الإعراب المحيط من تفسير البحر المحيط سورة هود
وكتاب خبر مبتدأ محذوف يدل عليه ظهوره بعد هذه الحروف المقطة
كقوله: الم ذلك الكتاب، وأحكمت صفة له.
قال الزمخشري: وقرىء أحكمت آياته ثم فصلت
أي: أحكمتها أنا نائم، فصلتها. (فإن قلت) : ما معنى؟ ثم (قلت)
: ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال، كما تقول: هي
محكمة أحسن الأحكام، ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل،
ثم كريم الفعل انتهى. يعني أنّ ثم جاءت لترتيب الإخبار لا
لترتيب الوقوع في الزمان، واحتمل من لدن أن يكون في موضع
الصفة. ومن أجاز تعداد الأخبار إذا لم تكن في معنى خبر واحد
أجاز أن يكون خبراً بعد خبر.
أن لا تعبدوا يحتمل أن يكون أن حرف تفسير، لأنّ في تفصيل
الآيات معنى القول وهذا أظهر، لأنه لا يحتاج إلى إضمار. وقيل:
التقدير لأنْ لا تعبدوا أو بأنْ لا تعبدوا، فيكون مفعولاً من
أجله، ووصلت أنْ بالنهي. وقيل: أنْ نصبت لا تعبدوا، فالفعل خبر
منفي. وقيل: إنْ هي المخففة من الثقيلة، وجملة النهي في موضع
الخبر، وفي هذه الأقوال العامل فصلت. وأما من أعربه أنه بدل من
لفظ آيات أو من موضعها، أو التقدير: من النظر أنْ لا تعبدوا
إلا الله، أو في الكتاب ألا تعبدوا، أو هي أنْ لا تعبدوا، أو
ضمن أنْ لا تعبدوا، أو تفصله أنْ لا تعبدوا، فهو بمعزل عن علم
الإعراب. والظاهر عود الضمير في منه إلى الله أي: إني لكم نذير
من جهته وبشير، فيكون في موضع الصفة، فتعلق بمحذوف أي: كائن من
جهته. أو تعلق بنذير أي: أنذركم من عذابه إنْ كفرتم، وأبشركم
بثوابه إن آمنتم. وقيل: يعود على الكتابة أي: نذير لكم من
مخالفته، وبشير منه لمن آمن وعمل به. وقدم النذير لأن التخويف
هو الأهم. وأنْ استغفروا معطوف على أنْ لا تعبدوا.
انتصب متاعاً على أنه مصدر جاز على غير الفعل، أو على أنه
فمعول به. لأنك تقول: متعت زيداً ثوباً.
والظاهر أنّ تولوا مضارع حذف منه التاء أي:
وإنْ تتولوا. وقيل: هو ماض للغائبين، والتقدير قيل لهم: إني
أخاف عليكم. وقرأ اليماني، وعيسى بن عمر: وإن تولوا بضم التاء
واللام، وفتح الواو، مضارع وليّ، والأولى مضارع تولى. وفي كتاب
اللوامح اليماني وعيسى البصرة: وإن تولوا بثلاث ضمات مرتباً
للمفعول به.
ويثنون مضارع ثنى قراءة الجمهور. وقرأ سعيد بن جبير: يثنون بضم
الياء مضارع أثنى صدورهم بالنصب. قال صاحب اللوامح: ولا يعرف
الاثناء في هذا الباب إلا أن يراد به وجدتها مثنية مثل أحمدته
وأمجدته، ولعله فتح النون وهذا مما فعل بهم، فيكون نصب صدورهم
بنزع الجار، ويجوز على ذلك أن يكون صدورهم رفعاً على البدل بدل
البعض من الكل. وقال أبو البقاء: ماضية أثنى، ولا يعرف في
اللغة إلا أن يقال معناه: عرضوها للاثناء، كما يقال: أبعت
الفرس إذا عرضته للبيع.
وقال أبو البقاء: ألا حين العامل في الظرف محذوف أي: ألا حين
يستغشون ثيابهم يستخفون، ويجوز أن يكون ظرفاً ليعلم.
ومستقر ومستودع يحتمل أن يكونا مصدرين، ويحتمل أن يكونا اسمي
مكان، ويحتمل مستودع أن يكون اسم مفعول لتعدّي الفعل منه، ولا
يحتمله مستقر للزوم فعله.
فلا أعلم أحداً ذكر أن استمع تعلق، وإنما ذكروا من غير أفعال
القلوب سل وانظر، وفي جواز تعليق رأي البصرية خلاف. وقيل:
ليبلوكم متعلق بفعل محذوف تقديره أعلم بذلك ليبلوكم، ومقصد هذا
التأوي أنّ هذه المخلوقات لم تكن بسبب البشر. وقيل: تقدير
الفعل، وخلقكم ليبلوكم. وقيل: في الكلام جمل محذوفة، التقدير:
وكان خلقه لهما لمنافع يعود عليكم نفعها في الدنيا دون الأخرى،
وفعل ذلك ليبلوكم.
وقرىء: أيكم بفتح الهمزة. قال الزمخشري:
ووجهه أن يكون من قولهم: ائت السوق إنك تشتري لحماً، بمعنى علك
أي: ولئن قلت لهم لعلكم مبعوثون بمعنى توقعوا بعثكم وظنوه،
لأثبتوا القول بإنكاره لقالوا: ويجوز أن يضمن. قلت معنى ذكرت
انتهى يعني: فبفتح الهمزة لأنها في موضع مفعول ذكرت.
والظاهر أنّ يوم منصوب بقوله: مصروفاً، فهو معمول لخبر ليس.
وقد استدل به على جواز تقديم خبر ليس عليها قالوا: لأن تقدم
المعمول يؤذن بتقدم العامل، ونسب هذا المذهب لسيبويه، وعليه
أكثر البصريين. وذهب الكوفيون والمبرد: إلى أنه لا يجوز ذلك،
وقالوا: لا يدل جواز تقدم المعمول على جواز تقدم العامل.
وأيضاً فإنّ الظرف المجرور يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما،
ويقعان حيث لا يقع العامل فيهما نحو: إن اليوم زيداً مسافر،
وقد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقدم خبر ليس عليها،
ولا بمعموله، إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية، وقول الشاعر:
فيأبى فما يزداد إلا لجاجه
وكنت أبياً في الخفا لست أقدم وتقدم تفسير جملة وحاق بهم.
والظاهر أنّ الإنسان هنا هو جنس، والمعنى إن هذا الخلق في
سجايا الناس، ثم استثنى منهم الذين ردّتهم الشرائع والإيمان
إلى الصبر والعمل الصالح، ولذلك جاء الاستثناء منه في قوله:
إلا الذين صبروا متصلاً. وقيل: المراد هنا بالإنسان الكافر.
وقيل: المراد به إنسان معين، فقال ابن عباس: هو الوليد بن
المغيرة، وفيه نزلت. وقيل: عبد الله بن أمية المخزومي، وذكره
الواحدي، وعلى هذين القولين يكون استثناء منقطعاً.
الظاهر أنّ أم منقطعة تتقدر ببل، والهمزة أي: أيقولون افتراه.
وقال ابن القشيري: أم استفهام توسط الكلام على معنى: أيكتفون
بما أوحيت إليك من القرآن، أم يقولون إنه ليس من عند الله، فإن
قالوا: إنه ليس من عند الله فليأتوا بمثله انتهى. فجعل أم
متصلة، والظاهر الانقطاع كما قلنا، والضمير في افتراه عائد على
قوله: ما يوحى إليك، وهو القرآن.
وقرأ الجمهور: نوفّ بنون العظمة، وطلحة بن
ميمون: يوف بالياء على الغيبة. وقرأ زيد بن علي: يوف بالياء
مخففاً مضارع أوفى. وقرىء توف بالتاء مبنياً للمفعول، وأعمالهم
بالرفع، وهو على هذه القراآت مجزوم جواب الشرط، كما انجزم في
قوله: من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثهالر كِتَابٌ
أُحْكِمَتْ ءايَتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ
خَبِيرٍ * أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِى لَكُمْ
مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ
ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا
إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ
وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ
كَبِيرٍ * إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَىْءٍ قَدِيرٌ * أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ
لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ
يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأٌّرْضِ إِلاَّ
عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا
وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ * وَهُوَ
الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ
وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن
بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ
إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ
الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا
يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً
عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ *
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَنَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ
نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ
كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ
بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ
عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ
وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ
وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى
إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ
أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ
أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَىْءٍ وَكِيلٌ * أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ
مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ
اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ
لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن
لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ * مَن
كَانَ يُرِيدُ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ
إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ
يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى
الأٌّخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا
وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * أَفَمَن كَانَ عَلَى
بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن
قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ
يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأٌّحْزَابِ
فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ
إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لاَ يُؤْمِنُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى
اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ
وَيَقُولُ الأٌّشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى
رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّلِمِينَ *
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا
عِوَجًا وَهُمْ بِالأٌّخِرَةِ هُمْ كَفِرُونَ * أُولَئِكَ لَمْ
يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأٌّرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن
دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ
مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ
يُبْصِرُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * لاَ جَرَمَ
أَنَّهُمْ فِى الأٌّخِرَةِ هُمُ الأٌّخْسَرُونَ * إِنَّ
الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ
وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ
أَصْحَبُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ * مَثَلُ
الْفَرِيقَيْنِ كَالأٌّعْمَى وَالأٌّصَمِّ وَالْبَصِيرِ
وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
* وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ
نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ
إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ
الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ
بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ
هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْى وَمَا نَرَى لَكُمْ
عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَذِبِينَ * قَالَ
يقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى
وَءاتَانِى رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ
أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَرِهُونَ * وَيَقَوْمِ لا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى
اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّهُمْ
مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ
* وَيَقَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ
أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ
اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ
وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ لَن
يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِى
أَنفُسِهِمْ إِنِّى إِذًا لَّمِنَ الظَّلِمِينَ * قَالُواْ
ينُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا
بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا
يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ
بِمُعْجِزِينَ * وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ
أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن
يُغْوِيَكُمْ
هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَىَّ
إِجْرَامِى وَأَنَاْ بَرِىءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ * وَأُوحِىَ
إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن
قَدْءَامَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ *
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ
تُخَطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ *
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن
قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا
فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ
عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ * حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا
وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ
الْقَوْلُ وَمَنْءَامَنَ وَمَآءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ *
وَقَالَ} وحكي عن الفراء أنّ كان زائدة، ولهذا جزم الجواب.
ولعله لا يصح، إذ لو كانت زائدة لكان فعل الشرط يريد، وكان
يكون مجزوماً، وهذا التركيب من مجيء فعل الشرط ماضياً والجواب
مضارعاً ليس مخصوصاً بكان، بل هو جائز في غيرها. كما روي في
بيت زهير:
ومن أهاب أسباب المنايا ينلنه
ولو رام أن يرقى السماء بسلم وقرأ الحسن: نوفي بالتخفيف وإثبات
الياء، فاحتمل أن يكون مجزوماً بحذف الحركة المقدرة على لغة من
قال: ألم يأتيك وهي لغة لبعض العرب، واحتمل أن يكون مرفوعاً
كما ارتفع في قول الشاعر:
وإن شل ريعان الجميع مخافة
يقول جهاراً ويلكم لا تنفروا والضمير في
قوله: ما صنعوا فيها، الظاهر أنه عائد على الآخرة، والمحرور
متعلق بحبط، والمعنى: وظهر حبوط ما صنعوا في الآخرة. ويجوز أن
تتعلق بقوله: صنعوا، فيكون عائداً على الحياة الدنيا، كما عاد
عليها في فيها قبل. وما في صنعوا بمعنى الذي. أو مصدرية، وباطل
وما بعده توكيداً لقوله: وحبط ما صنعوا، وباطل خبر مقدم إن كان
من عطف الجمل، وما كانوا هو المبتدأ، وإن كان خبراً بعد خبرٍ
ارتفع ما بباطل على الفاعلية. وقرأ زيد بن علي: وبطل جعله
فعلاً ماضياً. وقرأ أبي، وابن مسعود: وباطلاً بانلصب، وخرجه
صاحب اللوامح على أنه مفعول ليعملون، فهو معمول خبر كان
متقدماً. وما زائدة أي: وكانوا يعملون باطلاً، وفي جواز هذا
التركيب خلاف بين النحويين. وهو أن يتقدم معمول الخبر على
الجملة بأسرها من كان اسمها وخبرها، ويشهد للجواب قوله تعالى:
{أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} ومن منع تأول. وأجاز الزمخشري أن
ينتصب باطلاً على معنى المصدر على بطل بطلانا ما كانوا يعملون،
فتكون ما فاعلة، وتكون من إعمال المصدر الذي هو بدل من الفعل
في غير الاستفهام والأمر.
والضمير المرفوع في يتلوه والمنصوب والمجرور في منه يترتب على
ما يناسبه كل قوم من هذه.
وقرأ محمد بن السائب الكلبي وغيره: كتاب موسى بالنصب عطفاً على
مفعول يتلوه، أو بإضمار فعل.
وقيل: الضمير في كانوا عائد على أولياؤهم آلهتهم أي: فما كان
لهم في الحقيقة من أولياء وإن كانوا يعتقدون أنهم أولياء.
ويعني أنه من لا يستطيع أن يسمع ولا يبصر فكيف يصلح للولاية؟
ويكون يضاعف لهم العذاب اعتراضاً، وما على هذه الأقوال نفي.
وقيل: ما مصدرية أي: يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع
وأبصارهم، والمعنى: أن العذاب وتضعيفه دائم لهم متماد. وأجاز
الفراء أن تكون ما مصدرية، وحذف حرف الجر منها كما يحذف مع أنْ
وأن أختيها، وهذا فيه بعد في اللفظ وفي المعنى.
لا جرم مذهب الخليل وسيبويه أنهما ركبا من
لا وجرم، وبنيا، والمعنى: حق، وما بعده رفع به على الفاعلية.
وقال الحوفي: جرم منفي بلا بمعنى حق، وهو مبني مع لا في موضع
رفع بالابتداء، وأنهم في موضع رفع على خبر جرم. وقال قوم: إنّ
جرم مبنية مع لا على الفتح نحو قولك: لا رجل، ومعناها لا بد
ولا محالة. وقال الكسائي: معناها لا ضد ولا منع، فتكون اسم لا
وهي مبنية على الفتح كالقول الذي قبله، وتكون جرم هنا من معنى
القطع، نقول: جرمت أي قطعت. وقال الزجاج: لا تركيب بينهما ولا
ردّ عليهم. ولما تقدّم من كل ما قبلها مما قالوا: إن الأصنام
تنفعهم. وجرم فعل ماض معناه كسب، والفاعل مضمر أي كسب، هو أي:
فعلهم، وإنّ وما بعدها في موضع نصب على المفعول به، وجرم القوم
كاسبهم. وقال الشاعر:
نصبنا رأسه في جذع نخل
بما جرمت يداه وما اعتدينا وقال آخر:
جريمة ناهض في رأس نيق
ترى لعظام ما جمعت صليبا ويقال: لا جرم بالكسر، ولا جر يحذف
الميم. قال النحاس: وزعم الكسائي أنّ فيها أربع لغات: لا جرم،
ولا عن ذا جرم، ولا أن ذا جرم، قال: ونا سمن فزارة يقولون: لا
جرم. وحكى الفراء فيه لغتين أخريين، قال: بنو عامر يقولون: لا
ذا جرم، وناس من العرب يقولون: لا جرم بضم الجمي. وقال الجبائي
في نوادره: حكى عن فزارة لا جرّ والله لا أفعل ذاك، قال: ويقال
لا ذا جرم، ولا ذو جرم، ولا عن ذا جرم، ولا أن ذا جرم، ولا أن
جرم، ولا عن جرم، ولا ذا جر، والله بغير ميم لا أفعل ذاك. وحكى
بعضهم بغير لا جرم: أنك أنك فعلت ذاك، وعن أبي عمرو: لأجرم أنّ
لهم النار على وزن لا كرم، ولا جر حذفوه لكثرة الاستعمال كما
قالوا: سو ترى يريدون سوف ترى.
انتصب مثلاً على التمييز، قال ابن عطية: ويجوز أن يكون حالاً
انتهى. وفيه بعد، والظاهر التمييز وأنه منقول من الفاعل أصله:
هل يستوي مثلاهما.
وقرأ النحويان وابن كثير: أني بفتح الهمزة
أي: بأبي، وباقي السبعة بكسرها على إضمار القول.
وأَنْ بدل من أي لكم في قراءة من فتح، ويحتمل أن تكون أنْ
المفسرة. وأما في قراءة من كسر فيحتمل أن تكون المفسرة،
والمراعى قبلها: أما أرسلنا وإما نذير مبين، ويحتمل أن تكون
معمولة لأرسلنا.
وقرأ أبو عمرو، وعيسى الثقفي: بادىء الرأي من بدأ يبدأ ومعناه:
أول الرأي. وقرأ باقي السبعة: بادي بالياء من بدا يبدو، ومعناه
ظاهر الرأي. وقيل: بادي بالياء معناه بادىء بالهمز، فسهلت
الهمزة بإبدالها ياء لكسر ما قبلها. وذكروا أنه منصوب على
الظرف، والعامل فيه نراك أو اتبعك أو أراذلنا أي: وما نراك
فيما يظهر لنا من الرأي، أو في أول رأينا، أو وما نراك اتبعك
أول رأيهم، أو ظاهر رأيهم.
وقال الزمخشري: اتبعوك أول الرأي، أو ظاهر
الرأي، وانتصابه على الظرف أصله وقت حدوث أول أمرهم أو وقت
حدوث ظاهر رأيهم، فحذف ذلك، وأقيم المضاف إليه مقامه، أرادوا
أنّ اتباعهم لك إنما هو شيء عنّ لهم بديهة من غير روية ونظر
انتهى. وكونه منصوباً على الظرف هو قول أبيّ على في الحجة،
وإنما حمله على الظرف وليس بزمان ولا مكان، لأنّ في مقدرة فيه
أي: في ظاهر الأمر، أو في أول الأمر. وعلى هذين التقديرين أعني
أنْ يكون العامل فيه نراك، أو اتبعك يقتضي أن لا يجوز ذلك،
لأنّ ما بعد إلا لا يكون معمولاً لما قبلها إلا إن كان مستثنى
منه نحو: قام إلا زيداً القوم، أو مستثنى نحو: جاء القوم إلا
زيداً، أو تابعاً للمستثنى منه نحو: ما جاءني أحد إلا زيد
أخبرني عمرو، وبادىء الرأي ليس واحداً من هذه الثلاثة. وأجيب
بأنه ظرف، أو كالظرف مثل جهد رأي أنك ذاهب، أي أنك ذاهب في جهد
رأي، والظروف يتسع فيها. وإذا كان العامل أراذل فمعناه الذين
هم أراذلنا بأدل نظر فيهم، وببادىء الرأي يعلم ذلك منهم. وقيل:
بادي الرأي نعت لقوله: بشراً. وقيل: انتصب حالاً من ضمير نوح
في اتبعك، أي: وأنت مكشوف الرأي لا حصافة لك. وقيل: انتصب على
النداء لنوح أي: يا بادي الرأي، أي ما في نفسك من الرأي ظاهر
لكل أحد، قالوا: ذلك تعجيزاً له. وقيل: انتصب على المصدر، وجاء
الظرف والمصدر على فاعل، وليس بالقياس.
(قلت) : الوجه أن يقدر فعميت بعد البينة، وأن يكون حذفه
للاقتصار على ذكره، فتلخص أن الضمير يعود إما على البينة، وإما
على الرحمة، وإما عليهما باعتبار أنهما واحد. ويقول للسحاب
العماء لأنه يخفي ما فيه، كما يقال له الغمام لأنه يغمه. وقيل:
هذا من المقلوب، فعميتم أنتم عنها كما تقول العرب: أدخلت
القلنسوة في رأسي، ومنه قول الشاعر:
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه
قال أبو علي: وهذا مما يقلب، هذ ليس فيه
إشكال، وفي القرآن: فلا تحسبنّ الله مخلف وعده رسلهأَفَمَن
كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ
مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَامًا وَرَحْمَةً
أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ
الأٌّحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ
مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى
عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ
وَيَقُولُ الأٌّشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى
رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّلِمِينَ *
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا
عِوَجًا وَهُمْ بِالأٌّخِرَةِ هُمْ كَفِرُونَ * أُولَئِكَ لَمْ
يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأٌّرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن
دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ
مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ
يُبْصِرُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * لاَ جَرَمَ
أَنَّهُمْ فِى الأٌّخِرَةِ هُمُ الأٌّخْسَرُونَ * إِنَّ
الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ
إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَبُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا
خَلِدُونَ * مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأٌّعْمَى وَالأٌّصَمِّ
وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ
تَذَكَّرُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ
إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ
اللَّهَ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ *
فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا
نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ
إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا
بَادِىَ الرَّأْى وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ
بَلْ نَظُنُّكُمْ كَذِبِينَ * قَالَ يقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن
كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى وَءاتَانِى رَحْمَةً مِّنْ
عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ
لَهَا كَرِهُونَ * وَيَقَوْمِ} انتهى. والقلب عند أصحابنا
مطلقاً لا يجوز إلا في الضرورة، وأما قول الشاعر: فليس من باب
القلب بل من باب الاتساع في الظرف. وأما الآية فأخلف يتعدّى
إلى مفعولين، ولكان يضيف إلى أيهما شئت فليس من باب القلب، ولو
كان فعميت عليكم من باب القلب لكان التعدي بعن دون على. ألا
ترى أنك تقول: عميت عن كذا، ولا تقول عميت على كذا؟
وتقدّم في سورة الأنعام الكلام على
{أرأيتم} مشبعاً، وذكرنا أن العرب تعديها إلى مفعولين: أحدهما
منصوب، والثاني أغلب ما يكون جملة استفهامية. تقول: أرأيتك
زيداً ما صنع، وليس استفهاماً حقيقياً عن الجملة. وأنّ العرب
ضمنت هذه الجملة معنى أخبرني، وقررنا هناك أن قوله: {أرأيتكم
إن أتاكم عذاب الله} أنه من باب الأعمال تنازع على عذاب الله.
أرأيتكم يطلبه منصوباً، وفعل الشرط يطلبه مرفوعاً، فأعمل
الثاني، وهذا البحث يتقرر هنا أيضاً، فمفعول أرأيتكم محذوف
والتقدير: أرأيتكم البينة من ربي إن كنت عليها أنلزمكموها؟
فهذه الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني لقوله:
أرأيتم، وجواب الشرط محذوف يدل عليه أرأيتم، وجيء بالضميرين
متصلين في أنلزمكموها، لتقدّم ضمير الخطاب على ضمير الغيبة،
ولو انعكس لانفصل ضمير الخطاب خلافاً لمن أجاز الاتصال. قال
الزمخشري: ويجوز أن يكون الثاني منفصلاً كقولك: أنلزمكم إياها
ونحوه، فسيكفيكهم الله، ويجوز فسيكفيك إياهم، وهذا الذي قاله
الزمخشري من جواز انفصال الضمير في نحو أنلزمكموها، هو نحو قول
ابن مالك في التسهيل. قال: وتختار اتصال نحوها ءأعطيتكه. وقال
ابن أبي الربيع: إذا قدمت ما له الرتبة اتصل لا غير، تقول:
أعطيتكه. قال تعالى: أنلزمكموها؟ وفي كتاب سيبويه ما يشهد له،
قال سيبويه: فإذا كان المفعولان اللذان تعدّى إليهما فعل
الفاعل مخاطباً وغائباً، فبدأت بالمخاطب قبل الغائب، فإنّ
علامة الغائب العلامة التي لا يقع موقعها إياه وذلك قولك:
أعطيتكه وقد أعطاكه. قال الله تعالى: أنلزمكموها وأنتم لها
كارهون، فهذا كهذا، إذا بدأت بالمخاطب قبل الغائب انتهى. فهذا
نص من سيبويه على ما قاله ابن أبي الربيع خلافاً للزمخشري وابن
مالك ومن سبقهما إلى القول بذلك. وقال الزمخشري: وحكى عن أبي
عمرو إسكان الميم، ووجهه أنّ الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة،
فظنها الراوي سكوناً. والإسكان الصريح لحن عند الخليل
وسيبويه وحذاق البصريين، لأن الحركة
الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر انتهى. وأخذه
الزمخشري من الزجاج، قال الزجاج: أجمع النحويون البصريون على
أنه لا يجوز إسكان حركة الإعراب إلا في ضرورة الشعر، فأما ما
روي عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه القراء، وروى عنه سيبويه أنه
كان يخف الحركة ويختلسها، وهذا هو الحق. وإنما يجوز الإسكان في
الشعر نحو قول امرىء القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب
والزمخشري على عادته في تجهيل القراء وهم أجل من أن يلتبس
عليهم الاختلاس بالسكون، وقد حكى الكسائي والفراء أنلزمكموها
بإسكان الميم الأولى تخفيفاً.
وقرىء: بطارد بالتنويو، قال الزمخشري: على الأصل يعني: أنّ اسم
الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال أصله أن يعمل ولا
يضاف، وهذا ظاهر كلام سيبويه. ويمكن أن يقال: إن الأصل الإضافة
لا العمل، لأنه قد اعتوره شبهان أحدهما شبه بالمضارع وهو شبهه
بغير جنسه. والآخر شبه بالأسماء إذا كانت فيها الإضافة، فكان
إلحاقه بجنسه أولى من إلحاقه بغير جنسه.
وتزدري تفتعل، والدال بدل من التاء قال:
ترى الرجل النحيف فتزدريه
وفي أثوابه أسد هصور وأنشد الفراء:
يباعده الصديق وتزدريه
حليلته وينهره الصغير والعائد على الموصول محذوف أي: تزدرونهم.
وما معنى الذي والعائد محذوف أي بما تعدناه أو مصدرية.
وقرأ عيسى بن عمر الثقفي: نصحي بفتح النون،
وهو مصدر. وقراءة الجماعة بضمها، فاحتمل أن يكون مصدراً
كالشكر، واحتمل أن يكون اسماً. وهذان الشرطان اعتقب الأول
منهما قوله: ولا ينفعكم نصحي، وهو دليل على جواب الشرط تقديره:
إنْ أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي، والشرط الثاني: اعتقب
الشرط الأول وجوابه أيضاً ما دل عليه قوله: ولا ينفعكم نصحي،
تقديره: إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي. وصار
الشرط الثاني شرطاً في الأول، وصار المتقدم متأخراً والمتأخر
متقدّماً، وكأن التركيب إن أردت أن أنصح لكم أن كان الله يريد
أن يغويكم، فلا ينفعكم نصحي، وهو من حيث المعنى كالشرط إذا كان
بالفاء نحو: إنْ كان الله يريد أن يغويكم. فإن أردت أن أنصح
لكم فلا ينفعكم نصحي. ونظيره: وامرأة مؤمنة إنْ وهبت نفسها
للنبي إن أراد النبي أن يستنكحهاوَيَقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَآ
أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّهُمْ مُّلاَقُو
رَبِّهِمْ وَلَكِنِّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ *
وَيَقَوْمِ مَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ
أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَآئِنُ
اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّى مَلَكٌ
وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ لَن
يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِى
أَنفُسِهِمْ إِنِّى إِذًا لَّمِنَ الظَّلِمِينَ * قَالُواْ
ينُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا
بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا
يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ
بِمُعْجِزِينَ * وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُّ
أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن
يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَمْ} .
قرأ الجمهور وأوحي مبنياً للمفعول، أنه
بفتح الهمزة. وقرأ أبو البر هشيم: وأوحي مبنياً للفاعل، إنه
بكسر الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين، وعلى إجراء
أوحى مجرى قال: على مذهب الكوفيين، أيأسه الله من إيمانهم،
وأنه صار كالمستحيل عقلاً بأخباره تعالى.
واصنع عطف على فلا تبتئس.
وكلما ظرف العامل فيه سخروا منه، وقال: مستأنف على تقدير سؤال
سائل. وجوزوا أن يكون العامل قال: وسخروا صفة لملا، أو بدل من
مرّ، ويبعد البدل لأنّ سخر ليس في معنى مرّ لا يراد ذا ولا
نوعاً منه.
ومن يأتيه مفعول بتعلمون، وما موصولة، وتعدى تعلمون إلى واحد
استعمالاً لها استعمال عرف في التعدية إلى واحد. وقال ابن
عطية: وجائز أن تكون التعدية إلى مفعولين، واقتصر على الواحد
انتهى. ولا يجوز حذف الثاني اقتصاراً، لأنّ أصله خبر مبتدأ،
ولا اختصاراً هنا، لأنه لا دليل على حذفه وتعنتهم بقوله: من
يأتيه. وقيل: مَن استفهام في موضع رفع على الابتداء، ويأتيه
الخبر، والجملة في موضع نصب، وتعلمون معلق سدت الجملة مسد
المفعولين.
وقرأ حفص: من كل زوجين بتنوين، كل أي من كل حيوان وزوجين
مفعول، واثنين نعت توكيد، وباقي السبعة بالإضافة، واثنين مفعول
احمل، وأهلك معطوف على زوجين إن نوِّن كل، وعلى اثنين إن أضيف.
وعدي اركبوا بفي لتضمينه معنى صيروا فيها،
أو معنى ادخلوا فيها. وقيل: التقدير اركبوا الماء فيها. وقيل:
في زائدة للتوكيد أي: اركبوها. والباء في بسم الله في موضع
الحال، أو متبركين بسم الله. ومجراها ومرساها منصوبان إما على
أنهما ظرفا زمان أو مكان، لأنهما يجيئان لذلك. أو ظرفا زمان
على جهة الحذف، كما حذف من جئتك مقدّم إلحاح، أي: وقت قدوم
الحاج، فيكون مجراها ومرساها مصدران في الأصل حذف منهما
المضاف، وانتصبا بما في بسم الله من معنى الفعل. ويجوز أن يكون
باسم الله حالاً من ضمير فيها، ومجراها ومرساها مصدران مرفوعان
على الفاعلية، أي: اركبوا فيها ملتبساً باسم الله إجراؤها
وإرساؤها أي: ببركة اسم الله. أو يكون مجراها ومرساها مرفوعين
على الابتداء، وباسم الله الخبر، والجملة حال من الضمير في
فيها. وعلى هذه التوجيهات الثلاثة فالكلام جملة واحدة، والحال
مقدرة. ولا يجوز مع رفع مجراها ومرساها على الفاعلية أو
الابتداء أن يكون حالاً من ضمير اركبوا، لأنه لا عائد عليه
فيما وقع حالاً. ويجوز أن يكون باسم الله مجراها ومرساها جملة
ثانية من مبتدإ وخبر، لا تعلق لها بالجملة الأولى من حيث
الإعراب أمرهم أولاً بالركوب، ثم أخبر أنّ مجراها ومرساها بذكر
الله أو بأمره وقدرته، فالجملتان كلامان محكيان. يقال: كما أن
الجملة الثانية محكية أيضاً بقال.
وقرأ ابن مسعود، وعيسى الثقفي، وزيد بن
عليّ، والأعمش، ومجراها ومرساها بفتح الميمين، ظرفي زمان أو
مكان، أو مصدرين على التقارير السابقة. وقرأ الضحاك، والنخعي،
وابن وثاب، وأبو رجاء، ومجاهد، وابن جند، والكلبي، والجحدري،
مجريها ومرسيها اسمي فاعل من أجرى وأرسى على البدل من اسم
الله، فهما في موضع خبر، ولا يكونان صفتين لكونهما نكرتين.
وقال ابن عطية: وهما على هذه القراءة صفتان عائدتان على ذكره
في قولهم بسم الله انتهى. ولا يكونان صفتين إلا على تقدير أنْ
يكونا معرفتين. وقد ذهب الخليل إلى أن ما كانت إضافته غير محضة
قد يصح أن تجعل محضة، فتعرّف إلا ما كان من الصفة المشبهة فلا
تتمحض إضافتها فلا تعرّف.
بهم حال أي: ملتبسة بهم.
وقرأ الجمهور: بوصل هاء الكناية بواو، وقرأ ابن عباس: أنه
بسكون الهاء، قال ابن عطية وأبو الفضل الرازي: وهذا على لغة
الازد الشراة، يسكنون هاء الكناية من المذكر، ومنه قول الشاعر:
ونضواي مشتاقان له أرقان
وذكر غيره أنها لغة لبني كلاب وعقيل، ومن النحويين من يخص هذا
السكون بالضرورة وينشدون:
وأشرب الماء ما بي نحوه عطش
إلا لأن عيونه سيل واديها وقرأ السدّيّ ابناه بألف وهاء السكت.
قال أبو الفتح: ذلك على النداء. وذهبت فرقة إلى أنه على الندبة
والرثاء. وقرأ عليّ، وعروة، وعليّ بن الحسين، وابنه أبو جعفر،
وابنه جعفر: ابنه بفتح الهاء من غير ألف أي: ابنها مضافاً
لضمير امرأته، فاكتفى بالفتحة عن الألف. قال ابن عطية: وهي
لغة، ومنه قول الشاعر:
إما تقود بها شاة فتأكلها
أو أن تبيعه في بعض الأراكيب وأنشد ابن الأعرابي على هذا:
فلست بمدرك ما فات مني
بلهف ولا بليت ولا لواني انتهى. يريد
تبيعها وتلهفاً، وخطأ النحاس أبا حاتم في حذف هذه الألف، قال
ابن عطية: وليس كما قال انتهى. وهذا أعنى مثل تلهف بحذف الألف
عند أصحابنا ضرورة، ولذلك لا يجيزون يا غلام بحذف الألف،
والاجتزاء بالفتحة عنها كما اجتزؤوا بالكسرة في يا غلام عن
الياء، وأجاز ذلك الأخفش.
والضمير الفاعل يعود على الله تعالى، وضمير الموصول محذوف،
ويكون الاستثناء منقطعاً أي: لكنْ من رحمة الله معصوم، وجوزوا
أن يكون من الله تعالى أي لا عاصم إلا الراحم، وأن يكون عاصم
بمعنى ذي عصمة، كما قالوا لاين أي: ذو لبن، وذو عصمة، مطلق على
عاصم وعلى معصوم، والمراد به هنا المعصوم.m
أو فاعل بمعنى مفعول، فيكون عاصم بمعنى معصوم، كماء دافق بمعنى
مدفوق. وقال الشاعر:
بطيء الكلام رخيم الكلام
أمسى فؤادي به فاتنا أي مفتوناً. ومن
للمعصوم أي: لا ذا عصمة، أو لا معصوم إلا المرحوم. وعلى هذين
التجويزين يكون استثناء متصلاً، وجعله الزمخشري متصلاً بطريق
أخرى: وهو حذف مضاف وقدره: لا يعصمك اليوم معتصم قط من جبل
ونحوه سوى معتصم واحد، وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم، يعني في
السفينة انتهى. والظاهر أن خبر لا عاصم محذوف، لأنه إذا علم
كهذا الموضع التزم حذفه بنو تميم، وكثر حذفه عند أهل الحجاز،
لأنه لما قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال له نوح: لا
عاصم، أي لا عاصم موجود. ويكون اليوم منصوباً على إضمار فعل
يدل عليه عاصم، أي: لا عاصم يعصم اليوم من أمر الله، ومن أمر
متعلق بذلك الفعل المحذوف. ولا يجوز أن يكون اليوم منصوباً
بقوله: لا عاصم، ولا أن يكون من أمر الله متعلقاً به، لأن اسم
لا إذ ذاك كان يكون مطولاً، وإذا كان مطولاً لزم تنوينه
وإعرابه، ولا يبنى وهو مبنى، فبطل ذلك. وأجاز الحوفي وابن عطية
أن يكون اليوم خبراً لقوله: لا عاصم. قال الحوفي: ويجوز أن
يكون اليوم خبراً ويتعلق بمعنى الاستقرار، وتكون من متعلقة بما
تعلق به اليوم. وقال ابن عطية: واليوم ظرف وهو متعلق بقوله: من
أمر الله، أو بالخبر الذي تقديره: كائن اليوم انتهى. وردّ ذلك
أبو البقاء فقال: فأما خبر لا فلا يجوز أن يكون اليوم، لأن ظرف
الزمان لا يكون خبراً عن الجنة، بل الخبر من أمر الله، واليوم
معمول من أمر الله. وقال الحوفي: ويجوز أن يكون اليوم نعتاً
لعاصم ومن الخبر انتهى. ويردّ بما ردّ به أبو البقاء من أن ظرف
الزمان لا يكون نعتاً للجثث، كما لا يكون خبراً.
واللام في للقوم من صلة المصدر. وقيل:
تتعلق بقوله: وقيل، والتقدير وقيل لأجل الظالمين، إذ لا يمكن
أن يخاطب الهالك إلا على سبيل المجاز. ومعنى ونادى نوح ربه أي:
أراد أن يناديه، ولذلك أدخل الفاء، إذ لو كان أراد حقيقة
النداء والأخبار عن وقوعه منه لم تدخل الفاء في فقال: ولسقطت
كما لم تدخل في قوله: إذ نادى ربه نداء خفياً قال ربوَأُوحِىَ
إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن
قَدْءَامَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ *
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ
تُخَطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ *
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن
قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا
فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ
عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ * حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا
وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ
الْقَوْلُ وَمَنْءَامَنَ وَمَآءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ *
وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا
وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَهِىَ
تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ
ابْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ يَبُنَىَّ ارْكَبَ مَّعَنَا
وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَفِرِينَ * قَالَ سَآوِى إِلَى جَبَلٍ
يَعْصِمُنِى مِنَ الْمَآءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ
أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا
الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ * وَقِيلَ يَأَرْضُ
ابْلَعِى مَآءَكِ وَيَسَمَآءُ أَقْلِعِى وَغِيضَ الْمَآءُ
وَقُضِىَ الأٌّمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِىِّ وَقِيلَ
بُعْدًا لِّلْقَوْمِ
الظَّلِمِينَ * وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ
فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ
الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَكِمِينَ * قَالَ ينُوحُ
إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَلِحٍ
فَلاَ تَسْأَلْنِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّى
أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّى
أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ
وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مِّنَ الْخَسِرِينَ
* قِيلَ ينُوحُ اهْبِطْ بِسَلَمٍ مِّنَّا وَبَركَتٍ عَلَيْكَ
وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ
ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تِلْكَ مِنْ
أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ
أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ
الْعَقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ * وَإِلَى عَادٍ أَخَهُمْ هُودًا
قَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ
غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ * يَقَوْمِ لا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى
الَّذِى فَطَرَنِى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * وَيَقَوْمِ
اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ
السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى
قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ * قَالُواْ
يَهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى
ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ *
إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُءَالِهَتِنَا بِسُوءٍ
قَالَ إِنِّى أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّى بَرِىءٌ
مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ
لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّى
وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ
بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ
رَبِّى عَلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ * فَإِن
تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ
إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ
تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفِيظٌ
* وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا
وَالَّذِينَءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا
وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ
جَحَدُواْ بِآيَتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ
وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُواْ
فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ أَلا
إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ
قَوْمِ هُودٍ} والواو في هذه الجملة لا ترتب أيضاً، وذلك أن
هذه القصة كانت أول ما ركب نوح السفينة.
قرأ الكسائي: إعمل غير صالح جعله فعلاً ناصباً غير صالح.
والباء للحال أي: مصحوباً بسلامة وأمن وبركات، وهي الخيرات
النامية في كل الجهات. ويجوز أن تكون اللام بمعنى التسليم أي:
اهبط مسلماً عليك مكرماً.
وارتفع أمم على الابتداء. قال الزمخشري: وسنمتعهم صفة، والخبر
محذوف تقديره وممن معك أمم سنمتعهم، وإنما حذف لأن قوله: ممن
معك، والمعنى: أن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين
ينشئون ممن معك، وأمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار انتهى.
ويجوز أن يكون أمم مبتدأ، ومحذوف الصفة وهي المسوغة لجواز
الابتداء بالنكرة، والتقدير: وأمم منهم أي ممن معك، أي ناشئة
ممن معك، وسنمتعهم هو الخبر كما قالوا: السمن منوان بدرهم، أي
منوان منه، فحذف منه وهو صفة لمنوان، ولذلك جاز الابتداء
بمنوان وهو نكرة. ويجوز أن يقدر مبتدأ ولا يقدر صفة الخبر
سنمتعهم، ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل، فكان مثل قول
الشاعر:
إذا ما بكى من خلفها انحرفت له
بشق وشق عندنا لم يحول وقال القرطبي:
ارتفعت وأمم على معنى: ويكون أمم انتهى. فإنْ كان أراد تفسير
معنى فحسن، وإن أراد الإعراب ليس بجيد، لأن هذا ليس من مواضع
إضمار يكون، وقال الأخفش: هذا كما تقول كلمت: زيداً وعمر وجالس
انتهى. فاحتمل أن يكون من باب عطف الجمل، واحتمل أنْ تكون
الواو للحال، وتكون حالاً مقدرة لأنه وقت الأمر بالهبوط لم تكن
تلك الأمم موجودة. وقال أبو البقاء: وأمم معطوف على الضمير في
اهبط تقديره: اهبط أنت وأمم، وكان الفصل بينهما مغنياً عن
التأكيد، وسنمتعهم نعت لأمم انتهى.
وإلى عاد أخاهم معطوف على قوله: أرسلنا نوحاً إلى قومه، عطف
الواو على المجرور، والمنصوب على المنصوب، كما يعطف المرفوع
والمنصوب على المرفوع والمنصوب نحو: ضرب زيد عمراً، وبكر
خالداً، وليس من باب الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف
والمعطوف نحو: ضربت زيداً، وفي البيت عمراً، فيجيء منه الخلاف
الذي بين النحويين: هل يجوز في الكلام، أو يختص بالشعر؟ وتقدير
الكلام في هود وعاد وأخوته منهم في الأعراف، وقراءة الكسائي
غيره بالخفض، وقيل: ثم فعل محذوف أي: وأرسلنا إلى عاد أخاهم،
فيكون إذ ذاك من عطف الجمل، والأول من عطف المفردات، وهذا أقرب
لطول الفصل بالجمل الكثيرة بين المتعاطفين. وهوداً بدل أو عطف
بيان.
وعن في عن قولك حال من الضمير في تاركي
آلهتنا، كأنه قيل: صادرين عن قولك، قاله الزمخشري. وقيل: عن
للتعليل كقوله تعالى: إلا عن موعدة وعدها إياهقِيلَ ينُوحُ
اهْبِطْ بِسَلَمٍ مِّنَّا وَبَركَتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ
مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ
مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ
نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ
قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَقِبَةَ
لِلْمُتَّقِينَ * وَإِلَى عَادٍ أَخَهُمْ هُودًا قَالَ
يَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ
إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ * يَقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الَّذِى
فَطَرَنِى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * وَيَقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ
رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَآءَ
عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى
قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ * قَالُواْ
يَهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى
ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ *
إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُءَالِهَتِنَا بِسُوءٍ
قَالَ إِنِّى أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّى بَرِىءٌ
مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ
لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّى
وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ
بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَطٍ مُّسْتَقِيمٍ *
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ
إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ
تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّى عَلَى كُلِّ شَىْءٍ
حَفِيظٌ} فتتعلق بتاركي، كأنه قيل لقولك.
واعتراك جملة محكية بنقول، فهي في موضع
المفعول، وإني بريء تنازع فيه أشهد واشهدوا، وقد يتنازع
المختلفان في التعدي الاسم الذي يكون صالحاً، لأن يعملا فيه
تقول أعطيت زيداً ووهبت لعمرو ديناراً، كما يتنازع اللازم
والمتعدي نحو: قام وضربت زيداً. وما في ما تشركون موصولة، إما
مصدرية، وإما بمعنى الذي أي: بريء من إشراككم آلهة من دونه، أو
من الذين تشركون، وجميعاً حال من ضمير كيدوني الفاعل.
وقرأ الجمهور: فإن تولوا أي تتولوا مضارع تولى. وقرأ الأعرج
وعيسى الثقفي: تولوا بضم التاء، واللام مضارع وليّ، وقيل:
تولوا ماض ويحتاج في الجواب إلى إضمار قول، أي: فقل لهم قد
أبلغتكم، ولا حاجة تدعو إلى جعله ماضياً وإضمار القول. وقال
ابن عطية: ويحتمل أن يكون تولوا فعلاً ماضياً، ويكون في الكلام
رجوع من غيبة إلى خطاب أي: فقد أبلغتكم انتهى. فلا يحتاج إلى
إضمار، والظاهر أنّ الضمير في تولوا عائد على قوم هود، وخطاب
لهم من تمام الجمل المقولة قبل.
وجواب الشرط هو قوله: فق أبلغتكم، وصح أن يكون جواباً، لأن في
إبلاغه إليهم رسالته تضمن ما يحل بهم من العذاب المستأصل،
فكأنه قيل: فإن تتولوا استؤصلتم بالعذاب. ويدل على ذلك الجملة
الخبرية وهي قوله: ويستخلف ربي قوماً غيركم.
وقرأ الجمهور: ويستخلف بضم الفاء على معنى الخبر المستأنف أي:
يهلككم ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم. وقرأ
حفص في رواية هبيرة: بجزمها عطفاً على موضع الجزاء، وقرأ عبد
الله كذلك، وبجزم ولا تضروه.
وأصل جحد أن يتعدى بنفسه، لكنه أجرى مجرى كفر فعدى بالباء، كما
عدى كفر بنفسه في قوله: إلا أن عادا كفروا ربهم، إجراء له مجرى
جحد. وقيل: كفر كشكر يتعدى تارة بنفسه، وتارة بحرف جر.
قرأ ابن وثاب والأعمش: وإلى ثمود بالصرف على إرادة الحي،
والجمهور على منع الصرف ذهاباً إلى القبيلة.
وما يعبد آباؤنا حكاية حال ماضية، وأنا
وإننا لغتان لقريش. قال الفراء: من قال إننا أخرج الحرف على
أصله، لأن كناية المتكلمين نا، فاجتمعت ثلاث نونات. ومن قال:
أنا استثقل، اجتماعها، فأسقط الثالثة وأبقى الأولتين انتهى.
والذي أختاره أن نا ضمير المتكلمين لا تكون المحذوفة، لأن في
حذفها حذف بعض اسم وبقي منه حرف ساكن، وإنما المحذوفة النون
الثانية أنّ فحذفت لاجتماع الأمثال، وبقي من الحرف الهمزة
والنون الساكنة، وهذا أولى من حذف ما بقي منه حرف. وأيضاً فقد
عهد حذف هذه النون مع غير ضمير المتكلمين، ولم يعهد حذف نون
نا، فكان حذفها من أن أولى. ومريب اسم فاعل من متعد، أرابه
أوقعه في الريبة، وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة. أو من لازم
أراب الرجل إذا كان ذا ريبة.
تقدم الكلام في أرأيتم في قصة نوح، والمفعول الثاني هنا لا
رأيتم محذوف يدل عليه قوله: فمن ينصرني من الله إن عصيته،
والتقدير: أعصيه في ترك ما أنا عليه من البينة. وقال ابن عطية:
أرأيتم هو من رؤية القلب، والشرط الذي بعده وجوابه يسد مسد
مفعولي علمت وأخواتها، وإدخال أداة الشرط التي هي إن على جملة
محققة، وهي كان على بينة من ربه، لكنه خاطب الجاحدين للبينة
فكأنه قال: قدروا أني على بينة من ربي وانظروا إنْ تابعتكم
وعصيت ربي في أو أمره، فمن يمنعني من عذابه؟ قال ابن عطية: وفي
الكلام محذوف تقديره: أيضرني شككم، أو أيمكنني طاعتكم، ونحو
هذا مما يليق بمعنى الآية انتهى. وهذا التقدير الذي قدره
استشعار منه بالمفعول الثاني الذي يقتضيه أرأيتم، وأن الشرط
وجوابه لا يقعان ولا يسدان مسد مفعولي أرأيتم، والذي قدرناه
نحن هو الظاهر لدلالة قوله: فمن ينصرني من الله إن عصيته، فما
تزيدونني غير تخسير.
وانتصب آية على الحال، والخلاف في الناصب
في نحو هذا زيد منطلقاً، أهو حرف التنبيه؟ أو اسم الإشارة؟ أو
فعل محذوف؟ جاز في نصب آية ولكم في موضع الحال، لأنه لو تأخر
لكان نعتاً لآية، فلما تقدم على النكرة كان حالاً، والعامل
فيها محذوف.
وقال الزمخشري: (فإن قلت) : فبم يتعلق لكم؟ (قلت) : بآية حالاً
منها متقدمة، لأنها لو تأخرت لكان صفة لها، فلما تقدمت انتصب
على الحال انتهى. وهذا متناقض، لأنه من حيث تعلق لكم بآية كان
لكم معمولاً لآية، وإذا كان معمولاً لها امتنع أن يكون حالاً
منها، لأنّ الحال تتعلق بمحذوف، فتناقض هذا الكلام، لأنه من
حيث كونه معمولاً لها كانت هي العاملة، ومن حيث كونه حالاً
منها كان العامل غيرها، وتقدم الكلام على الجمل التي بعد آية.
وقرأت فرقة: تأكل بالرفع على الاستئناف، أو على الحال.
الوعد بالعذاب غير مكذوب، أي صدق حق. والأصل غيره مكذوب فيه،
فاتسع فحذف الحرف وأجرى الضمير مجرى المفعول به، أو جعل غير
مكذوب لأنه وفى به فقد صدق، أو على أنّ المكذوب هنا مصدر عند
من يثبت أنّ المصدر يجيء على زنة مفعول.
والكلام في جاء أمرنا كالكلام السابق في قصة قوم هود. قيل:
الواو زائدة في ومن أي من خزي يومئذ فيتعلق من بنجينا، وهذا لا
يجوز عند البصريين، لأن الواو لا تزاد عندهم بل تتعلق من
بمحذوف أي: ونجيناهم من خزي، أي وكانت التنجية من خزي يومئذ.
وقرأ طلحة وأبان بن تغلب: ومن خزي بالتنوين، ونصب يومئذ على
الظرف معمولاً لخزي. وقرأ الجمهور بالإضافة، وفتح الميم نافع
والكسائي، وهي فتحة بناء لإضافته إلى إذ، وهو غير متمكن. وقرأ
باقي السبعة بكسر الميم وهي حركة إعراب، والتنوين في إذ تنوين
عوض من الجملة المحذوفة المتقدمة الذكر أي: ومن فضيحة يوم إذ
جاء الأمر وحل بهم.
وانتصب سلاماً على إضمار الفعل أي: سلمنا
عليك سلاماً، فسلاماً قطعه معمولاً للفعل المضمر المحكى
بقالوا، قال ابن عطية: ويصح أن يكون سلاماً حكاية لمعنى ما
قالوا، لا حكاية للفظهم، قاله: مجاهد، والسدي. ولذلك عمل فيه
القول، كما تقول لرجل قال: لا إله إلا الله قلت: حقاً
وإخلاصاً، ولو حكيت لفظهم لم يصح أن يعمل فيه القول انتهى.
ويعني لم يصح أن يعمل في لفظهم القول، يعني في اللفظ، وإن كان
ما لفظوا به في موضع المفعول للقول. وسلام خبر مبتدأ محذوف أي:
أمري أو أمركم سلام، أو مبتدأ محذوف الخبر أي: عليكم سلام،
والجملة محمية وإن كان حذف منها أحد جزءيها كما قال:
إذا ذقت فاهاً قلت طعم مدامة
أي طعمه طعم مدامة.
ونصب سلاماً يدل على التجدد، ورفع سلام يدل على الثبوت
والاستقرار، والأقرب في إعراب فما لبث أن تكون ما نافية، ولبث
معناه تأخر وأبطأ، وأن جاء فاعل بلبث التقدير فما تأخر مجيئه
قاله: الفراء. وجوزوا أن يكون في لبث ضمير إبراهيم فهو فاعل،
وأن جاء على إسقاط الحرف فقدر بأن وبعن، وبفي، وجعل بعضهم أن
بمعنى حتى حكاه ابن العربي. وأن تكون ما مصدرية، وذلك المصدر
في موضع رفع بالابتداء، وأن تكون بمعنى الذي أي: فلبثه، أو
الذي لبثه، أو الذي لبثه، والخبر أن جاء على حذف أي: قدر
مجيئه.
امرأته قائمة جملة من ابتداء وخبر قال الحوفي وأبو البقاء: في
موضع الحال، قال أبو البقاء: من ضمير الفاعل في أرسلنا، يعني
المفعول الذي لم يسم فاعله، والزمخشري يسميه فاعلاً لقيامه
مقام الفاعل. وقال الحوفي: والتقدير أرسلنا إلى قوم لوط في حال
قيام امرأته.
والظاهر أن وراء هنا ظرف استعمل اسماً غير ظرف بدخول من عليه
كأنه قيل: ومن بعد إسحاق، أو من خلف إسحاق، وبمعنى بعد.
وقرأ الحرميان، والنحويان، وأبو بكر يعقوب:
بالرفع على الابتداء ومن وراء الخبر كأنه قيل: ومن وراء إسحاق
يعقوب كائن، وقدره الزمخشري مولود أو موجود. قال النحاس:
والجملة حال داخلة في البشارة أي: فبشرناها بإسحاق متصلاً به
يعقوب. وأجاز أبو علي أنْ يرتفع بالجار والمجرور، كما أجازه
الأخفش أي: واستقرّ لها من وراء إسحاق يعقوب. وقالت فرقة: رفعه
على القطع بمعنى ومن وراء إسحاق يحدث يعقوب. وقال النحاس:
ويجوز أن يكون فاعلاً بإضمار فعل تقديره: ويحدث من وراء إسحاق
يعقوب. قال ابن عطية: وعلى هذا لا تدخل البشارة انتهى. ولا
حاجة إلى تكلف القطع والعدول عن الظاهر المقتضى للدخول في
البشارة.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص، وزيد بن علي: يعقوب بالنصب. قال
الزمخشري: كأنه قيل ووهبنا له إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب على
طريقة قوله: ليسوا مصلحين عشيرة، ولا ناعب، انتهى. يعني أنه
عطف على التوهم، والعطف على التوهم لا ينقاس، والأظهر أن ينتصب
يعقوب بإضمار فعل تقديره: ومن وراء إسحاق وهبنا يعقوب، ودل
عليه قوله: فبشرناها لأن البشارة في معنى الهبة، ورجح هذا
الوجه أبو علي ومن ذهب إلى أنه مجرور معطوف على لفظ بإسحاق، أو
على موضعه. فقوله ضعيف، لأنه لا يجوز الفصل بالظرف أو المجرور
بين حرف العطف ومعطوفه المجرور، لا يجوز مررت بزيد اليوم وأمس
عمرو، فإن جاء ففي شعر. فإنْ كان المعطوف منصوباً أو مرفوعاً،
ففي جواز ذلك خلاف نحو: قام زيد واليوم عمرو، وضربت زيداً
واليوم عمراً والظهر أن الألف في يا ويلتا بدل من ياء الإضافة
نحو: يا لهفا ويا عجباً، وأمال الألف من يا ويلتا عاصم وأبو
عمرو والأعشى، إذ هي بدل من الياء. وقرأ الحسن: يا ويلتي
بالياء على الأصل. وقيل: الألف ألف الندبة، ويوقف عليها
بالهاء.
أنا عجوز وما بعده جملتا حال، وانتصب شيخاً
على الحال عند البصريين، وخبر التقريب عند الكوفيين. ولا
يستغنى عن هذه الحال إذا كان الخبر عروفاً عند المخاطب، لأنّ
الفائدة إنما تقع بهذه الحال، أما إذا كان مجهولاً عنده فأردت
أن تفيد المخاطب ما كان يجهله، فتجيء الحال على بابها مستغنى
عنها.
وقرأ ابن مسعود وهو في مصحفه والأعمش، شيخ بالرفع. وجوزوا فيه.
وفي بعلي أن يكونا خيرين كقولهم: هذا حلو حامض، وأن يكون بعلى
الخبر، وشيخ خبر محذوف، أو بدل من بعلي، وأن يكون بعلي بدلاً
أو عطف بيان، وشيخ الخبر.
وأهل منصوب على النداء، أو على الاختصاص، وبين النصب على المدح
والنصب على الاختصاص فرق، ولذلك جعلهما سيبويه في بابين وهو
أنّ المنصوب على المدح لفظ يتضمن بوضعه المدح، كما أن المنصوب
على الذم يتضمن بوضعه الذم، والمنصوب على الاختصاص لا يكون إلا
لمدح أو ذم، لكن لفظه لا يتضمن بوضعه المدح ولا الذم كقوله:
بنا تميماً يكشف الضباب. وقوله: ولا الحجاج عيني بنت ماء.
وجواب لما محذوف كما حذف في قوله: فلما
ذهبوا بهوَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا
وَالَّذِينَءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا
وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ
جَحَدُواْ بِآيَتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ
وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُواْ
فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ أَلا
إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ
قَوْمِ هُودٍ * وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَلِحاً قَالَ
يقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ
هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأٌّرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا
فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّى
قَرِيبٌ مُّجِيبٌ * قَالُواْ يصَلِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا
مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا
يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا
تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَ يَقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ
إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّى وَءَاتَنِى مِنْهُ
رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا
تَزِيدُونَنِى غَيْرَ تَخْسِيرٍ * وَيقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ
اللَّهِ لَكُمْءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ
وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ *
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثَلَثَةَ
أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ * فَلَمَّا جَآءَ
أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَلِحاً وَالَّذِينَءَامَنُواْ مَعَهُ
بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ
هُوَ الْقَوِىُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ
الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جَثِمِينَ * كَأَن
لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ
رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ *
وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَهِيمَ
بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلَماً قَالَ سَلَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن
جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ
تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً
قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ *
وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَهَا بِإِسْحَقَ
وَمِن وَرَآءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ
يوَيْلَتَاءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِى شَيْخًا
إِنَّ هَذَا لَشَىْءٌ عَجِيبٌ * قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ
أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْكُمْ
أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ * فَلَمَّا ذَهَبَ
عَنْ إِبْرَهِيمَ الرَّوْعُ وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَى
يُجَدِلُنَا فِى قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَهِيمَ لَحَلِيمٌ
أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ * يإِبْرَهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَآ إِنَّهُ
قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ
غَيْرُ مَرْدُودٍ * وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىءَ
بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ *
وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ
كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يقَوْمِ هَؤُلاءِ
بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ
تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ *
قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ
وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِى
بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُواْ
يلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ
بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ
أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ
إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ *
فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا
عَلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن
سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِى
مِنَ الظَّلِمِينَ بِبَعِيدٍ} وتقديره: اجترأ على الخطاب اذ
فطن للمجادلة، أو قال: كيت وكيت. ودل على ذلك الجملة المستأنفة
وهي يجادلنا، قال معناه الزمخشري. وقيل: الجواب يجادلنا وضع
المضارع موضع الماضي، أي جادلنا. وجاز ذلك لوضوح المعنى، وهذا
أقرب الأقوال. وقيل: يجادلنا حال من إبراهيم، وجاءته حال
أيضاً، أو من ضمير في جاءته. وجواب لما محذوف تقديره: قلنا يا
إبراهيم أعرض عن هذا، واختار هذا التوجيه أبو علي. وقيل:
الجواب محذوف تقديره: ظل أو أخذ يجادلنا، فحذف اختصاراً لدلالة
ظاهر الكلام عليه.
وقرأ عمرو بن هرم: وإنهم أتاهم بلفظ الماضي، وعذاب فاعل به عبر
بالماضي عن المضارع لتحقق وقوعه كقوله {أتى أمر الله} .
وقيل: أحل وأطهر بيتاً ليس أفعل التفضيل،
إذ لا طهارة في اتيان الذكور. وقرأ الجمهور: أطهر بالرفع
والأحسن في الإعراب أنّ يكون جملتان كل منهما مبتدأ وخبر. وجوز
في بناتي أنْ يكون بدلاً، أو عطف بيان، وهن فصل وأطهر الخبر.
وقرأ الحسن، وزيد بن علي، وعيسى بن عمر، وسعيد بن جبير، ومحمد
بن مروان السدي: أطهر بالنصب. وقال سيبويه: هو لحن. وقال أبو
عمرو بن العلاء: احتبي فيه ابن مروان في لحنه يعني: تربع.
ورويت هذه القراءة عن مروان بن الحكم، وخرجت هذه القراءة على
أنَّ نصب أطهر على الحال. فقيل: هؤلاء مبتدا، وبناتي هنّ مبتدأ
وخبر في موضع خبر هؤلاء، وروي هذا عن المبرد. وقيل: هؤلاء
بناتي مبتدأ وخبر، وهن مبتدأ ولكم خبره، والعامل قيل: المضمر.
وقيل: لكم بما فيه من معنى الاستقرار. وقيل: هؤلاء بناتي مبتدأ
وخبر، وهن فصل، وأطهر حال. ورد بأنَّ الفصل لا يقع إلا بين
جزءي الجملة، ولا يقع بين الحال وذي الحال. وقد أجاز ذلك بعضهم
وادعى السماع فيه عن العرب، لكنه قليل.
قال: لو أنّ لي بكم قوة، قال ذلك على سبيل التفجع. وجواب لو
محذوف كما حذف في: ولو أن قرآناً سيرت به الجبالوَلَمَّا
جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا
وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَآءَهُ قَوْمُهُ
يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ
السَّيِّئَاتِ قَالَ يقَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ
لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى
أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ * قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ
مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا
نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِى
إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} وتقديره: لفعلت بكم وصنعت.
وقال الحوفي، وأبو البقاء: أو آوى عطف على
المعنى تقديره: أو أني آوي. والظاهر أن أو عطف جملة فعلية، على
جملة فعلية إن قدرت إني في موضع رفع على الفاعلية على ما ذهب
إليه المبرد أي: لو ثبت أن لي بكم قوة، أو آوى. ويكون المضارع
المقدر وآوى هذا وقعاً موقع الماضي، ولو التي هي حرف لما كان
سيقع لوقوع غيره نقلت المضارع إلى الماضي، وإن قدرت أن وما
بعدها جملة اسمية على مذهب سيبويه فهي عطف عليها من حيث أنّ لو
تأتي بعدها الجملة المقدرة اسمية إذا كان الذي ينسبك إليها أنّ
ومعمولاها. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون أو آوى مستأنفاً
انتهى. ويجوز على رأي الكوفيين أن تكون أو بمعنى بل، ويكون قد
أضرب عن الجملة السابقة وقال: بل آوى في حالي معكم إلى ركن
شديد، وكنى به عن جناب الله تعالى. وقرأ شيبة، وأبو جعفر: أو
آوي بنصب الياء بإضمار أن بعد، أو فتتقدر بالمصدر عطفاً على
قوله: قوة. ونظيره من النصب بإضمار أنْ بعد أو قول الشاعر:
ولولا رجال من رزام أعزة
وآل سبيع أو يسوؤك علقما أي أو ومساءتك علقماً.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: إلا امرأتك بالرفع، وباقي السبعة
بالنصب، فوجه النصب على أنه استثناء من قوله بأهلك، إذ قبله
أمر، والأمر عندهم كالواجب. ويتعين النصب على الاستثناء من
أهلك في قراءة عبد الله، إذ سقط في قراءته وفي مصحفه: ولا
يلتفت منكم أحد. وجوزوا أن يكون منصوباً على الاستثناء من أحد
وإن كان قبله نهى، والنهي كالنفي على أصل الاستثناء، كقراءة
ابن عامر: ما فعلوه إلا قليلاً منهم بالنصب، وإن كان قبله نفي.
ووجه الرفع على أنه بدل من أحد، وهو استثناء متصل.
وقيل: الذي يظهر أن الاستثناء على كلتا
القراءتين منقطع، لم يقصد به إخراجها من المأمور بالإسراء بهم،
ولا من المنهيين عن الالتفات، ولكن استؤنف الأخبار عنها،
فالمعنى: لكن امرأتك يجري لها كذا وكذا. ويؤيد هذا المعنى أن
مثل هذه الآية جاءت في سورة الحجر، وليس فيها استثناء ألبتة
قال تعالى: فاسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت
منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون، فم تقع العناية في ذلك إلا بذكر
من أنجاهم الله تعالى. فجاء شرح حال امرأته في سورة هود تبعاً
لا مقصوداً بالإخراج مما تقدم، وإذا اتضح هذا المعنى علم أن
القراءتين وردتا على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع،
ففيه النصب والرفع. فالنصب لغة أهل الحجاز وعليه الأكثر،
والرفع لبني تميم وعليه اثنان من القرّاء انتهى. وهذا الذي طول
به لا تحقيق فيه، فإنه إذا لم يقصد إخراجها من المأمور
بالإسراء بهم ولا من المنهييين عن الالتفات، وجعل استثناء
منقطعاً كان الاستثناء المنقطع الذي لم يتوجه عليه العامل
بحال، وهذا النوع من الاستثناء المنقطع يجب فيه النصب بإجماع
من العرب، وليس فيه النصب والرفع باعتبار اللغتين، وإنما هذا
في الاستثناء المنقطع، وهو الذي يمكن توجه العامل عليه.h
وفي كلا النوعين يكون ما بعد إلا من غير الجنس المستثنى منه،
فكونه جاز فيه اللغتان دليل على أنه مما يمكن أن يتوجه عليه
العامل، وهو قد فرض أنه لم يقصد بالاستثناء إخراجها عن المأمور
بالإسراء بهم، ولا من المنهيين عن الالتفات، فكان يجب فيه إذ
ذاك النصب قولاً واحداً.
والضمير في أنه ضميرالشأن، ومصيبها مبتدأ، وما أصابهم الخبر.
ويجوز على مذهب الكوفيين أن يكون مصيبها خبر إن، وما أصابهم
فاعل به، لأنهم يجيزون أنه قائم أخواك. ومذهب البصريين أنّ
ضمير الشان لا يكون خبره إلا جملة مصرحاً بجزءيها، فلا يجوز
هذا الإعراب عندهم.
وقوله: إن كنتم مؤمنين، شرط في أن يكون
البقية خيراً لهم، وأما مع الكفر فلا خير لهم في شيء من
الأعمال. وجواب هذا الشرط متقدم.
ونيس جواب الشرط متقدماً كما ذكر، وإنما الجواب محذوف لدلالة
ما تقدم عليه على مذهب جمهور البصريين.
وقرأ الجمهور: أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء بالنون فيهما.
وقرأ الضحاك بن قيس، وابن أبي عبلة، وزيد بن علي: بالتاء فيهما
على الخطاب، ورويت عن أبي عبد الرحمن. وقرأ أبو عبد الرحمن
وطلحة: نفعل بالنون، ما نشاء بالتاء على الخطاب، ورويت عن ابن
عباس. فمن قرأ بالنون فيهما فقوله: أو أن نفعل معطوف على قوله:
ما يعبد أي: أن نترك ما يعبد آباؤنا وفعلنا في أموالنا ما
نشاء. ومن قرأ بالتاء فيهما أو بالنون فيهما فمعطوف على أن
نترك أي: تأمرك بترك ما يعبد آباؤنا، وفعلك في أموالنا ما
تشاء، أو وفعلنا في أموالنا ما تشاء. وأو للتنويع أي: تأمرك
مرة بهذا، ومرة بهذا. وقيل: بمعنى الواو.
قال الزمخشري: (فإن قلت) : أين جواب
أرأيتم، وما له لم يثبت كما ثبت في قصة نوح وصالح؟ (قلت) :
جوابه محذوف، وإنما لم يثبت لأنّ إثباته في الصفتين دل على
مكانه، ومعنى الكلام يناوي عليه، والمعنى أخبروني إن كنت على
حجة واضحة ويقين من ربي، وكنت نبياً على الحقيقة، أيصح لي أن
لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي، والأنبياء لا
يبعثون إلا لذلك انتهى. وتسمية هذا جواباً لأرأيتم ليس
بالمصطلح، بل هذه الجملة التي قدرها هي في موضع المقعول الثاني
لأرأيتم، لأنّ أرأيتم إذا ضمنت معنى أخبرني تعدت إلى مفعولين،
والغالب في الثاني أن يكون جملة استفهامية تنعقد منها ومن
المفعول الأول في الأصل جملة ابتدائية كقول العرب: أرأيتك
زيداً ما صنع. وقال الحوفي: وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام
عليه، والتقدير: فاعدل عن ما أنا عليه من عبادته على هذه
الحال. وقال ابن عطية: وجواب الشرط الذي في قوله: إن كنت على
بينة من ربي محذوف تقديره: أضل كما ضللتم، أو أترك تبليغ
الرسالة ونحو هذا مما يليق بهذه المحاجة انتهى. وليس قوله: أضل
جواباً للشرط، لأنّه إن كان مثبتاً فلا يمكن أن يكون جواباً
لأنه لا يترتب على الشرط وإن كان استفهاماً حذف منه الهمزة،
فهو في موضع المفعول الثاني لأرأيتم، وجواب الشرط محذوف تدل
عليه الجملة السابقة مع متعلقها.
والمعنى أنّ أسبقكم إلى شهواتكم التي
نهيتكم عنها لاستيد بها دونكم، فعلى هذا الظاهر أن قوله: أن
أخالفكم في موضع المفعول لأريد، أي وما أريد مخالفتكم، ويكون
خالف بمعنى خلف نحو: جاوز وجاز أي: وما أريد أن أخلفكم أي:
أكون خلفاً منكم. وتتعلق إلى باخالفكم، أو بمحذوف أي: مائلاً
إلى ما أنهاكم عنه، ولذلك قال بعضهم: فيه حذف يقتضيه إلى
تقديره: وأميل إلى، أو يبقى أن أخالفكم على ظاهر ما يفهم من
المخالفة، ويكون في موضع المفعول به بأريد، وتقدر: مائلاً إلى،
أو يكون أن أخالفكم مفعولاً من أجله، وتتعلق إلى بقوله وما
أريد بمعنى، وما أقصد أي: وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما
أنهاكم عنه، ولذلك قال الزجاج: وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما
أنهاكم عنه. والظاهر أن ما مصدرية ظرفية أي مدة استطاعتي
للإصلاح، وما دمت متمكناً منه لا آلوا فيه جهداً. وأجاز
الزمخشري في ما وجوهاً أحدها: أن يكون بدلاً من الإصلاح أي:
المقدر الذي استطعته، أو على حذف مضاف تقديره: إلا الإصلاح
إصلاح ما استطعت، فهذان وجهان في البدل. والثالث: أن يكون
مفعولاً كقوله:
ضعيف النكاية أعداءه. أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه
من فاسدكم، وهذا الثالث ضعيف، لأن المصدر المعرّف بأل لا يجوز
إعماله في المفعول به عند الكوفيين، وأما البصريون فإعماله
عندهم فيه قليل.
وجرم في التعدية مثل كسب يتعدى إلى واحد.
جرم فلان الذنب، وكسب زيد المال، ويتعدى إلى اثنين جرمت زيداً
الذنب، وكسبت زيداً المال. وبالألف يتعدى إلى اثنين أيضاً،
أجرم زيد عمراً الذنب، وأكسبت زيداً المال، وتقدم الكلام في
جرم في العقود. وقرأ مجاهد، والجحدري، وابن أبي إسحاق، ورويت
عن نافع: مثل بفتح اللام، وخرج على وجهين: أحدهما: أن تكون
الفتحة فتحة بناء، وهو فاعل كحاله حين كان مرفوعاً، ولما أضيف
إلى غير متمكن جاز فيه البناء، كقراءة من قرأ أنه لحق مثل ما
أنكم تنطقون. والثاني: أن تكون الفتحة فتحة إعراب، وانتصب على
أنه نعت لمصدر محذوف أي: إصابة مثل إصابة قوم نوح. والفاعل
مضمر يفسره سياق الكلام أي: ان يصيبكم هو أي العذاب.
في من يأتيه أن تكون موصولة مفعولة بقوله: تعلمون أي: تعلمون
الشقي الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب، واستفهامية في
موضع رفع على الابتداء، وتعلمون معلق كأنه قيل: أين يأتيه عذاب
يخزيه، وأينا هو كاذب. قال ابن عطية: والأول أحسن، يعني كونها
مفعولة قال: لأنها موصولة، ولا يوصل في الاستفهام، ويقضي
بصلتها إن المعطوفة عليها موصولة لا محالة انتهى. وقوله: ويقضي
بصلتها الخ لا يقضي بصلتها، إذ لا يتعين أن تكون موصولة لا
محالة كما قال، بل تكون استفهامية إذا قدرتها معطوفة على من
الاستفهامية، كما قدّرناه وأينا هو كاذب.
قال الزمخشري: (فإن قلت) : أي فرق بين إدخال الفاء ونزعها في
سوف تعلمون؟ (قلت) : أدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل،
ونزعها وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر
كأنهم قالوا: فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا، وعملت
أنت؟ فقال: سوف تعلمون، يوصل تارة بالفاء، وتارة بالاستئناف،
كما هو عادة البلغاء من العرب. وأقوى الوصلين وأبلغهما
الاستئناف، وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه.
ويحتمل أن تكون النار تصيبه على إعمال
الثاني لأنه تنازعه يقدم أي: إلى النار وفأوردهم، فأعمل الثاني
وحذف معمول الأول. والهمزة في فأوردهم للتعدية، ورد يتعدى إلى
واحد، فلما أدخلت الهمزة تعدى إلى اثنين، فتضمن وارداً
وموروداً. ويطلق الورد على الوارد، فالورد لا يكون المورود،
فاحتيج إلى حذف ليطابق فاعل بئس المخصوص بالذم، فالتقدير: وبئس
مكان الورد المورود ويعني به النار. فالورد فاعل ببئس،
والمخصوص بالذم المورود وهي النار. ويجوز في إعراب المورود ما
يجوز في زيد من قولك: بئس الرجل زيد، وجوز ابن عطية وأبو
البقاء أن يكون المورود صفة للورد أي: بئس مكان الورد المورود
النار، ويكون المخصوص محذوفاً لفهم المعنى، كما حذف في قوله:
فبئس المهاد وهذا التخريج يبتني على جواز وصف فاعل نعم وبئس،
وفيه خلاف. ذهب ابن السراج والفارسي إلى أن ذلك لا يجوز، ويوم
القيامة، لأنه الآخرة. فيوم معطوف على موضع في هذه، وذهب قوم
إلى أنّ التقسيم هو أنّ لهم في الدنيا لعنة، ويوم القيامة
يرفدون به فهي لعنة واحدة أولاً، وقبح ارفاد آخر انتهى. وهذا
لا يصح لأنّ هذا التأويل يدل على أنّ يوم القيامة معمول لبئس،
وبئس لا يتصرف، فلا يتقدم معمولها عليها، فلو تأخر يوم القيامة
صح كما قال الشاعر:
ولنعم حشو الدرع أنت إذا
دعيت نزال ولج في الذعر. وقال الزمخشري: بئس الرفد المرفود
رفدهم، أي: بئس العون المعان، وذلك أنّ اللعنة في الدنيا رفد
للعذاب ومدد له، وقد رفدت باللعنة في الآخرة. وقيل: بئس العطاء
المعطى انتهى. ويظهر من كلامه أنّ المرفود صفة للرفد، وأنّ
المخصوص بالذم محذوف تقديره: رفدهم.
وقال الأخفش: حصيد أي محصود، وجمعه حصدى
وحصاد، مثل: مرضى ومراض، وباب فعلى جمعاً لفعيل بمعن مفعول، أن
يكون فيمن يعقل نحو: قتيل وقتلى. وقال الزمخشري: (فإن قلت) :
ما محل هذه الجملة؟ قلت: هي مستأنفة لا محل لها انتهى. وقال
أبو البقاء: منها قائم ابتداء، وخبر في موضع الحال من الهاء في
نقصه، وحصيد مبتدأ خبره محذوف أي: ومنها حصيد انتهى.
قال الزمخشري: ولما منصوب بما أغنت انتهى. وهذا بناء على أنّ
لما ظرف، وهو خلاف مذهب سيبويه، لأنّ مذهبه أنها حرف وجوب
لوجوب.
وإذ ظرف لما مضى، والقرى مفعول بأخذ على الإعمال إذ تنازعه
المصدر وهو: أخذ ربك، وأخذ، فاعمل الثاني وهي ظالمة جملة
حالية.
الناس مفعول لم يسم فاعله رافعه مموع، وأجاز ابن عطية أن يكون
الناس مبتدأ، ومجموع خبر مقدم، وهو بعيد لإفراد الضمير في
مجموع، وقياسه على إعرابه مجموعون.
والظاهر أنّ الفاعل بيأتي ضمير يعود على ما عاد عليه الضمير في
نؤخره وهو قوله: ذلك يوم، والناصب له لا تكلم.
وأجاز الزمخشري أن يكون فاعل يأتي ضميراً
عائداً على الله قال: كقوله: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله أو
يأتي ربكقَالُواْ يلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ
إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ وَلاَ
يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ
مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ
أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا
جَعَلْنَا عَلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا
حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ
رَبِّكَ وَمَا هِى مِنَ الظَّلِمِينَ بِبَعِيدٍ * وَإِلَى
مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يقَوْمِ اعْبُدُواْ
اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ
الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ
وَإِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ *
وَيقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ
وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ
فِى الأٌّرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ
إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ *
قَالُواْ يَشُعَيْبُ أَصَلَوَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ
مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا
مَا نَشَؤُا إِنَّكَ لأّنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ * قَالَ
يقَوْمِ أَرَءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّى
وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَآ أُرِيدُ أَنْ
أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ
إِلاَّ الإِصْلَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ
بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ *
وَيقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى أَن يُصِيبَكُم
مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ
قَوْمَ صَلِحٍ وَمَا قَوْمُ
لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ *
وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ
رَبِّى رَحِيمٌ وَدُودٌ * قَالُواْ يشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ
كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا
وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا
بِعَزِيزٍ * قَالَ يقَوْمِ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ
اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ
رَبِّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَيقَوْمِ اعْمَلُواْ
عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّى عَمِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن
يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ
وَارْتَقِبُواْ إِنِّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ * وَلَمَّا جَآءَ
أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَءَامَنُواْ مَعَهُ
بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ
الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَرِهِمْ جَثِمِينَ * كَأَن
لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا
بَعِدَتْ ثَمُودُ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَتِنَا
وَسُلْطَنٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ
فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ
بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ
فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ *
وَأُتْبِعُواْ فِى هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَمَةِ
بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ
الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ *
وَمَا ظَلَمْنَهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا
أَغْنَتْ عَنْهُمْءَالِهَتَهُمُ الَّتِى يَدْعُونَ مِن دُونِ
اللَّهِ مِن شَىْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا
زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ * وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا
أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَلِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ
شَدِيدٌ * إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ
الأٌّخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ
النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ
إِلاَّ لأًّجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ
نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ *
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِى النَّارِ لَهُمْ فِيهَا
زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَتُ
وَالأٌّرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ
لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِى
الْجَنَّةِ خَلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَتُ
وَالأٌّرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ
مَجْذُوذٍ} وجاء ربك، ويعضده قراءة وما يؤخره بالياء، وقوله:
{بإذنه} وأجاز أيضاً أن ينتصب يوم يأتي باذكر أو بالانتهاء
المحذوف في قوله: إلا لأجل معدود، أي ينتهي الأجل يوم يأتي.
وأجاز الحوفي أن يكون لا تكلم حالاً من ضمير اليوم المتقدم في
مشهود، أو نعتاً لأنه نكره، والتقدير: لا تكلم نفس فيه يوم
يأتي إلا بإذنه. وقال ابن عطية: لا تكلم نفس، يصح أن يكون جملة
في موضع الحال من الضمير الذي في يأتي، وهو العائد على قوله
ذلك يوم، ويكون على هذا عائد محذوف تقديره: لا تكلم نفس فيه
إلا بإذنه. ويصح أن يكون قوله: لا تكلم نفس، صفة لقوله: يوم
يأتي.
وانتصاب خالدين على أنها حال مقدرة، وما مصدرية ظرفية أي: مدة
دوام السموات والأرض.
والظاهر أنّ قوله: إلا ما شاء ربك استثناء من الزمان الدال
عليه قوله: خالدين فيهما ما دامت السموات والأرض. والمعنى: إلا
الزمان الذي شاءه الله تعالى.
ويجوز أن يكون استثناء من الضمير المستكن
في الجار والمجرور، أو في خالدين، وقيل: إلا بمعنى الواو،
وفمعنى الآية: وما شاء الله زائداً على ذلك. وقيل: في هذه
الآية بمعنى سوى، والاستثناء منقطع كما تقول: لي عندك ألفا
درهم إلا الألف التي كنت أسلفتك، بمعنى سوى تلك الألف. فكأنه
قال: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، سوى ما شاء الله
زائداً على ذلك، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى بعد هذا: عطاء
غير مجذوذ، وهذا قول الفرّاء.
وقال الثعلبي: سعد وأسعد بمعنى واحد، وانتصب عطاء على المصدر
أي: أعطوا عطاء بمعنى إعطاء كقوله: والله أنبتكم من الأرض
نباتاًفَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِى النَّارِ لَهُمْ
فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ
السَّمَوَتُ وَالأٌّرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ
رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ
سُعِدُواْ فَفِى الْجَنَّةِ خَلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ
السَّمَوَتُ وَالأٌّرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً
غَيْرَ مَجْذُوذٍ} أي إنباتاً.
وما في مما وفي كما يحتمل أن تكون مصدرية وبمعنى الذي.
وغير منقوص حال من نصيبهم، وهو عندي حال مؤكدة، لأنّ التوفية
تقتضي التكميل.
وقال الزمخشري: التنوين عوض من المضاف إليه يعني: وإن كلهم.
وقرأ الحرميان وأبو بكر: وإن كلا بتخفيف
النون ساكنة. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة: لما بالتشديد هنا
وفي يسفَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا
يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُءَابَاؤهُم مِّن قَبْلُ
وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ *
وَلَقَدْءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ
وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ
وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ * وَإِنَّ كُلاًّ
لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ
بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن
تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ * وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ
فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ
أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلَوةَ
طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ
الْحَسَنَتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَتِ ذلِكَ ذِكْرَى
لِلذكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ * فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن
قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ
فِى الأٌّرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ
وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ
وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} و {الطارق} وأجمعت السبعة على نصب
كلا، فتصور في قراءتهم أربع قراآت: إحداها: تخفيف أن ولما، وهي
قراءة الحرميين. والثانية: تشديدهما، وهي قراءة ابن عامر وحمزة
وحفص. والثالثة: تخفيف إنْ وتشديد لما وهي قراءة أبي بكر.
والرابعة: تشديد أنْ وتخفيف لمّا، وهي قراءة الكسائي وأبي
عمرو. وقرأ أبيّ والحسن بخلاف عه، وإبان بن ثعلب وإنْ بالتخفيف
كل بالرفع لمّا مشدداً. وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم: وإن كلا
لمّا بتشديد الميم
وتنوينها، ولم يتعرضوا لتخفيف إنْ ولا
تشديدها. وقال أبو حاتم: الذي في مصحف أبيّ وإن من كل إلا
ليوفينهم. وقرأ الأعمش: وإن كل إلا، وهو حرف ابن مسعود، فهذه
أربعة وجوه في الشاذ. فأما القراءة الأولى فأعمال أنْ مخففة
كأعمالها مشددة، وهذا المسألة فيها خلاف: ذهب الكوفيون إلى أنّ
تخفيف أن يبطل عملها، ولا يجوز أن تعمل. وذهب البصريون إلى أنّ
إعمالها جائز، لكنه قليل إلا مع المضمر، فلا يجوز إلا أن ورد
في
شعر، وهذا هو الصحيح لثبوت ذلك في لسان
العرب. حكى سيبويه أن الثقة أخبره أنه سمع بعض العرب أنّ عمر
المنطلق، ولثبوت هذه القراءة المتواترة وقد تأولها الكوفيون.
وأما لما فقال الفراء: فاللام فيها هي اللام الداخلة على خبر
إنّ، وما موصولة بمعن الذي كما جاء: {فانكحوا ما طاب لكم}
والجملة من القسم المحذوف وجوابه الذي هو ليوفينهم صلة، لما
نحو قوله تعالى: {وأن منكم لمن ليبطئن} وهذا وجه حسن، ومن
إيقاع ما على من يعقل قولهم: لا سيما زيد بالرفع، أي لاسي الذي
هو زيد. وقيل: ما نكرة موصوفة وهي لمن يعقل، والجملة القسمية
وجوابها قامت مقام الصفة، لأن المعنى: وإنْ كلا لخلق موفى
عمله، ورجح الطبري هذا القول واختاره. وقال أبو عليّ: العرف أن
تدخل لام الابتداء على الخير، والخبر هنا هو القسم وفيه لام
تدخل على جوابه، فلما اجتمع اللامان والقسم محذوف، واتفقا في
اللفظ، وفي تلقي القسم فصل بينهما بما كما فصلوا بين أن واللام
انتهى. ويظهر من كلامه أنّ اللام في لما هي اللام التي تدخل في
الخبر، ونص الحوفي على أنها لام إنْ، إلا أنّ المنقول عن أبي
علي أنّ الخبر هو ليوفينهم، وتحريره ما ذكرنا وهو القسم
وجوابه. وقيل: اللام في لما موطئة للقسم، وما مزيدة، والخبر
الجملة القسمية وجوابها، وإلى هذا القول في التحقيق يؤول قول
أبي علي. وأما القراءة الثانية فتشديد إنّ وإعمالها في كل
واضح. وأما تشديد لمّا فقال المبرد: هذا لحن، لا تقول العرب
إنّ زيداً لما خارج، وهذه جسارة من المبرد على عادته. وكيف
تكون قراءة متواترة لحناً وليس تركيب الآية كتركيب المثال الذي
قال: وهو أنّ زيداً لما خارج هذا المثال لحن، وأما في الآية
فليس لحناً، ولو سكت وقال كما قال الكسائي: ما أدري ما وجه هذه
القراءة لكن قد وفق، وأما غير هذين من النحويين فاختلفوا في
تخريجها. فقال أبو عبيد: أصله لما منونا وقد قرىء كذلك، ثم بني
منه فعلى، فصار كتتري نون إذ جعلت ألفه
للإلحاق كارطي، ومنع الصرف إذ جعلت ألف
تأنيث، وهو مأخوذ من لممته أي جمعته، والتقدير: وإنْ كلاًّ
جميعاً ليوفينهم، ويكون جميعاً فيه معنى التوكيد ككل، ولا يقال
لما هذه هي لما المنونة وقف عليها بالألف، لأنها بدل من
التنوين، وأجرى الأصل مجرى الوقف، لأنّ ذلك إنما يكون في
الشعر. وما قاله أبو عبيد بعيد، إذ لا يعرف بناء فعلى من اللم،
ولما يلزم لمن أمال، فعلى أن يميلها ولم يملها أحد بالإجماع،
ومن كتابتها بالياء ولم تكتب بها، وقيل: لما المشدّدة هي لما
المخففة، وشدّدها في الوقف كقولك: رأيت فرّحاً يريد فرحاً،
وأجرى الوصل مجرى الوقف، وهذا بعيد جداً، وروي عن المازني.
وقال ابن جني وغيره: تقع إلا زائدة، فلا يبعد أن تقع لما
بمعناها زائدة انتهى. وهذا وجه ضعيف مبني على وجه ضعيف في إلا.
وقال المازني: إنْ هي المخفف ثقلت، وهي نافية بمعنى ما، كما
خففت إنْ ومعناها المثقلة، ولما بمعنى إلا، وهذا باطل لأنه لم
يعهد تثقيل إن النافية، ولنصب كل وإن النافية لا تنصب. وقيل:
لما بمعنى إلا كقولك: نشدتك بالله لما فعلت، تريد إلا فعلت،
وقاله الحوفي، وضعفه أبو علي قال: لأن لما هذه لا تفارق القسم
انتهى. وليس كما ذكر، قد تفارق القسم. وإنما يبطل هذا الوجه،
لأنه ليس موضع دخول إلا، لو قلت: إنْ زيداً إلا ضربته لم يكن
تركيباً عربياً. وقيل: لما أصلها لمن ما، ومن هي الموصولة، وما
بعدها زائدة، واللام في لما هي داخلة في خبر إن، والصلة الجملة
القسمية، فلما أدغمت من في الزائدة اجتمعت ثلاث ميمات، فحذفت
الوسطى منهن وهي المبدلة من النون، فاجتمع المثلان، فأدغمت ميم
من في ميم ما، فصار لمّا وقاله المهدوي. وقال الفراء، وتبعه
جماعة منهم نصر الشيرازي: أصل لمّا لمن ما دخلت من الجارة على
ما، كما في قول الشاعر:
وإنا لمن ما يضرب الكبش ضربة
على رأسه تلقى اللسان من الفمفعمل بها ما
عمل في الوجه الذي قبله. وهذان الوجهان ضعيفان جداً لم يعهد
حذف نون من، ولا حذف نون من إلا في الشعر، إذا لقيت لام
التعريف أو شبهها غير المدغمة نحو قولهم: ملمال يريدون من
المال.
وهذه كلها تخريجات ضعيفة جداً ينزه القرآن عنها. وكنت قد ظهر
لي فيها وجه جار على قواعد العربية، وهو أنّ لمّا هذه هي لما
الجارمة حذف فعلها المجزوم لدلة المعنى عليه، كما حذفوه في
قولهم قاربت المدينة، ولما يريدون ولما أدخله. وكذلك هنا
التقدير وإن كلا لما ينقص من جزاء عمله، ويدل عليه قوله تعالى:
ليوفينهم ربك أعمالهم، لما أخبر بانتفاء نقص جزاء أعمالهم أكده
بالقسم فقال: ليوفينهم ربك أعمالهم، وكنت اعتقدت إني سبقت إلى
هذا التخريج السائغ العاري من التكلف وذكرت ذلك لبعض من يقرأ
عليّ فقال: قد ذكر ذلك أبو عمرو وابن الحاجب، ولتركي النظر في
كلام هذا الرجل لم أقف عليه، ثم رأيت في كتاب التحرير نقل هذا
التخريج عن ابن الحاجب قال: لما هذه هي الجازمة حذف فعلها
للدلالة عليه لما ثبت من جواز حذف فعلها في قولهم: خرجت ولما
سافرت، ولما ونحوه، وهو سائغ فصيح، فيكون التقدير: لما يتركوا،
لما تقدم من الدلالة عليه من تفصيل المجموعين في قوله: {فمنهم
شقي وسعيد} ثم ذكر الأشقياء والسعداء ومجازاتهم، ثم بين ذلك
بقوله: ليوفينهم ربك أعمالهم، قال: وما أعرف وجهاً أشبه من
هذا، وإن كان النفوس تستبعده من جهة أن مثله لم يقع في القرآن.
وأما القراءة الثالثة والرابعة فتخريجهما
مفهوم من تخريج القراءتين قبلهما، وأما قراءة أبي ومن ذكر معه
فإنْ نافية، ولمّا بمعنى إلا، والتقدير: ما كل إلا والله
ليوفينهم. وكل مبتدأ الخبر الجملة القسمية وجوابها التي بعد
لما كقراءة من قرأ {وأن كل لما جميع إن كل نفس لما عليها حافظ}
ولا التفات إلى قول أبي عبيد والفراء من إنكارهما أن لما تكون
بمعنى إلا. قال أبو عبيد: لم نجد هذا في كلام العرب، ومن قال
هذا لزمه أن يقول: رأيت القوم لما أخاك يريد إلا أخاك، وهذا
غيره موجود. وقال الفراء: أما من جعل لما بمعنى إلا، فإنه وحجه
لا نعرفه، وقد قالت العرب مع اليمين بالله: لما قمت عنا، وإلا
قمت عنا، فأما في الاستثناء فلم ننقله في شعر. ألا ترى أنّ ذلك
لو جاز لسمع في الكلام: ذهب الناس لما زيدا؟ والقراءة
المتواترة في قوله: وإنْ كل لما، وإن كل نفس لما، حجة عليهما.
وكون لما بمعنى إلا نقله الخليل وسيبويه والكسائي، وكون العرب
خصصت مجيئها ببعض التراكيب لا يقدح ولا يلزم اطرادها في باب
الاستثناء، فكم من شيء خص بتركيب دون ما أشبهه. وأما قراءة
الزهري، وابن أرقم: لما بالتنوين والتشديد، فلما مصدر من
قولهم: لممت الشيء جمعته، وخرج نصبه على وجهين: أحدهما: أن
يكون صفة لكلا وصف بالمصدر وقدر كل مضافاً إلى نكرة حتى يصح
الوصف بالنكرة، كما وصف به في قوله: {أكلاً لما} وهذا تخريج
أبي علي. والوجه الثاني: أن يكون منصوباً بقوله: ليوفينهم، على
حد قولهم: قياماً لأقومن، وقعوداً لا قعدن، فالتقدير توفية
جامعة لأعمالهم ليوفينهم. وهذا تخريج ابن جني وخبر إنّ على
هذين الوجهين هو جملة القسم وجوابه.
وأما ما في مصحف أبي فإنْ نافية، ومن
زائدة. وأما قراءة الأعمش فواضحة، والمعنى: جميع ما لهم. قيل:
وهذه الجملة تضمنت توكيدات بأن وبكل وباللام في الخبر وبالقسم،
وبما إذا كانت زائدة، وبنون التوكيد وباللام قبلها وذلك مبالغة
في وعد الطائع ووعيد العاصي، وأردف ذلك بالجملة المؤكدة وهي:
أنه بما يعملون خبير.
ومن تاب معطوف على الضمير المستكن في فاستقم، وأغنى الفاصل عن
التوكيد.
وقرأ زيد بن علي: ثم لا تنصروا بحذف النون، والفعل منصوب عطفاً
على قوله: فتمسكم، والجملة حال، أو اعتراض بين المتعاطفين.l
وانتصب طرفي النهار على الظرف.
والظاهر عطف وزلفاً من الليل على طرفي النهار، عطف طرفاً على
طرف.
إلا قليلاً استثناء منقطع أي: لكن قليلاً
ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد وهم قليل بالإضافة إلى
جماعاتهم، ولا يصح أن يكون استثناء متصلاً مع بقاء التحضيض على
ظاهره لفساد المعنى، وصيرورته إلى أنّ الناجين لم يحرضوا على
النهي عن الفساد. والكلام عند سيبويه بالتحضيض واجب، وغيره
يراه منفياً من حيث معناه: أنه لم يكن فيهم أولو بقية، ولهذا
قال الزمخشري بعد أن منع أن يكون متصلاً: (فإن قلت) : في
تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم، فكأنه قيل: ما
كان من القرون أولوا بقية إلا قليلاً، كان استثناء متصلاً،
ومعنى صحيحاً، وكان انتصابه على أصل الاستثناء وإن كان الأفصح
أن يرجع على البدل انتهى. وقرأ زيد بن علي: إلا قليل بالرفع،
لحظ أنّ التحضيض تضمن النفي، فأبدل كما يبدل في صريح النفي.
وقال الفراء: المعنى فلم يكن، لأنّ في الاستفهام ضرباً من
الجحد، وأبي الأخفش كون الاستثناء منقطعاً، والظاهر أنّ الذين
ظلموا هم تاركو النهي عن الفساد. وما أترفوا فيه أي: ما نعموا
فيه من حب الرياسة والثروة وطلب أسباب العيش الهني، ورفضوا ما
فيه صلاح دينهم. واتبع استئناف أخبار عن حال هؤلاء الذين
ظلموا، وأخبار عنهم أنهم مع كونهم تاركي النهي عن الفساد كانوا
مجرمين أي: ذوي جرائم غير ذلك. وقال الزمخشري: إن كان معناه
واتبعوا الشهوات كان معطوفاً على مضمر، لأنّ المعنى إلا قليلاً
ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد في الأرض، واتبع الذين ظلموا
شهواتهم، فهو عطف على نهوا، وإن كان معناه: واتبعوا جزاء
الإتراف. قالوا وللحال، كأنه قيل: أنجينا القليل وقد اتبع
الذين ظلموا جزاءهم. وقال: وكانوا مجرمين، عطف على أترفوا، أي
اتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين، لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام
انتهى. فجعل ما في قوله: ما أترفوا، فيه مصدرية، ولهذا قدره:
اتبعوا الإتراف، والظاهر أنها بمعنى الذي لعود الضمير في فيه
عليها. وأجاز أيضاً أنْ يكون معطوفاً على
اتبعوا أي: اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين
بذلك. قال: ويجوز أن يكون اعتراضاً وحكماً عليهم بأنهم قوم
مجرمون انتهى. ولا يسمى هذا اعتراضاً في اصطلاح النحو، لأنه
آخر آية، فليس بين شيئين يحتاج أحدهما إلى الآخر.
إلاّ من رحم استثناء متصل من قوله: ولا يزالون مختلفين، ولا
ضرورة تدعو إلى أنه بمعنى لكن، فيكون استثناء منقطعاً كما ذهب
إليه الحوفي، والإشارة بقوله: ولذلك خلقهم، إلى المصدر المفهوم
من قوله: مختلفين، كما قال: إذا نهى السفيه جرى إليه. فعاد
الضمير إلى المصدر المفهوم من اسم الفاعل، كأنه قيل: وللاختلاف
خلقهم، ويكون على حذف مضاف أي: لثمرة الاختلاف من الشقاوة
والسعادة خلقهم.
وهذه اللام في التحقيق هي لام الصيرورة في
ذلك المحذوف، أو تكون لام الصيرورة بغير ذلك المحذوف، أي:
خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف. ولا يتعارض هذا مع قوله: وما
خلقت الجن والإنس إلا ليعبدونفَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن
تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ * وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ
فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ
أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلَوةَ
طَرَفَىِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ
الْحَسَنَتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَتِ ذلِكَ ذِكْرَى
لِلذكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ * فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن
قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ
فِى الأٌّرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ
وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ
وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ
الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ * وَلَوْ شَآءَ
رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ
مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ
خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأّمْلأّنَّ جَهَنَّمَ
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * وَكُلاًّ نَّقُصُّ
عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ
فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِى هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ
وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ
يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ
* وَانْتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ * وَللَّهِ غَيْبُ
السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأٌّمْرُ
كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ
بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} لأنّ معنى هذا
الأمر بالعبادة.
واللام في لأملأن، هي التي يتلقى بها القسم، أو الجملة قبلها
ضمنت معنى القسم كقوله {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين} ثم قال:
{لتؤمنن به} .
الظاهر أن كلاً مفعول به، والعامل فيه نقص، والتنوين عوض من
المحذوف، والتقدير: وكل نبأ نقص عليك. ومن أنباء الرسل في موضع
الصفة لقوله: وكلاً إذ هي مضافة في التقدير إلى نكرة، وما صلة
كما هي في قوله: قليلاً ما تذكرونوَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ
مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ
وَجَآءَكَ فِى هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى
لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُل} قيل: أو بدل، أو خبر مبتدأ محذوف أي:
هو ما نثبت، فتكون ما بمعنى الذي، أو مصدرية. وأجازوا أن ينتصب
كلاً على المصدر، وما نثبت مفعول به بقولك نقص، كأنه قيل: ونقص
علك الشيء الذي نثبت به فؤادك كل قص. وأجازوا أن يكون كلاً
نكرة بمعنى جميعاً، وينتصب على الحال من المفعول الذي هو ما،
أو من المجرور الذي هو الضمير في به على مذهب من يجوز تقديم
حال المجرور بالحرف عليه، التقدير: ونقص عليك من أنباء الرسل
الأشياء الت نثبت بها فئادك جميعاً أي: المثبتة فؤادك جميعاً.
|