الإعراب المحيط من تفسير البحر المحيط سورة ابراهيم
مائتان وخمسة وخمسون آية مكية
{الر كِتَابٌ أَنزَلْنَهُ إِلَيْكَ
لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ
رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللَّهِ
الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَوَتِ وَمَا فِى الأٌّرْضِ
وَوَيْلٌ لِّلْكَفِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ
يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا عَلَى الأٌّخِرَةِ
وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا
أُوْلَئِكَ فِى ضَلَلٍ بَعِيدٍ * وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن
رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ
فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى
بِئَايَتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَتِ إِلَى
النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِى ذلِكَ
لآيَتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَإِذْ قَالَ مُوسَى
لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
أَنجَاكُمْ مِّنْءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ
الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ
نِسَآءَكُمْ وَفِى ذلِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ *
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ
وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ * وَقَالَ مُوسَى
إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى الأٌّرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ
اللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ * أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ
الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ
وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ
جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَتِ فَرَدُّواْ
أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا
بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا
تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى
اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَتِ
وَالأٌّرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ
مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى
قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ
أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُءَابَآؤُنَا فَأْتُونَا
بِسُلْطَنٍ مُّبِينٍ}
وجوزوا في إعراب الر أن يكون في موضع رفع بالابتداء، وكتاب
الخبر، أو في موضوع رفع على خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه الر،
وفي موضع نصب على تقدير: الزم أو اقرأ الر. وكتاب أنزلناه إليك
جملة مفسرة في هذين الإعرابين، وكتاب مبتدأ. وسوغ الابتداء به
كونه موصوفاً في التقدير أي: كتاب أي: عظيم أنزلناه إليك.
وجوزوا أن يكون كتاب خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا كتاب،
وأنزلناه جملة في موضع الصفة.
والظاهر أن قوله: إلى صراط، بدل من قوله إلى النور، ولا يضر
هذا الفصل بين المبدل منه والبدل، لأن بإذن معمول للعامل في
المبدل منه وهو لتخرج، وأجاز الزمخشري أن يكون إلى صراط على
وجه الاستئناف.
وقرأ نافع وابن عامر الله بالرفع فقيل:
متبدأ محذوف أي: هو الله. وهذا الإعراب أمكن لظهور تعلقه بما
قبله، وتفلته على التقدير الأول. وقرأ باقي السبعة والأصمعي عن
نافع: الله بالجر على البدل في قول ابن عطية، والحوفي، وأبي
البقاء. وعلى عطف البيان في قول الزمخشري قال: لأنه جرى مجرى
الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود الذي يحق له
العبادة، كما غلب النجم على الثريا انتهى. وهذا التعليل لا يتم
إلا على تقدير: أن يكون أصله الإله، ثم نقلت الحركة إلى لام
التعريف وحذفت الهمزة، والتزم فيه النقل والحذف، ومادته إذ ذاك
الهمزة واللام والهاء، وقد تقدمت الأقوال في هذا اللفظ في
البسملة أول الحمد. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: لا تقدم
صفة على موصوف إلا حيث سمع وذلك قليل، وللعرب فيما وجد الحسن
بن عصفور: تقدم صفة على موصوف إلا حيث سمع وذلك قليل، وللعرب
فيما وجد من ذلك وجهان: أحدهما: أن تقدم الصفة وتبقيتها على ما
كانت عليه، وفي إعراب مثل هذا وجهان: أحدهما: إعرابه نعتاً
مقدماً، والثاني: أن يجعل ما بعد الصفة بدلاً. والوجه الثاني:
أن تضيف الصفة إلى الموصوف إذا قدمتها انتهى. فعلى هذا الذي
ذكره ابن عصفور يجوز أن يكون العزيز الحميد يعربان صفتين
متقدمتين، ويعرب لفظ الله موصوفاً متأخراً. ومما جاء فيه تقديم
ما لو تأخير لكان صفة، وتأخير ما لو تقدم لكان موصوفاً قول
الشاعر:
والمؤمن العائذات الطير يمسحهاركبان مكة بين الغيل والسعد
فلو جاء على الكثير لكان التركيب: والمؤمن الطير العائذات،
وارتفع ويل على الابتداء، وللكافرين خبره. لما تقدم ذكر
الظلمات دعا بالهلكة على من لم يخرج منها، ومن عذاب شديد في
موضع الصفة لويل. ولا يضر الفصل والخبر بين الصفة والموصوف،
ولا يجوز أن يكون متعلقاً بويل لأنه مصدر ولا يجوز الفصل بين
المصدر وما يتعلق به بالخبر. ويظهر من كلام الزمخشري أنه ليس
في موضع الصفة.
وجوزوا في إعراب الذين أن يكون مبتدأ خبره
أولئك في ضلال بعيد، وأن يكون معطوفاً على الذم، إما خبر مبتدأ
محذوف أي هم الذين، وإما منصوباً بإضمار فعل تقديره أذم، وأن
يكون بدلاً، وأن يكون صفة للكافرين. ونص على هذا الوجه الأخير
الحوفي والزمخشري وأبو البقاء، وهو لا يجوز، لأن فيه الفصل بين
الصفة والموصوف بأجنبي منهما وهو قوله: من عذاب شديد، سواء كان
من عذاب شديد في موضع الصفة لويل، أم تعلقاً بفعل محذوف أي:
بضجون ويولولون من عذاب شديد. ونظيره إذا كان صفة أن تقول:
الدار لزيد الحسنة القرشي، فهذا التركيب لا يجوز، لأنك فصلت
بين زيد وصفته بأجنبي منهما وهو صفة الدار، والتركيب الفصيح أن
تقول: الدار الحسنة لزيد القرشي، أو الدار لزيد القرشي الحسنة.
{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ
لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى
مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئَايَتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ
الظُّلُمَتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ
إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} .
وأن أخرج يحتمل أن تكون تفسيرية، وأن تكون مصدرية، ويضعف زعم
من زعم أنها زائدة.
ويحتمل وذكرهم أن يكون أمراً مستأنفاً، وأن يكون معطوفاً على
أن أخرج.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ
اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ
مِّنْءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ
وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ
وَفِى ذلِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ
تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن
كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ * وَقَالَ مُوسَى إِن
تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى الأٌّرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ
اللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ} .
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْءَالِ فِرْعَوْنَ
يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ
وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذلِكُمْ بَلاءٌ مِّن
رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن
شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى
لَشَدِيدٌ * وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى
الأٌّرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ} :
وتقدم إعراب إذ في نحو هذا التركيب في قوله: {واذكروا نعمة
الله عليكم إذ كنتم أعداء وتفسير هذه الآية، إلا أنَّ هنا:
ويذبحون بالواو، وفي البقرة بغير واو، وفي الأعراف} {يقتلون
فحيث لم يؤت بالواو وجعل الفعل تفسيراً لقوله: يسومونكم.
واحتمل إذ أن يكون منصوباً ذكروا، وأن يكون معطواً على إذ
أنجاكم.
وجواب أنْ تكفروا محذوف لدلالة المعنى التقدير: فإنما ضرر
كفركم لاحق بكم.
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن
قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن
بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَآءَتْهُمْ
رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى
أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ
بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ
مُرِيبٍ}
والظاهر أن هذا من خطاب موسى لقومه. وقيل: ابتداء خطاب من الله
لهذه الأمة، وخبر قوم نوح وعاد وثمود قد قصه الله في كتابه،
وتقدم في الأعراف وهود، والهمزة في ألم للتقرير والتوبيخ.
والظاهر أنّ والذين في موضع خفض عطفاً على ما قبله، إما على
الذين، وإما على قوم نوح وعاد وثمود. قال الزمخشري: والجملة من
قوله: لا يعلمهم إلا الله، اعتراض والمعنى: أنهم من الكثرة
بحيث لا يعلم عددهم إلا الله انتهى. وليست جملة اعتراض، لأنّ
جملة الاعتراض تكون بين جزءين، يطلب أحدهما الآخر. وقال أبو
البقاء: تكون هذه الجملة حالاً من الضمير في من بعدهم، فإن عنى
من الضمير المجرور في بعدهم فلا يجوز لأنه حال مما جر
بالإضافة، وليس له محل إعراب من رفع أو نصب، وإن عنى من الضمير
المستقر في الجار والمجرور النائب عن العامل أمكن. وقال أبو
البقاء: أيضاً ويجوز أن يكون مستأنفاً، وكذلك جاءتهم. وأجاز
الزمخشري وتبعه أبو البقاء: أن يكون والذين مبتدأ، وخبره لا
يعلمهم إلا الله. وقال الزمخشري: والجملة من المبتدأ والخبر
وقعت اعتراضاً انتهى. وليست باعتراض، لأنها لم تقع بين جزءين:
أحدهما يطلب الآخر. والضمير في جاءتهم عائد على الذين من
قبلكم، والجملة تفسيرية للنبأ. والظاهر أنّ الأيدي هي الجوارح،
وأنّ الضمير في أيديهم وفي أفواههم عائد على الذين جاءتهم
الرسل.
وقيل: الضمير في أفواههم على هذا القول
عائد على الكفار، وفي بمعنى الباء أي: بأفواههم، والمعنى:
كذبوهم بأفواههم. وفي بمعنى الباء يقال: جلست في البيت،
وبالبيت. وقال الفراء: قد وجدنا من العرب من يجعل في موضع
الباء فتقول: أدخلك الله الجنة، وفي الجنة. وأنشد:
وارغب فيها من لقيط ورهطهولنني عن شنبس لست أرغب يريد: أرغب
بها.
ومريب صفة توكيدية، ودخلت همزة الاستفهام الذي معناه الإنكار
على الظرف الذي هو خبر عن المبتدأ.
وفاطر صفة لله، ولا يضر الفصل بين الموصوف وصفته بمثل هذا
المبتدأ، فيجوز أن تقول: في الدار زيد الحسنة، وإن كان أصل
التركيب في الدار الحسنة زيد. وقرأ زيد بن علي: فاطر نصباً على
المدح.
وقرأ طلحة: إن تصدونا بتشديد النون، جعل إن هي المخففة من
الثقيلة، وقدر فصلاً بينها وبين الفعل، وكان الأصل أنه
تصدوننا، فأدغم نون الرفع في الضمير، والأولى أن تكون أن
الثنائية التي تنصب المضارع، لكنه هنا لم يعملها بل ألغاها،
كما ألغاها من قرأ {لمن أراد أن يتم الرضاعة برفع يتم حملاً
على ما المصدرية أختها.
{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ
إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى
مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن
نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَنٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * وَمَا لَنَآ أَلاَّ
نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا
وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ
أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ
رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّلِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ
الأٌّرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى
وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ
عَنِيدٍ * مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ
صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ
الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن
وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} :
ولنصبرن جواب قسم، ويدل على سبق ما يجب فيه الصبر وهو الأذى.
وما مصدرية، وجوزوا أن يكون بمعنى الذي. والضمير محذوف أي: ما
آذيتموناه وكان أصله به، فهل حذف به أو الباء فوصل الفعل إلى
الضمي قولان؟
ومقام يحتمل المصدر والمكان. فقال الفراء: مقامي مصدر أضيف إلى
الفاعل أي: قيامي عليه بالحفظ لأعماله.
واستفتحوا بكسر التاء، أمراً للرسل معطوفاً على ليهلكن أي:
أوحى إليهم ربهم وقال لهم: ليهلكن، وقال لهم: استفتحوا.
وخاب معطوف على محذوف تقديره: فنصروا وظفروا. وخاب كل جبار
عنيد وهم قوم الرسل، وتقدم شرح جبار. والعنيد: المعاند كالخليط
بمعنى المخالط على قول من جعل الضمير عائداً على الكفار، كأن
وخاب عطفاً على واستفتحوا.
ويسقى معطوف على محذوف تقديره: يلقى فيها
ويسقى، أو معطوف على العامل في من ورائه، وهو واقع موقع الصفة.
وارتفاع جهنم على الفاعلية، والظاهر إرادة حقيقة الماء. وصديد
قال ابن عطية: هو نعت لماء، كما تقول: هذا خاتم حديد وليس
بماء، لكنه لما كان بدل الماء في العرف عندنا يعني أطلق عليه
ماء. وقيل: هو نعت على إسقاط أداة التشبيه كما تقول: مررت برجل
أسد التقدير: مثل صديد. فعلى قول ابن عطية هو نفس الصديد وليس
بماء حقيقة، وعلى هذا القول لا يكون صديداً ولكنه ما يشبه
بالصديد. وقال الزمخشري: صديد عطف بيان لماء قال: ويسقى من
ماء، فأبهمه إبهاماً، ثم بينه بقوله: صديد انتهى. والبصريون لا
يجيزون عطف البيان في النكرات، وأجازه الكوفيون وتبعهم
الفارسي، فأعرب {زيتونة عطف بيان لشجرة مباركة فعلى رأي
لبصريين لا يجوز أن يكون قوله: صديد، عطف بيان. وقال الحوفي:
صديد نعت لماء.
ويتجرعه صفة لما قبله، أو حال من ضمي ويسقى، أو استئناف.
{مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ
أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ
عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَىْءٍ ذلِكَ
هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى
اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ
الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ
تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ
اللَّهِ مِن شَىْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ
لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا
مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ * وَقَالَ الشَّيْطَنُ لَمَّا قُضِىَ
الأٌّمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ
وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ
مِّن سُلْطَنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى
فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ
بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إِنِّى كَفَرْتُ
بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّلِمِينَ لَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَأُدْخِلَ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ
الصَّلِحَاتِ جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ
خَلِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا
سَلَمٌ * أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً
طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا
فِى السَّمَآءِ * تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ
رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ
كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأٌّرْضِ مَا
لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُواْ
بِالْقَوْلِ
الثَّابِتِ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا
وَفِى الأٌّخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّلِمِينَ وَيَفْعَلُ
اللَّهُ مَا يَشَآءُ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ
نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ
الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ *
وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ
قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ * قُل
لِّعِبَادِىَ الَّذِينَءَامَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ
وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن
قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَلٌ *
اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ وَأَنزَلَ
مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ
رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِى
الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَرَ * وَسَخَّر
لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ
الَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا
سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ
تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}
{مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم
عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد} :
ارتفاع مثل على الابتداء، وخبره محذوف تقديره عند سيبويه. فيما
على عليكم، أو يقص. والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة،
وأعمالهم كرماد جملة مستأنفة على تقدير سؤال كأنه قيل: كيف
مثلهم؟ فقيل: أعمالهم كرماد، كما تقول: صفة زيد عرضه مصون،
وماله مبذول. وقال ابن عطية: ومذهب الكسائي والفراء أنه على
إلغاء مثل، وأنّ المعنى: الذين كفروا أعمالهم كرماد. وقال
الحوفي: مثل رفع بالابتداء، وأعمالهم بدل من مثل بدل اشتمال.
كما قال الشاعر:
ما للجمال مشيها وئيداًأجند لا يحملن أم
حديدا
وكرماد الخبر. وقال الزمخشري: أو يكون أعمالهم بدلاً من مثل
الذين كفروا على تقدير: مثل أعمالهم، وكرماد الخبر. وقال ابن
عطية: وقيل هو ابتداء، وأعمالهم ابتداء ثان، وكرماد خبر
للثاني، والجملة خبر الأول. وهذا عندي أرجح الأقوال.
وهذا القول الذي رجحه ابن عطية قاله الحوفي، وهو لا يجوز، لأن
الجملة الواقعة خبراً عن المبتدأ الأول الذي هو مثل عارية من
رابط يعود على المثل، وليست نفس المبتدأ في المعنى، فلا تحتاج
إلى رابط.
وقرأ نافع، وأبو جعفر: الرياح على الجمع، والجمهور على
الأفراد. ووصف اليوم بقوم عاصف، وإن كان من صفة الريح على سبيل
التجوز، كما قالوا: يوم ما حل وكيل نائم. وقال الهروي: التقدير
في يوم عاصف الريح، فحذف لتقدم ذكرها كما قال الشاعر:
إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف
يريد كاسف الشمس. وقيل: عاصف من صفة الريح، إلا أنه لما جاء
بعد اليوم اتبع إعرابه كما قيل: جحر ضب خرب، يعني: إنه خفض على
الجوار. وقرأ ابن أبي إسحاق، وإبراهيم بن أبي بكر عن الحسن: في
يوم عاصف على إضافة اليوم لعاصف.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَتِ وَالأَرْضَ
بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ
* وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَبَرَزُواْ لِلَّهِ
جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ
إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ
عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَىْءٍ قَالُواْ لَوْ
هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ
أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ}
وقيل: بالحق حال أي محقاً.
وقال الزمخشري: من الأولى للتبيين،
والثانية للتبعيض، كأنه قيل: هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي
هو عذاب الله؟ ويجوز أن يكونا للتبعيض معاً بمعنى: هل أنتم
مغنون عنا بعض شيء، هو بعض عذاب الله أي: بعض بعض عذاب الله
انتهى. وهذان التوجيهان اللذان وجههما الزمخشري في من في
المكانين يقتضي أولهما التقديم في قوله: من شيء على قوله: من
عذاب الله، لأنه جعل من شيء هو المبين بقوله: من عذاب الله.
ومن التبيينية يتقدم عليها ما تبينه، ولا يتأخروا لتوجيه
لثاني، وهو بعض شيء، هو بعض العذاب يقتضي أن يكون بدلاً، فيكون
بدل عام من خاص، لأنّ من شيء أعم من قوله: من عذاب الله، وإن
عنى بشيء شيئاً من العذاب فيؤول المعنى إلى ما قدر، وهو بعض
بعض عذاب الله. وهذا لا يقال، لأنّ بعضية الشيء مطلقة، فلا
يكون لها بعض. ونص الحوفي، وأبو البقاء: على أنّ مِن في قوله:
من شيء، زائدة. قال الحوفي: من عذاب الله متعلق بمغنون، ومن في
من شيء لاستغراق الجنس، زائدة للتوكيد. وقال أبو البقاء: ومِن
زائدة أي: شيئاً كائناً من عذاب الله، ويكون محمولاً على
المعنى تقديره: هل تمنعون عنا شيئاً؟ ويجوز أن يكون شيء واقعاً
موقع المصدر أي: غنى فيكون من عذاب الله متعلقاً بمغنون انتهى.
ومسوغ الزيادة كون الخبر في سياق الاستفهام، فكان الاستفهام
دخل عليه وباشره، وصارت الزيادة هنا كالزيادة في تركيب: هل
تغنون.
{وَقَالَ الشَّيْطَنُ لَمَّا قُضِىَ الأٌّمْرُ إِنَّ اللَّهَ
وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ
وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَنٍ إِلاَّ أَن
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى
وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ
أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ
مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّلِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
ووعد الحق يحتمل أن يكون من إضافة الموصوف
إلى صفته أي: الوعد الحق.
وإلا أنّ دعوتكم الظاهر أنه استثناء منقطع، لأنّ دعاءه إياهم
إلى الضلالة ووسوسته ليس من جنس السلطان.
وقيل: هو استثناء متصل، لأنّ القدرة على حمل الإنسان على الشيء
تارة يكون بالقهر من الحامل، وتارة يكون بتقوية الداعية في
قلبه وذلك بإلقاء الوسواس إليه، فهذا نوع من أنواع التسليط.
وقرأ يحيى بن وثاب، والأعمش، وحمزة: بمصرخي بكسر اللياء، وطعن
كثير من النحاة في هذه القراءة. قال الفراء: لعلها من وهم
القراء، فإنه قل من سلم منهم من الوهم، ولعله ظن أنّ الباء في
بمصرخي خافضة للفظ كله، والباء للمتكلم خارجة من ذلك. وقال أبو
عبيد: نراهم غلطوا، ظنوا أنّ الباء تكسر لما بعدها. وقال
الأخفش: ما سمعت هذا من أحد من العرب، ولا من النحويين. وقال
الزجاج: هذه القراءة عند جميع النحويين رديئة مرذولة، ولا وجه
لها إلا وجه ضعيف. وقال النحاس: صار هذا إجماعاً، ولا يجوز أن
يحمل كتاب الله على الشذوذ. وقال الزمخشري: هي ضعيفة،
واستشهدوا لها ببيت مجهول:
قال لها هل لك يا تافيّقالت له ما أنت بالمرضي
وكأنه قدر ياء الإضافة ساكنة، وقبلها ياء
ساكنة فحركها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، ولكنه غير
صحيح، لأنّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف نحو:
عصاي فما بالها، وقبلها باء. (فإن قلت) : جرت الياء الأولى
مجرى الحر الصحيح لأجل الإدغام، كأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف
صحيح ساكن، فحركت بالكسر على الأصل. (قلت) : هذا قياس حسن،
ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل
إليه القياسات انتهى. أما قوله: واستشهدوا لها ببيت مجهول، قد
ذكر غيره أنه للأغلب العجلى، وهي لغة باقية في أفواه كثير من
الناس إلى اليوم، يقول القائل: ما فيّ أفعل كذا بكسر الياء.
وأما التقدير الذي قال: فهو توجيه الفراء، ذكره عنه الزجاج.
وأما قوله، في غضون كلامه حيث قبلها ألف، فلا أعلم حيث يضاف
إلى الجملة المصدرة بالظرف نحو: قعد زيد حيث أمام عمر وبكر،
فيحتاج هذا التركيب إلى سماع. وأما قوله: لأن ياء الإضافة إلى
آخره، قد روى سكون الياء بعد الألف. وقرأ بذلك القراء نحو:
محياي، وما ذهب إليه من ذكرنا من النحاة لا ينبغي أن يلتت
إليه. واقتفى آثارهم فيها الخلاف، فلا يجوز أن يقال فيها: إنها
خطأ، أو قبيحة، أو رديئة، وقد نقل جماعة من أهل اللغة أنها
لغة، لكنه قلَّ استعمالها. ونص قطرب على أنها لغة في بني
يرفوع. وقال القاسم بن معن وهو من رؤساء النحويين الكوفيين: هي
صواب، وسأل حسين الجعفي أبا عمرو بن العلاء وذكر تلحين أهل
النحو فقال: هي جائزة. وقال أيضاً: لا تبالي إلى أسفل حركتها،
أو إلى فوق. وعنه أنه قال: هي بالخفض حسنة. وعنه أيضاً أنه
قال: هي جائزة. وليست عند الإعراب بذلك، ولا التفات إلى إنكار
أبي حاتم على أبي عمرو تحسينها، فأبو عمرو إمام لغة، وإمام
نحو، وإمام قراءة، وعربي صريح، وقد أجازها وحسنها، وقد رووا
بيت النابغة:
عليّ لعمرو نعمة بعد نعمةلوالدة ليست بذات عقارب
بفخض الياء من عليّ. وما في بما أشركتموني
مصدرية، ومن قبل متعلق بأشركتموني أي: كفرت اليوم بإشراككم
إياي من قبل هذا اليوم أي: في الدنيا، كقوله: {أنا برآء منكم
ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وقال: ويوم القيامة يكفرون
بشرككم. وقيل: موصولة بمعنى الذي، والتقدير: كفرت بالصنم الذي
أشركتمونيه، فحذف العائد. وقيل: من قبل متعلق بكفرت، وما بمعنى
الذي أي: كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أشركتمونيه
وهو الله عز وجل. تقول: شركت زيداً، فإذا أدخلت همزة النقل
قلت: أشركت زيداً عمراً، أي جعلته له شريكاً. إلا أن في هذا
القول إطلاق ما على الله تعالى، وما الأصح فيها أنها لا تطلق
على آحاد من يعلم. وقال الزمخشري: ونحو ما هذه يعني في إطلاقها
على الله ما في قولهم: سبحان ما سخركن لنا انتهى. ومن منع ذلك
جعل سبحان علماً على معنى التسبيح، كما جعل برة علماً للمبرة.
وما مصدرية ظرفية، ويكون ذلك من إبليس إقراراً على نفسه بكفره
الأقدم.
{وَأُدْخِلَ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَاتِ
جَنَّتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَمٌ} : وقال
الزمخشري: (فإن قلت) : فبم يتعلق يعني بإذن ربهم في القراءة
الأخرى، وقولك وأدخلهم أنا بإذن ربهم كلام غير ملئتم؟ (قلت) :
الوجه في هذه القراءة أن يتعلق قوله بإذن ربهم بما بعده أي:
تحيتهم فيها سلام. بإذن ربهم يعني: أن الملائكة يحيونهم بإذن
ربهم انتهى. فظاهر كلامه أنّ بإذن ربهم معمول لقوله: تحيتهم،
ولذلك قال: يعني أنّ الملائكة يحيونهم بإذن ربهم، وهذا لا
يجوز، لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل بحرف مصدري والفعل
عليه، وهو غير جائز.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا
ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَآءِ * تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ
حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ
خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ
الأٌّرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ
الَّذِينَءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَوةِ
الدُّنْيَا وَفِى الأٌّخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّلِمِينَ
وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ}
فأعرب الحوفي والمهدوي وأبو البقاء مثلاً مفعولا بضرب، وكلمة
بدل من مثلا. وإعرابهم هذا تريع، على أنّ ضرب مثل لا يتعدى لا
إلى مفعول واحد. وقال ابن عطية: وأجازه الزمخشري مثلا مفعول
بضرب، وكلمة مفعول أول تفريعاً على أنها مع المثل تتعدى إلى
اثنين، لأنها بمعنى جعل. وعلى هذا تكون شجرة خبر مبتدأ محذوف
أي: جعل كلمة طيبة مثلاً هي أي: الكلمة كشجرة طيبة، وعلى البدل
تكون كشجرة نعتاً للكلمة. وأجاز الزمخشري: وبدأ به أنْ تكون
كلمة نصباً بمضمر أي: جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة، وهو تفسير
لقوله: ضرب الله مثلاً، كقولك: شرف الأمير زيداً كساه حلة،
وحمله على رس انتهى. وفيه تكلف إضمار لا ضرورة تدعو إليه.
وقرىء شاذاً كلمة طيبة بالرفع. قال أبو البقاء: على الابتداء،
وكشجرة خبره انتهى. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف والتقدير:
هو أي المثل كلمة طيبة كشجرة، وكشجرة نعت لكمة.
وقرأ أبي: وضرب الله مثلاً كلمة خبيثة، وقرىء: ومثل كلمة بنصب
مثل عطفاً على كلمة طيبة.
والظاهر أنّ بالقول الثابت متعلق بقوله: يثبت. وقيل: يتعلق
بآمنوا.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ
نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ
الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ *
وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ
قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ}
ونعمة الله هو المفعول الثاني، لأنه هو الذي يدخل عليه حرف
الجر أي: بنعمة الله، وكفراً هو المفعول الأول كقوله: {فأولئك
يبدل الله سيئاتهم حسنات أي بسيئاتهم حسنات. فالمنصوب هو
الحاصل، والمجرور بالباء أو المنصوب على إسقاطها هو الذاهب،
على هذا لسان العرب، وهو على خلاف ما يفهمه العوام، وكثير ممن
ينتمي إلى العلم. وقد أوضحنا هذه المسألة في قوله في البقرة:
ومن يتبدل الكفر بالإيمان وإذا قدرت مضافاً محذوفاً وهو شكر
نعمة الله، فهو الذي دخلت عليه الباء ثم حذفت، وإذا لم يقدر
مضاف محذوف فالباء دخلت على نعمة ثم حذفت. وأحلوا قومهم أي: من
تابعهم على الكفر. وزعم الحوفي وأبو البقاء أنّ كفراً هو مفعول
ثان لبدلوا، وليس بصحيح، لأنّ بدل من أخوات اختار، فالذي
يباشره حرف الجر هو المفعول الثاني، والذي يصل إليه الفعل
بنفسه لا بواسطة حرف الجر هو المفعول الأول. وأعرب الحوفي وأبو
البقاء: جهنم بدلاً من دار البوار، والزمخشري عطف بيان.
أعرب ابن عطية وأبو البقاء: جهنم منصوب على
الاشتغال أي: يصلون جهنم يصلونها. ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن
أبي عبلة: جهنم بالرفع على أنه يحتمل أن يكون جهنم مرفوعاً على
أنه خبر مبتدأ محذوف، وهذا التأويل أولى، لأنّ النصب على
الاشتغال مرجوح من حيث أنه لم يتقدم ما يرجحه، ولا ما يكون
مساوياً، وجمهور القراء على النصب. ولم يكونوا ليقرؤوا بغير
الراجح أو المساوي، إذ زيد ضربته أفصح من زيداً ضربته، فلذلك
كان ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف في قراءة ابن أبي عبلة
راجحاً، وعلى تأويل الاشتغال يكون يصلونها لا موضع له من
الإعراب، وعلى التأويل الأول جوزوا أن يكون حالاً من جهنم، أو
حالاً من دار البوار، أو حالاً من قومهم، والمخصوص بالذم محذوف
تقديره: وبئس القرار هي أي: جهنم.
ومصيركم مصدر صار التامة بمعنى رجع. وخبر إنّ هو قوله: إلى
النار، ولا يقال هنا صار بمعنى انتقل، ولذلك تعدى بإلى أي:
فإنّ انتقالكم إلى النار، لأنه تبقى إنّ بلا خبر، ولا ينبغي أن
يدعي حذفه، فيكون التقدير: فإن مصيركم إلى النار واقع لا محالة
أو كائن، لأنّ حذف الخبر في مثل هذا التركيب قليل، وأكثر ما
يحذف إذا كان اسم إنّ نكرة، والخبر جار ومجرور. وقد أجاز
الحوفي: أن يكون إلى النار متعلقاً بمصيركم، فعلى هذا يكون
الخبر محذوفاً.
قُل لِّعِبَادِىَ الَّذِينَءَامَنُواْ
يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ
بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلَلٌ * اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ
السَّمَوَتِ وَالأٌّرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً
فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ
لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ
وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَرَ * وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ
وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن
تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ
لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}
ومعمول قل، محذوف تقديره: أقيموا الصلاة يقيموا. ويقيموا مجزوم
على جواب الأمر، وهذا قول: الأخفش، والمازني. ورد بأنه لا يلزم
من القول إنْ يقيموا، ورد هذا الردّ بأنه أمر المؤمنين
بالإقامة لا الكافرين، والمؤمنون متى أمرهم الرسول بشيء فعلوه
لا محالة. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون يقيموا جواب الأمر
الذي يعطينا معناه قوله: قل وذلك أن تجعل قل في هذه الآية
بمعنى بلّغ وأدّ الشريعة يقيموا الصلاة انتهى. وهذا قريب مما
قبله، إلا أن في ما قبله معمول القول: أقيموا، وفي هذه الشريعة
على تقدير بلِّغ الشريعة. وذهب الكسائي والزجاج وجماعة إلى أن
معمول قل هو قوله: يقيموا، وهو أمر مجزوم بلام الأمر محذوفة
على حد قول الشاعر:
محمد تفد نفسك كل نفس
أنشده سيبويه إلا أنه قال: إنّ هذا لا يجوز
إلا في الشعر. وقال الزمخشري في هذا القول: وإنما جاز حذف
اللام لأن الأمر الذي هو قل، عوض منه. ولو قيل: يقيموا الصلاة
وينفقوا ابتداء بحذف اللام، لم يجز انتهى. وذهب المبرد إلى أنّ
التقدير: قل لهم أقيموا يقيموا، فيقيموا المصرح به جواب أقيموا
المحذوف قيل. وهو فاسد لوجهين: أحدهما: أنّ جواب الشرط يخالف
الشرط إما في الفعل، أو في الفاعل، أو فيهما. فأما إذا كان
مثله فيما فهو خطأ كقولك: قم يقم، والتقدير على هذا الوجه: أن
يقيموا يقيموا. والوجه الثاني: أن الأمر المقدر للمواجهة
ويقيموا على لفظ الغيبة وهو خطأ إذا كان الفاعل واحداً. وقيل:
التقدير أن تقل لهم أقيموا يقيموا قاله سيبويه فيما حكاه ابن
عطية. وقال الفراء: جواب الأمر معه شرط مقدر تقول: أطع الله
يدخلك الجنة، أي إن تطعه يدخلك الجنة. ومخالفة هذا القول للقول
قبله أنَّ الشرط في هذا مقدر بعد فعل الأمر، وفي الذي قبله
الأمر مضمن معنى الشرط. وقيل: هو مضارع بلفظ الخبر صرف عن لفظ
الأمر، والمعنى: أقيموا، قاله أبو علي فرقة. ورد بأنه لو كان
مضارعاً بلفظ الخبر ومعناه الأمر، لبقي على إعرابه بالنون
كقوله: {هل أدلكم على تجارة ثم قال: تؤمنون والمعنى: آمنوا.
واعتل أبو علي لذلك بأنه لما كان بمعنى الأمر بني يعني: على
حذف النون، لأن المراد أقيموا، وهذا كما بني الاسم المتمكن في
النداء في قولك: يا زيد، يعني على الضمة لما شبه بقبل وبعد
انتهى، ومتعلق القول الملفوظ به أو المقدر في هذه التخاريج هو
الأمر بالإقامة والإنفاق، إلا في قول ابن عطية فمتعلقه الشريعة
فهو أعم، إذ قدر قُلْ بمعنى بلِّغ وأدّ الشريعة. قال ابن عطية:
ويظهرأن المقول هو الآية التي بعد أعني قوله: الله الذي خلق
السموات والأرض انتهى. وهذا الذي ذهب إليه من كون معمول القول
هو قوله تعالى الله الذي الآية تفكيك للكلام، يخالفه ترتيب
التركيب، ويكون قوله: يقيموا
الصلاة كلاماً مفلتاً من القول ومعموله، أو
يكون جواباً فصل به بين القول ومعموله، ولا يترتب أن يكون
جواباً، لأن قوله: الله الذي خلق السموات والأرض، لا يستدعي
إقامة الصلاة والإنفاق إلا بتقدير بعيد جداً.
وتقدم إعراب سراً وعلانية} وشرحها في أواخر البقرة.
والظاهر أن مفعول أخرج هو رزقاً لكم، ومِنْ للتبعيض. ولما
تقدّم على النكرة كان في موضع الحال، ويكون المعنى: إن الرزق
هو بعض جنى الأشجار، ويخرج منها ما ليس برزق كالمجرد للمضرات.
ويجوز أن تكون مِن لبيان الجنس قاله ابن عطية والزمخشري، وكأنه
قال: فأخرج به رزقاً لكم هو الثمرات. وهذا ليس بجيد، لأنّ من
التي لبيان الجنس إنما تأتي بعد المبهم الذي تبينه. وقال
الزمخشري: ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج، ورزقاً حالاً
من المفعول، أو نصباً على المصدر من أخرج، لأنه في معنى رزق.
وقيل: من زائدة، وهذا لا يجوز عند جمهور البصريين، لأنّ ما
قبلها واجب، وبعدها معرفة، ويجوز عند الأخفش.
وما موصولة مفعول ثان أي: ما شأنه أن يسأل
بمعنى يطلب الانتفاع به. وقيل: ما نافية، والمفعول الثاني هو
من كل كقوله: {وأوتيت من كل شيء أي غير سائليه. أخبر بسبوغ
نعمته عليهم بما لم يسألوه من النعم، ولم يعرض لما سألوه.
والجملة المنفية في موضع نصب على الحال، وهذا القول بدأ به
الزمخشري، وثنى به ابن عطية وقال: إنه تفسير الضحاك. وهذا
التفسير يظهر أنه مناف لقراءة الجمهور من كل ما سألتموه
بالإضافة، لأنّ في تلك القراءة على ذلك التخريج تكون ما نافية،
فيكونون لم يسألوه. وفي هذه القراءة يكونون قد سألوه، وما
بمعنى الذي. وأجيز أن تكون مصدرية، ويكون المصدر بمعنى
المفعول. ولما أحس الزمخشري بظهور التنافي بين هذه القراءة
وبين تلك على تقدير أنّ ما نافية قال: ويجوز أن تكون ما موصولة
على وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه، ولم تصلح أحوالكم
ومعائشكم إلا به، فكأنكم سألتموه، أو طلبتموه بلسان الحال.
فتأول سألتموه بقوله: ما احتجتم إليه. والضمير في سألتموه إن
كانت ما مصدرية عائد على الله تعالى، ويكون المصدر يراد به
المسؤول. وإن كانت موصولة بمعنى الذي عاد عليها، والتقدير: من
كل الذي سألتموه إياه. ولا يجوز أن يكون عائداً على الله.
والرابط للصلة بالموصول محذوف، لأنك إن قدرته متصلاً فيكون
التقدير: ما سألتموهوه، فلا يجوز. أو منفصلاً فيكون التقدير:
ما سألتموه إياه، فالمنفصل لا يجوز حذفه.
وَإِذْ قَالَ إِبْرَهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ
هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ
الأٌّصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ
النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * رَّبَّنَآ إِنَّى أَسْكَنتُ مِن
ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلوةَ فَاجْعَلْ
أَفْئِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ
مِّنَ الثَّمَرَتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ * رَبَّنَآ إِنَّكَ
تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى
اللَّهِ مِن شَىْءٍ فَى الأٌّرْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ *
الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ
إِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ *
رَبِّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلوةِ وَمِن ذُرِّيَتِى رَبَّنَا
وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ * وَلاَ
تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَفِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّلِمُونَ
إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَرُ *
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ
طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ
يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ
رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ
وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن
قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِى مَسَكِنِ
الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ
فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ
مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ
مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلاَ
تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ
رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * يَوْمَ
تُبَدَّلُ الأٌّرْضُ غَيْرَ الأٌّرْضِ وَالسَّمَوَتُ
وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى
الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى الأٌّصْفَادِ *
سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ
* لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ
اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلَغٌ لِّلنَّاسِ
وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ
وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَبِ}
{رَّبَّنَآ إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ
ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ
الصَّلوةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِى
إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَتِ لَعَلَّهُمْ
يَشْكُرُونَ}
وقال الزمخشري: بواد هو وادي مكة، غير ذي ذرع: لا يكون فيه شيء
من زرع قط كقوله: {قرآناً عربياً غير ذي عوج بمعنى لا يوجد فيه
اعوجاج، ما فيه إلا استقامة لا غير انتهى. واستعمل قط وهي ظرف
لا يستعمل إلا مع الماضي معمولاً لقوله: لا يكون، وليس هو
ماضياً، وهو مكان أبداً الذي يستعمل مع غير الماضي من
المستقبلات.
والظاهر أنّ من للتبعيض، إذ التقدير: أفئدة من الناس. قال
الزمخشري: ويجوز أن تكون مِن للابتداء كقولك: القلب مني سقيم
يريد قلبي، فكأنه قيل: أفئدة ناس، وإنما نكر المضاف إليه في
هذا التمثيل لتنكير أفئدة، لأنها في الآية نكرة لتتناول بعض
الأفئدة انتهى. ولا يظهر كونها لابتداء الغاية، لأنها ليس لنا
فعل يبتدأ فيه لغاية ينتهي إليها، إذ لا يصح ابتداء جعل
الأفئدة من الناس، وإنما الظاهر في من التبعيض.
رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى
وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَىْءٍ فَى
الأٌّرْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ * الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى
وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ
رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ * رَبِّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ
الصَّلوةِ وَمِن ذُرِّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ *
رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ
يَقُومُ الْحِسَابُ}
على الكبر في موضع الحال لأنه قال: وأنا كبير.
والظاهر إضافة سميع إلى المفعول وهو من إضافة المثال الذي على
وزن فعيل إلى المفعول، فيكون إضافة من نصب، ويكون ذلك حجة على
إعمال فعيل الذي للمبالغة في المفعول على ما ذهب إليه سيبويه،
وقد خالف في ذلك جمهور البصريين، وخالف الكوفيون فيه. وفي
إعمال باقي الخمسة الأمثلة فعول، وفعال، ومفعال، وفعل، وهذا
مذكور في علم النحو. ويمكن أن يقال في هذا ليس ذلك إضافة من
نصب فيلزم جواز إعماله، بل هي إضافة كإضافة اسم الفاعل في نحو:
هذا ضارب زيد أمس. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون من إضافة فعيل
إلى فاعله، ويجعل دعاء الله سميعاً على الإسناد المجازي،
والمراد: سماع الله انتهى. وهو بعيد لاستلزامه أن يكون من باب
السفة المشبهة، والصفة متعدية، ولا يجوز ذلك إلا عند أبي علي
الفارسي حيث لا يكون لبس. وأما هنا فاللبس حاصل، إذ الظاهر أنه
من إضافة المثال للمفعول، لا من إضافته إلى الفاعل. وإنما أجاز
ذلك الفارسي في مثل: زيد ظالم العبيد إذا علم أنّ له عبيداً
ظالمين.
{وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ
الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ
إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ
الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا
لَكُمْ مِّن زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِى مَسَكِنِ الَّذِينَ
ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا
بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ}
ويوم منصوب على أنه مفعول ثان لا نذر، ولا يصح أن يكون ظرفاً،
لأنّ ذلك اليوم ليس بزمان للإنذار.
وقرأ الجمهور: وتبين فعلاً ماضياً، وفاعله مضمر يدل عليه
الكلام أي: وتبين لكم هو أي حالهم، ولا يجوز أن يكون الفاعل
كيف، لأنّ كيف إنما تأتي اسم استفهام أو شرط، وكلاهما لا يعمل
فيه ما قبله، إلا ما روي شاذاً من دخول على علي كيف في قولهم:
على كيف تبيع الأحمرين، وإلى في قولهم: أنظر إلى كيف تصنع،
وإنما كيف هنا سؤال عن حال في موضع نصب بفعلنا. وقرأ السلمي
فيما حكى عنه أبو عمرو الداني: ونبين بضم النون، ورفع النون
الأخيرة مضارع بين، وحكاها صاحب اللوامح عن عمر بن الخطاب رضي
الله عنه، وذلك على إضمار ونحن نبين، والجملة حالية. وقال
المهدوي عن السلمي: إنه قرأ كذلك، إلا أنه جزم النون عطفاً على
أو لم تكونوا.
{ «ِوَقَدْ
مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ
مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلاَ تَحْسَبَنَّ
اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو
انتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الأٌّرْضُ غَيْرَ الأٌّرْضِ
وَالسَّمَوَتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ *
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى
الأٌّصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى
وُجُوهَهُمْ النَّارُ * لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا
كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلَغٌ
لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ
إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَبِ}
والظاهر إضافة مكر وهو المصدر إلى الفاعل، كما هو مضاف في
الأول إليه كأنه قيل: وعند الله ما مكروا أي مكرهم. وقال
الزمخشري: أو يكون مضافاً إلى المفعول على معنى: وعند الله
مكرهم الذي يمكرهم به، وهو عذابهم الذي يستحقونه، يأتيهم به من
حيث لا يشعرون ولا يحتسبون انتهى. وهذا لا يصح إلا إن كان مكر
يتعدى بنفسه كما قال هو، إذ قدر يمكرهم به، والمحفوظ أنّ مكر
لا يتعدى إلى مفعول به بنفسه. قال تعالى: {وإذ يمكر بك الذين
كفروا وتقول: زيد ممكور به، ولا يحفظ زيد ممكور بسبب كذا.
وقرأ الجمهور: وإن كان بالنون. وقرأ عمرو، وعلي، وعبد الله،
وأبي، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو إسحاق السبيعي، وزيد بن
علي: وإن كاد بدال مكان النون لتزول بفتح اللام الأولى ورفع
الثانية، وروي كذلك عن ابن عباس. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وابن
وثاب، والكسائي كذلك، إلا أنهم قرؤوا وإن كان بالنون، فعلى
هاتين القراءتين تكون إنْ هي المخففة من الثقيلة، واللام هي
الفارقة، وذلك على مذهب البصريين. وأما على مذهب الكوفيين فإن
نافية، واللام بمعنى إلا.
فعن الحسن وجماعة أنّ إنْ نافية، وكان
تامة، والمعنى: وتحقير مكرهم، وأنه ما كان لتزول منه الشرائع
والنبوات وأقدار الله التي هي كالجبال في ثبوتها وقوتها، ويؤيد
هذا التأويل ما روي عن ابن مسعود أنه قرأ: وما كان بما
النافية: لكنّ هذا التأويل، وما روي عن ابن مسعود من قراءة وما
بالنفي، يعارض ما تقدم من القراءات، لأنّ فيها تعظيم مكرهم،
وفي هذا تحقيره. ويحتمل على تقدير أنها نافية أن تكون كان
ناقصة، واللام لام الجحود، وخبر كان على الخلاف الذي بين
البصريين والكوفيين: أهو محذوف؟ أو هو الفعل الذي دخلت عليه
اللام؟ وعلى أنّ إنْ نافية وكان ناقصة، واللام في لتزول متعلقة
بفعل في موضع خبر كان، خرجه الحوفي.
وقرأ الجمهور بإضافة مخلف إلى وعده، ونصب رسله. واختلف في
إعرابه فقال الجمهور. الفراء، وقطرب، والحوفي، والزمخشري، وابن
عطية، وأبو البقاء: إنه مما أضيف فيه اسم الفاعل إلى المفعول
الثاني كقولهم: هذا معطي درهم زيداً، لما كان يتعدى إلى اثنين
جازت إضافته إلى كل واحد منهما، فينتصب ما تأخر. وأنشد بعضهم
نظيراً له قول الشاعر:
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسهوسائره باد إلى الشمس أجمع وقال
أبو البقاء: هو قريب من قولهم: يا سارق الليلة أهل الدار. وقال
الفراء وقطرب: لما تعدى الفعل إليهما جميعاً لم يبال بالتقديم
والتأخير.
مخلف هنا متعد إلى واحد كقوله: لا يخلف الميعاد فأضيف إليه،
وانتصب رسله بوعده إذ هو مصدر ينحل بحرف مصدري والفعل كأنه
قال: مخلف ما وعد رسله، وما مصدرية، لا بمعنى الذي. وقرأت
فرقة: مخلف وعده رسله بنصب وعده، وإضافة مخلف إلى رسله، ففصل
بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، وهو كقراءة. قتل أولادهم
شركائهم، وتقدم الكلام عليه مشبعاً في الأنعام. وهذه القراءة
تؤيد إعراب الجمهور في القراءة الأولى، وأنه مما تعدى فيه مخلف
إلى مفعولين.
وانتصاب يوم على أنه بدل من يوم يأتيهم قاله الزمخشري، أو
معمولا لمخلف وعده. وإن وما بعدها اعتراض قاله الحوفي. وقال
أبو البقاء: لا يجوز أن يكون ظرفاً فالمخلف ولا لوعده، لأنّ ما
قبل أنْ لا يعمل فيما بعدها، ولكن جوز أن يلحق من معنى الكلام
ما يعمل في الظرف أي: لا يخلف وعده يوم تبدل انتهى. وإذا كان
إن وما بعدها اعتراضاً، لم يبال أنه فصلاً بين العامل
والمعمول، أو معمولاً لانتقام قاله: الزمخشري، والحوفي، وأبو
البقاء، أولاً ذكر قاله أبو البقاء. وقرىء: نبدل بالنون الأرض
بالنصب، والسموات معطوف على الأرض، وثم محذوف أي: غير السموات،
حذف لدلالة ما قبله عليه. والظاهر استئناف. وبرزوا. وقال أبو
البقاء يجوز أن يكون حالاً من الأرض، وقد معه مزادة.
والظاهر تعلق في الأصفاد بقوله: مقرنين أي: يقرنون في الأصفاد.
ويجوز أن يكون في موضع الصفة لمقرنين، وفي موضع الحال، فيتعلق
بمحذوف كأنه قيل: مستقرين في الأصفاد.
الجكلة من قوله: وترى، معترضة. وقال ابن عطية: اللام متعلقة
بفعل مضمر تقديره: فعل هذا.
قيل: اللام لام الأمر. قال بعضهم: وهو حسن لولا قوله: وليذكر،
فإنه منصوب لا غير انتعهى. ولا يخدش ذلك، إذ يكون وليذكر ليس
معطوفاً على الأمر، بل يضمر له فعل يتعلق به. وقال ابن عطية:
المعنى هذا بلاغ للناس، وهو لينذروا به انتهى. فجعله في موضع
رفع خبراً لهو المحذوفة. وقال الزمخشري: ولينذروا معطوف على
محذوف أي: لينصحوا ولينذروا به بهذا البلاغ انتهى. |