دلائل الإعجاز ت الأيوبي

موضوعات الكتاب
الناظر في موضوعات "دلائل الإعجاز" التي ضمَّها فهرستُه المنشور في الصفحات الأولى منه، ينتابه شعور بأنَّ صاحب الكتاب، تفجرتْ عنده ينابيع المعرفة، فسلكتْ به شتى الدرس البلاغي الذي راح يلقيه على قرَّاء زمانه، من طلبة وعلماء تفاوتتْ مداركُهم وقدراتهم بين المتقبل المتذوق، والدّعيِّ الغبيِّ، فأفرغَ جُلَّ ما توصل إليه من حقائق ومعلومات صاغها بمنطق المحاضر الموسوعي، لا يسعه الانضواء في موضوع واحد، بل يلتفت إلى هذا الجانب وذاك، وإلى هذا الباب، وهذا الميدان، من أبواب الفكر البلاغي وميادينه المترامية الأطراف.
فعلى الرغم من كون الكتاب قد وضع لتأسيس علم المعاني، وما يقتضيه من مسائل محددة توافق عليها العلماء والدارسون، فإننا أمام سلسلة أو خليط من الموضوعات التي تداخلت وتفرعتْ، أو اتَّسقتْ وافترقت - ولا نقول: ائتلفتْ واختلفت - لأنها في تَضامِّها، تؤلِّف الأفق البلاغي الواسع لما سمَّاه: علم المعاني، مفتوحاً على علمي البيان والبديع اللذين لم يستقلاَّ عن العلم الأول، إلاَّ في نطاق الاصطلاح والتحديد المتأخرين مع السكاكيِّ أو القزويني، ومَنْ تبعهما وعاصرهما من علماء البلاغة.
وإن أردتُ محاسبة المؤلف بالمنظور العلمي المختص، وقعتُ على نسبة ملحوظةٍ من الخروج على الموضوع بسبب عدد غير يسير من الموضوعات التي طرحها وعالجها داخل موضوعات الأبواب والفصول المختصة، وأعني بها تلك التي ترتبط مباشرة بعلم المعاني، كما يتبيَّن لمن تابع معي أهم موضوعات الكتاب وفقاً لتسلسلها، وهي على التوالي:
* الكلام في الشعر: روايته وحفظه وذمُّ علمه.
* الكلام في النحو.
* كلام تمهيدي في الفصاحة والبلاغة.
* كلام في المجاز وفروعه ووجوهه.
* نظم الكلام وعلاقته بالنحو والبلاغة، وما يستلزم من معرفة التقديم والتأخير والإسناد والاستفهام والخبر والنكرة.
* موضوعة الحذف: مواضعة وأنواعه، بلاغته.
* كلام ثانٍ في الخبر بين التعريف والتنكير، والإثبات والنفي.
* كلام في الحال ودور واو الحال.
* الفصل والوصل
* باب اللفظ والنظم، متداخل فيه: المجازُ الحُكْمي، والكناية والتعريض.
* القصر والاختصاص: إنما، ما وإلاَّ.
* فصول أخرى في اللفظ والنظم، متداخل فيه: الحقيقة والمجاز.
* القول المبسَّط والموسَّع في الإعجاز والفصاحة والبلاغة.
* حقيقة الإعجاز ومعالمه ووجوهه. متداخل فيه: غريب الكلام، وفساد الذوق، الفصاحة والنحو، الاستعارة: وجوهها وأنواعها وسمُّو المعنى فيها.
* الاحتذاء والأخذ والسرقة في الشعر.
* الموازنة بين المعنى المتحدِ في اللفظِ المتعدد (في شعر البلغاء).
* السجع والتجنيس المتكلَّفان وذمُّهما.
* متعلَّقات الفعل ومتغيرات معاني الجمل.
* إدراك البلاغة وتحقيقها في الذوق والإحساس الروحاني.


كانت هذه أبرز موضوعات الكتاب، صغتُها بكثير من الجمع والتلخيص، إن دلَّت على شيء، فعلى المنحى الدوراني المتشعب حول نقطة مركزية هي إعجاز النظم وما يتعلق به أو يؤدي إليه من دروب وقنواتٍ، كل واحدة منها تمثل مشروع دائرة شبه مستقلة، وما ذاك إلاّ لغنى العناصر التي يتكون منها الإعجاز البلاغي الذي يحيط بالنظم القرآني وكلِّ نظم آخر يقتدي به أو يقتبس منه، ويسعى لبلوغ ما بلغه من مراتب السمو في الإبداع الفني ...
ولا يسعني ههنا إلاَّ تأكيد ما قلْتُه من قبل بموسوعية الطرح والمعالجة، وبالنظرة شبه الشمولية التي يتطلبها الدرس البلاغي، ويُفْضي إليها؛ وبخاصة علم المعاني الذي يفترض الإلمام بإحكام، بمختلف علوم اللغة وقواعدها. ذاك أنه الأصل والقاعدة وما سمِّي بمقتضى الحال. يؤكد ذلك تعريف السكاكي له بما يشبه إحاطة السِّوار بالمعصم، قائلاً:
"هو تتبعُ خواص تراكيب الكلام في الإفادة، وما يتصل بها من الاستحسان وغيره، ليُحترزَ بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما يَقتضي الحال ذكره".
ولو تأملنا معاني المفردات التي يتألف منها هذا التعريف، لظهر لنا المدى البعيد الذي يبلغه هذا العلم والمراحل التي ينبغي اجتيازها لتحقيق مضمونه ... وأكتفي بالشطر الأول من التعريف: "تتبُّع خواص تراكيب الكلام في الإفادة" وأترك القارئ يُنعم النظر وراء كل مفردة على حدة، فيدرك السُّبل التي عليه سلوكها أو الإحاطة بها، ولا سيما (تراكيب الكلام) التي لو فتحنا نافذة للتعرف إلى مضمونها وشرائحها التي تتناول الجمل والمفردات وأسس تشكيلها وتركيبها وتأليفها لتصبح نسيجاً دارئاً ما دونه من معان ومقاصد ... لأطَلْنا وأفَضْنا. وقِسْ على ذلكِ، كلآ من الإفادة، والاستحسان والاحتراز من الخطأ، ومقتضى الحال .. أفلا يتطلب منا ذلك: الطوافَ المتأني حول مجمل عناصر الكلام ووجوهه وسُننه وسبل تحسينه، وإضفاء البهجة والحياة فيمن حوله؟ ...
المنهج والطريقة


تندرج كتابة عبد القاهر الجرجاني البلاغية بعامة، وكتاب دلائل الإعجاز بخاصة، تحت عارضة العقل والمنطق، لأن كل شيء عنده قائم على إبداء الرأي وبسطة والتمثيل له، أو العكس، معتمداً القياس والاستنتاج، محكِّماً عقله وتفكيره، معتمداً المبادئ المعرفية التي يحكم بها البلغاء الحقيقيون، وما يحصله من عيون الشواهد الأدبية، يسبقها أو يواكبها الشاهد القرآني المعجز.
فكان أحياناً مستقرئاً، يبحث في التفاصيل والجزئيات وصولا إلى خلاصة الرأي وزبدة النظرية ... وأحياناً مستنتجاً، يطرح الرأي، وينصب ميزان الحكم ثم يعرض مفاهيمه وشروحه في بوتقة العقلي المستمد من ثقافته الفكرية التأملية ومقاربته الأشياء، فضلاً عن المنطق اليوناني الأرسطي الذي تشرَّبتْ به طائفة كبيرة من علماء عصره؛ ولكنه خفَّف من جفاء المنطق ورصانة العقل بما اكتسبه من لطافة الذوق ورهافة الإحساس. لنقرأْ له دفاعه عن نظريته في أن الفصاحة لا تكون للفظ إلاَّ باعتبار معناه:
"إن القارئ إذا قرأ قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيَبْاً} [مريم: 4] فإنه لا يَجد الفصاحة التي تجدها إلاَّ من بعد أن ينتهي الكلام إلى آخره؛ فلو كانت الفصاحة صفةً للفظ "اشتعل" لكان ينبغي أن يُحسَّها القارئ فيه حال نطقه به، فمحالٌ أن تكون للشيء صفةٌ، ثم لا يصح العلمُ بتلك الصفة إلاَّ من بعد عدَمِه. ومن ذا رأى صفةً يَعْرى موصوفُها عنها في حال وجوده، حتى إذا عُدِمَ صارت موجودةٌ فيه؟ وهل سمع السامعون في قديم الدهر وحديثه، بصفةٍ شرطُ حصولها لموصوفها أَنْ يُعدَم الموصوفُ؟ "
لا أغالي إذا قلت إِنَّ كل رأي صدر عن الجرجاني، وكل نظرية طرحها أو توصَّل إليها، إنما سلكَ في سبيلهما هذا المسلكَ القياسي الاستدلالي الاستقرائي،، في إطار من التحليل المنطقي والتفكير العقلاني ... بغض النظر عما يَؤُول إليه أو يستنتجه أو يؤسِّس عليه. ذاك مجال آخر يمكن فيه مناقشتُه وإخضاع ما يقول لميزان القناعة أو الرفض. إقرأ معي - إنْ شئتَ - مثالاً آخر؛ تحليله لبيت العباس ابن الأحنف، في بثَّ شجونه ومعاناته في إثر الحبيب:
سأَطلبُ بُعْد الدارِ عنكُمْ لِتَقْربوا ... وتَسْكُبُ عينايَ الدموعَ لِتَجْمُدا


وافقَ الجرجانيُّ الشاعرَ في الشطر الأول، بوجوب سَكْب الدمع مع الفراق، لكنه غالطه في مسألة الجمود قائلاً:
"إذا قال "لتجمدا" فكأنه قال: أحزنُ اليوم لئلاَّ أحزنَ غداً، وتبكي عيناي جهدهما لئلاَّ تبكيا أبداً؛ وغلط فيما ظنَّ؛ وذاك أنَّ الجمود هو أن لا تبكي العينُ، مع أنَّ الحال حالُ بكاء، ومع أنَّ العين يراد منها أن تبكي ويُشتكى من أن لا تبكي، ولذلك لا نرى أحداً يذكر عينه بالجمود إلاَّ وهو يشكوها ويذمُّها وينسبها إلى البخل، ويعدُّ امتناعها من البكاء تَرْكاَ لمعونة صاحبها على ما به من الهم ..
( ... ) وجملة الأمر أَنَّا لا نعلم أحداً جعل جمودَ العين دليلَ سرور وأمارةَ غبطة، وكنايةً عن أنَّ الحال حال فرح. فهذا مثالٌ فيما هو بالضدِّ مما شرَطوا من أن لا يكون لفظُه أسبقَ إلى سمعك، من معناه إلى قلبك، لأنك ترى اللفظ يصل إلى سمعك وتحتاج إلى أنْ تَخُبَّ وتُوضِعَ في طلب المعنى".
ربما لا أوافق شيخ البلغاء على نظرته التحليلية لجمود العينين ههنا - ذاكَ أن حالة الجمود والصورة التي رسمها ابن الأحنف، كامنتان في وجدان الشاعر ومخيِّلته، إذ قد يكون قصد إقامة معادلة متوازية بين البعد والقرب من جهة، والانسكاب والجمود من جهة ثانية، وأن الجمود حالة شخوصٍ واشتدادِ نظر تسمَّرَ إلى الأفق البعيد، حيث طيفُ الحبيب، أو إلى ما حوله ... لكنَّ أحداً لا يسعه الجدالُ في المنطق التحليلي الاستنتاجي الآسر الذي بسطه الشيخ عبد القاهر بكثير من دقة المُعَاينة وإحكام المُسَاءلة ...
إنَّ العقل عنده سيد الرقابة والتوجيه والحكم في العلاقات والاختيار والتنسيق، وترتيب المعاني وما يناسبها من الألفاظ. كيفما التفتَّ إلى سياق نظريته البلاغية وصياغة أصولها، وجدتَ العقلَ رأساً في ذلك، لا يتحول عن مساره أو يَخْبو له ضوءٌ لدى أية مناقشة أو محاجَّة. فهو لا يفتأ يذكر العقلاء في كل خلاصة أو استنتاج يعتمدهما في طرح آرائه، وبسط الأدلة والشواهد: حتى الفصاحةُ، عنده، لا تُدرك إلاَّ بالعقل:


"هذا فنّ من الاستدلال لطيف على بطلان أن تكون الفصاحة صفةً للّفظ من حيث هو لفظ: لا تخلو الفصاحة من أن تكون صفة في اللفظ محسوسة تُدرك بالسمع، أو تكون صفة فيه معقولةً تُعرف بالقلب. فمحال أن تكون صفةً في اللفظ محسوسة؛ لأنها لو كانت كذلك، لكان ينبغي أن يستوي السامعون للفظ الفصيح في العلم بكونه فصيحاً. وإذا بطلَ أن تكون محسوسةً، وجبَ الحكْمُ ضرورةً بأنها صفة معقولة، وإذا وجبَ الحكم بكونها صفةً معقولة، فإنّا لا نعرف صفةً يكون طريقُ معرفتها العقلَ دون الحِسّ، إلاَّ دلالته على معناه؛ وإذا كان كذلك، لزم منه العلمُ بأنَّ وصْفَنا اللفظ بالفصاحة وصفٌ له، من جهة معناه، لا من جهة نفسه. وهذا ما يبقى لعاقلٍ معه عذرٌ في الشك، واللهُ الموفق للصواب".
أرأيتَ إلى هذا المنهج العقلاني الدقيق المطَّرد، وقد اعتمد الاستنتاجَ فيْه عندما انطلق من مقولته - في السطر الأول - "بطلان أن تكون الفصاحة صفةً للفظ كلفظٍ"، ثم راح يبسط نظرته ويعرض لاحتمالٍ ثم يستنتج، بصورة تتابعية موضوعيةٍ لا خلل فيها ولا التواء، حتى انتهى إلى ما انتهى إليه وقد استراح قلقُه وابتردت طاقاتُه في البحث والتدليل، كما استراح معه القارئ واستشعر القناعة اللازمة.
أثبت الجرجاني، أنه، في معظم ما شرح وأوضح، وبرهن ودلَّل وعلَّل ... كان في وضع الباحث المنهجي، والمحاضر الممتاز يقدِّم معارفَه لطلبته بكل صبر ورويَّة، متوخياً على الدوام الإِقناعَ والإفادة، "متخوفاً" أو قل: متوجِّساً من أن يكون كلُّ ما جهد في سبيله، عرضَةً للضياع في مهب الريح، حتى وصل به الأمر في مطلع أحد الفصول، في باب اللفظ والنظم، إلى تكرار التنبيه ومعاودة وصاياه المتتابعة، في مطلع كل فصل ونهاية كل فقرة، كأنما هو في وادٍ والقارئ في وادٍ ... فكانت هذه الكلمات التي تزخر باليقظة والإلحاف والتأكيد على كل ما يملك من مشاعر الحرص على سلامة المعارف التي يطرحها قائلاً:


"واعلمْ أني على طول ما أعدتُ وأبدأتُ، وقلت شرحتُ في هذا الذي قام في أوهام الناس من حديث اللفظ، لربما ظننتَ أني لم أصنع شيئاً ( ... ) وهذا والذي بيِّنَّاه وأوضحناه، كأنك ترى أبداً حجاباً بينهم وبين أن يعرفوه، وكأنك تُسمعُهم منه شيئاً تَلفِظُه أسماعُهم، وتُنكره نفوسهم، وحتى كأنه كلما كان الأمرُ أَبْينَ كانوا عن العلم به أبعد، وفي توهم خلافه أَقعد؛ وذاك لأن الاعتقاد الأول قد نشب في قلوبهم وتأشَّب فيها، ودخل بعروقه في نواحيها، وصار كالنبات السوءِ الذي كلما قلعتهُ نبتَ".
لكأنه دائماً في حوار جدلي كلامي مع قارئ يتمثله، فيخاطبه ويحاجُّه في مثل حلقات المتكلمين المسلمين في مطالع عهدهم. ومن الصعب على القارئ مخالفته، لأنه يمسك بأطراف القناعة والبرهان، فيدلي، ويطرح، ويبسط بكل تؤدة وحسْن مراجعة.
ولا يفوتنا الطريقة التي لا تختلف في شيء عن الدرس الصفّي الذي يقتضي التمهيد والرأي الجزل والمثال العلمي البلاغي، الذي يتناوله من غير جانب، حتى إذا أعوزه الإقناع الكلّي، عمد إلى التفسير الإعرابي النحوي المُفضي إلى حسْن فهم الكلام، وربط أجزائه بعضها ببعض.
ومن الإعراب النحوي، إلى الإعراب الإسناديّ الذي يجعله مستوطن البغية التعبيرية؛ وإلاَّ اختلَّ السياقُ؛ ومثله الإعراب البياني الذي اعتمد - في حيز كبير منه على تحليل لغوي يصل حد الوقوف الدقيق عند بعض الحروف ... وبوسع القارئ الاهتداء إلى مختلف وجوه الإعراب لدى مطالعته لأي فصل، فسيجد ما هو أكثر من ذلك وأبعد، كالإعراب المعنوي (أي تقليب المعاني واستبدال بعض الكلمات، لتبيان ما يذهب إليه) والإعراب النفسي وبخاصة في الصفحات الأخيرة بحيث ينتهي إلى (الفروق والإحساس الروحاني) بما لم يسبق إليه ...
الأساليب
تناولت الفقرة السابقةُ مسألةَ المنهج والطريقة من غير فصل بينهما، لشدة ترابطهما وتداخلهما في نسيج يسمح لي بالقول: إنه نسيجُ وحده. وها أنذا أُوضح ما هو أدقُّ وأقرب إلى الشرح التطبيقي لما تضمنته الفقرة السابقة، ولما قلتُ: "إنه نسيج وحده".


في معرض كلامه على الاحتذاء عند الشعراء تعريفاً وتطبيقاً، عرَّف الجرجاني الأسلوب بوجازة متناهية فقال: "والأسلوبُ الضربُ من النظم والطريقة فيه".
أمام هذا التعريف المكثف والمقتضب في آن، أتساءل بنسبة عالية من التفكير والتأمل: هل بالإمكان التحقق من تطبيق هذا التعريف على نص الجرجاني و "دلائله"؟ أيْ: هل يمكن اعتبار الكتاب: نظْماً آخر على غرار ما أَوردَ من نصوصٍ وأحكام وخلاصات؟
والجواب: ليس هناك ما يمنع، إذا قمتُ بسبْرِ أغوار نسيجه اللغوي المحْكم، والنظر إليه بنفس المقياس الذي استخدمه مع عدد كبير من الآيات القرآنية والشواهد الشعرية ...
ولعلي أقترب من الجواب أكثر، إذا استطعتُ التعامل مع النص بشيء من التحليل المرتكز على تسليط الضوء على خيوط هذا النسيج وتنوع وجوه الحبكة فيه ومقتضيات الصنعة فيه، أعرض ذلك كله وفقاً للعناوين والفقرات الآتية:
* الحبْك المتشابك وتداخل الجمل
تميز أسلوب الجرجاني بما أُسمّيه الحبك المتشابك المطَّرد، في جمل متتابعة وأغراض متداخلة، الأمر الذي يورث القلق في المتابعة، والالتباس في القصد. فتجتهدُ لمعرفة طبيعة الفعل: أهو للمجهول أم للمعلوم، وفي إلحاق الضمير بهذا الاسم أم بغيره ... فتقف حائراً مفكْراً في ضبط الكلام وإعرابه وتأويله - لأنَّ كلَّ ما يُفهم من السياق، إنما يرتبط بصورة مباشرة بحسْن إعرابنا الكلامَ، وربطِ جُمله وعباراته. ولولا تدخل الإمام عبده والمصحح رضا في تنوير القارئ ببعض الحواشي الموضحة، لبقي كثير من النصوص شبه مُقْفلٍ، بسبب تعذر تشكيل بعض المفردات، وغياب علامات الترقيم التي تكمِّل التشكيل وتُزيل الالتباس، كأنما بعضُ العلامات، حركات إعرابية نيّرة.
من ذلك وقوفُه شبهُ المستهجن أمام رأي الناس في جعل الاستعارة هي وحدها التي تميَّزتْ بالشرف المستمد من الآية الكريمة: {وَاشْتَعَلَ الرَّأسُ شَيَبْاً} [مريم: 4] وجوابه:


"وليس الأمرُ على ذلك - ولا هذا الشرف العظيم ولا هذه المزية الجليلة وهذه الروعة التي تدخلُ على النفوس عند هذا الكلام لمجرد الاستعارة، ولكن لأن يُسلك بالكلام طريقُ ما يسند الفعل فيه إلى الشيء وهو لما هو من سببه، فيرفع به ما يُسند إليه ويُؤتى بالذي الفعلُ له في المعنى منصوباً بعده مبيناً أن ذلك الإسناد وتلك النسبة إلى ذلك الأول إنما كان من أجل هذا الثاني ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسة".
لن أشكو من الصعوبة التي اعتورَتْني وأنا أقرأ هذا المقطع. فالشكوى غير مقبولة من دارسٍ متصدِّ لنص كنصِّ الجرجاني - إنما كان عليَّ القراءة المرة تلو المرة لتشكيل حروفها ووضع علامات الوقف بين الجمل والعبارات ... وقد شئتُ أن أنقل هذا المقطع من دون ضبط ليدرك القارئ نمط الكتابة لدى الجرجاني وأسلوبه المتشابك الذي، ولو شُكِل كما يجب، بقي على قدر من الإشكال والتداخل وبخاصة لقرَّاءٍ: من الدرجة الدنيا حتى درجة جيدة - أي لا بد من نسبة عالية من المعرفة النحوية والتمرس بقراءة نصوصٍ كالتي واجهتني في هذا الكتاب الذي أزعم أن ضبطه وحده، من دون أي عمل آخر، كفيل بتحقيق الفائدة المرجوة وإن متواضعة. فمن يقرأ جيداً يفهم جيداً، فيما خلا بعض المفردات أو المصطلحات التي تكفلت المعاجمُ وكتب التفسير بشرحها.
وما كان من إضافة الحاشية في سياق المقطع، ونقلها كما جاءت في هامش الصفحة المطبوعة في الطبعة المصرية، إلاَّ إلحاقُ الإشكال بالإشكال، بسبب غياب التشكيل والترقيم حتى في الحواشي، كالذي يدور على نفسه ولا يتقدم خطوة إلى الأمام.
* تعقيد التركيب اللغوي بسبب دخول (كان) على (كان) غير المحدود في الكتاب


في كتاب "فقه اللغة وأسرار العربية" الذي صدر عن المكتبة العصرية مطلع عام 1999 بعنايتي، دوَّنتُ ملاحظة لغوية لافتة هي: إدخال الثعالبي فعل (كان) الناقص على (كان)، مباشرة، وقلتُ معلقاً على جملة وردت في الكتاب، وهي "وإذا كانت تكون في وسطهنَّ فهي دَفُون" "لعلها المرة الأولى التي دخل فيها فعل "كان" (بالمضارع) على نفسه بالماضي. وإذا بي أفاجأ بأن هناك عدداً كبيراً من المرات، دخلت فيها (كان) على (كان) حتى أصبحتْ من صلب أسلوب الجرجاني، مع قناعتي بأن هذه الصيغة غير مستساغة، لأنه بالإمكان وضع فعل آخر مكان فعل الكينونة الثاني الذي غالباً ما يعني: وُجدَ، حَدَث، حصل الخ ...
كقوله، في باب "الفصل والوصل":
"وإنْ لم يكونوا كذلك، لكان لا يكونُ عليهم مؤاخذةٌ فيما قالوه من حيث كانت المؤاخذة تكون".
وقوله في فقرة: (الكناية أبلغ من التصريح):
"وذكرتُ أن السبب في أنْ كان يكون للإثبات، إذا كان من طريق الكناية، مزيَّة لا تكون إذا كان من طريق التصريح".
أفلا يمكن أن يقال، مثلاً
(وذكرتُ أن السبب في أن كان يحصل للإثبات، إذا كان من طريق الكناية، مزية لا تحصل، إذا كان من طريق التصريح) ...
وقوله، مطلع الكلام على الفصل الخاص "بكشف الشبهة للقائلين بأن الفصاحة للألفاظ":
"إنْ كان اللفظ إنما يَشْرف من أجل معناه فإنَّ لفظ المفسِّر يأتي على المعنى ويؤديه لا محالة. إذ لو كان لا يؤديه، لكان لا يكون تفسيراً له".
أليس قولنا: (لو كان لا يؤديه لما كان تفسراً له) أسوغَ وأعلقَ، فنتخلَّصَ من دخول (لام الجواب) في "لـ كان" على مضارع منفيِّ؟ ... وهكذا في عشرات الصيغ التي تشيع في الكتاب من أقصاه إلى أقصاه.
*أسلوب التطويل والتكرار في صيغ الشرح


تكرار الكلام والجمل المفسِّرة الموضِحة، سمةٌ غالبة في أسلوب عبد القاهر الذي اختطَّ لنفسه هذا المنحى انطلاقاً من فكرة الفلسفي الذي يسعى دائماً إلى كشفِ الحقيقة. فما باله وقد نَدَب نفسه لتثقيف أبناء عصره، وتفتيح كوى الأذهان نحو علم لم يكن له وجود نظاميِّ من قبل ... ألا وهو علم المعاني الذي نبتَ على جذوع علم النحو نباتَ إخصابٍ وإثمار، لا نباتاً طفيلياً، فإذا به يستقل عن أصله وجوهر وجوده، ليلتحق بعلوم البلاغة ويتصدر هذه العلوم، بعد أن انصرف النحو بأكبر قدرٍ من عنايته، إلى قضايا الإعراب. الأمر الذي حدا بعبد القاهر إلى إعادة العلاقة إلى أصلها وطبيعتها؛ وحسَناً فعلَ لأنه ما انفكَّ في مختلف فصول الكتاب يربط بإحكام بين "المعاني" والنحو ربطاً لا نكاد نشعر باستقلال الواحد عن الآخر، فنَسوغُ النحوَ، من جهة، ونفهم علم المعاني، من جهة ثانية. وبمعنى آخر أضفى الجرجاني على الخطاب البلاغي مسحة من الأصولية العربية التي تعبِّر أفضل تعبير عن غنى القدماء وإقبالهم على كل ما يؤدي إلى الينابيع، واعتبار علوم العربية وحدةٌ متكاملة يؤدي بعضُها إلى بعض ويكمل بعضُها بعضاً: فلا بلاغة من غير "معان"، ولا "معاني" من غير نحو، ومن النحو إلى الصرف، ومنه إلى فقه اللغة، انتهاءً بلغة العرب المشروحة في المعاجم والموسوعات اللغوية: حلقةٌ أو قل: سلسلةٌ مترابطة منتظمة في عِقْدٍ، إن فُقدت منه حبة أو جوهرة، انفَرَط العقد، واختلَّ المسار.
ولم يكتف علاَّمتنا بهذا الإنجاز التاريخي، بل تفوق على نفسه، فوق تفوقه على علماء زمانه، فأوجد ما سمِّي النقد الذوقي الجمالي الذي جمعه إلى قواعد النحو وأساسيات البلاغة بمختلف علومها وتفرعاتها، من غير فصل أو مفاضلة ... فكان من الفطرة السليمة والطبع النقي والذوق النادر ما جعله يستنكف عن جفاء الصنعة الكلامية وأسلوبها الفلسفي الذي ساد عصره.


وأرى أنَّ هذه الصفحة المشرقة والمدماك الشامخ في صرح العربية قد حاز من الإجلال والإعجاز ما يدفع القارئ إلى تسجيل أية إشارة غير منسَجمة مع نسِيجه البليغ وفكره السديد، كالتطويل في الجمل من جهة وتكرار صيغ الشرح من جهة أخرى. ومن هذا القبيل قوله في فقرة (عَود إلى مباحث إنما) في باب القصر والاختصاص"
" ... وذلك أنك ترى أنك لو قلت: ما جاءني زيد وإنَّ عمراً جاءني: لم يُعقل منه أنك أردتَ أن الجائي عمرو لا زيد".
وكان بإمكانه القول: (لأنك لو قلتَ) مُستغْنياً عن الجملة التي سبقت، ومتخلِّصاً من تكرار "أنك" المتتابعة مرتين.
ومثله تعليقه على "إنما" في الآية {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا في الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُون} [البقرة: 11] "دخلتْ (إنما) لتدل على أنهم حيث ادَّعوا لأنفسهم أنهم مصلحون أَظهروا أنهم يدَّعون من ذكر أمراً ظاهراً معلوماً".
هذا التكرار المتقارب لـ "أنهم" يورث الثقل في التركيب - وأُفضِّل لو نوَّعَ فاستخدم المصدر المؤوَّل بعدها. مثال: (حيْن ادَّعوا لأنفسهم الإصلاح).
ومن التكرار الواضح الذي نُطالعه بكثرة وبخاصة في المثال النحوي "الشهير": "ضربَ زيد عمراً" الذي لو أحصينا عدد المرات التي ورد فيه كلٌّ من [ضرب] و [زيدٌ] و [عمرو] لعَيينا عن ذلك ...
ولا أرى ضرورة لضرب مثال على ذلك ... ولكني أورد مثالاً لتكرار الفكرة مع لفظها في الصفحة الواحدة، بل في المقطع الواحد؛ وعندما أقول بالتكرار، إنما أقصد إلى هذا المدى الضيق؛ ففي كلامه على (الفرق بين معنى المفسَّر ومعنى التفسير) نقرأ له:
" ... كان للمفسَّر فيما نحن الفضلُ والمزية على التفسير، من حيث كانت دلالة في المفسَّر دلالةَ معنى على معنى، وفي التفسير دلالة لفظ على معنى".
ثم يقول، بعد أربعة سطور، من التعقيب:
"ولا يكون هذا الذي ذكرتُ أنه سبب فضل المفسَّر على التفسير من كون الدلالة في المفسَّر دلالة معنى على معنى، وفي التفسير دلالةَ لفظ على معنى، حتى يكون للفظ المفسَّر معنى معلوم يعرفة السامع ... "


ومن صيغة التي يستخدمها باستمرار، في الفصل الواحد، وفي الفقرة الواحدة، مفردات وجمل نادراً ما يتخلَّى عنها أو يبدِّل فيها، وقد حاولتُ تعدادها فبلغت نحو ثلاثين صيغة بعضها للبدايات كـ "إِعْلَمْ" و "معلومٌ أنه" و "لا شُبْهَة في أنَّ" ... وبعضها للخواتيم والخلاصات كـ "وجملةُ الأمر" و "فاعرف ذلك" أو فاعرفْه" وهي الأكثر شيوعاً.
وبعضها في الشرح والتحليل الداخلي وهي الغالبة في الاستعمال، مثال:
"أفلا ترى"، و"إذا كان الأمر كذلك فينبغي"، "مما لا يَخْفَى فسادُه" و "إذْ قد عرفت ذلك" - وهي لا تكاد تخلو منها صفحة واحدة - "المحال"، "الفضل والمزيَّة"، "وإذا كان ذلك كذلك" و "لو أنهم"، "ولو فعلوا"، "لا يخفى على عاقل"، "وإن قال قائلِ .. قيل .. " "كما بيَّنَّا"، "يُتصور" - التي لا حصر لاستعمالها لديه - "البتَّة"، "عمدَ عامدٌ"، "مِن أجل ذلك"، "معلوم أنه"، "وأنا أُفسِّر لك ذلك"، "ولا شبهة في أن"، "وههنا كلام ينبغي أن تعلمه" الخ ...
هذا الكم المذهل من الصيغ الواردة أعلاه، يشكل لبنةَ العبارة الجرجانية ومفاتيحها ومغاليقها، ما إن تقرأ وتتابع القراءة حتى تشعر أنك مع كاتب تراثي من طراز خاص، عني بأفكاره ومقاصده عناية خاصة جعلته أمام هذه الصيغة وتلك، كالملوِّح بالمشاعل في مغربيَّةٍ - والدنيا خافتة الضوء والرؤية - كي يتضح كلُّ شيء على خير ما يرام، ويُوضعَ كلُّ شيء في موضعه الصحيح.
وإن فاتنا شيء في هذا الصدد، فلن يفوتَنا تكرار تعريف النظم وقواعده بقوله: (ليس النظم شيئاً غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم).
* انشغاف المؤلف بصيغة المجهول


هناك عدة صيغ أو أبنيةٌ للمجهول، أشهرها ما هو في بناء الفعل، وما هو في صيغة أو زِنة [مفعول]؛ وقد يكون بصورة غير مباشرة عندما يكون الخطاب أو الكلام موجهاً إلى كائن غائب غير محدَّد الهويَّة، كقولنا: (ومن الناس من يفضِّل كذا أو يفعل كذا). أو يكون زنة [تفعَّل] كـ: (تَبيَّنَ) وزِنة [انفعل] كقولنا: (ينسحب هذا الرأي على غيره) وغير ذلك من صيغ النحو المتعددة التي تجري على ألسنة الكتاب، فيبتعدون عن التصريح بالفاعل، ويجنحون إلى التعميم والتكنية، لِسَعة الأفق والتناول، في جانب التعميم، وضيق المدى المنشود، في جانب التصريح ..
وقد استخدم علاَّمتُنا في كتابه، مختلف الصيغ المعروفة في تراكيب الكلام، مصرِّحاً أو مكنِّياً مُعمِّماً. إلاَّ أن نسبة البناء للمجهول قد تجاوزت عنده الحد المألوف في كتابات القدماء وطبعت كتابته بما يشبه الهاجس من الظهور بمظهر المخاطِب (بالكسر) المتسائل، الناقِد، الرائي، المستغرب، الملخِّص، المستنتج (بالكسر) .. أي يتحاشى أن يكون هو مصدرَ هذه الفِعال والقائم بها مباشرة .. فينسبها إلى آخر غائب غير معيَّن ولا معروف، مفرداً كان أم جماعة، كقوله في تناوله الأول لموضوعه النحو، واصفاً مُخْبراً، تارة، أو مخاطباً تارة أخرى:
"فإنْ قالوا: إنَّا لم نَأْبَ صحة هذا العلم، ولم نُنكر مكان الحاجة إليه في معرفة كتاب الله تعالى، وإنما أنكرنا أشياء كثَّرْتُموهُ بها، وفضولَ قولِ تكلَّفتموها .. ( ... ) قلنا لهم أمَّا هذا الجنس فلسنا نعيبكم إن لم تنظروا فيه ولم تُعنوا به، وليس يهمنا أمره .. "
وقوله، في الكلام على (الاستدلال بالاستعارة والكناية والتمثيل) جامعاً معظم الصيغ والضمائر المجهولة:
"يَعلمُ كلُّ عاقل أنه لا يُكنَّى باللفظ عن اللفظ، وإنما يكنى بالمعنى عن المعنى - وكذلك يعلم أنه لا يُستعار اللفظُ مجرداً عن المعنى، ولكنْ يُستعار المعنى ثم اللفظُ يكون تبْعَ المعنى ( ... ) وكذلك الأمرُ في التمثيل لأن تفسيره أن نذكر المتمثَّلَ له".
وقوله في فقرة الكلام على (الفرق بين معنى المفسَّر ومعنى التفسير) مستغرقاً في صيغتْي المضارع والماضي للمجهول:


وكان من المركوز في الطباع والراسخ في غرائز العقول، أنه متى أُريد الدلالة على معْنى، فتُرك أن يُصرَّحَ به ويُذْكَر باللفظ الذي هو له في اللغة، وعُمد إلى معنى آخر فأُشير به إليه، وجُعل دليلاً عليه، كان للكلام بذلك حسْنٌ ومزية لا يكونان إذا لم يُصنَع ذلك وذُكر بلفظه صريحاً".
وإذا كان ما قدَّمتُ من شواهد الانشغاف بالمجهول وصيغه، مسألة جارية في نثر القدماء ومخاطباتهم، فإنني أرى له انشغافاً حقيقياً باستخدام الفعل المضارع للمجهول "يُتصوَّر" بصورة لافتة تومئ بانشداد خاص لها، لا يكاد يفتر لسانه عن استعمالها مراراً أو تكراراً في الفصل الواحد، والفقرة الواحدة، والصفحة الواحدة. وما على القارئ إلاَّ القراءة والمتابعة ... ومما انتقيتُه من الأمثلة الساطعة، كلامُه في: (الإسناد وتحقيق معنى الخبر) في فضْل (التفاضل في نظم الكلام) وكذلك في (الخبر والمُخْبَر به) من الفصل نفسه، ما لا يسع القارئ إلاَّ الحيرة والذهول من كثرة ما ردَّدَ وأسرف في استعمال الصيغة المذكورة، حيث بلغ تعداد هذا الاستعمال، في صفحتين متتاليتين: عشر مرات، ما عدا الصيغة التي تؤدي مؤداها "يُعْقَل" و "يُعْرف" "ويقدَّر".
* استخدام (أنْ) المصدرية و (إنَّ وأَنَّ وكأَنَّ) بصورة غالبة
بقدر ما شاعتْ عنده صيغ البناء للمجهول، وبخاصة صيغة المضارع "يُتصوَّر"، شاع أيضاً ورُود الحروف المذكورة في عنوان الفقرة، وبنسبة تفوق سابقتها أحياناً كثيرة، تجعل القارئ يتساءل بنفس الحيرة والذهول: لماذا هذا الاحتفاء بـ (أنْ) الناصبة و (إنَّ وأنَّ وكأنَّ) وما هي إلاَّ حروفُ وصْل ووسائطُ تعبير يؤتى بها لضرورات بلاغية شبه محدَّدة، ووفقاً لأحوال ومقتضياتٍ دقيقة؟؟
قد يُفهم خطأً أنني ألْفِتُ إلى غلَط لغوي وقع فيه الجرجاني أو إلى هشاشة شابتْ أسلوبه. حاشاه من ذلك، وحاشاي أن أقوم بهذه اللفتة أو المحاسبة!


إنه من محصلة القراءة والتأمل في طبيعة النص وخصوصية التعبير فيه، سواء أكان مُريحاً أم مُتْعباً. وفي اعتقادي، أنَّ السبب في الاحتفاء يعود إلى حرص المؤلف على تخليص خطابه من أي أثر أو عائق يُعيق توصيلَ النظرية إلى قراء جيلة ومن يليهم من الأجيال، ليس بنقل هذه النظرية بأوضح ما يكون من اللغة والأداء فحسْب، بل بجعل اللغة التي تتولَّى النقل والترجمة، نموذجاً فنياً بلاغياً يُحتذى؛ كونُ هذه اللغة قد راعت الأصول ونهلتْ من قبس القرآن، الكثير من سحره البياني ووضوح الأفكار وتتابُعها العقلاني.
ومع ذلك فقد بالغ الجرجاني في استعمال هذه الحروف، وبخاصة (أنْ) الناصبة المؤولة، حتى لنجدُه يحشدها حشداً في الصفحة الواحدة، وأحياناً في الجملة الواحدة، كقوله في مطلع فصل (القول في التقديم والتأخير):
"ولا تزال ترى شِعراً يروقك مسْمَعُه، ويلطف لديك موقعه، ثم تنظر فتجد سبب أَنْ راقكَ ولطفَ عندك أن قُدِّم فيه شيءٌ وحُوِّل اللفظ عن مكان إلى مكان".
ألم يكن أخفَّ لفظاً وأسوغ تعبيراً، لو قال: (فتجدُ سببَ إعجابك به ولطفه عندك، تقديم شيء فيه وتحويل اللفظ)؟
وقوله، في الفصل نفسه، في معرض اهتمام الناس بالمُهمِّ والأهم، فيقدِّمونه في الكلام، كهذا المثال المعبِّر: "قَتَلَ الخارجيَّ زيدٌ" ولا يقول: (قتلَ زيدٌ الخارجيَّ) لأنه يعلم أنْ ليس للناس في أنْ يعملوا أنَّ القاتل له زيدٌ، جدوى وفائدة .. "
لاحظ تتابع حرفَيْ النصب والمشبه بالفعل في جملة واحدة لها سياق معنوي واحد هو: (يهمُّ الناس معرفة مقتل الخارجي لكثرة فساده. ولا يهمهم من قتله وكيف) كما يمكن صياغة الجملة على الوجه الآتي تفادياً لثقل تكرار (أَنْ) مرتين و (يعلم) مرتين:
(لأنه يَعْلم أنْ ليس للناس فائدة من معرفة القاتل) .. لكنه الأسلوب الجرجاني لا مناصَ من قبوله والنسج على منواله في كثير من المواضع والحالات التي تتطلب دقة في القصد ونصوعاً في أداء الفكرة.
وقوله، وفي نهاية هذا القول هيئةُ التباسٍ لتداخل أغراض الكلام بين الجمل، ما جاء في فصل: (تقديم النكرة على الفعل وعكسه):


"واعلم أنْ لم نُرِدْ بما قلناه من أنه إنَّما حَسُنَ الابتداء بالنكرة في قولهم: "شَرٌّ أهرَّ ذا ناب"، لأنه أُريد به الجنس أَنَّ معنى شرٌّ والشرُّ سواءٌ، وإنما أردنا أنَّ الغرض من الكلام أن تبيِّن أنَّ الذي أهرَّ ذا الناب، هو جنس الشر لا جنس الخير".
تسعُ حروف "أنْ" و "أَنَّ " و "إِنَّ" بقدر ما عملتُ على توضيح المراد في قلب الكاتب، أوقعتِ القارئ في وطأة البحث عن ترابط المعنى واستيعابه بيُسْر ..
ويمتاز أسلوب الجرجاني في هذا الصدد، بنمط آخر شاع في آثار القدامى، وندَرَ حديثاً، ألا وهو مَيْله إلى ما سمَّيتُه "الجواب المستدير أو المداوِر" فيعبّر عن المعنى من فوق المعنى أو من حوله، كقوله أثناء شرحه وتحليله لقول الناس: الشجاع موقَّى والجبانُ مُلقَّى":
" ... ليس القصدُ أن تأتي إلى شجاعات كثيرة ( ... ) بل المعنى على أنك تقول: كنَّا قد عقَلْنا الشجاعة وعرفنا حقيقتها ( ... ) ولو كان المعنى على أنه استغرق الشجاعات ... كما قالوا إنه بمعنى الكامل في الشجاعة، لأنَّ الكمال هو أن تكون الصِّفة على ما ينبغي أن تكون عليه .. ".
يقتضي التعبيرُ المباشر أن يقال: ( ... بل المعنى أن تقول: كنا قد عقلنا .. ولو كان المعنى استغراق الشجاعات، لما قالوا ... )، فلم يرقْ ذلك لأبي بكر الجرجاني، بل رسمَ لمقصده الفكري دائرةً عرَّج بها على المعنى، أو قفَز من فوقه بوساطة حرفِ الجر "على" تاركاً في فضاء المدى تموُّجاتِ سؤال حائرٍ عن البعد البلاغي لمثل هذه الصيغة اللغوية المستعلية على ذاتها الباحثة عن غور حقيقةٍ تستقر فيه!!


وأخلصُ إلى القول: إن أسلوب الجرجاني جدول ماء يتدفق في نغمية متنوعة وحركة متفاوتة السرعة بحسب الحالات والمراحل التي يقطعها والأوقات والفصول التي تصاحبه، فهو هادئ مبسَّط، كالشروح الصفِّية عندما يتعلق الأمر بالكشف والتوضيح والجري فوق هضاب فسيحة الأرجاء، وضيئة الجنبات. ومكثفٌ متداخل إلى حدود المعاظلة، عند التوقف أمام المسائل الجوهرية التي اختلف فيها مع عامة المتعاملين بالشأن اللغوي البلاغي، فصرف لأجلهم كل طاقاته وحنكته وبراعته في العرض والدفاع ودحض الحجج القوية الراسخة بفعل البلادة الذهنية وسيادة التقليد. ومثله النهر الصاخب المزبد الذي يرتطم بالصخور والنتوءات وهو يَنْصبُّ من علوِّ شاهق، فيصطفق موجه، وتبيضُّ مياهه، لتعودَ إلى صفاءٍ ورواء فوق السهوب والمنفسحات السَّفحية.
كقوله فيما يشبه العزْفَ على شبَّابة أو ربابٍ مختلجة الخفق: "إنَّا قد علمنا علْمَ ضرورةٍ أنَّا لو بَقينا الدهرَ الأطول، نصعِّدُ ونُصوِّبُ، ونبحثُ وننقّب، نبْتغي كلمةً قد اتصلتْ بصاحبةٍ لها، ولفظةٍ قد انتظمت مع أختها، من غير أن نتوخى فيما بينهما معنىً من معاني النحو، طَلبْنا مُمْتَنِعا، وثَنيننَا مَطايا الفكر ظُلَّعا".
ملاحظ نقدية بين الإعجاب والإغراب


إنَّ ما سطره القلم حتى الآن، في هذه المقدمة، لا يخرج عن كونه نظرةً أفقية على شيء من التغوُّر، عرضتُ فيها العناصر التي تكوَّن منها الكتاب والجهود التي بذلتُها، وكذلك المبذولة من الشارحَيْن الإمام عبده والشيخ رضا، معرِّجاً على المنهج المتَّبع والأساليب المسلوكة .. ولم أقم بتقويم الكتاب ووضعه في ميزان النقد المنهجي الأكاديمي ... ولا أظنني فاعلا شيئاً من هذا القبيل، في السطور الآتية، لأن ما أودعه عبد القاهر الجرجاني في هذا السِّفر النفيس، لا يليق به سطورٌ أو صفحات لتقويمه واستخراج لآلية وفرز الزبد الطافي على السطح. الأحرى أن تُدبج لذلك، الكتب والبحوث المعمَّقة .. جلُّ ما أبتغيه ههنا عَرْضةٌ نقدية متواضعة أعدِّد فيها بعض سمات الفضل والمزيد التي تتهادى بها أعطاف الكتاب، فتتمايل ذات اليمين وذات الشمال، وما على العابر إلى تخومه إلاَّ اعتلاء بضع درجات ليصبح القطف على ملمس يديه ومرمى نظره. وما قصدتُه في العنوان لا تورية فيه ولا إيحاء أو تكثيف. إنها ملاحظ: أي نظرات شبه تأملية في جوانب الحسْن والإجادة التي تصل بالقارئ حدَّ الإعجاب، ومثلُها في جوانب أخرى شحَّتْ فيها قنوات التجلِّي المبدع وجنحْت إلى تعمُّلِ في القول وتعسُّف في الشرح وتقرير الحكم، ستسعى هذه الفقرة إلى تبيانها بالقدر المتاح من غير عنت أو مبالغة.


أولاً: جوانب الإعجاب
* إسهامه المعجب الأول: النظم: نظريةً وطبيعةً
النظم في اللغة، التأليف، وأصله: جمعُ الخَرز بعضِه إلى بعض في سِلْكٍ واحد. ويدعى النظام. وكل شيء قرنْتَه بآخر أو ضممتَ بعضَه إلى بعض، فقد نظمتَه. ومنه نظمُ الشعر وتنظيمُه.
النظم إذن، تأليف، أو جمعٌ وإضافة بمثل الاقتران، في نمط أو نسَقٍ معين يبعث على الرضى والارتياح، كنظم اللؤلؤ، والخرز، والكلام ومنه الشعر. ذاك هو منطلق الجرجاني ومرتكزه: تأليفٌ بطريقة محكمة العرى، متناسقة الشَّكل. لكنه أضاف مادة نظمية أخرى، هي آي القرآن الكريم التي رأى فيها النموذج المثالي لأي نظم لغوي، دفعه، كما دفع كل المشتغلين ببلاغة التعبير العربي، إلى عجز الإنسان العربي، بله الأعجمي عن مجاراة هذا النظم أو جزء يسير منه.
أمَّا وقد اقتنع الجميع بذلك، فقد عمدوا لا إلى الاقتداء والمحاكاة أو المجاوزة .. بل إلى درس الحقيقة التي تكتنفه والطبيعة التي تؤلفه .. فكان لنا إرث لغوي فنِّي جمٌّ. منبعه ومصبُّه: القرآن المحكم، ووجوهُه: علومُ العربية المختلفة، بينها البلاغة بفروعها، وأفانينها اللامحدودة.
واحد من البلغاء الأجلاَّء هو عبد القاهر الجرجاني أُعطي من القدرة والعبقرية ما جعله ينكبُّ على تراث العربية ونتاج شعرائها فيستخرج منه البنى اللفظية والمعنوية والتصويرية التي جرى بها اللسان وفقاً لأصول وأساليب مرسومة ومبتدعة، ويضعها في مقابل النتاج اللغوي الإلهي، فيرى عبقرية العربية التي وُضع فيها أجمل الصنائع، وأنَّ ذلك ناشئ عن قانون قديم تفجَّر بين حرور الرمال المحرقة، وظلال النخيل والواحات الوارفة؛ جعلهم يُبدعون قصائد شعرية لا نزال حتى اليوم عاجزين عن الإتيان بمثلها، وأُنزل القرآن بهذه اللغة وقانونها فزاد الألَقُ ورقيَ بهم النسقُ التعبيري إلى المرتبة التي اقتضتْ وضْعَ ما سمَّاه الجرجاني: "النظم" استناداً إلى الأصل اللغوي، وإلى القسمات الفنية المتسقة المتقنة التي استجلاها من قرائح الشعراء وعلماء النحو والبلاغة، ووشَّجها بالمثال القرآني المعْجز، وهذه حقيقته التي شرحها غير مرة في كتابه الخالد قائلاً:
"إعلم أن ليس النظمُ إلا أن تضعَ كلامكَ الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعملَ على قوانينه وأصوله، وتعرفَ مناهجَه التي نُهِجتْ فلا تزيغَ عنها، وتحفظ الرسوم التي رُسمتْ لكَ فلا تُخلَّ بشىء منها.
( ... ) فلا ترى كلاماً قد وُصف بصحة نظم أو فساده، أو وُصف بمزيةٍ وفضل فيه، إلاَّ وأنت تجد مرجع تلك الصحة، وذلك الفساد وتلك المزية وذلك الفضل، إلى معاني النحو وأحكامه".
ثم يختم كلامه بما أصبح لازمة ومنطلقاً لكل شرح وتحليل، ومحطَّ رحالٍ لدى كل جولة وكل محاضرة:
"وإذا ثبتَ جميع ذلك، ثبتَ أن ليس [النظم] شيئاً غير توخِّي معاني هذا العلم [النحو] وأحكامه فيما بين الكَلِم".


ولدينا في كتاب "الدلائل" نوعان من "النظم"، الأول إبداعي إنشائي مصدرُهُ الشواهد القرآنية والشعرية، والثاني، وصفي نقدي، مصدره الخطاب الأدبي البليغ الذي يصدر عن صاحبه صدورَ الشهد عن النحل، ولنا الكتاب كلُّه مثالاً غير محدود. ولكنني أقتطف مثالين صغيرين سريعين، مُحيلاً إلى فِقَرٍ لاحقة في هذه المقدمة، موقوفة على مقتطفات من صنيعه الجميل.
المثال الأول: "وأمَّا زهدُهم في النحو، واحتقارهم له، وإصغارهم أمره، وتهاونُهم به: فصنيعُهم في ذلك أشنعُ من صَنيعهم في الذي تقدم ( ... ) إذْ كان قد عُلم أنَّ الألفاظ مغلقةٌ على معانيها، حتى يكون الإعرابُ هو الذي يَفتحها، وأنَّ الأغراضَ كامنة فيها حتى يكونَ هو المستخرِجَ لها، وأنه المعيارُ الذي لا يتبيَّن نقصانُ كلام ورجحانُه حتى يعرضَ عليه، والمقياس الذي لا يُعرفُ صحيحٌ من سَقيمٍ حتى يُرجع إليه".
المثال الثاني: يتعلق بشرح شاهد قرآني، يعتمده لتأكيد علاقة اللفظ بالنظم: "وشبيهٌ بتنكير الحياة في هذه الآية، تنكيرها في قوله عزَّ وجلَّ: {وَلَكُمْ فِى القِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وذلك أنَّ السبب في حسن التنكير وأنْ لم يَحْسُن التعريفُ، أنْ ليس المعنى على الحياة نفسها، ولكنْ على أنه لمَّا كان الإنسانُ إذا عَلمَ أنه إذا قتلَ قُتِل، ارتدعَ بذلك عن القتل فسلم صاحبُه، صارتْ حياةُ هذا المهموم بقتله، في مستأنفِ الوقت، مستفادةً بالقصاص، وصار كأنه قد حَييَ في باقي عُمره، أي بالقصاص".
نعْمَ الشرحُ والتحليل، ونعْمَ العقلُ النَّيرُ الذي مدَّ صاحبَه بهذه الحَزْمة الضوئية نفذَتْ ببصره إلى ما وراء الألفاظ والمعاني، فأطْلع لنا حكمة الآية المحكمة، وجعلتْنا نقرأ في (القصاص) حياة على الرغم من كونه قد يكون قتلاً آخر ..
ونُدهش من جديد، وهو يستقصي الحكمة من ورود كلمة "حياة" منكَّرة، ليقرِّر مسألة دقيقة لا يلحظها إلاَّ العارف المتأمل، وهي وقْفُ (الحياة) على مرتكب القتل الذي اقتُصَّ منه، وليس على أي إنسان:


"لا يكون ارتداعٌ حتى يكونَ همٌّ وإرادةٌ، وليس بواجبٍ أن لا يكون إنسانٌ في الدنيا إلاَّ وله عَدوٌّ يَهمُّ بقتله ثم يردَعُه خوفُ القصاص، وإذا لم يجب ذلك، فمن لم يَهُمَّ بقتله فكُفيَ ذلك الهَمَّ لخوفِ القصاص، فليس هو ممن حَيَّ بالقصاص".
من خلال هذه الأمثلة، لا بد من الاعتراف بأن النص المحكم الذي يستخدمه المؤلف هو "نظم" من النسق الرفيع، له جمالُ وقعه ونكهة تتبُّعه وتحسس مجرى المعاني في سرِّه وإظهار ذلك للعيان بطريقة أو بأخرى.
ومن شروط النظم وطبيعته، قيامه على الكلمات، لا الحروف، باعتبار مكانها، وحسْن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها، وفضل مؤانستها لأخَواتها. وهذا يعني أن تكون الكلمة فصيحة لا بحُروفها ولكن بما ينجم عنها وعن موقعها من أسباب الجمال والتأثير، بحيث لو حدثَ لها أي خلل مهما صغر، انعكس ذلك سلباً على واقع النص.
"وهل تجد أحداً يقول: هذه اللفظة فصيحة، إلاَّ وهو يعتبر مكانها من النظم، وحسْنَ ملاءمة معناها لمعنى جاراتها وفضل مؤانستها لجاراتها؟ وهل قالوا: لفظةٌ متمكنة ومقبولة، وفي خلافه؛ قلقلة ونابية، ومستكرهة، إلا وغرَضُهم أن يعبِّروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناها، وبالقلق والنبوِّ عن سوء التلاؤم، وأنَّ الأولى لم تَلِقْ بالثانية في معناها، وأن السابقة لم تصلح أن تكون لِفْقاً للتالية في مؤدَّاها".
ولم يكتف المؤلف بهذا التوضيح الدقيق، بل عمد إلى التفريق بين "الحروف المنظومة" و "الكلم المنظومة" فقال:
"إنَّ نظم الحروف هو تواليها في النطق فقط، وليس نظمها بمقتضىً عن معنى .. ( ... ) فلو أن واضع اللغة كان قد قال: (ربض) مكان (ضرب) لما كان في ذلك ما يؤدي إلى فَسَاد. وأما نظم الكَلِم فليس الأمر فيه كذلك، لأنك تقتضي في نظمها آثار المعاني وتُرتِّبها على حسب ترتيب المعاني في النفس، فهو إذن نظمٌ يعتبر فيه حال المنظوم بعضه مع بعضٍ، وليس هو النظم الذي معناه ضمُّ الشيء إلى الشيء كيف جاء واتفق".


إنَّ الذين يذهبون إلى جعل الحروف متلائمة في تعادلها مع المعاني، يقعون في صعوبة تحقيق التلاؤم المعنوي مع الألفاظ، فإنَّ المعنى لا يُدرَك بسبب اللفظ، وإنما بسبب التوفيق بين معاني تلك الألفاظ المسجَّعة، وبين معاني الفصول التي جُعلتْ أردافاً لها. ولم يتحقق ذلك إلاَّ بعد أن دخلت في ضروب من المجاز والاتساع والتلطُّف.
* الإبداع الشعري بمعزل عن علوم النحو
حرص أبو بكر الجرجاني في أثناء تأسيسه لموضوعة النظم ونظريته - القائمة على توخِّي معاني النحو وأحكامه بين الكلمات - أن لا يجعل النحو وقواعده أساساً جوهرياً للإبداع الفني، فأظهر تسامحاً في هذا الجانب، ووافق منتقديه على عدم الخوض فيه، اقتناعاً منه بأن طريق الإبداع لا تبدأ بصرف اللغة ونحوها وقواعدها، بل بما هو أعمق وأبعد؛ وهو البعد النفسي الذهني المتكون من عناصر شتى لا تدخل في حصر أو إحاطة .. وقد سبقه إلى ذلك مُواطنُه القاضي الجرجاني (ت 392هـ) الذي اقتفى بدوره خط سلَفه قدامة بن جعفر (ت 337هـ) وكانا قد رأيا أن جمال الصورة الفنية ليس وليد الصناعة الشعرية الحسنة التقسيم، المتكاملة الأوصاف، المتمِّمة لشروط الحسن، بقدر ما هو في القَبول النفسي والتجاوب الروحى، أو ما سمَّيتُه غير مرة بالارتياح الغامض والقبول العفوي الذاتي.
وَرَدَ رأيُ عبد القاهر المعنيُّ هنا، في معرض ردِّه على المتذمرين من التكثُّر والتكلف في البحث ومراعاة مسائل التصريف الموضوعة للرياضة وتمكين المقاييس، وتتبُّعهم [في ذلك] الألفاظ الوحشية، وأن ذلك لا يُجدي إلاَّ كدَّ الفكر وإضاعة الوقت ... قائلاً:
"أمَّا هذا الجنسُ فلسنا نعيبُكم إنْ تنظروا فيه ولم تُعنوا به، وليس يهمُّنا أمره، فقولوا فيه ما شئتم، وضعوه حيث أردتم .. "
ويعرض لمختلف العلل النحوية المشْكُوِّ منها: كالمعتلِّ، وحروف العلة، والإبدال والحذف والإسكان والتثنية وجمع السلامة وإعرابهما والنصب بالجر .. الخ .. فيقول بكثير من المسامحة والتقبل:
إنَّا نسكتُ عنكم في هذا الضرب أيضاً، ونَعْذركم فيه ونسامحكم، على علم منَّا بأنْ قد أسأتم الاختيار، ومنعْتُم أنفسكم ما فيه الحظ لكم، ومنَعتموها الاطلاع على مدارج الحكمة ... ".


وقد يستغرق الجرجاني، للقبض على هنيهة إبداع ورشفة حُسْن، فيقضي لصاحبها "بالحِذق والأستاذية وسعة الذَّرع وشدَّة المنَّة". "حتى تعرف من البيت الواحد، مكان الرجل من الفضل، وموضعه من الحذق، وحتى تشهد له بفضل المنَّة وطول الباع ... ثم إنك تحتاج إلى أن تستقريَ عدَّة قصائد، بل أن تَفْليَ ديواناً من الشعر حتى تجمع منه عدة أبيات .. ".
ويعرض بضعة شواهد، بينها شاهد لعبد الله بن الدمينة، من ثلاثة أبيات هي:
أبِيني، أفي يُمْنَى يَديْكِ جَعلْتِني ... فأفرحَ، أم صيَّزتنِي في شِمالِكِ
أبيتُ كأني بينَ شِقَّيْنِ من عَصَا ... حِذارَ الردى أو خيفة من زيالِكِ
تَعَالَلْتِ كي أشْجى وما بكِ علَّةٌ ... تُريدينَ قتلي، قد ظفْرتِ بذلكِ
انظر إلى الفصْل والاستئناف في قوله: "تُريدين قتلي قد ظفرتِ بذلك".
وأرقى أنواع النظم البديع لدى أبي بكر، ما اتحدتْ فيه الأجزاء حتى وُضعتْ وضعاً واحداً. ويسوق بضعة أبيات شعرية دالَّة، لعدد من الشعراء بينهم بشار بن برد وزياد الأعجم، ويتوقف ملياً عند بيتٍ لأحد الأعراب، وجد فيه المثال الذي يجمع بين طياته براعة استخدام النحو ولطف التقاط الصورة الشعرية من غسَق المعنى إلى صبح البيان المتشقق بهاءً وخُيَلاء::
الليل داجٍ كَنَفا جِلْبابِهِ ... والبَيْنُ مَحْجورٌ على غرابه
علَّقَ المؤلف على البيت بقوله:
"ليس كلُّ ما ترى من الملاحة لأن جعلَ لِلَّيل جلباباً، وحَجَر على الغراب، ولكنْ في أن وضعَ الكلام الذي ترى: فَجعلَ "الليلَ" مبتدأ، وجعل "داج" خبراً له وفعلاً لما بعده، وهو (الكنفانُ)، وأضاف (الجلباب) إلى ضمير الليل، ولأن جعلَ كذلك "البين" مبتدأ، وأجرى "محْجوراً" خبراً عنه، وأن أخرج اللفظَ على مفعول".
* معاناة المؤلف من غباء أهل عصره من علماء البلاغة، وجدالُه الطويل معهم


من أهم ما توصل إليه القارئ، وهو يتابع الجرجاني أن هذا الأخير، قد عانى من الجهل المنتشر في بيئته وعصره، بجمال العربية وبلاغة أفانين القول فيها. فرأيناه دائماً يخاطب قارئاً مجهولاً ويحثه على العلم والمعرفة والدراية والتأمل .. حتى إذا أحس بدوام الغباء والجهل، وكمَّ كبير من سوقيَّة الذوقِ وغفلةٍ مترامية الأطراف، اعتراه الشعور الشديد بالحزن والنقمة، وصل حدَّ التقريع والتألم.
فهو منذ الصفحات الأولى من كتابه الخارق، الذي وُضع لغاية كبرى هي تبيان عظمة النظم القرآني، قد استهلَّ الكتاب بتصدير الفضل والشرف للعلم بعامة، ثم لعلم البيان بخاصة، كما لو أراد أن يدخل في معالجة موضوعه، من أجمل الأبواب وأشرفها. علماً بأن البيان قد استخدمه بدلالته العامة التي حضَّ عليها وشرحها القرآنُ المجيد لا بمدلوله الاصطلاحي.
ونبدأ معه قراءة سفْر المعاناة، من هذه التوطئة فنجده، في الصفحة الأولى قد شكا من الإهمال الشديد الذي لقيه هذا العلْم، والحيْفِ والضيم اللذين مُنيَ بهما؛ أضف إلى ذلك (الاعتقادات الفاسدة، والظنون الرديئة، والجهل العظيم المتفشِّي والخطأ الفاحش المرتكب)، من جراء اقتصار الناس منه على حفظ المبادئ العامة والمعلومات العريضة وبعض القواعد الصرفية والنحوية الإعرابية التي تحفظ اللسان من اللحن .. غير عابئين بما هو خَلْقٌ وإبداع منظَّم، يتخطى العلوم النظرية المرسومة في الكتب والمعاجم، إلى "دقائق وأسرارٍ طريقُ العلم بها الرؤيَّةُ والفكرُ، ولطائفَ مستقاها العلمُ، وخصائصِ معانِ ينفردُ بها قومٌ قد هُدُوا إليها، ودُلُّوا عليها، وكُشِف لهم عنها، ورفعت الحُجُب بينهم وبينها، وأنها السبب في أن عرضت المزية في الكلام، ووجبَ أن يفضُلَ بعضه بعضاً، وأن يبعدَ الشأوُ في ذلك، وتمتدَّ الغاية، ويعلو المرتقى ويعزَّ المطلبُ. حتى ينتهي الأمرُ إلى الإعجاز، وإلى أن يخرج من طوق البشر".


ولئن ابتدأ بعلم البيان، فلأنه محطة رئيسة للارتقاء إلى بديع البدائع ورائعة الروائع: عنيت: النظم القرآني، الذي تنوعت السُّبلُ الموصلةُ إليه وشُحذت الذائقةُ الأدبية في استجلاء منارات الإبداع الشعري ومحارات لطائف العربية، حيث أمكن الغوص إليها والتقاطها، حتى في أبسط الأمثلة النحوية المبثوثة في أعطاف هذا الكتاب.
ومن علم البيان وتخبُّطِ الناس، إلى ما سمَّاه القرآن "عمى القلوب" وقد اعتمده الجرجاني في ذمِّ الناس الذين يفهمون الكلام على ظاهره ولا ينفذون إلى ما وراء ذلك، ولا سيما أصحاب التفسير الذين وقفوا أمام بعض الألفاظ والجمل وقوف من لا يفقه بقلبه ويرى ببصيرته؛ كأن ليس لهم قلب ولا بصر ولا عقل يتدبرون به ويتفكرون في حقيقة الأشياء، فاستحقوا وصفه لهم "بأهل الحشْو ومن لا يعرف مخارج الكلام".
لقد تمادى بعض المفسِّرين في غيِّهم وجهالتهم، فوقفوا عند حدود المعنى الظاهرِ لكلِم الآي الحكيم، فوقعوا وأوقعوا قراءهم بمفاهيم بدائية تخطتها الأديان السماوية بأشواط بعيدة، فأفسدوا المعنى، وأبطلوا الغرض الذي من أجله نزل الوحي الإلهي. فكان له معهم هذه الوقفة الزاجرة:
"ومن عادة قومٍ ممن يتعاطى التفسير بغير علم، أن توهموا أبداً في الألفاظ الموضوّعة على المجاز والتمثيل أنها على ظواهرها، فُيُفسدوا المعنى بذلك، ويُبطلوا الغرض، ويمنعوا أنفسَهم والسامعَ منهم العلمَ بموضع البلاغة وبمكان الشرف. وناهيكَ بهم إذا هم أخذوا في ذكر الوجوه، وجعلوا يكثرون في غير طائل! هناكَ تَرى ما شئتَ من باب جهلٍ قد فتحوه، وزنْدِ ضلالةٍ قد قدحوا به".


وبعد أن يُطوِّف مع القارئ عشرات الشواهد الشعرية التي تعبق بأريحية الوجدان ونجيع الإحساس المتوهج، لعله يفتح ثُقْبةً ينفذُ منها نَظَرُ من ضلَّتْ به باصرتُه، فينحسرُ الديجور وتنقشع الغيوم السوداء، يقف عند مفترق طرق، هو إلى اليأس أقربُ منه إلى الأمل، لأن أبناء جيله وجمهرة العلماء المعاصرين، لا يمتلكون الأداة التي تمكنهم من تصور "أمور خفيَّة ومعانٍ روحانية" كما أنهم لا يمتلكون الطبيعة القابلة والذوق والقريحة التي تتيح لهم الإحساس بالفروق الطفيفة بين معاني الألفاظ ومسار الجمل المتشابهة.
"إنَّ هذا الإحساس قليل في الناس، حتى إنه ليكون أن يقع للرجل الشيءُ من هذه الفروق والوجوه في شعر يقوله أو رسالة يكتُبها، الموقعَ الحسَن؛ ثم لا يعلم أنه قد أَحْسنَ - أما الجهل بمكان الإساءة فلا تعدمه. فلستَ تملكُ إذاً من أمرِكَ شيئاً حتى تظفر بمن له طبعٌ إذا قدحْتَه ورى، وقلبٌ إذا أرْيتَهُ رأى. فأمَّا وصاحبُك من لا يرى ما تُريه، ولا يهتدي للذي تهديه، فأنتَ رامٍ معه في غير مرمىً، مُعَنِّ نفسَك في غير جدوى. وكما لا تقيم الشعرَ في نفس مَن لا ذوق له. كذلك لا تُفهِمُ هذا الشأنَ مَنْ لم يؤْتَ الآلة التي بها يفهم؛ إلاَّ أنه إنما يكون البلاءُ، إذا ظنَّ العادِمُ لها أنه أُوتيَها، وأنه ممن يكملُ للحكْم، ويصح منه القضاء، فجعَل يقول القولَ: لو علِمَ غيَّة لاستَحْيى منه. فأما الذي يحسُّ بالنقص من نفسه، ويعلم أنه قد علِمَ علماً قد أُوتيَهُ مِنْ سِواه، فأنت منه في راحة، وهو رجل عاقل قد حماه عقلُه أن يعْدُو طورَه، أن يتكلَّف ما ليس بأهلٍ له".
ومن جميل ما وقع لي، وأنا أطالع كتاب الأغاني، أنِ "اصْطحَبَ شيخٌ وشبابٌ في سفينة من الكوفة، فقال بعض الشباب للشيخ: إنَّ معنا قَيْنةً لنا، ونحن نُجِلُّك ونُحِبُّ أن نَسْمع غناءها. قال: الله المستعان؛ فأنا أَرْقَى على الأطلال وشأنكم، فغنَّتْ:
حتى إذا الصبحُ بدا ضوؤهُ ... وغارتِ الجوزاءُ والمِرزمُ
أقبلْتُ والوطْءُ خفيٌّ كما ... يَنْسابُ من مكمنه الأرْقَمُ


قال: فألقى الشيخ بنفسه في الفرات، وجعل يخبط بيديه ويقول: أنا الأرقَم! أنا الأرقم! فأدركوه وقد كاد يغرق؛ فقالوا: ما صنعتَ بنفسك؟ فقال: إني واللهِ أعلمُ من معاني الشعر ما لا تعملون".
إلى هذا النوع من الإحساس الخفيّ قد قصد الجرجاني، يأْنَقُ لها القارئ أو السامع، وتأخذهما الأريحية والانسلاخ من واقع قلق مضطرب إلى حيث الخفقان الملائكي.
لا أظن أن هذا الواقع، خاص بعصر الجرجاني، وذيَّاك الإحساس الفردوسيَّ قد اعترى المؤلف وحده، فقد عانتْ منه مختلف العصور والأزمان، وشكا منه عباقرةُ الأدب واللغة، فعبَّروا عن ذلك بكثير من المرارة .. ألم يشِعْ مثل ذلك في زمن أبي نؤاس، فقال بيته الشهير:
فقلْ لمن يدْعي في العِلْمِ فلسفةً ... حفِظْت شيئاً وغابتْ عنكَ أشياء
وقال الجاحظ خطبته الشهيرة مفتتحاً بها كتابه النفيس "الحيوان" مخاطباً قارئاً جاهلاً أدار عليه أفكاره وآراءه في مقدمة أدبيه فكرية من أغنى ما كتب في موضوعها ... وكذلك فعل أبو الطيب المتنبي الذي اضطرمت فيه نار الغربة في موطنه بسبب شيوع داء الجهل والغباء مع الادِّعاء الباغي فقال، من جملة أشعار كثيرة معبِّرة:
أَذُمُّ إلى هذا الزمانِ أُهيْلَه ... فأعلمُهُمْ فَدْمٌ وأحْزَمُهم وَغْدُ
وأكرمُهم كلبٌ وأبصرُهُمْ عَمٍ ... وأسهَدُهمْ فَهْدٌ وأشجعهُمْ قِرْدُ
وستبقى الحال على ما هي، وما كانت عليه، في كل زمان ومكان، لأن هناك دائماً أفراداً أُوتوا من قوة الفهم والذكاء وبعد النظر واستشراف الآفاق واختراق الحجب، ما يجعلهم يثورون على واقعهم ويدعون إلى تغيير المفاهيم السائدة بما يوافق تطلعاتهم ودعواتهم، فتستجيب فئة ويُحجم الباقي، وهكذا إلى ما لا نهاية.


ثانياً: جوانب الإغراب
ولا نقصد به الغموض الذي يتحول فيه الكلام إلى التورية والتعقيد، وما يشبه الأساليب الملتوية التي شاعت لدى فريق كبير من شعراء زمانه وكتّابه .. إنما هو استغراب لأشياء لم تجد لديَّ القبول التام والرضى الكلِّي، شأنه في ذلك شأن كل من ترك أثراً كبير الأهمية لا يسلم من النقد والتجريح أو التبخيس أحياناً ممن لم يصادف هوىً في نفوسهم وذوائقهم. ولا أرى سبيلاً لنقد أو تجريح، فدلائل الإعجاز صرْح شامخ في تاريخ الكتابة والعربية.
إن هي إلاَّ نظرات تقديرية تبحث عن مستقرٍّ لها فلا تجد، وهي التي امتلأتْ برغد الطمأنينة والاستقرار، في طول الكتاب وعرضه، من كثرة ما واجهها من بديع الصنع وجليل التصور .. وإليك ما دوَّنه القلم في هذا الجانب ..
* التطرق إلى كل عناصر الكلام لإثبات حكم أو رد حكم.
يسلك الجرجاني في كثير من الأحيان، نحو عرض كل العناصر والأجزاء لإقرار جمال النظم وإثباته فيتطرق إلى كل ما في الشاهد الشعري أو القرآني، من ألفاظ، وتقديم وتأخير، ووجوه إعرابية مختلفة لدرجة يصبح كلُّ ما في البيت أو الآية - بلا استثناء - مدار كلام وإعجاب .. وهذا نوع من لزوم ما يلزم. فهو بغنى عن ذلك كله، وباستطاعته التخير والانتقاء وترك التفاصيل الصغيرة المتعلقة بتقنية التركيب والأداء، وأكتفي بمثال واحد: وقوفُه عند بيت ابن المعتز، لتأكيده مزيَّة الحسن في النظم لا اللفظ. "مثال ذلك أن تنظر إلى قول ابن المعتز:
وإني على إشفاق عيني من العِدى ... لتَجْمحُ مني نظرةٌ ثمَّ أُطْرقُ
فترى أن هذه الطلاوة وهذا الظَّرْفَ - إنما هو لأنْ جعل النظرَ يجمحُ، وليس هو لذلك، بل لأن قال في أول البيت "وإنِّي" حتى دخل (اللام) في قوله "لتجمحُ"، ثم قوله "مني"، ثم لأن قال: "نظرة" ولم يقل (النظر) مثلاً، ثم لمكان "ثم" في قوله: "ثم أُطرق" وللطيفةِ أخرى نصرتْ هذه اللطائف وهي اعتراضه بين اسم (إنَّ) وخبرها، بقوله: "على إشفاق عيني من العدي" .. ".


وهكذا في عرض شامل لجميع ما في البيتِ من ألفاظ وتقديم وتأخير واعتراض وانتقاء كلام مكان كلام .. ولا أراه ملْزماً بعرض كل ما عرض، وأن يجد سبباً لجمال النظم في هذا البيت في التفاتات أخرى، كلفتتِه الأولى عند (جموح النظر) وشَبيهه، لأننا سنجد هذا النسق من التحليل والمراجعة في أي بيت آخر له عناصره وجمله وصوره. ورويُّه وأشياء أخرى لا يمكن حصرها. وقد تكرر هذا النمط كثيراً ولا سيما في تقليبات الوجوه الإعرابية ولبعض الآيات القرآنية التي أغدق عليها من المراجعة والتصور المتعدد الوجوه، بما يشبه التبذُّل، وهو الخبير بمواضع الجمال وبلاغة القول.
* صعوبة تشكيل النص بسبب التطويل وتشعيب الجمل والمعاني
سبقت الإشارة إلى هذا الأمر، في معرض الكلام على أساليب المؤلف، وأعود إليها الآن لإبداء قلقٍ في ضبط النص الذي خلا من التشكيل وتنقيط الياء، وكثير من علامات الترقيم، وليس ذلك وقفاً على نصِّ الجرجاني .. كل النصوص القديمة كذلك، ولكن المشكلة هي في طول الجمل والعبارات التي تبدأ بفعل، وتطوي سطوراً عديدة لتعثر على مفعوله، أو مبتدأ، فصل عن خبره بجمل معترضة واستدراكات وتحوُّلات كلام، حتى صارت الإعادة والمراجعة واجبة لمعرفة الجواب أو الخبر، وغير ذلك، فيلتبس إعراب الكلام ويصعب الضبط الدقيق. وكثيراً ما كان يتدخل الشارح الشيخُ رضا ويعيِّن فاعلاً أو خبراً أو جواب شرط أو عطفاً. والأمثلة كثيرة يسهل الوقوف عليها، ولا سيما توضيحات الشارحين وإضاءاتهم.
* إطناب في القول يشبه الحشو
الإطناب في اللغة: المبالغة في مدح أوْ ذمِّ والإكثار فيه، وهذا ما نقصد إليه هاهنا، لا الإطناب البلاغي الذي يتداخل مع التطويل والإسهاب والتكرير والإيغال والتكميل وغيره مما شرحته في بحث خاص.
وأكثر مظاهر هذا الإطناب تتبدَّى في (إنَّ وإنَّما وعلى أن ... الخ) حروف يستخدمها المؤلف لا يكاد يتخلى عنها في معظم جمله وتراكيبه، كقوله متحدثاً عن الاستعارة:
"إنَّا إذا نظرنا إلى الاستعارة وجدناها إنما كانت أبلغ من أجل أنها تدل على قوة الشَّبه".
والأسلوب الذي أفضله في هذا المضمار قوله:


(إنَّا إذا نظرنا إلى الاستعارة وجدناها أبلغ، لأنها تدل على قوة الشبه، أو لدلالتها على قوة الشبه).
فتتخلَّص من "إنما كانت" و "من أجْل".
وقوله في كلام على شرف الاستعارة والمجاز:
"ثم إنَّ ههنا معنىً شريفاً قد كان ينبغي أن نكون قد ذكرناه في أثناء ما مضى من كلامنا ... ".
لو كتبه طالب جامعي عندي، لأشرتُ بالأحمر: (حشْو، ومن نافل القول) لأنني أفضل لو قال: (إن هاهنا معنى شريفاً كان ينبغي ذكره في كلامنا السابق .. ) فأتخلص من حرف "قد" المتكرر مرتين ومن "أن نكون" و "أثناء ما مضى".
كل هذه الأمور من زيادات التأكيد والدقة التي لا يسوغها القارئ الحديث ولا ينسخ على منوالها. وقد اعتدنا أو تنكَّبْنا عن لغة التطويل إلى ما يدخل في المفيد، ما لم يكن الموضوع وصفيَّاً تأمّلياً. أو خطابياً منبرياً تكثر فيه المترادفات والأوصاف المتشابهة.