دلائل الإعجاز ت الأيوبي

فصل: تقديم النكرة على الفعل وعكسه
هذا كلام في النَّكِرة، إذا قُدِّمتْ على الفعل أو قُدِّم الفعلُ عليها.
إذا قلتَ: (أجاءك رجل؟) فأنتَ تُريد أن تَسأَله: هل كان مجيٌ مِنْ أَحدٍ من الرجالِ إليه؟ فإنْ قدّمتَ الاسمَ، فقلتَ: (أرجلٌ جاءك؟) فأنتَ تسألُه عن جنسِ مَنْ جاءه: أرجلٌ هو أم امرأةٌ؟ ويكون هذا منكَ إذا كنتَ عَلمتَ أنه قد أتاه آتٍ، ولكنَّكَ لم تعلمْ جنْسَ ذلك الآتي. فسَبيلُكَ في ذلك: سَبيلُك إذا أردتَ أن تَعْرفَ عينَ الآتي، فقلتَ: أزيدٌ جاءك أم عمرو؟ ولا يجوز تقديمُ الاسم فِي المسألة الأولى، لأنَّ تقديمَ الاسمِ يكون إذا كان السؤال عن الفاعل، والسؤالُ عن الفاعل يكونُ: إمَّا عن عَيْنه أو عَن جِنْسه ولا ثالثَ؛ وإذا كان كذلك، كان مُحالاً أن تُقَدِّم الاسمَ النكرةَ وأنتَ لا تُريد السؤالَ عن الجنس، لأنه لا يكونُ لسؤالك حينئذٍ مُتَعلَّقٌ من حيثُ لا يَبقى بَعْد الجنسِ إلا العَيْنُ. والنكرةُ لا تدلُّ على عين شيءٍ فيُسْأَل بها عنه. فإنْ قلتَ: (أَرجلٌ طويلٌ جاءك أم قصيرٌ)؟ كان السؤالُ عن أن الجائي مِنْ جنس طِوالِ الرجالِ أم قِصارِهم؟ فإن وصفْتَ النكرةَ بالجملة، فقلتَ: (أرجلٌ كنتَ عرفتَه من قَبْلُ، أعطاك هذا، أم رجلٌ لم تَعرفْه)؟ كان السؤال عن المُعْطي: أكان ممن عرَفَه قبلُ، أم كان إنساناً لم تتقدَّمْ منه معرفةٌ.


وإذْ قد عرفتَ الحكْم في الابتداء بالنكرة في الاستفهام، فابْنِ الخَبرَ عليه. فإذا قلتَ: (رجلٌ جاءني)، لم يَصْلُح حتى تُريدَ أن تُعلِمَه أنَّ الذي جاءك: رجلٌ لا امرأة؛ ويكونُ كلامُكَ مع مَنْ عَرَف أنْ قد أتاكَ آتٍ. فإن لم تُرد ذاك، كان الواجبُ أن تقول: (جاءَني رجلٌ) فَتقَدِّمَ الفعلَ. وكذلك إن قلتَ: (رجلٌ طويلٌ جاءَني)، لم يستقم حتى يكونَ السامعُ قد ظَنَّ أنه قد أتاك قَصيرٌ، أن نزَّلْتَه منزلةَ منَ ظَنَّ ذلك. وقولُهم: (شرٌّ أهرَّ ذا نابٍ)، إنما قُدِّمَ فيه (شرٌّ) لأن المراد أن يُعلم أنَّ الذي أَهرَّ ذا النابِ، هو مِن جنس الشرِّ لا جنس الخير، فجَرى مَجرْى أن يقول: (رجل جاءَني) تُريد أن رجلٌ لا امرأة. وقولُ العلماءِ إنه إنما يَصْلُح، لأنه معنى "ما أهَرَّ ذا ناب إلا شرٌّ"، بَيانٌ لذلك. ألا تَرى أنك لا تَقول: (ما أتاني إلا رجل) إلا حيثُ يَتَوهَّمُ السامعُ أَن قد أتتْكَ امرأةٌ. ذاك لأن الخَبر بنَقْض النفي، يكونُ حيث يُراد أن يُقْصَر الفعلُ على شيءٍ ويُنْفى عمَّا عدَاهُ. فإذا قلتَ: (ما جاءني إلاَّ زيد) كان المعنى أنكَ قد قَصَرْتَ المجيءَ على زيدٍ، ونفَيْتَه عن كُلِّ مَنْ عَدَاهُ وإنما يُتَصَّورُ قَصْرُ الفعلِ على معلومِ. ومتى لم يُرَدْ بالنكرةِ الجنسُ، لم يَقفْ منها السامعُ على معلومٍ حتى يزعم أَنِّي أقصُر له الفعل عليه، وأُخبِرُه أنه كان منه دونَ غيرهِ.


واعلمْ أنَّا لم نُرد بما قلناه. مِن أَنه إنما حسُنَ الابتداءُ بالنكرةِ في قولهم "شرٌّ أهرَّ ذا ناب"، لأنه أُريدَ به الجنسُ أنَّ معنى "شرٌّ" و "الشرُّ" سواءٌ، وإنما أردنا أَنَّ الغرض من الكلام، أن نُبيِّنَ أنَّ الذي أَهرَّ ذا النابِ هو مِن جنسِ الشرِّ لا جنسِ الخير؛ كما أنَّا إذا قلنا في قولهم: (أرجل أتاك أم امرأة)، إنَّ السؤالَ عن الجنس، لم نُرد بذلك أنه بمنزلةِ أنْ يقال: (الرجلُ أم المرأةُ أتاك)، ولكنَّا نعني أنَّ المعنى عَلَى أنك سألْتَ عن الآتي: أهو مِنْ جنس الرجال أم جنس النساء؟ فالنكرةُ إذنْ على أصلها مِنْ كَونها لواحدٍ من الجنسِ، إلاَّ أنَّ القصْدَ منكَ لم يقعْ إلى كونه واحداً، وإنما وقعَ إلى كونه من جنسِ الرجالِ. وعكْسُ هذا أنك إذا قلتَ: (أرَجلُ أتاك أم رجلان)، كان القصدُ منك إلى كونه واحداً، دونَ كونه رجلاً؛ فاعرِفْ ذلك أصْلاً: وهو أنه قد يكونُ في اللفظ دليلٌ على أمرين، ثم يَقعُ القصْدُ إلى أَحدِهما دُون الآخرِ، فيصيرُ ذلك الآخَرُ بأنْ لم يَدْخلْ في القصد، كأنه لم يَدْخُل في دلالة اللفظ. وإذا اعتبرتَ ما قدَّمتُهُ من قول صاحب الكتاب: إنَّكَ قلتَ "عبدُ الله" فنبهْتَه له، ثم بَنيْتَ عليه الفعل، وجدْتَه يطابق هذا. وذاكَ أَنَّ التنبيه لا يكون إلاَّ على معلوم، كما أنَّ قَصْرَ الفعل لا يكونُ إلاَّ على معلوم. فإذا بدأتَ بالنكرة فقلتَ: رجلٌ، وأنت لا تقَصدُ بها الجنسَ، وأن تُعْلم السامعَ أنَّ الذي أردتَ بالحديث: رَجلٌ، لا امرأة، كان مُحالاً أن تقول: إني قدَّمتُه لأُنَبِّهَ المخاطَبَ له: لأنه يَخرجُ بك إلى أن تقول: إني أردتُ أن أُنبه السامع لِشيءٍ لا يَعْلمه في جملةٍ ولا تفصيلٍ: وذلك ما لا يُشَكُّ في استحالته، فاعرفْه!