الإعراب المحيط من تفسير البحر المحيط

{أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} : والفاء بعد الهمزة أصلها التقديم عليها، والتقدير: أفتطعمون، فالفاء للعطف، لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام، فقدمت عليها. والزمخشري يزعم أن بين الهمزة والفاء فعل محذوف، ويقر الفاء على حالها، حتى تعطف الجملة بعدها على الجملة المحذوفة قبلها، وهو خلاف مذهب سيبويه، ومحجوج بمواضع لا يمكن تقدير فعل فيها، نحو قوله: {أو من ينشأ في الحلية} (الزخرف: 18) ، أفمن يعلم أنما أنزل إليك} (الرعد: 19) ، أفمن هو قائم} (الرعد: 33) . أن يؤمنوا} معمول لتطمعون على إسقاط حرف الجر، التقدير: في أن يؤمنوا، فهو في موضع نصب، على مذهب سيبويه، وفي موضع جر، على مذهب الخليل والكسائي. ولكم: متعلق بيؤمنوا، على أن اللام بمعنى الباء، وهو ضعيف، ولام السبب أي أن يؤمنوا لأجل دعوتكم لهم.

والواو في قوله: {وقد كان فريق} ، وفي قوله: {وهم يعلمون} ، واو الحال. ويحتمل أن يكون العامل في الحال قوله: {أفتطمعون} ؟ ويحتمل أن يكون: {أن يؤمنوا} .
وذهب بعضهم إلى أن العامل في قوله: {وهم يعلمون} ، قوله: {عقلوه} ، والظاهر القول الأول، وهو قوله: {يحرفونه} .
{بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} . وقد جوّزوا في ما أن تكون نكرة موصوفة، وأن تكون مصدرية، أي بفتح الله عليكم. والأولى الوجه الأول.


{لِيُحَآجُّوكُم} : هذه لام كي، والنصب بأن مضمرة بعدها، وهي جائزة الإضمار، إلا إن جاء بعدها لا، فيجب إظهارها. وهي متعلقة بقوله: {أتحدثونهم} ، فهي لام جر، وتسمى لام كي، بمعنى أنها للسبب، كما أن كي للسبب. ولا يعنون أنّ النصب بعدها بإضمار كي، وإن كان يصح التصريح بعدها بكي، فتقول: لكي أكرمك، لأن الذي يضمر إنما هو: أن لا: كي، وقد أجاز ابن كيسان والسيرافي أن يكون المضمر بعد هذه اللام كي، أو أن. وذهب الكوفيون إلى أن النصب بعد هذه اللام إنما هو بها نفسها، وأن ما يظهر بعدها من كي وأن، إنما ذلك على سبيل التأكيد. وتحرير الكلام في ذلك مذكور في مبسوطات النحو. وذهب بعض المعربين إلى أن اللام تتعلق بقوله: فتح، وليس بظاهر إلا أن تكون اللام لام الصيرورة عند من يثبت لها هذا المعنى، فيمكن أن يصير المعنى: أن الذي فتح الله عليهم به حدثوا به، فآل أمره إلى أن حاجوهم به، فصار نظير: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًّا وحزناً} (القصص: 8) . لم يلتقطوه لهذا الأمر، إنما آل أمره إلى ذلك. ومن لم يثبت لام الصيرورة، جعلها لام كي، على تجوّز عند ربكم} معمول لقوله: {ليحاجوكم} .
{أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} : وقد تقدم لنا أن مثل {أفلا تعقلون} (البقرة: 44) ، أو لا يعلمون} (البقرة: 77) ، أن الفاء والواو فيهما للعطف، وأن أصلهما أن يكونا أول الكلام، لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام، فقدّمت. وذكرنا طريقة الزمخشري في ذلك، فأغنى عن إعادته. وأن الله يعلم} : يحتمل أن يكون مما سدت فيه أن مسد المفرد، إذا قلنا: أن يعلمون متعد إلى واحد كعرف، ويحتمل أن يكون مما سدت فيه أن مسد المفعولين، إذا قلنا: أن يعلمون متعد إلى اثنين، كظننت، وهذا على رأي سيبويه. وأما الأخفش، فإنها تسد عنده مسد مفعول واحد، ويجعل الثاني محذوفاً، وقد تقدم لنا ذكر هذا الخلاف، والعائد على ما محذوف تقديره: يسرّونه ويعلنونه.


{لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَبَ} : جملة في موضع الصفة، والكتاب هو التوراة.
{إِلاَّ أَمَانِىَّ} : استثناء منقطع، لأن الأماني ليست من جنس الكتاب، ولا مندرجة تحت مدلوله، وهو أحد قسمي الاستثناء المنقطع، وهو الذي يتوجه عليه العامل. ألا ترى أنه لو قيل لا يعلمون إلا أمانيّ لكان مستقيماً؟ وهذا النوع من الاستثناء يجوز فيه وجهان، أحدهما: النصب على الاستثناء، وهي لغة أهل الحجاز. والوجه الثاني: الاتباع على البدل بشرط التأخر، وهي لغة تميم. فنصب أماني من الوجهين.
{وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} إن هنا: هي النافية، بمعنى ما، وهم: مرفوع بالابتداء، وإلا يظنون: في موضع الخبر، وهو من الاستثناء المفرغ. وإذا كانت إن نافية، فدخلت على المبتدأ والخبر، لم يعمل عمل ما الحجازية، وقد أجاز ذلك بعضهم، ومن أجاز شرط نفي الخبر وتأخيره، والصحيح أنه لا يجوز، لأنه لم يحفظ من ذلك إلا بيت نادر وهو:
إن هو مستولياً على أحد
إلا على أضعف المجانين
وقد نسب السهيلي وغيره إلى سيبويه جواز إعمالها إعمال ما، وليس في كتابه نص على ذلك.
{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَبَ بِأَيْدِيهِمْ} وهو نكرة فيها معنى الدعاء، فلذلك جاز الابتداء بها، إذ الدعاء أحد المسوّغات لجواز الابتداء بالنكرة، وهي تقارب ثلاثين مسوّغاً، وذكرناها في كتاب «منهج المسالك» من تأليفنا.
{ثُمَّ يَقُولُونَ} ومعمول القول هذه الجملة التي هي: {هذا من عند الله ليشتروا} ، علة في القول، وهي لام كي، وقد تقدم الكلام عليها قبل. وهي مكسورة لأنها حرف جر، فيتعلق بيقولون. وقد أبعد من ذهب إلى أنها متعلقة بالاستقرار، وبنو العنبر يفتحون لام كي، قال مكي في إعراب القرآن له. {به ثمناً قليلاً} ، به: متعلق بقوله: ليشتروا، والضمير عائد على الذي أشاروا إليه بقولهم: {هذا من عند الله} .


{قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا} وهمزة الوصل من اتخذ، انحذفت لأجل همزة الاستفهام، ومن سهل بنقل حركتها على اللام وحذفها قال: قل اتخذتم، بفتح اللام، لأن الهمزة كانت مفتوحة. وعند الله: ظرف منصوب باتخذتم، وهي هنا تتعدى لواحد، ويحتمل أن تتعدى إلى اثنين، فيكون الثاني الظرف، فيتعلق بمحذوف.
{فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} : هذه الجملة جواب الاستفهام الذي ضمن معنى الشرط، كقوله: أيقصدنا زيد؟ فلن نجيب من برنا. وقد تقدم الخلاف في جواب هذه الأشياء، هل ذلك بطريق التضمين أي يضمن الاستفهام والتمني والأمر والنهي إلى سائر باقيها معنى الشرط؟ أم يكون الشرط محذوفاً بعدها؟ ولذلك قال الزمخشري: {فلن يخلف} متعلق بمحذوف تقديره: إن اتخذتم عنده عهداً فلن يخلف الله عهده، كأنه اختار القول الثاني من أن الشريط مقدر بعد هذه الأشياء. وقال ابن عطية: {فلن يخلق الله عهده} ، اعتراض في أثناء الكلام، كأنه يريد أن قوله: {أم تقولون} معادل لقوله: {قل أتخذتم عند الله عهداً} ، فصارت هذه الجملة، بين هاتين اللتين وقع بينهما التعادل، جملة اعتراضية، فلا يكون لها موضع من الإعراب.

{بلى} : حرف جواب يثبت به ما بعد النفي، فإذا قلت: ما قام زيد، فقلت: نعم، كان تصديقاً في نفي قيام زيد. وإذا قلت: بلى، كان نقضاً لذلك النفي.
{مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} من: يحتمل أن تكون شرطية، ويحتمل أن تكون موصولة، والمسوّغات لجواز دخول الفاء في الخبر، إذا كان المبتدأ موصولاً، موجودة هنا، ويحسنه المجيء في قسيمه بالذين، وهو موصول.


{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَقَ بَنِى إِسْرءِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَلِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَمَى وَالْمَسَكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِّن دِيَرِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاَءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَرِهِمْ تَظَهَرُونَ علَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَنِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَرَى تُفَدُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَبِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الّعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا بِالأٌّخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} .


{وَذِى الْقُرْبَى} ذو: بمعنى صاحب، وهو من الأسماء الستة التي ترفع، وفيها الواو، وتنصب وفيها الألف، وتجرّ وفيها الياء. وأصلها عند سيبويه، ذوي، ووزنها عنده: فعل، وعند الخليل: ذوّة، من باب خوّة، وقوّة، ووزنها عنده فعل، وهو لازم الإضافة، وتنقاس إضافته إلى اسم جنس، وفي إضافته إلى مضمر خلاف، وقد يضاف إلى العلم وجوباً، إذا اقترنا وضعاً، كقولهم: ذو جدن، وذو يزن، وذو رعين، وذو الكلاع، وإن لم يقترنا وضعاً، فقد يجوز، كقولهم: في عمرو، وقطرى: ذو عمرو، وذو قطرى، ويعنون به صاحب هذا الإسم. وإضافته إلى العلم في وجهته مسموع، وكذلك: أنا ذوبكة، واللهم صلّ على محمد وعلى ذويه. ومما أضيف إلى العلم، وأريد به معنى: ذي مال، ومما أضيف إلى ضمير العلم، وأضيف أيضاً إلى ضمير المخاطب، قال الشاعر:
وإنا لنرجو عاجلاً منك مثل ما
رجونا قدماً من ذويك الأفاضل وقد أتت ذو في لغة طيّ موصولة، ولها أحكام في النحو.
{وَالْيَتَمَى} : فعالى، وهو جمع لا ينصرف، لأن الألف فيه للتأنيث، ومفرده: يتيم، كنديم، وهو جمع على غير قياس، وكذا جمعه على أيتام.

الدم: معروف، وهو محذوف اللام، وهي ياء، لقوله:
جرى الدميان بالخبر اليقين
أو: واو، لقولهم: دموان، ووزنه فعل. وقيل: فعل، وقد سمع مقصوراً، قال:
غفلت ثم أتت تطلبه
فإذا هي بعظام ودما
وقال:
ولكن على أعقابنا يقطر الدما
في رواية من رواه كذلك، وقد سمع مشدّد الميم، قال الشاعر:
أهان دمّك فرغاً بعد عزته
يا عمرو نعيك إصراراً على الحسد
الديار: جمع دار، وهو قياس في فعل الاسم، إذا لم يكن مضاعفاً، ولا معتل لام نحو: طلل، وفنى. والياء في هذا الجمع منقلبة عن واو، إذ أصله دوار، وهو قياس، أعني هذا الإبدال إذا كان جمعاً واحد معتل العين، كثوب وحوض ودار، بشرط أن يكون فعالاً صحيح اللام. فإن كان معتله، لم يبدل نحو: رواو، وقالوا: في جمع طويل: طوال وطيال.


{الدُّنْيَا} : تأنيث الأدنى، ويرجع إلى الدنو، بمعنى القرب. والألف فيه للتأنيث، ولا تحذف منها الألف واللام إلا في شعر، نحو قوله:
في سعي دنيا طالما قد مدّت
والدنيا تارة تستعمل صفة، وتارة تستعمل استعمال الأسماء، فإذا كانت صفة، فالياء مبدلة من واو، إذ هي مشتقة من الدنو، وذلك نحو: العليا. ولذلك جرت صفة على الحياة في قوله: {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء} (يونس: 24) ، فأما القصوى والحلوى فشاذ. وإذا استعملت استعمال الأسماء، فكذلك. وقال أبو بكر بن السرّاج: في المقصور والممدود} له الدنيا مؤنثة مقصورة، تكتب بالألف هذه لغة نجد وتميم خاصة، إلا أن أهل الحجاز وبني أسد يلحقونها ونظائرها بالمصادر ذوات الواو، فيقولون: دنوى، مثل: شروى، وكذلك يفعلون بكل فعلى موضع لامها واو، ويفتحون أولها ويقلبون الواو ياء، لأنهم يستثقلون الضمة والواو.
وإذ: معطوف على الظروف السابقة قبل هذا.
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: لا يعبدون، بالياء. وقرأ الباقون: بالتاء من فوق. وقرأ أبيّ وابن مسعود: لا يعبدوا، على النهي. فأما لا يعبدون فذكروا في إعرابه وجوهاً.


أحدها: أنه جملة منفية في موضع نصب على الحال من بني إسرائيل، أي غير عابدين إلا الله أي موحدين الله ومفرديه بالعبادة، وهو حال من المضاف إليه، وهو لا يجوز على الصحيح. لا يقال إن المضاف إليه يمكن أن يكون معمولاً في المعنى لميثاق، إذ يحتمل أن يكون مصدراً، أو حكمه حكم المصدر. وإذا كان كذلك، جاز أن يكون المجرور بعده فاعلاً في المعنى، أو مفعولاً لأن الذي يقدر فيه العمل هو ما انحل إلى حرف مصدري والفعل، وهنا ليس المعنى على أن ينحل، لذلك فلا يجوز الحكم على موضعه برفع ولا نصب، لأنك لو قدرت أخذنا أن نواثق بني إسرائيل، أو أن يواثقنا بنو إسرائيل، لم يصح، بل لو فرضنا كونه مصدراً حقيقة: لم يجز فيه ذلك. ألا ترى أنك لو قلت: أخذت علم زيد، لم ينحل لحرف مصدري والفعل: لا يقال: أخذت أن يعلم زيد. فإذا لم يتقدر المصدر بحرف مصدري والفعل، ولا كان من ضربا زيداً، لم يعمل على خلاف في هذا الأخير، ولذلك منع ابن الطراوة في ترجمة سيبويه هذا. باب علم ما الكلم من العربية: أن يتقدر المصدّر بحرف مصدري والفعل، وردّ ذلك على من أجازه. وممن أجازه أن تكون الجملة حالاً: المبرد وقطرب، قالوا: ويجوز أن يكون حالاً مقارنة، وحالاً مقدرة. الوجه الثاني: أن تكون الجملة جواباً لقسم محذوف دل عليه قوله: {أخذنا ميثاق بني إسرائيل} ، أي استحلفناهم والله لا يعبدون، ونسب هذا الوجه إلى سيبويه، وأجازه الكسائي والفراء والمبرد. الوجه الثالث: أن تكون أن محذوفة، وتكون أن وما بعدها محمولاً على إضمار حرف جر، التقدير: بأن لا تعبدوا إلا الله فحذف حرف الجر، إذ حذفه مع أن، وأن جائز مطرد، إذ لم يلبس، ثم حذف بعد ذلك، أن، فارتفع الفعل، فصار لا تعبدون، قاله الأخفش، ونظيره من نثر العرب: مره يحفرها، ومن نظمها قوله:
ألا أيهذا الزّاجري احضر الوغى


أصله: مره بأن يحفرها. وعن: أن أحضر الوغى، فجرى فيه من العمل ما ذكرناه. وهذا النوع من إضمار أن في مثل هذا مختلف فيه، فمن النحويين من منعه، وعلى ذلك متأخرو أصحابنا. وذهب جماعة من النوحيين إلى أنه يجوز حذفها في مثل هذا الموضع. ثم اختلفوا فقيل: يجب رفع الفعل إذ ذاك، وهذا مذهب أبي الحسن. ومنهم من قال بنفي العمل، وهو مذهب المبرد والكوفيين. والصحيح: قصر ما ورد من ذلك على السماع.


وفي انتصاب {إحساناً} على وجوه: أحدها: أن يكون معطوفاً على لا تعبدون، أعني على المصدر المنسبك من الحرف المصدري والفعل، إذ التقدير عند هذا القائل بإفراد الله بالعبادة وبالوالدين، أي وببر الوالدين، أو بإحسان إلى الوالدين، ويكون انتصاب إحساناً على المصدر من ذلك المضاف المحذوف، فالعامل فيه الميثاق، لأنه به يتعلق الجار والمجرور، وروائح الأفعال تعمل في الظروف والمجرورات. الوجه الثاني: أن يكون متعلقاً بإحساناً، ويكون إحساناً مصدراً موضوعاً موضع فعل الأمر، كأنه قال: وأحسنوا بالوالدين. قالوا: والباء ترادف إلى في هذا الفعل، تقول: أحسنت به وإليه بمعنى واحد، وقد تكون على هذا التقدير على حذف مضاف، أي وأحسنوا ببر الوالدين، المعنى: وأحسنوا إلى الوالدين ببرهما. وعلى هذين الوجهين يكون العامل في الجار والمجرور ملفوظاً به. قال ابن عطية: ويعترض هذا القول بأن المصدر قد تقدم عليه ما هو معمول له. انتهى كلامه. وهذا الاعتراض، إنما يتم على مذهب أبي الحسن في منعه تقديم مفعول، نحو: ضربا زيداً، وليس بشيء، لأنه لا يصح المنع إلا إذا كان المصدر موصولاً بأن ينحل لحرف مصدري والفعل، أما إذا كان غير موصول، فلا يمتنع تقديمه عليه. فجائز أن تقول: ضربا زيداً، وزيداً ضربا، سواء كان العمل للفعل المحذوف العامل في المصدر، أو للمصدر النائب عن الفعل، لأن ذلك الفعل هو أمر، والمصدر النائب عنه أيضاً معناه الأمر. فعلى اختلاف المذهبين في العامل يجوز التقديم. الوجه الثالث: أن يكون العامل محذوفاً، ويقدر: وأحسنوا، أو ويحسنون بالوالدين، وينتصب إحساناً على أنه مصدر مؤكد لذلك الفعل المحذوف، فتقديره: وأحسنوا، مراعاة للمعنى، لأن معنى لا تعبدون: لا تعبدوا، أو تقديره: ويحسنون، مراعاة للفظ لا تعبدون، وإن كان معناه الأمر. وبهذين قدر الزمخشري هذا المحذوف. الوجه الرابع: أن يكون العامل محذوفاً، وتقديره: واستوصوا بالوالدين، وينتصب إحساناً


على أنه مفعول، قاله المهدوي: الوجه الخامس: أن يكون العامل محذوفاً، وتقديره: ووصيناهم بالوالدين، وينتصب إحساناً على أنه مفعول من أجله، أي ووصيناهم بالوالدين إحساناً منا كان هكذا فلا ينبغي أن تخرج الآية عليه، لأن فيه حذف حرف مصدري، وإبقاء صلته في غير المواضع المنقاس ذلك فيها. الوجه السادس: أن يكون التقدير: أن لا تعبدوا، فحذف أن وارتفع الفعل، ويكون ذلك في موضع نصب على البدل من قوله: {ميثاق بني إسرائيل} . وفي هذا الوجه ما في الذي قبله من أن الصحيح عدم اقتياس ذلك، أعني حذف أن ورفع الفعل ونصبه. الوجه السابع: أن تكون محكية بحال محذوفة، أي قائلين لا تعبدون إلا الله، ويكون إذ ذاك لفظه لفظ الخبر، ومعناه النهي، أي قائلين لهم لا تعبدوا إلا الله، قاله الفراء، ويؤيده قراءة أبي وابن مسعود، والعطف عليه قوله: {وقولوا للناس حسناً} . الوجه الثامن: أن يكون المحذوف القول، أي وقلنا لهم: {لا تعبدون إلا الله} ، وهو نفي في معنى النهي أيضاً. قال الزمخشري: كما يقول تذهب إلى فلان، تقول له كذا، تريد الأمر، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي، لأنه كان سورع إلى الامتثال والانتهاء، فهو يخبر عنه. انتهى كلامه، وهو حسن. الوجه التاسع: أن يكون التقدير أن لا تعبدون، وتكون أن مفسرة لمضمون الجملة، لأن في قوله: {أخذنا ميثاق بني إسرائيل} معنى القول، فحذف أن المفسرة وأبقى المفسر. وفي جواز حذف أن المفسرة نظر. الوجه العاشر: أن تكون الجملة تفسيرية، فلا موضع لها من الإعراب، وذلك أنه لما ذكر أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل، كان في ذلك إيهام للميثاق ما هو، فأتى بهذه الجملة مفسرة للميثاق، فمن قرأ بالياء، فلأن بني إسرائيل لفظ غيبة، ومن قرأ بالتاء، فهو التفات، وحكمته الإقبال عليهم بالخطاب، ليكون أدعى للقبول، وأقرب للامتثال، إذ فيه الإقبال من الله على المخاطب بالخطاب، ومع جعل الجملة مفسرة، لا تخرج عن أن يكون نفي أريد به نهي، إذ تبعد حقيقة


الخبر فيه.
{

إِلاَّ اللَّهَ} : استثناء مفرّع، لأن لا تعبدون لم يأخذ مفعوله.
والمختار، الوجه الثاني: لعدم الإضمار فيه، ولاطراد مجيء المصدر في معنى فعل الأمر.
{وَذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَمَى وَالْمَسَكِينِ} : معطوف على قوله: {وبالوالدين} .
وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب: حسناً بفتح الحاء والسين. وقرأ عطاء بن أبي رباح وعيسى بن عمر: حسناً بضمهما. وقرأ أبي وطلحة بن مصرّف: حسنى، على وزن فعل. وقرأ الجحدري: إحساناً. فأما قراءة الجمهور حسناً، فظاهره أنه مصدر، وأنه كان في الأصل قولاً حسناً، أما على حذف مضاف، أي ذا حسن، وأما على الوصف بالمصدر لإفراط حسنه، وقيل: يكون أيضاً صفة، لا أن أصله مصدر، بل يكون كالحلو والمرّ، فيكون الحسن والحسن لغتين، كالحزن والحزن، والعرب والعرب. وقيل: انتصب على المصدر من المعنى، لأن المعنى: وليحسن قولكم حسناً. وأما من قرأ: حسناً بفتحتين، فهو صفة لمصدر محذوف، أي وقولوا للناس قولاً حسناً. وأما من قرأ بضمتين، فضمة السين إتباع لضمة الحاء. وأما من قرأ: حسنى، فقال ابن عطية: رده سيبويه، لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة، إلا أن يزال عنها معنى التفضيل ويبقى مصدراً، كالعقبى، فذلك جائز، وهو وجه القراءة بها. انتهى كلامه. وفي كلامه ارتباك، لأنه قال: لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا معرفة، وليس على ما ذكر. أما أفعل فله استعمالات: أحدها: أن يكون بمن ظاهرة، أو مقدرة، أو مضافاً إلى نكرة، فهذا لا يتعرف بحال، بل يبقى نكرة. والاستعمال الثاني: أن يكون بالألف واللام، فإذ ذاك يكون معرفة بهما. الثالث: أن يضاف إلى معرفة، وفي التعريف بتلك الإضافة خلاف، وذلك نحو: أفضل القوم. وأما فعلى فلها استعمالان: أحدهما: بالألف واللام، ويكون معرفة بهما. والثاني: بالإضافة إلى معرفة نحو: فضلى النساء. وفي التعريف بهذه الإضافة الخلاف الذي في أفعل، فقول ابن عطية: لأن أفعل وفعلى لا يجيء إلا


معرفة، ليس بصحيح. وقوله: إلا أن يزال عنها معنى التفضيل، ويبقى مصدراً، فيكون فعلى الذي هو مؤنث أفعل، إذا أزلت منه معنى التفضيل يبقى مصدراً، وليس كذلك، بل لا ينقاس مجيء فعلى مصدراً إنما جاءت منه ألفاظ يسيرة. فلا يجوز أن يعتقد في فعلى، التي مذكرها أفعل، أنها تصير مصدراً إذا زال منها معنى التفضيل. ألا ترى أن كبرى وصغرى وجلى وفضلى، وما أشبه ذلك، لا ينقاس جعل شيء منها مصدراً بعد إزالة معنى التفضيل؟ بل الذي ينقاس على رأي أنك إذا أزلت منها معنى التفضيل، صارت بمعنى: كبيرة وصغيرة وجليلة وفاضلة. كما أنك إذا أزلت من مذكرها معنى التفضيل، كان أكبر بمعنى كبير، وأفضل بمعنى فاضل، وأطول بمعنى طويل. ويحتمل أن يكون الضمير في عنها عائداً إلى حسنى، لا إلى فعلى، ويكون استثناء منقطعاً، كأنه قال: إلا أن يزال عن حسنى، وهي اللفظة التي قرأها أبي وطلحة معنى التفضيل، ويبقى مصدراً، ويكون معنى الكلام إلا إن كانت مصدراً، كالعقبى. ومعنى قوله: وهو وجه القراءة بها، أي والمصدر وجه القراءة بها. وتخريج هذه القراءة على وجهين: أحدهما: المصدر، كالبشرى، ويحتاج ذلك إلى نقل أن العرب تقول: حسن حسنى، كما تقول: رجع رجعى، وبشر بشرى، إذ مجيء فعلى كما ذكرنا مصدراً لا ينقاس. والوجه الثاني: أن يكون صفة لموصوف محذوف، أي وقولوا للناس كلمة حسنى، أو مقالة حسنى. وفي الوصف بها وجهان: أحدهما: أن تكون باقية على أنها للتفضيل، واستعمالها بغير ألف ولام ولا إضافة لمعرفة نادر، وقد جاء ذلك في الشعر، قال الشاعر:

وإن دعوت إلى جلى ومكرمة
يوماً كرام سراة الناس فادعينا


فيمكن أن تكون هذه القراءة من هذا لأنها قراءة شاذة. والوجه الثاني: أن تكون ليست للتفضيل، فيكون معنى حسنى: حسنة، أي وقولوا للناس مقالة حسنة، كما خرجوا يوسف أحسن إخوته في معنى: حسن إخوته. وأما من قرأ: إحساناً فيكون نعتاً لمصدر محذوف، أي قولاً إحساناً، وإحساناً مصدر من أحسن الذي همزته للصيرورة، أي قولا ذا حسن، كما تقول: أعشبت الأرض إعشاباً، أي صارت ذات عشب.
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} ونصب: قليلاً، على الاستثناء، وهو الأفصح، لأن قبله موجب. وروي عن أبي عمرو أنه قرأ: إلا قليل، بالرفع. وقرأ بذلك أيضاً قوم، قال ابن عطية: وهذا على بدل قليل من الضمير في توليتم، وجاز ذلك، يعني البدل، مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي، لأن توليتم معناه النفي، كأنه قال: لم يفوا بالميثاق إلا قليل، انتهى كلامه. والذي ذكر النحويون أن البدل من الموجب لا يجوز، لو قلت: قام القوم إلا زيد، بالرفع على البدل، لم يجز، قالوا: لأن البدل يحلّ محلّ المبدل منه، فلو قلت: قام إلا زيد، لم يجز لأن إلا لا تدخل في الموجب. وأما ما اعتلّ به من تسويغ ذلك، لأن معنى توليتم النفي، كأنه قيل: لم يفوا إلا قليل، فليس بشيء، لأن كل موجب، إذا أخذت في نفي نقيضه أو ضدّه، كان كذلك، فليجز: قام القوم إلا زيد، لأنه يؤوّل بقولك: لم تجلسوا إلا زيد. ومع ذلك لم تعتبر العرب هذا التأويل، فتبني عليه كلامها، وإنما أجاز النحويون: قام القوم إلا زيد بالرفع، على الصفة. وقد عقد سيبويه في ذلك باباً في كتابه فقال: هذا باب ما يكون فيه إلا وما بعده وصفاً بمنزلة غير ومثل. وذكر من أمثلة هذا الباب: لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا، {ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (الأنبياء: 22) .
وقليل بها الأصوات إلا بغامها


وسوى بين هذا، وبين قراءة من قرأ: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر} (النساء: 95) ، برفع غير، وجوّز في نحو: ما قام القوم إلا زيد، بالرفع البدل والصفة، وخرّج على ذلك قول عمرو بن معدي كرب:
وكلّ أخ مفارقه أخوه
لعمر أبيك إلا الفرقدان}
قال: كأنه قال: وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه، كما قال الشماخ:
وكل خليل غيرها ضم نفسه
لوصل خليل صارم أو معارز
ومما أنشده النحويون:
لدم ضائع نأت أقربوه

عنه إلا الصبا وإلا الجنوب
وأنشدوا أيضاً:
وبالصريمة منهم منزل خلق
عاف تغير إلا النؤى والوتد
قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: ويخالف الوصف بإلا الوصف بغيره، من حيث أنها يوصف بها النكرة والمعرفة والظاهر والمضمر. وقال أيضاً: وإنما يعني النحويون بالوصف بإلا: عطف البيان. وقال غيره: لا يوصف بإلا إلا إذا كان الموصوف نكرة أو معرفة بلام الجنس. وقال المبرد: لا يوصف بإلا إلا إذا كان الوصف في موضع يصلح فيه البدل، وتحرير ذلك نتكلم عليه في علم النحو، وإنما نبهنا على أن ما ذهب إليه ابن عطية في تخريج هذه القراءة، لم يذهب إليه نحوي. ومن تخليط بعض المعربين أنه أجاز رفعه بفعل محذوف، كأنه قال: امتنع قليل أن يكون توكيداً للمضمر المرفوع المستثنى منه. ولولا أن هذين القولين مسطران في الكتب ما ذكرتهما. وأجاز بعضهم أن يكون رفعه على الابتداء والخبر محذوف، كأنه قال: إلا قليل منكم لم يتول، كما قالوا: ما مررت بأحد إلا رجل من بني تميم خير منه. وهذه أعاريب من لم يمعن في النحو.
{وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} : جملة حالية، قالوا: مؤكدة. وهذا قول من جعل التولي هو الإعراض بعينه، ومن خالف بينهما تكون الحال مبينة، وكذلك تكون مبينة إذا اختلف متعلق التولي والإعراض.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ} : الكلام على: {تسفكون} ، كالكلام على: {لا تعبدون} إلا الله من حيث الإعراب.


{ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاَءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ} واختلف المعربون في إعراب هذه الجملة، فالمختار أن أنتم مبتدأ، وهؤلاء خبر، وتقتلون حال. وقد قالت العرب: ها أنت ذا قائماً، وهاأنا ذا قائماً. وقالت أيضاً: هذا أنا قائماً، وها هو ذا قائماً، وإنما أخبر عن الضمير باسم الإشارة في اللفظ، وكأنه قال: أنت الحاضر، وأنا الحاضر، وهو الحاضر. والمقصود من حيث المعنى الإخبار بالحال. ويدل على أن الجملة حال مجيئهم بالاسم المفرد منصوباً على الحال، فيما قلناه من قولهم: ها أنت ذا قائماً ونحوه.


قال ابن عطية: وقال الأستاذ الأجلّ أبو الحسن بن أحمد شيخنا، هؤلاء: رفع بالابتداء، وأنتم خبر مقدّم، وتقتلون حال، بها تم المعنى، وهي كانت المقصود، فهي غير مستغنى عنها، وإنما جاءت بعد أن تم الكلام في المسند والمسند إليه كما تقول: هذا زيد منطلقاً، وأنت قد قصدت الإخبار بانطلاقه، لا الإخبار بأن هذا هو زيد. انتهى ما نقله ابن عطية عن شيخه، وهو أبو الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري، من أهل بلدنا غرناظة، يعرف بابن الباذش، وهو والد الإمام أبي جعفر أحمد، مؤلف كتاب «الإقناع في القراآت» ، وله اختيارات في النحو، حدث بكتاب سيبويه عن الوزير أبي بكر محمد بن هشام المصحفي، وعلق عنه في النحو على كتاب «الجمل والإيضاح» ومسائل من كتاب سيبويه. توفي سنة ثمان وعشرين وخمسمائة. ولا أدري ما العلة في العدول عن جعل أنتم المبتدأ، وهؤلاء الخبر، إلى عكس هذا. والعامل في هذه الحال اسم الإشارة بما فيه من معنى الفعل. قالوا: وهو حال منه، فيكون إذ ذاك قد اتحد ذو الحال والعامل فيها. وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتاب «منهج السالك» من تأليفنا، فيطالع هناك، وذهب بعض المعربين إلى أن هؤلاء منادى محذوف منه حرف النداء، وهذا لا يجوز عند البصريين، لأن اسم الإشارة عندهم لا يجوز أن يحذف منه حرف النداء، ونقل جوازه عن الفراء، وخرج عليه الآية الزجاج وغيره، جنوحاً إلى مذهب الفراء، فيكون على هذا القول يقتلون خبراً عن أنتم. وفضل بين المبتدأ والخبر بالنداء. والفصل بينهما بالنداء جائز، وإنما ذهب من ذهب إلى هذا في هذه الآية، لأنه صعب عنده أن ينعقد من ضمير المخاطب واسم الإشارة جملة من مبتدأ وخبر. وقد بينا كيفية انعقاد هذه الجملة، وقد أنشدوا أبياتاً حذف منها حرف النداء مع اسم الإشارة، من ذلك قول رجل من طيّىء:
إن الأولى وصفوا قومي لهم فيهم


هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولاً وذهب ابن كيسان وغيره إلى أن أنتم مبتدأ، ويقتلون الخبر، وهؤلاء تخصيص للمخاطبين، لما نبهوا على الحال التي هم عليها مقيمون، فيكون إذ ذاك منصوباً بأعني. وقد نص النحويون على أن التخصيص لا يكون بالنكرات، ولا بأسماء الإشارة. والمستقرأ من لسان العرب أنه يكون أياً نحو: اللهم اغفر لنا، أيتها العصابة، أو معرّفاً بالألف واللام نحو: نحن العرب أقرى الناس للضيف، أو بالإضافة نحو: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، وقد يكون علماً، كما أنشدوا:
بنا تميماً يكشف الضباب. اهـ.

وأكثر ما يأتي بعد ضمير متكلم، كما مثلناه. وقد جاء بعد ضمير مخاطب، كقولهم: بك الله نرجو الفضل. وذهب بعضهم إلى أن هؤلاء موصول بمعنى الذي، وهو خبر عن أنتم، ويكون تقتلون صلة لهؤلاء، وهذا لا يجوز على مذهب البصريين. وأجاز ذلك الكوفيون، وهي مسألة خلافية مذكورة في علم النحو.


{وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ} وارتفاع هو على الابتداء، وهو إما ضمير الشأن، والجملة بعده خبر عنه، وإعرابها أن يكون إخراجهم مبتدأ ومحرّم خبراً، وفيه ضمير عائد على الإخراج، إذ النية به التأخير. ولا يجيز الكوفيون تقديم الخبر إذا كان متحملاً ضميراً مرفوعاً. فلا يجيزون: قائم زيد، على أن يكون قائم خبراً مقدّماً، فلذلك عدلوا إلى أن يكون خبر هو قوله محرّم، وإخراجهم مرفوع به مفعولاً لم يسم فاعله، وتبعهم على هذا المهدوي. ولا يجيز هذا الوجه البصريون، لأن عندهم أن ضمير الشأن لا يخبر عنه إلا بجملة مصرّح بجزأيها، وإذا جعلت قوله محرّم خبراً عن هو، وإخراجهم مرفوعاً به، لزم أن يكون قد فسر ضمير الشأن بغير جملة. وهو لا يجوز عند البصريين كما ذكرنا. وأجازوا أيضاً أن يكون هو مبتدأ، ليس ضمير الشأن، بل هو عائد على الإخراج، ومحرّم خبر عنه، وإخراجهم بدل. وهذا فيه خلاف. منهم من أجاز أن يفسر المضمر الذي لم يسبق له ما يعود عليه بالبدل، ومنهم من منع. وأجازه الكسائي، وفي بعض النقول. وأجاز الكوفيون أن يكون هو عماداً، وهو الذي يعبر عنه البصريون بالفصل، وقد تقدّم مع الخبر. والتقدير: وإخراجهم هو محرّم عليكم، فلما قدم خبر المبتدأ على المبتدأ، أقدم معه الفصل. قال الفراء: لأن الواو ها هنا تطلب الاسم، وكل موضع تطلب فيه الاسم، فالعماد فيه جائز. ولا يجوز هذا التخريج عند البصريين، لأن فيه أمرين لا يجوزان عندهم: أحدهما: وقوع الفصل بين معرفة ونكرة لا تقارب المعرفة، إذ التقدير: وإخراجهم هو محرّم، فمحرّم نكرة لا تقارب المعرفة. الثاني: أن فيه تقديم الفصل، وشرطه عند البصريين أن يكون متوسطاً بين المبتدأ والخبر، أو بين ما هما أصله، وهذه كلها مسائل تحقق في علم النحو.


ووقع في كتاب ابن عطية في هذا المكان أقوال تنتقد، وهو أنه قال: قيل في هو إنه ضمير الأمر، تقديره: والأمر محرّم عليكم، وإخراجهم في هذا القول بدل من هو. انتهى ما نقله في هذا القول، وهذا خطأ من وجهين. أحدهما: أنه أخبر عن ضمير الأمر بمفرد، ولا يجيز ذلك بصري ولا كوفي. أما البصري، فلأن مفسر ضمير الأمر لا بد أن يكون جملة، وأما الكوفي، فلأنه يجيز الجملة ويجيز المفرد، إذا كان قد انتظم منه ومما بعده مسند ومسند إليه في المعنى، نحو قولك: ظننته قائماً الزيدان. والثاني: أنه جعل إخراجهم بدلاً من ضمير الأمر، وضمير الأمر لا يعطف عليه، ولا يبدل منه، ولا يؤكد. قال ابن عطية: وقيل هو فاصلة، وهذا مذهب الكوفي، وليست هنا بالتي هي عماد، ومحرم على هذا ابتداء، وإخراجهم خبر. انتهى ما نقله في هذا القول. والمنقول عن الكوفيين عكس هذا الإعراب، وهو أن يكون الفصل قد قدم مع الخبر على المبتدأ، فإعراب محرم عندهم خبر متقدم، وإخراجهم مبتدأ، وهو المناسب للقواعد، إذ لا يبتدأ بالاسم إذا كان نكرة، ولا مسوغ لها، ويكون الخبر معرفة، بل المستقر في لسانهم عكس هذا، إلا إن كان يرد في شعر، فيسمع ولا يقاس عليه. قال ابن عطية: وقيل هو الضمير المقدّر في محرم قدم وأظهر. انتهى ما نقله في هذا القول. وهذا القول ضعيف جداً، إذ لا موجب لتقدّم الضمير، ولا لبروزه بعد استتاره، ولأنه يؤدّي إلى خلو اسم المفعول من ضمير، إذ على هذا القول يكون محرّم خبراً مقدّماً، وإخراجهم مبتدأ، ولا يوجد اسم فاعل ولا مفعول عارياً من الضمير، إلا إذا رفع الظاهر. ولا يمكن هنا أن يرفع الظاهر، لأن الضمير المنفصل المقدم هو كان الضمير المرفوع بمحرم، ثم يبقى هذا الضمير لا يدري ما إعرابه، إذ لا جائز أن يكون مبتدأ، ولا جائز أن يكون فاعلاً مقدّماً. قال ابن عطية: وقيل هو ضمير الإخراج، تقديره: وإخراجهم محرم عليكم. انتهى ما نقله في هذا القول، ولم يبين وجه ارتفاع إخراجهم،


ولا يتأتى على أن يكون هو ضميره، ويكون إخراجهم تفسيراً لذلك المضمر، إلا على أن يكون إخراجهم بدلاً من الضمير. وقد تقدم أن في ذلك خلافاً، منهم من أجاز ومنهم من منع.
{فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْىٌ فِي الْحَيَوةِ الدُّنْيَا} إلاّ خزي: استثناء مفرّغ، وهو خبر المبتدأ. ونقض النفي هنا نقض لعمل ما على خلاف في المسألة، وتفصيل ذلك: أن الخبر إذا تأخر وأدخلت عليه إلاّ، فإما أن يكون هو الأوّل، أو منزلاً منزلته، أو وصفاً، إن كان الأول في المعنى، أو منزلاً منزلته، لم يجز فيه إلا الرفع عند الجمهور. وأجاز الكوفيون النصب فيما كان الثاني فيه منزلاً منزلة الأوّل، وإن كان وصفاً أجاز الفراء فيه النصب، ومنعه البصريون. ونقل عن يونس: إجازة النصب في الخبر بعد إلا كائناً ما كان، وهذا مخالف لما نقله أبو جعفر النحاس، قال: لا خلاف بين النحويين في قولك: ما زيد إلا أخوك، إنه لا يجوز إلا بالرفع. قال: فإن قلت ما أنت إلا لحيتك، فالبصريون يرفعون، والمعنى عندهم: ما فيك إلا لحيتك، وكذا: ما أنت إلا عيناك. وأجاز في هذا الكوفيون النصب، ولا يجوز النصب عند البصريين في غير المصادر، إلا أن يعرف المعنى، فتضمر ناصباً نحو: ما أنت إلا لحيتك مرة وعينك أخرى، وما أنت إلا عمامتك تحسيناً ورداءك تزييناً.


{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا بِالأٌّخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} والذين: خبر عن أولئك، فلا يخفف معطوف على الصلة، ويجوز أن يوصل الموصول بصلتين مختلفتين زماناً، تقول: جاءني الذي قتل زيداً بالأمس، وسيقتل غداً أخاه، إذ الصلاة هي جمل، فمن يشترط اتحاد زمان أفعالها بخلاف ما ينزل من الأفعال منزلة المفردات، فإنهم نصوا على اشتراط اتحاد الزمان مضياً أو غيره، وعلى اختيار التوافق في الصيغة، وجوّز أن يكون أولئك مبتدأ، والذين بصلته خبراً. وفلا يخفف: خبر بعد خبر، وعلل دخول الفاء لأن الذين، إذا كانت صلته فعلاً، كان فيها معنى الشروط، وهذا خطأ، لأن الموصول هنا أعربه خبراً عن أولئك، فليس قوله فلا يخفف خبراً عن الموصول، إنما هو خبر عن أولئك، ولا يسري للمبتدأ الشرطية من الموصول الواقع خبراً عنه. وجوز أيضاً أن يكون أولئك مبتدأ، والذين مبتدأ ثان، وفلا يخفف خبر عن الذين، والذين وخبره خبر عن أولئك. قيل: ولم يحتج إلى عائد، لأن الذين هم أولئك، كما تقول: هذا زيد منطلق، وهذا خطأ، لأن كل جملة وقعت خبراً لمبتدأ فلا بد فيها من رابط، إلا إن كانت نفس المبتدأ في المعنى، فلا يحتاج إلى ذلك الرابط. وقد أخبرت عن أولئك بالمبتدأ الموصول وبخبره، فلا بد من الرابط. وليس نظير ما مثل به من قوله: هذا زيد منطلق، لأن زيد منطلق خبران عن هذا، وهما مفردان، أو يكون زيد بدلاً من هذا، ومنطلق خبراً. وأما أن يكون هذا مبتدأ، وزيد مبتدأ ثانياً، ومنطلق خبراً عن زيد، ويكون زيد منطلق جملة في موضع الخبر عن هذا، فلا يجوز لعدم الرابط. وأيضاً فلو كان هنا رابط، لما جاز هذا الإعراب، لأن الذين مخصوص بالإشارة إليه، فلا يشبه اسم الشرط، إذ يزول العموم باختصاصه، ولأن صلة الذين ماضية لفظاً ومعنى. ومع هذين الأمرين لا يجوز دخول الفاء في الجملة الواقعة خبراً.


{وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} : جملة إسمية معطوفة على جملة فعلية، ويجوز أن تكون فعلية وتكون المسألة من باب الاشتغال، فيكون هم مرفوعاً بفعل محذوف يفسره ما بعده، على حدّ قوله:
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها
ويقوي هذا الوجه ويحسنه كونه تقدم قوله: {فلا يخفف} ، وهو جملة فعلية، إذ لولا تقدّم الجملة الفعلية لكان الأرجح الرفع على الابتداء، وذلك أن لا ليست مما تطلب الفعل، لا اختصاصاً ولا أولوية، فتكون كان والهمزة خلافاً لأبي محمد بن السيد، إذ زعم أن الحمل على الفعل فيما دخلت عليه لا، أولى من الابتداء، وبناء الفعل للمفعول أولى من بنائه للفاعل، لأنه أعم، إلا إن جعل الفاعل عاماً، فيكون ولا هم ينصرهم أحد، فكان يفوت بذلك اختتام الفواصل بما اختتمت به قبل وبعد، ويفوت الإيجاز، مع أن قوله: {ولا هم ينصرون} يفيد ذلك، أعني العموم.


{وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَتِ وَأَيَّدْنَهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ * وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَبٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَفِرِينَ * بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَفِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَلَقَدْ جَآءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَلِمُونَ * وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَنُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الأٌّخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَدِقِينَ * وَلَن يَتَمَنَّوْهُ


أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّلِمينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَوةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} .
بئس: فعل جعل للذّم، وأصله فعل، وله ولنعم باب معقود في النحو.
{وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ} : تقدّم الكلام في هذه اللام، ويحتمل أن تكون للتأكيد، وأن تكون جواب قسم.

والكتاب هنا: التوراة، في قول الجمهور، والألف واللام فيه للعهد، إذ قرن بموسى وانتصابه على أنه مفعول ثان لآتينا. وقد تقدم أنه مفعول أول عند السهيلي، وموسى هو الثاني عنده.
{وَقَفَّيْنَا} : هذه الياء أصلها الواو، إلا أنها متى وقعت رابعة أبدلت ياء، كما تقول: غزيت من الغزو. والتضعيف الذي في قفينا ليس للتعدية، إذ لو كان للتعدية لكان يتعدى إلى اثنين، لأن قفوت يتعدى إلى واحد. تقول: قفوت زيداً أي تبعته، فلو جاء على التعدية لكان: وقفيناه من بعده الرسل، وكونه لم يجىء كذلك في القرآن، يبعد أن تكون الباء زائدة في المفعول الأول، ويكون المفعول الثاني جاء محذوفاً. ألا ترى إلى قوله: {ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم} (الحديد: 27) ، ولكنه ضمن معنى جئنا، كأنه قال: وجئنا من بعده بالرسل، يقفو بعضهم بعضاً، ومن في: من بعده} : لابتداء الغاية، والباء في بالرسل متعلقة بقفينا، والألف واللام يحتمل أن تكون للجنس الخاص، ويحتمل أن تكون للعهد.


{أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم اسْتَكْبَرْتُمْ} : الهمزة أصلها للاستفهام، وهي هنا للتوبيخ والتقريع. والفاء لعطف الجملة على ما قبلها، واعتنى بحرف الاستفهام فقدم، والأصل فأكلما. ويحتمل أن لا يقدر قبلها محذوف، بل يكون العطف على الجمل التي قبلها، كأنه قال: ولقد آتينا يا بني إسرائيل، آتيناكم ما آتيناكم. فكلما جاءكم رسول. ويحتمل أن يقدر قبلها محذوف، أي فعلتم ما فعلتم من تكذيب فريق وقتل فريق. وقد تقدم الكلام على كلما في قوله تعالى: {كلما رزقوا منها} (البقرة: 25) ، فأغنى عن إعادته. والناصب لها قوله: استكبرتم} .
{فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ} : ظاهره أنه معطوف على قوله: استكبرتم، فنشأ عن الاستكبار مبادرة فريق من الرسل بالتكذيب فقط، حيث لا يقدرون على قتله، وفريق بالقتل إذا قدروا على قتله. وتهيأ لهم ذلك، ويضمن أن من قتلوه فقد كذبوه. واستغنى عن التصريح بتكذيبه للعلم بذلك، فذكر أقبح أفعالهم معه، وهو قتله. وأجاز أبو القاسم الراغب أن يكون {ففريقاً كذبتم} معطوفاً على قوله: {وأيدناه} ، ويكون قوله: أفكلما مع ما بعده فصلاً بينهما على سبيل الإنكار. والأظهر في ترتيب الكلام الأول، وهذا أيضاً محتمل، وأخر العامل وقدّم المفعول ليتواخى رؤوس الآي، وثم محذوف تقديره: ففريقاً منهم كذبتم.
{بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} : بل: للإضراب، وليس إضراباً عن اللفظ المقول، لأنه واقع لا محالة، فلا يضرب عنه.


{فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} : انتصاب قليلاً على أنه نعت لمصدر محذوف، أي فإيماناً قليلاً يؤمنون، قاله قتادة. وعلى مذهب سيبويه: انتصابه على الحال، التقدير: فيؤمنونه، أي الإيمان في حال قلته. وجوزوا انتصابه على أنه نعت لزمان محذوف، أي فزماناً قليلاً يؤمنون، لقوله تعالى: {آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره} (آل عمران: 72) . وجوزوا أيضاً انتصابه بيؤمنون على أن أصله فقليل يؤمنون، ثم لما أسقط الباء تعدى إليه الفعل، وهو قول معمر. وجوّزوا أيضاً أن يكون حالاً من الفاعل الذي هو الضمير في يؤمنون، المعنى: أي فجمعاً قليلاً يؤمنون، أي المؤمن منهم قليلاً.
وما في قوله: {ما يؤمنون} ، زائدة مؤكدة، دخلت بين المعمول والعامل، نظير قولهم: رويد ما الشعر، وخرج ما أنف خاطب بدم. ولا يجوز في ما أن تكون مصدرية، لأنه كان يلزم رفع قليل حتى ينعقد منهما مبتدأ وخبر. والأحسن من هذه المعاني كلها هو الأول، وهو أن يكون المعنى: فإيماناً قليلاً يؤمنون، لأن دلالة الفعل على مصدره أقوى من دلالته على الزمان، وعلى الهيئة، وعلى المفعول، وعلى الفاعل، ولموافقته ظاهر قوله تعالى: {فلا يؤمنون إلا قليلاً} (النساء: 46) . وأما قول العرب: مررنا بأرض قليلاً ما تنبت، وأنهم يريدون لا تنبت شيئاً، فإنما ذلك لأن قليلاً انتصب على الحال من أرض، وإن كان نكرة، وما مصدرية، والتقدير: قليلاً إنباتها، أي لا تنبت شيئاً، وليست ما زائدة، وقليلاً نعت لمصدر محذوف، تقدير الكلام: تنبت قليلاً، إذ لو كان التركيب المقدر هذا لما صلح أن يراد بالقليل النفي المحض، لأن قولك: تنبت قليلاً، لا يدل على نفي الإنبات رأساً، وكذلك لو قلنا: ضربت ضرباً قليلاً، لم يكن معناه ما ضربت أصلاً.
{مِنْ عِندِ اللَّهِ} : في موضع الصفة.


{مُصَدِّقٌ} : صفة ثانية، لا يقال: إنه يحتمل أن يكون {من عند الله} متعلقاً بجاءهم، فلا يكون صفة للفصل بين الصفة والموصوف بما هو معمول لغير أحدهما. وفي مصحف أبيّ مصدقاً، وبه قرأ ابن أبي عبلة ونصبه على الحال من كتاب، وإن كان نكرة. وقد أجاز ذلك سيبويه بلا شرط، فقد تخصصت بالصفة، فقربت من المعرفة.
واختلفوا في جواب ولما الأولى، فذهب الأخفش والزجاج إلى أنه محذوف لدلالة المعنى عليه، واختاره الزمخشري وقدره نحو: كذبوا به واستهانوا بمجيئه.


{وَكَانُواْ} ، يجوز أن يكون معطوفاً على جاءهم، فيكون جواب لما مرتباً على المجيء والكون. ويحتمل أن يكون جملة حالية، أي وقد كانوا، فيكون الجواب مرتباً على المجيء بقيد في مفعوله، وهم كونهم يستفتحون. وظاهر كلام الزمخشري أن قوله: وكانوا أليست معطوفة على الفعل بعد لما، ولا حالاً لأنه قدّر جواب لما محذوفاً قبل تفسيره يستفتحون، فدل على أن قوله: وكانوا، جملة معطوفة على مجموع الجملة من قوله: ولما. {مِن قَبْلُ} : أي من قبل المجيء، وبني لقطعه عن الإضافة إلى معرفة. وقدره غيره: كفروا، فحذف لدلالة كفروا به عليه، والمعنى قريب في ذلك. وذهب الفراء إلى أن الفاء في قوله: {فلما جاءهم} ، جواب لما الأولى، وكفروا، جواب لقوله: فلما جاءهم. وهو عنده نظير قوله: {فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف} (البقرة: 38) . قال: ويدل على أن الفاء هنا ليست بناسقة أن الواو لا تصلح في موضعها. وذهب المبرد إلى أن جواب لما الأولى هو: كفروا به، وكرر لما لطول الكلام، ويقيد ذلك تقريراً للذنب وتأكيداً له. وهذا القول كان يكون أحسن لولا أن الفاء تمنع من التأكيد. وأما قول الفراء فلم يثبت من لسانهم، لما جاء زيد، فلما جاء خالد أقبل جعفر، فهو تركيب مفقود في لسانهم فلا نثبته، ولا حجة في هذا المختلف فيه، فالأولى أن يكون الجواب محذوفاً لدلالة المعنى عليه، وأن يكون التقدير: لما جاءهم كتاب من عند الله مصدّق لما معهم} كذبون.


{بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ} : تقدّم الكلام على بئس، وأما ما فاختلف فيها، ألها موضع من الإعراب أم لا. فذهب الفرّاء إلى أنه بجملته شيء واحد ركب، كحبذا، هذا نقل ابن عطية عنه. وقال المهدوي: قال الفرّاء يجوز أن تكون ما مع بئس بمنزلة كلما، فظاهر هذين النقلين أن ما لا موضع لها من الإعراب، وذهب الجمهور إلى أن لها موضعاً من الإعراب. واختلف، أموضعها نصب أم رفع؟ فذهب الأخفش إلى أن موضعها نصب على التمييز، والجملة بعدها في موضع نصب على الصفة، وفاعل بئس مضمر مفسر بما، التقدير: بئس هو شيئاً اشتروا به أنفسهم، وأن يكفروا هو المخصوص بالذم، وبه قال الفارسي في أحد قوليه، واختاره الزمخشري. ويحتمل على هذا الوجه أن يكون المخصوص بالذم محذوفاً، واشتروا صفة له، والتقدير: بئس شيئاً شيء اشتروا به أنفسهم، وأن يكفروا بدل من ذلك المحذوف، فهو في موضع رفع، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو أن يكفروا. وذهب الكسائي في أحد قوليه إلى ما ذهب إليه هؤلاء، من أن ما موضعها نصب على التمييز، وثم ما أخرى محذوفة موصولة هي المخصوص بالذم، التقدير: بئس شيئاً الذي اشتروا به أنفسهم. فالجملة بعدما المحذوفة صلة لها، فلا موضع لها من الإعراب. وأن يكفروا على هذا القول بدل، ويجوز على هذا القول أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي هو كفرهم. فتلخص في قول النصب في الجملة بعدما أقوال ثلاثة: أن يكون صفة لما هذه التي هي تمييز فموضعها نصب، أو صلة لما المحذوفة الموصولة فلا موضع لها، أو صفة لشيء المحذوف المخصوص بالذم فموضعها رفع، وذهب سيبويه إلى أن موضعها رفع على أنها فاعل بئس، فقال سيبويه: هي معرفة تامة، التقدير: بئس الشيء، والمخصوص بالذم على هذا محذوف، أي شيء اشتروا به أنفسهم. وعزي هذا القول، أعني أن ما معرفة تامة لا موصولة، إلى الكسائي. وقال الفراء والكسائي، فيما نقل عنهما: أن ما موصولة بمعنى الذي، واشتروا: صلة، وبذلك قال الفارسي، في


أحد قوليه، وعزى ابن عطية هذا القول إلى سيبويه قال: فالتقدير على هذا القول: بئس الذي اشتروا به أنفسهم أن يكفروا، كقولك: بئس الرجل زيد، وما في هذا القول موصولة. انتهى كلامه، وهو وهم على سيبويه. وذهب الكسائي فيما نقل عنه المهدوي وابن عطية إلى أن ما وبعدها في موضع رفع، على أن تكون مصدرية، التقدير: بئس اشتراؤهم. قال ابن عطية: وهذا معترض، لأن بئس لا تدخل على اسم معين يتعرف بالإضافة إلى الضمير. انتهى كلامه. وما قاله لا يلزم إلا إذا نص على أمر مرفوع ببئس، أما إذا جعله المخصوص بالذم، وجعل فاعل بئس مضمراً والتمييز محذوفاً، لفهم المعنى. التقدير: بئس اشتراء اشتراؤهم، فلا يلزم الاعتراض، لكن يبطل هذا القول الثاني عود الضمير في به على ما، وما المصدرية لا يعود عليها ضمير، لأنها حرف على مذهب الجمهور، إذ الأخفش يزعم أنها اسم. والكلام على هذه المذاهب تصحيحاً وإبطالاً يذكر في علم النحو.

{أَن يَكْفُرُواْ} : تقدم أن موضعه رفع، إما، على أن يكون مخصوصاً بالذم عند من جعل ما قبله من قوله: {بئسما اشتروا به} غير تام، وفيه الأعاريب التي في المخصوص بالذم، إذا تأخر، أهو مبتدأ، والجملة التي قبله خبر مبتدأ محذوف على ما تقرر قبل؟ وأجاز الفراء على هذا التقدير أن يكون بدلاً من الضمير في به، فيكون في موضع خبر.
{بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا} وانتصابه على أنه مفعول من أجله وظاهره أن العامل فيه يكفروا، أي كفرهم لأجل البغي. وقال الزمخشري: هو علة اشتروا، فعلى قوله يكون العامل فيه اشتروا. وقيل: هو نصب على المصدر لا مفعول من أجله، والتقدير: بغوا بغياً، وحذف الفعل لدلالة الكلام عليه.


{أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ} : أن: مع الفعل بتأويل المصدر، وذلك المصدر المقدر منصوب على أنه مفعول من أجله، أي بغوا لتنزيل الله. وقيل: التقدير بغياً على أن ينزّل الله لأن معناه حسداً على أن ينزّل الله، أي على ما خص الله به نبيه من الوحي، فحذفت على، ويجيء الخلاف الذي في أنّ وأن، إذا حذف حرف الجر منهما، أهما في موضع نصب أم في موضع خفض؟ وقيل: أن ينزّل في موضع جر على أنه بدل اشتمال من ما في قوله: {بما أنزل الله} ، أي بتنزيل الله، فيكون مثل قول الشاعر:
أمن ذكر سلمى أن نأتك تنوص
{مِن فَضْلِهِ} : من لابتداء الغاية، والفضل هنا الوحي والنبوة. وقد جوّز بعضهم أن تكون من زائدة على مذهب الأخفش، فيكون في موضع المفعول، أي أن ينزل الله فضله. {عَلَى مَن يَشَآءُ} . على متعلقة بينزل، و {من} هنا موصولة، وقيل نكرة موصوفة. و {يشاء} على القول الأول: صلة، فلا موضع لها من الإعراب، وصفة على القول الثاني، فهي في موضع خفض، والضمير العائد على الموصول أو الموصوف محذوف تقديره يشاؤه. {مِنْ عِبَادِهِ} : جار ومجرور في موضع الحال، تقديره كائناً من عباده.
{وَلِلْكَفِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ} : الألف واللام في الكافرين للعهد.
{وَيَكْفُرونَ} : جملة استؤنف بها الإخبار عنهم، أو جملة حالية، العامل فيها قالوا: أي وهم يكفرون.
{فَلِمَ} : الفاء: جواب شرط مقدر، التقدير: إن كنتم آمنتم بما أنزل عليكم فلم {تقتلون أنبياء الله} وما استفهامية حذفت ألفها لأجل لام الجر.
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} قيل: إن نافية أي ما كنتم مؤمنين.


قيل: والأظهر أن إن شرطية، والجواب محذوف، التقدير: فلم فعلتم ذلك؟ ويكون الشرط وجوابه قد كرر مرتين على سبيل التوكيد، لكن حذف الشرط من الأول وأبقى جوابه وهو: {فلم تقتلون} ؟ وحذف الجواب من الثاني وأبقى شرطه. وقال ابن عطية: و {إن كنتم} : شرط، والجواب متقدم. ولا يتمشى قوله هذا إلا على مذهب من يجيز تقدم جواب الشرط، وليس مذهب البصريين إلا أبا زيد الأنصاري والمبرد منهم.

{وَأُشْرِبُواْ} : عطف على قالوا سمعنا وعصينا. فيكون معطوفاً على قالوا، أي خذوا ما آتيناكم بقوّة، قلتم كذا وكذا وأشربتم، أو عطف مستأنف لا داخل في باب الالتفات، بل إخبار من الله عنهم بما صدر منهم من عبادة العجل، أو الواو للحال، أي وقد أشربوا والعامل قالوا، ولا يحتاج الكوفيون إلى تقدير قد في الماضي الواقع حالاً، والقول الأول هو الظاهر.
{بِكُفْرِهِمْ} : الظاهر أن الباء للسبب، أي الحامل لهم على عباده العجل هو كفرهم السابق، قيل: ويجوز أن يكون الباء بمعنى مع، يعنون أن يكون للحال، أي مصحوباً بكفرهم.
{قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَنُكُمْ} المخصوص بالذمّ محذوف بعدما، فإن كانت منصوبة، فالتقدير: بئس شيئاً يأمركم به إيمانكم قتل الأنبياء والعصيان وعبادة العجل، فيكون يأمركم صفة للتمييز، أو يكون التقدير: بئس شيئاً شيء يأمركم به إيمانكم، فيكون يأمركم صفة للمخصوص بالذمّ المحذوف، أو يكون التقدير: بئس شيئاً ما يأمركم، أي الذي يأمركم، فيكون يأمركم به إيمانكم. والمخصوص مقدر بعد ذلك، أي قتل الأنبياء، وكذا وكذا. فيكون ما موصولة، أو يكون التقدير: بئس الشيء شيء يأمركم به إيمانكم، فيكون ما تامّة. وهذا كله تفريع على قول من جعل لما وحدها موضعاً من الإعراب.
{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ، قيل: إن نافية، وقيل: شرطية.


{خَالِصَةً} واختلفوا في إعراب خالصة، فقيل: نصب على الحال، ولم يحك الزمخشري غيره، فيكون لكم إذ ذاك خبر كانت، ويكون العامل في الحال هو العامل في المجرور، ولا يجوز أن يكون الظرف إذ ذاك الخبر، لأنه لا يستقل معنى الكلام به وحده. وقد وهم في ذلك المهدوي وابن عطية، إذ قالا: ويجوز أن يكون نصب خالصة على الحال، وعند الله خبر كان. وقيل: انتصاب خالصة على أنه خبر كان، فيجوز في لكم أن يتعلق بكانت، لأن كان يتعلق بها حرف الجر، ويجوز أن يتعلق بخالصة. ويجوز أن تكون للتبيين، فيتعلق بمحذوف تقديره: لكم، أعني نحو قولهم: سقياً لك إذ تقديره: لك أدعو.
وذكروا في ما من قوله: {بما قدمت} ، أنها تكون مصدرية، والظاهر أنها موصول، والعائد محذوف.


{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَوةٍ} : الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلّم ووجد هنا متعدّية إلى مفعولين: أحدهما الضمير، والثاني أحرص الناس. وإذا تعدّت إلى مفعولين كانت بمعنى علم المتعدّية إلى اثنين، كقوله تعالى: {وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} (الأعراف: 102) . وكونها هنا تعدّت إلى مفعولين، هو قول من وقفنا على كلامه من المفسرين. ويحتمل أن يكون وجد هنا بمعنى لقي وأصاب، ويكون انتصاب أحرص على الحال، لكن لا يتم هذا إلا على مذهب من يرى أن إضافة أفعل التفضيل ليست بمحضة، وهو قول الفارسي. وقد ذهب إلى ذلك من أصحابنا الأستاذ أبو الحسن بن عصفور. أما من قال بأنها محضة، ولا يجيز في الحال أن تأتي معرفة، فلا يجوز عنده في أحرص} النصب على الحال. وأحرص هنا هي أفعل التفضيل، وهي مؤولة. بمعنى من، وقد أضيف إلى معرفة، فيجوز فيها الوجهان: أحدهما: أن يفرد مذكره، وإن كانت جارية على مفرد ومثنى ومجموع، ومذكر ومؤنث. والثاني: أن يطابق ما قبلها. فمن الوجه الأول أحرص الناس ولو جاء على المطابقة، لكان أحارص الناس، أو أحرصي الناس. ومن الوجه الثاني قوله: أكابر مجرميها، كلا الوجهين فصيح. وذكر أبو منصور الجواليقي أن المطابقة أفصح من الإفراد. وذهب ابن السراج إلى تعين الإفراد، وليس بصحيح. وإذا أضيفت إلى معرفة، كهذين الموضعين، فشرط ذلك أن يكون بعض ما يضاف إليه، ولذلك منع البصريون يوسف أحسن إخوته، على أن يكون أحسن أفعل التفضيل، وتأولوا ما ورد مما يشبهه، وشذ نحو قوله:
يا رب موسى أظلمي وأظلمه
يريد: أظلمنا حيث لم يضف أظلم إلى ما هو بعضه.


{وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ} يجوز أن يكون متصلاً داخلاً تحت أفعل التفضيل، فيكون ذلك من الحمل على المعنى، لأن معنى {أحرص الناس} : أحرص من الناس. ويحتمل أن يكون ذلك من باب الحذف، أي وأحرص من الذين أشركوا، فحذف أحرص لدلالة أحرص الأول عليه. وإنما كان حرصهم أبلغ لعلمهم بأنهم صائرون إلى العقاب، فكانوا أحب الناس في البعد منه، لأن من توقع شراً كان أنفر الناس عنه، فلما كانت الحياة سبباً في تباعد العقاب، كانوا أحرص الناس عليها. وعلى هذا الذي تقرّر من اتصال، ومن الذين أشركوا بأفعل التفضيل، فلا بد من ذكر من، لأن أحرص الناس جرى على اليهود، فلو عطفت بغير من لكان معطوفاً على الناس، فيكون في المعنى: ولتجدنهم أحرص الذين أشركوا، فكان أفعل يضاف إلى غير ما اندرج تحته، لأن اليهود ليسوا من المشركين، أعني المشركين الذين فسر بهم الذين أشركوا هنا، لا إذا قلنا: إن الثواني في العطف يجوز فيها ما لا يجوز في الأوائل، فإنه يصح ذلك. وأما قول من زعم أن قوله: {ومن الذين أشركوا} معطوفاً على الضمير في قوله: ولتجدنهم، أي ولتجدنهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس على حياة، فيكون في الكلام تقديم وتأخير. فهو معنى يصح، لكن اللفظ والتركيب ينبو عنه ويخرجه عن الفصاحة، ولا ضرورة تدعو إلى أن يكون ذلك من باب التقديم والتأخير، لا سيما على قول من يخص التقديم والتأخير بالضرورة.

وهذا البحث كله على تقدير أن تكون الواو في: {ومن الذين أشركوا} لعطف مفرد على مفرد، وأما إذا كانت لعطف الجمل، فيكون إذ ذاك منقطعاً من الدخول تحت أفعل التفضيل، ويكون ابتداء، إخبار عن قوم من المشركين يودون طول الحياة أيضاً.


و {يود أحدهم} صفة لمبتدأ محذوف، أي ومن الذين أشركوا قوم يود أحدهم، وهذا من المواضع التي يجوز حذف الموصوف فيها، كقوله تعالى: {وما منا إلا له مقام معلوم} (الصافات: 164) ، وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} (النساء: 159) ، وكقول العرب: منا ظعن ومنا أقام، وعلى أن تكون الواو في ومن الذين أشركوا} لعطف المفرد على المفرد، قالوا: ويكون قوله: {يود أحدهم} جملة في موضع الحال، أي وادًّا أحدهم، قالوا: ويكون حالاً من الذين، فيكون العامل أحرص المحذوف، أو من الضمير في أشركوا، فيكون العامل أشركوا. ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المنصوب في {ولتجدنهم} ، أي ولتجدنهم الأحرصين على الحياة وادًّا أحدهم، ويجوز أن يكون استئناف إخبار عنهم يبين حال أمرهم في ازدياد حرصهم على الحياة.
{لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} : مفعول الودادة محذوف تقديره: يود أحدهم طول العمر. وجواب لو محذوف تقديره: لو يعمر ألف سنة لسر بذلك، فحذف مفعول يود لدلالة لو يعمر عليه، وحذف جواب لو لدلالة يود عليه. هذا هو الجاري على قواعد البصريين في مثل هذا المكان. وذهب بعض الكوفيين وغيرهم في مثل هذا إلى أن لو هنا مصدرية بمعنى أن، فلا يكون لها جواب، وينسبك منها مصدر هو مفعول يود، كأنه قال: يود أحدهم تعمير ألف سنة. فعلى هذا القول لا يكون في الكلام حذف، وعلى القول الأول لا يكون لقوله: {لو يعمر ألف سنة} محل إعراب. وعلى القول الثاني محله نصب على المفعول، كما ذكرنا، والترجيح بين القولين هو مذكور في علم النحو.
ولا تحتاج لو، إذا كانت للتمني، إلى جملة جوابية، لأن معناها معنى: يا ليتني أعمر، وتكون إذ ذاك الجملة في موضع مفعول على طريق الحكاية. فتلخص بما قررناه في لو ثلاثة أقوال: أن تكون حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره، وأن تكون مصدرية، وأن تكون للتمني محكية.


{وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ} : الضمير من قوله: وما هو عائد على أحدهم، وهو اسم ما، وبمزحزحه خبر ما، فهو في موضع نصب، وذلك على لغة أهل الحجاز. وعلى ذلك ينبغي أن يحمل ما ورد في القرآن من ذلك، وأن يعمر فاعل بمزحزحه، أي وما أحدهم مزحزحه من العذاب تعميره. وجوّزوا أيضاً في هذا الوجه، أعني: أن يكون الضمير عائداً على أحدهم، أن يكون هو مبتدأ، وبمزحزحه خبر. وأن يعمر فاعل بمزحزحه، فتكون ما تميمية. وهذا الوجه، أعني أن تكون ما تميمية هو الذي ابتدأ به ابن عطية. وأجازوا أن يكون هو ضميراً عائداً على المصدر المفهوم من قوله: {لو يعمر} ، وأن يعمر بدل منه، وارتفاع هو على وجهيه من كونه اسم ما أو مبتدأ. وقيل: هو كناية عن التعمير، وأن يعمر بدل منه، ولا يعود هو على شيء قبله. والفرق بين هذا القول والذي قبله، أن مفسر الضمير هنا هو البدل، ومفسره في القول الأول هو المصدر الدال عليه الفعل في لو يعمر. وكون البدل يفسر الضمير فيه خلاف، ولا خلاف في تفسير الضمير بالمصدر المفهوم من الفعل السابق. فهذا يفسره ما قبله، وذاك يفسره ما بعده. وهذا الذي عنى الزمخشري بقوله: ويجوز أن يكون هو مبهماً، وأن يعمر موضحه. يعني: أن يكون هو لا يعود على شيء قبله، وأن يعمر بدل منه وهو مفسر. وأجاز أبو علي الفارسي في الحلبيات أن يكون هو ضمير الشأن، وهذا ميل منه إلى مذهب الكوفيين، وهو أن مفسر ضمير الشأن، وهو المسمى عندهم بالمجهول، يجوز أن يكون غير جملة إذا انتظم إسناداً معنوياً نحو: ظننته قائماً زيد، وما هو بقائم زيد، فهو مبتدأ ضمير مجهول عندهم، وبقائم في موضع الخبر، وزيد فاعل بقائم. وكان المعنى عندهم: ما هو يقوم زيد، ولذلك أعربوا في: ظننته قائماً زيد، الهاء ضمير المجهول، وهي مفعول ظننت، وقائماً المفعول الثاني، وزيد فاعل بقائم. ولا يجوز في مذهب البصريين أن يفسر إلا بجملة مصرّح بجزأيها سالمة من حرف جر. قال


ابن عطية، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت: هو عماد. انتهى كلامه، ويحتاج إلى تفسير، وذلك أن العماد في مذهب بعض الكوفيين يجوز أن يتقدّم مع الخبر على المبتدأ، فإذا قلت: ما زيد هو القائم، جوّزوا أن تقول: ما هو القائم زيد. فتقدير الكلام عندهم، وما تعميره هو بمزحزحه. ثم قدم الخبر مع العماد، فجاء: وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر، أي تعميره، ولا يجوز ذلك عند البصريين، لأن شرط الفصل عندهم أن يكون متوسطاً. وتلخص في هذا الضمير: أهو عائد على أحدهم؟ أو على المصدر المفهوم من يعمر؟ أو على ما بعده من قوله أن يعمر؟ أو هو ضمير الشأن؟ أو عماد؟ أقوال خمسة، أظهرها الأول.
{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} وما: في بما، موصولة، والعائد محذوف، أي يعملونه. وجوّزوا فيها أن تكون مصدرية أي بعملهم.


{قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَن كَانَ عَدُوًّا لّلَّهِ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَلَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَفِرِينَ * وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَءَايَتٍ بَيِّنَتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الْفَسِقُونَ * أَوَكُلَّمَا عَهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ كِتَبَ اللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَنَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَنُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَرُوتَ وَمَرُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى الأٌّخِرَةِ مِنْ خَلَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْءَامَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} .


جبريل: اسم ملك علم له، وهو الذي نزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو اسم أعجمي ممنوع الصرف، للعلمية والعجمة، وأبعد من ذهب إلى أنه مشتق من جبروت الله، ومن ذهب إلى أنه مركب تركيب الإضافة. ومعنى جبر: عبد وإيل، اسم من أسماء الله، لأن الأعجمي لا يدخله الاشتقاق العربي، ولأنه لو كان مركباً تركيب الإضافة لكان مصروفاً. وقال المهدوي: ومن قال: جبر، مثل: عبد وإيل، اسم من أسماء الله، جعله بمنزلة حضرموت. انتهى كلامه. يعني أنه يجعله مركباً تركيب المزج، فيمنعه الصرف للعلمية والتركيب. وليس ما ذكر بصحيح، لأنه إما أن يلحظ فيه معنى الإضافة، فيلزم الصرف في الثاني، وإجراء الأول بوجوه الإعراب، أو لا يلحظ، فيركبه تركيب المزج. فما يركب تركيب المزج يجوز فيه البناء والإضافة ومنع الصرف، فكونه لم يسمع فيه الإضافة، ولا البناء دليل على أنه ليس من تركيب المزج. وقد تصرّفت فيه العرب على عادتها في تغيير الأسماء الأعجمية، حتى بلغت فيه إلى ثلاث عشرة لغة. قالوا: جبريل: كقنديل، وهي لغة أهل الحجاز، وهي قراءة ابن عامر وأبي عمرو ونافع وحفص.

{سليمان} : اسم أعجمي، وامتنع من الصرف للعلمية، والعجمة، ونظيره من الأعجمية، في أن في آخره ألفاً ونوناً: هامان، وماهان، وسامان، وليس امتناعه من الصرف للعلمية، وزيادة الألف والنون: كعثمان، لأن زيادة الألف والنون موقوفة على الاشتقاق والتصريف. والاشتقاق والتصريف العربيان لا يدخلان الأسماء العجمية.
ومعمول القول: الجملة بعد ومن هنا شرطية.


{فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ} : ليس هذا جواب الشرط لما تقرر في علم العربية أن اسم الشرط لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود عليه، فلو قلت: من يكرمني؟ فزيد قائم، لم يجز. وقوله: {فإنه نزله على قلبك} ، ليس فيه ضمير يعود على من. وقد صرح بأنه جزاء للشرط الزمخشري، وهو خطأ، لما ذكرناه من عدم عود الضمير، ولمضي فعل التنزيل، فلا يصح أن تكون الجملة جزاء، وإنما الجزاء محذوف لدلالة ما بعده عليه، التقدير: فعداوته لا وجه لها، أو ما أشبه هذا التقدير.
{مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} : انتصاب مصدقاً على الحال من الضمير المنصوب في {نزله} ، إن كان يعود على القرآن، وإن عاد على جبريل فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون حالاً من المجرور المحذوف لفهم المعنى، لأن المعنى: فإن الله نزل جبريل بالقرآن مصدقاً. والثاني: أن يكون حالاً من جبريل. وما: في لما الموصولة.
{مَن كَانَ عَدُوًّا} ومن: في قوله: {من كان عدوًّا} شرطية. واختلف في الجواب فقيل: هو محذوف، تقديره: فهو كافر، وحذف لدلالة المعنى عليه. وقيل الجواب: {فإن الله عدوّ للكافرين} .
وهذه الجملة الواقعة خبراً للشرط، تحتاج إلى رابط لجملة الجزاء باسم الشرط. والرابط هنا الاسم الظاهر وهو:
{وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الْفَسِقُونَ} والألف واللام في الفاسقون، إما للجنس، وإما للعهد، و {إلا الفاسقون} : استثناء مفرغ، إذ تقديره: وما يكفر بها أحد، فنفى أن يكفر بالآيات الواضحات أحد. ثم استثنى الفساق من أحد، وأنهم يكفرون بها. ويجوز في مذهب الفراء أن ينصب في نحو من هذا الاستثناء، فأجاز: ما قام إلا زيداً، على مراعاة ذلك المحذوف، إذ لو كان لم يحذف، لجاز النصب، ولا يجيز ذلك البصريون.


{أَوَكُلَّمَا عَهَدُواْ عَهْدًا} وقرأ الجمهور: أو كلما، بفتح الواو. واختلف في هذه الواو فقيل: هي زائدة، قاله الأخفش. وقيل: هي أو الساكنة الواو، وحركت بالفتح، وهي بمعنى بل، قاله الكسائي. وكلا القولين ضعيف. وقيل: واو العطف، وهو الصحيح. وقد تقدّم أن مذهب سيبويه والنحويين: أن الأصل تقديم هذه الواو، والفاء، وثم، على همزة الاستفهام، وإنما قدّمت الهمزة لأن لها صدر الكلام. وأن الزمخشري يذهب إلى أن ثم محذوفاً معطوفاً عليه، مقدّراً بين الهمزة وحرف العطف، ولذلك قدّره هنا أكفروا بالآيات البينات؟ {وكلما عاهدوا} . وقد رجع الزمخشري عن اختياره إلى قول الجماعة. وقد أمعنا الكلام على ذلك في كتابنا المسمى «بالتكميل لشرح التسهيل» .

وانتصاب {عهداً} على أنه مصدر على غير الصدر، أي معاهدة، أو على أنه مفعول على تضمين عاهد معنى: أعطى، أي أعطوا عهداً. وقرىء: عهدوا، فيكون عهداً مصدراً.
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} : يحتمل أن يكون من باب عطف الجمل، وهو الظاهر، فيكون أكثرهم مبتدأ، ولا يؤمنون خبر عنه، وقيل: يحتمل أن يكون من باب عطف المفردات، ويكون أكثرهم معطوفاً على فريق، أي نبذه فريق منهم، بل أكثرهم، ويكون قوله: {لا يؤمنون} ، جملة حالية، العامل فيها نبذه، وصاحب الحال هو أكثرهم.
{وَلَمَّا جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ} وقرأ ابن أبي عبلة: مصدّقاً بالنصب على الحال، وحسن مجيئها من النكرة كونها قد وصفت بقوله: {من عند الله} .
{نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ} : الكتاب الذي أوتوه هو التوراة، وهو مفعول ثانٍ لأوتوا، على مذهب الجمهور، ومفعول أول على مذهب السهيلي. وقد تقدّم القول في ذلك. {كِتَبَ اللَّهِ} : هو مفعول بنبذ.
{كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} : جملة حالية، وصاحب الحال فريق، والعامل في الحال نبذ.


{وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَنَ} : والجملة من قوله: واتبعوا، معطوفة على جميع الجملة السابقة من قوله: ولما جاءهم إلى آخرها.
وما موصولة، صلتها {تتلو} ، وهو مضارع في معنى الماضي، أي ما تلت. وقال الكوفيون: المعنى: ما كانت تتلو، لا يريدون أن صلة ما محذوفة، وهي كانت وتتلو، في موضع الخبر، وإنما يريدون أن المضارع وقع موقع الماضي، كما أنك إذا قلت: كان زيد يقوم، هو إخبار بقيام زيد، وهو ماض لدلالة كان عليه.
{وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ} واستعمال لكن هنا حسن، لأنها بين نفي وإثبات. وقرىء: ولكنّ بالتشديد، فيجب إعمالها، وهي قراءة نافع وعاصم وابن كثير وأبي عمرو. وقرىء: بتخفيف النون ورفع ما بعدها بالابتداء والخبر، وهي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي. وإذا خففت، فهل يجوز إعمالها؟ مسألة خلاف الجمهور: على المنع ونقل أبو القاسم بن الرماك عن يونس جواز إعمالها، ونقل ذلك غيره عن الأخفش، والصحيح المنع. وقال الكسائي والفراء: الاختيار، التشديد إذا كان قبلها واو، والتخفيف إذا لم يكن معها واو، وذلك لأنها مخففة تكون عاطفة ولا تحتاج إلى واو معها. كبل: فإذا كانت قبلها واو لم تشبه بل، لأن بل لا تدخل عليها الواو، فإذا كانت لكن مشدّدة عملت عمل إن، ولم تكن عاطفة. انتهى الكلام. وهذا كله على تسليم أن لكن تكون عاطفة، وهي مسألة خلاف الجمهور على أن لكنّ تكون عاطفة. وذهب يونس إلى أنها ليست من حروف العطف، وهو الصحيح لأنه لا يحفظ ذلك من لسان العرب، بل إذا جاء بعدها ما يوهم العطف، كانت مقرونة بالواو كقوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله} (الأحزاب: 40) . وأما إذا جاءت بعدها الجملة، فتارة تكون بالواو، وتارة لا يكون معها الواو، كما قال زهير:

إن ابن ورقاء لا تخشى بوادره
لكن وقائعه في الحرب تنتظر


وأما ما يوجد في كتب النحويين من قولهم: ما قام زيد لكن عمرو، وما ضربت زيداً لكن عمراً، وما مررت بزيد لكن عمرو، فهو من تمثيلهم، لا أنه مسموع من العرب. ومن غريب ما قيل في لكن: إنها مركبة من كلم ثلاث: لا للنفي، والكاف للخطاب، وأن التي للإثبات والتحقيق، وأن الهمزة حذفت للاستثقال، وهذا قول فاسد، والصحيح أنها بسيطة.
{يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} : الضمير في يعلمون اختلف في من يعود عليه، فالظاهر أنه يعود على الشياطين، يقصدون به إغواءهم وإضلالهم، وهو اختيار الزمخشري. وعلى هذا تكون الجملة في موضع الحال من الضمير في كفروا. قالوا: أو خبراً ثانياً. وقيل: حال من الشياطين. ورد بأن لكن لا تعمل في الحال، وقيل: بدل من كفروا، بدل الفعل من الفعل، لأن تعليم الشياطين السحر كفر في المعنى. والظاهر أنه استئناف إخبار عنهم.
{وَمَآ أُنزِلَ} : ظاهره أن ما موصول اسمي منصوب، وأنه معطوف على قوله: {السحر} ، وظاهر العطف التغاير، فلا يكون ما أنزل على الملكين سحراً. وقيل: هو معطوف على {ما تتلو الشياطين} ، أي {واتبعوا ما تتلو الشياطين} .
وقيل: ما في موضع جر عطفاً على ملك سليمان.
وقيل: ما حرف نفي، والجملة معطوفة على {وما كفر سليمان} .
{هَرُوتَ وَمَرُوتَ} : قرأ الجمهور: بفتح التاء، وهما بدل من الملكين، وتكون الفتحة علامة للجرّ لأنهما لا ينصرفان، وذلك إذا قلنا إنهما إسمان لهما. وقيل: بدل من الناس، فتكون الفتحة علامة للنصب، ولا يكون هاروت وماروت اسمين للملكين. وقيل: هما قبيلتان من الشياطين، فعلى هذا يكونان بدلاً من الشياطين، وتكون الفتحة علامة للنصب، على قراءة من نصب الشياطين. وأما من رفع الشياطين، فانتصابهما على الذم، كأنه قال: أذم هاروت وماروت، أي هاتين القبيلتين، كما قال الشاعر:
أقارع عوف لا أحاول غيرها
وجوه قرود تبتغي من تخادع


وهذا على قراءة الملكين، بفتح اللام. وأما من قرأ بكسرها، فيكونان بدلاً من الملكين، إلا إذا فسرا بداود وسليمان عليهما السلام، فلا يكون هاروت وماروت بدلاً منهما، ولكن يتعلقان بالشياطين على الوجهين اللذين ذكرنا في رفع الشياطين ونصبه. وقرأ الحسن والزهري: هاروت وماروت بالرفع، فيجوز أن يكونا خبر مبتدأ محذوف، أي هما هاروت وماروت، أن كانا ملكين. وجاز أن يكونا بدلاً من الشياطين، الأول أو الثاني، على قراءة من رفعه، إن كانا شيطانين. وتقدّم لنا القول في هاروت وماروت، وأنهما أعجميان. وزعم بعضهم أنهما مشتقان من الهرت والمرت، وهو الكسر، وقوله خطأ، بدليل منعهم الصرف لهما، ولو كانا، كما زعم، لانصرفا، كما انصرف جاموس إذا سميت به. واختصت بابل بالإنزال لأنها كانت أكثر البلاد سحراً.


{وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ} : قرأ الجمهور: بالتشديد، من علم على بابها من التعليم. وقالت طائفة: هو هنا بمعنى يعلمان التضعيف، والهمزة بمعنى واحد، فهو من باب الإعلام، ويؤيده قراءة طلحة بن مصرّف. وما يعلمان: من أعلم قال: لأن الملكين إنما نزلا يعلمان السحر وينهيان عنه. والضمير في يعلمان عائد على الملكين، أي وما يعلم الملكان. وكذلك قراءة أبي، أي بإظهار الفاعل لا إضماره. وقيل: عائد على هاروت وماروت، ففي القول الأول يكون عائداً على المبدل منه، وفي الثاني على البدل، ومن زائدة لتأكيد استغراق الجنس، لأن أحداً من الألفاظ المستعملة للاستغراق في النفي العام، فزيدت هنا لتأكيد ذلك، بخلاف قولك: ما قام من رجل، فإنها زيدت لاستغراق الجنس، وشرط زيادتها هنا موجود عند جمهور البصريين، لأنهم شرطوا أن يكون بعدها نكرة، وأن يكون قبلها غير واجب. وقد أمعنا الكلام على زيادة من في كتاب «منهج السالك» من تأليفنا، وأجاز أبو البقاء أن يكون أحد هنا بمعنى واحد، والأول أظهر. {حَتَّى يَقُولاَ} : حتى هنا: حرف غاية، والمعنى انتفاء تعليمهما، أو إعلامهما على اختلاف القولين في يعلمان إلى أن يقولا: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} . وقال أبو البقاء: حتى هنا بمعنى إلا أن، وهذا معنى لحتى لا أعلم أحداً من المتقدّمين ذكره. وقد ذكره ابن مالك في «التسهيل» وأنشد عليه في غيره:
ليس العطاء من الفضول سماحة
حتى تجود وما لديك قليل
قال: يريد إلا أن تجود، وما في {إنما} كافة، لأن عن العمل، فيصير من حروف الابتداء. وقد أجاز بعض النحويين عمل إن مع وجود ما، نحو: إنما زيداً قائم.


{فَيَتَعَلَّمُونَ} : قال الفراء، واختاره الزجاج، وهو معطوف على شيء دل عليه أول الكلام، كأنه قال: فيأبون فيتعلمون. وقال الفرّاء أيضاً: هو عطف على {يعلمون الناس السحر} ، فيتعلمون منهما. وأنكره الزجاج بسبب لفظ الجمع في يعلمون، وقد قال منهما. وأجازه أبو علي وغيره، إذ لا يمتنع عطف فيتعلمون على يعلمون، وإن كان التعليم من الملكين خاصة، والضمير في منهما راجع إليهما، لأن قوله: فيتعلمون منهما، إنما جاء بعد ذكر الملكين. وقال سيبويه: هو معطوف على كفروا، قال: وارتفعت فيتعلمون، لأنه لم يخبر عن الملكين أنهما قالا: لا تكفر، فيتعلموا ليجعلا كفره سبباً لتعلم غيره، ولكنه على كفروا فيتعلمون. يريد سيبويه: أنّ فيتعلمون ليس بجواب لقوله: فلا تكفر، فينصب كما نصب {لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب} (طه: 61) ، لأن كفر من نهي أن يكفر في الآية، ليس سبباً لتعلم من يتعلم. وكفروا: في موضع فعل مرفوع، فعطف عليه مرفوع، ولا وجه لاعتراض من اعترض في العطف على كفروا، أو على يعلمون، بأن فيه إضمار الملكين. قيل: ذكرهما من أجل أن التقدير: ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر فيتعلمون منهما} ، لأن قوله: {فيتعلمون منهما} إنما جاء بعد ذكر الملكين، كما تقدّم. وقد نقل عن سيبويه أن قوله: فيتعلمون، هو على إضمارهم، أي فهم يتعلمون، فتكون جملة ابتدائية معطوفة على ما قبلها عطف الجمل، والضمير على هذه الأقوال في فيتعلمون عائد على الناس، ويجوز أن يكون فيتعلمون معطوفاً على يعلمان، والضمير الذي في فيتعلمون لأحد، وجمع حملاً على المعنى، كما قال تعالى: {فما منكم من أحد عنه حاجزين} (الحاقة: 47) . وهذا العطف، وإن كان على منفي، فذلك المنفي هو موجب في المعنى، لأن معناه: إنهما يعلمان كل واحد، إذا قالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر} . وذكر الزجاج هذا الوجه. وقال الزجاج أيضاً: الأجود أن يكون عطفاً على يعلمان فيتعلمون، واستغنى عن ذكر يعلمان، بما


في الكلام من الدليل عليه. وقال أبو علي: لا وجه لقول الزجاج استغنى عن ذكر يعلمان، لأنه موجود في النص. انتهى كلام أبي علي، وهو كلام فيه مغالطة، لأن الزجاج لم يرد أن فيتعلمون معطوف على يعلمان، الداخل عليها ما النافية في قوله: ولا ما يعلمان، فيكون يعلمان موجوداً في النص، وإنما يريد أن يعلمان مضمرة مثبتة لا منفية. وهذا الذي قدّره الزجاج ليس موجوداً في النص. وحمل أبا عليّ على هذه المغالطة حب ردّه على الزجاج وتخطئته، لأنه كان مولعاً بذلك. وللشنآن الجاري بينهما سبب ذكره الناس. انتهى ما وقفنا عليه للناس في هذا العطف، وأكثره كلام المهدوي، لأنه هو الذي أشبع الكلام في ذلك. وتلخص في هذا العطف أنه عطف على محذوف تقديره: فيأبون فيتعلمون، أو يعلمان فيتعلمون، أي على مثبت، أو يتعلمون خبر مبتدأ محذوف، أي فهم يتعلمون عطف جملة اسمية على فعلية، أو معطوفاً على يعلمون الناس، أو معطوفاً على كفروا، أو على يعلمان المنفية لكونها موجبة في المعنى. فتلك أقوال ستة، أقر بها إلى اللفظ هذا القول الأخير.

{مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ} : ما موصولة، وجوّز أن تكون نكرة موصوفة، ولا يجوز أن تكون مصدرية، لأجل عود الضمير عليها. والمصدرية لا يعود عليها ضمير، لأنها حرف في قول الجمهور.
{وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ} وبضارين: في موضع نصب على أن ما حجازية، أو في موضع رفع على أن ما تميمية. والضمير في به عائد على ما في قوله: {ما يفرقون} . وقرأ الجمهور: بإثبات النون في بضارين. وقرأ الأعمش: بحذفها، وخرّج ذلك على وجهين: أحدهما: أنها حذفت تخفيفاً، وإن كان اسم الفاعل في صلة الألف واللام. والثاني: أن حذفها لأجل الإضافة إلى أحد، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور الذي هو به، كما قال:
هما أخوا في الحرب من لا أخا له
وكما قال:
كما حط الكتاب بكف يوماً يهودي


وهذا اختيار الزمخشري، ثم استشكل ذلك، لأن أحداً مجرور بمن، فكيف يمكن أن يعتقد فيه أنه مجرور بالإضافة؟ فقال: فإن قلت: كيف يضاف إلى أحد، وهو مجرور بمن؟ قلت: جعل الجار جزءاً من المجرور. انتهى. وهذا التخريج ليس بجيد، لأن الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف، والجار والمجرور من ضرائر الشعر، وأقبح من ذلك أن لا يكون ثم مضاف إليه، لأنه مشغول بعامل جر، فهو المؤثر فيه لا الإضافة. وأما جعل حرف الجر جزءاً من المجرور، فهذا ليس بشيء، لأنه مؤثر فيه. وجزء الشيء لا يؤثر في الشيء، والأجود التخريج الأول، لأن له نظيراً في نظم العرب ونثرها. فمن النثر قول العرب: قطا قطا بيضك ثنتا وبيضي مائتا، يريدون: ثنتان ومائتان.
{مِنْ أَحَدٍ} ، من زائدة، وأحد: مفعول بضارين. ومن تزاد في المفعول، إلا أن المعهود زيادتها في المفعول الذي يكون معمولاً للفاعل الذي يباشره حرف النفي نحو: ما ضربت من رجل، وما ضرب زيد من رجل. وهنا حملت الجملة من غير الفعل والفاعل على الجملة من الفعل والفاعل، لأن المعنى: وما يضرون من أحد. {إلا بإذن الله} : مستثنى مفرغ من الأحوال، فيحتمل أن يكون حالاً من الضمير الفاعل في قوله: {بضارين} ، ويحتمل أن يكون حالاً من المفعول الذي هو: {من أحد} ، ويحتمل أن يكون حالاً من به، أي السحر المفرق به، ويحتمل أن يكون حالاً من الضرر المصدر المعرب المحذوف.
{وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} والظاهر أن {ولا ينفعهم} معطوف على {يضرهم} ، وكلا الفعلين صلة لما، فلا يكون لها موضع من الإعراب. وجوز بعضهم أن يكون {لا ينفعهم} على إضمار هو، أي وهو لا ينفعهم، فيكون في موضع رفع، وتكون الواو للحال، فتكون جملة حالية، وهذا ضعيف.


{وَلَقَدْ عَلِمُواْ} وعلم: هنا يحتمل أن تكون المتعدية لمفعولين، وعلقت عن الجملة، ويحتمل أن يكون المتعدية لمفعول واحد، وعلقت أيضاً كما علقت عرفت. والفرق بين هذين التقديرين يظهر في العطف على موضعها. واللام في: {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} هي لام الابتداء، وهي المانعة من عمل علم، وهي أحد الأسباب الموجبة للتعليق، وأجازوا حذفها، وهي باقية على منع العمل، وخرجوا على ذلك:
إني وجدت ملاك الشيمة الأدب
يريد لملاك الشيمة. ومن هنا موصولة، وهي مرفوعة بالابتداء. والجملة من قوله: {مَا لَهُ فِى الأٌّخِرَةِ مِنْ خَلَقٍ} في موضع الخبر. واللام في لقد للقسم. هذا مذهب سيبويه وأكثر النحويين. وجملة {ولقد علموا} مقسم عليها التقدير: والله لقد علموا. والجملة الثانية عنده غير مقسم عليها. وأجاز الفراء أن تكون الجملتان مقسماً عليهما، وتكون من للشرط، وتبعه في ذلك الحوفي وأبو البقاء. قال أبو البقاء: اللام في {لمن اشتراه} هي التي يوطأ بها القسم مثل: {لئن لم تنته} (مريم: 46) (الشعراء: 166 167) ، ومن في موضع رفع بالابتداء، وهي شرط وجواب القسم ما له في الآخرة من خلاق} . انتهى كلامه. فاشتراه في القول الأول صلة، وفي هذا القول خبر عن من، ويكون إذ ذاك جواب الشرط محذوفاً يدل عليه جواب القسم، لأنه اجتمع قسم وشرط، ولم يتقدّمهما ذو خبر، فكان الجواب للسابق، وهو القسم، ولذلك كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ. هذا هو تقرير هذا القول وتوضيحه. وفي كلا القولين يكون: {لمن اشتراه} ، في موضع نصب: بيعلموا. وقد نقل عن الزجاج ردّ قول من قال من شرط، وقال هذا ليس موضع شرط، ولم ينقل عنه توجيه، كونه ليس موضع شرط. وأرى المانع من ذلك أن الفعل الذي يلي من هو ماض لفظاً ومعنى، لأن الاشتراء قد وقع، وجعله شرطاً لا يصح، لأن فعل الشرط إذا كان ماضياً لفظاً، فلا بد أن يكون مستقبلاً في المعنى. فلما كان كذلك، كان ليس موضع شرط.


{وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ} : تقدّم القول في بئس، وفي ما الواقعة بعدها، ومعناه: ذمّ ما باعوا به أنفسهم. والضمير في به عائد على السحر، أو الكفر. والمخصوص بالذمّ محذوف تقديره: على أحسن الوجوه التي تقدّمت في بئسما السحر، أو الكفر. وجواب لو محذوف تقديره: {لو كانوا يعلمون} . ذمّ ذلك لما باعوا أنفسهم.
{وَلَوْ أَنَّهُمْءَامَنُواْ واتَّقَوْا} : وأنهم آمنوا، يتقدّر بمصدر كأنه قيل: ولو إيمانهم، وهو مرفوع. فقال سيبويه: هو مرفوع بالابتداء، أي ولو إيمانهم ثابت. وقال المبرد: هو مرفوع على الفاعلية، أي ولو ثبت إيمانهم. ففي كل من المذهبين حذف للمسند، وإبقاء المسند إليه. والترجيح بين المذهبين مذكور في علم النحو.

{لَمَثُوبَةٌ} : اللام لام الابتداء، لا الواقعة في جواب لو، وجواب لو محذوف لفهم المعنى، أي لا ثيبوا، ثم ابتدأ على طريق الإخبار الاستئنافي، لا على طريق تعليقه بإيمانهم وتقواهم، وترتبه عليهما، هذا قول الأخفش، أعني أن الجواب محذوف. وقيل: اللام هي الواقعة في جواب لو، والجواب: هو قوله: {لمثوبة} ، أي الجملة الإسمية. والأول اختيار الراغب، والثاني اختيار الزمخشري. قال: أوثرت الجملة الإسمية على الفعلية في جواب لو، لما في ذلك من الدلالة على ثبوت المثوبة واستقرارها، كما عدل عن النصب إلى الرفع في: سلام عليكم لذلك، انتهى كلامه. ومختاره غير مختار، لأنه لم يعهد في لسان العرب وقوع الجملة الابتدائية جواباً للو، إنما جاء هذا المختلف في تخريجه. ولا تثبت القواعد الكلية بالمحتمل، وليس مثل سلام عليكم، لثبوت رفع سلام عليكم من لسان العرب. ووجه من أجاز ذلك قوله: بأن مثوبة مصدر يقع للماضي والاستقبال، فصلح لذلك من حيث وقوعه للمضي. وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتاب «التكميل» من تأليفنا، بأشبع من هذا.


{مِنْ عِندِ اللَّهِ} : هذا الجار والمجرور في موضع الصفة، أي كائنة من عند الله. وهذا الوصف هو المسوّغ لجواز الابتداء بالنكرة.
{خير} خبر لقوله: {لمثوبة} ، وليس خير هنا أفعل تفضيل، بل هي للتفضيل، لا للأفضلية. فهي كقوله: {أفمن يلقى في النار خير} (فصلت: 40) ، وخير مستقرّا} (الفرقان: 24) .
فشركما لخيركما الفداء
{لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} : جواب لو محذوف: التقدير: لو كانوا يعلمون لكان تحصيل المثوبة خيراً.


{يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَا نَنسَخْ مِنْءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَنِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ * وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَنِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَرَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَرَى عَلَى شَىْءٍ وَقَالَتِ النَّصَرَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَبَ كَذَلِكَ قَالَ


الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} .
{ذو} : يكون بمعنى صاحب، وتثنى، وتجمع، وتؤنث، وتلزم الإضافة لاسم جنس ظاهر. وفي إضافتها إلى ضمير الجنس خلاف، المشهور: المنع، ولا خلاف أنه مسموع، لكن من منع ذلك خصه بالضرورة. وإضافته إلى العلم المقرون به في الوضع، أو الذي لا يقرن به في أول الوضع مسموع. فمن الأول قولهم: ذو يزن، وذو جدن، وذو رعين، وذو الكلاع. فتجب الإضافة إذ ذاك. ومن الثاني قولهم: في تبوك، وعمرو، وقطرى: ذو تبوك، وذو عمرو، وذو قطرى. والأكثر أن لا يعتد بلفظ ذو، بل ينطق بالاسم عارياً من ذو. وما جاء من إضافته لضمير العلم، أو لضمير مخاطب لا ينقاس، كقولهم: اللهم صل على محمد وعلى ذويه، وقول الشاعر:

وإنا لنرجو عاجلاً منك مثل ما
رجوناه قدماً من ذويك الأفاضل
ومذهب سيبويه: أن وزنه فعل، بفتح العين، ومذهب الخليل: أن وزنه فعل، بسكونها. واتفقوا على أنه يجمع في التكسير على أفعال. قالوا: أذواء وذو من الأسماء الستة التي تكون في الرفع بالواو، وفي النصب بالألف، وفي الجر بالياء. وإعراب ذو كذا لازم بخلاف غيرها من تلك الأسماء، فذلك على جهة الجوار. وفيما أعربت به هذه الأسماء عشرة مذاهب ذكرت في النحو، وقد جاءت ذو أيضاً موصولة، وذلك في لغة طيّئ، ولها أحكام، ولم تقع في القرآن.
{تلك} : من أسماء الإشارة، يطلق على المؤنثة في حالة البعد، ويقال: تلك وتيلك وتالك، بفتح التاء وسكون اللام، وبكسرها وياء بعدها، وكسر اللام وبفتحها، وألف بعدها وكسر اللام، قال:
إلى الجودي حتى صار حجراً
وحان لتالك الغمر انحسارا


{هاتوا} : معناه أحضروا، والهاء أصلية لا بدل من همزة أتي، لتعديها إلى واحد لا يحفظ هاتي الجواب، وللزوم الألف، إذ لو كانت همزة لظهرت، إذ أزال موجب إبدالها، وهو الهمزة قبلها، فليس وزنها أفعل، خلافاً لمن زعم ذلك، بل وزنها فاعل كرام. وهي فعل، خلافاً لمن زعم أنها اسم فعل، والدليل على فعليتها اتصال الضمائر بها. ولمن زعم أنها صوت بمنزلة هاء في معنى أحضر، وهو الزمخشري، وهو أمر وفعله متصرف. تقول: هاتي يهاتي مهاتاة، وليس من الأفعال التي أميت تصريف لفظه إلا الأمر منه، خلافاً لمن زعم ذلك. وليست ها للتنبيه دخلت على أتى فألزمت همزة أتى الحذف، لأن الأصل أن لا حذف، ولأن معنى هات ومعنى ائت مختلفان. فمعنى هات أحضر، ومعنى ائت أحضر. وتقول: هات هاتي هاتيا هاتوا هاتين، تصرفها كرامي.
قال الأستاذ أبو عليّ الشلوبين، وهو الإمام الذي انتهى إليه علم اللسان في زمانه: يهود فيها وجهان، أحدهما: أن تكون جمع يهودي، فتكون نكرة مصروفة. والثاني: أن تكون علماً لهذه القبيلة، فتكون ممنوعة الصرف. انتهى كلامه. وعلى الوجه الأول دخلته الألف واللام فقالوا: اليهود، إذ لو كان علماً لما دخلته، وعلى الثاني قال الشاعر:
أولئك أولى من يهود بمدحة
إذا أنت يوماً قلتها لم تؤنب
ليس: فعل ماض، خلافاً لأبي بكر بن شقير، وللفارسي في أحد قوليه، إذ زعما أنها حرف نفي مثل ما، ووزنها فعل بكسر العين. ومن قال: لست بضم اللام، فوزنها عنده فعل بضم العين، وهو بناء نادر في الثلاثي اليائي العين، لم يسمع منه إلا قولهم: هيؤ الرجل، فهو هيىء، إذا حسنت هيئته. وأحكام ليس كثيرة مشروحة في كتب النحو.

{لاَ تَقُولُواْ رَعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا} وقرأ الحسن، وابن أبي ليلى، وأبو حيوة، وابن محيصن: {راعنا} بالتنوين، جعله صفة لمصدر محذوف، أي قولاً راعناً، وهو على طريق النسب كلابن وتامر.


{مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ} ومن، في قوله: {من أهل الكتاب} ، تبعيضية، فتتعلق بمحذوف، أي كائنين من أهل الكتاب. ومن أثبت أن من تكون لبيان الجنس قال ذلك هنا، وبه قال الزمخشري، وأصحابنا لا يثبتون كونها للبيان. {ولا المشركين} ، معطوف على: {من أهل الكتاب} . ورأيت في كتاب لأبي إسحاق الشيرازي، صاحب «التنبيه» ، كلاماً يرد فيه على الشيعة، ومن قال بمقالتهم: في أن مشروعية الرجلين في الوضوء هي المسح، للعطف في قوله: {وأرجلكم} (المائدة: 6) ، على قوله: برؤوسكم} (المائدة: 6) ، خرج فيه أبو إسحاق قوله: وأرجلكم بالجر، على أنه من الخفض على الجوار، وأن أصله النصب فخفض عطفاً على الجوار. وأشار في ذلك الكتاب إلى أن القرآن ولسان العرب يشهدان بجواز ذلك، وجعل منه قوله: ولا المشركين} ، في هذه الآية، منسوخة، بالإعلام بنسخها، وهذا تثبيج في العبارة عن معنى كون الهمزة للتعدية. وإيضاحه أن نسخ يتعدى لواحد، فلما دخلت همزة النقل تعدى لاثنين. تقول: نسخ زيد الشيء، أي أزاله، وأنسخه إياه عمرو: أي جعل عمرو زيداً ينسخ الشيء، أي يزيله. وقال ابن عطية: التقدير ما ننسخك من آية، أي ما نبيح لك نسخه، كأنه لما نسخه الله أباح لنبيه تركها بذلك النسخ، فسمى تلك الإباحة إنساخاً. وهذا الذي ذكر ابن عطية أيضاً هو جعل الهمزة للتعدية، لكنه والزمخشري اختلفا في المفعول الأول المحذوف، أهو جبريل أم النبي صلى الله عليه وسلّم وجعل الزمخشري الإنساخ هو الأمر بالنسخ. وجعل ابن عطية الإنساخ إباحة الترك بالنسخ. وخرّج ابن عطية هذه القراءة على تخريج آخر وهو: أن تكون الهمزة فيه للتعدية أيضاً، وهو من نسخ الكتاب، وهو نقله من غير إزالة له، قال: ويكون المعنى ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله، أي ذلك فعلنا، فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك، أو بمثله، فتجيء الضميرات في منها وبمثلها


عائدين على الضمير في ننسأها. انتهى كلامه. وذهل عن القاعدة النحوية، وهي أن اسم الشرط لا بد في جوابه من عائد عليه. وما في قوله: {ما ننسخ} شرطية، وقوله: أو {ننسها} ، عائد على الآية، وإن كان المعنى ليس عائداً عليها نفسها من حيث اللفظ والمعنى، إنما يعود عليها لفظاً لا معنى، فهو نظير قولهم: عندي درهم ونصفه، فهو في الحقيقة على إضمار ما الشرطية. التقدير: أو ما ننسأ من آية، ضرورة أن المنسوخ هو غير المنسوء، لكن يبقى قوله: {ما ننسخ من آية} مفلتاً من الجواب، إذ لا رابط فيه منه له، وذلك لا يجوز، فبطل هذا المعنى.

{من آية} ، من: هنا للتبعيض، وآية مفرد وقع موقع الجمع، ونظيره فارس في قولك: هذا أول فارس، التقدير: أول الفوارس.
ويتضح بهذا المجرور ما كان معمولاً لفعل الشرط، لأنه مخصص له، إذ في اسم الشرط عموم، إذ لو لم يأت بالمجرور لحمل على العموم. لو قلت: من يضرب أضرب، كان عاماً في مدلول من. فإذا قلت: من رجل، اختص جنس الرجال بذلك، ولم يدخل فيه النساء، وإن كان مدلول من عامًّا للنوعين جائز، تقول: ما تضرب زيداً أضرب مثله، التقدير: أي ضرب تضرب زيداً أضرب مثله، وقال الشاعر:
نعب الغراب فقلت بين عاجل
ما شئت إذ ظعنوا لبين فانعب
وهذا فاسد، لأن ما إذا جعلتها للنسخ، عري الجواب من ضمير يعود عليها، ولا بد من ضمير يعود على اسم الشرط. ألا ترى أنك لو قلت: أي ضرب يضرب هنداً أضرب أحسن منها، لم يجز لعرو جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط، لأن الضمير في منها عائد على المفعول الذي هو هند، لا على أي ضرب الذي هو اسم الشرط، ولأن المفعول به لا تدخل عليه من الزائدة إلا بشرط أن يتقدّمه غير موجب، وأن يكون ما دخلت عليه نكرة، وهذا على الجادة من مشهور مذهب البصريين. والشرط ليس من قبيل غير الموجب، فلا يجوز: إن قام من رجل أقم معه، وفي هذا خلاف ضعيف لبعض البصريين.


وقوله: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين} (البينة: 1) ، وأن الأصل هو الرفع، أي ولا المشركون، عطفاً على الذين كفروا، وهذا حديث من قصر في العربية، وتطاول إلى الكلام فيها بغير معرفة، وعدل عن حمل اللفظ على معناه الصحيح وتركيبه الفصيح. ودخلت لا في قوله: ولا المشركين} ، للتأكيد، ولو كان في غير القرآن لجاز حذفها. ولم تأت في قوله: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين} لمعنى يذكر هناك، إن شاء الله تعالى.
{أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم} : في موضع المفعول بيود، وبناؤه للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، وللتصريح به في قوله: {من ربكم} . ولو بني للفاعل لم يظهر في قوله: {من ربكم} . {من خير} ، من: زائدة، والتقدير: خير من ربكم، وحسن زيادتها هنا، وإن كان ينزل لم يباشره حرف النفي، فليس نظير: ما يكرم من رجل، لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى، لأنه إذا نفيت الودادة، كان كأنه نفى متعلقها، وهو الإنزال، وله نظائر في لسان العرب، من ذلك قوله تعالى: {أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعي بخلقهنّ بقادر} (الأحقاف: 33) . فلما تقدّم النفي حسن دخول الباء، وكذلك قول العرب: ما ظننت أحداً يقول ذلك إلا زيد، بالرفع على البدل من الضمير المستكن في يقول، وإن لم يباشره حرف النفي، لأن المعنى: ما يقول ذلك أحد إلا زيد، فيما أظن. وهذا التخريج هو على قول سيبويه والخليل. وأما على مذهب الأخفش والكوفيين في هذا المكان، فيجوز زيادتها، لأنهم لا يشترطون انتفاء الحكم عما تدخل عليه، بل يجيزون زيادتها في الواجب وغيره. ويزيد الأخفش: أنه يجيز زيادتها في المعرفة. وذهب قوم إلى أن من للتبعيض، ويكون على هذا المفعول الذي لم يسم فاعله هو عليكم، ويكون المعنى: أن ينزل عليكم بخير من الخير من ربكم.


{مِّن رَّبِّكُمْ} : من: لابتداء الغاية، كما تقول: هذا الخير من زيد. ويجوز أن تكون للتبعيض، المعنى من خير كائن من خيور ربكم، فإذا كانت لابتداء الغاية تعلقت بقوله: {ينزل} ، وإذا كانت للتبعيض تعلقت بمحذوف، وكان ذلك على حذف مضاف، كما قدّرناه.
{وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} ويحتمل أن يكون يختصّ هنا لازماً، أي ينفرد، أو متعدياً، أي يفرد، إذ الفعل يأتي كذلك. يقال: اختصّ زيد بكذا، واختصصته به، ولا يتعين هنا تعديه، كما ذكر بعضهم، إذ يصح، والله يفرد برحمته من يشاء، فيكون من فاعلة، وهو افتعل من: خصصت زيداً بكذا. فإذا كان لازماً، كان لفعل الفاعل بنفسه نحو: اضطررت، وإذا كان متعدياً، كان موافقاً لفعل المجرّد نحو: كسب زيد مالاً، واكتسب زيد مالاً.
{مَا نَنسَخْ مِنْءَايَةٍ} وما من قوله: ما ننسخ، شرطية، وهي مفعول مقدم.
وقرأت طائفة وابن عامر من السبعة: ما ننسخ من الإنساخ، وقد استشكل هذه القراءة أبو علي الفارسي فقال: ليست لغة، لأنه لا يقال نسخ وأنسخ بمعنى، ولا هي للتعدية، لأن المعنى يجيء: ما يكتب من آية، أي ما ينزل من آية، فيجيء القرآن كله على هذا منسوخاً. وليس الأمر كذلك، فلم يبق إلا أن يكون المعنى: ما نجده منسوخاً، كما يقال: أحمدت الرجل إذا وجدته محموداً، وأبخلته إذا وجدته بخيلاً. قال أبو عليّ: وليس نجده منسوخاً إلا بأن ينسخه، فتتفق القراءات في المعنى، وإن اختلفا في اللفظ. انتهى كلامه. فجعل الهمزة في النسخ ليست للتعدية، وإنما أفعل لوجود الشيء بمعنى ما صيغ منه، وهذا أحد معاني أفعل المذكورة فيه فاتحة الكتاب.
{نَأْتِ} : هو جواب الشرط، واسم الشرط هنا جاء بعده الشرط والجزاء مضارعين، وهذا أحسن التراكيب في فعلي الشرط والجزاء، وهو أن يكونا مضارعين. {بِخَيْرٍ مِّنْهَا} : الظاهر أن خيراً هنا أفعل التفضيل.


وذهب قوم إلى أن خيراً هنا ليس بأفعل التفضيل، وإنما هو خير من الخيور، كخير في قوله: {أن ينزل عليكم من خير من ربكم} (البقرة: 105) ، فهو عندهم مصدر، ومن لابتداء الغاية.
ومن: في {مِّن دُونِ اللَّهِ} متعلقة بما يتعلق به المجرور الذي هو لكم، وهو يتعلق بمحذوف، إذ هو في موضع الخبر، ويجوز في ما هذه أن تكون تميمية، ويجوز أن تكون حجازية على مذهب من يجيز تقدم خبرها، إذا كان ظرفاً أو مجروراً. أما من منع ذلك فلا يجوز في ما أن تكون حجازية، ومعنى من الأولى ابتداء الغاية.

{أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ} وأم: هنا منقطعة، وتتقدر المنقطعة ببل والهمزة، فالمعنى: بل أتريدون، فبل تفيد الإضراب عما قبله، ومعنى الإضراب هنا: هو الانتقال من جملة إلى جملة، لا على سبيل إبطال الأولى. وقد تقدّم قول من جعل أم هنا معادلة للاستفهام الأول. وقد بينا ضعف ذلك. وقالت فرقة: أم استفهام مقطوع من الأول، كأنه قال: أتريدون. وهذان القولان ضعيفان. والذي تقرر أن أم تكون متصلة ومنفصلة. فالمتصلة: شرطها أن يتقدّمها لفظ همزة الاستفهام، وأن يكون بعدها مفرد، أو في تقدير المفرد. والمنفصلة: ما انخرم الشرطان فيها أو أحدهما، ويتقدر إذ ذاك ببل والهمزة معاً، وأما مجيئها مرادفة للهمزة فقط، أو مرادفة لبل فقط، أو زائدة، فأقوال ضعيفة.
{كما سئل} : الكاف في موضع نصب، فعلى رأي سيبويه: على الحال، وعلى المشهور من مذاهب المعربين: نعت لمصدر محذوف، فيقدر على قولهم: سؤالاً كما سئل، ويقدر على رأي سيبويه: أن تسألوه، أي السؤال كما سئل، وما مصدرية التقدير كسؤال. وأجاز الحوفي أن تكون ما موصولة بمعنى الذي، التقدير: الذي سئله موسى.


{مُوسَى مِن قَبْلُ} : يتعلق هذا الجار بقوله: سئل، وقبل مقطوعة عن الإضافة لفظاً، وذلك أن المضاف إليه معرفة محذوف. فلذلك بنيت قبل على الضم، والتقدير: من قبل سؤالكم.
{فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ} : هذا جواب الشرط.
{لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَنِكُمْ كُفَّارًا} : الكلام في لو هنا، كالكلام عليها في قوله: {يود أحدهم لو يعمر ألف سنة} (البقرة: 96) . فمن قال: إنها مصدرية، قال: لو، والفعل في تأويل المصدر، وهو مفعول. ودّ: أي ودّ ردّكم، ومن جعلها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره، جعل الجواب محذوفاً، وجعل مفعول ودّ محذوفاً التقدير: ودّ ردّكم كفاراً، لو يردونكم كفاراً لسرّوا بذلك. وقال بعض الناس تقديره: لو يردونكم كفاراً لودوا ذلك. فودّ دالة على الجواب، ولا يجوز لودّ الأولى أن تكون هي الجواب، لأن شرط لو أن تكون متقدّمة على الجواب. انتهى. وهذا الذي قدره ليس بشيء، لأنك إذا جعلت جواب لو قوله: لودوا ذلك، كان ذلك دالاً على أن الودادة لم تقع، لأنه جواب للو، وهو لما كان سيقع لوقوع غيره، فامتنع وقوع الودادة، لامتناع وقوع الرد. والغرض أن الودادة قد وقعت.
ويرد هنا بمعنى يصير، فيتعدّى إلى مفعولين: الأول هو ضمير الخطاب، والثاني كفاراً، وقد أعربه بعضهم حالاً، وهو ضعيف، لأن الحال مستغنى عنها في أكثر مواردها، وهذا لا بد منه في هذا المكان. ومن متعلقة بيرد، وهي لابتداء الغاية، وظاهر الواو في يردونكم أنها للجمع، ومن فسر كثيراً بواحد أو باثنين، فجعل الواو له أو لهما، ليس على الأصل.


{حَسَدًا مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} : انتصاب حسداً على أنه مفعول من أجله، والعامل فيه ودّ، أي الحامل لهم على ودادة ردكم كفاراً هو الحسد، وجوزوا فيه أن يكون مصدراً منصوباً على الحال، أي حاسدين، ولم يجمع لأنه مصدر، وهذا ضعيف، لأن جعل المصدر حالاً لا ينقاس. وجوزوا أيضاً أن يكون نصبه على المصدر، والعامل فيه فعل محذوف يدل عليه المعنى، التقدير: حسدوكم حسداً. والأظهر القول الأول، لأنه اجتمعت فيه شرائط المفعول من أجله. ويتعلق المجرور الذي هو: {من عند أنفسهم} ، إما بملفوظ به وهو ود، أي ودوا ذلك من قبل شهوتهم، لا أن ودادتهم ذلك هي من جهة التدين واتباع الحق. ألا ترى إلى قوله تعالى: {من بعد ما تبين لهم الحق} (البقرة: 109) ؟ وإما بمقدر، فيكون في موضع الصفة، التقدير: حسداً كائناً من عند أنفسهم. وعلى كلا التقديرين يكون توكيداً.
{وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ} والقول في إعراب ما ومن خير، كالقول في إعراب: {ما ننسخ من آية} ، من أنهم قالوا: يجوز أن تكون ما مفعولة، ومن خير: حال أو مصدر، ومن خير: مفعول، أو مفعولة، ومن خير: تمييز أو مفعولة، ومن خير، تبعيضية متعلقة بمحذوف وهو الذي اخترناه. لأنفسكم: متعلق بتقدموا، وهو على حذف مضاف.


{تجدوه} جواب الشرط، والهاء عائدة على ما، والخيور المتقدمة هي أفعال منقضية. ونفس ذلك المنقضي لا يوجد، فإنما ذلك على حذف مضاف، أي تجدوا ثوابه. فجعل وجوب ما ترتب على وجوداً له، وتجدوه متعد إلى واحد، لأنه بمعنى الإصابة. والعامل في قوله: {عند الله} ، إما نفس الفعل، أو محذوف، فيكون في معنى الحال من الضمير، أي تجدوه مدّخراً ومعدًّا عند الله. والظرفية هنا المكانية ممتنعة، وإنما هي مجاز بمعنى القبل، كما تقول لك: عندي يد، أي في قبلي، أو بمعنى في علم الله نحو: {وإنّ يوماً عند ربك كألف سنة} (الحج: 47) ، أي في علمه وقضائه، أو بمعنى الاختصاص بالإضافة إلى الله تعالى تعظيماً كقوله: إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته} (الأعراف: 206) .
{وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَرَى} ومن فاعلة بيدخل، وهو من الاستثناء المفرّغ، والمعنى: لن يدخل الجنة أحد إلا من. ويجوز أن تكون على مذهب الفراء بدلاً، أو يكون منصوباً على الاستثناء، إذ يجيز أن يراعى ذلك المحذوف، ويجعله هو الفاعل، ويحذفه، وهو لو كان ملفوظاً به لجاز البدل والنصب على الاستثناء، فكذلك إذا كان محذوفاً وحمل أولاً على لفظ من، فأفرد الضمير في كان، ثم حمل على المعنى، فجمع في خبر كان فقال: {هوداً أو نصارى} . وهود: جمع هائد، كعائد وعود. وتقدم مفرد النصارى ما هو أنصران أم نصري. وفي جواز مثل هذين الحملين خلاف، أعني أن يكون الخبر غير فعل، بل صفة يفصل بين مذكرها ومؤنثها بالتاء نحو: من كان قائمين الزيدون، ومن كان قائمين الزيدان. فمذهب الكوفيين وكثير من البصريين جواز ذلك. وذهب قوم إلى المنع، وإليه ذهب أبو العباس، وهم محجوجون بثبوت ذلك في كلام العرب كهذه الآية، فإن هوداً في الأظهر جمع هائد، وهو من الصفات التي يفصل بينها وبين مؤنثها بالتاء، وكقول الشاعر:

وأيقظ من كان منكم نياماً


فنيام: جمع نائم، وهو من الصفات التي يفصل بين مذكرها ومؤنثها بالتاء، وقدم هوداً على نصارى لتقدمها في الزمان. وقرأ أبي: إلا من كان يهودياً أو نصرانياً، فحمل الإسم والخبر معاً على اللفظ، وهو الإفراد والتذكير.
{تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} : جملة من مبتدأ وخبر معترضة بين قولهم ذلك وطلب الدليل على صحة دعواهم. وتلك يشار بها إلى الواحدة المفردة، وإلى الجمع غير المسلم من المذكر والمؤنث، فحمله الزمخشري على الجمع قال: أشير بها إلى الأماني المذكورة، وهي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردّوهم كفاراً، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم، أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم. انتهى كلامه. وما ذهب إليه في الوجه الأول ليس بظاهر، لأن كل جملة ذكر فيها ودهم لشيء، فقد انفصلت وكملت واستقلت في النزول، فيبعد أن يشار إليها. وأما ما ذهب إليه في الوجه الثاني ففيه مجاز الحذف، وفيه قلب الوضع، إذ الأصل أن يكون تلك مبتدأ، وأمانيهم خبر. فقلب هو الوضع، إذ قال: إن أمانيهم في البطلان مثل أمنيتهم هذه. وفيه أنه متى كان الخبر مشبهاً به المبتدأ، فلا يجوز تقديمه، مثل: زيد زهير، نص على ذلك النحويون. فإن تقدم ما هو أصل في أن يشبه به، كان من عكس التشبيه ومن باب المبالغة، إذ جعل الفرع أصلاً والأصل فرعاً كقولك: الأسد زيد شجاعة، والأظهر أن تلك إشارة إلى مقالتهم: {لن يدخل الجنة} ، أي تلك المقالة أمانيهم، أي ليس ذلك عن تحقيق ولا دليل على من كتاب الله ولا من أخبار من رسول، وإنما ذلك على سبيل التمني. وإن كانوا هم حازمين بمقالتهم، لكنها لما لم تكن عن برهان، كانت أماني، والتمني يقع بالجائز والممتنع. فهذا من الممتنع، ولذلك أتى بلفظ الأماني، ولم يأت بلفظ مرجوّاتهم، لأن الرجاء يتعلق بالجائز، تقول: ليتني طائر، ولا يجوز، لعلني طائر، وإنما أفرد المبتدأ لفظاً، لأنه كناية عن المقالة، والمقالة مصدر يصلح للقليل والكثير،


فأريد بها هنا الكثير باعتبار القائلين، ولذلك جمع الخير، فطابق من حيث المعنى في الجمعية. وقد تقدّم شرح الأماني في قوله: {لا يعلمون الكتاب إلا أماني} (البقرة: 78) ، فيحتمل أن يكون المعنى: تلك أكاذيبهم وأباطيلهم، أو تلك مختاراتهم وشهواتهم، أو تلك تلاواتهم.
{مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} : الكلام في: من، كالكلام في: من، من قوله: {من كسب سيئة} (البقرة: 81) ، والأظهر أنها مبتدأة، وجوّزوا أن تكون فاعلة، أي يدخلها من أسلم، وإذا كانت مبتدأة، فلا يتعين أن تكون شرطية. فالجملة بعدها هي الخبر، وجواب الشرط فله أجره} . وإذا كانت موصولة، فالجملة بعدها صلة لا موضع لها من الإعراب، والخبر هو ما دخلت عليه الفاء من الجملة الابتدائية، وإذا كانت من فاعلة فقوله: {فله أجره} جملة اسمية معطوفة على ذلك الفعل الرافع لمن.

{وَهُوَ مُحْسِنٌ} : جملة حالية، وهي مؤكدة من حيث المعنى.
{فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ} : العامل في عند هو العامل في له.
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَرَى عَلَى شَىْءٍ وَقَالَتِ النَّصَرَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْءٍ} وعلى شيء: في موضع خبر ليس، ويحتمل أن يكون المعنى: على شيء يعتد به في الدين، فيكون من باب حذف الصفة، نظير قوله:
لقد وقعت على لحم
أي لحم منيع، وأنه ليس من أهلك، أي من أهلك الناجين، لأنه معلوم أن كلاً منهم على شيء.
{وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَبَ} : جملة حالية.


{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} والظاهر أن الكاف من كذلك في محل نصب، إما على أنها نعت لمصدر محذوف تقديره: قولاً مثل ذلك القول، {قال الذين لا يعلمون} ، أو على أنه منصوب على الحال من المصدر المعرفة المضمر الدال عليه قال، التقدير: مثل ذلك القول قاله، أي قال القول الذين لا يعلمون، وهذا على رأي سيبويه. وعلى الوجهين تنتصب الكاف بقال، وانتصب على هذين التقديرين مثل قولهم على البدل من موضع الكاف. وقيل: ينتصب مثل قولهم على أنه مفعول بيعلمون.
وجوّزوا أن تكون الكاف في موضع رفع بالابتداء، والجملة بعده خبر، والعائد محذوف تقديره: مثل ذلك قاله الذين. ولا يجوز لقال أن ينصب مثل قولهم نصب المفعول، لأن قال قد أخذ مفعوله، وهو الضمير المحذوف العائد على المبتدأ، فينتصب إذ ذاك مثل قولهم على أنه صفة لمصدر محذوف، أو على أنه مفعول ليعلمون، أي مثل قولهم يعني اليهود والنصارى. قال الذين لا يعلمون اعتقاد اليهود والنصارى. انتهى ما قالوه في هذا الوجه، وهو ضعيف لاستعمال الكاف اسماً، وذلك عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، مع أنه قد تؤوّل ما ورد من ذلك وأجاز ذلك، أعني أن تكون اسماً في الكلام، ويحذف الضمير العائد على المبتدأ المنصوب بالفعل، الذي لو قدر خلوه من ذلك الضمير لتسلط على الظاهر قبله فنصبه، وذلك نحو: زيد ضربته. نص أصحابنا على أن هذا الضمير لا يجوز حذفه إلا في الشعر، وأنشدوا:
وخالد يحمد ساداتنا
بالحق لا يحمد بالباطل
أي: يحمده ساداتنا. وعن بعض الكوفيين في جواز حذف نحو: هذا الضمير تفصيل مذكور في النحو.


{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَآ أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الأٌّخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَنَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَنِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآءَايَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَبَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * إِنَّا أَرْسَلْنَكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَبِ الْجَحِيمِ * وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَرَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * الَّذِينَ آتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ * يَبَنِى إِسْرَءِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُم وَأَنِّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَلَمِينَ * وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} .


{المشرق والمغرب} : مكان الشروق والغروب، وهما من الألفاظ التي جاءت على مفعل، بكسر العين شذوذاً، والقياس الفتح، لأن كل فعل ثلاثي لم تكسر عين مضارعه، فقياس صوغ المصدر منه، والزمان والمكان مفعل، بفتح العين. أين: من ظروف المكان، وهو مبني لتضمنه في الاستفهام معنى حرفه، وفي الشرط معنى حرفه، وإذا كان للشرط جاز أن تزيد بعده ما، ومما جاء فيه شرطاً بغير ما قوله:
أين تضرب بنا العداة تجدنا
وزعم بعضهم أن أصل أين: السؤال عن الأمكنة. ثم: ظرف مكان يشار به للبعيد، وهو مبني لتضمنه معنى الإشارة، وهو لازم للظرفية، لم يتصرف فيه بغير من يقول: من ثم كان كذا. وقد وهم من أعربها مفعولاً به في قوله: {وإذا رأيت ثمّ رأيت نعيماً وملكاً كبيراً} (الإنسان: 20) . بل: مفعول رأيت محذوف. لولا} : حرف تحضيض، وجاء ذلك في القرآن كثيراً، وحكمها حكم هلا، وتأتي أيضاً حرف امتناع لوجود، وأحكامها بمعنييها مذكورة في كتب النحو، ومنها أن التحضيضية لا يليها إلا الفعل ظاهراً أو مضمراً، وتلك لا يليها إلا الاسم، على خلاف في إعرابه.

الرضا: معروف، ويقابله الغضب، وفعله رضي يرضى رضاً بالقصر، ورضاء بالمد، ورضواناً، فياؤه منقلبة عن واو يدل على ذلك الرضوان، والأكثر تعديته بعن وقد جاء تعديته بعلى، قال:
إذا رضيت عليّ بنو قشير
وخرج على أن يكون على بمعنى عن، أو على تضمين رضي معنى عطف، فعدي بعلى كما تعدى عطف.
ومن: استفهام، وهو مرفوع بالابتداء. و {أظلم} : أفعل تفضيل، وهو خبر عن من.


ومن في قوله: {ممن منع} ، موصولة بمعنى الذي. وجوّز أبو البقاء أن تكون نكرة موصوفة. {أن يذكر} : يحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً لمنع، أو مفعولاً من أجله، فيتعين حذف مضاف، أي دخول مساجد الله، أو ما أشبه ذلك، أو بدلاً من مساجد بدل اشتمال، أي ذكر اسم الله فيها، أو مفعولاً على إسقاط حرف الجر، أي من أن يذكر. فلما حذفت من انتصب على رأي، أو بقي مجروراً على رأي.
{أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ} : إلا خائفين: نصب على الحال، وهو استثناء مفرّغ من الأحوال.
{فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ، هذا جواب الشرط، وهي جملة ابتدائية.
{وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} والجمهور على قراءة: وقالوا بالواو، وهو آكد في الربط، فيكون عطف جملة خبرية على جملة مثلها. وقيل: هو عطف على قوله: {وسعى في خرابها} ، فيكون معطوفاً على معطوف على الصلة، وفصل بينهما بالجمل الكثيرة، وهذا بعيد جداً، ينزه القرآن عن مثله. وقرأ ابن عباس وابن عامر وغيرهما: قالوا بغير واو، ويكون على استئناف الكلام، أو ملحوظاً فيه معنى العطف، واكتفى بالضمير والربط به عن الربط بالواو. وقال الفارسي: وبغير واو هي في مصاحف أهل الشام. تقدم أن اتخذ: افتعل من الأخذ، وأنها تارة تتعدى إلى واحد نحو قوله: {اتخذت بيتاً} (العنكبوت: 41) ، قالوا: معناه صنعت وعملت، وإلى اثنين فتكون بمعنى: صير. وكلا الوجهين يحتمل هنا.
وإذا جعلت اتخذ بمعنى صير، كان أحد المفعولين محذوفاً، التقدير: وقالوا اتخذ بعض الموجودات ولداً. والذي جاء في القرآن إنما ظاهره التعدي إلى واحد، قال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً} (مريم: 88) ، ما اتخذ الله من ولد} (المؤمنون: 91) ، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً} (مريم: 92) .
{بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ} قال سيبويه: وأما ما، فإنها مبهمة تقع على كل شيء.


وما عندنا لا يقع إلا لما لا يعقل، إلا إذا اختلط بمن يعقل، فيقع عليهما، كما ذكرناه، أو كان واقعاً على صفات من يعقل، فيعبر عنها بما. وأما أن يقع لمن يعقل، خاصة حالة إفراده أو غير إفراده، فلا. وقد أجاز ذلك بعض النحويين، وهو مذهب لا يقوم عليه دليل، إذ جميع ما احتج به لهذا المذهب محتمل، وقد يؤول، فيؤول قوله: سبحان ما سخركن، على أن سبحان غير مضاف، وأنه علم لمعنى التسبيح، فهو كقوله:

سبحان من علقمة الفاخر
وما: ظرفية مصدرية أي مدة تسخيركن لنا. والفاعل يسخر مضمر يفسره المعنى وسياق الكلام، إذ معلوم أن مسخرهن هو الله تعالى.
و {كُلٌّ لَّهُ} : مرفوع بالابتداء، والمضاف إليه محذوف.
و {قَنِتُونَ} : خبر عن كل، وجمع حملاً على المعنى. وكلّ، إذا حذف ما تضاف إليه، جاز فيها مراعاة المعنى فتجمع، ومراعاة اللفظ فتفرد. وإنما حسنت مراعاة الجمع هنا، لأنها فاصلة رأس آية، ولأن الأكثر في لسانهم أنه إذا قطعت عن الإضافة كان مراعاة المعنى أكثر وأحسن. قال تعالى: {وكلّ كانوا ظالمين} (الأنفال: 54) ، وكلّ أتوه داخرين} (النمل: 87) ، وكلّ في فلك يسبحون} (الأنبياء: 33) . وقد جاء إفراد الخبر كقوله: قل كلّ يعمل على شاكلته} (الإسراء: 84) ، وسيأتي إن شاء الله تعالى هناك ذكر محسن إفراد الخبر.


{بَدِيعُ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ} وارتفاع بديع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو من باب الصفة المشبهة باسم الفاعل. فالمجرور مشبه بالمفعول، وأصله الأول بديع سمواته، ثم شبه الوصف فأضمر فيه، فنصب السموات، ثم جر من نصب. وفيه أيضاً ضمير يعود على الله تعالى، ويكون المعنى في الأصل أنه تعالى بدعت سمواته، أي جاءت في الخلق على شكل مبتدع لم يسبق نظيره. وهذا الوجه ابتدأ به الزمخشري، إلا أنه قال: وبديع السموات من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، وهذا ليس عندنا. كذلك بل من إضافة الصفة المشبهة إلى منصوبها. والصفة عندنا لا تكون مشبهة حتى تنصب أو تخفض، وأما إذا رفعت ما بعدها فليس عندنا صفة مشبهة، لأن عمل الرفع في الفاعل يستوي فيه الصفات المتعدية وغير المتعدية. فإذا قلنا: زيد قائم أبوه، فقائم رافع للأب على حدّ رفع ضارب له. إذا قلت: زيد ضارب أبوه عمراً، لا تقول: إن قائماً هنا من حيث عمل الرفع شبه بضارب، وإذا كان كذلك، فإضافة اسم الفاعل إلى مرفوعه لا يجوز لما تقرّر في علم العربية، إلا إن أخذنا كلام الزمخشري على التجوّز فيمكن، ويكون المعنى من إضافة الصفة المشبهة إلى ما كان فاعلاً بها قبل أن يشبه.
وقرأ المنصور: بديع بالنصب على المدح، وقرىء بالجرّ على أنه بدل من الضمير في له.
{وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وقال الزمخشري: كن فيكون، من كان التامة.
وقرأ الجمهور: فيكون بالرفع، ووجه على أنه على الاستئناف، أي فهو يكون، وعزي إلى سيبويه. وقال غيره: فيكون عطف على يقول، واختاره الطبري وقرّره.


وقرأ ابن عامر: فيكون بالنصب، وفي آل عمران: {كن فيكون} (آل عمران: 47) ونعلمه، وفي النحل، وفي مريم، وفي يس، وفي المؤمن. ووافقه الكسائي في النحل ويس، ولم يختلف في كن فيكون الحق} في آل عمران} (59 60) . {وكن فيكون قوله الحق} في الأنعام} (73) أنه بالرفع، ووجه النصب أنه جواب على لفظ كن، لأنه جاء بلفظ الأمر، فشبه بالأمر الحقيقي. ولا يصح نصبه على جواب الأمر الحقيقي، لأن ذلك إنما يكون على فعلين ينتظم منهما شرط وجزاء نحو: ائتني فأكرمك، إذ المعنى: أن تأتني أكرمك. وهنا لا ينتظم ذلك، إذ يصير المعنى: إن يكن يكن، فلا بد من اختلاف بين الشرط والجزاء، إما بالنسبة إلى الفاعل، وإما بالنسبة إلى الفعل في نفسه، أو في شيء من متعلقاته. وحكى ابن عطية، عن أحمد بن موسى، في قراءة ابن عامر: أنها لحن، وهذا قول خطأ، لأن هذه القراءة في السبعة، فهي قراءة متواترة، ثم هي بعد قراءة ابن عامر، وهو رجل عربي، لم يكن ليلحن. وقراءة الكسائي في بعض المواضع، وهو إمام الكوفيين في علم العربية، فالقول بأنها لحن، من أقبح الخطأ المؤثم الذي يجر قائله إلى الكفر، إذ هو طعن على ما علم نقله بالتواتر من كتاب الله تعالى.
{وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَآءَايَةٌ} : ومعمول القول، الجملة التخضيضية وهي: {لولا يكلمنا الله} .
{كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} : تقدم الكلام في إعراب كذلك، وفي تبيين وقوع من قبلهم صلة للذين في قوله: {والذين من قبلكم لعلكم تتقون} (البقرة: 21) .
وانتصاب مثل قولهم على البدل من موضع الكاف.
{إِنَّا أَرْسَلْنَكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} وبالحق في موضع الحال، أي أرسلناك ومعك الحق لا يزايلك. وانتصاب بشيراً ونذيراً على الحال من الكاف، ويحتمل أن يكون حالاً من الحق.


{وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحَبِ الْجَحِيمِ} : قراءة الجمهور: بضم التاء واللام. وقرأ أبي: وما تسأل. وقرأ ابن مسعود: ولن تسأل، وهذا كله خبر. فالقراءة الأولى، وقراءة أبي يحتمل أن تكون الجملة مستأنفة، وهو الأظهر، ويحتمل أن تكون في موضع الحال. وأما قراءة ابن مسعود فيتعين فيها الاستئناف.
وقرأ نافع ويعقوب: ولا تسأل، بفتح التاء وجزم اللام، وذلك على النهي.
{وَلَن تَرْضَى} واللام في لئن تسمى الموطئة والمؤذنة، وهي تشعر بقسم مقدر قبلها، ولذلك يبنى ما بعد الشرط على القسم لا على الشرط، إذ لو بني على الشرط لدخلت الفاء في قوله: {ما لك} .


و {الذين} : مبتدأ، فإن أريد به الخصوص في من اهتدى، صح أن يكون {يتلونه} خبراً عنه، وصح أن يكون حالاً مقدرة إما من ضمير المفعول، وإما من الكتاب، لأنهم وقت الإيتاء لم يكونوا تالين له، ولا كان هو متلواً لهم، ويكون الخبر إذ ذاك في الجملة من قوله: {أولئك يؤمنون به} . وجوز الحوفي أن يكون يتلونه خبراً، وأولئك وما بعده خبر بعد خبر. قال مثل قولهم: هذا حلو حامض، وهذا مبني على أنه هل يقتضي المبتدأ الواحد خبرين؟ ألم لا يقتضي إلا إذا كان في معنى خبر واحد كقولهم: هذا حلو حامض، أي مز، وفي ذلك خلاف. وإن أريد بالذين آتيناهم الكتاب العموم، كان الخبر أولئك يؤمنون به، قالوا، ومنهم ابن عطية: ويتلونه حال لا يستغنى عنها، وفيها الفائدة، ولا يجوز أن يكون خبراً، لأنه كان يكون كل مؤمن يتلو الكتاب، وليس كذلك بأي تفسير فسرت التلاوة. ونقول: ما لزم في الامتناع من جعلها خبراً، يلزم في الحال، لأنه ليس كل مؤمن يكون على حالة التلاوة بأي تفسير فسرتها. وانتصب {حق تلاوته} على المصدر، كما تقول: ضربت زيداً حق ضربه، وأصله تلاوة حقاً. ثم قدّم الوصف، وأضيف إلى المصدر، وصار نظير: ضربت شديد الضرب، إذ أصله: ضرباً شديداً. وجوزوا أن يكون وصفاً لمصدر محذوف، وأن يكون منصوباً على الحال من الفاعل، أي يتلونه محقين. وقال ابن عطية: وحق مصدر والعامل فيه فعل مضمر، وهو بمعنى، ولا يجوز إضافته إلى واحد معرّف، وإنما جازت عنا لأن تعرف التلاوة بإضافتها إلى الضمير ليس بتعرّف محض، وإنما هو بمنزلة قولهم: رجل واحد أمه، ونسيج وحده. انتهى كلامه.
{وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَسِرُونَ} وهم: محتمل أن يكون مبتدأ وأن يكون فصلاً. وعلى كلا التقديرين يكون في ذلك توكيد.


{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّى جَعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّلِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَآ إِلَى إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْعَكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَتِ مَنْءَامَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الأٌّخِرَةِ لَمِنَ الصَّلِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَلَمِينَ} .


الذرية: النسل، مشتقة من ذروت، أو ذريت، أو ذرأ الله الخلق، أو الذر. ويضم ذالها، أو يكسر، أو يفتح. فأما الضم فيجوز أن تكون ذرية، فعيلة من ذرأ الله الخلق، وأصله ذريئة، فخففت الهمزة بإبدالها ياء، كما خففوا همزة النسيء فقالوا: النسيّ، ثم أدغموا الياء التي هي لام الفعل التي هي للمد. ويجوز أن تكون فعولة من ذروت، الأصل ذرووة، أبدلت لام الفعل ياء. اجتمع لك واو وياء واو المد والياء المنقلبة عن الواو التي هي لام الفعل، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت واو المد ياء، وأدغمت في الياء، وكسر ما قبلها، لأن الياء تطلب الكسر. ويجوز أن تكون فعيلة من ذررت، أصلها ذريوة، اجتمعت ياء المد والواو التي هي لام الكلمة وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت ياء المد فيها. ويجوز أن تكون فعولة أو فعيلة من ذريت لغة في ذروت، فأصلها أن تكون فعولة ذروية، وإن كان فعيلة ذريية، ثم أدغم. ويجوز أن تكون فعيلة من الذر منسوبة، أو فعليه من الذر غير منسوبة، أو فعيلة، كمريقة، أو فعول، كسبوح وقدوس، أو فعلولة، كقردودة الظهر، فضم أولها إن كان اسماً، كقمرية، وإن كانت منسوبة، كما قالوا في النسب إلى الدهر: دهري، وإلى السهل، سهلي. وأصل فعيلة من الذر: ذريرة، وفعولة من الذر: ذرورة، وكذلك فعلولة، أبدلت الراء الآخرة في ذلك ياء كراهة التضعيف، كما قالوا في تسررت؛ تسريت. وأما من كسر ذال ذرية، فيحتمل أن تكون فعيلة من ذرأ الله الخلق، كبطيخة، فأبدلت الهمزة ياء، وأدغمت في ياء المد، أو فعلية من الذر منسوبة على غير قياس، أو فعيلة من الذر أصله ذريرة، أو فعليل، كحلتيت. ويحتمل أن تكون ذريوة من ذروت، أو فعيلة ذريئة من ذريت. وأما من فتح ذال ذرية، فيحتمل أن تكون فعيلة من ذرأ، مثل سكينة، أو فعولة من هذا أيضاً، كخروبة. فالأصل ذروءة، فأبدلت الهمزة ياء بدلاً مسموعاً، وقلبت الواو ياء وأدغمت. ويحتمل أن تكون فعيلة من الذر غير منسوبة، كبرنية، أو


منسوبة إلى الذر، أو فعولة، كخروبة من الذر أصلها ذرورة، ففعل بها ما تقدم، أو فعلولة، كبكولة، فالأصل ذرورة أيضاً، أو فعيلة، كسكينة ذريرة، فقلبت الراء ياء في ذلك كله، ويحتمل أن يكون من ذروت فعيلة، كسكينة، فالأصل ذريوة، أو من ذريت ذريية، أو فعولة من ذروت أو ذريت. وأما من بناها على فعلة، كجفنة، وقال ذرية، فإنها من ذريت.
{الْمَصِيرُ} : مفعل من صار يصير، فيكون للزمان والمكان، وأما المصدر فقياسه مفعل بفتح العين، لأن ما كسرت عين مضارعه فقياسه ما ذكرناه، لكنّ النحويين اختلفوا فيما كان عينه ياء من ذلك على ثلاثة مذاهب: أحدها: أنه كالصحيح، فيفتح في المصدر ويكسر في الزمان والمكان. الثاني: أنه مخير فيه. الثالث: أنه يقتصر على السماع، فما فتحت فيه العرب فتحنا، وما كسرت كسرنا. وهذا هو الأولى.

الاصطفاء: الانتجاب والاختيار، وهو افتعال من الصفو، وهو الخالص من الكدر والشوائب، أبدلت من تائه طاء، كان ثلاثيه لازماً. صفا الشيء يصفو، وجاء الافتعال منه متعدياً، ومعنى الافتعال هنا: التخير، وهو أحد المعاني التي جاءت لافتعل.
وقرأ الجمهور: بنصب إبراهيم ورفع ربه.
وإيصال ضمير المفعول بالفاعل موجب لتقديم المفعول. انتهى كلامه، وفيه بعض تلخيص. وكونه مما يجب فيه تقديم الفاعل هو قول الجمهور. وقد جاء في كلام العرب مثل: ضرب غلامه زيداً، وقال: وقاس عليه بعض النحويين، وتأول بعضه الجمهور، أو حمله على الشذوذ. وقد طول الزمخشري في هذه المسألة بما يوقف عليه من كلامه في «الكشاف» ، وليست من المسائل التي يطوّل فيها لشهرتها في العربية.


{قَالَ إِنِّى جَعِلُكَ} : تقدم أن الاختيار في قال أنها عاملة في إذ، وإذا جعلنا العامل في إذ محذوفاً، كانت قال استئنافاً، فكأنه قيل: فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل: {قال إني جاعلك للناس إماماً} . وعلى اختيار أن يكون قال هو العامل في إذ، يكون قال جملة معطوفة على ما قبلها، أي وقال إني جاعلك للناس إماماً، إذ ابتلاه، ويجوز أن يكون بياناً لقوله: ابتلى، وتفسيراً له. {للناس} : يجوز أن يراد بهم أمته الذين اتبعوه، ويجوز أن يراد به جميع المؤمنين من الأمم، ويكون ذلك في عقائد التوحيد وفيما وافق من شرائعهم. وللناس: في موضع الحال، لأنه نعت نكرة تقدم عليها، التقدير: إماماً كائناً للناس، قالوا: ويحتمل أن يكون متعلقاً بجاعلك، أي لأجل الناس. وجاعل هنا بمعنى مصير، فيتعدى لاثنين، الأول: الكاف الذي أضيف إليها اسم الفاعل، والثاني: إماماً.
{قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِى} ، قال الزمخشري: عطف على الكاف، كأنه قال: وجاعل بعض ذريتي، كما يقال لك: سأكرمك، فتقول: وزيداً. انتهى كلامه. ولا يصح العطف على الكاف، لأنها مجرورة، فالعطف عليها لا يكون إلا بإعادة الجار، ولم يعد، ولأن من لا يمكن تقدير الجار مضافاً إليها، لأنها حرف، فتقديرها بأنها مرادفة لبعض حتى تقدر جاعلاً مضافاً إليها لا يصح، ولا يصح أن تكون تقدير العطف من باب العطف على موضع الكاف، لأنه نصب، فيجعل من في موضع نصب، لأن هذا ليس مما يعطف فيه على الموضع، على مذهب سيبويه، لفوات المحرز، وليس نظير: سأكرمك، فتقول: وزيداً لأن الكاف هنا في موضع نصب. والذي يقتضيه المعنى أن يكون {من ذريتي} متعلقاً بمحذوف، التقدير: واجعل من ذريتي إماماً.


{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} وجعلنا هنا بمعنى صيرنا، فمثابة مفعول ثان. وقيل: جعل هنا بمعنى: خلق، أو وضع، ويتعلق للناس بمحذوف تقديره: مثابة كائنة، إذ هو في موضع الصفة. وقيل: يتعلق بلفظ جعلنا، أي لأجل الناس.
والظاهر أن قوله: {وأمناً} ، معطوف على قوله: {مثابة} ، ويفسر الأمن بما تقدّم ذكره. وذهب بعضهم إلى أن المعنى على الأمر، التقدير: واجعلوه آمناً، أي جعلناه مثابة للناس، فاجعلوه آمناً لا يتعدّى فيه أحد على أحد. فمعناه أن الله أمر الناس أن يجعلوا ذلك الموضع آمناً من الغارة والقتل، وكان البيت محرّماً بحكم الله، وربما يؤيد هذا التأويل بقراءة من قرأ: {واتخذوا} على الأمر، فعلى هذا يكون العطف فيه من عطف الجمل، عطفت فيه الجملة الأمرية على جملة خبرية، وعلى القول الظاهر يكون من عطف المفردات.
{أَن طَهِّرَا} يحتمل أن تكون أن تفسيرية، أي طهرا، ففسر بها العهد، ويحتمل أن تكون مصدرية، أي بأن طهرا. فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب، وعلى الثاني يحتمل الجرّ والنصب على اختلاف النحويين. إذا حذف من أن حرف الجر، هل المحل نصب أو خفض؟ وقد تقدّم لنا الكلام مرة في وصل أن بفعل الأمر، وأنه نص على ذلك سيبويه وغيره، وفي ذلك نظر، لأن جميع ما ذكر من ذلك محتمل، ولا أحفظ من كلامهم: عجبت من أن أضرب زيداً، ولا يعجبني أن أضرب زيداً، فتوصل بالأمر، ولأن انسباك المصدر يحيل معنى الأمر ويصيره مستنداً إليه وينافي ذلك الأمر.


{وَإِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} : ذكروا أن العامل في إذ ذكر محذوفة، ورب: منادى مضاف إلى الياء، وحذف منه حرف النداء، والمضاف إلى الياء فيه لغات، أحسنها: أن تحذف منه ياء الإضافة، ويدل عليها بالكسرة، فيجتزأ بها لأن النداء موضع تخفيف. ألا ترى إلى جواز الترخيم فيه؟ وتلك اللغات مذكورة في النحو، وسيأتي منها في القرآن شيء، ونتكلم عليه في مكانه، إن شاء الله تعالى.
{وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَتِ} ومن: في قوله: من الثمرات للتبعيض، لأنهم لم يرزقوا إلا بعض الثمرات. وقيل: هي لبيان الجنس، ومن بدل من أهله، بدل بعض من كل، أو بدل اشتمال مخصص لما دل عليه المبدل منه، وفائدته أنه يصير مذكوراً مرتين: إحداهما بالعموم السابق في لفظ المبدل منه، والثانية بالتنصيص عليه، وتبيين أن المبدل منه إنما عنى به وأريد البدل فصار مجازاً، إذ أريد بالعام الخاص. هذه فائدة هذين البدلين، فصار في ذلك تأكيد وتثبيت للمتعلق به الحكم، وهو البدل، إذ ذكر مرتين.


{قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} : قرأ الجمهور من السبعة: فأمتعه، مشدّداً على الخبر. وقرأ ابن عامر: فأمتعه، مخففاً على الخبر. وقرأ هؤلاء: ثم اضطره خبراً. وقرأ يحيى بن وثاب: فأمتعه مخففاً، ثم أضطره بكسر الهمزة، وهما خبران. وقرأ ابن محيصن: ثم أضطره، بإدغام الضاد في الطاء خبراً. وقرأ يزيد بن أبي حبيب: ثم اضطره بضم الطاء، خبراً. وقرأ أبي بن كعب: فنمتعه ثم نضطره بالنون فيهما. وقرأ ابن عباس ومجاهد وغيرهما: {فأمتعه قليلاً ثم أضطره} على صيغة الأمر فيهما، فأما على هذه القراءة فيتعين أن يكون الضمير في: قال، عائداً على إبراهيم، لما دعا للمؤمنين بالرزق، دعا على الكافرين بالإمتاع القليل والإلزاز إلى العذاب. ومن: على هذه القراءة يحتمل أن تكون في موضع رفع، على أن تكون موصولة أو شرطية، وفي موضع نصب على الاشتغال على الوصل أيضاً. وأما على قراءة الباقين فيتعين أن يكون الضمير في: قال، عائداً على الله تعالى، ومن: يحتمل أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل تقديره: قال الله وارزق من كفر فأمتعه، ويكون فأمتعه معطوفاً على ذلك الفعل المحذوف الناصب لمن. ويحتمل أن تكون من في موضع رفع على الابتداء، إما موصولاً، وإما شرطاً، والفاء جواب الشرط، أو الداخلة في خبر الموصول لشبهة باسم الشرط. ولا يجوز أن تكون من في موضع نصب على الاشتغال إذا كانت شرطاً، لأنه لا يفسر العامل في من إلا فعل الشرط، لا الفعل الواقع جزاء، ولا إذا كانت موصولة، لأن الخبر مضارع قد دخلته الفاء تشبيهاً، للموصول باسم الشرط. فكما لا يفسر الجزاء، كذلك لا يفسر الخبر المشبه بالجزاء. وأما إذا كان أمراً، أعني الخبر نحو: زيداً فاضربه، فيجوز أن يفسر، ولا يجوز أن تقول: زيداً فتضربه على الاشتغال، ولجواز: زيداً فاضربه على الأمر، علة مذكورة في كتب النحو. قال أبو البقاء: لا يجوز أن تكون


من مبتدأ، وفأمتعه الخبر، لأن الذي لا يدخل الفاء في خبرها، إلا إذا كان الخبر مستحقاً لصلتها، كقولك: الذي يأتيني فله درهم. والكفر لا يستحق به التمتع. فإن جعلت الفاء زائدة على قول الأخفش جاز، أو الخبر محذوفاً، وفأمتعه دليل عليه جاز، تقديره: ومن كفر أرزقه فأمتعه. ويجوز أن تكون من شرطية والفاء جوابها. وقيل: الجواب محذوف تقديره: ومن يكفر ارزق. ومن على هذا رفع بالابتداء، ولا يجوز أن تكون منصوبة، لأن أداة الشرط لا يعمل فيها جوابها، بل الشرط. انتهى كلامه. وقوله أولاً لا يجوز كذا وتعليله ليس بصحيح، لأن الخبر مستحق بالصلة، لأن التمتع القليل والصيرورة إلى النار مستحقان بالكفر. ثم إنه قد ناقض أبو البقاء في تجويزه أن تكون من شرطية والفاء جوابها. وهل الجزاء إلا مستحق بالشرط ومترتب عليه؟ فكذلك الخبر المشبه به أيضاً. فلو كان التمتع قليلاً ليس مستحقاً بالصلة، وقد عطف عليه ما يستحق بالصلة، ناسب أن يقع خبراً من حيث وقع جزاء، وقد جوّز هو ذلك. وأما تقدير زيادة الفاء، وإضمار الخبر، وإضمار جواب الشرط، إذا جعلنا من شرطية، فلا حاجة إلى ذلك، لأن الكلام منتظم في غاية الفصاحة دون هذا الإضمار. وإنما جرى أبو البقاء في إعرابه في القرآن على حد ما يجري في شعر الشنفري والشماخ، من تجويز الأشياء البعيدة والتقادير المستغنى عنها، ونحن ننزه القرآن عن ذلك. وقال الزمخشري: {ومن كفر} : عطف على {من آمن} ، كما عطف {ومن ذريتي} على الكاف في {جاعلك} . انتهى كلامه. وتقدم لنا الردّ عليه في زعمه أن ومن ذريتي عطف على الكاف في جاعلك. وأما عطف من كفر على من آمن فلا يصح، لأنه يتنافى في تركيب الكلام، لأنه يصير المعنى: قال إبراهيم: وارزق من كفر، لأنه لا يكون معطوفاً عليه حتى يشركه في العامل، ومن آمن العامل فيه فعل الأمر، وهو العامل في ومن كفر. وإذا قدرته أمراً، تنافى مع قوله: {فأمتعه} ، لأن ظاهر هذا إخبار من الله بنسبة التمتع


وإلجائهم إليه تعالى، وأن كلاً من الفعلين يضمن ضمير الله تعالى، وذلك لا يجوز إلا على بعد، بأن يكون بعد الفاء قول محذوف فيه ضمير لله تعالى، أي قال إبراهيم: وارزق من كفر، فقال الله: أمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار. ثم ناقض الزمخشري قوله هذا، أنه عطف على من، كما عطف ومن ذريتي على الكاف في جاعلك.

فظاهر قوله والمعنى: وارزق من كفر فأمتعه يدل على أن الضمير في قال، ومن كفر عائد على الله، وأن من كفر منصوب بارزق الذي هو فعل مضارع مسند إلى الله تعالى، وهو يناقض ما قدم أولاً من أن من كفر معطوف على من آمن.
وانتصاب {قليلاً} على أنه صفة لظرف محذوف، أي زماناً قليلاً، أو على أنه صفة لمصدر محذوف، أي تمتيعاً قليلاً، على تقدير الجمهور، أو على الحال من ضمير المصدر المحذوف، الدال عليه الفعل، وذلك على مذهب سيبويه.
وقراءة يحيى بن وثاب: ثم إضطره بكسر الهمزة. قال ابن عطية، على لغة قريش، في قولهم: لا إخال، يعني بكسر الهمزة. وظاهر هذا النقل في أن ذلك، أعني كسر الهمزة التي للمتكلم في نحو اضطر، وهو ما أوله همزة وصل. وفي نحو إخال، وهو افعل المفتوح العين من فعل المكسور العين مخالف لما نقله النحويون. فإنهم نقلوا عن الحجازيين فتح حرف المضارعة مما أوّله همزة وصل، ومما كان على وزن فعل بكسر العين يفعل بفتحها، أو ذا ياء مزيدة في أوله، وذلك نحو: علم يعلم، وانطلق ينطلق، وتعلم يتعلم، إلا إن كان حرف المضارعة ياء، فجمهور العرب من غير الحجازيين لا يكسر الياء، بل يفتحها. وفي مثل يوجل بالياء مضارع وجل، مذاهب تذكر في علم النحو، وإنما المقصود هنا: أن كلام ابن عطية مخالف لما حكاه النحاة، إلا إن كان نقل أن إخال بخصوصيته في لغة قريش مكسور الهمزة دون نظائره، فيكونون قد تبعوا في ذلك لغة غيرهم من العرب، فيمكن أن يكون قول ابن عطية صحيحاً.


وقراءة ابن محيصن: ثم اطره، بإدغام الضاد في الطاء. قال الزمخشري: هي لغة مرذولة، لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ما يجاورها، ولا تدغم هي فيما يجاورها، وهي حروف ضم شفر. انتهى كلامه. إذا لقيت الضاد الطاء في كلمة نحو مضطرب، فالأوجه البيان، وإن أدغم قلب الثاني للأول فقيل: مضرب، كما قيل: مصبر في مصطبر. قال سيبويه: وقد قال بعضهم: مطجع، في مضطجع ومضجع أكثر، وجاز مطجع، وإن لم يجز في مصطبر مطبر، لأن الضاد ليست في السمع كالصاد، يعني أن الصفير الذي في الصاد أكثر في السمع من استطالة الضاد. فظاهر كلام سيبويه أنها ليست لغة مرذولة، ألا ترى إلى نقله عن بعض العرب مطجع، وإلى قوله: ومضجع أكثر، فيدل على أن مطجعا كثير؟ وألا ترى إلى تعليله، وكون الضاد قلبت إلى الطاء وأدغمت، ولم يفعل ذلك بالصاد، وإبداء الفرق بينهما؟ وهذا كله من كلام سيبويه، يدل على الجوار. وقد أدغمت الضاد في الذال في قوله تعالى: {الأرض ذلولاً} (الملك: 15) ، رواه اليزيدي، عن أبي عمرو، وهو ضعيف. وفي الشين في قوله تعالى: لبعض شأنهم} (النور: 62) ، والأرض شيئاً} (النحل: 73) ، وهو ضعيف أيضاً. وأما الشين فأدغمت في السين. روي عن أبي عمرو ذلك في قوله تعالى: إلى ذي العرش سبيلاً} (الإسراء: 42) ، والبصريون لا يجيزون ذلك عن أبي عمرو، وهو رأس من رؤوس البصريين. وأما الفاء فقد أدغمت في الباء في قراءة الكسائي: إن نشأ نخسف بهم} (سبأ: 9) ، وهو إمام الكوفيين. وأما الراء، فذهب الخليل وسيبويه وأصحابه إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل تكريرها، ولا في النون. وأجاز ذلك في اللام: يعقوب، وأبو عمرو، والكسائي، والفراء، وأبو جعفر الرؤاسي، وهؤلاء الثلاثة رؤوس الكوفيين، حكوه سماعاً عن العرب. وإنما تعرضت لإدغام هذه الحروف فيما يجاورها، وذكر الخلاف فيها، لئلا يتوهم من قول الزمخشري: لا تدغم فيما يجاورها، أنه لا يجوز ذلك بإجماع من النحويين. فأوردت هذا


الخلاف فيها، تنبيهاً على أن ذلك ليس بإجماع، إذ إطلاقه يدل على المنع ألبتة. وقراءة ابن أبي حبيب: بضم الطاء، توجيهها أنه أتبع حركة الطاء لحركة الراء، وهو شاذ. وأما قراءة أبي بالنون فيهما، فهي مخالفة لرسم المصحف، فهي شاذة. وقراءة ابن عباس بصيغة الأمر يكون تكرير قال على سبيل التوكيد، أو ليكون ذلك جملتين، جملة بالدعاء لمن آمن، وجملة بالدعاء على من كفر، فلا يندرجان تحت معمول واحد، بل أفرد كلاً بقول. واضطره على هذه القراءة، هو بفتح الراء المشدّدة، كما تقول: عضه بالفتح، وهذا الإدغام هو على لغة غير الحجازيين، لأن لغة الحجازيين في مثل هذا الفك. ولو قرأ على لغة قومه، لكان اضطره إلى عذاب يتعلق بقوله: ثم أضطره. ومعنى الاضطرار هنا هو أنه يلجأ ويلز إلى العذاب، بحيث لا يجد محيصاً عنه إذا حد، لا يؤثر دخول النار ولا يختاره. ومفهوم الشرط هنا ملغي، إذ قد يدخل النار بعض العصاة من المؤمنين. وبئس المصير} المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى، أي وبئس المصير النار، إن كان المصير اسم مكان، وإن كان مصدراً على رأي من أجاز ذلك فالتقدير: وبئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب.

{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَهِيمُ} : هذه الجملة معطوفة على ما قبلها، فالعامل في إذ ما ذكر أنه العامل في إذ قبلها. ويرفع في معنى رفع، وإذ من الأدوات المخلصة للمضارع إلى الماضي، لأنها ظرف لما مضى من الزمان. والرفع حالة الخطاب قد وقع. وقال الزمخشري: هي حكاية حال ماضية، وفي ذلك نظر.
{مِنَ الْبَيْتِ} : يحتمل أن يكون متعلقاً بيرفع، ويحتمل أن يكون في موضع الحال من القواعد، فيتعلق بمحذوف تقديره: كائنة من البيت. ولم تضف القواعد إلى البيت، فكان يكون الكلام قواعد البيت، لما في عدم الإضافة من الإيضاح بعد الإبهام وتفخيم شأن المبين. {وإسماعيل} : معطوف على إبراهيم.


ومن جعل الواو في {وإسماعيل} واو الحال، أعرب إسماعيل مبتدأ وأضمر الخبر، التقدير: وإسماعيل يقول: {ربنا تقبل منا} ، فيكون إبراهيم مختصاً بالبناء، وإسماعيل مختصاً بالدعاء. ومن ذهب إلى العطف، جعل {ربنا تقبل منا} معمولاً لقول محذوف عائد على إبراهيم وإسماعيل معاً، في موضع نصب على الحال تقديره: وإذ يرفعان القواعد قائلين: {ربنا تقبل منا} . ويؤيد هذا التأويل أن العطف في {وإسماعيل} أظهر من أن تكون الواو واو الحال. وقراءة أبي وعبد الله يقولان بإظهار هذه الجملة، ويجوز أن يكون القول المحذوف هو العامل في إذ، فلا يكون في موضع الحال.


{وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ} وجوّز الزمخشري أن يكون من في قوله: ومن ذريتنا، للتبيين، قال كقوله: {وعد الله الذين آمنوا منكم} (النور: 55) ، وقد تقدّم لنا أن كون من للتبيين يأباه أصحابنا ويتأولون ما فهم من ظاهره ذلك. وتقدّم شرح الأمة، والمراد به هنا: الجماعة، أو الجيل، والمعنى: على أن من ذريتنا هو في موضع المفعول الأول لقوله: واجعل، لأن الجعل هنا بمعنى التصيير، فالمعنى: واجعل ناساً من ذريتنا أمة مسلمة لك، ويمتنع أن يكون ما قدّر من قوله: واجعل من ذريتنا} بمعنى: أوجد وأخلق. وإن كان من جهة المعنى صحيحاً، فكان يكون الجعل هنا يتعدى إلى واحد. ومن ذريتنا متعلق بأجعل المقدرة، لأنه إن كان من باب عطف المفردات، فهو مشترك في العامل الأول، والعامل الأول ليس معناه على الخلق والإيجاد. وإن كان من باب عطف الجمل، فلا يحذف إلا ما دل عليه المنطوق. والمنطوق ليس بمعنى الإيجاد، فكذلك المحذوف. ألا تراهم قد منعوا في قوله تعالى: {هو الذي يصلي عليكم وملائكته} (الأحزاب: 43) أن يكون التقدير: وملائكته يصلون، لاختلاف مدلولي الصلاتين لأنهما من الله الرحمة، ومن الملائكة الدعاء، وتأولوا ذلك وحملوه على القدر المشترك بين الصلاتين لا على الحذف؟ وأجاز أبو البقاء أن يكون المفعول الأول أمة} ، و {من ذريتنا} حال، لأنه نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال، و {مسلمة} المفعول الثاني، وكان الأصل: اجعل أمة من ذريتنا مسلمة لك، قال: فالواو داخلة في الأصل على أمة، وقد فصل بينهما بقوله: من ذريتنا، وهو جائز، لأنه من جملة الكلام المعطوف بالظرف، وجعلوا قوله:

يوماً تراها كشبه أردية العصب ويوماً أديمها نغلا من الضرورات، فالفصل بالحال أبعد من الفصل بالظرف، فصار نظير: ضربت الرجل، ومتجردة المرأة تريد: والمرأة متجردة، وينبغي أن يختص جواز هذا بالضرورة.


ومعنى {أرنا} : أي بصرنا. إن كانت من رأى البصرية. والتعدي هنا إلى اثنين ظاهر، لأنه منقول بالهمزة من المتعدي إلى واحد، وإن كانت من رؤية القلب، فالمنقول أنها تتعدى إلى اثنين، نحو قوله:
وإنا لقوم ما نرى القتل سبة
إذا ما رأته عامر وسلول
وقال الكميت:
بأي كتاب أم بأية سنة
ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب
فإذا دخلت عليها همزة النقل، تعدت إلى ثلاثة، وليس هنا إلا اثنان، فوجب أن يعتقد أنها من رؤية العين. وقد جعلها الزمخشري من رؤية القلب، وشرحها بقوله: عرف، فهي عنده تأتي بمعنى عرّف، أي تكون قلبية وتتعدى إلى واحد، ثم أدخلت همزة النقل فتعدت إلى اثنين، ويحتاج ذلك إلى سماع من كلام العرب. وحكى ابن عطية عن طائفة أنها من رؤية البصر، وعن طائفة أنها من رؤية القلب. قال ابن عطية: وهو الأصح ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفعولين، وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب، كغير المعدى، قال حطائط بن يعفر أخو الأسود:
أريني جواداً مات هزلاً لأنني
أرى ما ترين أو بخيلاً مخلدا


انتهى كلام ابن عطية وقوله. ويلزم قائله أن يتعدى إلى ثلاثة مفعولين، إنما يلزم لما ذكرناه من أن المحفوظ أن رأى. إذا كانت قلبية، تعدت إلى اثنين، وبهمزة النقل تصير تتعدى إلى ثلاثة، وقوله: وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب، كغير المعدى، يعني أنه قد استعمل في اللسان العربي متعدياً إلى اثنين ومعه همزة النقل، كما استعمل متعدياً إلى اثنين بغير الهمزة. وإذا كان كذلك، ثبت أن لرأى، إذا كانت قلبية، استعمالين: أحدهما: أن يكون بمعنى علم المتعدية لواحد بمعنى عرف، والثاني: أن يكون بمعنى علم المتعدية إلى اثنين. واستدلال ابن عطية ببيت ابن يعفر على أن أرى قلبية، لا دليل فيه، بل الظاهر أنها بصرية، والمعنى على أبصريني جواداً. ألا ترى إلى قوله: مات هزلاً؟ فإن هذا هو من متعلقات البصر، فيحتاج في إثبات رأى القلبية متعدية لواحد إلى سماع. وقد قال ابن مالك، وهو حاشد لغة، وحافظ نوادر: حين عدى ما يتعدى إلى اثنين، فقال في «التسهيل» ، ورأى لا لإبصار، ولا رأى، ولا ضرب، فلو كانت رأى بمعنى عرف، لنفى ذلك، كما نفى عن رأى المتعدية إلى اثنين، كونها لا تكون لإبصار، ولا رأى، ولا ضرب.

{إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} : يجوز في أنت: الفصل والتأكيد والابتداء.
{يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَتِكَ} جملة في موضع الصفة {لرسولاً} . وقيل: في موضع الحال منه.
{إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} وأنت: يجوز فيها ما جاز في {أنت السميع العليم} .
{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} : ومن: اسم استفهام في موضع رفع على الابتداء.


{ومن سفه} : في موضع رفع بدل من الضمير المستكن في {يرغب} ، ويجوز أن يكون في موضع نصب على الاستثناء، والرفع أجود على البدل، لأنه استثناء من غير موجب، ومن في من سفه موصولة، وقيل: نكرة موصوفة، وانتصاب نفسه على أنه تمييز، على قول بعض الكوفيين، وهو الفراء، أو مشبه بالمفعول على قول بعضهم، أو مفعول به، إمّا لكون سفه يتعدى بنفسه كسفه المضعف، وإما لكونه ضمن معنى ما يتعدّى، أي جهل، وهو قول الزجاج وابن جني، أو أهلك، وهو قول أبي عبيدة، أو على إسقاط حرف الجر، وهو قول بعض البصريين، أو توكيد لمؤكد محذوف تقديره سفه قوله نفسه، حكاه مكي. أما التمييز فلا يجيزه البصريون، لأنه معرفة، وشرط التمييز عندهم أن يكون نكرة، وأما كونه مشبهاً بالمفعول، فذلك عند الجمهور مخصوص بالصفة، ولا يجوز في الفعل، تقول: زيد حسن الوجه، ولا يجوز حسن الوجه، ولا يحسن الوجه. وأما إسقاط حرف الجر، وأصله من سفه في نفسه، فلا ينقاس، وأما كونه توكيداً وحذف مؤكده ففيه خلاف. وقد صحح بعضهم أن ذلك لا يجوز أعني: أن يحذف المؤكد ويبقى التوكيد، وأما التضمين فلا ينقاس، وأما نصبه على أن يكون مفعولاً به، ويكون الفعل يتعدّى بنفسه، فهو الذي نختاره، لأن ثعلباً والمبرد حكيا أن سفه بكسر الفاء يتعدى، كسفه بفتح الفاء وشدها. وحكي عن أبي الخطاب أنها لغة. قال الزمخشري: سفه نفسه: امتهنها واستخف بها، وأصل السفه، الخفة، ومنه زمام سفيه. وقيل: انتصاب النفس على التمييز نحو: غبن رأيه، وألم رأسه، ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز، نحو قوله:
ولا بفزارة الشعر الرقابا
أجب الظهر ليس له سنام
وقيل: معناه سفه في نفسه فحذف لجار، كقولهم: زيد ظني مقيم، أي في ظني، والوجه هو الأول، وكفى شاهداً له بما جاء في الحديث: «الكبر أن يسفه الحق ويغمص الناس» . انتهى كلامه. فأجاز نصبه على المفعول به، إلا أن قوله: ويجوز أن يكون في شذوذ تعريف التمييز، نحو قوله:


ولا بفزارة الشعر الرقابا
أجب الظهر ليس له سنام
ليس بصحيح، لأن الرقاب من باب معمول الصفة المشبهة. والشعر جمع أشعر، وكذلك أجب الظهر هو أيضاً من باب الصفة المشبهة، وأجب أفعل اسم وليس بفعل. وقبل النصف الأول قوله:
فما قومي بثعلبة بن سعدى
وقبل الآخر قوله:
ونأخذ بعده بذناب عيش
فليس نحوه، لأن نفسه انتصب بعد فعل، والرقاب والظهر انتصبا بعد اسم، وهما من باب الصفة المشبهة.
{وَإِنَّهُ فِى الأٌّخِرَةِ لَمِنَ الصَّلِحِينَ} وفي الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده، أي وأنه لصالح في الآخرة. وقال بعضهم: هو على إضمار، أعني: فهو للتبيين، كلك بعد سقيا، وإنما لم يتعلق بالصالحين، لأن اسم الفاعل في صلة الألف واللام، ولا يتقدّم معمول الوصف إذ ذاك. وكان بعض شيوخنا يجوّز ذلك، إذا كان المعمول ظرفاً أو جاراً ومجروراً، قال: لأنهما يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما. وجوزوا أن تكون الألف واللام غير موصولة، بل معرفة، كهي في الرجل، وأن يتعلق المجرور باسم الفاعل إذ ذاك.
{إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَلَمِينَ} والعامل في إذ: قال أسلمت. وقيل: ولقد اصطفيناه، أي اخترناه في ذلك الوقت، وجوّز بعضهم أن يكون بدلاً من قوله: {في الدنيا} ، وأبعد من جعل إذ قال في موضع الحال من قوله: {ولقد اصطفيناه} ، وجعل العامل في الحال اصطفيناه، وقيل: محذوف تقديره أذكر. وعلى تقدير أن العامل اصطفيناه أو اذكر المقدّرة، يبقى قوله: {قال أسلمت} ، لا ينتظم مع ما قبله، إلا إن قدر، يقال: فحذف حرف العطف، أو جعل جواباً لكلام مقدّر، أي ما كان جوابه؟ قال: أسلمت.


{وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَبَنِىَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَآئِكَ إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَرَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُولُواْءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَى إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَآ أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَآ أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَآءَامَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِنْ تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِى شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَبِدونَ * قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِى اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَآ أَعْمَلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَلُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ * أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَدَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا


كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .
و {يعقوب} عربي، وهو ذكر القبج، وهو مصروف، ولو سمي بهذا لكان مصروفاً. ومن زعم أن يعقوب النبي إنما سمي يعقوب لأنه هو وأخوه العيص توأمان، فخرج العيص أولاً ثم خرج هو يعقبه، أو سمي بذلك لكثرة عقبه، فقوله فاسد، إذ لو كان كذلك لكان له اشتقاق عربي، فكان يكون مصروفاً.
{إسحاق} : اسم أعجمي لا ينصرف للعلمية والعجمة الشخصية، وإسحاق: مصدر أسحق، ولو سميت به لكان مصروفاً، وقالوا في الجمع: أساحقة وأساحيق، وفي جمع يعقوب: يعاقبة ويعاقيب، وفي جمع إسرائيل: أسارلة. وجوز الكوفيون في إبراهيم وإسماعيل: براهمة وسماعلة، والهاء بدل من الياء كما في زنادقة وزناديق. وقال أبو العباس: هذا الجمع خطأ، لأن الهمزة ليست زائدة، والجمع: أباره وأسامع، ويجوز: أباريه وأساميع، والوجه أن يجمع هذه جمع السلامة فيقال: إبراهيمون، وإسماعيلون، وإسحاقون، ويعقوبون. وحكى الكوفيون أيضاً: براهم، وسماعل، وأساحق، ويعاقب، بغير ياء ولا هاء. وقال الخليل وسيبويه: براهيم، وسماعيل. وردّ أبو العباس على من أسقط الهمزة، لأن هذا ليس موضع زيادتها. وأجاز ثعلب: براه، كما يقال في التصغير: بريه. وقال أبو جعفر الصفار: أما إسرائيل، فلا نعلم أحداً يجيز حذف الهمزة من أوله، وإنما يقال: أساريل. وحكى الكوفيون: أسارلة وأسارل. انتهى.


قرأ الجمهور: {ويعقوب} بالرفع، وقرأ إسماعيل بن عبد الله المكي، والضرير، وعمرو بن فائد الأسواري: بالنصب. فأما قراءة الرفع فتحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون معطوفاً على إبراهيم، ويكون داخلاً في حكم توصية بنيه، أي ووصى يعقوب بنيه. ويحتمل أن يكون مرفوعاً على الابتداء، وخبره محذوف تقديره: قال يا بني إن الله اصطفى، والأول أظهر. وأما قراءة النصب فيكون معطوفاً على بنيه، أي ووصى بها نافلته يعقوب، وهو ابن ابنه إسحاق. وبنو يعقوب يأتي ذكر أسمائهم عند الكلام على الأسباط. {يا بني} : من قرأ {ويعقوب} بالنصب، كان يا بني من مقولات إبراهيم، ومن رفع على العطف فكذلك، أو على الابتداء، فمن كلام يعقوب. وإذا جعلناه من كلام إبراهيم، فعند البصريين هو على إضمار القول، وعند الكوفيين لا يحتاج إلى ذلك، لأن الوصية في معنى القول، فكأنه قال: قال إبراهيم لبنيه يا بني، ونحوه قول الراجز:
رجلان من ضبة أخبرانا
إنا رأينا رجلاً عريانا
بكسر الهمزة على إضمار القول، أو معمولاً لا خبراناً على المذهبين.
وقرأ أبيّ وعبد الله والضحاك: أن يا بني، فيتعين أن تكون أن هنا تفسيرية بمعنى أي، ولا يجوز أن تكون مصدرية، لأنه لا يمكن انسباك مصدر منها ومما بعدها. ومن لم يثبت معنى التفسير، لأن جعلها هنا زائدة، وهم الكوفيون.
{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} وقيل: أم هنا بمعنى: بل، والمعنى بل كنتم.


وأم تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية. انتهى ما ذكره. ولم أقف لأحد من النحويين على أن أم يستفهم بها في صدر الكلام. وأين ذلك؟ وإذا صح النقل فلا مدفع فيه ولا مطعن. وحكى الطبري أن أم يستفهم بها في وسط كلام قد تقدم صدره، وهذا منه. ومنه: {أم يقولون افتراه} (يونس: 38) (هود: 13) (هود: 35) . انتهى، وهذا أيضاً قول غريب. وتلخص أن أم هنا فيها ثلاثة أقوال: المشهور أنها هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة. الثاني:} أنها للإضراب فقط، بمعنى بل. الثالث بمعنى همزة الاستفهام فقط.
فالآية منافية لقولهم، فيكف يقال لهم: {أم كنتم شهداء} ؟ ولكن الوجه أن تكون أم متصلة، على أن يقدر قبلها محذوف، كأنه قيل: أتدعون على الأنبياء اليهودية؟ {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت} ؟ يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له، إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الإسلام، فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه برآء؟ انتهى كلامه. وملخصه: أنه جعل أم متصلة، وأنه حذف قبلها ما يعادلها، ولا نعلم أحداً أجاز حذف هذه الجملة، ولا يحفظ ذلك، لا في شعر ولا غيره، فلا يجوز: أم زيد؟ وأنت تريد: أقام عمرو أم زيد؟ ولا أم قام خالد؟ وأنت تريد: أخرج زيد؟ أم قام خالد؟ والسبب في أنه لا يجوز الحذف. إن الكلام في معنى: أي الأمرين وقع؟ فهي في الحقيقة جملة واحدة. وإما يحذف المعطوف عليه ويبقى المعطوف مع الواو والفاء، إذا دل على ذلك دليل نحو قولك: بلى وعمراً، جواباً لمن قال: ألم تضرب زيداً؟ ونحو قوله تعالى: {أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت} (البقرة: 60) ، أي فضرب فانفجرت. وندر حذف المعطوف عليه مع أو، نحو قوله:

فهل لك أو من والد لك قبلنا
أراد: فهل لك من أخ أو من والد؟ ومع حتى على نظر فيه في قوله:
فيا عجباً حتى كليب تسبني
أي: يسبني الناس حتى كليب، لكن الذي سمع من كلام العرب حذف أم المتصلة مع المعطوف، قال:


دعاني إليها القلب إني لأمرها
سميع فما أدري أرشد طلابها
يريد: أم غير رشد، فحذف لدلالة الكلام عليه، وإنما جاز ذلك لأن المستفهم عن الإثبات يتضمن نقيضه. فالمعنى: أقام زيد أم لم يقم، ولذلك صلح الجواب أن يكون بنعم وبلا، فلذلك جاز ذلك في البيت في قوله: أرشد طلابها، أي أم غير رشد. ويجوز حذف الثواني المقابلات إذا دل عليها المعنى. ألا ترى إلى قوله: {تقيكم الحر} (النحل: 81) ، كيف حذف والبرد؟ إذ حضر العامل في إذ شهداء، وذلك على جهة الظرف، لا على جهة المفعول، كأنه قيل: حاضري كلامه في وقت حضور الموت.
{إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ} ، إذ: بدل من إذ في قوله: {إذ حضر} ، فالعامل فيه إما شهداء العاملة في إذ الأولى على قول من زعم أن العامل في البدل العامل في المبدل منه، وإما شهداء مكررة على قول من زعم أن البدل على تكرار العامل. وزعم القفال أن إذ وقت للحضور، فالعامل فيه حضر، وهو يؤول إلى اتحاد الظرفين، وإن اختلف عاملهما.
{مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى} ما: استفهام عما لا يعقل، وهو اسم تام منصوب بالفعل بعده. فعلى قول من زعم أن ما مبهمة في كل شيء، يكون هنا يقع على من يعقل وما لا يعقل.


{قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَآئِكَ إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ} : هذه قراءة الجمهور. وقرأ أبي: وإله إبراهيم، بإسقاط آبائك. وقرأ ابن عباس، والحسن، وابن يعمر، والجحدري، وأبو رجاء: وإله أبيك. فأما على قراءة الجمهور، فإبراهيم وما بعده بدل من آبائك، أو عطف بيان. وإذا كان بدلاً، فهو من البدل التفصيلي، ولو قرىء فيه بالقطع، لكان ذلك جائزاً. وأجاز المهدوي أن يكون إبراهيم وما بعده منصوباً على إضمار، أعني: وأما قراءة أبيّ فظاهرة، وأما على قراءة ابن عباس، ومن ذكر معه، فالظاهر أن لفظ أبيك أريد به الإفراد ويكون إبراهيم بدلاً منه، أو عطف بيان. وقيل: هو جمع سقطت منه النون للإضافة، فقد جمع أب على أبين نصباً وجراً، وأبون رفعاً، حكى ذلك سيبويه، وقال الشاعر:
فلما تبين أصواتنا
بكين وفدّيننا بالأبينا
وعلى هذا الوجه يكون إعراب إبراهيم مثل إعرابه حين كان جمع تكسير.

{إِلَهًا وَاحِدًا} : يجوز أن يكون بدلاً، وهو بدل نكرة موصوفة من معرفة، ويجوز أن يكون حالاً، ويكون حالاً موطئة نحو: رأيتك رجلاً صالحاً. فالمقصود إنما هو الوصف، وجيء باسم الذات توطئة للوصف. وجوّز الزمخشري أن ينتصب على الاختصاص، أي يريد بإلهك إلهاً واحداً. وقد نص النحويون على أن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهماً. وفائدة هذه الحال، أو البدل، هو التنصيص على أن معبودهم واحد فرد، إذ قد توهم إضافة الشيء إلى كثيرين تعداد ذلك المضاف، فنهض بهذه الحال أو البدل على نفي ذلك الإيهام.


{وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} : وأجاز بعضهم أن تكون الجملة حالية من الضمير في {نعبد} ، والأول أبلغ، وهو أن تكون الجملة معطوفة على قوله: {نعبد} ، فيكون أحد شقي الجواب. وأجاز الزمخشري أن تكون جملة اعتراضية مؤكدة، أي: ومن حالنا أنا نحن له مسلمون مخلصون التوحيد أو مذعنون. والذي ذكره النحويون أن جملة الاعتراض هي الجملة التي تفيد تقوية بين جزأي موصول وصلة، نحو قوله:
ماذا ولا عتب في المقدور رمت
إما تخطيك بالنجح أو خسر وتضليل
وقال:
ذاك الذي وأبيك يعرف مالكاً
والحق يدفع ترهات الباطل أو بين جزأي إسناد، نحو قوله:
وقد أدركتني والحوادث جمة
أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل أو بين فعل شرط وجزائه، أو بين قسم وجوابه، أو بين منعوت ونعته، أو ما أشبه ذلك مما بينهما تلازم مّا. وهذه الجملة التي هي قوله: {ونحن له مسلمون} ليست من هذا الباب، لأن قبلها كلاماً مستقلاً، وبعدها كلام مستقل، وهو قوله: {تلك أمّة قد خلت} . لا يقال: إن بين المشار إليه وبين الإخبار عنه تلازم يصح به أن تكون الجملة معترضة، لأن ما قبلها من كلام بني يعقوب، حكاه الله عنهم، وما بعدها من كلام الله تعالى، أخبر عنهم بما أخبر تعالى. والجملة الاعتراضية الواقعة بين متلازمين لا تكون إلا من الناطق بالمتلازمين، يئكد بها ويقوي ما تضمن كلامه. فتبين بهذا كله أن قوله: {ونحن له مسلمون} ليس جملة اعتراضية. وقال ابن عطية: {ونحن له مسلمون} ابتداء وخبر، أي: كذلك كنا ونحن نكون. ويحتمل أن يكون في موضع الحال. والعامل {نعبد} والتأويل الأول أمدح. انتهى كلامه. ويظهر منه أنه جعل الجملة معطوفة على جملة محذوفة، وهي قوله: كذلك كنا، ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار، لأنه يصح عطفها على {نعبد إلهك} ، كما ذكرناه وقررناه قبل. ومتى أمكن حمل الكلام على غير إضمار، مع صحة المعنى، كان أولى من حمله على الإضمار.


{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} والجملة من قوله: قد خلت، صفة لأمّة.
{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم} : وظاهر ما أنها موصولة وحذف العائد، أي لها ما كسبته. وجوّزوا أن تكون ما مصدرية، أي لها كسبها، وكذلك ما في قوله: {ولكم ما كسبتم} . ويجوز أن تكون الجملة من قوله: {لها ما كسبت} استئنافاً، ويجوز أن تكون جملة خالية من الضمير في خلت، أي انقضت مستقراً ثابتاً، لها ما كسبت. والأظهر الأول، لعطف قوله: {ولكم ما كسبتم} على قوله: {لها ما كسبت} . ولا يصح أن يكون {ولكم ما كسبتم} عطفاً على جملة الحال قبلها، لاختلاف زمان استقرار كسبها لها. وزمان استقرار كسب المخاطبين، وعطف الحال على الحال، يوجب اتحاد الزمان.
{قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَهِيمَ} قرأ الجمهور: بنصب ملة بإضمار فعل. إما على المفعول، أي بل نتبع ملة، لأن معنى قوله: {كونوا هوداً أو نصارى} : اتبعوا اليهودية أو النصرانية. وإما على أنه خبر كان، أي بل تكون ملة إبراهيم، أي أهل ملة إبراهيم، كما قال عدي بن حاتم: إني من دين، أي من أهل دين، قاله الزجاج. وإما على أنه منصوب على الإعراء، أي الزموا ملة إبراهيم، قاله أبو عبيد. وإما على أنه منصوب على إسقاط الخافض، أي نقتدي ملة، أي بملة.
وقرأ ابن هرمز الأعرج، وابن أبي عبلة: {بل ملة إبراهيم} ، برفع ملة، وهو خبر مبتدأ محذوف، أي بل الهدى ملة، أو أمرنا ملته، أو نحن ملته، أي أهل ملته، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي بل ملة إبراهيم حنيفاً ملتنا.


{حَنِيفًا} : ذكروا أنه منصوب على الحال من إبراهيم، أي في حال حنيفيته، قاله المهدوي وابن عطية والزمخشري وغيرهم. قال الزمخشري: كقولك رأيت وجه هند قائمة، وأنه منصوب بإضمار فعل، حكاه ابن عطية. وقال: لأن الحال تعلق من المضاف إليه. انتهى. وتقدير الفعل نتبع حنيفاً، وأنه منصوب على القطع، حكاه السجاوندي، وهو تخريج كوفي، لأن النصب على القطع إنما هو مذهب الكوفيين. وقد تقدم لنا الكلام فيه، واختلاف الفراء والكسائي، فكان التقدير: بل ملة إبراهيم الحنيف، فلما نكره، لم يمكن اتباعه إياه، فنصبه على القطع. أما الحال من المضاف إليه، إذا كان المضاف غير عامل في المضاف إليه قبل الإضافة، فنحن لا نجيزه، سواء كان جزءاً مما أضيف إليه، أو كالجزء، أو غير ذلك. وقد أمعنا الكلام على ذلك في كتاب «منهج المسالك» من تأليفنا. وأما النصب على القطع، فقد ردّ هذا الأصل البصريون. وأما إضمار الفعل فهو قريب، ويمكن أن يكون منصوباً على الحال من المضاف، وذكر {حنيفاً} ولم يؤنث لتأنيث {ملة} ، لأنه حمل على المعنى، لأن الملة هي الدين، فكأنه قيل: نتبع دين إبراهيم حنيفاً. وعلى هذا خرجه هبة الله بن الشجري في المجلس الثالث من أماليه. قال: قيل إن حنيفاً حال من إبراهيم، وأوجه من ذلك عندي أن يجعله حالاً من الملة، وإن خالفها بالتذكير، لأن الملة في معنى الدين. ألا ترى أنها قد أبدلت من الدين في قوله جل وعز: {ديناً قيماً ملة إبراهيم} (الأنعام: 161) ؟ فإذا جعلت حنيفاً حالاً من الملة، فالناصب له هو الناصب للملة، وتقديره: بل نتبع ملة إبراهيم حنيفاً، وإنما ضعف الحال من المضاف إليه، لأن العامل في الحال ينبغي أن يكون هو العامل في ذي الحال. انتهى كلامه. وتكون حالاً لازمة، لأن دين إبراهيم لم ينفك عن الحنيفية، وكذلك يلزم من جعل حنيفاً} حالاً من إبراهيم أن يكون حالاً لازمة، لأن إبراهيم لم ينفك عن الحنيفية.


{وَمَآ أُوتِىَ مُوسَى} : ظاهره العطف على ما قبله من المجرورات المتعلقة بالإيمان، وجوّزوا أن يكون: {وما أوتي موسى وعيسى} في موضع رفع بالابتداء، وما أوتي الثانية عطف على ما أوتي، فيكون في موضع رفع. والخبر في قوله {من ربهم} ، أو لا نفرق، أو يكون: {وما أوتي موسى وعيسى} معطوفاً على المجرور قبله، {وما أوتي النبيون} رفع على الابتداء، و {من ربهم} الخبر، أو لا نفرق هو الخبر. والظاهر أن من ربهم في موضع نصب، ومن لابتداء الغاية، فتتعلق بما أوتي الثانية، أو بما أوتي الأولى، وتكون الثانية توكيداً. ألا ترى إلى سقوطها في آل عمران في قوله: {وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم} (84) ؟ ويجوز أن يكون في موضع حال من الضمير العائد على الموصول، فتتعلق بمحذوف، أي وما أوتيه النبيون كائناً من ربهم.
{بِمِثْلِ مَآءَامَنتُمْ بِهِ} وأما قراءة الجمهور، فخرجت الباء على الزيادة، والتقدير: إيماناً مثل إيمانكم، كما زيدت في قوله: {وهزّي إليك بجذع النخلة} (مريم: 25) .
وسود المحاجر لا يقرأن بالسور
{ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} (البقرة: 195) ، وتكون ما مصدرية. وقيل: ليست بزائدة، وهي بمعنى على، أي فإن آمنوا على مثل ما آمنتم به، وكون الباء بمعنى على، قد قيل به، وممن قال به ابن مالك، قال ذلك في قوله تعالى: من إن تأمنه بقنطار} (آل عمران: 75) ، أي على قنطار. وقيل: هي للاستعانة، كقولك: عملت بالقدوم، وكتبت بالقلم، أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم، وذلك فرار من زيادة الباء، لأنه ليس من أماكن زيادة الباء قياساً.
{وَنَحْنُ لَهُ} ، وهو الله تعالى. وقيل: يعود على ما، وتكون إذ ذاك موصولة. وأما مثل، فقيل: زائدة، والتقدير: فإن آمنوا بما آمنتم به، قالوا: كهي في قوله: {ليس كمثله شيء} (الشورى: 11) ، أي ليس كهو شيء، وكقوله:
فصيروا مثل كعصف مأكول
وكقوله:
يا عاذلي دعني من عذلكا
مثلي لا يقبل من مثلكها
وقيل: ليست بزائدة.


وجواب الشرط قوله: {فقد اهتدوا} ، وليس الجواب محذوفاً، كهو في قوله: {وإن يكذبوك فقد كذبت رسل} (فاطر: 4) .
{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} وقرأ الجمهور: صبغة الله بالنصب، ومن قرأ برفع ملة، قرأ برفع صبغة، قاله الطبري. وقد تقدّم أن تلك قراءة الأعرج وابن أبي عبلة. فأما النصب، فوجه على أوجه، أظهرها أنه منصوب انتصاب المصدر المؤكد عن قوله: {قولوا آمنا بالله} .

وقيل: عن قوله: {ونحن له مسلمون. وقيل: عن قوله: فقد اهتدوا وقيل: هو نصب على الإغراء، أي الزموا صبغة الله. وقيل: بدل من قوله: ملة إبراهيم، أما الإغراء فتنافره آخر الآية وهو قوله: ونحن له عابدون، إلا إن قدر هناك قول، وهو إضمار، لا حاجة تدعو إليه، ولا دليل من الكلام عليه. وأما البدل، فهو بعيد، وقد طال بين المبدل ومنه والبدل بجمل، ومثل ذلك لا يجوز. والأحسن أن يكون منتصباً انتصاب المصدر المؤكد عن قوله: قولوا آمنا.
ونظير نصب هذا المصدر نصب قوله: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} (النمل: 88) ، إذ قبله: وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب} (النمل: 88) ، معناه: صنع الله ذلك صنعه، وإنما جيء بلفظ الصبغة على طريق المشاكلة، كما تقول لرجل يغرس الأشجار: اغرس كما يغرس فلان، يريد رجلاً يصطنع الكرم. وأما قراءة الرفع، فذلك خبر مبتدأ محذوف، أي ذلك الإيمان صبغة الله.
{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} : وانتصاب صبغة هنا على التمييز، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ. وقد ذكرنا أن ذلك غريب، أعني نص النحويين على أن من التمييز المنقول تمييزاً نقل من المبتدأ، والتقدير: ومن صبغته أحسن من صبغة الله. فالتفضيل إنما يجري بين الصبغتين، لا بين الصابغين.


{وَنَحْنُ لَهُ عَبِدونَ} : متصل بقوله: {آمنا بالله} ، ومعطوف عليه. قال الزمخشري: وهذا العطف يرد قول من زعم أن صبغة الله بدل من ملة، أو نصب على الإغراء، بمعنى: عليكم صبغة الله، لما فيه من فك النظم وإخراج الكلام عن التئامه واتساقه. وانتصابها يعني: صبغة الله على أنها مصدر مؤكد، هو الذي ذكره سيبويه، والقول ما قالت حذام. انتهى. وتقديره: في الإغراء عليكم صبغة الله ليس بجيد، لأن الإغراء، إذا كان بالظرف والمجرور، لا يجوز حذف ذلك الظرف ولا المجرور، ولذلك حين ذكرنا وجه الإغراء قدرناه بالزموا صبغة الله.
{وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} جملة حالية.
{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَهِيمَ وَإِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى} : قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص: أم تقولون بالتاء، وقرأ الباقون بالياء. فأما قراءة التاء، فيحتمل أم فيه وجهين. أحدهما: أن تكون فيه أم متصلة، فالاستفهام عن وقوع أحد هذين الأمرين: المحاجة في الله، والادعاء على إبراهيم ومن ذكر معه، أنهم كانوا يهوداً ونصارى، وهو استفهام صحبه الإنكار والتقريع والتوبيخ، لأن كلاً من المستفهم عنه ليس بصحيح. الوجه الثاني: أن تكون أم فيه منقطعة، فتقدّر ببل والهمزة، التقدير: بل أتقولون، فأضرب عن الجملة السابقة، وانتقل إلى الاستفهام عن هذه الجملة اللاحقة، على سبيل الإنكار أيضاً.

وقال الزمخشري: وفيمن قرأ بالياء، لا تكون إلا منقطعة. انتهى.
والأحسن أن تكون أم في القراءتين معاً منقطعة.
والقول في أو في قوله: {هوداً أو نصارى} ، قد تقدّم في قوله: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى} (البقرة: 111) . وقوله: كونوا هوداً أو نصارى} (البقرة: 135) ، وأنها للتفضيل، أي قالت اليهود: هم يهود، وقالت النصارى: هم نصارى.


{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَدَةً عِندَهُ مِنَ اللَّهِ} : من الله: يحتمل أن تكون من متعلقة بلفظ كتم، ويكون على حذف مضاف، أي كتم من عباد الله شهادة عنده.
ويحتمل أن تكون من متعلقة بالعامل في الظرف، إذ الظرف في موضع الصفة، والتقدير: شهادة كائنة عنده من الله.
وهو قوله {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه} (آل عمران: 187) الآية. وقال ابن عطية في هذا الوجه: فمن على هذا متعلقة بعنده، والتحرير ما ذكرناه أن العامل في الظرف هو الذي يتعلق به الجار والمجرور، ونسبة التعلق إلى الظرف مجاز.
ومن في قوله: شهادة من الله، مثلها في قولك: هذه شهادة مني لفلان، إذا شهدت له، ومثله: {براءة من الله ورسوله} (التوبة: 1) . انتهى. فظاهر كلامه: أن من الله في موضع الصفة لشهادة، أي كائنة من الله، وهو وجه ثالث في العامل في من. والفرق بينه وبين ما قبله: أن العامل في الوجه قبله في الظرف والجار والمجرور واحد، وفي هذا الوجه اثنان، وكان جعل من معمولاً للعامل في الظرف، أو في موضع الصفة لشهادة، أحسن من تعلق من بكتم.


{سَيَقُولُ السُّفَهَآءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ * قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ * وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ بِكُلِّءَايَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّلِمِينَ * الَّذِينَ آتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ


الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِى وَلاٌّتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَبَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ * يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّبِرِينَ * وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأٌّمَوَالِ وَالأٌّنفُسِ وَالثَّمَرَتِ وَبَشِّرِ الصَّبِرِينَ * الَّذِينَ إِذَآ أَصَبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَتٌ مِّن رَّبهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .


أما وسط، بسكون السين، فهو ظرف المكان، وله أحكام مذكورة في النحو. وأضاع الرجل الشيء: أهمله ولم يحفظه، والهمزة فيه للنقل من ضاع يضيع ضياعاً، وضاع المسك يضوع: فاح. الانقلاب: الانصراف والارتجاع، وهو للمطاوعة، قلبته فانقلب. عقب الرجل: معروف، والعقب: النسل، ويقال: عقب، بسكون القاف. الرأفة والرحمة: متقاربان في المعنى. وقيل: الرأفة أشد الرحمة، واسم الفاعل جاء للمبالغة على فعول، كضروب، وجاء على فعل، كحذر، وجاء على فعل، كندس، وجاء على فعل، كصعب. التقلب: التردّد، وهو للمطاوعة، قلبته فتقلب. الشطر: النصف، والجزء من الشيء والجهة.
{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} قال قوم، منهم المازني والمبرد والفارسي: إن وجهة اسم للمكان المتوجه إليه، فعلى هذا يكون إثبات الواو أصلاً، إذ هو اسم غير مصدر. قال سيبويه: ولو بنيت فعلة من الوعد لقلت وعدة، ولو بنيت مصدراً لقلت عدة. وذهب قوم، منهم المازني، فيما نقل المهدوي إلى أنه مصدر، وهو الذي يظهر من كلام سيبويه. قال، بعد ما ذكر حذف الواو من المصادر، وقد أثبتوا فقالوا: وجهة في الجهة، فعلى هذا يكون إثبات الواو شاذاً، منبهة على الأصل المتروك في المصادر. والذي سوّغ عندي إقرار الواو، وإن كان مصدراً، أنه مصدر ليس بجار على فعله، إذ لا يحفظ وجه يجه، فيكون المصدر جهة. قالوا: وعد يعد عدة، إذ الموجب لحذف الواو من عدة هو الحمل على المضارع، لأن حذفها في المضارع لعلة مفقودة في المصدر. ولما فقد يجه، ولم يسمع، لم يحذف من وجهة، وإن كان مصدراً، لأنه ليس مصدراً ليجه، وإنما هو مصدر على حذف الزوائد، لأن الفعل منه: توجه واتجه. فالمصدر الجاري هو التوجه والاتجاه، وإطلاقه على المكان المتوجه إليه هو من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول.
{يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ} تقدم أن هدى يتعدى باللام وبإلى وبنفسه، وهنا عدي بإلى.


{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} : الكاف: للتشبيه، وذلك: اسم إشارة، والكاف في موضع نصب، إما لكونه نعتاً لمصدر محذوف، وإما لكونه حالاً. والمعنى: وجعلناكم أمة وسطاً جعلاً مثل ذلك، والإشارة بذلك ليس إلى ملفوظ به متقدم، إذ لم يتقدم في الجملة السابقة اسم يشار إليه بذلك، لكن تقدم لفظ يهدي، وهو دال على المصدر، وهو الهدى.
{لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} تكون على بمعنى اللام، كقوله: {وما ذبح على النصب} (المائدة: 3) ، أي للنصب. وقيل: معناه ليكون إجماعكم حجة، ويكون الرسول عليكم شهيداً، أي محتجاً بالتبليغ.

واللام في قوله: {لتكونوا} هي، لام كي، أو لام الصيروة عند من يرى ذلك، فمجيء ما بعدها سبباً لجعلهم خياراً، أو عدولاً ظاهراً. وأما كون شهادة الرسول عليهم سبباً لجعلهم خياراً، فظاهر أيضاً، لأنه إن كانت الشهادة بمعنى التزكية، أو بأي معنى فسرت شهادته، ففي ذلك الشرف التامّ لهم، حيث كان أشرف المخلوقات هو الشاهد عليهم. ولما كان الشهيد كالرقيب على المشهود له، جيء بكلمة على، وتأخر حرف الجر في قوله: {على الناس} ، عما يتعلق به. جاء ذلك على الأصل، إذ العامل أصله أن يتقدّم على المعمول. وأما في قوله: {عليكم شهيداً} فتقدّمه من باب الاتساع في الكلام للفصاحة، ولأن شهيداً أشبه بالفواصل والمقاطع من قوله: عليكم، فكان قوله: شهيداً، تمام الجملة، ومقطعها دون عليكم. وما ذهب إليه الزمخشري من أن تقديم على أوّلاً، لأن الغرض فيه إثبات شهادتهم على الأمم؛ وتأخير على: لاختصاصهم يكون الرسول شهيداً عليهم، فهو مبني على مذهبه: أن تقديم المفعول والمجرور يدل على الاختصاص. وقد ذكرنا بطلان ذلك فيما تقدم، وأن ذلك دعوى لا يقوم عليها برهان.


{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} : جعل هنا: بمعنى صير، فيتعدى لمفعولين: أحدهما {القبلة} ، والآخر {التي كنت عليها} . والمعنى: وما صيرنا قبلتك الآن الجهة التي كنت أوّلاً عليها إلا لنعلم، أي ما صيرنا متوجهك الآن في الصلاة المتوجه أوّلاً، لأنه كان يصلي أولاً إلى الكعبة، ثم صلى إلى بيت المقدس، ثم صار يصلي إلى الكعبة. وتكون {القبلة} : هو المفعول الثاني، {التي كنت عليها} : هو المفعول الأول، إذ التصيير هو الانتقال من حال إلى حال. فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول، والمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني. ألا ترى أنك تقول: جعلت الطين خزفاً، وجعلت الجاهل عالماً؟ والمعنى هنا على هذا التقدير: وما جعلنا الكعبة التي كانت قبلة لك أولاً، ثم صرفت عنها إلى بيت المقدس، قبلتك الآن إلا لنعلم. ووهم الزمخشري في ذلك، فزعم أن {التي كنت عليها} : هو المفعول الثاني لجعل، قال: التي كنت عليها ليس بصفة للقبلة، إنما هي ثاني مفعولي جعل. تريد: وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها، وهي الكعبة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان يصلي بمكة إلى الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة، تألفاً لليهود، ثم حوّل إلى الكعبة، فيقول: وما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولاً بمكة، يعني: وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس وابتلاءً، انتهى ما ذكره.


وقد أوضحنا أن {التي كنت عليها} : هو المفعول الأول. وقيل: هذا بيان لحكمة جعل بيت المقدس قبلة. والمعنى: وما جعلنا متوجهك بيت المقدس إلا لنعلم، فيكون ذلك على معنى: أن استقبالك بيت المقدس هو أمر عارض، ليتميز به الثابت على دينه من المرتدّ. وكل واحد من الكعبة وبيت المقدس صالح بأن يوصف بقوله: {التي كنت عليها} ، لأنه قد كان متوجهاً إليهما في وقتين. وقيل: التي كنت عليها صفة للقبلة، وعلى هذا التقدير اختلفوا في المفعول الثاني، فقيل: تقديره: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة إلا لنعلم. وقيل: التقدير: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة إلا لنعم. وقيل: ذلك على حذف مضاف، أي وما جعلنا صرف القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم، ويكون المفعول الثاني على هذا قوله: لنعلم، كما تقول: ضرب زيد للتأديب، أي كائن وموجود للتأديب، أي بسبب التأديب. وعلى كون التي صفة، يحتمل أن يراد بالقبلة: الكعبة، ويحتمل أن يراد بيت المقدس، إذ كل منهما متصف بأنه كان عليه. وقال ابن عباس: القبلة في الآية: الكعبة، وكنت بمعنى: أنت، كقوله تعالى: {كنتم خير أمّة} (آل عمران: 110) } بمعنى: أنتم. انتهى. وهذا من ابن عباس، إن صح تفسير معنى، لا تفسير إعراب، لأنه يؤول إلى زيادة كان الرافعة للاسم والناصبة للخبر، وهذا لم يذهب إليه أحد. وإنما تفسير الإعراب على هذا التقدير، ما نقله النحويون، أن كان تكون بمعنى صار، ومن صار إلى شيء واتصف به، صح من حيث المعنى نسبة ذلك الشيء إليه. فإذا قلت: صرت عالماً، صح أن تقول: أنت عالم، لأنك تخبر عنه بشيء هو فيه. فتفسير ابن عباس: كنت بأنت، هو من هذا القبيل، فهو تفسير معنى، لا تفسير إعراب. وكذلك من صار خير أمّة، صح أن يقال فيه: أنتم خير أمّة.


{إِلاَّ لِنَعْلَمَ} : استثناء مفرّغ من المفعول له، وفيه حصر السبب، أي ما سبب تحويل القبلة إلا كذا. أو نعلم هنا متعدّ إلى واحد، وهو الموصول، فهو في موضع نصب، والفعل بعده صلته. وقال بعض الناس: نعلم هنا متعلقة، كما تقول: علمت أزيد في الدر أم عمرو، حكاه الزمخشري. وعلى هذا القول تكون من استفهامية في موضع رفع على الابتداء، ويتبع في موضع الجر، والجملة في موضع المفعول بنعلم. وقد ردّ هذا الوجه من الإعراب بأنه إذا علق نعلم، لم يبق لقوله: {ممن ينقلب} ، ما يتعلق به، لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلق بما قبله، ولا يصح تعلقها بقوله: {يتبع} ، الذي هو خبر عن من الاستفهامية، لأن المعنى ليس على ذلك، وإنما المعنى على أن يتعلق بنعلم، كقولك: علمت من أحسن إليك ممن أساء. وهذا يقوي أنه أريد بالعلم الفصل والتمييز، إذ العلم لا يتعدى بمن إلا إذا أريد به التمييز، لأن التمييز هو الذي يتعدى بمن. وقرأ الزهري: ليعلم، على بناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله، وهذا لا يحتاج إلى تأويل، إذ الفاعل قد يكون غير الله تعالى، فحذف وبنى الفعل للمفعول، وعلم غير الله تعالى حادث، فيصح تعليل الجعل بالعلم الحادث، وكان التقدير: ليعلم الرسول والمؤمنون.

{وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} : اسم كانت مضمر يعود على التولية عن البيت المقدس إلى الكعبة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، وتحريره من جهة علم العربية أنه عائد على المصدر المفهوم من قوله: {وما جعلنا القبلة} ، أي وإن كانت الجعلة لكبيرة، أو يعود على القبلة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلّميتوجه إليها، وهي بيت المقدس، قبل التحويل، قاله أبو العالية والأخفش. وقيل: يعود على الصلاة التي صلوها إلى بيت المقدس.


{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ} : تقدّم حديث البراء، وتقدّم ذكر الخلاف في هذه الآية. وقوله: {سيقول السفهاء} : أيهما نزل قبل؟ ونرى هنا مضارع بمعنى الماضي، وقد ذكر بعض النحويين أن مما يصرف المضارع إلى الماضي قد، في بعض المواضع، ومنه: {قد يعلم ما أنتم عليه} (النور: 64) } ، {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك} (الحجر: 97) } ، {قد يعلم الله المعوقين منكم} (الأحزاب: 18) } . وقال الشاعر:
لعمري لقوم قد نرى أمس فيهم
مرابط للأمهار والعكر الدثر
قال الزمخشري: قد نرى: ربما نرى، ومعناه: كثرة الرؤية، كقوله:
قد أترك القرن مصفراً أنامله
انتهى. وشرحه هذا على التحقيق متضادّ، لأنه شرح قد نرى بربما نرى. ورب، على مذهب المحققين من النحويين، إنما تكون لتقليل الشيء في نفسه، أو لتقليل نظيره. ثم قال: ومعناه كثرة الرؤية، فهو مضادّ لمدلول رب على مذهب الجمهور. ثم هذا المعنى الذي ادّعاه، وهو كثرة الرؤية، لا يدل عليه اللفظ، لأنه لم يوضع لمعنى الكثرة. هذا التركيب، أعني تركيب قد مع المضارع المراد منه الماضي، ولا غير المضي، وإنما فهمت الكثرة من متعلق الرؤية، وهو التقلب، لأن من رفع بصره إلى السماء مرة واحدة، لا يقال فيه: قلب بصره في السماء، وإنما يقال: قلب إذا ردّد. فالتكثير، إنما فهم من التقلب الذي هو مطاوع التقليب، نحو: قطعته فتقطع، وكسرته فتكسر، وما طاوع التكثير ففيه التكثير.
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآءِ} وهو من الكناية بالكل عن الجزء، ولا يحسن أن يقال: إنه على حذف مضاف، ويكون التقدير بصر وجهك، لأن هذا لا يكاد يستعمل، إنما يقال: بصرك وعينك وأنفك؛ لا يكاد يقال: أنف وجهك، ولا خد وجهك. {في السماء} : متعلق بالمصدر، وهو تقلب، وهو يتعدى بفي، فهي على ظاهرها.


{فلنولينك قبلة ترضاها:} هذا يدل على أن في الجملة السابقة حالاً محذوفة، التقدير: قد نرى تقلب وجهك في السماء طالباً قبلة غير التي أنت مستقبلها. وجاء هذا الوعد على إضمار قسم مبالغة في وقوعه، لأن القسم يؤكد مضمون الجملة المقسم عليها.

{وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ} : هذا عموم في الأماكن التي يحلها الإنسان، أيّ في موضع كنتم، وهو شرط وجزاء، والفاء جواب الشرط، وكنتم في موضع جزم. وحيث: هي ظرف مكان مضافة إلى الجملة، فهي مقتضية، الخفض بعدها، وما اقتضى الخفض لا يقتضي الجزم، لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال، والإضافة موضحة لما أضيف، كما أن الصلة موضحة فينا في اسم الشرط، لأن الشرط مبهم. فإذا وصلت بما زال منها معنى الإضافة، وضمنت معنى الشرط، وجوزي بها، وصارت إذ ذاك من عوامل الأفعال. وقد تقدم لنا ما شرط في المجازاة بها، وخلاف الفراء في ذلك.
{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ} {من ربهم} : جار ومجرور في موضع الحال، أي ثابتاً من ربهم.


{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ بِكُلِّءَايَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} واللام في: ولئن، هي التي تؤذن بقسم محذوف متقدم. فقد اجتمع القسم المتقدّم المحذوف، والشرط متأخر عنه، فالجواب للقسم وهو قوله: {ما تبعوا} ، ولذلك لم تدخله الفاء. وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، وهو منفي بما ماضي الفعل مستقبل. المعنى: أي ما يتبعون قبلتك، لأن الشرط قيد في الجملة، والشرط مستقبل، فوجب أن يكون مضمون الجملة مستقبلاً، ضرورة أن المستقبل لا يكون شرطاً في الماضي. ونظير هذا التركيب في المثبت قوله تعالى: {ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا من بعده يكفرون} (الروم: 51) } ، التقدير: ليظلنّ أوقع الماضي المقرون باللام جواباً للقسم المحذوف، ولذلك دخلت عليه اللام موقع المستقبل، فهو ماضٍ من حيث اللفظ، مستقبل من حيث المعنى، لأن الشرط قيد فيه، كما ذكرنا. وجواب الشرط في الآيتين محذوف، سد مسده جواب القسم، ولذلك أتى فعل الشرط ماضياً في اللفظ، لأنه إذا كان الجواب محذوفاً، وجب مضي فعل الشرط لفظاً، إلا في ضرورة الشعر، فقد يأتي مضارعاً. وذهب الفرّاء إلى أن إن هنا بمعنى لو، ولذلك كانت ما في الجواب، فجعل ما تبعوا جواباً لإن، لأن إن بمعنى لو، فكما أن لو تجاب بما، كذلك أجيبت إن التي بمعنى لو، وإن كان إن إذا لم يكن بمعنى لو، لم يكن جوابها مصدراً بما، بل لا بد من الفاء. تقول: إن تزرني فما أزورك، ولا يجوز: ما أزورك. وعلى هذا يكون جواب القسم محذوفاً لدلالة جواب إن عليه. وهذا الذي قاله الفرّاء هو بناء على مذهبه أن القسم إذا تقدّم على الشرط، جاز أن يكون الجواب للشرط دون القسم. وليس هذا مذهب البصريين، بل الجواب يكون للقسم بشرطه المذكور في النحو. واستعمال إن بمعنى لو قليل، فلا ينبغي أن يحمل على ذلك، إذا ساغ إقرارها على أصل وضعها. وقال ابن عطية: وجاء جواب لئن كجواب لو، وهي ضدها في أن لو تطلب المضي


والوقوع، وإن تطلب الاستقبال، لأنهما جميعاً يترتب قبلهما القسم. فالجواب إنما هو للقسم، لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر، هذا قول سيبويه. انتهى كلامه.

وهذا الكلام فيه تثبيج وعدم نص على المراد، لأن أوله يقتضي أن الجواب لإن، وقوله بعد: فالجواب إنما هو للقسم، يدل على أن الجواب ليس لإن، والتعليل بعد بقوله، لأن أحد الحرفين يقع موقع الآخر، لا يصلح أن يعلل به قوله: فالجواب إنما هو للقسم، بل يصح أن يكون تعليلاً، لأن الجواب لإن، وأجريت في ذلك مجرى لو. وأما قوله: هذا قول سيبويه، فليس في كتاب سيبويه، إلا أن ما تبعوا جواب القسم، ووضع فيه الماضي موضع المستقبل. قال سيبويه: وقالوا لئن فعلت ما فعل، يريد معنى ما هو فاعل وما يفعل. وقال أيضاً. وقال تعالى: {ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده} (فاطر: 41) } : أي ما يمسكهما. وقال بعض الناس: كل واحدة من: لئن ولو، تقوم مقام الأخرى، ويجاب بما يجاب به، ومنه: {ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا} (الروم: 51) } ، لأن معناه: ولو أرسلنا ريحاً. وكذلك لو يجاب جواب لئن، كقولك: لو أحسنت إليّ أحسن إليك، هذا قول الأخفش والفرّاء والزّجاج. وقال سيبويه: لا يجاب إحداهما بجواب الأخرى، لأن معناهما مختلف، وقدر الفعل الماضي الذي وقع بعد لئن بمعنى الاستقبال، تقديره: لا يتبعون، وليظلن. انتهى كلامه.
وتلخص من هذا كله أن في قوله: {ما تبعوا} قولين: أحدهما: أنها جواب قسم محذوف، وهو قول سيبويه. والثاني: أن ذلك جواب إن لإجرائها مجرى لو، وهو قول الأخفش والفراء والزجاج.
{وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} . هذه الجملة أبلغ في النفي من حيث كانت اسمية تكرر فيها الاسم مرتين، ومن حيث أكد النفي بالباء في قوله: {بتابع} ، وهي مستأنفة معطوفة على الكلام قبلها، لا على الجواب وحده، إذ لا يحل محله، لأن نفي تبعيتهم لقبلته مقيد بشرط لا يصح أن يكون قيداً في نفي تبعيته قبلتهم.


وقرأ بعض القراء: {بتابع قبلتهم} على الإضافة، وكلاهما فصيح، أعني إعمال اسم الفاعل هنا وإضافته، وقد تقدم في أيهما أقيس.

{إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّلِمِينَ} : قد ذكرنا أن هذه الجملة هي جواب القسم المحذوف الذي أذنت بتقديره اللام في لئن، ودل على جواب الشرط، لا يقال: إنه يكون جواباً لهما، لامتناع ذلك لفظاً ومعنى. أما المعنى، فلأن الاقتضاء مختلف. فاقتضاء القسم على أنه لا عمل له فيه، لأن القسم إنما جيء به توكيداً للجملة المقسم عليها، وما جاء على سبيل التوكيد لا يناسب أن يكون عاملاً، واقتضاء الشرط على أنه عامل فيه، فتكون الجملة في موضع جزم، وعمل الشرط لقوة طلبه له. وأما اللفظ، فإن هذه الجملة إذا كانت جواب قسم، لم يحتج إلى مزيد رابط، وإذا كانت جواب شرط، احتاجت لمزيد رابط، وهو الفاء. ولا يجوز أن تكون خالية من الفاء موجودة فيها الفاء، فلذلك امتنع أن يقال إن الجملة جواب للقسم والشرط معاً. ودخلت إذاً بين اسم إن وخبرها لتقرير النسبة التي بينهما، وكان حدها أن تتقدم أو تتأخر. فلم تتقدّم، لأنه سبق قسم وشرط، والجواب هو للقسم. فلو تقدمت، لتوهم أنها لتقرير النسبة التي بين الشرط والجواب المحذوف، ولم يتأخر، لئلا تفوت مناسبة الفواصل وآخر الآي: فتوسطت والنية بها التأخير لتقرير النسبة. وتحرير معنى إذن صعب، وقد اضطرب الناس في معناها، وقد نص سيبويه على أن معناها الجواب والجزاء. واختلف النحويون في فهم كلام سيبويه، وقد أمعنا الكلام في ذلك في كتاب «التكميل» من تأليفنا، والذي تحصل فيها أنها لا تقع ابتداء كلام، بل لا بد أن يسبقها كلام لفظاً أو تقديراً، وما بعدها في اللفظ أو التقدير، وإن كان مسبباً عما قبلها، فهي في ذلك على وجهين: أحدهما: أن تدل على إنشاء الارتباط والشرط، بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها. مثال ذلك أزورك فتقول: إذاً أزورك، فإنما تريد الآن أن تجعل فعله شرطاً لفعلك.


وإنشاء السببية في ثاني حال من ضرورته أن يكون في الجواب، وبالفعلية في زمان مستقبل، وفي هذا الوجه تكون عاملة، ولعملها مذكورة في النحو. الوجه الثاني: أن تكون مؤكدة لجواب ارتبط بمتقدم، أو منبهة على مسبب شروط حصل في الحال، وهي في الحالين غير عاملة، لأن المؤكدات لا يعتمد عليها، والعامل يعتمد عليه، وذلك نحو: إن تأتني إذن آتك، ووالله إذن لأفعلن. فلو أسقطت إذن، لفهم الارتباط. ولما كانت في هذا الوجه غير معتمد عليها، جاز دخولها على الجملة الاسمية الصريحة نحو: أزورك فتقول: إذن أنا أكرمك، وجاز توسطها نحو: أنا إذاً أكرمك، وتأخرها. وإذا تقرر هذا، فجاءت إذاً في الآية مؤكدة للجواب المرتبط بما تقدم.

{يَعْرِفُونَهُ} : جملة في موضع الخبر عن المبتدأ الذي هو {الذين آتيناهم} ، وجوز أن يكون الذين مجروراً على أنه صفة للظالمين، أو على أنه بدل من الظالمين، أو على أنه بدل من {الذين أوتوا الكتاب} في الآية التي قبلها، ومرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم الذين، ومنصوباً على إضمار، أعني: وعلى هذه الأعاريب يكون قوله: {يعرفونه} ، جملة في موضع الحال، إما من المفعول الأول في آتيناهم، أو من الثاني الذي هو الكتاب، لأن في يعرفونه ضميرين يعودان عليهما. والظاهر هو الإعراب الأول، لاستقلال الكلام جملة منعقدة من مبتدأ وخبر.


{كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ} ، الكاف: في موضع نصب، على أنها صفة لمصدر محذوف تقديره عرفاناً مثل عرفانهم. {أبناءهم} : أو في موضع نصب على الحال من ضمير المعرفة المحذوف، كان التقدير: يعرفونه معرفة مماثلة لمعرفة أبنائهم. وظاهر هذا التشبيه أن المعرفة أريد بها معرفة الوجه والصورة، وتشبيهها بمعرفة الأبناء يقوي ذلك، ويقوي أن الضمير عائد على الرسول صلى الله عليه وسلّم حتى تكون المعرفتان تتعلقان بالمحسوس المشاهد، وهو آكد في التشبيه من أن يكون التشبيه وقع بين معرفة متعلقها المعنى، ومعرفة متعلقها المحسوس.
{وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} {وهم يعلمون} : جملة حالية، أي عالمين بأنه حق. ويقرب أن يكون حالاً مؤكدة، لأن لفظ يكتمون الحق يدل على علمه به، لأن الكتم هو إخفاء لما يعلم. وقيل: متعلق العلم هو ما على الكاتم من العقاب، أي وهم يعلمون العقاب المرتب على كاتم الحق، فيكون إذ ذاك حالاً مبينة.


{الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} : قرأ الجمهور: برفع الحق على أنه مبتدأ، والخبر هو من ربك، فيكون المجرور في موضع رفع. أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هو الحق من ربك، والضمير عائد على الحق المكتوم، أي ما كتموه هو الحق من ربك، ويكون المجرور في موضع الحال، أو خبراً بعد خبر. وأبعد من ذهب إلى أنه مبتدأ وخبره محذوف تقديره: الحق من ربك يعرفونه. والألف واللام في الحق للعهد، وهو الحق الذي عليه الرسول، أو الحق الذي كتموه، أو للجنس على معنى: أن الحق هو من الله، لا من غيره، أي ما ثبت أنه حق فهو من الله، كالذي عليه الرسول، وما لم تثبت حقيقته، فليس من الله، كالباطل الذي عليه أهل الكتاب. وقرأ علي بن أبي طالب: الحق بالنصب، وأعرب بأن يكون بدلاً من الحق المكتوم، فيكون التقدير: يكتمون الحق من ربك، قاله الزمخشري؛ أو على أن يكون معمولاً ليعلمون، قاله ابن عطية، ويكون مما وقع فيه الظاهر موقع المضمر، أي وهم يعلمونه كائناً من ربك، وذلك سائغ حسن في أماكن التفخيم والتهويل، كقوله:

لا أرى الموت يسبق الموت شيء
أي يسبقه شيء. وجوّز ابن عطية أن يكون منصوباً بفعل محذوف تقديره: الزم الحق من ربك، ويدل عليه الخطاب بعده: {فلا تكونن من الممترين} .


{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} : قرأ الجمهور: ولكل: منوناً، وجهة: مرفوعاً، هو موليها: بكسر اللام اسم فاعل. وقرأ ابن عامر: هو مولاها، بفتح اللام اسم مفعول وهي، قراءة ابن عباس. وقرأ قوم شاذاً: ولكل وجهة، بخفض اللام من كل من غير تنوين، وجهة: بالخفض منوناً على الإضافة، والتنوين في كل تنوين عوض من الإضافة، والمفعول الثاني لموليها محذوف لفهم المعنى، أي هو موليها وجهه أو نفسه، قاله ابن عباس وعطاء والربيع، ويؤيد أن هو عائد على كل قراءة من قرأ: هو مولاها. وقيل: هو عائد على الله تعالى، قاله الأخفش والزجاج، أي الله موليها إياه، اتبعها من اتبعها وتركها من تركها. فمعنى هو موليها على هذا التقدير: شارعها ومكلفهم بها. والجملة من الابتداء والخبر في موضع الصفة لوجهة. وأما قراءة من قرأ: ولكل وجهة على الإضافة، فقال محمد بن جرير: هي خطأ، ولا ينبغي أن يقدم على الحكم في ذلك بالخطأ، لا سيما وهي معزوّة إلى ابن عامر، أحد القراء السبعة، وقد وجهت هذه القراءة.
قال الزمخشري: المعنى: ولكل وجهة الله موليها، فزيدت اللام لتقدّم المفعول، كقولك: لزيد ضربت، ولزيد أبوه ضاربه. انتهى كلامه، وهذا فاسد لأن العامل إذا تعدّى لضمير الاسم لم يتعدّ إلى ظاهره المجرور باللام. لا يجوز أن يقول: لزيد ضربته، ولا: لزيد أنا ضاربه. وعليه أن الفعل إذا تعدّى للضمير بغير واسطة. كان قوياً، واللام إنما تدخل على الظاهر إذا تقدّم ليقويه لضعف وصوله إليه متقدماً، ولا يمكن أن يكون العامل قوياً ضعيفاً في حالة واحدة، ولأنه يلزم من ذلك أن يكون المتعدي إلى واحد يتعدى إلى اثنين، ولذلك تأوّل النحويون قوله هذا:
سراقة للقرآن يدرسه


وليس نظير ما مثل به من قوله: لزيد ضربت، أي زيداً ضربت، لأن ضربت في هذا المثال لم يعمل في ضمير زيد، ولا يجوز أن يقدر عامل في {لكل وجهة} يفسره قوله {موليها} ، كتقديرنا زيداً أنا ضاربه، أي اضرب زيداً أنا ضاربه، فتكون المسألة من باب الاشتغال، لأن المشتغل عنه لا يجوز أن يجر بحرف الجر. تقول: زيداً مررت به، أي لابست زيداً، ولا يجوز: بزيد مررت به، فيكون التقدير: مررت بزيد مررت به، بل كل فعل يتعدى بحرف الجر، إذا تسلط على ضمير اسم سابق في باب الاشتغال، فلا يجوز في ذلك الاسم السابق أن يجر بحرف جر، ويقدر ذلك الفعل ليتعلق به حرف الجر، بل إذا أردت الاشتغال نصبته، هكذا جرى كلام العرب. قال تعالى: {والظالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً} (الإنسان: 31) } . وقال الشاعر:

أثعلبة الفوارس أم رباحا
عدلت به طهية والخشابا


وأما تمثيله: لزيد أبوه ضاربه، فتركيب غير عربي. فإن قلت: لم لا تتوجه هذه القراءة على أن {لكل وجهة} في موضع المفعول الثاني لموليها، والمفعول الأول هو المضاف إليه اسم الفاعل الذي هو مولّ، وهو الهاء، وتكون عائدة على أهل القبلات والطوائف، وأنث على معنى الطوائف، وقد تقدم ذكرهم، ويكون التقدير: وكل وجهة الله مولى الطوائف أصحاب القبلات؟ فالجواب: أنه منع من هذا التقدير نص النحويين على أن المتعدي إلى واحد هو الذي يجوز أن تدخل اللام على مفعوله، إذا تقدّم. أما ما يتعدى إلى اثنين، فلا يجوز أن يدخل على واحد منهما اللام إذا تقدم، ولا إذا تأخر. وكذلك ما يتعدى إلى ثلاثة. ومول هنا اسم فاعل من فعل يتعدى إلى اثنين، فلذلك لا يجوز هذا التقدير. وقال ابن عطية، في توجيه هذه القراءة: أي فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاّكموها، ولا تعترضوا فيما أمركم بين هذه وهذه، أي إنما عليكم الطاعة في الجميع. وقدم قوله: {لكل وجهة} على الأمر في قوله: {فاستبقوا الخيرات} ، للاهتمام بالوجهة، كما تقدم المفعول. انتهى كلام ابن عطية، وهو توجيه لا بأس به.


{فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَتِ} : هذا أمر بالبدار إلى فعل الخير والعمل الصالح. وناسب هذا أن من جعل الله له شريعة، أو قبلة، أو صلاة، فينبغي الاهتمام بالمسارعة إليها. قال قتادة: الاستباق في أمر الكعبة رغماً لليهود بالمخالفة. وقال ابن زيد: معناه: سارعوا إلى الأعمال الصالحة من التوجه إلى القبلة وغيره. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى: فاستبقوا الفاضلات من الجهات، وهي الجهات المسامتة للكعبة، وإن اختلفت. وذكرنا أن استبق بمعنى: تسابق، فهو يدل على الاشتراك. {إنا ذهبنا نستبق} (يوسف: 17) } ، أي نتسابق، كما تقول: تضاربوا. واستبق لا يتعدى، لأن تسابق لا يتعدى، وذلك أن الفعل المتعدي، إذا بنيت من لفظ، معناه: تفاعل للاشتراك، صار لازماً، تقول: ضربت زيداً، ثم تقول: تضاربنا، فلذلك قيل: إن إلى هنا محذوفة، التقدير: فاستبقوا إلى الخيرات. قال الراعي:
ثنائي عليكم آل حرب ومن يمل
سواكم فإني مهتد غير مائل
يريد ومن يمل إلى سواكم.
{لِئَلاَّ يَكُونَ} : هذه لام كي، وأن بعدها لا النافية، وقد حجز بها بين أن ومعمولها الذي هو يكون، كما أنهم حجزوا بها بين الجازم والمجزوم في قولهم: أن لا تفعل أفعل. وكتبت في المصحف: لا ما بعدها ياء، بعدها لام ألف، فجعلوا صورة للهمزة الياء، وذلك على حسب التخفيف الذي قرأ به نافع في القرآن من إبدال هذه الهمزة ياء. وقرأ الجمهور بالتحقيق: وهذه أن واجبة الإظهار هنا، لكراهتهم اجتماع لام الجر مع لا النافية، لأن في ذلك قلقاً في اللفظ، وهي جائزة الإظهار في غير هذا الموضع، فإذا أثبتوها، فهو الأصل، وهو الأقل في كلامهم، وإذا حذفوها، فلأن المعنى يقتضيها ضرورة أن اللام لا تكون الناصبة، لأنها قد ثبت لها أن تعمل في الأسماء الجر، وعوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال.


واللام في لئلا لام الجر، دخلت على إن وما بعدها فتتقدر بالمصدر، أي لانتفاء الحجة عليكم. وتتعلق هذه اللام، قيل: بمحذوف، أي عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم، والحجة في ذلك {لئلا يكون} . وقيل: تتعلق بولوا، والقراءة بالياء، لأن الحجة تأنيثها غير حقيقي، وقد حسن ذلك الفصل بين الفعل ومرفوعه بمجرورين، فسهل التذكير جداً، وخبر كان قوله: {للناس} ، و {عليكم} : في موضع نصب على الحال، وهو في الأصل صفة للحجة، فلما تقدم عليها انتصب على الحال، والعامل فيها محذوف، ولا جائز أن يتعلق بحجة، لأنه في معنى الاحتجاج، ومعمول المصدر المنحل لحرف مصدري، والفعل لا يتقدم على عامله. وأجاز بعضهم أن يتعلق عليكم بحجة، هكذا نقلوا، ويحتمل أن يكون عليكم الخبر، وللناس متعلق بلفظ يكون، لأن كان الناقصة قد تعمل في الظرف والجار والمجرور.


{إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} ، قرأ الجمهور: إلا جعلوها أداة استثناء، وقرأ ابن عامر وزيد بن علي وابن زيد: ألا بفتح الهمزة وتخفيف لام ألا، إذ جعلوها التي للتنبيه والاستفتاح. فعلى قراءة هؤلاء يكون إعراب {الذين ظلموا} مبتدأ، والجملة من قوله: {فلا تخشوهم واخشوني} في موضع الخبر، ودخلت الفاء لأنه سلك بالذين مسلك الشرط، والفعل الماضي الواقع صلة هو مستقبل. المعنى: كأنه قيل: من يظلم من الناس، فلا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم. و {اخشوني} : فلا تخالفوا أمري، ولولا دخول الفاء لترجح نصب الذين ظلموا، على أن تكون المسألة من باب الاشتغال، أي لا تخشوا الذين ظلموا، لا تخشوهم، لكن ذلك يجوز على مذهب الأخفش في زيادة الفاء، وأجاز ابن عطية أن يكون الذين نصباً بفعل مقدر على الإغراء. ونقل السجاوندي عن أبي بكر بن مجاهد أنه قرأ إلى الذين، جعلها حرف جر، وتأوّلها بمعنى مع. وأما على قراءة الجمهور، فالاستثناء متصل، قاله ابن عباس وغيره، واختاره الطبري، وبدأ به ابن عطية، ولم يذكر الزمخشري غيره، وذلك أنه متى أمكن الاستثناء المتصل إمكاناً حسناً، كان أولى من غيره.
وذهب قوم إلى أنه استثناء منقطع، أي لكن الذين ظلموا فإنهم يتعلقون عليكم بالشبهة، يضعونها موضع الحجة، وليست بحجة. ومثار الخلاف هو: هل الحجة هو الدليل والبرهان الصحيح؟ أو الحجة هو الاحتجاج والخصومة؟ فإن كان الأول، فهو استثناء منقطع، وإن كان الثاني، فهو استثناء متصل.


وأجاز قطرب أن يكون الذين في موضع جر بدلاً من ضمير الخطاب في عليكم، ويكون التقدير: لئلا تثبت حجة للناس على غير الظالمين منهم، وهم أنتم أيها المخاطبون، بتولية وجوهكم إلى القبلة. ونقل السجاوندي أن قطرباً قرأ: إلا على الذين ظلموا، وهو بدل أيضاً على إظهار حرف الجر، كقوله: {للذين استضعفوا لمن آمن منهم} (الأعراف: 75) } ، وهذا ضعيف، لأن فيه إبدال الظاهر من ضمير الخطاب، بدل شيء من شيء، وهما لعين واحدة، ولا يجوز ذلك إلى على مذهب الأخفش. وزعم أبو عبيد معمر بن المثنى أن إلا في الآية بمعنى الواو، وجعل من ذلك قوله:

ما بالمدينة دار غير واحدة
دار الخليفة إلا دار مروانا
وقوله:
وكل أخ مفارقه أخوه
لعمر أبيك إلا الفرقدان
التقدير: عنده والذين ظلموا، ودار مروان والفرقدان وإثبات إلا بمعنى الواو، لا يقوم عليه دليل، والاستثناء سائغ فيما ادّعى فيه أن إلا بمعنى الواو، وكان أبو عبيدة يضعف في النحو. وقال الزجاج: هذا خطأ عند حذاق النحويين، وأضعف من هذا زعم من زعم أن إلا بمعنى بعد، أي بعد الذين ظلموا، وجعل من ذلك {إلا ما قد سلف} (النساء: 22) } ، أي بعد ما قد سلف، {وإلا الموتة الأولى} (الدخان: 56) } ، أي بعد الموتة الأولى.


{كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ} : الكاف هنا للتشبيه، وهي في موضع نصب على أنها نعت لمصدر محذوف. واختلف في تقديره، فقيل التقدير: ولأتم نعمتي عليكم إتماماً مثل إتمام إرسال الرسول فيكم. ومتعلق الإتمامين مختلف، فالإتمام الأول بالثواب في الآخرة، والإتمام الثاني بإرسال الرسول إلينا في الدنيا. أو الإتمام الأول بإجابة الدعوة الأولى لإبراهيم في قوله: {ومن ذريتنا أمّة مسلمة لك} (البقرة: 128) } ، والإتمام الثاني بإجابة الدعوة الثانية في قوله: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم} (البقرة: 129) } ، وقيل: التقدير: ولعلكم تهتدون اهتداء مثل إرسالنا فيكم رسولاً، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقق والثبوت، أي اهتداء ثابتاً متحققاً، كتحقق إرسالنا فيكم رسولاً، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقق والثبوت، أي اهتداء ثابتاً متحققاً، كتحقق إرسالنا وثبوته. وقيل: متعلق بقوله: {وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً} ، أي جعلاً مثل ما أرسلنا، وهو قول أبي مسلم، وهذا بعيد جدًّا، لكثرة الفصل المؤذن بالانقطاع. وقيل: الكاف في موضع نصب على الحال من {نعمتي} ، أي: {ولأتمّ نعمتي عليكم} مشبهة إرسالنا فيكم رسولاً، أي مشبهة نعمة الإرسال، فيكون على حذف مضاف. وقيل: الكاف منقطعة من الكلام قبلها، ومتعلقة بالكلام بعدها، والتقدير: قال الزمخشري: كما ذكرتكم بإرسال الرسول، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب. انتهى. فيكون على تقدير مصدر محذوف، وعلى تقدير مضاف، أي اذكروني ذكراً مثل ذكرنا لكم بالإرسال، ثم صار مثل ذكر إرسالنا، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وهذا كما تقول: كما أتاك فلان فائته بكرمك، وهذا قول مجاهد وعطاء والكلبي ومقاتل، وهو اختيار الأخفش والزجاج وابن كيسان والأصم.


{كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً} وما: في كما، مصدرية، وأبعد من زعم أنها موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف، ورسولاً بدل منه، والتقدير: كالذي أرسلناه رسولاً، إذ يبعد تقرير هذا التقدير مع الكلام الذي قبله، ومع الكلام الذي بعده، وفيه وقوع ما على آحاد من يعقل. وكذلك جعل ما كافة، لأنه لا يذهب إلى ذلك إلا حيث لا يمكن أن ينسبك منها مع ما بعدها مصدر، لولايتها الجمل الإسمية، نحو قول الشاعر:

لعمرك إنني وأبا حميد
كما النشوان والرجل الحليم


وقول من قال إن: {كما أرسلنا} ، متعلق بما بعده، قد ردّه أبو محمد مكي بن أبي طالب، قال: لأن الأمر إذا كان له جواب، لم يتعلق به ما قبله لاشتغاله بجوابه، قال: لو قلت: كما أحسنت إليك فأكرمني أكرمك، لم تتعلق الكاف من كما بأكرمني، لأن له جواباً، ولكن تتعلق بشيء آخر، أو بمضمر، وكذلك: {فاذكروني أذكركم} ، هو أمر له جواب، فلا تتعلق كما به، ولا يجوز ذلك إلا على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين، وهو قولك: إذا أتاك فلان فائته ترضه، فتكون كما وفاذكروني جوابين للأمر، والأول أفصح وأشهر. وتقول: كما أحسنت إليك فأكرمني، يصح أن يجعل الكاف متعلقة بأكرمني، إذ لا جواب له. انتهى كلامه. ورجح مكي قول من قال إنها متعلقة بما قبلها، وهو: {لأتم نعمتي عليكم} ، لأن سياق اللفظ يدل على أن المعنى: ولأتم نعمتي عليكم ببيان ملة أبيكم إبراهيم، كما أجبنا دعوته فيكم، فأرسلنا إليكم رسولاً منكم يتلو. وما ذهب إليه مكي من إبطال أن، تكون كما متعلقة بما بعدها من الوجه الذي ذكر ليس بشيء، لأن الكاف، إما أن تكون للتشبيه، أو للتعليل. فإن كانت للتشبيه، فتكون نعتاً لمصدر محذوف، ويجوز تقدّم ذلك المصدر على الفعل، مثال ذلك: أكرمني إكراماً مثل إكرامي السابق لك أكرمك، فيجوز تقديم هذا المصدر. وإن كانت للتعليل، فيجوز أيضاً تقدم ذلك على الفعل، مثال ذلك: أكرمني لإكرامي لك أكرمك، لا نعلم خلافاً في جواز تقديم هذا المصدر وهذه العلة على الفعل العامل فيهما، وتجويز مكي ذلك على التشبيه بالشرط الذي يجاوب بجوابين وتسميته، كما وفاذكروني جوابين للأمر، ليس بصحيح لأن كما ليس بجواب، ولأن ذلك التشبيه فاسد، لأن المصدر لا يشبه الجواب، وكذلك التعليل. أما المصدر التشبيهي، فهو وصف في الفعل المأمور به، فليس مترتباً على وقوع مطلق الفعل، بل لا يقع الفعل إلا بذلك الوصف. وعلى هذا لا يشبه الجواب، لأن الجواب مترتب على نفس وقوع الفعل. وأما التعليل، فكذلك أيضاً ليس


مترتباً على وقوع الفعل، بل الفعل مترتب على وجود العلة، فهو نقيض الجواب، لأن الجواب مترتب على وقوع الفعل، والعلة مترتب عليها وجود الفعل، فلا تشبيه بينهما، وإنما يخدش عندي في تعلق كما بقوله: فاذكروني، هو الفاء، لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها، ولولا الفاء لكان التعلق واضحاً، وتبعد زيادة الفاء. فبهذا يظهر تعلق كما بما قبلها، ويكون في ذلك تشبيه إتمام هذه النعمة الحادثة من الهداية لاستقبال قبلة الصلاة التي هي عمود الإسلام.

{وَاشْكُرُواْ لِي} تقدّم تفسير الشكر، وعداه هنا باللام، وكذلك {أن اشكر لي ولوالديك} (لقمان: 14) } ، وهو من الأفعال التي ذكر أنها تارة تتعدّى بحرف جر، وتارة تتعدّى بنفسها، كما قال عمرو بن لجاء التميمي:
هم جمعوا بؤسي ونعمي عليكم
فهلا شكرت القوم إذ لم تقابل
وفي إثبات هذا النوع من الفعل، وهو أن يكون يتعدّى تارة بنفسه، وتارة بحرف جر، بحق الوضع فيهما خلاف. وقالوا: إذا قلت: شكرت لزيد، فالتقدير: شكرت لزيد صنيعه، فجعلوه مما يتعدّى لواحد بحرف جر ولآخر بنفسه. ولذلك فسر الزمخشري هذا الموضع بقوله: واشكروا لي ما أنعمت به عليكم. وقال ابن عطية: واشكروا لي، واشكروني بمعنى واحد، ولي أفصح وأشهر مع الشكر ومعناه: نعمتي وأيادي، وكذلك إذا قلت: شكرتك، فالمعنى: شكرت لك صنيعك وذكرته، فحذف المضاف، إذ معنى الشكر: ذكر اليد وذكر مسديها معاً، فما حذف من ذلك فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف، انتهى كلامه، ويحتاج، كونه يتعدى لواحد بنفسه، وللآخر بحرف جر، فتقول: شكرت لزيد صنيعه، لسماع من العرب، وحينئذ يصار إليه.
{وَلاَ تَكْفُرُونِ} : وهو من كفر النعمة، وهو على حذف مضاف، أي ولا تكفروا نعمتي. ولو كان من الكفر ضدّ الإيمان، لكان: ولا تكفرون، أو: ولا تكفروا بي. وعنده يكون نون الوقاية، حذفت ياء المتكلم بعدها تخفيفاً لتناسب الفواصل.


{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} وارتفاع أموات وأحياء على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم أموات، بل هم أحياء. ويحتمل أن يكون بل أحياء، مندرجاً تحت قول مضمر، أي بل قولوا هم أحياء. لكن يرجح الوجه الأول، وهو أنه إخبار من الله تعالى قوله: {ولكن لا تشعرون} ، لأن معناه: أن حياتهم لا شعور لكم بها.
{وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأٌّمَوَالِ} بشيء: متعلق بقوله: {ولنبلونكم} ، والباء فيه للإلصاق، وأفرده ليدل على التقليل، إذ لو جمعه فقال: بأشياء، لاحتمل أن تكون ضروباً من كل واحد مما بعده. وقد قرأ الضحاك: بأشياء، فلا يكون حذف فيما بعدها، فيكون من في موضع الصفة، بخلاف قراءة الجمهور: بشيء، فلا بد من تقدير حذف أي شيء من الخوف، وشيء من الجوع، وشيء من نقص. وعطف ونقص على قوله: بشيء، أي: ولنمتحننكم بشيء من الخوف والجوع وبنقص، ويحسن العطف تنكيرها، على أنه يحتمل أن يكون معطوفاً على الخوف والجوع فيكون تقديره: وشيء من نقص. و {من الأموال} : متعلق بنقص، لأنه مصدر نقص، وهو يتعدّى إلى واحد، وقد حذف، أي: ونقص شيء. ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لنقص. وتكون من لابتداء الغاية. ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لذلك المحذوف، أي ونقص شيء من الأموال، وتكون من إذ ذاك للتبعيض. وقالوا: يجوز أن تكون من عند الأخفش زائدة، أي ونقص الأموال والأنفس والثمرات.


{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * إِن الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَلِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَاخْتِلَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأٌّرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لآيَتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ * إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأٌّسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً


فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَلَهُمْ حَسَرَتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَرِجِينَ مِنَ النَّارِ} .
{الَّذِينَ إِذَآ أَصَبَتْهُم مُّصِيبَةٌ} : يجوز في الذين أن يكون منصوباً على النعت للصابرين، وهو ظاهر الإعراب، أو منصوباً على المدح، فيكون مقطوعاً، أو مرفوعاً على إضمار هم على وجهين: إما على القطع، وإما على الاستئناف، كأنه جواب لسؤال مقدر، أي: من الصابرون؟ قيل: هم الذين الذين إذا. وجوزوا أن يكون الذين مبتدأ، وأولئك عليهم خبره، وهو محتمل. {مصيبة} : اسم فاعل من أصابت، وصار لها اختصاص بالشيء المكروه، وصارت كناية عن الداهية، فجرت مجرى الأسماء ووليت العوامل. و {أصابتهم مصيبة} : من التجنيس المغاير، وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسماً والأخرى فعلاً، ومنه: {أزفت الآزفة} (النجم: 57) } ، {إذا وقعت الواقعة} (الواقعة: 1) } .

{قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ} : قالوا: جواب إذا، والشرط وجوابه صلة للذين. وإنا: أصله إننا، لأنها إن دخلت على الضمير المنصوب المتصل، فحذفت نون من إن. وينبغي أن تكون المحذوفة هي الثانية، لأنها ظرف، ولأنها عهد فيها الحذف إذا خففت، فقالوا: إن زيد لقائم، وهو حذف هنا لاجتماع الأمثال، فلذلك عملت، إذ لو كان من الحذف لا لهذه العلة، لانفصل الضمير وارتفع ولم تعمل، لأنها إذا خففت هذا التخفيف لم تعمل في الضمير. ولله: معناه الإقرار بالملك والعبودية لله، فهو المتصرّف فينا بما يريد من الأمور.
{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَتٌ مِّن رَّبهِمْ وَرَحْمَةٌ} ، أولئك مبتدأ، وصلوات: ارتفاعها على الفاعل بالجار والمجرور، أي: أولئك مستقرة عليهم صلوات، فيكون قد أخبر عن المبتدأ بالمفرد، وهذا أولى من جعل صلوات مبتدأ، والجار والمجرور في موضع خبره. والجملة في موضع خبر المبتدأ الأول، لأنه يكون إخباراً عن المبتدأ بالجملة.


ويحتمل أن تكون من تبعيضية، فيكون ثم حذف مضاف، أي صلوات من صلوات ربهم. وأتى بلفظ الرب، لما فيه من دلالة التربية والنظر للعبد فيما يصلحه ويربه به. وإن كان أريد بالرحمة الصلوات، فلا يحتاج إلى تقييد بصفة محذوفة، لأنها قد تقيدت. وإن كان أريد بها ما يغاير الصلوات، فيقدر: ورحمة منه، فيكون قد حذفت الصفة لما تقدم. ويحتمل أن يكون: {من ربهم} ، متعلقاً بقوله: {عليهم} ، فلا يكون صفة، بل يكون معمولاً للرافع لصلوات، وترتب على مقام الصبر. ومقال هذه الكلمات الدالة على التفويض لله تعالى، هذا الجزاء الجزيل والثناء الجميل.
وتارة بالجمع: {جميع لدينا محضرون} (يس: 32 (يس: 53) } ، وينتصب حالاً: جاء زيد وعمرو جميعاً، ويؤكد به بمعنى كلهم: جاء القوم جميعهم، أي كلهم، ولا يدل على الاجتماع في الزمان، إنما يدل على الشمول في نسبة الفعل.
{فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} : ومن شرطية.
{فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} وفيه الخلاف السابق، أموضعها بعد الحذف جر أم نصب؟ وجوّز بعض من لا يحسن علم النحو أن يكون: {أن يطوّف} ، في موضع رفع، على أن يكون خبراً أيضاً، قال التقدير: فلا جناح الطواف بهما، وأن يكون في موضع نصب على الحال، والتقدير: فلا جناح عليه في حال تطوّفه بهما، قال: والعامل في الحال العامل في الجر، وهي حال من الهاء في {عليه} . وهذان القولان ساقطان، ولولا تسطيرهما في بعض كتب التفسير لما ذكرتهما.


{ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم} : فيحتمل من أن يكون بمعنى الذي، ويحتمل أن تكون شرطية. وقرأ حمزة، والكسائي: يطوّع مضارعاً مجزوماً بمن الشرطية، وافقهما زيد ورويس في الأول منهما، وانتصاب خيراً على المفعول بعد إسقاط حرف الجر، أي بخير، وهي قراءة ابن مسعود، قرأ: يتطوّع بخير. ويطوّع أصله: يتطوّع كقراءة عبد الله، فأدغم. وأجازوا جعل {خيراً} نعتاً لمصدر محذوف، أي ومن يتطوع تطوعاً خيراً.
{فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} : هذه الجملة جواب الشرط. وإذا كانت من موصولة في احتمال أحد وجهي من في قراءة من قرأ تطوّع فعلاً ماضياً، فهي جملة في موضع خبر المتبدأ، لأن تطوّع إذ ذاك تكون صلة.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَتِ وَالْهُدَى} : أمر محمد صلى الله عليه وسلّمونعته واتباعه. وتتعلق من بمحذوف، لأنه في موضع الحال أي كائناً من البينات والهدى.
{مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} : الضمير المنصوب في {بيناه} عائد على الموصول الذي هو {ما أنزلنا} ، وضمير الصلة محذوف، أي ما أنزلناه. وقرأ الجمهور: {بيناه} مطابقة لقوله: {أنزلنا} . وقرأ طلحة بن مصرف: بينه: جعله ضمير مفرد غائب، وهو التفات من ضمير متكلم إلى ضمير غائب.
{أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّعِنُونَ} : هذه الجملة خبر إن.
وجاء بأولئك اسم الإشارة البعيد، تنبيهاً على ذلك الوصف القبيح، وأبرز الخبر في صورة جملتين توكيداً وتعظيماً، وأتى بالفعل المضارع المقتضي التجدد لتجدد مقتضيه، وهو قوله تعالى: {إن الذين يكتمون} .
{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ} : هذا استثناء متصل.


{إِن الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ} : والجملة من قوله: {وهم كفار} ، جملة حالية، وواو الحال في مثل هذه الجملة إثباتها أفصح من حذفها، خلافاً لمن جعل حذفها شاذاً، وهو الفراء، وتبعه الزمخشري، وبيان ذلك في علم النحو. والجملة من قوله: {عليهم لعنة الله} خبر إن، و {لعنة الله} مبتدأ، خبره {عليهم} . والجملة من قوله: {عليهم لعنة الله} خبر عن أولئك. والأحسن أن يكون لعنة فاعلاً بالمجرور قبله، لأنه قد اعتمد خبراً بكونه لذي خبر، فيرفع ما بعده على الفاعلية، فتكون قد أخبرت عن أولئك بمفرد، بخلاف الإعراب الأول، فإنك أخبرت عنه بجملة.


وقرأ الجمهور: {وَالْمَلئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} ، بالجر عطفاً على اسم الله. وقرأ الحسن: والملائكة والناس أجمعون، بالرفع. وخرج هذه القراءة جميع من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه معطوف على موضع اسم الله، لأنه عندهم في موضع رفع على المصدر، وقدروه: أن لعنهم الله، أو: أن يلعنهم الله. وهذا الذي جوزوه ليس بجائز على ما تقرر في العطف على الموضع، من أن شرطه أن يكون ثم طالب ومحرز للموضع لا يتغير، هذا إذا سلمنا أن لعنة هنا من المصادر التي تعمل، وأنه ينحل لأن والفعل. والذي يظهر أن هذا المصدر لا ينحل لأن والفعل، لأنه لا يراد به العلاج. وكان المعنى: أن عليهم اللعنة المستقرة من الله على الكفار، أضيفت إلى الله على سبيل التخصيص، لا على سبيل الحدوث. ونظير ذلك: {ألا لعنة الله على الظالمين} (هود: 18) } ، ليس المعنى إلا أن يلعن الله على الظالمين، وقولهم له ذكاء الحكماء. ليس المعنى هنا على الحدوث وتقدير المصدرين منحلين لأن والفعل، بل صار ذلك على معنى قولهم: له وجه وجه القمر، وله شجاعة شجاعة الأسد، فأضفت الشجاعة للتخصيص والتعريف، لا على معنى أن يشجع الأسد. ولئن سلمنا أنه يتقدر هذا المصدر، أعني لعنة الله بأن والفعل، فهو كما ذكرناه لا محرز للموضع، لأنه لا طالب له. ألا ترى أنك لو رفعت الفاعل بعد ذكر المصدر لم يجز حتى تنون المصدر؟ فقد تغير المصدر بتنوينه، ولذلك حمل سيبويه قولهم: هذا ضارب زيد غداً وعمراً، على إضمار فعل: أي ويضرب عمراً، ولم يجز حمله على موضع زيد لأنه لا محرز للموضع. ألا ترى أنك لو نصبت زيداً لقلت: هذا ضارب زيداً وتنون؟ وهذا أيضاً على تسليم مجيء الفاعل مرفوعاً بعد المصدر المنون، فهي مسألة خلاف. البصريون يجيزون ذلك فيقولون: عجبت من ضرب زيد عمراً. والفراء يقول: لا يجوز ذلك، بل إذا نون المصدر لم يجىء بعده فاعل مرفوع. والصحيح مذهب الفراء، وليس للبصريين حجة على إثبات دعواهم


من السماع، بل أثبتوا ذلك بالقياس على أن والفعل. فمنع هذا التوجيه الذي ذكروه ظاهر، لأنا نقول: لا نسلم أنه مصدر ينحل، لأن والفعل، فيكون عاملاً. سلمنا، لكن لا نسلم أن للمجرور بعده موضعاً. سلمنا، لكن لا نسلم أنه يجوز العطف عليه. وتتخرج هذه القراءة على وجوه غير الوجه الذي ذكروه. أولاها: أنه على إضمار فعل لما لم يمكن العطف، التقدير: وتلعنهم الملائكة، كما خرج سيبويه في: هذا ضارب زيد وعمراً: أنه على إضمار فعل: ويضرب عمراً. الثاني: أنه معطوف على لعنة الله على حذف مضاف، أي لعنة الله ولعنة الملائكة، فلما حذف المضاف أعرب المضاف إليه بإعرابه نحو: {واسئل القرية} (يوسف: 82) } . الثالث: أن يكون مبتدأ حذف خبره لفهم المعنى، أي والملائكة والناس أجمعون يلعنونهم.

{خَلِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} إلا أن الجملة من قوله: {لا يخفف} هي في موضع نصب من الضمير المستكن في خالدين، أي غير مخفف عنهم العذاب. فهي حال متداخلة، أي حال من حال، لأن خالدين حال من الضمير في عليهم. ومن أجاز تعدي العامل إلى حالين لذي حال واحد، أجاز أن تكون الجملة من قوله: {لا يخفف} ، حال من الضمير في عليهم، ويجوز أن تكون: لا يخفف جملة استئنافية، فلا موضع لها من الإعراب.
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وإله: خبر عن إلهكم، وواحد: صفته، وهو الخبر في المعنى لجواز الاستغناء عن إله، ومنع الاقتصار عليه، فهو شبيه بالحال الموطئة، كقولك: مررت بزيد رجلاً صالحاً.


وتقدم الكلام على إعراب الإسم بعد لا في قوله: {لا ريب فيه} (البقرة: 2) } ، والخبر محذوف، وهو بدل من اسم لا على الموضع، ولا يجوز أن يكون خبراً. كما جاز ذلك في قولك: زيد ما العالم إلا هو، لأن لا لا تعمل في المعارف، هذا إذا فرعنا على أن الخبر بعد لا التي يبنى الإسم معها هو مرفوع بها، وأما إذا فرعنا على أن الخبر ليس مرفوعاً بها، بل هو خبر المبتدأ الذي هو لا مع المبني معها، وهو مذهب سيبويه، فلا يجوز أيضاً، لأنه يلزم من ذلك جعل المبتدأ نكرة، والخبر معرفة، وهو عكس ما استقر في اللسان العربي. وتقرير البدل فيه أيضاً مشكل على قولهم: إنه بدل من إله، لأنه لا يمكن أن يكون على تقدير تكرار العامل، لا تقول: لا رجل إلا زيد. والذي يظهر لي فيه أنه ليس بدلاً من إله ولا من رجل في قولك: لا رجل إلا زيد، إنما هو بدل من الضمير المستكن في الخبر المحذوف، فإذا قلنا: لا رجل إلا زيد، فالتقدير: لا رجل كائن أو موجود إلا زيد. كما تقول: ما أحد يقوم إلا زيد، فزيد بدل من الضمير في يقوم لا من أحد، وعلى هذا يتمشى ما ورد من هذا الباب، فليس بدلاً على موضع اسم لا، وإنما هو بدل مرفوع من ضمير مرفوع، ذلك الضمير هو عائد على اسم لا. ولولا تصريح النحويين أنه يدل على الموضع من اسم لا، لتأوّلنا كلامهم على أنهم يريدون بقولهم بدل من اسم لا، أي من الضمير العائد على اسم لا. قال بعضهم: وقد ذكر أن هو بدل من إله على المحل، قال: ولا يجوز فيه النصب هاهنا، لأن الرفع يدل على الاعتماد على الثاني، والمعنى في الآية على ذلك، والنصب على أن الاعتماد على الأول. انتهى كلامه. ولا فرق في المعنى بين: ما قام القوم إلا زيد، وإلا زيداً، من حيث أن زيداً مستثنى من جهة المعنى. إلا أنهم فرقوا من حيث الإعراب، فأعربوا ما كان تابعاً لما قبله بدلاً، وأعربوا هذا منصوباً على الاستثناء، غير أن الإتباع أولى للمشاكلة اللفظية، والنصب جائز، ولا نعلم في ذلك خلافاً.


فإن {لا إله} في موضع المبتدأ، على قول سيبويه، وعند غيره اسم لا، وعلى التقديرين، لا بد من خبر للمبتدأ، أو للا، فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد.
وما قاله من تقدير خبر لا بد منه، لأن قوله: {لا إله} ، كلام، فمن حيث هو كلام، لا بد فيه من مسنده ومسند إليه. فالمسند إليه هو إله، والمسند هو الكون المطلق، ولذلك ساغ حذفه، كما ساغ بعد قولهم: لولا زيد لأكرمتك، إذ تقديره: لولا زيد موجود، لأنها جملة تعليقية، أو شرطية عند من يطلق عليها ذلك، فلا بد فيها من مسند ومسند إليه، ولذلك نقلوا أن الخبر بعد لا، إذا علم، كثر حذفه عند الحجازيين، ووجب حذفه عند التميميين. وإذا كان الخبر كوناً مطلقاً، كان معلوماً، لأنه إذا دخل النفي المراد به نفي العموم، فالمتبادر إلى الذهن هو نفي الوجود، لأنه لا تنتفي الماهية إلا بانتفاء وجودها، بخلاف الكون المقيد، فإنه لا يتبادر الذهن إلى تعيينه، فلذلك لا يجوز حذفه نحو: لا رجل يأمر بالمعروف إلا زيد، إلا إن دل على ذلك قرينة من خارج فيعلم، فيجوز حذفه.
ويجوز ارتفاع {الرحمن} على البدل من هو، وعلى إضمار مبتدأ محذوف، أي هو الرحمن الرحيم، وعلى أن يكون خبراً بعد خبر لقوله: {وإلهكم} ، فيكون قد قضى هذا المبتدأ ثلاثة أخبار: إله واحد خبر، و {لا إله إلا هو} خبر ثان، و {الرحمن الرحيم} خبر ثالث. ولا يجوز أن يكون خبراً لهو هذه المذكورة لأن المستثنى هنا ليس بجملة، بخلاف قولك: ما مررت برجل إلا هو أفضل من زيد. قالوا: ولا يجوز أن يرتفع على الصفة لهو، لأن المضمر لا يوصف. انتهى. وهو جائز على مذهب الكسائي، إذا كانت الصفة للمدح، وكان الضمير الغائب. وأهمل ابن مالك القيد الأول، فأطلق عن الكساني أنه يجيز وصف الضمير الغائب.


{وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ} وجعل الصفة موصولاً، صلته تجري: فعل مضارع يدل على تجدد ذلك الوصف لها في كل وقت يراد منها. وذكر مكان تلك الصفة على سبيل التوكيد، إذ من المعلوم أنها لا تجري إلا في البحر. والألف واللام فيه للجنس، وأسند الجريان للفلك على سبيل التوسع، وكان لها من ذاتها صفة مقتضية للجري. {بما ينفع الناس} : يحتمل أن تكون ما موصولة، أي تجري مصحوبة بالأعيان التي تنفع الناس من أنواع المتاجر والبضائع المنقولة من بلد إلى بلد، فتكون الباء للحال. ويحتمل أن تكون ما مصدرية، أي ينفع الناس في تجاراتهم وأسفارهم للغزو والحج وغيرهما، فتكون الباء للسبب. واقتصر على ذكر النفع، وإن كانت تجري بما يضر، لأنه ذكرها في معرض الامتنان.

{وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ} : أي من جهة السماء. من الأولى لابتداء الغاية تتعلق بأنزل، وفي أنزل ضمير نصب عائد على ما، أي والذي أنزله الله من السماء. ومن الثانية مع ما بعدها بدل من قوله: {من السماء} ، بدل اشتمال، فهو على نية تكرار العامل، أو لبيان الجنس عند من يثبت لها هذا المعنى، أو للتبعيض، وتتعلق بأنزل. ولا يقال: كيف تتعلق بأنزل من الأولى والثانية، لأن معنييهما مختلفان. {فأحيا به الأرض بعد موتها} : عطف على صلة ما، الذي هو أنزل بالفاء المقتضية للتعقيب وسرعة النبات، وبه عائد على الموصول. وكنى بالإحياء عن ظهور ما أودع فيها من النبات، وبالموت عن استقرار ذلك فيها وعدم ظهوره. وهما كنايتان غريبتان، لأن ما برز منها بالمطر جعل تعالى فيه القوة الغاذية والنامية والمحركة، وما لم يظهر فهو كامن فيها، كأنه دفين فيها، وهي له قبر.


{وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} : إن قدرت هذه الجملة معطوفة على ما قبلها من الصلتين، احتاجت إلى ضمير يعود على الموصول، لأن الضمير في فيها عائد على الأرض وتقديره: وبث فيها من كل دابة. لكن حذف هذا الضمير، إذا كان مجروراً بالحرف، له شرط، وهو أن يدخل على الموصول، أو الموصوف بالموصول، أو المضاف إلى الموصول حرف جر، مثل ما دخل على الضمير لفظاً ومعنى، وأن يتحد ما تعلق به الحرفان لفظاً ومعنى، وأن لا يكون ذلك المجرور العائد على الموصول وجاره في موضع رفع، وأن لا يكون محصوراً، ولا في معنى المحصور، وأن يكون متعيناً للربط. وهذا الشرط مفقود هنا. قال الزمخشري: فإن قلت قوله: {وبث فيها} ، عطف على أنزل أم أحيا؟ قلت: الظاهر أنه عطف على أنزل داخل تحت حكم الصلة، لأن قوله: {فأحيا به الأرض} عطف على أنزل، فاتصل به وصارا جميعاً كالشيء الواحد، وكأنه قيل: وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة. ويجوز عطفه على أحيا على معنى فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة، لأنهم ينمون بالخصب ويعيشون بالحياة. انتهى كلامه، ولا طائل تحته. وكيفما قدّرت من تقديرية، لزم أن يكون في قوله: {وبث فيها من كل دابة} ضمير يعود على الموصول، سواء أعطفته على أنزل، أو على فأحيا، لأن كلتا الجملتين في صلة الموصول. والذي يتخرّج على الآية، أنها على حذف موصول لفهم المعنى معطوف على ما من قوله: {وما أنزل} ، التقدير: وما بث فيها من كل دابة، فيكون ذلك أعظم في الآيات، لأن ما بث تعالى في الأرض من كل دابة فيه آيات عظيمة في أشكالها وصفاتها وأحوالها وانتقالاتها ومضارها ومنافعها وعجائبها، وما أودع في كل شكل، شكل منها من الأسرار العجيبة ولطائف الصنعة الغريبة، وذلك من الفيل إلى الذرة، وما أوجد تعالى في البحر من عجائب المخلوقات المباينة لأشكال البر. فمثل هذا ينبغي إفراده بالذكر، لا أنه يجعل منسوقاً في ضمن شيء آخر وحذف الموصول الاسمي، غير أن


عند من يذهب إلى اسميتها لفهم المعنى جائز شائع في كلام العرب، وإن كان البصريون لا يقيسونه، فقد قاسه غيرهم، قال بعض طيّي:

ما الذي دأبه احتياط وحزم
وهواه أطاع مستويان
أي: والذي أطاع، وقال حسان:
أمن يهجو رسول الله منكم
ويمدحه وينصره سواء
أي: ومن يمدحه، وقال آخر:
فوالله ما نلتم وما نيل منكم
بمعتدل وفق ولا متقارب
يريد: ما الذي نلتم وما نيل منكم، وقد حمل على حذف الموصول قوله تعالى: {وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم} (العنكبوت: 46) } ، أي والذي أنزل إليكم ليطابق قوله تعالى: {والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل} (النساء: 136) } . وقد يتمشى التقدير الأول على ارتكاب حذف الضمير لفهم المعنى، وإن لم يوجد شرط جواز حذفه، وقد جاء ذلك في أشعارهم، قال:
وإن لساني شهدة يشتفى بها
وهو على من صبه الله علقم
يريد: من صبه الله عليه، وقال:
لعلّ الذي أصعدتني أن تردني
إلى الأرض إن لم يقدر الخير قادر
يريد: أصعدتني به. فعلى هذا القول يكون {من كل دابة} في موضع المفعول، ومن تبعيضية. وعلى مذهب الأخفش، يجوز أن تكون زائدة، وكل دابة هو نفس المفعول، وعلى حذف الموصول يكون مفعول بث محذوفاً، أي: وبثه، وتكون من حالية، أي: كائناً من كل دابة، فهي تبعيضية، أو لبيان الجنس عند من يرى ذلك.
{وَتَصْرِيفِ الرِّيَحِ} ومن قرأ بالتوحيد، فإنه يريد الجنس، فهو كقراءة الجمع. والرياح في موضع رفع، فيكون تصريف مصدراً مضافاً للفاعل، أي وتصريف الرياح، السحاب أو غيره مما لها فيه تأثير بإذن الله. ويحتمل أن يكون في موضع نصب، فيكون المصدر في المعنى مضافاً إلى الفاعل، وفي اللفظ مضافاً إلى المفعول، أي وتصريف الله الرياح.


{بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ} : انتصاب بين على الظرف، والعامل فيه المسخر، أي سخر بين كذا وكذا، أو محذوف تقديره كائناً بين، فيكون حالاً من الضمير المستكن في المسخر. {لآيات لقوم يعقلون} : دخلت اللام على اسم إن لحيلولة الخبر بينه وبينها، إذ لو كان يليها، ما جاز دخولها، وهي لام التوكيد، فصار في الجملة حرفا تأكيد: إن واللام. و {لقوم} : في موضع الصفة، أي كائنة لقوم. والجملة صفة لقوم، لأنه لا يتفكر في هذه الآيات العظيمة إلا من كان عاقلاً.


{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا} : ومن: مبتدأ موصول، أو نكرة موصوفة، وأفرد يتخذ حملاً على لفظ من، ومن دون الله متعلق بيتخذ، ودون هنا بمعنى غير، وأصلها أن يكون ظرف مكان، وهي نادرة التصرف إذ ذاك. قال ابن عطية: ومن دون: لفظ يعطي غيبة ما يضاف إليه دون عن القضية التي فيها الكلام، وتفسير دون بسوى، أو بغير، لا يطرد. انتهى. تقول: فعلت هذا من دونك، أي وأنت غائب. وتقول: اتخذت منك صديقاً، واتخذت من دونك صديقاً. فالذي يفهم من هذا أنه اتخذ من شخص غيره صديقاً. وتقول: قام القوم دون زيد. فالذي يفهم من هذا: أن المعنى أن زيداً لم يقم، فدلالتها دلالة غير في هذا. والذي ذكر النحويون، هو ما ذكرت لك من كونها تكون ظرف مكان، وأنها قليلة التصرف نادرته. وقد حكى سيبويه أيضاً أنها تكون بمعنى رديء، تقول: هذا ثوب دون أي رديء، فإذا كانت ظرفاً، دلت على انحطاط المكان، فتقول: قعد زيد دونك، فالمعنى: قعد زيد مكاناً دون مكانك، أي منحطاً عن مكانك. وكذلك إذا أردت بدون الظرفية المجازية تقول: زيد دون عمرو في الشرف، تريد المكانة لا المكان. ووجه استعمالها بمعنى غير انتقالها عن الظرفية فيه خفاء، ونحن نوضحه فنقول: إذا قلت: اتخذت من دونك صديقاً، فأصله: اتخذت من جهة ومكان دون جهتك ومكانك صديقاً، فهو ظرف مجازي. وإذا كان المكان المتخذ منه الصديق مكانك وجهتك منحطة عنه وهي دونه، لزم أن يكون غيراً، لأنه ليس إياه، ثم حذفت المضاف وأقمت المضاف إليه مقامه مع كونه غيراً، فصارت دلالته دلالة غير بهذا الترتيب، لا أنه موضوع في أصل اللغة لذلك. وانتصب {أنداداً} هنا على المفعول بيتخذ، وهي هنا متعدية إلى واحد، نحو قولك: اتخذت منك صديقاً، وهي افتعل من الأخذ.


وجاء الضمير في {يحبونهم} ضمير من يعقل. وقد تقدّم لنا أن الأولى أن تكون الأنداد: المجموع من الأوثان والرؤساء، وتكون الآية عامة. وجاء التغليب لمن يعقل في الضمير في: {يحبونهم} ، أي يعظمونهم ويخضعون لهم. والجملة من يحبونهم صفة للأنداد، أو حال من الضمير المستكن في يتخذ، ويجوز أن تكون صفة لمن، إذا جعلتها نكرة موصوفة. وجاز ذلك، لأن في يحبونهم ضمير أنداد، أو ضمير من، وأعاد الضمير على من جمعاً على المعنى، إذ قد تقدم الحمل على اللفظ في يتخذ، إذ أفرد الضمير، وقد وقع الفصل بين الجملتين، وهو شرط على مذهب الكوفيين.


{كَحُبِّ اللَّهِ} ، الكاف في موضع نصب، إما على الحال من ضمير الحب المحذوف، على رأي سيبويه، أو على أنه نعت لمصدر محذوف، على رأي جمهور المعربين، التقدير: على الأول يحبونهموه، أي الحب مشبهاً حب الله، وعلى الثاني تقديره: حباً مثل حب الله، والمصدر مضاف للمفعول المنصوب، والفاعل محذوف، التقدير: كحبهم الله، أو كحب المؤمنين الله، والمعنى أنهم سوّوا بين الحبين، حب الأنداد وحب الله. وقال ابن عطية: حب: مصدر مضاف إلى المفعول في اللفظ، وهو على التقدير مضاف إلى الفاعل المضمر، تقديره: كحبكم الله، أو كحبهم، حسبما قدر كل وجه منهما فرقة. انتهى كلامه. فقوله: مضاف إلى الفاعل المضمر، لا يعني أن المصدر أضمر فيه الفاعل، وإنما سماه مضمراً لما قدره كحبكم أو كحبهم، فأبرزه مضمراً حين أظهر تقديره، أو يعني بالمضمر المحذوف، وهو موجود في اصطلاح النحويين، أعني أن يسمى الحذف إضماراً. وإنما قلت ذلك، لأن من النحويين من زعم أن الفاعل مع المصدر لا يحذف، وإنما يكون مضمراً في المصدر. وردّ ذلك بأن المصدر هو اسم جنس، كالزيت والقمح، وأسماء الأجناس لا يضمر فيها. وقال الزمخشري: كحب الله: كتعظيم الله والخضوع له، أي كما يحب الله، على أنه مصدر من المبني للمفعول، وإنما استغنى عن ذكر من يحبه، لأنه غير ملبس. وقيل: كحبهم الله، أي يسوون بينه وبينه في محبتهم، لأنهم كانوا يقرون بالله ويتقربون إليه، {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} (العنكبوت: 65) } . انتهى كلامه. واختار كون المصدر مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله، وهي مسألة خلاف. أيجوز أن يعتقد في المصدر أنه مبني للمفعول؟ فيجوز: عجبت من ضرب زيد، على أنه مفعول لم يسم فاعله، ثم يضاف إليه، أم لا يجوز ذلك؟ فيه ثلاثة مذاهب، يفصل في الثالث بين أن يكون المصدر من فعل لم يبن إلا للمفعول نحو: عجبت من جنون بالعلم زيد، لأنه من جننت التي لم تبن إلا للمفعول الذي لم يسم فاعله، أو


من فعل يجوز أن يبنى للفاعل، ويجوز أن يبنى للمفعول فيجوز في الأول، ويمتنع في الثاني، وأصحها المنع مطلقاً. وتقرير هذا كله في النحو. وقد رد الزجاج قول من قدر فاعل المصدر المؤمنين، أو ضميرهم، وهو مروي عن ابن عباس، وعكرمة، وأبي العالية، وابن زيد، ومقاتل، والفراء، والمبرد، وقال: ليس بشيء، والدليل على نقضه قوله تعالى بعد: {والذين آمنوا أشد حباً لله} ، ورجح أن يكون فاعل المصدر ضمير المتخذين، أي يحبون الأصنام كما يحبون الله، لأنهم أشركوها مع الله تعالى، فسووا بين الله وبين أوثانهم في المحبة على كمال قدرته ولطيف فطرته وذلة الأصنام وقلتها. وقرأ أبو رجاء العطاردي: يحبونهم، بفتح الياء، وهي لغة، وفي المثل السائر: من حب طبّ، وجاء مضارعه على يحب، بكسر العين شذوذاً، لأنه مضاعف متعد، وقياسه أن يكون مضموم العين نحو: مده يمده، وجر يجره.


{وَالَّذِينَءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} : وعدل في أفعل التفضيل عن أحب إلى أشد حباً، لما تقرر في علم العربية أن أفعل التفضيل وفعل التعجب من وادٍ واحد. وأنت لو قلت: ما أحب زيداً، لم يكن ذلك تعجباً من فعل الفاعل، إنما يكون تعجباً من فعل المفعول، ولا يجوز أن يتعجب من الفعل الواقع بالمفعول، فينتصب المفعول به كانتصاب الفاعل. لا تقول: ما أضرب زيداً، على أن زيداً حل به الضرب. وإذا تقرر هذا، فلا يجوز زيد أحب لعمرو، لأنه يكون المعنى: أن زيداً هو المحبوب لعمرو. فلما لم يجز ذلك، عدل إلى التعجب وأفعل التفضيل بما يسوغ منه ذلك، فتقول: ما أشد حب زيد لعمرو، وزيد أشد حباً لعمرو من خالد لجعفر. على أنهم قد شذوا فقالوا: ما أحبه إليّ، فتعجبوا من فعل المفعول على جهة الشذوذ، ولم يكن القرآن ليأتي على الشاذ في الاستعمال والقياس، ويعدل على الصحيح الفصيح. وانتصاب حباً على التمييز، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ تقديره: حبهم لله أشد من حب أولئك لله، أو لأندادهم على اختلاف القولين.


{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} : وأيضاً فقدر جواب لو، وهو غير مترتب على ما يلي لو، لأن رؤية السامع، أو النبي صلى الله عليه وسلّمالظالمين في وقت رؤيتهم، لا يترتب عليها إقرارهم أن القوة لله جميعاً. وصار نظير قولك: يا زيد لو ترى عمراً في وقت شربه، لأقر أن الله قادر عليه، وإقراره بقدرة الله ليست مترتبة على رؤية زيد. وعلى من قرأ: ولو يرى، بالياء من أسفل وفتح، أن يكون تقدير الجواب: لعلموا أن القوة لله جميعاً، وإن كان فاعل يرى هو الذين ظلموا، وإن كان ضميراً يقدر ولو يرى هو، أي السامع، كان التقدير: لعلم أن القوة لله جميعاً. ومنهم من قدر الجواب محذوفاً بعد قوله {وأن الله شديد العذاب} ، وهو قول أبي الحسن الأخفش، وأبي العباس المبرد، وتقديره: على قراءة ولو ترى بالخطاب، لاستعظمت ما حل بهم، وعلى قراءة ولو يرى للغائب، فإن كان فيه ضمير السامع كان التقدير: لاستعظم ذلك، وإن كان الذين ظلموا هو الفاعل، كان التقدير: لاستعظموا ما حل بهم. وإذا كان الجواب مقدراً آخر الكلام، وكانت أن مفتوحة، فتوجيه فتحها على تقديرين: أحدهما أن تكون معمولة ليرى في قراءة من قرأ بالياء، أي ولو رأى الذين ظلموا أن القوة لله جميعاً. وأما من قرأ بالتاء، فتكون أن مفعولاً من أجله، أي لأن القوة لله جميعاً، ومن كسر أن مع قراءة التاء في ترى، وقدر الجواب آخر الكلام، فهي، وإن كانت مكسورة على معنى المفتوحة، دالة على التعليل، تقول: لا تهن زيداً إنه عالم، ولا تكرم عمراً إنه جاهل، فهي على معنى المتفوحة من التعليل، وتكون هذه الجملة كأنها معترضة بين لو وجوابها المحذوف. وأما قراءة من قرأ بالياء من أسفل وكسر الهمزتين، فيحتمل أن تكون معمولة لقول محذوف هو جواب لو، أي لقالوا إن القوة، أو على سبيل الاستئناف والجواب محذوف، أي لاستعظموا ذلك،


ومفعول: ترى محذوف، أي ولو رأى الظالمون حالهم. وترى في قوله: ولو ترى، يحتمل أن تكون بصرية، وهو قول أبي علي، ويحتمل أن تكون عرفانية. وإذا جعلت أن معمولة ليرى، جاز أن تكون بمعنى علم التعدية إلى اثنين، سدت أن مسدهما، على مذهب سيبويه. والذين ظلموا، إشارة إلى متخذي الأنداد، ونبه على العلية، أو يكون عاماً، فيندرج فيه هؤلاء وغيرهم من الكفار. لكن سياق ما بعده يرشد إلى أنهم متخذو الأنداد. وقراءة ابن عامر: إذ يرون، مبنياً للمفعول، هو من أريت المنقولة من رأيت، بمعنى أبصرت. ودخلت إذ، وهي للظرف الماضي، في أثناء هذه المستقبلات، تقريباً للأمر وتصحيحاً لوقوعه، كما يقع الماضي المستقبل في قوله: {ونادى أصحاب النار} (الأعراف: 50) } ، وكما جاء:

بقيت وفري وانحرفت عن العلى
ولقيت أضيافي بوجه عبوس
لأنه علق ذلك على مستقبل، وهو قوله:
إن لم أشن على ابن هند غارة
لم تخل يوماً من نهاب نفوس وحذف جواب لو، لفهم المعنى، كثير في القرآن، وفي لسان العرب. قال تعالى: {ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت} (سبأ: 51) } ، {ولو ترى إذ وقفوا على النار} (الأنعام: 27) } ، {ولو أن قرآناً سيرت به الجبال} (الرعد: 31) } ، وقال امرؤ القيس:
وجدك لو شيء أتانا رسوله
سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
هذا ما يقتضيه البحث في هذه الآية من جهة الإعراب.
وانتصاب جميعاً على الحال من الضمير المستكن في العامل في الجار والمجرور. والقوة هنا مصدر أريد به الجنس، التقدير: أن القوى مستقرة لله جميعاً، ولا يجوز أن تكون حالاً من القوة، لأن العامل في القوة أن، وأن لا تعمل في الأحوال.
وهذا التركيب أبلغ هنا من أن لو قلت: إن الله قوي، إذ تدل هنا على الإخبار عنه بهذا الوصف. وأن القوة لله تدل على أن جميع أنواع القوى ثابتة مستقرة له تعالى، وتأخر وصفه تعالى بأنه شديد العذاب عن ذلك، لأن شدة العذاب هي من آثار القوة.


{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأٌّسْبَابُ} : لما ذكر متخذي الأنداد ذكر أن عبادتهم لهم وإفناء أعمارهم في طاعتهم، معتقدين أنهم سبب نجاتهم، لم تغن شيئاً، وأنهم حين صاروا أحوج إليهم، تبرؤا منهم. وإذ: بدل من: إذ يرون العذاب. وقيل: معمولة لقوله شديد العذاب. وقيل: لمحذوف تقديره اذكروا الذين اتبعوا، هم رؤساؤهم وقادتهم الذين اتبعوهم في أقوالهم وأفعالهم، قاله ابن عباس وعطاء وأبو العالية وقتادة والربيع ومقاتل والزجاج، أو الشياطين الذين كانوا يوسوسون ويرونهم الحسن قبيحاً والقبيح حسناً، قاله الحسن وقتادة أيضاً والسدي؛ أو عام في كل متبوع، وهو الذي يدل عليه ظاهر اللفظ. وقراءة الجمهور: اتبعوا الأول مبنياً للمفعول، والثاني مبنياً للفاعل.


وينبغي أن يستثنى من المواضع التي تنتصب بإضمار أن بعد الجواب بالفاء، وأنها إذا سقطت الفاء، انجزم الفعل في هذا الموضع، لأن النحويين إنما استثنوا جواب النفي فقط، فينبغي أن يستثنى هذا الموضع أيضاً، لأنه لم يسمع الجزم في الفعل الواقع جواباً للو التي أشربت معنى التمني إذا حذفت الفاء. والسبب في ذلك أن كونها مشربة معنى التمني، ليس أصلها، وإنما ذلك بالحمل على حرف التمني الذي هو ليت. والجزم في جواب ليت بعد حذف الفاء، إنما هو لتضمنها معنى الشرط، أو دلالتها على كونه محذوفاً بعدها، على اختلاف القولين، فصارت لو فرع فرع، فضعف ذلك فيها.g والكاف في كما: في موضع نصب، إما نعتاً لمصدر محذوف، أو على الحال من ضمير المصدر المحذوف على القولين السابقين، في غير ما موضع من هذا الكتاب. وما في كما: مصدرية، التقدير: تبرؤا مثل تبرئهم، أو فنتبرأه، أي فنتبرأ التبرؤ مشابهاً لتبرئهم. وقال ابن عطية: الكاف من قوله: كما في موضع نصب على النعت، إما لمصدر، أو لحال، تقديرها: متبرئين. كما انتهى كلامه. أما قوله على النعت، إما لمصدر، فهو كلام واضح، وهو الإعراب المشهور في مثل هذا. وأما قوله: أو لحال، تقديرها: متبرئين كما، فغير واضح، لأنا لو صرحنا بهذه الحال، لما كان كما منصوباً على النعت لمتبرئين، لأن الكاف الداخلة على ما المصدرية هي من صفات الفعل، لا من صفات الفاعل. وإذا كان كذلك، لم ينتصب على النعت للحال، لأن الحال هنا من صفات الفاعل، ولا حاجة لتقدير هذه الحال، لأنها إذ ذاك تكون حالاً مؤكدة، ولا نرتكب كون الحال مؤكدة إلا إذا كانت ملفوظاً بها. أما أن تقدر حالاً ونجعلها مؤكدة، فلا حاجة إلى ذلك. وأيضاً فالتوكيد ينافي الحذف، لأن ما جيء به لتقوية الشيء لا يجوز حذفه أيضاً. فلو صرح بهذه الحال، لما ساغ في كما إلا أن تكون نعتاً لمصدر محذوف، أو حالاً من الضمير المستكن في الحال المصرّح بها، مثال ذلك: هم محسنون إليّ كما أحسنوا


إلى زيد. فكما أحسنوا ليس من صفات محسنين، إنما هو من صفات الإحسان، التقدير: على الإعراب المشهور إحساناً مثل إحسانهم إلى زيد.
{كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَلَهُمْ حَسَرَتٍ عَلَيْهِمْ} : الكاف عند بعضهم في موضع رفع، وقدروه الأمر كذلك، أو حشرهم كذلك، وهو ضعيف، لأنه يقتضي زيادة الكاف وحذف مبتدأ، وكلاهما على خلاف الأصل. والظاهر أن الكاف على بابها من التشبيه، وأن التقدير مثل إراءتهم تلك الأهوال، {يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم} ، فيكون نعتاً لمصدر محذوف، فيكون في موضع نصب. وجعل صاحب المنتخب ذلك من قوله: كذلك، إشارة إلى تبرؤ بعضهم من بعض. والأجود تشبيه الآراءة بالآراءة، وجوزوا في يريهم أن تكون بصرية عديت بالهمزة، فتكون حسرات منصوباً على الحال، وأن تكون قلبية، فتكون مفعولاً ثالثاً، قالوا: ويكون ثم حذف مضاف، أي على تفريطهم. وتحسر: يتعدى بعلى، تقول: تحسرت على كذا، فعلى هنا متعلقة بقوله: حسرات. ويحتمل أن تكون في موضع الصفة، فالعامل محذوف، أي حسرات كائنة عليهم.

{وَمَا هُم بِخَرِجِينَ مِنَ النَّارِ} : وجاء الخبر مصحوباً بالباء الدالة على التوكيد. وقال الزمخشري: هم بمنزلته في قوله:
هم يفرشون اللبد كل طمرّه
في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم، لا على الاختصاص.


{يأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِى الأٌّرْضِ حَلَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَتِ الشَّيْطَنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِءَابَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَبِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِى الْكِتَبِ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ} .
ألفى: وجد، وفي تعديها إلى مفعولين خلاف، ومن منع جعل الثاني حالاً، والأصح كونه مفعولاً لمجيئه معرفة، وتأويله على زيادة الألف واللام على خلاف الأصل.


{مما في الأرض} ، من: تبعيضية، وما: موصولة، ومن: في موضع المفعول، نحو: أكلت من الرغيف، و {حلالاً} : حال من الضمير المستقر في الصلة المنتقل من العامل فيها إليه. وقال مكي بن أبي طالب: حلالاً: نعت لمفعول محذوف تقديره شيئاً حلالاً، قال ابن عطية: وهذا بعيد ولم يبين وجه بعده، وبعده أنه مما حذف الموصوف، وصفته غير خاصة، لأن الحلال يتصف به المأكول وغير المأكول. وإذا كانت الصفة هكذا، لم يجز حذف الموصوف وإقامتها مقامه. وأجاز قوم أن ينتصب {حلالاً} على أنه مفعول بكلوا، وبه ابتدأ الزمخشري. ويكون على هذا الوجه من لابتداء الغاية متعلقة بكلوا، أو متعلقة بمحذوف، فيكون حالاً، والتقدير: كلوا حلالاً مما في الأرض. فلما قدمت الصفة صارت حالاً، فتعلقت بمحذوف، كما كانت صفة تتعلق بمحذوف. وقال ابن عطية: مقصد الكلام لا يعطي أن تكون حلالاً مفعولاً بكلوا، تأمل. انتهى.

{طيباً} : انتصب صفة لقوله: {حلالاً} ، إما مؤكدة لأن معناه ومعنى حلالاً واحد، وهو قول مالك وغيره، وإما مخصصة لأن معناه مغاير لمعنى الحلال وهو المستلذ، وهو قول الشافعي وغيره. ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر وكل ما هو خبيث. وقيل: انتصب {طيباً} على أنه نعت لمصدر محذوف، أي أكلاً طيباً، وهو خلاف الظاهر. وقال ابن عطية: ويصح أن يكون طيباً حالاً من الضمير في كلوا تقديره: مستطيبين، وهذا فاسد في اللفظ والمعنى. أما اللفظ فلأن طيباً اسم فاعل وليس بمطابق للضمير، لأن الضمير جمع، وطيب مفرد، وليس طيب بمصدر، فيقال: لا يلزم المطابقة.


{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِءَابَآءَنَآ} وأدغم الكسائي لام بل في نون نتبع، وأظهر ذلك غيره. وبل هنا عاطفة جملة على جملة محذوفة، التقدير: لا نتبع ما أنزل الله، {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} . ولا يجوز أن يعطف على قوله: {اتبعوا ما أنزل الله} . وعليه متعلق بقوله: ألفينا، وليست هنا متعدية إلى اثنين، لأنها بمعنى وجد، التي بمعنى أصاب.


{أَوَلَوْ كَانَءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} : الهمزة للاستفهام المصحوب بالتوبيخ والإنكار والتعجب من حالهم، وأما الواو بعد الهمزة، فقال الزمخشري: الواو للحال، ومعناه: أيتبعونهم، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً من الدين ولا يهتدون للصواب؟ وقال ابن عطية: الواو لعطف جملة كلام على جملة، لأن غاية الفساد في الالتزام أن يقولوا: نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون، فقرروا على التزام هذا، أي هذه حال آبائهم. انتهى كلامه. وظاهر قول الزمخشري أن الواو للحال، مخالف لقول ابن عطية إنها للعطف، لأن واو الحال ليست للعطف. والجمع بينهما أن هذه الجملة المصحوبة بلو في مثل هذا السياق، هي جملة شرطية. فإذا قال: اضرب زيداً ولو أحسن إليك، المعنى: وإن أحسن، وكذلك: اعطوا السائل ولو جاء على فرس؛ ردّوا السائل ولو بشق تمرة، المعنى فيها: وإن. وتجيء لو هنا تنبيهاً على أن ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها، لكنها جاءت لاستقصاء الأحوال التي يقع فيها الفعل، ولتدل على أن المراد بذلك وجود الفعل في كل حال، حتى في هذه الحال التي لا تناسب الفعل. ولذلك لا يجوز: اضرب زيداً ولو أساء إليك، ولا أعطوا السائل ولو كان محتاجاً، ولا ردوا السائل ولو بمائة دينار. فإذا تقرر هذا، فالواو في ولو في المثل التي ذكرناها عاطفة على حال مقدرة، والعطف على الحال حال، فصح أن يقال: إنها للحال من حيث أنها عطفت جملة حالية على حال مقدرة. والجملة المعطوفة على الحال حال، وصح أن يقال: إنها للعطف من حيث ذلك العطف، والمعنى: والله أعلم إنكار اتباع آبائهم في كلّ حال، حتى في الحالة التي لا تناسب أن يتبعوا فيها، وهي تلبسهم بعدم العقل وعدم الهداية. ولذلك لا يجوز حذف هذه الواو الداخلة على لو، إذا كانت تنبيهاً على أن ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها. وإن كانت الجملة الواقعة حالاً فيها ضمير يعود على ذي الحال، لأن مجيئها عارية من الواو يؤذن


بتقييد الجملة السابقة بهذه الحال، فهو ينافي استغراق الأحوال حتى هذه الحال. فهما معنيان مختلفان، والفرق ظاهر بين: أكرم زيداً لو جفاك، أي إن جفاك، وبين أكرم زيداً ولو جفاك. وانتصاب شيئاً على وجهين: أحدهما: على المفعول به فعم جميع المعقولات، لأنها نكرة في سياق النفي فتعم، ولا يمكن أن يكون المراد نفي الوحدة فيكون المعنى لا يعقلون شيئاً بل أشياء. والثاني: أن يكون منصوباً على المصدر، أي شيئاً من العقل، وإذا انتفى، انتفى سائر العقول، وقدم نفي العقل، لأنه الذي تصدر عنه جميع التصرّفات، وأخر نفي الهداية، لأن ذلك مترتب على نفي العقل، لأن الهداية للصواب هي ناشئة عن العقل، وعدم العقل عدم لها.
{

وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} فعلى القولين السابقين يكون الفاعل بيسمع ضميراً يعود على ما، وهو المنعوق به. وعلى هذا القول يكون الفاعل ضميراً عائداً على الذي ينعق، ويكون الضمير العائد على ما الرابط للصلة بالموصول محذوفاً لفهم المعنى تقديره: بما لا يسمع منه، وليس فيه شروط جواز الحذف، لأن الضمير مجرور بحرف جر الموصول بغيره. واختلف ما يتعلقان به، فالحرف الأول باء تعلقت بينعق، والثاني من تعلق بيسمع. وقد جاء في كلامهم مثل هذا.


وقد اختلف في كلام سيبويه فقيل: هو تفسير معنى لا تفسير إعراب، وقيل: هو تفسير إعراب، وهو أن في الكلام حذفين: حذف من الأول، وهو حذف داعيهم، وقد أثبت نظيره في الثاني، وحذف من الثاني، وهو حذف المنعوق به، وقد أثبت نظيره في الأول؛ فشبه داعي الكفار براعي الغنم في مخاطبته من لا يفهم عنه، وشبه الكفار بالغنم في كونهم لا يسمعون مما دعوا إليه إلا أصواتاً، ولا يعرفون ما وراءها. وفي هذا الوجه حذف كثير، إذ فيه حذف معطوفين، إذ التقدير الصناعي: ومثل الذين كفروا وداعيهم كمثل الذي ينعق والمنعوق به.
وقد بقي شيء من الكلام عليها، فنقول: ومثل الذين مبتدأ، خبره {كمثل} ، والكاف للتشبيه. شبه الصفة بالصفة، أي صفتهم كصفة الذي ينعق. ومن ذهب إلى أن الكاف زائدة، فقوله ليس بشيء، لأن الصفة ليست عين الصفة، فلا بد من الكاف التي تعطي التشبيه. بل لو جاء دون الكاف لكنا نعتقد حذفها، لأن به تصحيح المعنى. والذي ينعق، لا يراد به مفرد، بل المراد الجنس.
{إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً} : هذا استثناء مفرّغ، لأن قبله فعل مبني متعد لم يأخذ مفعوله. وذهب بعضهم إلى أنه ليس استثناء مفرغاً وأن إلاّ زائدة، والدعاء والنداء منفي سماعهما، والتقدير: بما لا يسمع دعاء ولا نداء، وهذا ضعيف، لأن القول بزيادة إلا، قول بلا دليل. وقد ذهب الأصمعي، رحمه الله، إلى ذلك في قوله:
حراجيج ما تنفك إلا مناخة
على الخسف أو نرمي بها بلداً قفرا
وضعف قوله في ذلك، ولم يثبت زيادة إلا في مكان مقطوع به، فنثبت لها الزيادة.
{إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وإيا هنا مفعول مقدم، وقدم لكون العامل فيه وقع رأس آية، وللاهتمام به والتعظيم لشأنه، لأنه عائد على الله تعالى، كما في قولك: {وإياك نستعين} (الفاتحة: 5) } ، وهذا من المواضع التي يجب فيها انفصال الضمير، وهو إذا تقدم على العامل أو تأخر، لم ينفصل إلا في ضرورة، قال:

إليك حتى بلغت إياكا


{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} : تقدم الكلام على إنما في قوله: {إنما نحن مصلحون} (البقرة: 11) } . وقرأ الجمهور: حرم مسنداً إلى ضمير اسم الله، وما بعده نصب، فتكون ما مهيئة في إنما هيأت إن لولايتها الجملة الفعلية. وقرأ ابن أبي عبلة: برفع الميتة وما بعدها، فتكون ما موصولة اسم إن، والعائد عليها محذوف، أي إن الذي حرمه الله الميتة، وما بعدها خبران. وقرأ أبو جعفر: حرم، مشدداً مبنياً للمفعول، فاحتملت ما وجهين: أحدهما: أن تكون موصولة اسم إن، والعائد الضمير المستكن في حرم والميتة خبران. والوجه الثاني: أن تكون ما مهيئة والميتة مرفوع بحرم. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: إنما حرم، بفتح الحاء وضم الراء مخففة جعله لازماً، والميتة وما بعدها مرفوع. ويحتمل ما الوجهين من التهيئة والوصل، والميتة فاعل يحرم، إن كانت ما مهيئة، وخبر إن، إن كانت ما موصولة.
{وأهلّ} : مبني للمفعول الذي لم يسم فاعله. والمفعول الذي لم يسم فاعله هو الجار والمجرور في قوله: به، والضمير في به عائد على ما، إذ هي موصولة بمعنى الذي.
وانتصاب غير باغ على الحال من الضمير المستكن في اضطر، وجعله بعضهم حالاً من الضمير المستكن في الفعل المحذوف المعطوف على قوله: اضطر، وقدره: فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد. قدره كذلك القاضي وأبو بكر الرازي ليجعلا ذلك قيداً في الأكل، لا في الاضطرار.
{أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ} : أتى بخبر إن جملة، لأنها أبلغ من المفرد، وصدر بأولئك، إذ هو اسم إشارة دال على اتصاف المخبر عنه بالأوصاف السابقة.
{وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ} : هذا الخبر الثاني عن أولئك.
{وَلاَ يُزَكِّيهِمْ} : هذا هو الخبر الثالث.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} : هذا هو الخبر الرابع لأولئك.


{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلَلَةَ بِالْهُدَى} ، أولئك: اسم إشارة إلى الكاتمين الذين سبق ذكرهم، وذكر ما أوعدوا به.
{فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} : اختلف في ما، فالأظهر أنها تعجبية، وهو قول الجمهور من المفسرين. وقد جاء: {قتل الإنسان ما أكفره} (عبس: 17) } ، {أسمع بهم وأبصر} (مريم: 38) } . وأجمع النحويون على أن ما التعجبية في موضع رفع بالابتداء واختلفوا، أهي نكرة تامة والفعل بعدها في موضع الخبر؟ أو استفهامية صحبها معنى التعجب والفعل بعدها في موضع الخبر؟ أو موصولة والفعل بعدها صلة والخبر محذوف؟ أو موصوفة والفعل بعدها صفة والخبر محذوف؟ أقوال أربعة ذكرت في النحو. الأول قول سيبويه والجمهور، والثاني قول الفراء وابن درستويه، والثالث والرابع للأخفش. وكذلك اختلفوا في أفعل بعد ما التعجبية، أهو فعل؟ وهو مذهب البصريين، أم اسم؟ وهو مذهب الكوفيين. وينبني عليه الخلاف في المنصوب بعده، أهو مفعول به أو مشبه بالمفعول به؟.

وذهب معمر بن المثنى والمبرد إلى أن ما استفهامية لا تعجبية، وهو استفهام على معنى التوبيخ بهم.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ} واختلف في إعراب {ذلك} فقيل: هو منصوب بفعل محذوف تقديره: فعلنا ذلك، وتكون الباء في {بأن الله} متعلقة بذلك الفعل المحذوف. وقيل: مرفوع، واختلفوا، أهو فاعل، والتقدير: وجب ذلك لهم؟ أم خبر مبتدأ محذوف، التقدير: الأمر ذلك؟ أي ما وعدوا به من العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق. فاختلفوا، أم مبتدأ، والخبر قوله: {بأن الله نزل} ؟ أي ذلك مستقر ثابت بأن الله نزل الكتاب بالحق، ويكون ذلك إشارة إلى أقرب مذكور، وهو العذاب، ويكون الخبر ليس مجرد تنزيل الله الكتاب بالحق، بل ما ترتب على تنزيله من مخالفته وكتمانه، وأقام السبب مقام المسبب.


{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأٌّخِرِ وَالْمَلَئِكَةِ وَالْكِتَبِ وَالنَّبِيِّينَ وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِى الْقُرْبَى وَالْيَتَمَى وَالْمَسَكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَوةَ وَءَاتَى الزَّكَوةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاٍّنثَى بِالاٍّنْثَى فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَنٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَوةٌ يأُولِي الأَلْبَبِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَلِدَيْنِ وَالأٌّقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
قبل: ظرف مكان، تقول: زيد قبلك.


أولو: من الأسماء التي هي في الرفع بالواو، وفي الجرّ والنصب بالياء. ومعنى أولوا: أصحاب، ومفرده من غير لفظه، وهو ذو بمعنى: صاحب. وأعرب هذا الإعراب على جهة الشذوذ، ومؤنثه أولات بمعنى: صاحبات، وإعرابها كإعرابها، فترفع بالضمة وتجر وتنصب بالكسرة، وهما لازمان للإضافة إلى اسم جنس ظاهر، وكتبا في المصحف بواو بعد الألف، ولو سميت باولو، زدت نوناً فقلت: جاء من أولون، ورأيت أولين، ومررت بأولين، نص على ذلك سيبويه، لأنها حالة إضافتها مقدر سقوط نون منها لأجل لإضافة. كما تقول: ضاربو زيد، وضاربين زيداً.
{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} فمن قرأ بنصب البر جعله خبر ليس، وأن تولوا في موضع الاسم، والوجه أن يلي المرفوع لأنها بمنزلة الفعل المتعدّي، وهذه القراءة من وجه أولى، وهو أن جعل فيها اسم ليس: أن تولوا، وجعل الخبر البر، وأن وصلتها أقوى في التعريف من المعرّف بالألف واللأم، وقراءة الجمهور أولى، من وجه، وهو أن توسط خبر ليس بينها وبين اسمها قليل، وقد ذهب إلى المنع من ذلك ابن درستويه تشبيهاً لها بما.. أراد الحكم عليها بأنها حرف، كما لا يجوز توسيط خبر ما، وهو محجوج بهذه القراءة المتواترة، وبورود ذلك في كلام العرب.

قال الشاعر:
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم
وليس سواء عالم وجهول
وقال الآخر:
أليس عظيماً أن تلمَّ ملمّةٌ
وليس علينا في الخطوب معوَّلُ
وقرأه: بأن تولوا، على زيادة الباء في الخبر كما زادوها في اسمها إذا كان أن وصلتها. قال الشاعر:
أليسَ عجيباً بأن الفتى
يصابُ ببعض الذي في يديه
أدخل الباء على اسم ليس، وإنما موضعها الخبر، وحسَّنَ ذلك في البيت ذكرُ العجيب مع التقرير الذي تفيده الهمزة، وصار معنى الكلام: أعجب بأن الفتى، ولو قلت: أليس قائماً بزيد لم يجز.


و {البرّ} اسم جامع للخير، وتقدم الكلام فيه، وانتصابُ {قبل} على الظرف وناصبه {تولوا} .
{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْءَامَنَ بِاللَّهِ} وإمّا أن يكون على حذف من الأول، أي: ولكنّ ذا البر، قاله الزجاج. أو من الثاني أي: برُّ من آمن، قاله قطرب، وعلى هذا خرَّجه سيبويه، قال في كتابه: وقال جل وعز: {ولكنّ البرَّ من آمن} وإنما هو: ولكن البرَّ برُّ من آمن بالله. انتهى.
وإنما اختار هذا سيبويه لأن السابق، إنما هو نفي كون البر هو تولية الوجه قِبلَ المشرقِ والمغرِبِ، فالذي يستدرك إنما هو من جنس ما ينفى، ونظير ذلك: ليس الكرم أن تبذل درهماً، ولكنَّ الكرم بذل الآلاف، فلا يناسب: ولكنّ الكريم من يبذل الآلاف إلاَّ إن كان قبله: ليس الكريم بباذل درهم.
وقال المبرد: لو كنت ممن يقرأ القرآن ولكن البر بفتح الباء، وإنما قال ذلك لأنه يكون اسم فاعل، تقول: بررت أبرّ، فأنا برّ وبارّ، قيل: فبني تارة على فعل، نحو: كهل، وصعب، وتارة على فاعل، والأولى ادّعاء حذف الألف من البرّ، ومثله: سرٌّ، وقرّ، ورَبٌّ، أي: سارّ، وقار، وبارّ، ورابُّ.
وقال الفراء: {من آمن} ، معناه الإيمان لما وقع من موقع المصدر جعل خبراً للأوّل، كأنه قال: ولكن البر الإيمان بالله، والعرب تجعل الاسم خبراً للفعل، وأنشد الفراء:
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى
ولكنما الفتيان كل فتى ندب
جعل نبات اللحية خبراً للفتى، والمعنى: لعمرك ما الفتوة أن تنبت اللحى، وقرأ نافع، وابن عامر: {ولكن} بسكون النون خفيفة، ورفع البرّ، وقرأ الباقون بفتح النون مشدّدة ونصب البرّ، والإعراب واضح، وقد تقدّم نظير القراءتين في {ولكن الشياطين كفروا} (البقرة: 102) } .


{عَلَى حُبِّهِ} متعلق بـ {آتى} وهو حال، والمعنى: أنه يعطي المال محباً له، أي: في حال محبته للمال واختياره وإيثاره، وهذا وصف عظيم، أن تكون نفس الإنسان متعلقة بشي تعلق المحب بمحبوبه، ثم يؤثر به غيره ابتغاء وجه الله، كما جاء: أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، والظاهر أن الضمير في {حبه} عائد على المال لأنه أقرب مذكور، ومن قواعد النحويين أن الضمير لا يعود على غير الأقرب إلاَّ بدليل، والظاهر أن المصدر فاعله المؤتى، كما فسرناه، وقيل: الفاعل المؤتون، أي حبهم له واحتياجهم إليه وفاقتهم، وإلى الأول ذهب ابن عباس، أي: أعطى المال في حال صحته ومحبته له فآثر به غيره، فقول ابن الفضل: إنه أعاده على المصدر المفهوم من آتى، أي: على حب الإيتاء، بعيد من حيث اللفظ، ومن حيث المعنى، أما من حيث اللفظ فإنه يعود على غير مصرح به، وعلى أبعد من المال، وأما المعنى فلأن من فعل شيئاً وهو يحب أن يفعله لا يكاد يمدح على ذلك، لأن في فعله ذلك هوى نفسه ومرادها، وقال زهير:

تراه إذا ما جئته متهللاً
كأنك تعطيه الذي أنت سائله وقول من أعاده على الله تعالى أبعد، لأنه أعاده على لفظ بعيد مع حسن عوده على لفظ قريب، وفي هذه الأوجه الثلاثة يكون المصدر مضافاً للفاعل، وهو أيضاً بعيد.
قال ابن عطية: ويجيء قوله {على حبه} اعتراضاً بليغاً أثناء القول انتهى كلامه.
فإن كان أراد بالاعتراض المصطلح عليه في النحو فليس كذلك، لأن شرط ذلك أن تكون جملة، وأن لا يكون لها محل من الإعراب، وهذه ليست بجملة، ولها محل من الإعراب. وإن أراد بالاعتراض فصلاً بين المفعولين بالحال فيصح، لكن فيه إلباس، فكان ينبغي أن يقول فصلاً بليغاً بين أثناء القول.
{ذَوِى الْقُرْبَى} وما بعده من المعطوفات هو المفعول الأول على مذهب الجمهور، {المال} هو المفعول الثاني.


ولما كان المقصود الأعظم هو ايتاء المال على حبه قدّم المفعول الثاني اعتناء به لهذا المعنى.
وأما على مذهب السهيلي فإن {المال} عنده هو المفعول الأول، و {ذوي القربى} وما بعده هو المفعول الثاني، فأتى التقديم على أصله عنده. و {اليتامى} معطوف على {ذوي القربى} حمله بعضهم على حذف أي ذوي اليتامى.
{وَأَقَامَ الصَّلَوةَ وَءَاتَى الزَّكَوةَ} : على صلة من وصلة من، آمن وآتى، وتقدمت صلة من التي هي: آمن.
{وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَهَدُواْ} : والموفون معطوف على من آمن، وقيل: رفعه على إضمار، وهم الموفون، والعامل في: إذا.
{وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} : انتصب: والصابرين على المدح، والقطع إلى الرفع أو النصب في صفات المدح والذم والترحم، وعطف الصفات بعضها على بعض مذكور في علم النحو.
وقرأ الحسن، والأعمش، ويعقوب: والصابرون، عطفاً على: الموفون، وقال الفارسي: إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح والذم، والأحسن أن تخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها، لأن هذا الموضع من موضع الإطناب في الوصف، والإبلاغ في القول، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل، لأن الكلام عند الإختلاف يصير كأنه أنواع من الكلام، وضروب من البيان، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجهاً واحداً أو جملة واحدة. انتهى كلامه.


قال الراغب: وإنما لم يقل: ووفى، كما قال: وأقام، لأمرين: أحدهما: اللفظ، وهو أن الصلة متى طالت كان الأحسن أن يعطف على الموصول دون الصلة لئلا يطول ويقبح، والثاني: أنه ذكر في الأول ما هو داخل في حيز الشريعة، وغير مستفاد إلاَّ منها، والحكمة العقلية تقتضي العدالة دون الجور، ولما ذكر الوفاء بالعهد، وهو مما تقضي به العقود المجردة، صار عطفه على الأول أحسن، ولما كان الصبر من وجه مبدأ الفضائل، ومن وجه جامعاً للفضائل، إذ لا فضيلة إلاَّ وللصبر فيها أثر بليغ، غيرَّ إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد. انتهى كلامه.

{أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وتنوع هنا الخبر عن أولئك، فأخبر عن أولئك الأول: بالذين صدقوا، وهو مفصول بالفعل الماضي لتحقق اتصافهم به، وأن ذلك قد وقع منهم وثبت واستقر، وأخبر عن أولئك الثاني: بموصول صلته اسم الفاعل ليدل على الثبوت، وأن ذلك وصف لهم لا يتجدد، بل صار سجية لهم ووصفاً لازماً، ولكونه أيضاً وقع فاصلة آية، لأنه لو كان فعلاً ماضياً لما كان يقع فاصلة.
وقيل: يأتي كتب بمعنى جعل، ومنه {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} (المجادلة: 22) } {فسأكتبها للذين يتقون} (الأعراف: 156) } وتعدي كتب هنا بعلى يشعر بالفرض والوجوب، و {في القتلى} في هنا للسببية، أي: بسبب القتلى، مثل: «دخلت امرأة النار في هرة» .
{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاٍّنثَى بِالاٍّنْثَى} فالألف واللام تدل على الحصر، كأنه قيل: لا يؤخذ الحرّ إلاَّ بالحر، ولا يؤخذ العبد إلاَّ بالعبد، ولا تؤخذ الأنثى إلاَّ بالأنثى.


وأعرب هذه الجمل مبتدأ وخبر، وهي ذوات ابتدىء بها، والجار والمجرور أخبار عنها، ويمتنع أن يكون الباء ظرفية، فليس ذلك على حدّ قولهم: زيد بالبصرة، وإنما هي للسبب، ويتعلق بكون خاص لا بكون مطلق، وقام الجار مقام الكون الخاص لدلالة المعنى عليه، إذ الكون الخاص لا يجوز حذفه إلاَّ في مثل هذا، إذ الدليل على حذفه قوي إذ تقدّم القصاص في القتلى، فالتقدير: الحر مقتول بالحر، أي: بقتله الحر، فالباء للسبب على هذا التقدير، ولا يصح تقدير العامل كوناً مطلقاً، ولو قلت: الحر كائن بالحر، لم يكن كلاماً إلاّ إن كان المبتدأ مضافاً قد حذف وأقيم المضاف إليه مقامه، فيجوز، والتقدير: قتل الحر كائن بالحر، أي: بقتل الحر، ويجوز أن يكون الحر مرفوعاً على إضمار فعل يفسره ما قبله، التقدير: يقتل الحر بقتله الحر، إذ في قوله: {القصاص في القتلى} دلالة على هذا الفعل.
{فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَنٍ} وارتفاع: مَنْ، على الابتداء وهي شرطية أو موصولة، والظاهر أن: من، هو القاتل والضمير في {له} و {من أخيه} عائد عليه، و {شيء} : هو المفعول الذي لم يسم فاعله، وهو معنى المصدر، وبني (عفا) ، للمفعول، وإن كان لازماً، لأن اللازم يتعدى إلى المصدر كقوله: {فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة} (الحاقة: 13) } .
وعفا يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الجناية، تقول: عفوت عن زيد، وعفوت عن ذنب زيد، فإذا عديت إليهما معاً تعدت إلى الجاني باللام، وإلى الذنب بعن، تقول: عفوت لزيد عن ذنبه.


وإذا ثبت أن عفا يكون بمعنى محا فلا يبعد حمل الآية عليه، ويكون إسناد عفي لمرفوعه إسناداً حقيقياً لأنه إذ ذاك مفعول به صريح، وإذا كان لا يتعدّى كان إسناده إليه مجازاً وتشبيهاً للمصدر بالمفعول به، فقد يتعادل الوجهان أعني: كون عفا اللازم لشهرته في الجنايات، وعفا المتعدي لمعنى محا لتعلقه بمرفوعه تعلقاً حقيقياً.
وقد جوز ابن عطية أن يكون عفى بمعنى: ترك، فيرتفع شيء على أنه مفعول به قام مقام الفاعل، قال: والأول أجود بمعنى أن يكون عفى لا يتعدى إلى مفعول به، وإن ارتفاع بشيء، هو لكونه مصدراً أقيم مقام الفاعل، وتقدم قول الزمخشري: أن عفى بمعنى: ترك لم يثبت.
{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَنٍ} . ارتفاع اتباع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: فالحكم، أو الواجب كذا قدره ابن عطية، وقدره الزمخشري: فالأمر اتباع، وجوز أيضاً رفعه بإضمار فعل تقديره: فليكن اتباع، وجوّزوا أيضاً أن يكون مبتدأً محذوف الخبر وتقديره، فعلى الولي اتباع القاتل بالدية، وقدروه أيضاً متأخراً تقديره، فاتباع بالمعروف عليه.
قال ابن عطية بعد تقديره: فالحكم أو الواجب اتباع، وهذا سبيل الواجبات، كقوله {فإمساك بمعروف} (البقرة: 229) } وأما المندوب إليه فيأتي منصوباً كقوله: {فضرب الرقاب} (محمد: 4) } انتهى.


ولا أدري هذه التفرقة بين الواجب والمندوب إلاَّ ما ذكروا من أن الجملة الابتدائية أثبت وآكد من الجملة الفعلية في مثل قوله: {قالوا سلاماً قال سلام} (الذاريات: 25) } فيمكن أن يكون هذا الذي لحظه ابن عطية من هذا. وأما إضمار الفعل الذي قدره الزمخشري: فليكن، فهو ضعيف إذ: كان، لا تضمر غالباً إلاَّ بعد أن الشرطية، أو: لو، حيث يدل على إضمارها الدليل، و {بالمعروف} متعلق بقوله: فاتباع، وارتفاع: {وأداء} لكونه معطوفاً على اتباع، فيكون فيه من الإعراب ما قدروا في: {فاتباع} ، ويكون بإحسان متعلقاً بقوله: وأداء، وجوزوا أن يكون: وأداء، مبتدأ، وبإحسان، هو الخبر، وفيه بعد، والفاء في قوله: فاتباع، جواب الشرط إن كانت مَن شرطاً، والداخلة في خبر المبتدأ إن كانت مَن موصولة.
{فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} قال الزمخشري: ويحتمل: مَن في قوله: {فمن اعتدى} أن تكون شرطية، وأن تكون موصولة.
{فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} جواب الشرط، أو خبر عن الموصول.
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} ولا ضرورة تدعو إلى أن: كتب، أصله: العطف على. {كتب عليكم القصاص في القتلى} {وكتب عليكم} وإن الواو حذفت للطول، بل هذه جملة مستأنفة ظاهرة الارتباط بما قبلها، لأن من أشرف على أن يقتص منه فهو بعض من حضره الموت.


وبني {كتب} للمفعول وحذف الفاعل للعلم به، وللاختصار، إذ معلوم أنه الله تعالى، ومرفوعُ: كتب الظاهر أنه الوصية، ولم يلحق علامة التأنيث للفعل للفصل، لا سيما هنا، إذ طال بالمجرور والشرطين، ولكونه مؤنثاً غير حقيقي، وبمعنى الإيصاء. وجواب الشرطين محذوف لدلالة المعنى عليه، ولا يجوز أن يكون من معنى: كتب، لمضي كتب واستقبال الشرطين. ولكن يكون المعنى: كتب الوصية على أحدكم إذا حضر الموت إن ترك خيراً فليوص. ودل على هذا الجواب سياق الكلام. والمعنى: ويكون الجواب محذوفاً جاء فعل الشرط بصيغة الماضي، والتحقيق أن كل شرط يقتضي جواباً فيكون ذلك المقدر جواباً للشرط الأول، ويكون جواب الشرط الثاني محذوفاً يدل عليه جواب الشرط الأول المحذوف، فيكون المحذوف دل على محذوف، والشرط الثاني شرط في الأول، فلذلك يقتضي أن يكون متقدّماً في الوجود، وإن كان متأخراً لفظاً. واجتماع الشرطين غير مجعول الثاني جواباً للأول بالفاء من أصعب المسائل النحوية، وقد أوضحنا الكلام على ذلك واستوفيناه فيه في كتاب «التكميل» من تأليفنا، فيؤخذ منه.
وقيل: جواب الشرطين محذوف ويقدر من معنى (كتب عليكم الوصية) ويتجوز بلفظ: كتب، عن لفظ: يتوجه إيجاب الوصية عليكم. حتى يكون مستقبلاً فيفسر الجواب، لأن مستقبل، وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون إذا ظرفاً محضاً لا شرطاً، فيكون إذ ذاك العامل فيها: كتب، على هذا التقدير، ويكون جواب: {إن ترك خيراً} محذوفاً يدل عليه: كتب، على هذا التقدير، ولا يجوز عند جمهور النحاة أن يكون إذا معمولاً للوصية لأنها مصدر وموصول، ولا يتقدّم معمول الموصول عليه، وأجاز ذلك أبو الحسن لأنه يجوز عنده أن يتقدّم المعمول إذا كان ظرفاً على العامل فيه إذا لم يكن موصولاً محضاً، وهو عنده المصدر، والألف واللام في نحو: الضارب والمضروب، وهذا الشرط موجود هنا، وإلى هذا ذهب في قوله:
أبعلي هذا بالرحى المتقاعس
فعلق: بالرحى، بلفظ: المتقاعس.


وقال أبو محمد بن عطية: ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون: كتب، هو العامل في: إذا، والمعنى: توجه إيجاب الله عليكم مقتضى كتابه إذا حضر، فعبر عن توجيه الإيجاب: بكتب، لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل، والوصية مفعول لم يسم فاعله بكتب، وجواب الشرطين: إذا، وإن، مقدر يدل عليه ما تقدّم من قوله: {كتب عليكم} كما تقول: شكرت فعلك إن جئتني إذا كان كذا. انتهى كلامه. وفيه تناقض لأنه قال: العامل في إذا: كتب، وإذا كان العامل فيها كتب تمحضت للظرفية ولم تكن شرطاً، ثم قال: وجواب الشرطين: إذا وإن مقدّر يدل عليه ما تقدّم إلى آخر كلامه، وإذا كانت إذا شرطاً فالعامل فيها إما الجواب، وإما الفعل بعدها على الخلاف الذي في العامل فيها، ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما قبلها إلاَّ على مذهب من يجيز تقديم جواب الشرط عليه، ويفرع على أن الجواب هو العامل في: إذا.

ولا يجوز تأويل كلام ابن عطية على هذا المذهب لأنه قال: وجواب الشرطين: إذا وإن مقدر يدل عليه ما تقدم، وما كان مقدراً يدل عليه ما تقدم يستحيل أن يكون هو الملفوظ به المتقدم، وهذا الإعراب هو على ما يقتضيه الظاهر من أن الوصية مفعول لم يسم فاعله مرفوع بكتب.
والزمخشري يسمي المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلاً وهذا اصطلاحه، قال في تفسيره: والوصية فاعل كتب، وذكر فعلها للفاصل، ولأنها بمعنى: أن يوصي، ولذلك ذكر الراجع في قوله فمن بدّله بعدما سمعه. اهـ.
ونبهت على اصطلاحه في ذلك لئلا يتوهم أن تسمية هذا المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلاً سهو من الناسخ، وأجاز بعض المعربين أن ترتفع الوصية على الابتداء، على تقدير الفاء، والخبر إمّا محذوف، أي: فعليه الوصية. وإمّا منطوق به، وهو قوله: {للوالدين والأقربين} أي: فالوصية للوالدين والأقربين، وتكون هذه الجملة الابتدائية جواباً لما تقدم، والمفعول الذي لم يسم فاعله: بكتب، مضمر. أي: الإيصاء يفسره ما بعده.


قال أبو محمد بن عطية في هذا الوجه: ويكون هذا الإيصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد، هو العامل في إذا، وترتفع الوصية بالابتداء، وفيه جواب الشرطين على نحو ما أنشد سيبويه رحمه الله:
من يفعل الحسنات الله يحفظه
ويكون رفعها بالابتداء بتقدير: فعليه الوصية، أو بتقدير الفاء فقط كأنه قال: فالوصية للوالدين. اهـ. كلامه. وفيه أن إذا معمولة للإيصاء المقدر، ثم قال: إن الوصية فيه جواب الشرطين، وقد تقدّم إبداء تناقض ذلك، لأن إذا من حيث هي معمولة للإيصاء لا تكون شرطاً، ومن حيث إن الوصية فيه جواب إذا يكون شرطاً فتناقضا، لأن الشيء الواحد لا يكون شرطاً وغير شرط في حالة واحدة، ولا يجوز أن يكون الإيصاء المقدر عاملاً وفي إذا أيضاً لأنك إما أن تقدر هذا العامل في: إذا، لفظ الإيصاء بحذف، أو ضمير الإيصاء: لا، جائز أن يقدره لفظ الأيصاء حذف، لأن المفعول لم يسم فاعله لا يجوز حذفه، وابن عطية قدر لفظ: الأيصاء، ولا جائز أن يقدره ضمير الإيصاء، لأنه لو صرح بضمير المصدر لم يجز له أن يعمل، لأن المصدر من شرط عمله عند البصريين أن يكون مظهراً، وإذا كان لا يجوز إعمال لفظ مضمر المصدر فمنويه أحرى أن لا يعمل، وأما قوله: وفيه جواب الشرطين، فليس بصحيح، فإنا قد قررنا أن كل شرط يقتضي جواباً على حذفه، والشيء الواحد لا يكون جواباً لشرطين، وأما قوله على نحو ما أيد سيبويه:

من يفعل الحسنات الله يحفظه
وهو تحريف على سيبويه، وإنما سيبويه أيده في كتابه:
من يفعل الحسنات الله يشكرها
والشر بالشر عند الله مثلان
وأما قوله: بتقدير فعليه الوصية، أو بتقدير الفاء فقط، كأنه قال: فالوصية للوالدين، فكلام من لم يتصفح كلام سيبويه، فإن سيبويه نص على أن مثل هذا لا يكون إلاَّ في ضرورة الشعر، فينبغي أن ينزه كتاب الله عنه.


قال سيبويه: وسألته، يعنى الخليل، عن قوله: إن تأتني أنا كريم، قال: لا يكون هذا إلاَّ أن يضطر شاعر من قِبَل: إن أنا كريم، يكون كلاماً مبتداً، والفاء، وإذ لا يكونان إلاَّ معلقتين بما قبلها، فكرهوا أن يكون هذا جواباً حيث لم يشبه الفاء، وقد قاله الشاعر مضطراً، وأنشد البيت السابق:
من يفعل الحسنات
وذكر عن الأخفش: أن ذلك على إضمار الفاء، وهو محجوج بنقل سيبويه أن ذلك لا يكون إلاَّ في اضطرار، وأجاز بعضهم أن تقام مقام المفعول الذي لم يسم فاعله الجارّ والمجرور الذي هو: عليكم، وهو قول لا بأس به على ما نقرره، فنقول: لما أخبر أنه كتب على أحدهم إذا حضره الموت إن ترك خيراً تشوّف السامع لذكر المكتوب ما هو، فتكون الوصية مبتدأ، أو خبراً المبتدأ على هذا التقدير، ويكون جواباً السؤال مقدر، كأنه قيل: ما المكتوب على أحدنا إذا حضره الموت وترك خيراً؟ فقيل: الوصية للوالدين والأقربين هي المكتوبة، أو: المكتوب الوصية للوالدين والأقربين، ونظيره: ضرب بسوط يوم الجمعة زيد المضروب أو المضروب زيد، فيكون هذا جواب بالسؤال مقدر، كأنه قال: من المضروب؟ وهذا الوجه أحسن، وأقل تكلفاً من الوجه الذي قبله، وهو أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله الإيصاء، وضمير الإيصاء والوالدان معروفان، وتقدم الكلام على ذلك في قوله تعالى: {وبالوالدين إحساناً} (البقرة: 83) } .
{وَالأٌّقْرَبِينَ} جمع الأقرب، وظاهره أنه أفعل تفضيل.


{حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} انتصب حقاً على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة، أي: حق ذلك حقاً، قاله ابن عطية، والزمخشري. وهذا تأباه القواعد النحوية لأن ظاهر قوله: {على المتقين} إذن يتعلق على بحقاً، أو يكون في موضع الصفة له، وكلا التقديرين يخرجه عن التأكيد، أما تعلقه به فلأن المصدر المؤكد لا يعمل إنما يعمل المصدر الذي ينحل بحرف مصدري، والفعل أو المصدر الذي هو بدل من اللفظ بالفعل وذلك مطرد في الأمر والاستفهام، على خلاف في هذا الأخير على ما تقرر في علم النحو، وأما جعله صفة: لحقاً أي: حقاً كائناً على المتقين، فذلك يخرجه عن التأكيد، لأنه إذ ذاك يتخصص بالصفة، وجوز المعربون أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، إمّا لمصدر من: كتب عليكم، أي: كتباً حقاً، وإما لمصدر من الوصية أي إيصاءً حقاً، وأبعد من ذهب إلى أنه منصوب: بالمتقين، وأن التقدير: على المتقين حقاً، كقوله: {أولئك هم المؤمنون حقاً} (الأنفال: 4) } لأنه غير المتبادر إلى الذهن، ولتقدمه على عامله الموصول، والأولى عندي أن يكون مصدراً من معنى: كتب، لأن معنى: كتبت الوصية، أي: وجبت وحقت، فانتصابه على أنه مصدر على غير الصدر، كقولهم: قعدت جلوساً.

{فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} : الظاهر أن الضمير يعود على الوصية بمعنى الإيصاء، أي: فمن بدّل الإيصاء عن وجهه إن كان موافقاً للشرع من الأوصياء والشهود بعدما سمعه سماع تحقق وتثبت، وعوده على الإيصاء أولى من عوده على الوصية، لأن تأنيث الوصية غير حقيقي، لأن ذلك لا يراعى في الضمائر المتأخرة عن المؤنث المجازي، بل يستوي المؤنث الحقيقي والمجازي في ذلك تقول: هند خرجت. والشمس طلعت، ولا يجوز طلع إلاَّ في الشعر، والتذكير على مراعاة المعنى وارد في لسانهم، ومنه:
كخرعوبة البانة المنفطر
ذهب إلى المعنى: القضيب، كأنه قال: كقضيب البانة، ومنه في العكس: جاءته كتابي، فاحتقرها على معنى الصحيفة.


والضمير في {سمعه} عائد على الإيصاء كما شرحناه، وقيل: يعود على أمر الله تعالى في هذه الآية.
وقيل: الهاء، في: {فمن بدّله} عائدة إلى الفرض، والحكم، والتقدير: فمن بدل الأمر المقدم ذكره، ومَنْ: الظاهر أنها شرطية، والجواب: {فإنما إثمه} وتكون: مَنْ، عامة في كل مبدل: مَنْ رضي بغير الوصية في كتابة، أو قسمة حقوق، أو شاهد بغير شهادة، أو يكتمها، أو غيرهما ممن يمنع حصول المال ووصوله إلى مستحقه، وقيل: المراد بِمَنْ: متولي الإيصاء دون الموصي والموصى له، فإنه هو الذي بيده العدل والجنف والتبديل والإمضاء، وقيل: المراد: بِمَنْ: هو الموصي، نهي عن تغيير وصيته عن المواضع التي نهى الله عن الوصية إليها، لأنهم كانوا يصرفونها إلى الأجانب، فأمروا بصرفها إلى الأقربين.
ويتعين على هذا القول أن يكون الضمير في قوله: {فمن بدّله} وفي قوله: {بعدما سمعه} عائداً على أمر الله تعالى في الآية، وفي قوله: {بعدما سمعه} دليل على أن الإثم لا يترتب إلاَّ بشرط أن يكون المبدل قد علم بذلك، وكنى بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله. {فإنما إثمه} : الضمير عائد على الإيصاء المبدل، أو على المصدر المفهوم من بدّله، أي: فإنما إثم التبديل على المبدل.
{فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} ومَنْ: شرطية، والجواب: فلا إثم عليه، {ومن موص} متعلق، بخاف، أو بمحذوف تقديره: كائناً من موصٍ، وتكون حالاً، إذ لو تأخر لكان صفة، كقوله: {جنفاً أو إثماً} فلما تقدم صار حالاً، ويكون الخائف في هذين التقديرين، ليس الموصي، ويجوز أن يكون: مَنْ، لتبيين جنس الخائف، فيكون الخائف بعض الموصين على حد: مَنْ جاءك مِنْ رجل فأكرمه، أي: مَن جاءك مِن الرجال فالجائي رجل، والخائف هنا موصٍ.


{فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} : الضمير عائد على الموصي والورثة، أو على الموصى لهما وعلى الورثة والموصى لهم على اختلاف الأقاويل التي سبقت، والظاهر عوده على الموصى لهم، إذ يدل على ذلك لفظ: الموصي، لما ذكر الموصي أفاد مفهوم الخطاب أن هناك موصى له، كما قيل في قوله: {وآداء إليه} أي: إلى العافي، لدلالة من عفى له، ومنه ما أنشده الفراء رحمه الله تعالى:
وما أدري إذا يممت أرضاً
أريد الخير أيهما يليني
فقال: أيهما، فأعاد الضمير على الخير والشر، وإن لم يتقدم ذكر الشر، لكنه تقدم الخير وفيه دلالة على الشر.


{يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ * أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالنَ بَشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّيْلِ وَلاَ تُبَشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَكِفُونَ فِي الْمَسَجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَلَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَآ


إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
وبناء {كُتب} للمفعول في هذه المكتوبات الثلاثة، وحذف الفاعل للعلم به، إذ هو: الله تعالى، لأنها مشاق صعبة على المكلف، فناسب أن لا تنسب إلى الله تعالى، وإن كان الله تعالى هو الذي كتبها، وحين يكون المكتوب للمكلف فيه راحة واستبشار يبنى الفعل للفاعل، كما قال تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} (الأنعام: 54) } {كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} (المجادلة: 21) } {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان} (المجادلة: 22) } وهذا من لطيف علم البيان.

أما بناء الفعل للفاعل في قوله: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} (المائدة: 45) } فناسب لاستعصاء اليهود وكثرة مخالفاتهم لأنبيائهم بخلاف هذه الأمة المحمدية، ففرق بين الخطابين لافتراق المخاطبين.
والألف واللام في: الصيام، للعهد إن كانت قد سبقت تعبداتهم به، أو للجنس إن كانت لم تسبق.
وجاء هذا المصدر على فعال، وهو أحد البنائين الكثيرين في مصدر هذا النوع من الفعل، وهو فعل الواوي العين، الصحيح الآخر، وإلبناءآن هما فعول وفعال، وعدل عن الفعول وإن كان الأصل لاستثقال الواوين، وقد جاء منه شيء على الأصل: كالفؤور، ولثقل اجتماع الواوين همز بعضهم فقال: الفؤور.
{كَمَا كُتِبَ} الظاهر أن هذا المجرور في موضع الصفة لمصدر محذوف، أو في موضع الحال على مذهب سيبويه على ما سبق، أي: كتباً مثل ما كتب أو كتبه، أي: الكتب منها كتب، وتكون السببية قد وقع في مطلق الكتب وهو الإيجاب، وإن كان متعلقه مختلفاً بالعدد أو بغيره، وروي هذا المعنى عن معاذ بن جبل، وعطاء، وتكون إذ ذاك ما مصدرية.
وقيل: الكاف في موضع نصب على الحال من الصيام، أي: مشبها ما كتب على الذين من قبلكم، وتكون ما موصولة أي: مشبهاً الذي كتب عليكم، وذو الحال هو: الصيام، والعامل فيها العامل فيه، وهو: كتب عليكم.


وأجاز ابن عطية أن تكون الكاف في موضع صفة لصوم محذوف، التقدير: صوماً كما، وهذا فيه بُعد، لأن تشبيه الصوم بالكتابة لا يصح، هذا إن كانت ما مصدرية، وأما إن كانت موصولة ففيه أيضاً بُعد، لأن تشبيه الصوم بالمصوم لا يصح إلاَّ على تأويل بعيد.
وأجاز بعض النحاة أن تكون الكاف في موضع رفع على أنها نعت لقوله: الصيام، قال: إذ ليس تعريفه بمستحسن لمكان الإجمال الذي فيه مما فسرته الشريعة، فلذلك جاز نعته بكما، إذ لا ينعت بها إلاَّ النكرات، فهي بمنزلة: {كتب عليكم الصيام} انتهى كلامه، وهو هدم للقاعدة النحوية من وجوب توافق النعت والمنعوت في التعريف والتنكير، وقد ذهب بعضهم إلى نحو من هذا، وأن الألف واللام إذا كانت جنسية جاز أن يوصف مصحوبها بالجملة، وجعل من ذلك قوله تعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} (يس: 37) } ولا يقوم دليل على إثبات هدم ما ذهب إليه النحويون، وتلخص في: ما، من قوله: كما وجهان أحدهما: أن تكون مصدرية، وهو الظاهر، والآخر: أن تكون موصولة، بمعنى: الذي.


{أَيَّامًا مَّعْدُودَتٍ} وانتصاب قوله: {أياماً} على إضمار فعل يدل عليه ما قبله، وتقديره: صوموا أياماً معدودات، وجوزوا أن يكون منصوباً بقوله: الصيام، وهو اختيار الزمخشري، إذ لم يذكره غيره، قال: وانتصاب أياماً بالصيام كقولك: نويت الخروج يوم الجمعة ـ انتهى كلامه ـ وهو خطأ، لأن معمول المصدر من صلته، وقد فصل بينهما بأجنبي وهو قوله: {كما كتب} فكما كتب ليس لمعمول المصدر، وإنما هو معمول لغيره على أي تقدير قدرته من كونه نعتاً لمصدر محذوف، أو في موضع الحال، ولو فرعت على أنه صفة للصيام على تقدير: أن تعريف الصيام جنس، فيوصف بالنكرة، لم يجز أيضاً، لأن المصدر إذا وصف قبل ذكر معموله لم يجز إعماله، فإن قدَّرت الكاف نعتاً لمصدر من الصيام، كما قد قال به بعضهم، وضعَّفناه قبل، فيكون التقدير: صوماً كما كتب، جاز أن يعمل في {أياماً الصيام} ، لأنه إذ ذاك العامل في صوماً هو المصدر، فلا يقع الفصل بينهما بما ليس لمعمول للمصدر، وأجازوا أيضاً انتصاب أياماً على الظرف، والعامل فيه كتب، وأن يكون مفعولاً على السعة ثانياً، والعامل فيه كتب، وإلى هذا ذهب الفراء، والحوفي، وكلا القولين خطأ.

أما النصب على الظرف فإنه محل للفعل، والكتابة ليست واقعة في الأيام، لكن متعلقها هو الواقع في الأيام، فلو قال الإنسان لوالده وكان ولد يوم الجمعة: سرني ولادتك يوم الجمعة، لم يكن أن يكون يوم الجمعة معمولاً لسرني، لأن، السرور يستحيل أن يكون يوم الجمعة، إذ ليس بمحل للسرور الذي أسنده إلى نفسه، وأما النصب على المفعول اتساعاً فإن ذلك مبني على جواز وقوعه ظرفاً لكتب، وقد بينا أن ذلك خطأ.


{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وموضع أو على السفر، نصب لأنه معطوف على خبر: كان، ومعنى: أو هنا التنويع، وعدل عن اسم الفاعل وهو: أو مسافر إلى، أو على سفر، إشعاراً بالاستيلاء على السفر لما فيه من الاختيار للمسافر، بخلاف المرض، فإنه يأخذ الإنسان من غير اختيار، فهو قهري، بخلاف السفر؛ فكان السفر مركوب الإنسان يستعلي عليه، ولذلك يقال: فلان على طريق، وراكب طريق إشعاراً بالاختيار، وأن الإنسان مستولٍ على السفر مختارٌ لركوب الطريق فيه.
{فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قراءة الجمهور برفع عدة على أنه مبتدأ محذوف الخبر، وقدر: قبل، أي: فعليه عدة وبعد أي: أمثل له، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: فالواجب، أو: فالحكم عدة.


وقرىء: فعدة، بالنصب على إضمار فعل، أي: فليصم عدة، وعدة هنا بمعنى معدود، كالرعي والطحن، وهو على حذف مضاف، أي: فصوم عدة ما أفطر، وبين الشرط وجوابه محذوف به يصح الكلام، التقدير: فافطر فعدة، ونظيره في الحذف: {أن أضرب بعصاك البحر فانفلق} (الشعراء: 63) } أي: فضرب فانفلق. ونكر {عدة} ولم يقل: فعدتها، أي: فعدة الأيام التي أفطرت اجتزاءً، إذ المعلوم أنه لا يجب عليه عدة غير ما أفطر فيه مما صامه، والعدة المعدود، فكان التنكير أخصر و {من أيام} في موضع الصفة لقوله فعدة، وأخر: صفة لأيام، وصفة الجمع الذي لا يعقل تارة يعامل معاملة الواحدة المؤنثة وتارة يعامل معاملة جمع الواحدة المؤنثة. فمن الأول: {إلا أياماً معدودة} (البقرة: 80) } ومن الثاني: {إلا أياماً معدودات} (آل عمران: 24) } فمعدودات: جمع لمعدودة. وأنت لا تقول: يوم معدودة، إنما تقول: معدود، لأنه مذكر، لكن جاز ذلك في جمعه، وعدل عن أن يوصف الأيام بوصف الواحدة المؤنث، فكان، يكون: من أيام أخرى، وإن كان جائزاً فصيحاً كالوصف بأخر لأنه كان يلبس أن يكون صفة لقوله {فعدة} ، فلا يدرى أهو وصف لعدة، أم لأيام، وذلك لخفاء الإعراب لكونه مقصوراً، بخلاف: {أخر} فإنه نص في أنه صفة لأيام لاختلاف إعرابه مع إعراب فعدة، أفلا ينصرف للعلة التي ذكرت في النحو، وهي جمع أخرى مقابلة أخر؟ وأخر مقابل أخريين؟ لا جمع أخرى لمعنى أخرة، مقابلة الأخر المقابل للأول، فإن أخر تأنيث أخرى لمعنى أخرة مصروفة. وقد اختلفا حكماً ومدلولاً. أما اختلاف الحكم فلأن تلك غير مصروفة، وأما اختلاف المدلول: فلأن مدلول أخرى، التي جمعها أخر التي لا تنصرف، مدلول: غير، ومدلول أخرى التي جمعها ينصرف مدلول: متأخرة، وهي قابلة الأولى. قال تعالى: {قالت أولاهم لأخراهم} (الأعراف: 39) } فهي بمعنى: الآخرة، كما قال تعالى: {وإن لنا للآخرة والأولى} (الليل: 13) } وأخر الذي مؤنثه: أخرى مفردة آخر التي لا تنصرف بمعنى: غير، لا


يجوز أن يكون ما اتصل به إلاَّ مِن جنس ما قبله، تقول: مررت بك وبرجل آخر، ولا يجوز: اشتريت هذا الفرس وحماراً آخر، لأن الحمار ليس من جنس الفرس، فأما قوله:

صلى على عزة الرحمان وابنتها
ليلى، وصلى على جاراتها الأخر فإنه جعل: ابنتها جارة لها، ولولا ذلك لم يجز، وقد أمعنا الكلام على مسألة أخرى في كتابنا «التكميل» .
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قرأ الجمهور: يطيقونه مضارع أطاق، وقرأ حميد يطوقونه من أطوق، كقولهم أطول في أطال، وهو الأصل. وصحة حرف العلة في هذا النحو شاذة من الواو ومن الياء، والمسموع منه: أجود، وأعول، وأطول. وأغيمت السماء، وأخيلت، وأغيلت المرأة وأطيب، وقد جاء الإعلال في جميعها وهو القياس، والتصحيح كما ذكرنا شاذ عند النحويين، إلاَّ أبا زيد الأنصاري فإنه يرى التصحيح في ذلك مقيساً إعتباراً بهذه الالفاظ النزرة المسموع فيها الإعتلال والنقل على القياس.
وقرأ عبد الله بن عباس في المشهور عنه: يطوّقونه، مبنياً للمفعول من طوّق على وزن قطع.
وقرأ الجمهور: فدية طعام مسكين، بتنوين الفدية، ورفع طعام، وإفراد مسكين، وهشام كذلك إلا أنه قرأ: مساكين بالجمع، وقرأ نافع، وابن ذكوان، بإضافة الفدية والجمع وإفراد الفدية، لأنها مصدر. ومن نوّن كان طعام بدلاً من فدية، وكان في ذلك تبيين للفدية ما هي. ومن لم ينوّن فأضاف كان في ذلك تبيين أيضاً وتخصص بالإضافة، وهي إضافة الشيء إلى جنسه، لأن الفدية اسم للقدر الواجب، والطعام يعم الفدية وغيرها، وفي «المنتخب» أنه يجوز أن تكون هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة. قال: لأن الفدية لها ذات، وصفتها أنها طعام، وهذا ليس بجيد، لأن طعاماً ليس بصفة، وهو هنا إما أن يكون يراد به المصدر كما يراد بعطاء الإعطاء، أو يكون يراد به المفعول كما يراد بالشراب المشروب، وعلى كلا التقديرين لا يحسن به الوصف.


أما إذا كان مصدراً فإنه لا يوصف به إلاّ عند إرادة المبالغة، ولا معنى لها هنا، وأما إذا أريد به المفعول فلأنه ليس جارياً على فعلٍ ولا منقاساً، فلا تقول: في مضروب ضراب، ولا في مقتول قتال، وإنما هو شبيه الرعي والطحن والدهن، لا يوصف بشيء منها، ولا يعمل عمل المفعول، ألا ترى أنه لا يجوز فيها مررت برجل طعام خبزه ولا شراب ماؤه، فيرفع ما بعدها بها؟ وإذا تقرر هذا فهو ضعف أن يكون ذلك من إضافة الموصوف إلى صفته، ومن قرأ مساكين، قابل الجمع بالجمع، ومن أفرد فعلى مراعاة إفراد العموم أي: وعلى كل واحد ممن يطيق الصوم لكل يوم يفطره إطعام مسكين، ونظيره:
لقد كان في حول ثواء ثويته

تقضي لبانات ويسأم سائم


وهذا الذي ذكره الكسائي بالعكس، فلو كان هذا التركيب: كتب عليكم شهر رمضان صيامه، لكان البدل إذ ذاك صحيحاً. وعكس: ويمكن توجيه قول الكسائي على أن يكون على حذف مضاف، فيكون من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة تقديره: صيام شهر رمضان، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، لكن في ذلك مجاز الحذف والفصل الكثير بالجمل الكثيرة، وهو بعيد، ويجوز على بُعدٍ أن يكون بدلاً من أيام معدودات، على قراءة عبد الله، فإنه قرأ: أيامٌ معدودات، بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: المكتوب صومه أيام معدودات. ذكر هذه القراءة أبو عبد الله الحسين بن خالويه في كتاب «البديع» له في القرآن؛ وانتصاب شهر رمضان على قراءة من قراء ذلك على إضمار فعل تقديره: صوموا شهر رمضان، وجوزوا فيه أن يكون بدلاً من قوله: {أياماً معدودات} قاله الأخفش، والرماني وفيه بعد لكثرة الفصل، وأن يكون منصوباً على الإغراء تقديره إلزموا شهر رمضان، قاله أبو عبيدة والحوفي، ورد بأنه لم يتقدم للشهر ذكر وإن كان منصوباً بقوله: {وأن تصوموا} حكاه ابن عطية وجوزه الزمخشري قال: وقرىء بالنصب على: صوموا شهر رمضان، أو على الإبدال من: {أياماً معدودات} ، أو على أنه مفعول، وأن تصوموا. انتهى كلامه؛ وهذا لا يجوز، لأن تصوموا صلة لأن، وقد فصلت بين معمول الصلة وبينها بالخبر الذي هو خير، لأن تصوموا في موضع مبتدأ، أي: وصيامكم خير لكم، ولو قلت: أن يضرب زيداً شديد، وأن تضرب شديد زيداً، لم يجز.
وأدغمت فرقة شهر رمضان. قال ابن عطية: وذلك لا تقتضيه الأصول لاجتماع الساكنين فيه، يعني بالأصول أصول ما قرره أكثر البصريين، لأن ما قبل الراء في شهر حرف صحيح، فلو كان في حرف علة لجاز بإجماع منهم، نحو: هذا ثوب بكر، لأن فيه لكونه حرف علة مدّا أمّا، ولم تقصر لغة العرب على ما نقله أكثر البصريين، ولا على ما اختاروه، بل إذا صح النقل وجب المصير إليه.


{الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} : تقدّم إعرابه، وظاهره أنه ظرف لإنزال القرآن.
{هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ} انتصاب: هدىً، على الحال وهو مصدر وضع موضع إسم الفاعل، أي: هادياً للناس، فيكون: للناس، متعلقاً بلفظ. هدىً، لما وقع موقع هادٍ، وذو الحال القرآن، والعامل: أنزل، وهي حال لازمة، لأن كون القرآن هدىً هو لازم له، وعطف قوله: وبينات، على: هدىً، فهو حال أيضاً.
{مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} هذا في موضع الصفة لقوله: هدى وبينات، أي: أن كون القرآن هدى وبينات هو من جملة هدى الله وبيناته.


وقال ابن عطية: اللام في الهدى للعهد، والمراد الأول. انتهى كلامه. يعني: أنه أتى به منكراً أولاً، ثم أتى به معرفاً ثانياً، فدل على أنه الأول كقوله تعالى: {كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول} (المزمل: 16) } فمعلوم أن الرسول الذي عصاه فرعون هو الرسول الذي أرسل إليه، ومن ذلك قولهم: لقيت رجلاً فضربت الرجل، فالمضروب هو الملقى؟ ويعتبر ذلك بجعل ضمير النكرة مكان ذلك هذا الثاني، فيصح المعنى، لأنه لو أتى فعصاه فرعون، أو: لقيت رجلاً فضربته لكان كلاماً صحيحاً، ولا يتأتى هذا الذي قاله ابن عطية هنا، لأنه ذكر هو والمعربون: أن هدىً منصوب على الحال وصف في ذي الحال، وعطف عليه وبينات، فلا يخلو قوله: من الهدى، المراد به الهدى الأول من أن يكون صفة لقوله: هدى، أو لقوله: وبينات، أو لهما، أو متعلق بلفظ بينات، لا جائز أن يكون صفة لهدى، لأنه من حيث هو وصف لزم أن يكون بعضاً، ومن حيث هو الأول لزم أن يكون هو إياه، والشيء الواحد لا يكون بعضاً. كلاً بالنسبة لماهيته، ولا جائز أن يكون صفة لبينات فقط، لأن وبينات معطوف على هدى، وهدى حال، والمعطوف على الحال حال، والحال وصف في ذي الحال، فمن حيث كونهما حالين تخصص بهما ذو الحال إذ هما وصفان، ومن حيث وصفت بينات بقوله: من الهدى، خصصها به، فوقف تخصيص القرآن على قوله هدى وبينات معاً، ومن حيث جعلت من الهدى صفة لبينات توقف تخصيص بينات على هدى، فلزم من ذلك تخصيص الشيء بنفسه، وهو محال، ولا جائز أن يتعلق بلفظ: وبينات، لأن المتعلق تقييد للمتعلق به، فهو كالوصف، فيمتنع من حيث يمتنع الوصف.
وأيضاً فلو جعلت هنا مكان الهدى ضميراً، فقلت: وبينات منه أي: من ذلك الهدى، لم يصح، فلذلك اخترنا أن يكون الهدى والفرقان عامين حتى يكون هدى وبينات بعضاً منهما.


{فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} الألف واللام في الشهر للعهد، ويعني به شهر رمضان، ولذلك ينوب عنه الضمير، ولو جاء: فمن شهد منكم فليصمه لكان صحيحاً، وإنما أبرزه ظاهراً للتنويه به والتعظيم له، وحسن له أيضاً كونه من جملة ثانية.
ومعنى شهود الشهر الحضور فيه. فانتصاب الشهر على الظرف، والمعنى: أن المقيم في شهر رمضان إذا كان بصفة التكليف يجب عليه الصوم، إذ الأمر يقتضي الوجوب، وهو قوله: فليصمه، وقالوا على انتصاب الشهر: أنه مفعول به، وهو على حذف مضاف، أي: فمن شهد، حذف مفعوله تقديره المصر أو البلد.

وقيل: انتصاب الشهر على أنه مفعول به، وهو على حذف مضاف، أي: فمن شهد منكم دخول الشهر عليه وهو مقيم لزمه الصوم.
وقال الزمخشري: الشهر منصوب على الظرف، وكذلك الهاء في: فليصمه، ولا يكون مفعولاً به، كقولك: شهدت الجمعة، لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر. انتهى كلامه.
وقد تقدم أن ذلك يكون على حذف مضاف تقديره: فمن شهد منكم دخول الشهر، أي: من حضر. وقيل: التقدير هلال الشهر، وهذا ضعيف، لأنك لا تقول: شهدت الهلال، إنما تقول: شاهدت، ولأنه كان يلزم الصوم كل من شهد الهلال وليس كذلك.
و {منكم} ، في موضع الحال، ومن الضمير المستكن في شهد، فيتعلق بمحذوف تقديره كائناً منكم.
وقال أبو البقاء: منكم، حال من الفاعل وهي متعلقة بشهد، فتناقض، لأن جعلها حالاً يوجب أن يكون العامل محذوفاً، وجعلها متعلقة بشهد يوجب أن لا يكون حالاً، فتناقض. ومَنْ، من قوله {فمن شهد} ، الظاهر أنها شرطية، ويجوز أن تكون موصولة، وقد مر نظائره.


وقرأ الجمهور بسكون اللام في: فليصمه، أجروا ذلك مجرى: فعل، فخففوا، وأصلها الكسر، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والزهري، وأبو حيوة، وعيسى الثقفي، وكذلك قرؤا لام الأمر في جميع القرآن نحو: {فليكتب وليملل} (البقرة: 282) } بالكسر، وكسر لام الأمر، وهو مشهور لغة العرب، وعلة ذلك ذكرت في النحو. ونقل صاحب «التسهيل» أن فتح لام الأمر لغة، وعن ابنه أن تلك لغة بني سليم. وقال: حكاها الفراء. وظاهر كلامهما الإطلاق في أن فتح اللام لغة، ونقل صاحب كتاب «الإعراب» ، وهو: أبو الحكم بن عذرة الخضراوي، عن الفراء أن من العرب من يفتح هذه اللام لفتحة الياء بعدها، قال: فلا يكون على هذا الفتح أن الكسر ما بعدها أو ضم. انتهى كلامه. وذلك نحو: لينبذن، ولتكرم زيداً، وليكرم عمراً وخالداً، وقوموا فلأصل لكم.
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} قالوا: يريد هنا بمعنى أراد، فهو مضارع أريد به الماضي، والأوْلى أن يراد به الحالة الدائمة هنا، لأن المضارع هو الموضوع لما هو كائن لم ينقطع، والإرادة صفة ذات لا صفة فعل، فهي ثابتة له تعالى دائماً، وظاهر اليسر والعسر العموم في جميع الأحوال الدنيوية والأخروية.
{وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ} : قرأ أبو بكر، وأبو عمرو بخلاف عنهما، وروي: مشدد الميم مفتوح الكاف، والباقون بالتخفيف وإسكان الكاف، وفي اللام أقوال.

الأول: قال ابن عطية: هي اللام الداخلة على المفعول، كالتي في قولك: ضربت لزيد، المعنى، ويريد إكمال العدة، وهي مع الفعل مقدرة بأن، كأن الكلام: ويريد لأن تكلموا العدة، هذا قول البصريين، ونحوه، قول أبي صخر:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما
تخيل لي ليلى بكل طريق


انتهى كلامه. وهو كما جوّزه الزمخشري. قال: كأنه قيل: يريد الله بكم اليسر، ويريد لتكملوا، لقوله: {يريدون ليطفئوا} (الصف: 8) } وفي كلامه أنه معطوف على اليسر، وملخص هذا القول: أن اللام جاءت في المفعول المؤخر عن الفعل، وهو مما نصوا على أنه قليل، أو ضرورة، لكن يحسن ذلك هنا، بعده عن الفعل بالفصل، فكأنه لما أخذ الفعل مفعوله، وهو: اليسر، وفصل بينهما بجملة وهي: ولا يريد بكم العسر، بعد الفعل عن اقتضائه، فقوي باللام، كحاله إذا تقدم فقلت لزيد ضربت، لأنه بالتقدم وتأخر العامل ضعف العامل عن الوصول إليه، فقوي باللام، اذ أصل العامل أن يتقدم، وأصل المعمول أن يتأخر عنه، لكن في هذا القول إضمار إن بعد اللام الزائدة، وفيه بعد. وفي كلام ابن عطية تتبع، وهو في قوله: وهي، يعني باللام مع الفعل، يعني تكملوا مقدرة بأن، وليس كذلك، بل أن مضمرة بعدها واللام حرف جر، ويبين ذلك أنه قال: كأن الكلام: ويريد لأن تكملوا العدة، فأظهر أن بعد اللام، فتصحيح لفظه أن تقول: وهي مع الفعل مقدران بعدها، وقوله: هذا قول البصريين ونحوه، قول أبي صخر:
أريد لأنسى ذكرها.....
ليس كما ذكر، بل ذلك مذهب الكسائي والفراء، زعما أن العرب تجعل لام كي في موضع أن في أردت وأمرت. قال تعالى: {يريد الله ليبين لكم} (النساء: 26) } {يريدون ليطفئوا} (الصف: 8) } و {أن يطفئوا} (التوبة: 32) } {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس} (الأحزاب: 33) } . وقال الشاعر:
أريد لأنسى ذكرها.....
وقال تعالى: {وأمرنا لنسلم} (الأنعام: 71) } {وأن أسلم} (غافر: 66) } وذهب سيبويه وأصحابه إلى أن اللام هنا باقية على حالها وأن مضمرة بعدها، لكن الفعل قبلها يقدره بمصدر، كأنه قال: الإرداة للتبيين، وإرادتي لهذا، وذهب بعض الناس إلى زيادة اللام، وقد أمعنا الكلام على هذه المسألة في كتاب «التكميل في شرح التسهيل» فتطالع هناك.


وتلخص مما ذكرناه أن ما قال: من أنه قول البصريين ليس كما قال: إنما يتمشى قوله: وهي، مع الفعل مقدرة بأن على قول الكسائي والفراء، لا على قول البصريين. وتناقض قول ابن عطية أيضاً لأنه قال: هي اللام الداخلة على المفعول كالتي في قولك: ضربت لزيد، المعنى ويريد إكمال العدة. ثم قال: وهي الفعل مقدرة بأن، فمن حيث جعلها الداخلة على المفعول لا يكون جزءاً من المفعول، ومن حيث قدرها بأن كانت جزءاً من المفعول، لأن المفعول إنما ينسبك منها مع الفعل، فهي جزء له، والشيء الواحد لا يكون جزءاً لشيء غير جزءٍ له، فتناقض.

وأما تجويز الزمخشري أن يكون معطوفاً على: اليسر، فلا يمكن إلاَّ بزيادة اللام وإضمار: أن بعدها، أو يجعل اللام لمعنى: أن، فلا تكون أن مضمرة بعدها، وكلاهما ضعيف.
القول الثاني: أن تكون اللام في {ولتكملوا العدة} لام الأمر قال ابن عطية، ويحتمل أن تكون هذه اللام لام الأمر والواو عاطفة جملة كلام. انتهى كلامه. ولم يذكر هذا الوجه فيما وقفنا عليه غير ابن عطية، ويضعف هذا القول أن النحويين قالوا: أمر الفاعل المخاطب فيه التفات، قالوا: أحدهما لغة رديئة قليلة، وهو إقرار تاء الخطاب ولام الأرم قبلها، واللغة الأخرى هي الجيدة الفصيحة، وهو، أن يكون الفعل عارياً من حرف المضارعة ومن اللام، ويضعف هذا القول أيضاً أنه لم يؤثر على أحد من القراء أنه قرأ بإسكان هذه اللام، فلو كانت لام الأمر لكانت كسائر أخواتها من القراءة بالوجهين فيها، فدل ذلك على أنها لام الجر لا لام الأمر، وقول ابن عطية: والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام، يعني: أنها إذا كانت اللام للأمر كان العطف من قبيل الجمل، وإذا كانت كاللام في: ضربت لزيد، كانت من قبل عطف المفردات.


القول الثالث: أن تكون اللام للتعليل، واختلف قائلو هذا القول على أقوال. أحدها: أن تكون الواو عاطفة على علة محذوفة، التقدير: لتعملوا ما تعملون ولتكملوا العدة، قاله الزمخشري. ويكون هذا الفعل المعلل على هذا القول: إرادة اليسر. الثاني: أن يكون بعد الواو فعل محذوف هو المعلل، التقدير: وفعل هذا لتكملوا العدة، قاله الفراء. الثالث: أن يكون معطوفاً على علة محذوفة وقد حذف معلولها، التقدير: فعل الله ذلك ليسهل عليكم ولتكملوا، قاله الزجاج. الرابع: أن يكون الفعل المعلل مقدراً بعد التعليل، تقديره: ولأن تكملوا العدة رخص لكم هذه الرخصة، قال ابن عطية: وهذا قول بعض الكوفيين. الخامس: أن الواو زائدة، التقدير: يريد الله بكم اليسر لتكملوا العدة، وهذا قول ضعيف. السادس: أن يكون الفعل المعلل مقدراً بعد قوله؛ {ولعلكم تشكرون} وتقديره: شرع ذلك. قاله الزمخشري، قال ما نصه: شرع ذلك، يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر، وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه، ومن الترخيص في إباحة الفطر فقوله: لتكملوا، علة الأمر بمراعاة العدة، ولتكبروا علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر، ولعلكم تشكرون، علة الترخيص والتيسير. وهذا نوع من اللف لطيف المسلك لا يكاد يهتدي إلى تبيينه إلاَّ النقاد المحذق من علماء البيان انتهى كلامه.

والألف واللام في قوله: {ولتكملوا العدة} الظاهر أنها للعهد، فيكون ذلك راجعاً إلى قوله: {فعدة من أيام أخر} أي: وليكمل من أفطر في مرضه أو سفره عدة الأيام التي أفطر فيها بأن يصوم مثلها، وقيل: عدة الهلال سواء كانت تسعة وعشرين يوماً أم كان ثلاثين، فتكون العدة راجعة إذ ذاك إلى شهر رمضان المأمور بصومه.
{وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} معطوف على: ولتكملوا العدة، والكلام في اللام كالكلام في لام: ولتكملوا.


إذ لو كان تفسير إعراب لم تكن: على، متعلقاً، بتكبروا المضمنة معنى الحمد، إنما كانت تكون متعلقة بحامدين التي قدّرها، والتقدير الإعرابي هو، أن تقول: كأنه قيل: ولتحمدوا الله بالتكبير على ما هداكم، كما قدّر الناس في قولهم: قتل الله زياداً عني أي: صرف الله زياداً عني بالقتل، وفي قول الشاعر:
ويركب يوم الروع فينا فوارس
بصيرون في طعن الأباهر والكلى أي: تحكمون بالبصيرة في طعن الأباهر، والظاهر في: ما، أنها مصدرية أي: على هدايتكم، وجوّزوا أن تكون: ما، بمعنى الذي، وفيه بعد، لأنه يحتاج إلى حذفين أحدهما: حذف العائد على: ما، أي: على الذي هداكموه وقدّرناه منصوباً لا مجروراً بإلى، ولا باللام ليكون حذفه أسهل من حذفه مجروراً. والثاني: حذف مضاف به يصح الكلام، التقدير: على اتباع الذي هداكموه، وما أشبه هذا التقدير مما يصح به معنى الكلام.
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} والكاف في: سألك، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلّم وإن لم يجر له ذكر في اللفظ لكن في قوله {الذي أنزل فيه القرآن} أي على رسول الله صلى الله عليه وسلّمفكأنه قيل: أنزل عليك فيه القرآن، فجاء هذا الخطاب مناسباً لهذا المحذوف.
والفاء في قوله: فإني قريب، جواب إذا، وثم قول محذوف تقديره: فقل لهم إني قريب لأنه لا يترتب على الشرط القرب، إنما يترتب الإخبار عن القرب.
{أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} أجيب: إما صفة لقريب، أو خبر بعد خبر، وروعي الضمير في: فإني، فلذلك جاء أجيب، ولم يراع الخبر فيجيء: يجيب، على طريقة الإسناد للغائب طريقان للعرب: أشهرهما: مراعاة السابق من تكلم أو خطاب كهذا، وكقولهم: {بل أنتم قوم تفتنون} (النمل: 47) } {بل أنتم قوم تجهلون} (النمل: 55) } . وكقول الشاعر:
وإنا لقوم ما نرى القتل سبة


والطريق الثاني: مراعاة الخبر كقولك: أنا رجل يأمر بالمعروف، وأنت امرؤ يريد الخير، والكلام على هذه المسألة متسع في علم العربية، وقد تكلمنا عليها في كتابنا الموسوم بـ «منهج السالك» والعامل في: إذا، قوله أجيب.

{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ} وقرأ الجمهور: أحل، مبنياً للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، وقرىء، أحل مبنياً للفاعل، ونصب: الرفث به، فأما أن يكون من باب الإضمار لدلالة المعنى عليه، إذ معلوم للمؤمنين أن الذي يحل ويحرم هو الله، وأما أن يكون من باب الالتفات، وهو الخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب، لأن قبله: {فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي} ولكم، متعلق بأحل، وهو التفات، لأن قبله ضمير غائب، وانتصاب: ليلة، على الظرف، ولا يراد بليلة الوحدة بل الجنس، قالوا: والناصب لهذا الظرف: أحل، وليس بشيء، لأن: ليلة، ليس بظرف لأحل، إنما هو من حيث المعنى ظرف للرفث، وإن كانت صناعة النحو تأبى أن تكون انتصاب ليلة بالرفث، لأن الرفث مصدر وهو موصول هنا، فلا يتقدّم معموله، لكن يقدّر له ناصب، وتقديره: الرفث ليلة الصيام، فحذف، وجعل المذكور مبنياً له كما قالوا في قوله:
وبعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان
أن تقديره: إذعان للذلة إذعان، وكما خرّجوا قوله: {إني لكما لمن الناصحين} (الأعراف: 21) } {وإني لعملكم من القالين} (الشعراء: 168) } أي ناصح لكما، وقال: لعملكم، فما كان من الموصول قدّم ما يتعلق به من حيث المعنى عليه أضمر له عامل يدل عليه ذلك الموصول، وقد تقدّم أن من النحويين من يجيز تقدّم الظرف على نحو هذا المصدر، وأضيفت: الليلة، إلى الصيام على سبيل الاتساع، لأن الإضافة تكون لأدنى ملابسة، ولما كان الصيام ينوى في الليلة ولا يتحقق إلاَّ بصوم جزء منها صحت الإضافة.


{هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب، بل هي مستأنفة.
{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ} : إن كانت: عَلِم، معداة تعدية عرف، فسدت أن مسد المفعول، أو التعدية التي هي لها في الأصل، فسدّت مسدّ المفعولين، على مذهب سيبويه.
{وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ومن الأولى، هي لابتداء الغاية، قيل: وهي مع ما بعدها في موضع نصب، لأن المعنى: حتى يباين الخيط الأبيض الخيط الأسود، كما يقال: بانت اليد من زندها، أي فارقته، ومن، الثانية للتبعيض، لأن الخيط الأبيض هو بعض الفجر وأوله، ويتعلق أيضاً بيتبين، وجاز تعلق الحرفين بفعل واحد، وقد اتحد اللفظ لاختلاف المعنى، فَمِنْ الأولى هي لابتداء الغاية، ومِنْ الثانية هي للتبعيض. ويجوز أن يكون للتبعيض للخيطين معاً، على قول الزجاج، لأن الفجر عنده فجران، فيكون الفجر هنا لا يراد به الإفراد، بل يكون جنساً.

قيل: ويجوز أن يكون {من الفجر} حالاً من الضمير في الأبيض، فعلى هذا يتعلق بمحذوف، أي: كائناً من الفجر.