُمْ يَمُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَحِدٍ فَادْعُ
لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن
بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا
قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ
خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآءُوا
بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ
يَكْفُرُونَ بِآيَتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ
بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ
يَعْتَدُونَ} .
خطايا: فجمع خطية مشددة عند الفراء، كهدية
وهدايا، وجمع خطيئة المهموز عند سيبويه والخليل. فعند سيبويه:
أصله خطائيّ، مثل: صحائف، وزنه، فعائل، ثم أعلت الهمزة الثانية
بقلبها ياء، ثم فتحت الأولى التي كان أصلها ياء المد في خطيئة
فصار: خطأي، فتحركت الياء وانفتح ما قبلها، فصار: خطآء، فوقعت
همزة بين ألفين، والهمزة شبيهة بالألف فصار: كأنه اجتمع ثلاثة
أمثال، فأبدلوا منها ياء فصار خطايا، كهدايا ومطايا. وعند
الخليل أصله: خطايىء، ثم قلب فصار خطائي على وزن فعالي،
المقلوب من فعائل، ثم عمل فيه العمل السابق في قول سيبويه.
وملخص ذلك: أن الياء في خطايا منقلبة عن الهمزة المبدلة من
الياء بعد ألف الجمع التي كانت مدة زائدة في خطيئة، على رأي
سيبويه، والألف بعدها منقلبة عن الياء المبدلة من الهمزة التي
هي لام الكلمة، ومنقلبة عن الهمزة التي هي لام الكلمة في الجمع
والمفرد، والألف بعدها هي الياء التي كانت ياء بعد ألف الجمع
التي كانت مدة في المفرد، على رأي الخليل. وقد أمعنا الكلام في
هذه المسألة في كتاب «التكميل لشرح التسهيل» من تأليفنا.
التبديل: تغيير الشيء بآخر. تقول: هذا بدل هذا: أي عوضه،
ويتعدّى لاثنين، الثاني أصله حرف جر: بدلت ديناراً بدرهم: أي
جعلت ديناراً عوض الدرهم، وقد يتعدّى لثلاثة فتقول: بدلت زيداً
ديناراً بدرهم: أي حصلت له ديناراً عوضاً من درهم، وقد يجوز
حذف حرف الجر لفهم المعنى، قال تعالى: {فأولئك يبدّل الله
سيئاتهم} (الفرقان: 70) ، أي يجعل لهم حسنات عوض السيئات، وقد
وهم كثير من الناس فجعلوا ما دخلت عليه الباء هو الحاصل،
والمنصوب هو الذاهب، حتى قالوا: ولو أبدل ضاداً بظاء لم تصح
صلاته، وصوابه: لو أبدل ظاء بضاد.
العصا: مؤنث، والألف منقلبة عن واو، قالوا:
عصوان، وعصوته: أي ضربته بالعصا، ويجمع على أفعل شذوذاً،
قالوا: أعص، أصله أعصوو، على فعول قياساً، قالوا: عصى، أصله
عصوو، ويتبع حركة العين حركة الصاد، قال الشاعر:
ألا إن لا تكن إبل فمعزى
كائن قرون جلتها العصى
اثنتا: تأنيث اثنين، وكلاهما له إعراب المثنى، وليس بمثنى
حقيقة لأنه لا يفرد، فيقال: أثن، ولا أثنة، ولامهما محذوفة،
وهي ياء، لأنه من ثنيتا.
أناس: اسم جمع لا واحد له من لفظه، وإذا سمي به مذكر صرف، وقول
الشاعر:
وإلى ابن أمّ أناس أرحل ناقتي
منع صرفه، إما لأنه علم على مؤنث، وإما ضرورة على مذهب
الكوفيين. مشرب: مفعل من الشراب يكون للمصدر والزمان والمكان،
ويطرد من كل ثلاثي متصرف مجرّد، لم تكسر عين مضارعه سواء صحت
لامه: كسرت ودخل، أو أعلت: كرمى وغزا. وشذ من ذلك ألفاظ ذكرها
النحويون.
{مَّا سَأَلْتُمْ} سأل يسأل: على وزن خاف يخاف، ويجوز تعليق
فعله وإن لم يكن من أفعال القلوب. {سلهم أيّهم بذلك زعيم} ،
قالوا: لأن السؤال سبب إلى العلم فأجري مجرى العلم.
النبيء: مهموز من أنبأ، فعيل: بمعنى مفعل، كسميع من أسمع، وجمع
على النبآء، ومصدره النبوءة، وتنبأ مسيلمة، كل ذلك دليل على أن
اللام همزة. وحكى الزهراوي أنه يقال: نبؤ، إذا ظهر فهو نبيء،
وبذلك سمي الطريق الظاهر: نبيئاً. فعلى هذا هو فعيل اسم فاعل
من فعل، كشريف من شرف، ومن لم يهمز فقيل أصله الهمز، ثم سهل.
وقيل: مشتق من نبا ينبو، إذا ظهر وارتفع.
وانتصاب هذه على ظرف المكان، لأنه إشارة
إلى ظرف المكان، كما تنتصب أسماء الإشارة على المصدر، وعلى ظرف
الزمان إذا كنّ إشارة إليهما تقول: ضربت هذا الضرب، وصمت هذا
اليوم. هذا مذهب سيبويه في دخل، إنها تتعدّى إلى المختص من ظرف
المكان بغير وساطة في، فإن كان الظرف مجازياً تعدّت بفي، نحو:
دخلت في غمار الناس، ودخلت في الأمر المشكل. ومذهب الأخفش
والجرمي أن مثل: دخلت البيت، مفعول به لا ظرف مكان، وهي مسألة
تذكر في علم النحو. والألف واللام في القرية للحضور، وانتصاب
القرية على النعت، أو على عطف البيان، كما مرّ في إعراب الشجرة
من قوله: {ولا تقربا هذه الشجرة} (البقرة: 35) (الأعراف: 19) ،
وإن اختلفت جهتا الإعراب في هذه، فهي في: ولا تقربا هذه} مفعول
به، وهي هنا على الخلاف الذي ذكرناه.
{وَادْخُلُواْ الْبَابَ} : الخلاف في نصب الباب كالخلاف في نصب
القرية.
{سُجَّدًا} : نصب على الحال من الضمير في ادخلوا.
والحال المقدرة موجودة في لسان العرب. من ذلك ما في كتاب
سيبويه: مررت برجل معه صقر صائداً به غداً. وإذا أمكن حمل
السجود على المتعارف فيه كثيراً، وهو وضع الجبهة بالأرض يكون
الحال مقارنة أو مقدرة، كان أولى.
{وَقُولُواْ حِطَّةٌ} قال الزمخشري: والأصل النصب بمعنى: حط
عنا ذنوبنا حطة، وإنما رفعت لتعطي معنى الثبات كقوله:
صبر جميل فكلانا مبتلي
والأصل صبراً. انتهى كلامه، وهو حسن. ويؤكد هذا التخريج قراءة
إبراهيم بن أبي عبلة: حطة بالنصب، كما روي:
صبراً جميلاً فكلانا مبتلي
بالنصب. والأظهر من التقادير السابقة في إضمار المبتدأ القول
الأول، لأن المناسب في تعليق الغفران عليه هو سؤال حط الذنوب
لا شيء من تلك التقادير الأخر، ونظير هذا الإضمار قول الشاعر:
إذا ذقت فاهاً قلت طعم مدامة
معتقة مما تجيء به التجر
روي برفع طعم على تقدير: هذا طعم مدامة،
وبالنصب على تقدير: ذقت طعم مدامة. قال الزمخشري: فإن قلت: هل
يجوز أن ينصب حطة في قراءة من نصبها بقولوا على معنى قولوا هذه
الكلمة؟ قلت: لا يبعد، انتهى. وما جوزه ليس بجائز لأن القول لا
يعمل في المفردات، إنما يدخل على الجمل للحكاية، فيكون في موضع
المفعول به، إلا إن كان المفرد مصدراً نحو: قلت قولاً، أو صفة
لمصدر نحو: قلت حقاً، أو معبراً به عن جملة نحو: قلت شعراً
وقلت خطبة، على أن هذا القسم يحتمل أن يعود إلى المصدر، لأن
الشعر والخطبة نوعان من القول، فصار كالقهقرى من الرجوع، وحطة
ليس واحداً من هذه. ولأنك إذا جعلت حطة منصوبة بلفظ قولوا، كان
ذلك من الإسناد اللفظي وعري من الإسناد المعنوي، والأصل هو
الإسناد المعنوي.
أما ما ذهب إليه أبو عبيدة من أن قوله حطة مفرد، وأنه مرفوع
على الحكاية وليس مقتطعاً من جملة، بل أمروا بقولها هكذا
مرفوعة، فبعيد عن الصواب لأنه يبقى حطة مرفوعاً بغير رافع،
ولأن القول إنما وضع في باب الحكاية ليحكي به الجمل لا
المفردات، ولذلك احتاج النحويون في قوله تعالى: {يقال له
إبراهيم} (الأنبياء: 60) إلى تأويل، وأما تشبيهه إياه بقوله:
سمعت الناس ينتجعون غيثاً
وجدنا في كتاب بني تميم
أحق الخيل بالركض المعار}
فليس بسديد، لأن سمع ووجد كل منهما يتعلق بالمفردات والجمل،
لأن المسموع والموجود في الكتاب قد يكون مفرداً وقد يكون جملة.
وأما القول فلا يقع إلا على الجمل، ولا يقع على المفردات إلا
فيما تقدم ذكره، وليس حطة منها.
{وَقُولُواْ} وجزم هذا الفعل لأنه جواب الأمر. وقد تقدم الكلام
في نظيره في قوله تعالى: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} (البقرة:
40) ، وذكرنا الخلاف في ذلك.
{وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} وهذه الجملة
معطوفة على: {وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم} ، وليست معطوفة على
نغفر فتكون جواباً، ألا تراها جاءت منقطعة عن العطف في الأعراف
في قوله {سنزيد} ؟ وإن كانت من حيث المعنى لا من حيث الصناعة
الإعرابية ترتيب على دخول الباب سجداً. والقول حطة، لكنها
أجريت مجرى الإخبار المحض الذي لم يرتب على شيء قبله. {قولاً
غير الذي قيل لهم} (الأعراف: 161) :} ولما كان محذوفاً ناسب
إضافة غير إلى الاسم الظاهر بعدها. والذي قيل لهم هو أن يقولوا
حطة، فلو لم يحذف لكان وجه الكلام فبدّل الذين ظلموا بقولهم
حطة قولاً غيره، لكنه لما حذف أظهر مضافاً إليه غير ليدل على
أن المحذوف هو هذا المظهر، وهو الذي قيل لهم. وهذا التقدير
الذي قدرناه هو على وضع بدل إذ المجرور هو الزائل، والمنصوب هو
الحاصل. {بما كانوا} ، ما: مصدرية التقدير بكونهم مضى {يفسقون}
. وأجاز بعضهم أن تكون بمعنى الذي، وهو بعيد. فيفسقون يحتمل
الحال، وإن كان قد وقع على ما مى من المخالفات التي فسقوا بها،
فهو مضارع وقع موضع الماضي، وهو كثير في القرآن وفصيح الكلام.
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} وقيل: مفعول استسقى
محذوف، أي استسقى موسى ربه، فيكون المستسقى منه هو المحذوف،
وقد تعدى إليه الفعل كما تعدى إليه في قوله: {إذ استسقاه قومه}
(الأعراف: 160) ، أي طلبوا منه السقيا. وقال بعض الناس: وحذف
المفعول تقديره استسقى ماء، فعلى هذا القول يكون المحذوف هو
المستسقى، ويكون الفعل قد تعدى إليه كما تعدى إليه في قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه
ويحتاج إثبات تعديه إلى اثنين إلى شاهد من كلام العرب، كان
يسمع من كلامهم: استسقى زيد ربه الماء، وقد ثبت تعديه مرة إلى
المستسقى منه ومرة إلى المستسقي، فيحتاج تعديه إليهما إلى ثبت
من لسان العرب.
{فَانفَجَرَتْ} : الفاء للعطف على جملة
محذوفة، التقدير: فضرب فأنفجرت، كقوله تعالى: {أن اضرب بعصاك
البحر فانفلق} (الشعراء: 63) أي فضرب فانفلق.
وما ذهب إليه بعض الناس من أن الفاء في مثل: فانفلق، هي الفاء
التي في ضرب، وأن المحذوف هو المعطوف عليه، وحرف العطف من
المعطوف حتى يكون المحذوف قد بقي عليه دليل، إذ قد أبقيت فاؤه
وحذفت فاء فانفلق، واتصلت بانفلق فاء فضرب تكلف وتخرص على
العرب بغير دليل. وقد ثبت في لسان العرب حذف المعطوف عليه،
وفيه الفاء حيث لا معطوف بالفاء موجود، قال تعالى: {فأرسلون
يوسف أيّها الصّدّيق} (يوسف: 45) ، التقدير: فأرسلوه فقال:
فحذف المعطوف عليه والمعطوف، وإذا جاز حذفهما معاً، فلأن يجوز
حذف كل منهما وحده أولى. وزعم الزمخشري أن الفاء ليست للعطف،
بل هي جواب شرط محذوف، قال: فإن ضربت فقد انفجرت، كما ذكرنا في
قوله: فتاب عليكم} (البقرة: 54) ، وهي على هذا فاء فصيحة لا
تقع إلا في كلام بليغ، أه كلامه.
وقد تقدّم لنا الردّ على الزمخشري في هذا
التقدير في قوله: {فتاب عليكم، بأن إضمار مثل هذا الشرط لا
يجوز، وبينا ذلك هناك، وفي قوله أيضاً إضمار قد إذ يقدر، فقد
تاب عليكم، وقد انفجرت، ولا يكاد يحفظ من لسانهم ذلك، إنما
تكون بغير فاء، أو إن دخلت الفاء فلا بد من إظهاره قد، وما
دخلت عليه قد يلزم أن يكون ماضياً لفظاً ومعنى، نحو قوله: وإن
يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك، وإذا كان ماضياً لفظاً ومعنى،
استحال أن يكون بنفسه جواب الشرط، فاحتيج إلى تأويل وإضمار
جواب شرط. ومعلوم أن الانفجار على ما قدّر يكون مترتباً على أن
يضرب، وإذا كان مترتباً على مستقبل، وجب أن يكون مستقبلاً،
وإذا كان مستقبلاً امتنع أن تدخل عليه قد التي من شأنها أن لا
تدخل في شبه جواب الشرط على الماضي إلا ويكون معناه ماضياً نحو
الآية، ونحو قولهم: إن تحسن إليّ فق دأحسنت إليك، ويحتاج إلى
تأويل، كما ذكرنا. وليس هذا الفعل بدعاء فتدخله الفاء فقط
ويكون معناه الاستقبال، وإن كان بلفظ الماضي نحو: إن زرتني
فغفر الله لك. وأيضاً فالذي يفهم من الآية أن الانفجار قد وقع
وتحقق، ولذلك قال: قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا، وجعله
جواب شرط محذوف على ما ذهب إليه هذا الرجل يجعله غير واقع، إذ
يصير مستقبلاً لأنه معلق على تقدير وجود مستقبل، والمعلق على
تقدير وجود مستقبل لا يقتضي إمكانه فضلاً عن وجوده، فما ذهب
إليه فاسد في التركيب العربي، وفاسد من حيث المعنى، فوجب طرحه،
وأين هذا من قوله: وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام
بليغ؟
{منه} متعلق بقوله: فانفجرت، ومن هنا لابتداء الغاية والضمير
عائد على الحجر المضروب.
{اثنتا عشرة} : التاء في اثنتا للتأنيث،
وفي ثنتا للإلحاق، وهذه نظير ابنة وبنت. وعشرة في موضع خفض
بالإضافة، وهو مبني لوقوعه موقع النون، فهو مما أعرب فيه الصدر
وبني العجز. ألا ترى أن اثنتي معرب إعراب المثنى لثبوت ألفه
رفعاً وانقلابها نصباً وجراً، وأن عشرة مبني؟ ولما تنزلت منزلة
نون اثنتين لم يصح إضافتها، فلا يقال: اثنتا عشرتك. وفي محفوظي
أن ابن درستويه ذهب إلى أن اثنا واثنتا وثنتا مع عشر مبني، ولم
يجعل الإنقلاب دليل الإعراب.
{عيناً} : منصوب على التمييز، وإفراد التمييز المنصوب في باب
العدد لازم عند الجمهور، وأجاز الفراء أن يكون جمعاً.
{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} وعلم هنا متعدّية
لواحد أجريت مجرى عرف، واستعمالها كذلك كثير في القرآن ولسان
العرب.
{مِن رِّزْقِ اللَّهِ} ، من: لابتداء الغاية، ويحتمل أن تكون
للتبعيض.
{يُخْرِجْ لَنَا} : جزمه على جواب الأمر الذي هو ادع، وقد مر
نظيره في {أوفوا بعهدي أوف بعهدكم} (البقرة: 40) . وقيل: ثم
محذوف تقديره: وقل له اخرج فيخرج، مجزوم على جواب هذا الأمر
الذي هو اخرج. وقيل: جزم يخرج بلام مضمرة، وهي لام الطلب، أي
ليخرج، وهذا عند البصريين لا يجوز. مما تنبت الأرض} : مفعول
يخرج محذوف ومن تبعيضية: أي مأكولاً مما تنبت، هذا على مذهب
سيبويه. وقال الأخفش: من زائدة، التقدير: ما تنبت، وما موصولة،
والعائد محذوف تقديره، تنبته، وفيه شروط جواز الحذف، وأجاز
بعضهم أن تكون ما مصدرية تقديره: من إنبات الأرض. قال أبو
البقاء: لا يجوز ذلك لأن المفعول المقدر لا يوصف بالإنبات، لأن
الإنبات مصدر، والمحذوف جوهر، وإضافة الإنبات إلى الأرض مجاز،
إذ المنبت هو الله تعالى، لكنه لما جعل فيها قابلية الإنبات
نسب الإنبات إليها.
{مِن بَقْلِهَا} : هذا بدل من قوله: {مما
تنبت الأرض} ، على إعادة حرف الجرّ، وهو فصيح في الكلام، أعني
أن يعاد حرف الجرّ في البدل. فمن على هذا التقدير تبعيضية، كهي
في مما تنبت، ويتعلق بيخرج، إمّا الأولى، وإمّا أخرى مقدّرة
على الخلاف الذي في العامل في البدل، هل هو العامل الأول، أو
ذلك على تكرار العامل؟ والمشهور هذا الثاني، وأجاز المهدويّ
أيضاً، وابن عطية، وأبو البقاء أن تكون من في قوله: {من بقلها}
لبيان الجنس، وعبر عنها المهدويّ بأنها للتخصيص، ثم اختلفوا،
فقال أبو البقاء: موضعها نصب على الحال من الضمير المحذوف
تقديره: مما تنبته الأرض كائناً من بقلها، وقدّم ذكر هذا الوجه
قال: ويجوز أن تكون بدلاً من ما الأولى بإعادة حرف الجر. وأما
المهدوي، وابن عطية فزعما مع قولهما: إن من في {من بقلها} بدل
من قوله: {مما تنبت} ، وذلك لأن من في قوله {مما تنبت}
للتبعيض، ومن في قوله {من بقلها} على زعمهما لبيان الجنس. فقد
اختلف مدلول الحرفين، واختلاف ذلك كاختلاف الحرفين، فلا يجوز
البدل إلا إن ذهب ذاهب إلى أن من في قوله: {مما تنبت الأرض}
لبيان الجنس، فيمكن أن يفرّع القول بالبدل على كونها لبيان
الجنس. والمختار ما قدّمناه من كون من في الموضعين للتبعيض،
وأمّا أن تكون لبيان الجنس، فقد أباه أصحابنا وتأوّلوا ما
استدلّ به مثبت ذلك.
{الَّذِى هُوَ أَدْنَى بِالَّذِى هُوَ
خَيْرٌ} ، والذي: مفعول أتستبدلون، وهو الحاصل، والذي دخلت
عليه الباء هو الزائل، كما قررناه في غير مكان. {هو أدنى} :
صلة للذي، وهو هنا واجب الإثبات على مذهب البصريين، إذ لا طول
في الصلة، وأدنى: خبر عن هو، وهو: أفعل التفضيل، ومن وما دخلت
عليه حذفاً للعلم، وحسن حذفهما كون أفعل التفضيل خبراً، فإن
وقع غير خبر مثل كونه حالاً أو صفة قل الحذف وتقديره: أدنى من
ذلك الطعام الواحد، وحسن حذفهما أيضاً كون المفضل عليه مذكوراً
بعد ذلك، وهو قوله: {بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ} .
{اهْبِطُواْ مِصْرًا} وأجاز من وقفنا على كلامه من المعربين
والمفسرين أن تكون مصر هذه المنوّنة هي الإسم العلم. والمراد
بقوله: {أن تبوّآ لقومكما بمصر بيوتاً} (يونس: 87) ، قالوا:
وصرف، وإن كان فيه العلمية والتأنيث، كما صرف هند ودعد لمعادلة
أحد السببين، لخفة الإسم لسكون وسطه، قاله الأخفش، أو صرف لأنه
ذهب باللفظ مذهب المكان، فذكره فبقي فيه سبب واحد فانصرف.
وشبهه الزمخشري في منع الصرف، وهو علم بنوح ولوط حيث صرفا، وإن
كان فيهما العلمية والعجمة لخفة الإسم بكونه ثلاثياً ساكن
الوسط، وهذا ليس كما ذهبوا إليه من أنه مشبه لهند، أو مشبه
لنوح، لأن مصر اجتمع فيه ثلاثة أسباب وهي: التأنيث والعلمية
والعجمة. فهو يتحتم منع صرفه بخلاف هند، فإنه ليس فيه سوى
العلمية والتأنيث، على أن من النحويين من خالف في هند، وزعم
أنه لا يجوز فيه إلا منع الصرف، وزعم أنه لا دليل على ما ادعى
النحويون من الصرف في قوله:
لم تتلفع بفضل ميزرها دعد
ولم تسق دعد في العلب}
وبخلاف نوح، فإن العجمة لم تعتبر إلا في غير الثلاثي الساكن
الوسط، وأما إذا كان ثلاثياً ساكن الوسط فالصرف. وقد أجاز عيسى
بن عمر منع صرفه قياساً على هند، ولم يسمع ذلك من العرب إلا
مصروفاً، فهو قياس على مختلف فيه مخالف لنطق العرب، فوجب
اطراحه.
{فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ} : هذه
الجملة جواب للأمر، كما يجاب بالفعل المجزوم، ويجري فيه الخلاف
الجاري فيه: هل ضمن اهبطوا مصراً معنى أن تهبطوا أو أضمر
الشرط؟ وفعله بعد فعل الأمر كأنه قال: أن تهبطوا مصراً فإن لكم
ما سألتم، وفي ذلك محذوفان: أحدهما: ما يربط هذه الجملة بما
قبلها، وتقديره: فإن لكم فيها ما سألتم. والثاني: الضمير
العائد على ما، تقديره: ما سألتموه، وشروط جواز الحذف فيه
موجودة.
{وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} : تقدم تفسير باء، فعلى من
قال: باء: رجع، تكون الباء للحال، أي مصحوبين بغضب، ومن قال:
استحق، فالباء صلة نحو: لا يقرأن بالسور: أي استحقوا غضباً،
ومن قال: نزل وتمكن أو تساووا، والباء ظرفية، فعلى القول الأول
تتعلق بمحذوف، وعلى الثاني لا تتعلق، وعلى الثالث بنفس باء.
وزعم الأخفش أن الباء في قوله بغضب للسبب، فعلى هذا تتعلق
بباء، ويكون مفعول باء محذوفاً، أي استحقوا العذاب بسبب غضب
الله عليهم.
{مِّنَ اللَّهِ} يحتمل أن يكون متعلقاً بباؤا إذا كان باء
بمعنى رجع، وكأنهم كانوا مقبلين على الله تعالى، فبعصيانهم
رجعوا منه، أي من عنده بغضب. ويحتمل أن يكون متعلقاً بمحذوف
ويكون في موضع الصفة، أي بغضب كائن من الله، وهذا الوجه ظاهر
إذا كان باء بمعنى استحق، أو بمعنى نزل وتمكن، ويبعد الوجه
الأول.
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} والإشارة إلى المباءة وهو مبتدأ، والجار
والمجرور بعده خبر، والباء للسبب، أي ذلك كائن بكفرهم وقتلهم.
{بِغَيْرِ الْحَقِّ} : متعلق بقوله: وتقتلون، وهو في موضع نصب
على الحال من الضمير في تقتلون، أي تقتلونهم مبالغة. قيل:
ويجوز أن تكون منعة لمصدر محذوف، أي قتلا بغير حق. وعلى كلا
الوجهين هو توكيد.
{ذلِكَ بِمَا عَصَواْ} وما: في قوله {بِمَا عَصَواْ} مصدرية،
أي ذلك بعصيانهم.
{إِنَّ الَّذِينَءَامَنُواْ وَالَّذِينَ
هَادُواْ وَالنَّصَرَى وَالصَّبِئِينَ مَنْءَامَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَعَمِلَ صَلِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ
عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ
يَحْزَنُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَقَكُمْ وَرَفَعْنَا
فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآءَاتَيْنَكُم بِقُوَّةٍ
وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ
تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَسِرِينَ *
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى
السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَسِئِينَ *
فَجَعَلْنَهَا نَكَلاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا
خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} .
هاد: ألفه منقلبة عن واو، والمضارع يهود، ومعناه: ثاب، أو عن
ياء والمضارع يهيد، إذا تحرك. والأولى الأول لقوله تعالى: {إنا
هدنا إليك} (الأعراف: 156) .
لولا: للتحضيض بمنزلة هلا، فيليها الفعل
ظاهراً أو مضمراً، وحرف امتناع لوجود فيكون لها جواب، ويجيء
بعدها اسم مرفوع بها عند الفراء، وبفعل محذوف عند الكسائي،
وبالابتداء عند البصريين، والخبر محذوف عند جمهورهم، وعند
بعضهم فيه تفصيل ذكرناه في «منهج السالك» من تأليفنا، وليست
جملة الجواب الخبر، خلافاً لأبي الحسين بن الطراوة، وإن وقع
بعدها مضمر فيكون ضمير رفع مبتدأ عند البصريين، ويجوز أن يقع
بعدها ضمير الجرّ فتقول: لولاني ولولاك ولولاه، إلى آخرها، وهو
في موضع جر بلولا عند سيبويه، وفي موضع رفع عند الأخفش، استعير
ضمير الجر للرفع، كما استعاروا ضمير الرفع للجر في قولهم: ما
أنا كانت، ولا أنت كانا. والترجيح بين المذهبين مذكور في
النحو. ومن ذهب إلى أن لولا نافية، وجعل من ذلك {فلولا كانت
قرية آمنت} (يونس: 98) ، فبعيد قوله عن الصواب. خلف: ظرف مكان
مبهم، وهو متوسط التصرف، ويكون أيضاً وصفاً، يقال رجل خلف:
بمعنى رديء.
{مَنْءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ} ، من: مبتدأة،
ويحتمل أن تكون شرطية، فالخبر الفعل بعدها، وإذا كانت موصولة،
فالخبر قوله: {فلهم أجرهم} ، ودخلت الفاء في الخبر، لأن
المبتدأ الموصول قد استوفى شروط جواز دخول الفاء في الخبر، وقد
تقدم ذكرها. واتفق المعربون والمفسرون على أن الجملة من قوله:
{من آمن} في موضع خبر إن إذا كان من مبتدأ، وإن الرابط محذوف
تقديره: من آمن منهم، ولا يتم ما قالوه إلا على تغاير
الإيمانين، أعني: الذي هو صلة الذين، والذي هو صلة من.
ومن أعرب من مبتدأ، فإنما جعلها شرطية. وقد
ذكرنا جواز كونها موصولة، وأعربوا أيضاً من بدلاً، فتكون
منصوبة موصولة. قالوا: وهي بدل من اسم إن وما بعده، ولا يتم
ذلك أيضاً إلا على تقدير تغاير الإيمانين، كما ذكرنا، إذا كانت
مبتدأة. والذي نختاره أنها بدل من المعاطيف التي بعد اسم إن،
فيصح إذ ذاك المعنى، وكأنه قيل: إن الذين آمنوا من غير الأصناف
الثلاثة، ومن آمن من الأصناف الثلاثة، فلهم أجرهم. ودخلت الفاء
في الخبر، لأن الموصول ضمن معنى الشرط، ولم يعتد بدخول إن على
الموصول، وذلك جائز في كلام العرب، ولا مبالاة بمن خالف في
ذلك. ومن زعم أن من آمن معطوف على ما قبله، وحذف منه حرف
العطف، التقدير: ومن آمن بالله فقوله بعيد عن الصواب.
{فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} أجرهم: مرفوع بالابتداء، ولهم في موضع
الخبر. وعند الأخفش والكوفيين: إن أجرهم مرفوع بالجار
والمجرور. {عند ربهم} : ظرف يعمل فيه الاستقرار الذي هو عامل
في لهم، ويحتمل أن ينتصب على الحال، والعامل فيه محذوف تقديره:
كائناً عند ربهم.
{وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} والواو في قوله: ورفعنا،
واو العطف: على تفسير ابن عباس، لأن أخذ الميثاق كان متقدّماً،
فلما نقضوه بالامتناع من قبول الكتاب رفع عليهم الطور. وأما
على تفسير أبي مسلم: فإنها واو الحال، أي إن أخذ الميثاق كان
في حال رفع الطور فوقهم، نحو قوله تعالى: {ونادى نوح ابنه وكان
في معزل} (هود: 42) ، أي وقد كان في معزل.
{خُذُواْ مَآءَاتَيْنَكُم} وما موصول، والعائد عليه محذوف، أي:
ما آتيناكموه.
وقرأ ابن مسعود: تذكروا، على أنه مضارع انجزم على جواب الأمر
الذي هو خذوا.
{فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ} وفضل الله على مذهب البصريين مرفوع على
الابتداء، والخبر محذوف تقديره: موجود، وما يشبهه مما يليق
بالموضع. وعليكم: متعلق بفضل، أو معمول له، فلا يكون في موضع
الخبر. والتقدير: {فلولا فضل الله عليكم ورحمته} موجودان،
{لكنتم} : جواب لولا. والأكثر أنه إذا كان مثبتاً تدخله اللام،
ولم يجىء في القرآن مثبتاً إلا باللام، إلا فيما زعم بعضهم أن
قوله تعالى: {وهمّ بها} (يوسف: 24) ، جواب: لولا قدم فإنه لا
لام معه. وقد جاء في كلام العرب بغير لام، وبعض النحويين يخص
ذلك بالشعر، قال الشاعر:
لولا الحياء ولولا الدين عبتكما
ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري
وقد جاء في كلامهم بعد اللام، قد، قال الشاعر:
لولا الأمير ولولا حق طاعته
لقد شربت دماً أحلى من العسل
وقد جاء في كلامهم أيضاً حذف اللام وإبقاء قد نحو: لولا زيد قد
أكرمتك.
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِى
السَّبْتِ} اللام في لقد: هي لام توكيد، وتسمى: لام الابتداء
في نحو: لزيد قائم. ومن أحكامها: أن ما كان في حيزها لا يتقدّم
عليها، إلا إذا دخلت على خبر إن على ما قرر في النحو. وقد صنف
بعض النحويين كتاباً في اللامات ذكرها فيه وأحكامها. ويحتمل أن
تكون جواباً لقسم محذوف، ولكنه جيء على سبيل التوكيد.
منكم: في موضع الحال، فيتعلق بمحذوف تقديره: كأثنين منكم، ومن
للتبعيض.
في السبت: متعلق باعتدوا، إما على إضمار يوم، أو حكم.
{قِرَدَةً خَسِئِينَ} : كلاهما خبر كان.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ
أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ
مِنَ الْجَهِلِينَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ
لَّنَا مَا هِىَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ
فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُواْ مَا
تُؤْمَرونَ * قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا
مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ
صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّظِرِينَ * قَالُواْ
ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِىَ إِنَّ البَقَرَ
تَشَبَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ
* قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ
تُثِيرُ الأٌّرْضَ وَلاَ تَسْقِى الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ
شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الئَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا
وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ * وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا
فَادرَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ
تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ
يُحْىِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ * ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ
فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ
الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَرُ وَإِنَّ
مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنَّ
مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ
بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
بين: ظرف مكان متوسط التصرف، تقول: هو بعيد
بين المنكبين، ونقي بين الحاجبين. قال تعالى: {هذا فراق بيني
وبينك} (الكهف: 78) ، ودخولها إذا كانت ظرفاً: بين ما تمكن
البينية فيه، والمال بين زيد وبين عمرو، مسموع من كلامهم،
وينتقل من المكانية إلى الزمانية إذا لحقتها ما، أو الألف،
فيزول عنها الاختصاص بالأسماء، فيليها إذ ذاك الجملة الإسمية
والفعلية، وربما أضيفت بينا إلى المصدر. ولبين في علم الكوفيين
باب معقود كبير اللون: معروف، وجمعه على القياس ألوان. واللون:
النوع، ومنه ألوان.
الآن: ظرف زمان، حضر جميعه أو بعضه، والألف واللام فيه للحضور.
وقيل: زائدة، وهو مبني لتضمنه معنى الإشارة. وزعم الفراء أنه
منقول من الفعل، يقال: آن يئين أيناً: أي حان.
و {أن تذبحوا} في موضع المفعول الثاني ليأمر، وهو على إسقاط
الحرف، أي بأن تذبحوا. ولحذف الحرف هنا مسوّغان: أحدهما: أنه
يجوز فيه، إذا كان المفعول متأثراً بحرف الجر، أن يحذف الحرف،
كما قال:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
والثاني: كونه مع إن، وهو يجوز معه حذف حرف الجر إذا لم يلبس.
{أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} وانتصابه على أنه مفعول ثان لقوله:
{أتتخذنا هزواً} ، فإما أن يريد به اسم المفعول، أي مهزوأ،
كقوله: درهم ضرب الأمير، وهذا خلق الله، أو يكون أخبروا به على
سبيل المبالغة، أي أتتخذنا نفس الهزؤ، وذلك لكثرة الاستهزاء
ممن يكون جاهلاً، أو على حذف مضاف، أي مكان هزء، أو ذوي هزء.
{قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا مَا هِىَ} ،
وجزم يبين على جواب الأمر. وما هي: مبتدأ وخبر. وقرأ عبد الله:
سل لنا ربك يبين ما هي، ومفعول يبين: هي الجملة من المبتدأ
والخبر، والفعل معلق، لأن معنى يبين لنا يعلمنا ما هي، لأن
التبيين يلزمه الإعلام.
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ
لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ} : صفة لبقرة، والصفة إذا كانت
منفية بلا، وجب تكرارها، كما قال:
وفتيان صدق لا ضعاف ولا عزل
فإن جاءت غير مكرّرة، فبابها الشعر، ومن جعل ذلك من الوصف
بالمجمل، فقدر مبتدأ محذوفاً، أي (لا هي فارض ولا بكر) ، فقد
أبعد، لأن الأصل الوصف بالمفرد، والأصل أن لا حذف.
{بين ذلك} : يقتضي بين أن تكون تدخل على ما يمكن التثنية فيه،
ولم يأت بعدها إلا اسم إشارة مفرد، فقيل: أشير بذلك إلى مفرد،
فكأنه قيل: عوان بين ما ذكر، فصورته صورة المفرد، وهو في
المعنى مثنى، لأن تثنية اسم الإشارة وجمعه ليس تثنية ولا جمعاً
حقيقة، بل كان القياس يقتضي أن يكون اسم الإشارة لا يثنى ولا
يجمع ولا يؤنث، قالوا: وقد أجري الضمير مجرى اسم الإشارة، قال
رؤبة:
فيها خطوط من سواد وبلق
كأنه في الجلد توليع البهق
قيل له: كيف تقول كأنه؟ وهلا قلت: كأنها، فيعود على الخطوط، أو
كأنهما، فيعود على السواد والبلق؟ فقال: أردت كان ذاك، وقال
لبيد:
إن للخير وللشرّ مدى
وكلا ذلك وجه وقبل
قيل: أرادوا كلا ذينك، فأطلق المفرد وأراد به المثنى، فيحتمل
أن تكون الآية من ذلك، فيكون أطلق ذلك ويريد به ذينك، وهذا
مجمل غير الأوّل. والذي أذهب إليه غير ما ذكروا، وهو أن يكون
ذلك مما حذف منه المعطوف، لدلالة المعنى عليه، التقدير: عوان
بين ذلك وهذا، أي بين الفارض والبكر، فيكون نظير قول الشاعر:
فما كان بين الخير لو جاء سالماً
أبو حجر إلا ليال قلائل أي: فما كان بين الخير وباغيه، فحذف
لفهم المعنى. {سرابيل تقيكم الحرّ} (النحل: 81) أي والبرد.
وأجاز بعضهم أن تكون ما مصدرية، أي: فافعلوا أمركم، ويكون
المصدر بمعنى المفعول، أي مأموركم، وفيه بعد.
وفي جزم: {يبين} ، وفي الجملة المستفهم بها والمحذوف بعده سبق
نظيره في الآية قبله، فأغنى عن ذكره.
{لَوْنُهَا} : ذكروا في إعرابه وجوهاً:
أحدها: أنا فاعل مرفوع بفاقع، وفاقع صفة للبقرة. الثاني: أنه
مبتدأ وخبره فاقع. والثالث: أنه مبتدأ، و {تسرّ الناظرين} خبر.
وأنث على أحد معنيين: أحدهما: لكونه أضيف إلى مؤنث، كما قالوا:
ذهبت بعض أصابعه. والثاني: أنه يراد به المؤنث، إذ هو الصفرة،
فكأنه قال: صفرتها تسر الناظرين، فحمل على المعنى كقولهم:
جاءته كتابي فاحتقرها، على معنى الصحيفة والوجه الإعراب
الأوّل، لأن إعراب لونها مبتدأ، وفاقع خبر مقدّم لا يجيزه
الكوفيون، أو تسرّ الناظرين خبره، فيه تأنيث الخبر، ويحتاج إلى
تأويل، كما قررناه. وكون لونها فاعلاً بفاقع جار على نظم
الكلام، ولا يحتاج إلى تقديم، ولا تأخير، ولا تأويل، ولم يؤنث
فاقعاً وإن كان صفة لمؤنث، لأنه رفع السبي، وهو مذكر فصار نحو:
جاءتني امرأة حسن أبوها، ولا يصح هنا أن يكون تابعاً لصفراء
على سبيل التوكيد، لأنه يلزم المطابقة، إذ ذاك للمتبوع. ألا
ترى أنك تقول أسود حالك، وسوداء حالكة، ولا يجوز سوداء حالك؟
فأمّا قوله:
وإني لأسقي الشرب صفراء فاقعاً
كأن ذكي المسك فيها يفتق
فبابه الشعر، إذا كان وجه الكلام صفراء
فاقعة وهذه الجملة صفة للبقرة، وقد تقدّم قول من جعلها خبراً،
كقوله: لونها، وفيه تكلف قد ذكرناه. وجاء هذا الوصف بالفعل،
ولم يجيء باسم الفاعل، لأن الفعل يشعر بالحدوث والتجدّد. ولما
كان لونها من الأشياء الثابتة التي لا تتجدّد، جاء الوصف به
بالاسم لا بالفعل، وتأخر هذا الوصف عن الوصف قبله، لأنه ناشىء
عن الوصف قبله، أو كالناشىء، لأن اللون إذا كان بهجاً جميلاً،
دهشت فيه الأبصار، وعجبت من حسنه البصائر، وجاء بوصف الجمع في
الناظرين، ليوضح أن أعين الناس طامحة إليها، متلذذة فيها
بالنظر. فليست مما تعجب شخصاً دون شخص، ولذلك أدخل الألف
واللام التي تدل على الاستغراق، أي هي بصدد من نظر إليها سرّ
بها، وإن كان النظر هنا من نظر القلب، وهو الفكر، فيكون السرور
قد حصل من التفكر في بدائع صنع الله، من تحسين لونها وتكميل
خلقها. والضمير في تسرّ عائد على البقرة، على تقدير أن تسرّ
صفة، وإن كان خبراً، فهو عائد على اللون الذي تسر خبر عنه. وقد
تقدّم توجيه التأنيث، ولذلك من قرأ يسرّ بالياء، فهو عائد على
اللون، فيحتمل أن يكون لونها مبتدأ، ويسر خبراً، ويكون فاقعاً
صفة تابعة لصفراء، على حد هذا البيت الذي أنشدناه وهو:
وإني لأسقي الشرب صفراء فاقعاً
على قلة ذلك، ويحتمل أن يكون لونها فاعلاً بفاقع، ويسر إخبار
مستأنف.
{إِنَّ البَقَرَ تَشَبَهَ عَلَيْنَا} وقرأ
ابن أبي إسحاق: تشابهت، بتشديد الشين مع كونه فعلاً ماضياً،
وبتاء التأنيث آخره. فهذه اثنتا عشرة قراءة. وتوجيه هذه
القراآت ظاهر، إلا قراءة ابن أبي إسحاق تشابهت، فقال بعض
الناس: لا وجه لها. وتبيين ما قاله: إن تشديد الشين إنما يكون
بإدغام التاء فيه، والماضي لا يكون فيه تاآن، فتبقى إحداهما
وتدغم الأخرى. ويمكن أن توجه هذه القراءة على أن أصله: اشابهت،
والتاء هي تاء البقرة، وأصله أن البقرة اشابهت علينا، ويقوي
ذلك لحاق تاء التأنيث في آخر الفعل، أو اشابهت أصله: تشابهت،
فأدغمت التاء في الشين واجتلبت همزة الوصل. فحين أدرج ابن أبي
إسحاق القراءة، صار اللفظ: أن البقرة اشابهت، فظن السامع أن
تاء البقرة هي تاء في الفعل، إذ النطق واحد، فتوهم أنه قرأ:
تشابهت، وهذا لا يظن بابن أبي إسحاق، فإنه رأس في علم النحو،
وممن أخذ النحو عن أصحاب أبي الأسود الدؤلي مستنبط علم النحو.
وقد كان ابن أبي إسحاق يزري على العرب وعلى من يستشهد بكلامهم،
كالفرزدق، إذا جاء في شعرهم ما ليس بالمشهور في كلام العرب،
فكيف يقرأ قراءة لا وجه لها، وأن البقر تعليل للسؤال، كما
تقول: أكرم زيداً إنه عالم، فالحامل لهم على السؤال هو حصول
تشابه البقر عليهم.
{وَإِنَّآ إِن شَآءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} : وجواب هذا الشرط
محذوف يدل عليه مضمون الجملة، أي إن شاء الله اهتدينا، وإذ حذف
الجواب كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ ومنفياً بلم، وقياس
الشرط الذي حذف جوابه أن يتأخر عن الدليل على الجواب، فكان
الترتيب أن يقال في الكلام: إن زيداً لقائم إن شاء الله، أي:
إن شاء الله فهو قائم، لكنه توسط هنا بين اسم إن وخبرها، ليحصل
توافق رؤوس الآي.
{لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأٌّرْضَ وَلاَ
تَسْقِى الْحَرْثَ} لا ذلول؛ صفة للبقرة، على أنه من الوصف
بالمفرد، ومن قال هو من الوصف بالجملة، وأن التقدير: لا هي
ذلول، فبعيد عن الصواب. وتثير الأرض: صفة لذلول، وهي صلة داخلة
في حيز النفي، والمقصود نفي إثارتها الأرض، أي لا تثير فتذل،
فهو من باب:
على لاحب لا يهتدي بمناره
{وَلاَ تَسْقِى الْحَرْثَ} : نفي معادل لقوله: لا ذلول.
والجملة صفة، والصفتان منفيتان من حيث المعنى، كما أن لا تسقي
منفي من حيث المعنى أيضاً.
قال الزمخشري: لا ذلول، صفة لبقرة بمعنى: بقرة غير ذلول، يعني:
لم تذلل للحرث وإثارة الأرض، ولا هي من النواضح التي يسنى
عليها بسقي الحروث. ولا: الأولى للنفي، والثانية مزيدة لتوكيد
الأولى، لأن المعنى: لا ذلول تثير وتسقي، على أن الفعلين صفتان
لذلول، كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية. انتهى كلامه. ووافقه
على جعل لا الثانية مزيدة صاحب «المنتخب» ، وما ذهبا إليه ليس
بشيء، لأن قوله: لا ذلول، صفة منفية بلا، وإذا كان الوصف قد
نفي بلا، لم تكرار لا النافية، لما دخلت عليه، تقول: مررت برجل
لا كريم ولا شجاع، وقال تعالى: {ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني
من اللهب} (المرسلات: 30 31) وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم}
(الواقعة: 43 44) لا فارض ولا بكر} ، ولا يجوز أن تأتي بغير
تكرار، لأن المستفاد منها النفي، إلا إن ورد في ضرورة الشعر،
وإذا آل تقديرهما إلى لا ذلول مثيرة وساقية، كان غير جائز لما
ذكرناه من وجوب تكرار لا النافية، وعلى ما قدراه كان نظير:
جاءني رجل لا كريم، وذلك لا يجوز إلا إن ورد في شعر، كما نبهنا
عليه. قال ابن عطية: ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع
الحال لأنها من نكرة. انتهى كلامه.
والجملة التي أشار إليها هي قوله: تثير
الأرض، والنكرة هي قوله: لا ذلول، أو قوله: بقرة، فإن عنى
بالنكرة بقرة، فقد وصفت، والحال من النكرة الموصوفة جائزة
جوازاً حسناً، وإن عنى بالنكرة لا ذلول، فهو قول الجمهور ممن
لم يحصل مذهب سيبويه، ولا أمعن النظر في كتابه، بل قد أجاز
سيبويه في كتابه، في مواضع مجيء الحال من النكرة، وإن لم توصف،
وإن كان الإتباع هو الوجه والأحسن، قال سيبويه في باب ما لا
يكون الاسم فيه إلا نكرة، وقد يجوز نصبه على نصب: هذا رجل
منطلقاً، يريد على الحال من النكرة، ثم قال: وهو قول عيسى، ثم
قال: وزعم الخليل أن هذا جائز، ونصبه كنصبه في المعرفة جعله
حالاً، ولم يجعله صفة، ومثل ذلك: مررت برجل قائماً، إذا جعلت
المرور به في حال قيام، وقد يجوز على هذا: فيها رجل قائماً،
ومثل ذلك: عليه مائة بيضاء، والرفع الوجه، وعليه مائة ديناً،
الرفع الوجه، وزعم يونس أن ناساً من العرب يقولون: مررت بماء
قعدة رجل، والوجه الجر، وكذلك قال سيبويه في باب ما ينتصب،
لأنه قبيح أن يكون صفة فقال: راقود خلا وعليك نحى سمناً، وقال
في باب نعم، فإذا قلت لي عسل ملء جرة، وعليه دين شعر كلبين،
فالوجه الرفع، لأنه صفة، والنصب يجوز كنصبه، عليه مائة بيضاء،
فهذه نصوص سيبويه، ولو كان ذلك غير جائز، كما قال ابن عطية،
لما قاسه سيبويه، لأن غير الجائز لا يقال به فضلاً عن أن يقاس،
وإن كان الإتباع للنكرة أحسن، وإنما امتنعت في هذه المسألة،
لأن ما ذهب إليه أبو محمد هو قول الضعفاء في صناعة الإعراب،
الذين لم يطلعوا على كلام الإمام.
وأجاز بعض المعربين أن يكون: تثير الأرض،
في موضع الحال من الضمير المستكن في ذلول تقديره: لا تذل في
حال إثارتها، والوجه ما بدأنا به أولاً، وقرأ أبو عبد الرحمن
السلمي: لا ذلول، بالفتح. قال الزمخشري بمعنى لا ذلول هناك، أي
حيث هي، وهو نفي لذلها، ولأن توصف به فيقال: هي ذلول، ونحوه
قولك: مررت بقوم لا بخيل ولا جبان، أي فيهم، أو حيث هم. انتهى
كلامه. فعلى ما قدره يكون الخبر محذوفاً، ويكون قوله: تثير
الأرض، صفة لاسم لا، وهي منفية من حيث المعنى، ولذلك عطف عليها
جملة منفية، وهو قوله: ولا تسقي الحرث، وإذا تقرر هذا، فلا
يجوز أن يكون {تثير الأرض ولا تسقي الحرث} خبراً، لأنه كان
يتنافر هذا التركيب مع ما قبله، لأن قوله: {قال إنها بقرة}
يبقى كلاماً منفلتاً مما بعده، إذ لا تحصل به الإفادة إلا على
تقدير أن تكون هذه الجملة معترضة بين الصفة والموصوف، ويكون
محط الخبر هو قوله: {مسلمة لا شية فيها} ، لأنها صفة في اللفظ،
وهي الخبر في المعنى، ويكون ذلك الاعتراض من حيث المعنى نافياً
ذلة هذه البقر، إذ هي فرد من أفراد الجنس المنفي بلا الذي بني
معها، ولا يجوز أن تقع هذه الجملة أعني لا ذلول، على قراءة
السلمي، في موضع الصفة على تقدير أن تثير وما بعدها الخبر،
لأنه ليس فيها عائد على الموصوف الذي هو بقرة، إذ العائد الذي
في تثير وفي تسقي ضمير اسم لا، ولا يتخيل أن قوله: {لا ذلول
تثير الأرض ولا تسقي الحرث} على تقدير أن تثير، وما بعده خبر
يكون دالاً على نفي ذلول مع الخبر عن الوجود، لأن ذلك كان يكون
غير مطابق لما عليه الوجود، وإنما المعنى نفي ذلك بالنسبة إلى
أرضهم وإلى حرثها؛ والألف واللام للعهد. فكما يتعقل انتفاء
ذلول مع اعتقاد كون تثير وما بعده صفة، لأنك قيدت الخبر
بتقديرك حيث هي، فصلح هذا النفي، كذلك يتعقل انتفاء ذلول مع
الخبر عنه، حيث اعتقد أن متعلق الخبرين مخصوص، وهو الأرض
والحرث، وكما تقدر ما من ذلول مثيرة ولا
ساقية حيث تلك البقرة، كذلك تقدر ما من
ذلول تثير أرضهم ولا تسقي حرثهم. فكلاهما نفي قد تخصص، إما
بالخبر المحذوف، وإما بتعلق الخبر المثبت.
وقد انتفى وصف البقرة بذلول وما بعدها، إما بكون الجملة صفة
والرابط الخبر المحذوف، وإما بكون الجملة اعتراضية بين الصفة
والموصوف، إذ لم تشتمل على رابط يربطها بما قبلها، إذا جعلت
تثير خبرأ لا يقال أن الرابط هنا هو العموم، إذ البقرة فرد من
أفراد اسم الجنس، لأن الرابط بالعموم إنما قيل به في نحو: زيد
نعم الرجل، على خلاف في ذلك، ولعل الأصح خلافه. وباب نعم باب
شاذ لا يقاس عليه، لو قلت زيد لا رجل في الدار، ومررت برجل لا
عاقل في الدار، وأنت تعني الخبر والصفة وتجعل الرابط العموم،
لأنك إذا نفيت لا رجل في الدار، انتفى زيد فيها، وإذا قلت: لا
عاقل في الدار، انتفى العقل عن المرور به، لم يجز ذلك، فلذلك
اخترنا في هذه القراءة على تقدير كون تثير وتسقي خبراً للا
ذلول، أن تكون الجملة اعتراضية بين الصفة والموصوف، وتدل على
نفي الإثارة ونفي السقي، من حيث المعنى، لا من حيث كون
الجملتين صفة للبقرة. وأما تمثيل الزمخشري بذلك، بمررت بقوم لا
بخيل ولا جبان فيهم، أو حيث هم، فتمثيل صحيح، لأن الجملة
الواقعة صفة لقوم ليس الرابط فيها العموم، إنما الرابط هذا
الضمير، وكذلك ما قرره هو الرابط فيه الضمير، إذ قدره لا ذلول
هناك، أي حيث هي، فهذا الضمير عائد على البقرة، وحصل به الربط
كما حصل في تمثيله بقوله: فيهم، أو: حيث هم، فتحصل من هذا الذي
قررناه أن قوله تعالى: {لا ذلول} في قراءة السلمي يتخرج على
وجهين: أحدهما: أن تكون معترضة، وذلك على تقدير حذف خبر،
والثاني: أن تكون معترضة، وذلك على تقدير أن تكون خبر لا تثير
الأرض ولا تسقي الحرث. وكانت قراءة الجمهور أولى، لأن الوصف
بالمفرد أولى من الوصف بالجملة، ولأن في قراءة أبي عبد الرحمن،
على أحد تخريجيها، تكون قد بدأت
بالوصف بالجملة وقدّمته على الوصف بالمفرد،
وذلك مخصوص بالضرورة عند بعض أصحابنا، لأن لا ذلول المنفي معها
جملة ومسلمة مفرد، فقد قدّمت الوصف بالجملة على الوصف بالمفرد،
والمفعول الثاني لتسقي محذوف، لأن سقي يتعدى إلى اثنين.
{مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا} : قال أبو محمد بن عطية:
ومسلمة، بناء مبالغة من السلامة، وقاله غيره، فقال: هي من صيغ
المبالغة، لأن وزنها مفعلة من السلامة، وليس كما ذكر، لأن
التضعيف الذي في مسلمة ليس لأجل المبالغة، بل هو تضعيف النقل
والتعدية، يقال: سلم كذا، ثم إذا عدّيته بالتضعيف، فالتضعيف
هنا كهو في قوله: فرحت زيداً، إذ أصله: فرح زيد، وكذلك هذا
أصله: سلم زيد، ثم يضعف فيصير يتعدّى. فليس إذن هنا مبالغة بل
هو المرادف للبناء المتعدّي بالهمزة.
{قَالُواْ الئَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} : وانتصاب الآن على
الظرفية، وهو ظرف يدل على الوقت الحاضر، وهو قوله لهم: {إنها
بقرة لا ذلول} إلى {لا شية فيها} ، والعامل فيه جئت.
{وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} : وكاد في الثبوت تدل على
المقاربة. فإذا قلت: كاد زيد يقوم، فمعناه مقاربة القيام، ولم
يتلبس به. فإذا قلت: ما كاد زيد يقوم، فمعناه نفي المقاربة،
فهي كغيرها من الأفعال وجوباً ونفياً. وقد ذهب بعض الناس إلى
أنها إذا أثبتت، دلت على نفي الخبر، وإذا نفيت، دلت على إثبات
الخبر، مستدلاً بهذه الآية، لأن قوله تعالى: {فذبحوها} يدل على
ذلك، والصحيح القول الأول.
{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا} : معطوف على قوله تعالى: {وإذ قال
موسى لقومه} .
{وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} ، ما: منصوب
باسم الفاعل، وهو موصول معهود.
{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} : جملة معطوفة على قوله:
{قتلتم نفساً فادّارأتم فيها} .
والجملة من قوله تعالى: {واللَّه مخرج ما كنتم تكتمون}
اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه.
{ويريكم آياته} : ظاهر هذا الكلام
الاستئناف، ويجوز أن يكون معطوفاً على يحيي.
{فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ} والكاف المفيدة معنى التشبيه: حرف
وفاقاً لسيبويه وجمهور النحويين، خلافاً لمن ادعى أنها تكون
اسماً في الكلام، وهو عن الأخفش. فتعلقه هنا بمحذوف، التقدير:
فهي كائنة كالحجارة، خلافاً لابن عصفور، إذ زعم أن كاف التشبيه
لا تتعلق بشيء، ودلائل ذلك مذكورة في كتب النحو. والألف واللام
في الحجارة لتعريف الجنس.
{أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} ، أو: بمعنى الواو، أو بمعنى أو
للإبهام، أو للشك، أو للتخيير، أو للتنويع، أقوال، وذكر
المفسرون مثلاً لهذه المعاني، والأحسن القول الأخير.
وانتصاب قسوة على التمييز، وهو من حيث
المعنى تقتضيه الكاف ويقتضيه أفعل التفضيل، لأن كلا منهما
ينتصب عنه التمييز، تقول: زيد كعمرو حلماً، وهذا التمييز منتصب
بعد أفعل التفضيل، منقول من المبتدأ، وهو نقل غريب، فتؤخر هذا
التمييز وتقيم ما كان مضافاً إليه مقامه. تقول: زيد أحسن وجهاً
من عمرو، وتقديره: وجه زيد أحسن من وجه عمرو، فأخرت وجهاً
وأقمت ما كان مضافاً مقامه، فارتفع بالابتداء، كما كان وجه
مبتدأ، ولما تأخر أدى إلى حذف وجه من قولك: من وجه عمرو،
وإقامة عمرو مقامه، فقلت: من عمرو، وإنما كان الأصل ذلك، لأن
المتصف بزيادة الحسن حقيقة ليس الرجل إنما هو الوجه، ونظير
هذا: مررت بالرجل الحسن الوجه، أو الوجه أصل هذا الرفع، لأن
المتصف بالحسن حقيقة ليس هو الرجل إنما هو الوجه، وإنما أوضحنا
هذا، لأن ذكر مجيء التمييز منقولاً من المبتدأ غريب، وأفرد
أشدّ، وإن كانت خبراً عن جمع، لأن استعمالها عنا هو بمن، لكنها
حذفت، وهو مكان حسن حذفها، إذ وقع أفعل التفضيل خبراً عن
المبتدأ وعطف، أو أشد، على قوله: كالحجارة، فهو عطف خبر على
خبر من قبيل عطف المفرد، كما تقول: زيد على سفر، أو مقيم،
فالضمير الذي في أشدّ عائد على القلوب، ولا حاجة إلى ما أجازه
الزمخشري من أن ارتفاعه يحتمل وجهين آخرين: أحدهما: أن يكون
التقدير: أو هي أشدّ قسوة، فيصير من عطف الجمل. والثاني: أن
يكون، التقدير: أو مثل أشدّ، فحذف مثل وأقيم أشدّ مقامه، ويكون
الضمير في أشدّ إذ ذاك غير عائد على القلوب، إذ كان الأصل أو
مثل شيء أشدّ قسوة من الحجارة، فالضمير في أشدّ عائد على ذلك
الموصوف بأشدّ المحذوف. ويعضد هذا الاحتمال الثاني قراءة
الأعمش، بنصب الدال عطفاً على، كالحجارة، قاله الزمخشري.
وينبغي أن لا يصار إلى هذا إلا في هذه القراءة خاصة. وأما على
قراءة الرفع، فلها التوجيه السابق الذي ذكرناه، ولا إضمار فيه،
فكان أرجح.
وقد رد أبو عبد الله بن أبي الفضل في
منتخبه على الزمخشري قوله: إنه معطوف على الكاف، فقال: هو على
مذهب الأخفش، لا على مذهب سيبويه، لأنه لا يجيز أن يكون إسماً
إلا في الشعر، ولا يجيز ذلك في الكلام، فكيف في القرآن؟ فأولى
أن يكون: أشدّ، خبر مبتدأ مضمر، أي وهي أشدّ. انتهى كلامه. وما
ذهب إليه الزمخشري صحيح، ولا يريد بقوله: معطوف على الكاف، أن
الكاف اسم، إنما يريد معطوفاً على الجار والمجرور، لأنه في
موضع مرفوع، فاكتفى بذكر الكاف عن الجار والمجرور. وقوله:
فالأولى أن يكون أشدّ خبر مبتدأ مضمر، أي هي أشدّ، قد بينا أن
الأولى غير هذا، لأنه تقدير لا حاجة إليه.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم قال أشدّ قسوة؟ وفعل القسوة مما
يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب، قلت: لكونه أبين وأدل على
فرط القسوة. ووجه آخر، وهو أن لا يقصد معنى الأقسى، ولكن قصد
وصف القسوة بالشدّة، كأنه قيل: اشتدّت قسوة الحجارة، وقلوبهم
أشدّ قسوة. انتهى كلامه. ومعنى قوله: وفعل القسوة مما يخرج منه
أفعل التفضيل، وفعل التعجب أن قسا يجوز أن يبنى منه أفعل
التفضيل، وفعل التعجب بجواز اجتماع الشرائط المجوزة لبناء ذلك،
وهي كونه من فعل ثلاثي مجرد متصرف تام قابل للزيادة، والنقص
مثبت. وفي كونه من أفعل، أو من كون، أو من مبني للمفعول خلاف.
وقرأ أبو حيوة: أو أشدّ قساوة، وهو مصدر لقسا أيضاً.
{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا
يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَرُ} وقرأ الجمهور: وإنّ مشدّدة،
وقرأ قتادة: وإن مخففة، وكذا في الموضعين بعد ذلك، وهي المخففة
من الثقيلة، ويحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون معملة، ويكون مما
حذف منه المبتدأ لدلالة المعنى عليه، التقدير: وما من الحجارة
حجر إلا يتفجر منه الأنهار، وكذلك ما فيها، كقوله تعالى: {وما
منا إلا له مقام معلوم} (الصافات: 164) ، أي وما منا أحد إلا
له مقام معلوم، وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته}
(النساء: 159) ، أي وما من أهل الكتاب أحد، وحذف هذا المبتدأ
أحسن، دلالة المعنى عليه، إلا أنه يشكل معنى الحصر، إذ يظهر
بهذا التفضيل أن الأحجار متعدّدة، فمنها ما يتفجر منه الأنهار،
ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء، ومنها ما يهبط من خشية الله.
وإذا حصرت، أفهم المفهوم قبله أن كل فرد فرد من الأحجار فيه
هذه الأوصاف كلها، أي تتفجر منه الأنهار، ويتشقق منه الماء،
ويهبط من خشية الله. ولا يبعد ذلك إذا حمل اللفظ على القابلية،
إذ كل حجر يقبل ذلك، ولا يمتنع فيه، إذا أرد الله ذلك. فإذا
تلخص هذا كله كانت القراءة متوجهة على تقدير: أن يقرأ طلحة،
وإن بالتخفيف. وأما إن صح عنه أنه يقرأون بالتشديد، فيعسر
توجيه ذلك.
وأما من زعم أن إن المشدّدة هي بمعنى ما النافية، فلا يصح
قوله، ولا يثبت ذلك في لسان العرب. ويمكن أن توجه قراءة طلحة
لما بالتشديد، مع قراءة إن بالتشديد، بأن يكون اسم إن محذوفاً
لفهم المعنى، كما حذف في قوله:
ولكن زنجيّ عظيم المشافر
وفي قوله:
فليت دفعت الهم عني ساعة
وتكون لما بمعنى حين، على مذهب الفارسي، أو حرف وجوب لوجوب،
على مذهب سيبويه. والتقدير: وإن منها منقاداً، أو ليناً، وما
أشبه هذا. فإذا كانوا قد حذفوا الاسم والخبر على ما تأوله
بعضهم في: لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال: إن وصاحبها، فحذف
الاسم وحده أسهل.
{وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ} وبغافل: في موضع نصب، على أن تكون ما حجازية.
ويجوز أن تكون في موضع رفع، على أن تكون ما تميمية، فدخلت
الباء في خبر المبتدأ، وسوّغ ذلك النفي. ألا ترى أنها لا تدخل
في الموجب؟ لا تقول: زيد بقائم، ولا: ما زيد إلا بقائم. قال
ابن عطية: وبغافل في موضع نصب خبر ما، لأنها الحجازية، يقوي
ذلك دخول الباء في الخبر، وإن كانت الباء قد تجيء شاذة مع
التميمية. انتهى كلامه. وهذا الذي ذهب إليه أبو محمد بن عطية،
من أن الباء مع التميمية قد تجيء شاذة، لم يذهب إليه نحوي فيما
علمناه، بل القائلون قائلان، قائل: بأن التميمية لا تدخل الباء
في خبر المبتدأ بعدها، وهو مذهب أبي علي الفارسي في أحد قوليه،
وتبعه الزمخشري. وقائل: بأنه يجوز أن يجر بالباء، وهو الصحيح.
وقال الفرزدق:
لعمرك ما معن بتارك حقه
وأشعار بني تميم تتضمن جر الخبر بالباء كثيراً.
{أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ
وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَمَ اللَّهِ
ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَءَامَنُواْ
قَالُواْءَامَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ
قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ *
أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ
وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ
الْكِتَبَ إِلاَّ أَمَانِىَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ *
فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَبَ بِأَيْدِيهِمْ
ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ
ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ
أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ *
وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا
مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن
يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا
لاَ تَعْلَمُونَ * بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَطَتْ بِهِ
خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَلِدُونَ * وَالَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ
أُوْلَئِكَ أَصْحَبُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ} .
التحديث: الإخبار عن حادث، ويقال منه يحدث، وأصله من الحدوث،
وأصل فعله أن يتعدى إلى واحد بنفسه، وإلى آخر بعن، وإلى ثالث
بالباء، فيقال: حدثت زيداً عن بكر بكذا، ثم إنه قد يضمن معنى
أعلم المنقولة من علم المتعدية إلى اثنين، فيتعدى إلى ثلاثة،
وهي من إلحاق غير سيبويه بأعلم، ولم يذكر سيبويه مما يتعدى إلى
ثلاثة غير: أعلم، وأرى ونبأ، وأما حدّث فقد أنشدوا بيت الحارث
بن حلزة:
أو منعتم ما تسألون فمن
حدثتموه له علينا العلاء
وجعلوا حدث فيه متعدية إلى ثلاثة، ويحتمل
أن يكون التقدير: حدثتموا عنه. والجملة بعده حال. كما خرج
سيبويه قوله: ونبئت عبد الله، أي عن عبد الله، مع احتمال أن
يكون ضمن نبئت معنى: أعلمت، لكن رجح عنده حذف حرف الجر على
التضمين. وإذا احتمل أن يخرج بيت الحارث على أن يكون مما حذف
منه الحرف، لم يكن فيه دليل على إثبات تعدى حدث إلى ثلاثة
بنفسه، فينبغي أن لا يذهب إلى ذلك، إلا أن يثبت من لسان العرب.
ويل: الويل مصدر لا فعل له من لفظه، وما ذكر من قولهم: وأل
مصنوع، ولم يجىء من هذه المادة التي فاؤها واو وعينها ياء إلا:
ويل، وويح، وويس، وويب، ولا يثنى ولا يجمع. ويقال: ويله، ويجمع
على ويلات. قال:
فقالت لك الويلات إنك مرجلي
وإذا أضيف ويل، فالأحسن فيه النصب، قال تعالى: {ويلكم لا
تفتروا على الله كذباً} (طه: 61) . وزعم بعض أنه إذا أضيف لا
يجوز فيه إلا النصب، وإذا أفردته اختير الرفع، قال: فويل
للذين} ، ويجوز النصب، قال:
فويلاً لتيم من سرابيلها الخضر
الكسب: أصله اجتلاب النفع، وقد جاء في اجتلاب الضر، ومنه: {بلى
من كسب سيئة} } (البقرة: 81) ، والفعل منه يجيء متعدياً إلى
واحد، تقول: كسبت مالاً، وإلى اثنين تقول: كسبت زيداً مالاً.
وقال ابن الأعرابي؛ يقال: كسب هو نفسه وأكسب غيره، وأنشد:
فأكسبني مالاً وأكسبته حمداً
بلى: حرف جواب لا يقع إلا بعد نفي في اللفظ أو المعنى،
ومعناها: ردّه، سواء كان مقروناً به أداة الإستفهام، أو لم
يكن، وقد وقع جواباً للاستفهام في مثل: هل يستطيع زيد مقاومتي؟
إذا كان منكراً لمقاومة زيد له، لما كان معناه النفي، ومما
وقعت فيه جواباً للاستفهام قول الحجاف بن حكيم:
بل سوف نبكيهم بكل مهند
ونبكي نميراً بالرماح الخواطر
وقعت جواباً للذي قال له، وهو الأخطل:
ألا فاسأل الحجاف هل هو ثائر
بقتلي أصيبت من نمير بن عامر
وبلى عندنا ثلاثي الوضع، وليس أصله بل، فزيدت عليها الألف
خلافاً للكوفيين. |