الإعراب المحيط من تفسير البحر المحيط سورة يونس
واسم كان أن أوحينا، وعجباً الخبر، وللناس فقيل: هو في موضع
الحال من عجباً لأنه لو تأخر إذا كان بمعنى المفعول جاز تقدم
معموله عليه كاسم المفعول. وقيل: هو تبيين أي أعنى للناس.
وقيل: يتعلق بكان وإن كانت ناقصة، وهذا لا يتم إلا إذا قدرت
دالة على الحدث فإنها إنْ تمحضت للدلالة على الزمان لم يصح
تعلق بها. وقرأ عبد الله: عجب، فقيل: عجب اسم كان، وأن أوحينا
هو الخبر، فيكون نظير: يكون مزاجها عسل وماء، وهذا محمول على
الشذوذ، وهذا تخريج الزمخشري وابن عطية. وقيل: كان تامة، وعجب
فاعل بها، والمعنى: أحدث للناس عجب لأن أوحينا، وهذا التوجيه
حسن.
وأن أنذر: أن تفسيرية أو مصدرية مخففة من
الثقيلة، وأصله أنه أنذر الناس على معنى أن الشأن قولنا أنذر
الناس، قالهما الزمخشر: ويجوز أن تكون أنْ المصدرية الثانية
الوضع، لا المخففة من الثقيلة لأنها توصل بالماضي والمضارع
والأمر، فوصلت هنا بالأمر، وينسبك منها معه مصدر تقديره:
بإنذار الناس. وهذا الوجه أولى من التسير به، لأنّ الكوفيين لا
يثبتون لأنّ أن تكون تفسيرية. ومن المصدرية المخففة من الثقيلة
لتقدير حذف اسمها وإضمار خبرها، وهو القول فيجتمع فيها حذف
الاسم والخبر، ولأنّ التأصيل خبر من دعوى الحذف بالتحفيف.
وقال أبو البقاء: يدبر الأمر، يجوز أن يكون مستأنفاً وخبراً
ثانياً وحالاً.
وانتصب وعد الله وحقاً على أنهما مصدران مؤكدان لمضمون الجملة
والتقدير: وعد الله وعداً، فلما حذف الناصب أضاف المصدر إلى
الفاعل وذلك كقوله: صبغة الله وصنع الله والتقدير: في حقاً حق
ذلك حقاً. وقيل: انتصب حقاً بوعد على تقدير في أي وعد الله في
حق. وقال علي بن سليمان التقدير: وقت حق وأنشد:
أحقاً عباد الله أن لست خارجاً
ولا والجاً إلا عليّ رقيب وقرأ عبد الله، وأبو جعفر، والأعمش،
وسهل بن شعيب: أنه يبدأ بفتح الهمزة. قال الزمخشري: هو منصوب
بالفعل، أي: وعد الله تعالى بدء الخلق ثم إعادته، والمعنى:
إعادة الخلق بعد بدنة. وعد الله على لفظ الفعل، ويجوز أن يكون
مرفوعاً بما نصب حقاً أي: حق حقاً بدء الخلق كقوله:
أحقاً عباد الله أن لست جائياً
ولا ذاهباً إلا عليّ رفيت انتهى. وقال ابن
عطية: وموضعها النصب على تقدير أحق أنه. وقال الفراء: موضعها
رفع على تقدير لحق أنه. قال ابن عطية: ويجوز عندي أن يكون أنه
بدلاً من قوله: وعد الله. قال أبو الفتح: إن شئت قدرت لأنه
يبدأ، فمن في قدرته هذا فهو غني عن إخلاف الوعد، وإن شئت قدرت
وعد الله حقاً أنه يبدأ ولا يعمل فيه المصدر الذي هو وعد الله،
لأنه قد وصف ذلك بتمامه وقطع عمله. وقرأ ابن أبي عبلة: حق
بالرفع، فهذا ابتداء وخبره أنه انتهى. وكون حق خبر مبتدأ، وأنه
هو المبتدأ هو الوجه في الإعراب كما تقول: صحيح إنك تخرج، لأنّ
اسم أنّ معرفة، والذي تقدمها في نحو هذا المثال نكرة.
وجعل يحتمل أن تكون بمعنى صير، فيكون ضياء مفعولاً ثانياً.
ويحتمل أن تكون بمعنى خلق فيكون حالاً، والقمر نواً أي: ذا
نور، أو منور أو نفس النور مبالغة، أو هما مصدران. وقيل: يجوز
أن يكون ضياء جمع كحوض وحياض، وهذا فيه بعد. ولما كانت الشمس
أعظم جرماً خصت بالضياء لأنه هو الذي له سطوع ولمعان، وهو أعظم
من النور.
وقرأ قنبل: ضياء هنا، وفي الأنبياء والقصص بهمزة قبل الألف بدل
الياء. ووجهت على أنه من المقلوب جعلت لأمه عيناً، فكانت همزة.
وتطرفت الواو التي كانت عيناً بعد ألف زائدة فانقلبت همزة،
وضعف ذلك بأنّ القياس الفرار من اجتماع همزتين إلى تخفيف
إحداهما، فكيف يتخيل إلى تقديم وتأخير يؤدي إلى اجتماعهما ولم
يكونا في الأصل، والظاهر عود الضمير على القمير أي: مسيره
منازل، أو قدره ذا منازل، أو قدر له منازل، فحذف وأوصل الفعل،
فانتصب بحسب هذه التقادير على الظرف أو الحال أو المفعول
كقوله: والقمر قدرناه منازل} .
والظاهر أنّ واطمأنوا بها عطف على الصلة، ويحتمل أن يكون واو
الحال أي: وقد اطمأنوا بها.
في جنات النعيم أن يتعلق بتجري، وأن يكون حالاً من الأنهار،
وأن يكون خبراً بعد خبر.
وقال القاضي: طريقهم في تقديس الله
وتحميده. وتحيتهم أي ما يحيي به بعضهم بعضاً، فيكون مصدراً
مضافاً للمجموع لا على سبيل العمل، بل يكون كقوله: وكنا لحكهم
شاهدينإَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ
بِالْحَيوةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ
هُمْ عَنْءَايَتِنَا غَفِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ
النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * إِنَّ
الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ يَهْدِيهِمْ
رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأٌّنْهَرُ
فِي جَنَّتِ النَّعِيمِ * دَعْوَهُمْ فِيهَا سُبْحَنَكَ
اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءَاخِرُ
دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ} وقيل:
يكون مضافاً إلى المفعول، والفاعل الله تعالى أو الملائكة.
وأن المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن لازم الحذف،
والجملة بعدها خبر إنْ، وأن وصلتها خبر قوله: وآخر. وقرأ
عكرمة، ومجاهد، وقتادة، وابن يعمر، وبلال بن أبي بردة، وأبو
مجلز، وأبو حيوة، وابن محيصن، ويعقوب: إن الحمد بالتشديد ونصب
الحمد. قال ابن جني: ودلت على أنّ قراءة الجمهور بالتخفيف،
ورفع الحمد هي على أنْ هي المخففة كقول الأعشى:
في فتية كسيوف الهند قد علموا
أن هالك كل من يحفى وينتعل يريد أنه هالك إذا خففت لم تعمل في
غير ضمير أمر محذوف. وأجاز المبرد إعمالها كحالها مشددة، وزعم
صاحب النظم أنّ أنْ هنا زائدة، والحمد لله خبر، وآخر دعواهم.
وهو مخالف لنص سيبويه والنحويين، وليس هذا من محال زيادتها.
وقرأ ابن عامر: لقضي مبنياً للفاعل أجلهم بالنصب، والأعمش
لقضينا، وباقي السبعة مبنياً للمفعول، وأجلهم بالرفع. وقضى
أكمل، والفاء في فنذر جواب ما أخبر به عنهم على طريق الاستئناف
تقديره: فنحن نذر قاله الحوفي. وقال أبو البقاء: فنذر معطوف
على فعل محذوف تقديره: ولكن نمهلهم فنذر.
ولجنبه حال أي: مضطجعاً، ولذلك عطف عليه
الحالان، واللام على بابها عند البصريين والتقدير: ملقياً
لجنبه، لا بمعنى على خلافاً لزاعمه. وذو الحال الضمير في
دعانا، والعامل فيه دعانا أي: دعانا ملتبساً بأحد هذه الأحوال.
وقال ابن عطية: ويجوز أن يكون حالاً من الإنسان، والعامل فيه
مس. ويجوز أن يكون حالاً من الفاعل في دعانا، والعامل فيه دعا
وهما معنيان متباينان.
والجملة من قوله: كان لم يدعنا إلى ضر مسه في موضع الحال، أي
إلى كشف ضر مسه. قال ابن عطية: وقوله مر، يقتضي أنّ نزولها في
الكفار، ثم هي بعد تتناول كل من دخل تحت معناها من كافر وعاص
يعني الآية مر في إشراكه بالله وقة توكله عليه انتهى. والكاف
من كذلك في موضع نصب أي: مثل ذلك. وذلك إشارة إلى تزيين
الإعراض عن الابتهال إلى الله تعالى عند كشف الضر وعدم شكره
وذكره على ذلك، وزين مبني للمفعول، فاحتمل أن يكون الفاعل الله
إمّا على سبيل الخلق ذلك واختراعه في قلوبهم كما يقول أهل
السنة، وإما بتخليته وخذلانه كما تقول المعتزلة، أو الشيطان
بوسوسته ومخادعته. قيل: أو النفس.
لفظة لما مشعرة بالعلية، وهي حرف تعليق في الماضي. ومن ذهب إلى
أنها ظرف معمول لأهلكنا كالزمخشري متبعاً لغيره، فإنما يدل إذْ
ذاك على وقوع الفعل في حين الظلم، فلا يكون لها إشعار إذ ذاك
بالعلية. لو قلت: جئت حين قام زيد، لم يكن مجيئك مستبباً عن
قيام زيد، وأنت ترى حيثما جاءت لما كان جوابها أو ما قام مقامه
متسبباً عما بعدها، فدل ذلك على صحة مذهب سيبويه من أنها حرف
وجوب لوجوب. وجاءتهم ظاهرة أنه معطوف على ظلموا أي: لما حصل
هذان الأمران: مجيء الرسل بالبينات، وظلمهم أهلكوا.
وقال الزمخشري: والواو في وجاءتهم للحال
أي: ظلموا بالتكذيب، وقد جاءتهم رسلهم بالحجج والشواهد على
صدقهم وهي المعجزات انتهى. وقال مقاتل: البينات مخوفات العذاب،
والظاهر أنّ الضمير في قوله وما كانوا عائداً على القرون، وأنه
معطوف على قوله: ظلموا. وجوّز الزمخشري أن يكون اعتراضاً لا
معطوفاً قال: واللام لتأكيد النفي بمعنى: وما كانوا يؤمنون
حقاً تأكيداً لنفي إيمانهم، وأن الله تعالى قد علم أنهم مصرون
على كفرهم، وأنّ الإيمان مستبعد منهم والمعنى: أنّ السبب في
إهلكهم تعذيبهم الرسل، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد
أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل انتهى. وقال مقاتل: الضمير في
قوله: وما كانوا ليؤمنوا، عائد على أهل مكة، فعلى قوله يكون
التفاتاً، لأنه خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة، ويكون
متسقاً مع قوله: وإذا تتلى عليهم. والكاف في كذلك في موضع نصب.
وكيف معموله لتعملون، والجملة في موضع نصب لننظر، لأنها معلقة.
وجاز التعليق في نظر وإن لم يكن من أفعال القلوب، لأنها وصلة
فعل القلب الذي هو العلم.
ومفعول شاء محذوف أي: قل لو شاء الله أن لا أتلوه، وجاء جواب
على الفصيح من عدم إتيان اللام، لكونه منفياً بما، ويقال: دريت
به، وأدريت زيداً به، والمعنى: ولا أعلمكم به على لساني.
وقراءة الجمهور: ولا أدراكم به فلا مؤكدة، وموضحة أنّ الفعل
منفي لكونه معطوفاً على منفي، وليست لا هي التي نفي الفعل بها،
لأنه لا يصح نفي الفعل بلا إذا وقع جواباً، والمعطوف على
الجواب جواب. وأنت لا تقول: لو كان كذا لا كان كذا، إنما يكون
ما كان كذا.
قرأ ابن عباس، وابن سيرين، والحسن، وأبو
رجاء: ولا ادرأتكم به بهمزة ساكنة، وخرجت هذه القراءة على
وجهين: أحدهما: أن الأصل أدريتكم بالياء فقلبها همزة عل لغة من
قال: لبأت بالحج، ورثأت زوجي بأبيات، يريد: لبيت ورثيت. وجاز
هذا البدل لأنّ الألف والهمزة من واد واحد، ولذلك إذا حركت
الألف انقلبت همزة كما قالوا في العالم العألم، وفي المشتاق
المشتأق. والوجه الثاني: أن الهمزة أصل وهو من الدر، وهو الدفع
يقال: درأته دفعته، كما قال: ويدرأ عنها العذاب ودرأته جعلته
دارئاً، والمعنى: ولأجعلنكم بتلاوته خصماء تدرؤونني بالجدال
وتكذبونني. وزعم أبو الفتح إنما هي أدريتكم، فقلب الياء ألفاً
لا نفتاح ما قبلها، وهي لغة لعقيل حكاها قطرب يقولون في
أعطيتك: أعطأتك.
الفاعل بيعلم هو الله، والمفعول الضمير المحذوف العائد على ما.
والذي يظهر أنّ ما موصول يراد به الأصنام لا الشفاعة التي
ادعوها، والفاعل بيعلم ضمير يعود على ما لا على الله، وذلك على
حذف مضاف.
وقيل: أسرع هنا ليست للتفضيل، وحكاية ذلك عن أبيّ على هو مذهب.
وفي بنائ التعجب وأفعل التفضيل من أفعل ثلاثة مذاهب: المنع
مطلقاً وما ورد من ذلك فهو شاذ، والجواز مطلقاً، والتفصيل بين
أن تكون الهمزة فيه للنقل فيمنع، أو لغير النقل فيجوز، نحو:
أشكل الأمر وأظلم الليل، وتقرير الصحيح من ذلك هو في علم النحو
وأما تنظير أسود من القار بأسرع ففاسد، لأن أسود ليس فعله على
وزن أفعل، وإنما هو على وزن فعل نحو سود فهو أسود، ولم يمتنع
التعجب ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين من نحو: سود وحمر
وأدم إلاّ لكونه لوناً، وقد أجاز ذلك بعض الكوفيين في الألوان
مطلقاً، وبعضهم في السواد والبياض فقط.
وقرأ باقي السبعة والجمهور: يسيركم من التيسير. قال أبو علي:
هو تضعيف مبالغة، لا تضعيف تعدية، لأن العرب تقول: سرت الرجل
وسيرته، ومنه قول الهذلي:
فلا تجز عن من سنة أنت سرتها
فأول راض سنه من يسيرها قال ابن عطية: وعلى
هذا البيت اعتراض حتى لا يكونن شاهداً في هذا، وهو أن يكون
الضمير كالظرف كما تقول: سرت الطريق انتهى. وما ذكره أبو علي
لا يتعين، بل الظاهر أنّ التضعيف فيه للتعدية، لأنّ سار الرجل
لازماً ما أكثر من سرت الرجل متعدياً فجعله ناشأ عن الأكثر
أحسن من جعله ناشئاً عن الأقل. وأما جعل ابن عطية الضمير
كالظرف قال كما تقول: سرت الطريق، فهذا لا يجوز عند الجمهور،
لأن الطريق عندهم ظرف مختص كالدار والمسجد، فلا يصل إليه الفعل
غيره. دخلت عند سيبويه، وانطلقت، وذهبت عند الفراء إلا بوساطة
في إلا في ضرورة، وإذا كان كذلك فضميره أحرى أنْ لا يتعدى إليه
الفعل. وإذا كان ضمير الظرف الذي يصل إليه الفعل بنفسه يصل
إليه بوساطة في إلا إن اتسع فيه فلأن يكون الضمير الذي يصل
الفعل إلى ظاهره بفي أولى أن يصل إليه الفعل بوساطة في. وزعم
أبن الطراوة أن الطريق ظرف غير مختص، فيصل إليه الفعل يغر
وساطة في، وهو زعم مردود في النحو.
والباء في بهم وبريح قال العكبري: تتعلق الباآن بجرين انتهى.
والذي يظهر أنّ الباء في بهم متعلقة بجرين تعلقها بالمفعول
نحو: مررت بزيد. وأنّ الباء في بريح يجوز أن تكون للمسبب،
فاختلف المدلول في البائين، فجاز أن يتعلقا بفعل واحد، ويجوز
أن تكون الباء للحال أي: وجرين بهم ملتبسة بريح طيبة، فتتعلق
بمحذوف كما تقول: جاء زيد بثيابه أي ملتبساً بها. وفرحوا بها
يحتمل أن يكون معطوفاً على قوله: وجرين بهم، ويحتمل أن يكون
حالاً أي: وقد فرحوا بها. كما احتمل قوله: وجرين أن يكون
معطوفاً على كنتم، وأن يكون حالاً. والظاهر أنّ قوله: جاءتها
ريح عاصف، هو جواب إذا. والظاهر عود الضمير في جاءتها على
الفلك، لأنه هو المحدث عنه في قوله: وجرين بهم، وقاله مقاتل.
وجوزوا أن يعود على الريح الطيبة وقاله الفراء، وبدأ به
الزمخشري. ومعنى طيب الريح لين هبوبها وكونها موافقة.
والجملة من قوله: دعوا الله قال أبو
البقاء: هي جواب ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشرط تقديره:
لما ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله انتهى، وهو كلام لا يتحصل
منه شيء. وقال الطبري: جواب حتى إذا كنتم في الفلك جاءتها ريح
عاصف، وجواب قوله: وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله انتهى. وهو
مخالف للظاهر، لأنّ قوله: وظنوا ظاهره العطف على جواب إذا،
لأنه معطوف على كنتم، لكنه محتمل. كما تقول: إذا زارك فلان
فأكرمه، وجاءك خالد فأحسن إليه، وكأن أداة الشرط مذكورة. وقال
الزمخشري: هي بدل من ظنوا لادعائهم من لوازم ظنهم الهلاك، فهو
ملتبس به انتهى. وكان أستاذنا أبو جعفر بن الزبير يخرّج هذه
الآية على غير ما ذكروا ويقول: هو جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل:
فما كان حالهم إذ ذاك؟ فقيل: دعوا الله مخلصين له الدين انتهى.
وجواب لما إذا الفجائية وما بعدها، ومجيء إذا وما بعدها جواباً
لها دليل على أنها حرف يترتب ما بعدها من الجواب على ما قبله
من الفعل الذي بعد لمّا، وأنها تفيد الترتب والتعليق في المضي،
وأنها كما قال سيبويه: حرف. ومذهب غيره أنها ظرف، وقد أوضحنا
ذلك فيما كتبناه في علم النحو. والجواب بإذا الفجائية دليل على
أنه لم يتأخر بغيهم عن إنجائهم، بل بنفس ما وقع الإنجاء وقع
البغي.
فقوله: على أنفسكم، خبر للمبتدأ الذي هو
بغيكم، فيتعلق بمحذوف. وعلى هذا التوجيه انتصب متاع في قراءة
زيد بن علي وحفص، وابن أبي إسحاق، وهارون، عن ابن كثير: على
أنه مصدر في موضع الحال أي: متمتعين، أو باقياً على المصدرية
أي: يتمتعون به متاع، أو نصباً على الظرف نحو: مقدم الحاج أي
وقت متاع الحياة الدنيا. وكل هذه التوجيهات منقولة. والعامل في
متاع إذا كان حالاً أو ظرفاً ما تعلق به خبر بعيكم أي: كائن
على أنفسكم، ولا ينتصبان ببغيكم، لأنه مصدر قد فصل بينه وبين
معموله بالخبر، وهو غير جائز. وارتفع متاع في قراءة الجمهور
على أنه خبر مبتدأ محذوف. وأجاز النحاس، وتبعه الزمخشري، أن
يكون على أنفسكم متعلقاً بقوله: بغيكم، كما تعلق في قوله، فبغى
عليهم، ويكون الخبر متاع إذا رفعته.
قال الحوفي: مِن متعلقه باختلط. وقال أبو البقاء: مما يأكل حال
من النبات، فاقتضى قول أبي البقاء أن يكون العامل في الحال
محذوفاً لأنّ المجرور والظرف إذا وقعا حالين كان العامل
محذوفاً. وقول أبي البقاء: هو الظاهر، وتقديره: كائناً مما
يأكل، وحتى غاية، فيحتاج أن يكون الفعل الذي قبلها متطاولاً
حتى تصحّ الغاية. فأما أن يقدر قبلها محذوف أي: فما زال ينمو
حتى إذا، أو يتجوز في فاختلط، ويكون معناه فدام اختلاط النبات
بالماء حتى إذا.
والضمير في أهلها عائد على الأرض، وهو على
حذف مضاف أي: أهل نباتها. وقيل: الضمير عائد على الغلة. وقيل:
على الزينة، وهو ضعيف. وجواب إذا قوله: أتاها أمرنا كالريح
والصر والسموم وغير ذلك من الآفات كالفار والجراد. وقيل: أتاها
أمرنا بإهلاكها، وأبهم في قوله: ليلاً أو نهاراً، وقد علم
تعالى متى يأتيها أمره، أو تكون أو للتنويع، لأنّ بعض الأرض
يأتيها أمره تعالى ليلاً وبعضها نهاراً، ولا يخرج كائن عن
وقوعه فيهما. والحصيد: فعيل بمعنى مفعول أي: المحصود، ولم يؤنث
كما لم تؤنث امرأة جريج. وقال أبو عبيدة: الحصيد المستأصل
انتهى. وعبر بحصيد عن التألف استعارة، جعل ما هلك من الزرع
بالآفة قبل أوانه حصيداً العلامة ما بينهما من الطرح على
الأرض. وقيل: يجوز أن تكون تشبيهاً بغير الأداة والتقدير:
فجعلناها كالحصيد. وقوله: كأن لم تغن بالأمس، مبالغة في التلف
والهلاك حتى كأنها لم توجد قبل، ولم يقم بالأرض بهجة خضرة نضرة
تسر أهلها.
وقرأ الحسن وقتادة: كأن لم يغن بالياء على التذكير. فقيل: عائد
على المضاف المحذوف الذي هو الزرع، حذف وقامت هاء التأنيث
مقامه في قوله: عليها، وفي قوله: أتاها فجعلناها. وقيل: عائد
على الزخرف، والأولى عوده على الحصيد أي: كأن لم يغن الحصيد.
وكان مروان بن الحكم يقرأ على المنبر: كأن لم تتغن بتائين مثل
تتفعل. وقال الأعشى: طويل الثواء طويل التغني، وهو من غنى بكذا
أقام به. قال الزمخشري: والأمس مثل في الوقت. كأنه قيل: كأن لم
تغن آنفاً انتهى.
والظاهر أنّ والذين مبتدأ، وجوزوا في الخبر
وجوهاً أحدها: أنه الجملة التي بعده وهي جزاء سيئة بمثلها،
وجزاء مبتد فقيل: خبره مثبت وهو بمثلها. واختلفوا في الباء
فقيل: زائدة قاله ابن كيسان أي جزاء سيئة مثلها، كما قال:
وجزاء سيئة سيئة مثلها، كما زيدت في الخبر في قوله: فمنعكها
بشيء يستطاع أي شيء يستطاع. وقيل: ليست بزائدة، والتقدير: مقدر
بمثلها أو مستقر بمثلها. وقيل: محذوف، فقدّره الحوفي: لهم جزاء
سيئة قال: ودل على تقدير لهم قوله: للذين أحسنوا الحسنىوَلَوْ
يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم
بِالْخَيْرِ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ
الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِى طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ * وَإِذَا مَسَّ الإِنسَنَ الضُّرُّ دَعَانَا
لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا
عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ
مَّسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ
يَعْمَلُونَ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ
لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَتِ
وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ
الْمُجْرِمِينَ * ثُمَّ جَعَلْنَكُمْ خَلَئِفَ فِى الأٌّرْضِ
مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ * وَإِذَا تُتْلَى
عَلَيْهِمْءَايَتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ
يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَآ أَوْ
بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن
تِلْقَآءِ نَفْسِى إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ
إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ *
قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا
أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن
قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * فَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ
كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ
الْمُجْرِمُونَ * وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ
يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ
شُفَعَؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا
لاَ يَعْلَمُ فِى السَّمَوَتِ وَلاَ فِى الأٌّرْضِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ
أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ
مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
* وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ
فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّى
مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ * وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ
رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ
مَّكْرٌ فِى ءايَتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ
رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ * هُوَ الَّذِى
يُسَيِّرُكُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ
فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ
بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن
كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ
هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّكِرِينَ * فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ
إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِى الأٌّرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ
يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ
مَّتَاعَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ
فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِنَّمَا مَثَلُ
الْحَيَوةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ
فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأٌّرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ
وَالأٌّنْعَمُ حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الأٌّرْضُ
زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ
أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا
لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ
تَغْنَ بِالأٌّمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآيَتِ لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ
وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ *
لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ
يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ
وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَبُ
الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُواْ
السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ
ذِلَّةٌ مَّا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا
أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ الَّيْلِ مُظْلِماً
أُوْلَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ *
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ
أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا
بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا
تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَفِلِينَ *
هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ
إِلَى اللَّهِ مَوْلَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا
كَانُواْ يَفْتَرُونَ * قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ
وَالأٌّرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأٌّبْصَرَ وَمَن
يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ
الْحَىِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأٌّمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ
فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ
الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى
تُصْرَفُونَ * كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى
الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ
مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ
قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى
تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى
الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِى
إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى
إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا
يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ
يُغْنِى مِنَ
الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ
بِمَا يَفْعَلُونَ * وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْءَانُ أَن
يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ
يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ
الْعَلَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ
بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ
اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ
يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ
تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ
فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الظَّلِمِينَ * وَمِنهُمْ مَّن
يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ
أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ * وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّى
عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّآ
أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِىءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْهُمْ
مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ
وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ
إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِى الْعُمْىَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ
يُبْصِرُونَ * إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا
وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ * وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ
النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ
كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ *
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ
نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ
شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ
فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ
وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ
إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرًّا
وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ
أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً
وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ * قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ
عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ
الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَءَامَنْتُمْ
بِهِءَآلئْنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ * ثُمَّ
قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ
تُجْزَوْنَ
إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ *
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبِّى إِنَّهُ
لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ
نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الأٌّرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ
وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ
وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ *
أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ أَلاَ
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ
يَعْلَمُونَ * هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *
يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مَّن
رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى
وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ
مِّمَّا يَجْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ
لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً
قُلْءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ *
وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
يَوْمَ الْقِيَمَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ * وَمَا تَكُونُ فِى
شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلاَ
تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا
إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن
مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأٌّرْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ وَلاَ
أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ
مُّبِينٍ} حتى تشاكل هذه بهذه. وقدره أبو البقاء جزاء سيئة
بمثلها واقع، والباء في قولهما متعلقة بقوله: جزاء، والعائد من
هذه الجملة الواقعة خبراً عن الذين محذوف تقديره: جزاء سيئة
منهم، كما حذف في قولهم: السمن منوان بدرهم، أي منوان منه
بدرهم. وعلى تقدير الحوفي: لهم
جزاء يكون الرابط لهم. الثاني: أنّ الخبر
قوله: ما لهم من الله من عاصم، ويكون قد فصل بين المبتدأ
والخبر بجملتين على سبيل الاعتراض، ولا يجوز ذلك عند أبي علي
الفارسي، والصحيح جوازه. الثالث: أن يكون الخبر كأنما أغشيت
وجوههم قطعاً من الليل مظلماً. الرابع: أن يكون الخبر أولئ وما
بعده، فيكون في هذا القول فصل بين المبتدأ والخبر بأربع جمل
معترضة، وفي القول الثالث بثلاث جمل، والصحيح منع الاعتراض
بثلاث الجمل وبأربع الجمل، وأجاز ابن عطية أن يكون الذين في
موضع جر عطفاً على قوله: للذين أحسنوا، ويكون جزاء مبتدأ خبره
قوله: والذين على إسقاط حرف الجر أي: وللذين كسبوا السيئات
جزاء سيئة بمثلها، فيتعادل التقسيم، كما تقول: في الدار زيد،
والقصر عمرٌ، وأي: وفي القصر عمرو. وهذا التركيب مسموع من لسان
العرب، فخرجه الأخفش على أنه من العطف على عاملين. وخرجه
الجمهور على أنه مما حذف منه حرف الجر، وجره بذلك الحرف
المحذوف لا بالعطف على المجرور، وهي مسألة خلاف وتفصيل يتكلم
فيها في علم النحو.
قال الزمخشري: (فإن قلت) : إذا جعلت مظلماً
حالاً من الليل، فما العامل فيه؟ (قلت) : لا يخلو إما أن يكون
أغشيت، من قبل أنّ من الليل صفة لقوله: قطعاً، فكان إفضاؤه إلى
الموصوف كإفضائه إلى الصفة. وإما أن يكون معنى الفعل في من
الليل انتهى. أما الوجه الأوّل فهو بعيد، لأنّ الأصل أن يكون
العامل في الحال هو العامل في ذي الحال، والعامل في الليل هو
مستقر الواصل إليه بمن، وأغشيت عامل في قوله: قطعاً الموصوف
بقوله: من الليل، فاختلفا فلذلك كان الوجه الأخير أولى أي:
قطعاً مستقرة من الليل، أو كائنة من الليل في حال إظلامه.
وقيل: مظلماً حال من قوله: قطعاً، أو صفة. وذكر في هذين
التوجيهين لأنّ قطعاً في معنى كثير، فلوحظ فيه الإفراد
والتذكير. وجوزوا أيضاً في قراءة من سكن الطاء أن يكون مظلماً
حالاً من قطع، وحالاً من الضمير في من. قال ابن عطية: فإذا كان
نعتاً يعني: مظلماً نعتاً لقطع، فكان حقه أن يكون قبل الجملة،
ولكن قد يجيء بعد هذا، وتقدير الجملة، قطعاً استقر من الليل
مظلماً على نحو قوله: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك انتهى. ولا
يتعين تقدير العامل في المجرور بالفعل فيكون جملة، بل الظاهر
أن يقدر باسم الفاعل، فيكون من قبيل الوصف بالمفرد والتقدير:
كائناً من الليل مظلماً.
وانتصب يوم على فعل محذوف أي: ذكرهم أو خوفهم ونحوه. وجميعاً
حال.
ومكانكم عده النحويون في أسماء الأفعال، وقدر بأثبتوا
وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي أي اثبتي. ولكونها
بمعنى اثبتي جزم تحمدي، وتحملت ضميراً فأكد وعطف عليه في قوله:
أنتم وشركاؤكم. والحركة التي في مكانك ودونك، أهي حركة إعراب،
أو حركة بناء تبتني على الخلاف الذي بين النحويين في أسماء
الأفعال؟ ألها موضع من الإعراب أم لا؟ فمن قال: هي في موضع نصب
جعل الحركة إعراباً، ومن قال: لا موضع لها من الإعراب جعلها
حركة بناء. وعلى الأول عول الزمخشري فقال: مكانكم الزموا
مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم. واختلفوا في أنتم،
فالظاهر ما ذكرناه من أنه تأكيد للضمير المستكن في مكانكم،
وشركاؤكم عطف على ذلك الضمير المستكن وهو قول الزمخشري قال:
وأنتم أكّد به الضمير في مكانكم لسده مسد قوله: الزموا
وشركاؤكم عطف عليه انتهى. يعني عطفاً على الضمير المستكن،
وتقديره: الزموا، وأنّ مكانكم قام مقامه، فيحمل الضمير الذي في
الزموا ليس بجيد، إذ لو كان كذلك لكان مكانك الذي هو اسم فعل
يتعدى كما يتعدى الزموا. ألا ترى أن اسم الفعل إذا كان الفعل
لازماً كان اسم الفعل لازماً، وإذا كان متعدياً كان متعدياً
مثال ذلك: عليك زيداً لما ناب مناب، الزم تعدى. وإليك لما ناب
مناب تنح، لم يتعد. ولكون مكانك لا يتعدى، قدره النحويون اثبت،
واثبت لا يتعدى. قال الحوفي: مكانكم نصب بإضمار فعل أي: الزموا
مكانكم أو اثبتوا. وقال أبو البقاء: مكانكم ظرف مبني لوقوعه
موقع الأمر، أي الزموا انتهى. وقد بينا أن تقدير الزموا ليس
بجيد، إذ لم تقل العرب مكانك زيداً فتعديه، كما تعدى الزم.
وقال ابن عطية: أنتم رفع بالابتداء، والخبر مخزيون أو مهانون
ونحوه انتهى. فيكون مكانكم قد تم، ثم أخبر أنهم كذا، وهذا ضعيف
لفك الكلام الظاهر اتصال بعض أجزائه ببعض، ولتقدير إضمارلا
ضرورة تدعو إليه، ولقوله: فزيلنا بينهم، إذ يدل على أنهم ثبتوا
هم وشركاؤكم في مكان واحد حتى وقع التزييل بينهم وهو التفريق.
ولقراءة من قرأ أنتم وشركاءكم
بالنصب على أنه مفعول معه، والعامل فيه اسم
الفعل. ولو كان أنتم مبتدأ وقد حذف خبره، لما جاز أن يأتي بعده
مفعول معه تقول: كل رجل وضيعته بالرفع، ولا يجوز فيه النصب.
وقال ابن عطية أيضاً: ويجوز أن يكون أنتم تأكيداً للضمير الذي
في الفعل المقدر الذي هو قفوا أو نحوه انتهى. وهذا ليس بجيد،
إذ لو كان تأكيداً لذلك الضمير المتصل بالفعل لجاز تقديمه على
الظرف، إذ الظرف لم يتحمل ضميراً على هذا القول فيلزم تأخيره
عنه، وهو غير جائز لا تقول: أنت مكانك، ولا يحفظ من كلامهم.
والأصح أنْ لا يجوز حذف المؤكد في التأكيد المعنوي، فكذلك هذا،
لأن التأكيد ينافي الحذف. وليس من كلامهم: أنت زيداً لمن رأيته
قد شهر سيفاً، وأنت تريد ضرب أنت زيد، إنما كلام العرب زيداً
تريد اضرب زيداً.
يقال زلت الشيء عن مكانه أزيله. قال الفراء: تقول العرب: زلت
الضأن من المعز فلم تزل. وقال الواحدي: التزييل والتزيل
والمزايلة التمييز والتفرق انتهى. وزيل مضاعف للتكثير، وهو
لمفارقة الحبث من ذوات الياء، بخلاف زال يزول فمادتهما مختلفة.
وزعم ابن قتيبة أن زيلنا من مادة زال يزول، وتبعه أبو البقاء.
وقال أبو البقاء: فزيلنا عين الكلمة وأو لأنه من زال يزول،
وإنما قلبت لأنّ وزن الكلمة فيعل أي: زيولنا مثل بيطر وبيقر،
فلما اجتعمت الواو والياء على الشرط المعروف قلبت ياء انتهى.
وليس بجيد، لأنّ فعل أكثر من فيعل، ولأنّ مصدره تزييل. ولو كان
فيعل لكان مصدره فيعله، فكان يكون زيلة كبيطرة، لأنّ فيعل ملحق
بفعلل، ولقولهم في قريب من معناه: زايل، ولم يقولوا زاول بمعنى
فارق، إنما قالوه بمعنى حاول وخالط.
وقال العذارى إنما أنت عمنا
وكان الشباب كالخليط يزابله وقال آخر:
لعمري لموت لا عقوبة بعده
لذي البث أشفى من هوى لا يزايله والظاهر أن
التزييل أو المزايلة هو بمفارقة الأجسام وتباعده. وقيل: فرقنا
بينهم في الحجة والمذهب قاله ابن عطية، وفزيلنا. وقال: هنا
ماضيان لفظاً، والمعنى: فنزيل بينهم ونقول: لأنهما معطوفان على
مستقبل، ونفي الشركاء عبادة المشركين هو رد لقولهم: إياكم كنا
نعبد، والمعنى: إنكم كنتم تعبدون من أمركم أن تتخذوا لله تعالى
أنداداً فأطعتموهم، ولما تنازعوا استشهد الشركاء بالله تعالى.
وانتصب شهيداً، قيل: على الحال، والأصح على التمييز لقبوله
مِن. وتقدم الكلام في كفى وفي الياء، وأنْ هي الخفيفة من
الثقيلة. وعند القراء هي النافية، واللام بمعنى إلا، وقد تقدم
الكلام في ذلك.
وروي عن عاصم: نبلوا بنون وباء أي: نختبر. وكل نفس بالنصب، وما
أسلفت بدل من كل نفس، أو منصوب على إسقاط الخافض أي: ما أسلفت.
وقرىء الحق بالنصب على المدح نحو: الحمد لله أهل الحمد. وقال
الزمخشري: كقولك هذا عبد الله الحق لا الباطل، على تأكيد قوله:
ردوا إلى الله انتهى.
وأم هنا تقتضي تتدير بل دون همزة الاستفهام
لقوله تعالى: أم ماذا كنتم تعملونوَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ
جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ
أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ
شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى
بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ
عِبَادَتِكُمْ لَغَفِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ
مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلَهُمُ الْحَقِّ
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * قُلْ مَن
يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأٌّرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ
السَّمْعَ والأٌّبْصَرَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ
الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَمَن
يُدَبِّرُ الأٌّمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ
تَتَّقُونَ} فلا تتقدّر ببل، فالهمزة لأنها دخلت على اسم
الاستفهام، وليس إضراب إبطال به هو لانتقال من شيء إلى شيء.
وماذا مبتدأ تركبت ذا مع ما فصار مجموعهما استفهاماً، كأنه
قيل: أي شيء. والخبر بعد الحق، ويجوز أن يكون ذا موصولة ويكون
خبر ما، كأنه قيل: الذي بعد الحق؟ وبعد صلة كذا.
كذلك الكاف للتشبيه في موضع نصب، والإشارة بذلك قيل: إلى
المصدر المفهوم من تصرفون.
هدى تتعدّى بنفسها إلى اثنين، وإلى الثاني بإلى وباللام. ويهدي
إلى الحق حذف مفعوله الأول، ولا يصح أن يكون لازماً بمعنى
يهتدي، لأن مقابله إنما هو متعد، وهو قوله قل: الله يهدي للحق
أي يهدي من يشاء إلى الحق. وقد أنكر المبرد ما قاله الكسائي
والفراء وتبعهما الزمخشري من أن يكون هدى بمعنى اهتدى، وقال:
لا نعرف هذا، وأحق ليست أفعل تفضيل، بل المعنى حقيق بأن يتبع.
الظاهر أنّ أنْ يفتري هو خبر كان أي:
افتراء، أي: ذا افتراء، أو مفتري. ويزعم بعض النحويين أنّ أنْ
هذه هي المضمرة بعد لام الجحود في قولك: ما كان زيد ليفعل،
وأنه لما حذفت اللام أظهرت أنْ وأنّ اللام وأن يتعاقبان، فحيث
جيء باللام لم تأت بأن بل تقدرها، وحيث حذفت اللام ظهرت أنْ.
والصحيح أنهما لا يتعاقبان، وأنه لا يجوز حذف اللام وإظهار أن
إذ لم يقم دليل على ذلك. وعلى زعم هذا الزاعم لا يكون أنْ
يفتري خبراً لكان، بل الخبر محذوف. وأن يفتري معمول لذلك الخبر
بعد إسقاط اللام.
قرأ الجمهور: تصديق وتفصيل بالنصب، فخرجه الكسائي والفراء
ومحمد بن سعدان والزجاج على أنه خبر كان مضمرة أي: ولكن كان
تصديق أي مصدقاً ومفصلاً. وقيل: انتصب مفعولاً من أجله،
والعامل محذوف، والتقدير: ولكن أنزل للتصديق. وقيل: انتصب على
المصدر، والعامل فيه فعل محذوف. وقرأ عيسى بن عمر: تفصيل
وتصديق بالرفع، وفي يوسف خبر مبتدأ محذوف أي: ولكن هو تصديق.
كما قال الشاعر:
ولست الشاعر السفساف فيهم
ولكن مده الحرب العوالي أي ولكن أنا. وزعم الفراء ومن تابعه
أنّ العرب إذا قالت ولكن بالواو آثرت تشديد النون، وإذا لم تكن
الواو آثرت التخفيف.
وأم متضمنة معنى بل، والهمزة على مذهب سيبويه أي: أيقولون
اختلقه. والهمزة تقرير لالتزام الحجة عليهم، أو إنكار لقولهم
واستبعاد. وقالت فرقة: أم هذه بمنزلة همزة استفهام. وقال أبو
عبيدة: أم بمعنى الواو ومجازه، ويقولون افتراه. وقيل: الميم
صلة، والتقدير أيقولون. وقيل: أم هي المعادلة للهمزة، وحذفت
الجملة قبلها والتقدير: أيقرون به أم يقولون افتراه. وجعل
الزمخشري قل فأتوا جملة شرط محذوفة فقال: قل إن كان الأمر كما
تزعمون فأتوا أنتم على وجه الافتراء بسورة مثله، فأنتم مثله في
العربية والفصاحة والألمعية، فأتوا بسورة مثله شبيهة به في
البلاغة وحسن النظم انتهى. والضمير في مثله عائد على القرآن.
قال ابن عطية: قال الزجاج: كيف، في موضع
نصب على خبر كان، لا يجوز أن يعمل فيه انظر، لأن ما قبل
الاستفهام لا يعمل فيه، هذا قانون النحويين لأنهم عاملوا كيف
في كل مكان معاملة الاستفهام المحض.6 في قولك: كيف زيد؟ ولكيف
تصرفات غير هذا تحل محل المصدر الذي هو كيفية، وينخلع معنى
الاستفهام، ويحتمل هذا الموضع أنْ يكون منها ومن تصرفاتها
قولهم: كن كيف شئت، وانظر قول البخاري: كيف كان بدء الوحي،
فإنه لم يستقيم انتهى. وقول الزجاج: لا يجوز أن يعمل فيه انظر،
وتعليله: يريد لا يجوز أن تعمل فيه انظر لفظاً، لكنّ الجملة في
موضع نصب لا نظر معلقة، وهي من نظر القلب. وقولابن عطية: هذا
قانون النحويين إلى آخر تعليله، ليس كما ذكر، بل لكيف كعنيان:
أحدهما: الاستفهام المحض، وهو سؤال عن الهيئة، إلا أن تعلق
عنها العامل فمعناها معنى الأسماء التي يستفهم بها إذا علق
عنها العامل. والثاني: الشرط. لقول العرب: كيف تكون أكون
وقوله: ولكيف تصرفات إلى آخره، ليس كيف تحل محل المصدر، ولا
لفظ كيفية هو مصدر، إنما ذلك نسبة إلى كيف. وقوله: ويحتمل أن
يكون هذا الموضع منها ومن تصرفاتها قولهم: كن كيف شئت، لا
يحتمل أن يكون منها، لأنه لم يثبت لها المعنى الذي ذكر من كون
كيف بمعنى كيفية وادعاء مصدر كيفية. وأما كن كيف شئت، فكيف
ليست بمعنى كيفية، وإنما هي شرطية وهو المعنى الثاني الذي لها.
وجوابها محذوف التقدير: كيف شئت فكن، كما تقول: قم متى شئت،
فمتى اسم شرط ظرف لا يعمل فيه قم، والجواب محذوف تقديره: متى
شئت فقم، وحذف الجواب لدلالة ما قبله عليه كقولهم: هضرب زيداً
إنْ أساء إليك، التقدير: إن أساء إليك فاضربه، وحذف فاضربه
لدلالة اضرب المتقدم عليه. وأما قول البخاري: كيف كان بدء
الوحي؟ فهو استفهام محض، إما على سبيل الحكاية كأنّ قائلاً
سأله فقال: كيف كان بدء الوحي؟ فأجاب بالحديث الذي فيه كيفية
ذلك.
قال ابن عطية: جاء ينظر على لفظ من، وإذا
جاء الفعل على لفظها فجائز أن يعطف عليه آخر على المعنى، وإذا
جاء أولاً على معناها فلا يجوز أن يعطف عليه بآخر على اللفظ،
لأن الكلام يلبس حينئذ انتهى. وليس كما قال، بل يجوز أن تراعى
المعنى أولاً فتعيد الضمير على حسب ما تريد من المعنى من تأنيث
وتثنية وجمع، ثم تراعي اللفظ فتعيد الضمير مفرداً مذكراً، وفي
ذلك تفصيل ذكر في علم النحو.
قال ابن عطية: ويوم ظرف، ونصبه يصح بفعل مضمر تقديره: واذكر.
ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه قوله: كأن لم يلبثوا إلا
ساعة من النهار، ويصح نصبه بيتعارفون، والكاف من قوله: كأن،
يصح أنْ تكون في موضع الصفة لليوم، ويصح أن تكون في موضع نعت
للمصدر كأنه قال: ويوم نحشرهم حشراً كأن لم يلبثوا، ويصح أن
يكون قوله: كأن لم يلبثوا في موضع الحال من الضمير في نحشرهم
انتهى. أما قوله: ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه كأن لم
يلبثوا فإنه كلام مجمل لم يبين الفعل الذي يتضمنه كأن لم
يلبثوا، ولعله أراد ما قاله الحوفي: من أن الكاف في موضع نصب
بما تضمنت من معنى الكلام وهو السرعة انتهى. فيكون التقدير:
ويوم نحشرهم يسرعون كأن لم يلبثوا، وأما قوله: والكاف من قوله
كأن، يصح أن تكون في موضع الصفة لليوم، فلا يصح لأنّ يوم
نحشرهم معرفة، والجمل نكرات، ولا تنعت المعرفة بالنكرة. لا
يقال: إنّ الجمل الذي يضاف إليها أسماء الزمان نكرة على
الإطلاق، لأنها إن كانت في التقدير تنحل إلى معرفة، فهن ما
أضيف إليها يتعرف وإن كانت تنحل إلى نكرة كان ما أضيف إليه
انكرة، تقول: مررت في يوم قدم زيد الماضي، فتصف يوم بالمعرفة،
وجئت ليلة قدم زيد المباركة علينا. وأيضاً فكأن لم يلبثوا لا
يمكن أن يكون صفة لليوم من جهة المعنى، لأنّ ذلك من وصف
المحشورين لا من وصف يوم حشرهم. وقد تكلف بعضهم تقدير محذوف
بربط فقدره: كأن لم يلبثوا قبله، فحذف قبله أي قبل اليوم،
وحذف مثل هذا الرابط لا يجوز. فالظاهر أنها
جملة حالية من مفعول نحشرهم كما قاله ابن عطية آخراً، وكذا
أعربه الزمخشري وأبو البقاء.
قال الزمخشري: (فإن قلت) : كأن لم يلبثوا ويتعارفون كيف
موقعهما؟ (قلت) : أما الأولى فحال منهم أي: نحشرهم مشبهين بمن
لم يلبث إلا ساعة. وأما الثانية فإما أن تتعلق بالظرف يعني:
فتكون حالاً، وإما أن تكون مبينة لقوله: كأن لم يلبثوا إلا
ساعة، لأنّ التعارف يبقى مع طول العهد وينقلب تناكراً انتهى.
وقال الحوفي: يتعارفون فعل مستقبل في موضع الحال من الضمير في
يلبثوا وهو العامل، كأنه قال: متعارفين، المعنى: اجتمعوا
متعارفين. ويجوز أن يكون حالاً من الهاء والميم في نحشرهم وهو
العامل انتهى. وأما قول ابن عطية: ويصح أن يكون في موضع نصب
للمصدر، كأنه قال: ويوم نحشرهم حشراً كأن لم يلبثوا، فقد حكاه
أبو البقاء فقال: وقيل هو نعت لمصدر محذوف أي حشراً كأن لم
يلبثوا قبله انتهى. وقد ذكرنا أن حذف مثل هذا الرابط لا يجوز.
وجوزوا في يتعارفون أن يكون حالاً على ما تقدم ذكره من الخلاف
في ذي الحال والعامل فيها، وأن يكون جملة مستأنفة، أخبر تعالى
أنه يقع التعارف بينهم. وما كانوا مهتدين: الظاهر أنه معطوف
على قوله: قد خسر، فيكون من كلام المحشورين إذا قلنا: إنّ قوله
قد خسر من كلامهم، أخبروا عن أنفسهم بخسرانهم في الآخرة
وبانتفاء هدايتهم في الدنيا. ويحتمل أن يكون معطوفاً على صلة
الذين أي: كذبوا بلقاء الله، وانتفت هدايتهم في الدنيا. ويحتمل
أن تكون الجملة كالتوحيد بجملة الصلة، لأن من كذب بلقاء الله
هو غير مهتد.
إما هي أنْ الشرطية زيد عليها ما قال ابن
عطية، ولأجلها جاز دخول النون الثقيلة. ولو كانت أن وحدها لم
يجز انتهى. يعني أنّ دخول النون للتأكيد إنما يكون مع زيادة ما
بعد إن، وهذا الذي ذكره مخالف لظاهر كلام سيبويه. قال ابن
خروف: أجاز سيبويه الإتيان بما، وأن لا يؤتى بها، والإتيان
بالنون مع ما وإن لا يؤتى بها، والإراءة هنا بصرية، ولذلك تعدى
الفعل إلى اثنين.
قال الزمخشري: فإلينا مرجعهم جواب نتوفينك، وجواب نرينك محذوف،
كأنه قيل: وإما نرينك بعض الذي نعدهم فذاك، أو نتوفينك قبل أن
نريكه، فنحن نريك في الآخرة انتهى. فجعل الزمخشري الكلام شرطين
لهما جوابان، ولا حاجة إلى تقدير جواب محذوف، لأن قوله: فإلينا
مرجعهم صالح أنْ يكون جواباً للشرط والمعطوف عليه. وأيضاً فقول
الزمخشري: فذاك هو اسم مفرد لا ينعقد منه جواب شرط، فكان ينبغي
أن يأتي بجملة يتضح منها جواب الشرط، إذ لا يفهم من قوله فذاك
الجزء الذي حذف المتحصل به فائدة الإسناد.
وإلا ما شاء الله ظاهره أنه استثناء متصل، إلا ما شاء الله أنْ
أملكه وأقدر عليه. وقال الزمخشري: هو استثناء منقطع أي: ولكن
ما شاء الله من ذلك كائن.
تقدّم الكلام في أرأيتم في سورة الأنعام وقررنا هناك أن العرب
تضمن أرأيت معنى أخبرني، وأنها تتعدى إذ ذاك إلى مفعولين، وأن
المفعول الثاني أكثر ما يكون جملة استفهام ينعقد منها ما قبلها
مبتدأ وخبر كقول العرب: أرأيت زيداً ما صنع؟ المعنى: أخبرني عن
زيد ما صنع. وقبل دخول أرأيت كان الكلام: زيد ما صنع؟ وإذا
تقرر هذا فأرأيتم هنا المفعول الأول لها محذوف، والمسألة من
باب الإعمال تنازع. أرأيت وإن أتاكم على قوله: عذابه، فأعمل
الثاني إذ هو المختار على مذهب البصريين، وهو الذي ورد به
السماع أكثر من إعمال الأول. فلما أعمل الثاني حذف من الأول
ولم يضمر، لأنّ إضماره مختص بالشعر، أو قليل في الكلام على
اختلاف النحويين في ذلك.
وقال الحوفي: الرؤية من رؤية القلب التي
بمعنى العلم، لأنها داخلة على الجملة من الاستفهام ومعناها
التقرير. وجواب الشرط محذوف، وتقدير الكلام: أرأيتم ما تستعجل
من العذاب المجرمون إن أتاكم عذابه انتهى. فظاهر كلام الحوفي:
إن أرأيتم باقية على موضوعها الأول لم تضمن معنى أخبروني،
وأنها بمعنى أعلمتم، وأن جملة الاستفهام سدت مسد المفعولين،
وأنه استفهام معناه التقرير، ولم يبين الحوفي ما يفيد جواب
الشرط المحذوف.
قال الزمخشري: (فإن قلت) : بم يتعلق الاستفهام؟ وأين جواب
الشرط؟ (قلت) : تعلق بأريأتم، لأن المعنى أخبروني ماذا يستعجل
منه المجرمون، وجواب الشرط محذوف: وهو تندموا على الاستعجال
وتعرفوا الخطأ فيه انتهى. وما قدره الزمخشري غير سائغ، لأنه لا
يقدر الجواب إلا مما تقدمه لفظاً أو تقديراً تقول: أنت ظالم إن
فعلت، فالتقدير إن فعلت فأنت ظالم. وكذلك وإنا إن شاء الله
لمهتدون التقدير: إن شاء الله نهتد. فالذي يسوغ أن يقدر إنْ
أتاكم عذابه فأخبروني ماذا يستعجل.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون ماذا يستعجل
منه المجرمون اعتراضاً والمعنى: إن أتاكم عذابه أأمنتم به بعد
وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان؟ انتهى. أما تجويزه أن يكون ماذا
جواباً للشرط فلا يصح، لأنّ جواب الشرط إذا كان استفهاماً فلا
بد فيه من الفاء، تقول: إنْ زارنا فلان فأي رجل هو، وإن زارنا
فلان فأي يدله بذلك، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورة،
والمثال الذي ذكره وهو: إن أتيتك ماذا تطعمني؟ هو من تمثيله،
لا من كلام العرب. وأما قوله: ثم تتعلق الجملة بأرأيتم، إن عني
بالجملة ماذا يستعجل فلا يصح ذلك لأنه قد جعلها جواباً للشرط،
وإن عني بالجملة جملة الشرط فقد فسر هو أرأيتم بمعنى أخبرني،
وأخبرني تطلب متعلقاً مفعولاً، ولا تقع جملة الشرط موقع مفعول
أخبرني. وأما تجويزه أن يكون أثم إذا ما وقع آمنتم به جواب
الشرط، وماذا يستعجل منه المجرمون اعتراضاً فلا يصح أيضاً، لما
ذكرناه من أنّ جملة الاستفهام لا تقع جواباً للشرط إلا ومعها
فاء الجواب. وأيضاً فثم هنا وهي حرف عطف، تعطف الجملة التي
بعدها على ما قبلها، فالجملة الاستفهامية معطوفة، وإذا كانت
معطوفة لم يصح أن تقع جواب شرط. وأيضاً فأرأيتم بمعنى أخبرني
تحتاج إلى مفعول، ولا تقع جملة الشرط موقعه.
وتقدم الكلام في قوله: بياتاًفَذَلِكُمُ
اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ
الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ * كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
* قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن
يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقِّ
أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن
لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ
تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا
إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ
اللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَمَا كَانَ هَذَا
الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن
تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ
رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَلَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ
مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ
* بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا
يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَقِبَةُ الظَّلِمِينَ *
وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ
بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ * وَإِن كَذَّبُوكَ
فَقُل لِّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ
مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِىءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ *
وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ
الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَمِنهُمْ مَّن
يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِى الْعُمْىَ وَلَوْ
كَانُواْ لاَ
يُبْصِرُونَ * إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ
النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
* وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ
سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ
خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ وَمَا كَانُواْ
مُهْتَدِينَ * وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ
أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ
شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ * وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ
فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ
وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ
إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرًّا
وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ
أَجَلٌ إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً
وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ * قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ
عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ
الْمُجْرِمُونَ * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَءَامَنْتُمْ
بِهِءَآلئْنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} في الأعراف
مدلولاً وإعراباً.
ويجوز في ماذا أن يكون ما مبتدأ وذا خبره،
وهو بمعنى الذي، ويستعجل صلته، وحذف الضمير العائد على الموصول
التقدير أي: شيء يستعجله من العذاب المجرمون. ويجوز في ماذا أن
يكون كله مفعولاً كأنه قيل: أي شيء يستعجله من العذاب
المجرمون. وقد جوز بعضهم أن يكون ماذا كله مبتدأ، وخبره الجملة
بعده. وضعفه أبو عليّ لخلوّ الجملة من ضمير يعود على المبتدأ.
والظاهر عود الضمير في منه على العذاب، وبه يحصل الربط لجملة
الاستفهام بمفعول أرأيتم المحذوف الذي هو مبتدأ في الأصل. ثم
حرف عطف وتقدمت همزة الاستفهام عليها كما تقدمت على الواو
والفاء في: {أفلم يسيروا} وفي {أو لم يسيروا} وتقدم الكلام على
ذلك. وخلاف الزمخشري للجماعا في دعواه أنّ بين الهمزة وحرف
العطف جملة محذوفة عطفت عليها الجملة التي بعد حرف العطف. وقال
الطبري في قوله: أثم بضم الثاء، أنّ معناه أهنالك قال: وليست
ثم هذه التي تأتي بمعنى العطف انتهى. وما قاله الطبري من أنّ
ثم هنا ليست للعطف دعوى، وأما قوله: إن المعنى أهنالك، فالذي
يبنغي أن يكون ذلك تفسير معنى، لا أنْ ثم المضمومة الثاء
معناها معنى هنالك.
وقرأ طلحة والأعرج: بهمزة الاستفهام بغير مد، وهو على إضمار
القول أي: قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب آلآن آمنتم به،
فالناصب لقوله: الآن هو آمنتم به، وهو محذوف. قيل: تقول لهم
ذلك الملائكة. وقيل: الله، والاستفهام على طريق التوبيخ. وفي
كتاب اللوامح عيسى البصري وطلحة: آمنتم به الآن بوصل الهمزة من
غير استفهام، بل على الخبر، فيكون نصبه على الظرف من آمنتم به
المذكور. وأما في العامة فنصبه بفعل مضمر يدل عليه آمنتم به
المذكور، لأن الاستفهام قد أخذ صدر الكلام، فيمنع ما قبله أن
يعمل فيما بعده انتهى. وقد كنتم جملة حالية.
وثم قيل عطف على المضمر قبل الآن. ومن قرأ بوصل ألف الآن فهو
استئناف إخبار عما يقال لهم يوم القيامة.
أي يستخبرونك. وأحق هو الضمير عائد على
العذاب. وقيل: على الشرع والقرآن. وقيل: على الوعيد، وقيل: على
أمر الساعة، والجملة في موضع نصب فقال الزمخشري: بيقولون أحق
هو فجعل يستنبئونك تتعدى إلى واحد. وقال ابن عطية: معناه
يستخبرونك، وهي على هذا تتعدّى إلى مفعولين: أحدهما الكاف،
والآخر في الابتداء، والخبر فعلى ما قال: يكون يستنبئونك
معلقة. وأصل استنبأ أن يتعدّى إلى مفعولين: أحدهما بعن، تقول:
استنبأت زيداً عن عمرو أي طلبت منه أن ينبئني عن عمرو، والظاهر
أنها معلقة عن المفعول الثاني. قال ابن عطية: وقيل هي بمعنى
يستعلمونك. قال: فهي على هذا تحتاج إلى مفاعيل ثلاثة: أحدها:
الكاف، والابتداء، والخبر سد مسد المفعولين انتهى. وليس كما
ذكر، لأنّ استعلم لا يحفظ كونها متعدية إلى مفاعيل ثلاثة، لا
يحفظ استعلمت زيداً عمراً قائماً فتكون جملة الاستفهام سدت مسد
المفعولين، ولا يلزم من كونها بمعنى يستعلمونك أنْ تتعدى إلى
ثلاثة، لأنّ استعلم لا يتعدّى إلى ثلاثة كما ذكرنا. وارتفع هو
على أنه مبتدأ، وحق خبره. وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يكون حق
مبتدأ وهو فاعلى به سد مسد الخبر، وحق ليس اسم فاعلى ولا
مفعول، وإنما هو مصدر في الأصل، ولا يبعد أن يرفع لأنه بمعنى
ثابت.
وإي تستعمل في القسم خاصة، كما تستعمل هل
بمعنى قد فيه خاصة. قال معناه الزمخشري قال: وسمعتهم يقولون في
التصديق أي، وفيصلونه بواو القسم ولا ينطقون به وحده انتهى.
ولا حجة فيما سمعه الزمخشري من ذلك لعدم الحجية في كلامه لفساد
كلام العرب إذ ذاك وقبله بأزمان كثيرة. وقال ابن عطية: هي لفظة
تتقدّم القسم، وهي بمعنى نعم، ويجيء بعدها حرف القسم وقد لا
يجيء، تقول: أي ربي أي وربي انتهى. وقد كان يكتفي في الجواب
بقوله: أي وربي، إلا أنه أوكد بإظهار الجملة التي كانت تضمر
بعد قوله: وربي، مسوقة مؤكدة بأنّ. واللام مبايعة في التوكيد
في الجواب، ولما تضمن قولهم أحق هو السؤال عن العذاب، وكان
سؤالاً عن العذاب اللاحق بهم لا عن مطلق عذاب يقع بمن يقع.
قيل: وما أنتم بمعجزين أي فائتين العذاب المسؤول عنه، بل هو
لاحق بكم. واحتملت هذه الجملة أن تكون داخلة في جواب القسم،
فتكون معطوفة على الجواب قبلها. واحتمل أن تكون إخباراً،
معطوفاً على الجملة المقولة لا على جواب القسم. وأعجز الهمزة
فيه للتعدية كما قال: ولن نعجزه هرباً، لكنه كثر فيه حذف
المفعول حتى قالت العرب: أعجز فلان إذا ذهب في الأرض فلم يقدر
عليه.
وافتدى يأتي مطاوعاً لفدى، فلا يتعدى تقول: فديته فافتدى،
وبمعنى فدى فيتعدى، وهنا يحتمل الوجهين.
والظاهر أنّ قوله: وقضى بينهم بالقسط، جملة أخبار مستأنفة،
وليست معطوفة على ما في حيز لما، وأن الضمير في بينهم عائد على
كل نفس ظلمت.
وألا كلمة تنبيه دخلت على الجملتين تنبيهاً للغافل.
والظاهر أن قوله: قل بفضل الله وبرحمته،
فبذلك فليفرحوا جملتان، وحذف ما تتعلق به الباء والتقدير: قل
بفضل الله وبرحمته ليفرحوا، ثم عطفت الجملة الثانية على الأولى
على سبيل التوكيد. قال الزمخشري: والتكرير للتقرير والتأكيد،
وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد
الدنيا، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه، والفاء داخلة
لمعنى الشرط كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح، فإنه
لا مفروح به أحق منهما. ويجوز أن يراد بفضل الله وبرحمته
فليعتنوا بذلك، فليفرحوا. ويجوز أنْ يراد قد جاءتكم موعظة بفضل
الله وبرحمته فبذلك أي: فمجيئهما فليفرحوا انتهى. أما إضمار
فليعنتوا فلا دليل عليه، وأما تعليقه بقوله: قد جاءتكم، فينبغي
أن يقدر ذلك محذوفاً بعد قل، ولا يكون متعلقاً بجاءتكم الأولى
للفصل بينهما بقل. وقال الحوفي: الباء متعلقة بما دل على
المعنى أي: قد جاءتكم الموعظة بفضل الله. وقيل: الفاء الأولى
زائدة، ويكون بذلك بدلاً قبله، وأشير به إلى الاثنين الفضل
والرحمة. وقيل: كررت الفاء الثانية للتوكيد، فعلى هذا لا تكون
الأولى زائدة، ويكون أصل التركيب فبذلك ليفرحوا، وفي القول
قبله يكون أصل التركيب بذلك فليفرحوا.
وأرأيتم هنا بمعنى أخبروني. وجوزوا في ما
أنزل أن تكون موصولة مفعولاً أولا لأرأيتم، والعائد عليها
محذوف، والمفعول الثاني قوله: آلله أذن لكم، والعائد على
المبتدأ من الخبر محذوف تقديره: آلله أذن لكم فيه، وكرر قلْ
قبل الخبر على سبيل التوكيد. وأن تكون ما استفهامية منصوبة
بأنزل قاله: الحوفي والزمخشري. وقيل: ما استفهامية مبتدأة،
والضمير من الخبر محذوف تقديره: آلله أذن لكم فيه أو به، وهذا
ضعيف لحذف هذا العائد. وجعل ما موصولة هو الوجه، لأن فيه
إبقاء. أرأيت على بابها من كونها تتعدى إلى الأول فتؤثر فيه،
بخلاف جعلها استفهامية، فإنْ أرأيت إذ ذاك تكون معلقة، ويكون
ما قد سدّت مسد المفعولين، والظاهر أنّ أم متصلة والمعنى:
أخبروني آلله إذن لكم في التحليل والتحريم.
وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون الهمزة
للإنكار، وأم منقطعة بمعنى بل، أتفترون على الله تقريراً
للافتراء انتهى، وأنزل هنا قيل معناه: خلق كقوله: وأنزلنا
الحديد وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواجوَيَسْتَنْبِئُونَكَ
أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِى وَرَبِّى إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ
بِمُعْجِزِينَ * وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى
الأٌّرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا
رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ
لاَ يُظْلَمُونَ * أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَوَتِ
وَالأٌّرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ
جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مَّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى
الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ
بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ
هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ
أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ
حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى
اللَّهِ تَفْتَرُونَ} . وقيل: أنزل على بابها وهو على حذف مضاف
أي: من سبب رزق وهو المطر. وقال ابن عطية: أنزل لفظة فيها
تجوز، وإنزال الرزق إما أن يكون في ضمن إنزال المطر بالمآل،
ونزول الأمر به الذي هو ظهور الأثر في المخلوق منه المخترع
والمجعول حراماً وحلالاً.
ما استفهامية مبتدأة خبرها ظن، والمعنى: أي شي ظن المفترين يوم
القيامة.
وقرأ عيسى بنن عمر: وما ظن جعله فعلاً ماضياً أي ظن ظن الذين
يفترون، فما في موضع نصب على المصدر، وما الاستفهامية قد تنوب
عن المصدر تقول: ما تضرب زيداً تريد أي: رب تضرب زيداً.
وقال الشاعر:
ماذا يغير ابنتي ريع عويلهما
لا يرقدان ولا بؤسي لمن رقدا وجيء بلفظ ظنّ
ماضياً لأنه كائن لا محالة فكأن قد كان، والأولى أن يكون ظن في
معنى يظن، لكونه عاملاً في يوم القيامة. وهو ظرف مستقبل.
وما في الجملتين نافية، والضمير في منه عائد على شأن.
وولى إلا هنا الفعل غير مصحوب بقد، لأنه قد تقدم الأفعل.
والجملة بعد إلا حال وشهوداً رقباء نحصي عليكم، وإذ معمولة
لقوله: شهوداً. ولما كانت الأفعال السابقة المراد بها الحالة
الدائمة وتنسحب على الأفعال الماضية كان الظرف ماضياً، وكان
المعنى: وما كنت في شأن وما تلوت من قرآن ولا عملتم من عمل إلا
كنا عليكم شهوداً إذ أفضتم فيه. وإذ تخلص المضارع لمعنى
الماضي.
وقرأ الجمهور: لا أصغر من ذلك ولا أكبر بفتح الراء فيهما، ووجه
على أنه عطف على ذرة أو على مثقال على اللفظ. وقرأ حمزة وحده:
برفع الراء فيهما، ووجه على أنه عطف على موضع مثقال لأن من
زائدة فهو مرفوع بيعزب، هكذا وجهه الحوفي وابن عطية وأبو
البقاء. وقال الزمخشري نابعاً لاختيار الزجاج: والوجه النصب
على نفي الجنس، والرفع على الابتداء، يكون كلاماً مبتدأ. وفي
العطف عل محل مثقال ذرة أو لفظه فتحاً في موضع الجر أشكال،
لأنّ قولك: لا يعزب عنه شيء إلا في كتاب مشكل انتهى. وإنما
أشكل عنده، لأنّ التقدير يصير إلا في كتاب فيعزب، وهذا كلام لا
يصح. وخرجه أبو البقاء على أنه استثناء منقطع تقديره: لكن هو
في كتاب مبين، ويزول بهذا التقدير الإشكال.
وقال الجرجاني صاحب النظم: إلا بمعنى الواو
أي: وهو في كتاب مبين. والعرب تضع إلاّ موضع واو النسق كقوله:
إلا من ظلم إلا الذين ظلموا منهموَمَا ظَنُّ الَّذِينَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَمَةِ إِنَّ
اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ
لاَ يَشْكُرُونَ * وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ
مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ
كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا
يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأٌّرْضِ
وَلاَ فِى السَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ
إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ} انتهى. وهذا قول ضعيف لم يثبت من
لسان العرب وضع إلا موضع الواو، وتقدم الكلام على قوله: {إلا
الذين ظلموا منهم} وسيأتي على قوله: إلا من ظلم إن شاء الله
تعالى.
والذين يحتمل أن يكون منصوباً على الصفة قاله الزمخشري، أو على
البدل قاله ابن عطية، أو بإضمار أمدح، ومرفوعاً على إضمارهم،
أو على الابتداء، والخبر لهم البشرى. وأجاز الكوفيون رفعه على
موضع أولياء نعتاً، أو بدلاً، وأجيز فيه الخبر بدلاً من ضمير
عليهم.
قرأ أبو حيوة: أنّ العزة بفتح الهمزة وليس معمولاً لقولهم: لأن
ذلك لا يحزن الرسول، إذ هو قول حق. وخرجت هذه القراءة على
التعليل أي: لا يقع منك حزن لما يقولون، لأجل أنّ العزة لله
جميعاً. ووجهت أيضاً على أن يكون إنّ العزة بدل من قولهم ولا
يظهر هذا التوجيه.
قال الزمخشري: ومن جعله بدلاً من قولهم ثم
أنكره، فالمنكر هو تخريجه لا ما أنكره من القرآن. وقال القاضي:
فتحها شاذ يقارب الكفر، وإذا كسرت كان استئنافاً، وهذا يدل على
فضيلة علم الإعراب. وقال ابن قتيبة: لا يجوز فتح إن في هذا
الموضع وهو كفر وغلو، وإنما قال القاضي وابن قتيبة بناء منهما
على أن أن معمولة لقولهم، وقد ذكرنا توجيه ذلك على التعليل وهو
توجيه صحيح.
وجوزوا أن تكون ما استفهامية في موضع نصب بيتبع، وشركاء منصوب
بيدعون أي: وأي شيء يتبع على تحقير المتبع، كأنه قيل: من يدعو
شريكاً لله لا يتبع شيئاً. وأجاز الزمخشري أن تكون ما موصولة
عطفاً على من، والعائد محذوف أي: والذي يتبعه الذين يدعون من
دون الله شركاء أي: وله شركاؤهم. وأجاز غيره أن تكون ما موصولة
في موضع رفع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: والذي يتبعه
المشركون باطل.
كقوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ
اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *
الَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ
الْبُشْرَى فِي الْحَيوةِ الدُّنْيَا وَفِى الأٌّخِرَةِ لاَ
تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ * وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ
للَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * أَلا إِنَّ
للَّهِ مَن فِى السَّمَوَت وَمَنْ فِى الأٌّرْضِ وَمَا
يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَآءَ
إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ
يَخْرُصُونَ * هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ
لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذلِكَ
لآيَتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ
وَلَداً سُبْحَنَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِى السَّمَوَت
وَمَا فِى الأٌّرْضِ إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَآ
أَتقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ
الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ
يُفْلِحُونَ * مَتَعٌ فِى الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا
مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا
كَانُواْ يَكْفُرُونَ * وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ
قَالَ لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ
مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ
تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ
لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ
إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ * فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا
سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * فَكَذَّبُوهُ
فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ
خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ
بِآيَتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ * ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ
رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيِّنَتِ فَمَا
كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ
كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ} {أولئك الذين
يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة} انتهى. وأنّ نافية أي: ما
يتبعون إلا ظنهم أنهم شركاء.
قال الحوفي: وبهذا متعلق بمعنى الاستقرار يعني: الذي تعلق به
الظرف. وتبعه الزمخشري فقال: الباء حقها أن تتعلق بقوله: إن
عندكم على أن يجعل القول مكاناً للسلطان كقولك: ما عندكم
بأرضكم نور، كأنه قيل: إنّ عندكم فيما تقولون سلطان. وقال أبو
البقاء: وبهذا متعلق بسلطان أو نعت له.
وجواب الشرط محذوف تقديره: فافعلوا ما شئتم. وقيل: الجواب فعلى
الله توكلت. وفأجمعوا معطوف على الجواب، وهو لا يظهر لأنه
متوكل على الله دائماً. وقال الأكثرون: الجواب فأجمعوا، وفعلى
الله توكلت جملة اعتراض بين الشرط وجزائه كقوله:
أما تريني قد نحلت ومن يكن
غرضاً لأطراف الأسنة ينحل
فلرب أبلج مثل ثقلك بادن
ضخم على ظهر الجواد مهبل وقرأ الجمهور: فأجمعوا من أجمع الرجل
الشيء عزم عليه ونواه. قال الشاعر:
أجمعوا أمرهم بليل فلما
أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء وقال آخر:
يا ليت شعري والمنى لا تنفع
هل أعذرت يوماً وأمري مجمع وعلى هذا القراءة يكون وشركاءكم
عطفاً على أمركم على حذف مضاف أي: ك وأمر شركائكم، أو على
أمركم من غير مراعاة محذوف. لأنه يقال أيضاً: أجمعت شركائي، أو
منصوباً بإضمار فعل أي: وادعوا شركاءكم، وذلك بناء على أنه لا
يقال أجمعت شركائي يعني في الأكثر، فيكون نظير قوله:
فعلفتها تبناً وماء بارداً
حتى شئت همالة عيناها في أحد المذهبين أي:
وسقيتها ماء بارداً، وكذا هي في مصحف أبي. وادعوا شركاءكم،
وقال أبو علي: وقد تنصب الشركاء بواو مع كما قالوا: جاء البرد
والطيالسة. ولم يذكر الزمخشري في نصب، وشركاءكم غير قول أبي
على أنه منصوب بواو مع، وينبغي أن يكون هذا التخريج عل أنه
مفعول معه من الفاعل وهو الضمير في فاجمعوا لا من المفعول الذي
هو أمركم، وذلك على أشهر الاستعمالين. لأنه يقال: أجمع
الشركاء، ولا يقال جمع الشركاء أمرهم إلا قليلاً، ولا أجمعت
الشركاء إلا قليلاً. وفي اشتراط صحة جواز العطف فيما يكون
مفعولاً معه خلاف، فإذا جعلناه من الفاعل كان أولى. وقرأ
الزهري، والأعمش، والجحدري، وأبو رجاء، والأعرج، والأصمعي عن
نافع، ويعقوب: بخلاف عنه فاجمعوا بوصل الألف وفتح الميم من
جميع، وشركاءكم عطف على أمركم لأنه يقال: شركائي، أو على أنه
مفعول معه، أو على حذف مضاف أي: ذوي الأمر منكم، فجرى على
المضاف إليه ما جرى على المضاف، لو ثبت قاله أبو علي. وفي كتاب
اللوامح: أجمعت الأمر أي جعلته جميعاً، وجمعت الأموال جميعاً،
فكان الإجماع في الإحداث والجمع في الإعيان، وقد يستعمل كل
واحد مكان الآخر. وفي التنزيل: فجمع كيده انتهى.
وقرأ أبو عبد الرحمن، والحسن، وابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر،
وسلام، ويعقوب فيما روي عنه: وشركاؤكم بالرفع، ووجه بأنه عطف
على الضمير في فأجمعوا، وقد وقع الفصل بالمفعول فحسن، وعلى أنه
مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه أي: وشركاؤكم فليجمعوا
أمرهم. وقرأت فرقة: وشركائكم بالخفض عطفاً على الضمير في أمركم
أي: وأمر شركائكم فحذف كقول الآخر:
أكل امرىء تحسبين أمراً
وتار توقد بالليل ناراً أي وكل نار، فحذف كل لدلالة ما قبله
عليه.
ومفعول اقضوا محذوف أي: اقضوا إليّ ذلك الأمر.
قال ابن عطية، ويحتمل اللفظ عندي معنى آخر
وهو: أن تكون ما مصدرية، والمعنى فكذبوا رسلهم فكان عقابهم من
الله أن لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل أي: من سببه ومن
جرائه، ويؤيد هذا التأويل كذلك نطبع انتهى. والظاهر أنّ ما
موصولة، ولذلك عاد الضمير عليها في قوله: بما كذبوا به. ولو
كانت مصدرية بقي الضمير غير عائد على مذكور، فتحتاج أن يتكلف
ما يعود عليه الضمير.
والظاهر أنّ معمول أتقولون محذوف تقديره: ما تقدم ذكره وهو أنّ
هذا لسحر، ويجوز أن يحذف معمول القول للدلالة عليه نحو قول
الشاعر:
لنحن الألى قلتم فإني ملتئم
برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا ومسألة الكتاب متى رأيت، أو قلت
زيداً منطلقاً. وقيل: معمول أتقولون هو أسحر هذا إلى آخره.
وقرأ أبو عمرو، ومجاهد وأصحابه، وابن
القعقاع: بهمزة الاستفهام في قوله: آلسحر ممدودة، وباقي السبعة
والجمهور بهمزة الوصل، فعلى الاستفهام قالوا: يجوز أن تكون ما
استفهامية مبتدأ، والسحر بدل منها،. وأن تكون منصوبة بمضمر
تفسيره جئتم به، والسحر خبر مبتدأ محذوف. ويجوز عندي في هذا
الوجه أن تكون ما موصولة مبتدأة، وجملة الاستفهام خبر، إذ
التقدير: أهو السحر، أو آلسحر هو، فهو الرباط كما تقول: الذي
جاءك أزيد هو؟ وعلى همزة الوصل جاز أن نكون ما موصولة مبتدأة،
والخبر السحر، ويدل عليه قراءة عبد الله والأعمش: سحر. وقراءة
أبيّ ما أتيتم به سحر. ويجوز عندي أن تكون في هذا الوجه
استفهامية في موضع رفع بالابتداء، أو في موضع نصب على
الاشتغال، وهو استفهام على سبيل التحقير والتعليل لما جاؤوا
به، والسحر خير مبتدأ محذوف أي: هو السحر. قال ابن عطية:
والتعريف هنا في السحر ارتب، لأنه قد تقدم منكراً في قولهم: إن
هذا لسحر، فجاء هنا بلام العهد كما يقال: أول الرسالة سلام
عليك، وفي آخرها والسلام عليك انتهى. وهذا أخذه من الفراء. قال
الفراء: وإنما قال السحر بالألف واللام، لأن النكرة إذا أعيدت
أعيدت بالألف واللام، ولو قال له من رجل لم يقع في وهمه أنه
يسأله عن الرجل الذي ذكر له انتهى. وما ذكراه هنا في السحر ليس
هو من باب تقدم النكرة، ثم أخبر عنها بعد ذلك، لأن شرط هذا أن
يكون المعرّف بالألف واللام هو النكرة المتقدم، ولا يكون غيره
كما قال تعالى: كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول
وتقول: زارني رجل فأكرمت الرجل، ولما كان إياه جاز أن يأتي
بالضمير بدله فتقول: فأكرمته. والسحر هنا ليس هو السحر الذي هو
في قوله: أنّ هذا لسحر، لأن الذي أخبروا عنه بأنه سحر هو ما
ظهر على يدي موسى عليه السلام من معجزة العصا، والسحر الذي في
قول موسى إنما هو سحرهم الذي جاؤوا به.
وأن يفتنهم بدل من فرعون بدل اشتمال أي:
فتنته، فكون في موضع جر، ويجوز أن يكون في موضع نصب بخوف إما
على التعليل، وإما على أنه في موضع المفعول به، أي: على خوف
لأجل فتنته، أو على خوف فتنته.
واللام في ليضلوا الظاهر أنها لام كي على معنى: آتيتهم ما
آتيتهم على سبيل الاستدراج، فكان الإتيان لكي يضلوا. ويحتمل أن
تكون لام الصيرورة والعاقبة كقوله: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم
عدواً وحزناً وكما قال الشاعر:
وللمنايا تربي كل مرضعة
وللخراب يجد الناس عمراناً وقال الحسن: هو دعاء عليهم، وبهذا
بدأ الزمخشري قال: كأنه قال ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال،
وليكونوا ضلالاً، وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا. ويبعد أن
يكون دعاء قراءة من قرأ ليضلوا بضم الياء، إذ يبعد أن يدعو بأن
يكونوا مضلين غيرهم، وهي قراءة الكوفيين، وقتادة والأعمش،
وعيسى، والحسن، والأعرج بخلاف عنهما. وقرأ الحرميان،
والعربيان، ومجاهد، وأبو رجاء، والأعرج، وشيبة، وأبو جعفر،
وأهل مكة: بفتحها. وقرأ الشعبي بكسرها، ولى بين الكسرات
الثلاث. وقيل: لا محذوفة، التقدير لئلا يضلوا عن سبيلك قاله:
أبو علي الجبائي.
فلا يؤمنوا مجزوم على أنه دعاء عند الكسائي والفراء، كما قال
الأعشى:
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى
ولا تُلْقَينّ إلا وأنفك راغم ومنصوب على
أنه جواب اشدد بدأ به الزمخشري، ومعطوف على ليضلوا على أنه
منصوب قاله: الأخفش وغيره. وما بينهما اعتراض، أو على أنه
مجزوم عل قول من قال: إن لام ليضلوا لام الدعاء، وقرأ الجمهور:
تتبعان بتشديد التاء والنون، وابن عباس وابن ذكوان بتخفيف
التاء وشد النون، وابن ذكوان أيضاً بتشديد التاء وتخفيف النون،
وفرقة بتخفيف التاء وسكون النون، وروى ذلك الأخفش الدمشق عن
أصحابه عن ابن عامر، فأما شد النون فعلى أنها نون التوكيد
الشديدة لحقت فعل النهي المتصل به ضمير الاثنين، وأما تخفيفها
مكسورة فقيل: هي نون التوكيد الخفيفة، وكسرت كما كسرت الشديدة.
وقد حكى النحويون كسر النون الخفيفة في مثل هذا عن العرب،
ومذهب سيبويه والكسائي أنها لا تدخل هنا الخفيفة، ويونس
والفراء يريان ذلك. وقيل: النون المكسورة الخفيفة هي علامة
الرفع، والفعل منفي، والمراد منه النهي، أو هو خبر في موضع
الحال أي: غير متبعين قاله الفارسي.
وقرأ الجمهور: أنه بفتح الهمزة على حذف الباء. وقرأ الكسائي
وحمزة: بكسرها على الاستئناف ابتداء كلام، أو بدلاً من آمنت،
أو على إضمار القول أي: قائلاً أنه.
فاليوم ننجيك الظاهر أنه خبر. وقيل: هو استفهام فيه تهديد أي:
أفاليوم ننجيك؟ فهلا كان الإيمان قبل الإشراف على الهلاك، وهذا
بعيد لحذف همزة الاستفهام ولقوله: لتكون لمن خلفك لآية، لأنّ
التعليل لا يناسب هنا الاستفهام.
انتصب مبوأ صدق على أنه مفعول ثان لبوأنا كقوله: لنبوئنهم من
الجنة غرفاً} وقيل: يجوز أن يكون مصدراً.
الظاهر أنّ إنْ شرطية. وروي عن الحسن
والحسين بن الفضل أنّ إنْ نافية. قال الزمخشري: أي مما كنت في
شك فسئل، يعني: لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك، ولكن لتزداد يقيناً
كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى انتهى.
وإذا كانت إن شرطية فذكروا أنها تدخل على الممكن وجوده، أو
المحقق وجوده، المنبهم زمان وقوعه، كقوله تعالى: أفإن مت فهم
الخالدونفَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ
فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَبَ مِن قَبْلِكَ
لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ * وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ
بِآيَتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَسِرِينَ} والذي أقوله:
إنّ إنْ الشرطية تقتضي تعليق شيء على شيء، ولا تستلزم تحتم
وقوعه ولا إمكانه، بل قد يكون ذلك في المستحيل عقلاً كقوله
تعالى: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين} ومستحيل أن
يكون له ولد، فكذلك هذا مستحيل أن يكون في شك، وفي المستحيل
عادة كقوله تعالى: {فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو
سلماً في السماء فتأتيهم بآية} أي فافعل. لكنّ وقوع إن للتعليق
على المستحيل قليل، وهذه الآية من ذلك. ولما خفي هذا الوجه على
أكثر الناس اختلفوا في تخريج في تخريج هذه الآية.
لولا هنا هي التحضيضية التي صحبها التوبيخ، وكثيراً ما جاءت في
القرآن للتحضيض، فهي بمعنى هلا.
قوم منصوب على الاستثناء المنقطع، وهو قول
سيبويه والكسائي والفراء والأخفش، إذ ليسوا مندرجين تحت لفظ
قرية. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون متصلاً، والجملة في معنى
النفي كأنه قيل: ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس.
وقال ابن عطية: هو بحسب اللفظ استثناء منقطع، وكذلك رسمه
النحويون، وهو بحسب المعنى متصل، لأنّ تقديره ما آمن أهل قرية
إلا قوم يونس، والنصب هو الوجه، ولذلك أدخله سيبويه في باب ما
لا يكون فيه إلا النصب، وذلك مع انقطاع الاستثناء. وقالت فرقة:
يجوز فيه الرفع، وهذا مع اتصال الاستثناء. وقال المهدوي:
والرفع على البدل من قرية، وقال الزمخشري: وقرىء بالرفع على
البدل عن الحرمي والكسائي، وتقدم الخلاف في قراءة يونس بضم
النون وكسرها، وذكر جواز فتحها.
قرىء: وما تغني بالتاء، وهي قراءة الجمهور وبالياء. وماذا
يحتمل أن يكون استفهاماً في موضع رفع بالابتداء، والخبر في
السموات. ويحتمل أن يكون الخبر ذا بمعنى الذي، وصلته في
السموات. وانظروا معلقة، فالجملة الابتدائية في موضع نصب،
ويبعد أن تكون ماذا كله موصولاً بمعنى الذي، ويكون مفعولاً
لقوله: انظروا، لأنه إن كانت بصرية تعدت بإلى، وإن كانت قلبية
تعدت بفي. وقال ابن عطية: ويحتمل أن تكون ما في قوله: وما
تغني، مفعولة لقوله: انظروا، معطوفة على قوله: ماذا أي: تأملوا
نذر غنى الآيات.
وفي قوله: مفعولة معطوفة على قوله ماذا، تجوز يعني أنّ الجملة
الاستفهامية التي هي ماذا في السموات والأرض في موضع المفعول،
لأنّ ماذا منصوب وحده بانظروا، فيكون ماذا موصولة. وانظروا
بصرية لما تقدم.
والظاهر أن كذلك في موضع نصب تقديره: مثل
ذلك الإنجاء الذي نجينا الرسل ومؤمنيهم، ننجي من آمن بك يا
محمد، ويكون حقاً على تقدير: حق ذلك حقاً. وقال أبو البقاء:
يجوز أن يكون حقاً بدلاً من المحذوف النائب عنه الكاف تقديره:
إنجاء مثل ذلك حقاً. وأجاز أن يكون كذلك، وحقاً منصوبين بننجي
التي بعدهما، وأن يكون كذلك منصوباً بننجي الأولى، وحقاً بننجي
الثانية، وأجاز هو تابعاً لابن عطية أن تكون الكاف في موضع
رفع، وقدره الأمر كذلك: وحقاً منصوب بما بعدها.
وأمرت أن أكون من المؤمنين لما ذكر أنه
يعبد الله، وكانت العبادة أغلب ما عليها عمل الجوارح، أخبر أنه
أمر بأن يكون من المصدقين بالله الموحدين له، المفرد له
بالعبادة، وانتقل من عمل الجوارح إلى نور المعرفة، وطابق
الباطن الظاهر. قال الزمخشري: يعني أن الله تعالى أمرني بما
ركب فيّ من العقل، وبما أوحي إليّ في كتابه. وقيل معناه إن
كنتم في شك من ديني ومما أنا عليه، أأثبت أم أتركه وأوافقكم،
فلا تحدثوا أنفسكم بالمحال، ولا تشكوا في أمري، واقطعوا عني
أطماعكم، واعلموا أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، ولا
أختار الضلالة على الهدى كقوله: قل يا أيها الكافرون لا أعبد
ما تعبدونفَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ
إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآءَامَنُواْ كَشَفْنَا
عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْىِ فِى الْحَيَوةَ الدُّنْيَا
وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ * وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ
مَن فِى الأٌّرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ
النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ
لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ
الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * قُلِ انظُرُواْ
مَاذَا فِى السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَمَا تُغْنِى الآيَتُ
وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ
يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن
قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُواْ إِنَّى مَعَكُمْ مِّنَ
الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّى رُسُلَنَا وَالَّذِينَ
ءامَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ *
قُلْ يأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى شَكٍّ مِّن دِينِى
فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ
وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ
أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفًا
وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *
وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ
يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّلِمِينَ
* وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ
هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ
بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ} وأمرت أن أكون أصله: بأن أكون، فحذف الجار وهذا
الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذف الحروف
الجارة، مع أنّ وأنّ وأن يكون من الحذف غير المطرد وهو قوله:
أمرتك الخير {فاصدع بما تؤمر} انتهى يعني بالحذف غير المطرد
وهو قوله: أمرتك الخير، إنه لا يحذف حرف الجر من المفعول
الثاني إلا في أفعال محصورة سماعاً لا قياساً وهي: اختار،
واستغفر، وأمر، وسمى، ولبى، ودعا بمعنى سمى، وزوّج، وصدّق،
خلافاً لمن قاس الحذف بحرف الجر من المفعول الثاني، حيث يعني
الحرف ووموضع الحذف نحو: بريت القلم بالسكين، فيجيز السكين
بالنصب. وجواب إن كنتم في شك قوله: فلا أعبد، والتقدير: فأنا
لا أعبد، لأنّ الفعل المنفي بلا إذا وقع جواباً انجزم، فإذا
دخلت عليه الفاء علم أنه على إضمار المبتدأ. وكذلك لو ارتفع
دون لا لقوله.
وأن أقم يحتمل أنْ تكون معمولة لقوله: وأمرت، مراعى فيها
المعنى. لأن معنى قوله أنْ أكون كن من المؤمنين، فتكون أن
مصدرية صلتها الأمر. وقد أجاز ذلك النحويون، فلم يلتزموا في
صلتها ما التزم في صلات الأسماء الموصولة من كونها لا تكون إلا
خبرية بشروطها المذكورة في النحو. ويحتمل أن تكون على إضمار
فعل أي: وأوحي إليّ أن أقم، فاحتمل أن تكون مصدرية، واحتمل أن
تكون حرف تفسير، لأن الجملة المقدرة فيها معنى القول وإضمار
الفعل أولى، ليزول قلق العطف لوجود الكاف، إذ لو كان وأنّ أقم
عطفاً على أن أكون، لكان التركيب وجهي بياء المتكلم ومراعاة
المعنى فيه ضعف، وإضمار الفعل أكثر من مراعاة العطف على
المعنى.
وحنيفاً: حال من الضمير في أقم، أو من المفعول. وأجاز الزمخشري
أن تكون حالاً من الدين، ولا تدع يحتمل أن يكون استئناف نهي،
ويحتمل أن يكون معطوفاً على أقم، فيكون في حيز أن على قسميها
من كونها مصدرية، وكونها حرف تفسير.
اسم إنّ والخبر، ورتبتها بعد الخبر، لكنْ روعي في ذلك الفاصلة.
قال الحوفي: الفاء جواب الشرط، وإذا متوسطة لا عمل لها يراد
بها في هذا إذا كان ذلك هذا تفسير، المعنى لا يجيء على معنى
الجواب انتهى. وقال الزمخشري: إذا جواب الشرط، وجواب لجواب
مقدر كان سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان. |