دلائل الإعجاز ت الأيوبي

باب الحذف ونكته
فصل: القول في الحذف - المبتدأ
هو باب دقيقُ المَسْلك، لطيفُ المأخذ، عجيبُ الأَمر، شبيهٌ بالسِّحْر؛ فإنكَ ترى به تَرْكَ الذكر، أَفْصَحَ من الذكْرِ، والصمتَ عن الإفادةِ، أَزْيَدَ للإفادة؛ وتَجدُكَ أَنْطَقَ ما تكونُ إذا لم تَنْطِقْ، وأَتمَّ ما تكونُ بياناً إذا لم تُبِنْ؛ وهذه جملةٌ قد تُنْكِرُها حتى تَخْبُرَ، وتَدْفعهُا حتى تَنْظُرَ.
وأنا أَكتبُ لك بَديئاً أمثلةً مما عَرَضَ فيه الحذفُ، ثم أُنبهُكَ على صحة ما أشرتُ إليه، وأُقيمُ الحجَّةَ من ذلك عليه، صاحب الكتاب [من البسيط]:
اعتاد قلبَكَ مِنْ لَيلى عَوائدُه ... وهاجَ أهواءَكَ المكنونةَ الطَّللُ
رَبْعٌ قَواءٌ أذاعَ المُعْصِراتُ به ... وكلُّ حيرانَ سارٍ ماؤهُ خَضِلُ
قال: أراد: ذاكَ رَبْعُ قَواء، أو هو رَبْعٌ: قال، ومثْلُه قولُ الآخر [من البسيط]:
هل تَعرفُ اليومَ رسْمَ الدارِ والطَّلَلا ... كما عرَفْتَ بجَفْن الصَّنيقَلِ الخِلَلاِ
دارٌ لِمَرْوةَ إذْ أهلي وأَهلُهُمُ ... بالكانسيةِ نرْعى اللَّهْو والغَزَلا
كأنه قال: تلك دارٌ: قال شيخُنا رحمه الله: ولم يَحمل البيتُ الأولُ على أنَّ (الربع) بَدَلٌ من (الطلل) لأنَّ الرَّبْع أكثرُ من الطلل؛ والشيء يُبدَلُ مما هو مِثلُه أو أكثرُ منه، فأما الشيء مِنْ أَقلَّ منه، ففاسدٌ لا يُتَصور. وهذه طريقةٌ مستمرة لهم، إذا ذكَروا الديارَ والمنازل. وكما يُضْمِرون المبتدأَ فيرفعون، فقد يُضْمرون الفِعْل، فيَنْصبونَ، كبيت الكتاب أيضاً [من البسيط]:
ديارَ ميَّة إذْ ميٌّ تُسَاعِفُنَا ... ولا يَرى مثْلَها عُجْمٌ ولا عَرَبُ
أَنْشَدهُ بنَصْبِ "ديار" على إضمار فعل، كأنه قال: أذكرُ ديارَ مية.
ومن المواضع التي يَطَّردُ فيه حذفُ المبتدإ: القطعُ والاستئنافُ؛ يبدأون بذكْرِ الرَّجل ويُقدِّمون بعضَ أَمْره، ثم يدَعون الكلامَ الأولَ ويَستأنفون كلاماً آخر. وإذا فعَلوا ذلك أتوْا في أكثر الأمر، بخبَرٍ من غَير مبتدإ. مثال ذلك قوله [من مجزوء الكامل]:
وعلمتُ أني يوم ذا ... كَ مُنازلٌ كعباً ونهدا
قَومٌ إذا لبسوا الحديـ ... ـدَ تَنمَّرُوا حَلَقاً وقِدَّا
وقوله من [الوافر]:
همُ حَلُّوا من الشَّرفِ المُعَلَّى ... ومِنْ حَسَب العَشيرةِ حيث شاؤوا


بُناةُ مكارمٍ وأُسَاةُ كلْمٍ ... دماؤهُمُ من الكَلَبِ الشِّفاءُ
وقوله [من الطويل]:
رآني على ما بي عُمَيْلةُ فاشْتكى ... إلى مالِهِ حالي أسرَّ كما جَهَرْ
غلامٌ رماه اللهُ بالخير مُقْبِلاً ... لهُ سيمياءٌ لا تَشُقُّ على البَصَرْ
وقوله [من الطويل]:
إذا ذُكِرَ ابْنا العَنْبريَّةِ لم تَضِقْ ... ذراعي وألقَى باسْتهِ مَنْ أُفاخِرُ
هلالان حمّالانِ في كلِّ شَتْوةٍ ... من الثِّقْلِ ما لا تَسْتطيعُ الأباعِرُ
حمالان: خبر ثان وليس بصفة كما يكون لو قلت مثلاً: رجلان حمالان:
ومما اعتيد فيه أن يجيء خبراً قد بُني على مبتدأ محذوف، قولُهم بعد أن يذكروا الرجل: فتى من صفته كذا، وأغرُّ من صفته كيت وكيت كقوله [من الطويل]:
ألا لا فتىً بعْدَ ابنِ ناشرةَ الفتى ... ولا عرْف إلا قد تولّى وأدبرا
فتى حنظليٌّ ما تزال ركابُه ... تجودُ بمعروفٍ وتُنْكِرُ منْكَرا
وقوله [من الطويل]:
سأَشْكُرُ عَمْراً إنْ تراخَتْ منيَّتي ... أياديَ لم تُمْنَنْ وإنْ هي جلَّتِ
فتىً غيرُ محجوبِ الغِنى عن صديقِهِ ... ولا مُظْهِرُ الشكوى إذا النعل زَلَّتِ
ومن ذلك قولُ جميل [من البسيط]:
وهل بثينةُ ياللناس قاضِيَتي ... دَيْني وفاعِلةٌ خَيْراً فأَجزِيها
تَرْنُو بعينيْ مهاةٍ أَقْصَدتْ بهما ... قلْبي عشيةَ تَرْميني وأَرْميها
هيفاءُ مُقْبِلةً عجزاءُ مُدِبرةً ... رَيَّ العظامِ بِلينِ العَيْش غاذيها
وقوله [من الكامل]:
إني، عشيةَ رحْتُ وهي حزينةٌ ... تشكو إليَّ صبابةً، لَصَبُورُ
وتقولُ بتْ عندي - فديتُكَ - ليلةً ... أَشْكو إليكَ فإنَّ ذاكَ يسيرُ
غرَّاءُ مبْسَامٌ كأنَّ حديثَها ... دُرٍّ تحدَّرَ نَظْمهُ مَنْثُورُ
محطوطَةُ المتْنينِ مُضْمَرةُ الحَشا ... ريَّ الرَّوادِفِ خَلْقُها ممكُورُ
وقول الأُقيْشر في ابْنِ عَمِّ له موسرٍ، سألَهُ فمنعَه وقال: (كم أعطيكَ مالي وأَنت تُنْفقه فيما لا يَعْنيك واللهِ لا أُعْطِيكَ!) فتركَه حتى اجتمعَ القومُ في ناديهم وهو فيهم، فشَكاهُ إلى القوم وذمَّه، فوثب إليه ابنُ عمه، فلَطَمَه. فأنشأ يقول [من الطويل]:
سَريعٌ إلى ابْنِ العَمِّ يلْطِمُ وَجهَهُ ... وليسَ إلى داعي النَّدى بِسَريعِ


حَريصٌ على الدنيا مُضِيعٌ لدِينِهِ ... وليس لِمَا في بيته بمُضِيعِ
فتأمَّل الآنَ هذه الأبياتَ كلها، واسْتَقْرِها واحداً واحداً، وانظرْ إلى موقعها في نفسك، وإلى ما تَجدُه من اللطفِ والظَّرْفِ، إذا أنتَ مررْتَ بموضع الحَذْفِ منها، ثم قلَبْتَ النفسَ عما تَجدُ وأَلْطفْتَ النظَرَ فيما تُحِسُّ به. ثُمَّ تَكلَّفْ أَن تَرُدَّ ما حذَفَ الشاعرُ، وأن تُخرجَه إلى لفظك، وتُوقِعَه في سمعكَ، فإنك تَعلمُ أنَّ الذي قلتُ كما قلتُ، وأنْ رُبَّ حَذْفٍ هو قِلادَةُ الجِيد، وقاعدةُ التجويد؛ وإنْ أردتَ ما هو أَصْدقُ في ذلك شهادةً، وأدلُّ دلالةً، فانظرْ إلى قول عبد الله بن الزبير يذكُر غريماً له قد أَلَحَّ عليه [من الطويل]:
عرَضْتُ على زيدٍ ليأخذَ بعضَ ما ... يُحاوِلُه قَبْلَ اعتراضِ الشَّواغِلِ
فدَبَّ دبيبَ البغْلِ يأْلَمُ ظَهْرُهُ ... وقال تَعلَّمْ أَنني غيرُ فاعلِ
تثاءَبَ حتى قلْتُ: داسِعُ نفْسِه ... وأَخْرَجَ أنياباً له كالمَعَاوِلِ
الأَصلُ: حتى قلتُ: هو داسِعُ نفْسِه) أي حسبْتُه من شدة التثاؤب، وممَّا به من الجهْدِ، يقذف نفْسَه من جوفه، ويُخرجُها من صدره، كما يدْسَعُ البعيرُ جِرَّته. ثم إنك تَرى نصْبةَ الكلام وهيئتَه، تَرومُ منك أن تَنْسى هذا المبتدأ، أو تُباعِدَه عن وَهْمك، وتَجتهدُ أن لا يدورَ في خَلَدِكَ، ولا يَعْرِضَ لخاطرك؛ وتَراكَ كأنك تَتوقَّاه تَوقِّيَ الشيءِ يُكْرَهُ مكانُه، والثقيلِ يُخشَى هجُومُه.
ومن لطيف الحَذْف، قولُ بكْر بن النَّطَّاح [من السريع]:
العَينُ تُبْدي الحبَّ والبُغْضا ... وتُظْهِرُ الإبرامَ والنَّقْضا
دُرَّةُ ما أَنصفْتِنِي في الهوى ... ولا رَحِمْتَ الجَسَدَ المُنْضَى
غَضْبَى ولا واللهِ يا أَهلَها ... لا أَطْعمُ البارِدَ أو تَرْضى
يقول في جاريةٍ كان يُحبُّها وسُعِيَ به إلى أهلها، فمنعوها منه. والمقصود قوله (غضبى)، وذلك أن التقدير "هي غضبى" أو "غضبى هي" لا محالة. إلاَّ أَنك ترى النفسَ كيف تتفادى من إظهار هذا المحذوفِ، وكيف تأنَسُ إلى إضماره، وتَرى الملاحةَ كيف تَذهبُ إن أنتَ رُمْتَ التكلم به.


ومن جيِّد الأمثلة في هذا الباب، قولُ الآخر يخاطبُ امرأتَه وقد لامَتْه على الجود [من الكامل]:
قالت سُمَيَّةُ قد غَوَيْتَ بأنْ رأَتْ ... حقاً تناوَبَ ما لَنا ووُفودا
غَيٌّ لعَمْرِكِ لا أزالُ أَعودُه ... ما دامَ مالٌ عندَنا موجودا
المعنى "ذاك غيٌّ لا أزال أعودُ إليه فدَعي عنكِ لَوْمي".
وإذْ قد عرفْتَ هذه الجملةَ من حالِ الحذْفِ في المبتدأ، فاعلمْ أنَّ ذلك سبيلُه في كل شيء؛ فما مِن اسْمٍ أو فعلٍ تَجدُه قد حُذِفَ، ثم أُصيبَ به موضعُه، وحُذِفَ في الحال ينبغي أن يُحذَفَ فيها، إلا وأنت تَجدُ حذْفَه هناك أَحْسَنَ من ذكره، وترى إضمارَهُ في النفس أَوْلى وآنسَ من النُّطْقِ به.
القول في الحذف - المفعول به


وإذْ قد بدأْنا في الحذف، بذكر المبتدأ، وهو حذف اسم - إذْ لا يَكونُ المبتدأُ إلاَّ اسماً - فإنِّي أُتْبعُ ذلكَ ذكْرَ المفعولِ بهِ إذا حُذِفَ خُصوصاً؛ فإن الحاجة إليه أمسُّ، وهو بما نحنُ بصدده أَخصُّ، واللطائفُ كأنها فيه أَكثرُ، وما يَظْهر بسببه من الحُسْن والرونق أَعجبُ وأَظْهَرُ. وهاهنا أصْلٌ يَجبُ ضبطُه: وهو أَنَّ حالَ الفعلِ مع المفعولِ الذي يَتعدَّى إليه، حالُهُ مع الفاعل. وكما أَنك إذا قلتَ: (ضربَ زيدٌ)، فأَسندْتَ الفعل إلى الفاعل، كان غرَضُكَ من ذلك أن تُثْبتَ الضرْبَ فعْلاً له، لا أن تُفيدَ وجودَ الضرب في نفسه، وعلى الإطلاق. كذلك إذا عدَّيْتَ الفعلَ إلى المفعول، فقلتَ: (ضربَ زيدٌ عَمرا)، كان غرَضُكَ أن تُفيد التباسَ الضربِ الواقعِ من الأول بالثاني ووقوعَه عليه؛ فقد اجتمع الفاعلُ والمفعولُ، في أنَّ عمَلَ الفعلَ فيهما إنما كان مِنْ أَجْل أن يُعْلَم التباسُ المعنى الذي اشتُقَّ منه بهما. فعَمِلَ الرفعُ في الفاعل، ليُعلَم التباسُ الضربِ به من جهة وقوعه منه، والنصْبُ في المفعول، ليُعْلَم التباسُه به من جهة وقوعه عليه؛ ولم يكن ذلك ليُعلم وقوعُ الضربِ في نفسه؛ بل إذا أُريد الإخبارُ بوقوعِ الضرْبِ ووجودِه في الجملة، من غير أن يُنْسَب إلى فاعلٍ أو مفعولٍ، أو يتعرَّضَ لبيان ذلك، فالعبارةُ فيه أن يقال: (كان ضربٌ، أو وَقَع ضربٌ أو وُجد ضرب)، وما شاكل ذلك من ألفاظ تُفيد الوجودَ المجرَّد في الشيء.


وإذْ قد عرفتَ هذه الجملةَ، فاعلمْ أَنَّ أغراضَ الناس تختلف في ذكْر الأفعال المتعدية. فهم يذكرونها تارةً ومرادُهم أن يَقْتصِروا على إثبات المعاني التي اشتُقَّتْ منها للفاعلين، من غير أنْ يتعرَّضوا لذكْر المفعولين؛ فإذا كان الأمرُ كذلك، كان الفعل المتعدي كغَير المتعدي، مثلاً في أنك لا تَرى له مفعولاً لا لفظاً ولا تقديراً. ومثالُ ذلك قولُ الناس: (فلان يحُلُّ ويَعْقِدُ، ويأمرُ وَينهى، ويَضُرُّ ويَنْفع)، وكقولهم: (هو يُعْطي ويُجْزِلُ، ويَقْري ويُضيفُ)؛ المعنى في جميع ذلك، على إثبات المعنى في نفسه للشيء على الإطلاقِ وعلى الجملة، من غير أن يتعرَّضَ لحديثِ المفعولِ، حتى كأنك قلتَ: صار إليه الحَلُّ والعَقْدُ، وصار بحيثُ يكون منه: حَلٌّ وعقْدٌ وأمرٌ ونَهْيٌ وضَرٌّ ونَفْعٌ، وعلى هذا القياس؛ وعلى ذلك قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].
المعنى: هل يستوي مَنْ له عِلْم ومَنْ لا علمَ له، من غير أن يقصدَ النصُ على معلوم. وكذلك قولُه تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم: 43 - 44] وقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى} [النجم: 48]. المعنى: هو الذي منه الإحياءُ والإِماتةُ، والإِغناءُ والإقناءُ. وهكذا كلُّ موضعٍ كان القصدُ فيه أن يُثْبتَ المعنى في نفسه فعلاً للشيء، وأن يُخْبر بأنَّ مِن شأنه أن يكون منه، أو لا يكونُ إلاَّ منه، أو لا يكون منه. فإنَّ الفعلَ لا يُعدَّى هناك، لأن تعديته تَنْقُضُ الغرضَ وتُغيِّر المعنى. ألا ترى أنكَ إذا قلتَ: (هو يعطي الدنانير)، كان المعنى على أنك قصدْتَ أن تُعْلمَ السامعَ أنَّ الدنانير تَدْخلُ في عطائه، أو أنه يُعْطيها خصوصاً دونَ غيرها، وكان غرَضُك على الجملة، بيانَ جنسِ ما تناولَه الإعطاءُ، لا الإعطاءُ في نفسه، ولم يكن كلامُك معَ مَنْ نَفَى أن يكون كان منه إعطاءٌ بوجهٍ من الوجوه، بل مع من أَثْبَتَ له إعطاءً إلا أنه لم يُثبت إعطاءَ الدنانير؛ فاعرفْ ذلك! فإنه أصْلٌ كبير عظيمُ النفع.
فهذا قسمٌ من خُلوِّ الفعلِ عن المفعول، وهو أن لا يكون له مفعولٌ يُمكن النصُّ عليه.


وقسم ثان، وهو أن يكون له مفعولٌ مقْصودٌ قَصْدُه معلومٌ، إلا أنه يُحْذَفُ من اللفظ لدليل الحال عليه؛ وينقسم إلى جَليِّ صنعةَ فيه، وخَفِيٍّ تَدخلُه الصنعةُ.
فمثال الجليِّ قولهم: (أصغَيْتُ إليه). وهم يُريدون: أذني، و: (أغضبتُ عليه)، والمعنى: جَفْني.
وأما الخَفيُّ الذي تدخلُه الصنعةُ، فيتفنَّنُ ويتنوَّعُ. فنوع منه، أنْ تَذكُر الفعلَ، وفي نفسِك له مفعولٌ مخصوصٌ قد عُلمَ مكانُه إما لِجَزْي ذكْر أو دليل حالٍ، إلاَّ أنك تُنْسيه نفْسَكَ وتُخْفيهِ، وتُوهِمُ أنك لم تَذْكُر ذلكَ الفعلَ، إلاَّ لأن تُثْبِتَ نفْسَ معناه، مِنْ غير أن تُعدِّيَهُ إلى شيء، أو تَعْرضَ فيه لمفعولٍ. ومثاله قول البحتري [من الخفيف]:
شَجْوُ حسَّادِهِ وغَيْظُ عِداهُ ... أن يَرى مُبْصِرٌ ويسْمَعَ واعِ
المعنى، لا محالة، أن يَرى مُبصرٌ مَحاسِنَه ويَسْمعَ واع أخبارَه وأوصافَه؛ ولكنك تَعْلُم على ذلك، أنه كان يَسْرِقُ علْمَ ذلك مِنْ نفْسِه، ويدْفَع صورتَه عن وَهْمه، ليَحْصُل له معنى شريفٌ وغرَضٌ خاصٌّ؛ وقال إنَّه يَمْدح خليفةً هو المعتزُّ، ويُعرِّضُ بخليفةٍ وهو المستعين، فأرادَ أن يقول: (إنَّ محاسنَ المعتزِّ وفضائلَه المحاسنُ والفضائلُ، يَكفي فيها أنْ يَقع عليها بَصرٌ ويَعيَها سمْعٌ، حتى يَعْلَم أنه المُستحِقُّ للخلافة، والفردُ الوحيدُ الذي ليس لأحدٍ أن يُنازِعَه مَرْتبتَها، فأنتَ ترَى حسَّادَه وليس شيءٌ أشْجى لهم وأغْيَظُ من عِلْمهم بأنَّ هاهنا مُبْصراً يرَى وسامعاً يَعي، حتى لَيتَمنَّوْنَ أنْ لا يكونَ في الدنيا مَنْ له عينٌ يُبصر بها، وأُذُنٌ يَعي معها، كي يَخْفى مكنُ استحقاقِه لِشَرف الإمامةِ، فيجدوا بذلك سَبيلاً إلى منازعَتهِ إياها.
(وهذا نوعٌ آخر منه) وهو أن يكون معك مفعولٌ معلومٌ مقصودٌ، قَصْدُهُ قد عُلِمَ أنه ليس للفعل الذي ذكرتَ مفعولٌ سواه، بدَليلِ الحالِ، أو ما سَبَق من الكلام، إلاَّ أنك تَطْرحُه وتَتَناساهُ، وتدَعُه يَلزَمُ ضميرَ النفسِ لِغَرضٍ غير الذي مَضى، وذلك الغرضُ أن تتوفرَ العنايةُ على إثبات الفعلِ للفاعلِ وتخلصَ له وتَنصرف بجملتها وكما هي إليه. ومثاله قول عمرو بن معدي كرب [من الطويل]:


فلو أنَّ قومي أَنطَقَتْني رماحُهُمْ ... نَطَقْتُ ولكنَ الرماحَ أَجرَّتِ
"أَجرَّتْ" فعلٌ مُتَعدِّ، ومعلومٌ أنه لو عدَّاه لَمَا عدَّاهُ إلاَّ إلى ضمير المتكلم، نحو "ولكن الرماح أجرتني" وأنه لا يُتَصوَّر أنْ يكون هاهنا شيءٌ آخرُ يَتعدَّى إليه، لاستحالة أن يقول: (فلو أن قومي أنطقتني رماحُهم، ثم يقول: ولكنَّ الرماح أجرَّتْ غيري). إلا أنك تَجدُ المعنى يُلزمُك أنْ لا تنطقَ بهذا المفعول، ولا تُخرِجَه إلى لفظك؛ والسببُ في ذلك أَنَّ تَعْديتَكَ له، تُوهِمُ ما هو خِلافُ الغَرَضِ؛ وذلك أنَّ الغرَضَ هو أن يثْبتَ أنه كان من الرماح إجْرارٌ وحبْسُ الألسنِ عن النطق، وأن يصحَّح وجودُ ذلك. ولو قال: "أجرَّتْني" جاز أن يُتوهَّم أنه لم يَعْن بأن يُثبِتَ للرماح إجراراً، بل الذي عناه أنْ يتَبيَّن أنها أجرَّتْه؛ فقد يُذَكرُ الفعلُ كثيراً والغرَضُ منه ذكْرُ المفعول. مثالُه أنك تقول: (أضَربْتَ زيداً؟) وأنتَ لا تُنكِرُ أن يكون كان من المخاطب ضَرْبٌ، وإنما تُنكِرُ أن يكونَ وقع الضربُ منه على زيد، وأن يستجيزَ ذلك أو يستطيعَه. فلما كان في تعديةِ "أجرَّت" ما يُوهِمُ ذلك، وقَفَ، فلم يُعدِّ البتَّةَ، ولم يَنْطِق بالمفعول، لتَخْلُصَ العنايةُ لإثبات الإجرار للرماح، ويصحَّح أنه كان منها، وتَسْلَم بكلِّيتها لذلك.
ومثله قول جرير [من الوافر]:
أمنَّيْتِ المُنى وخَلَبْتِ حتى ... تركْتِ ضميرَ قلبي مُسْتهاما
الغرضُ أن يُثبت أنه كان منها تَمْنِيَةٌ وخَلاَبة، وأن يقول لها: أهكذا تَصْنعين وهذه حيلتُك في فتنة الناس؟
ومِنْ بارعِ ذلك ونادِرِه، ما تجدُه في هذه الأبيات: روَى المرزُباني في "كتاب الشعر" بإسنادٍ قال: لما تشاغَلَ أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه، بأهل الرِّدَّةِ، استبطأتْه الأَنصارُ، فقال: إما كلَّفْتموني أخلاقَ رسول الله صلى الله عليه سلم. فوَاللهِ ما ذاكَ عندي ولا عِنْد أحدٍ من الناس. ولكنِّي واللهِ ما أُوتيِ مِنْ مودَّةٍ لكُمْ ولا حسْنِ رأْي فيكم؛ وكيف لا نُحِبُّكم! فواللهِ ما وجدْتُ مثَلاً لنا ولَكُم إلا ما قال طفيل الغنوي لبني جعفر بن كلاب [من الطويل]:


جزى الله عنا جعفراً حين أُزِلقَتْ ... بنا نَعْلُنا في الواطئين فزَلَّتِ
أَبَوْا أن يَمَلُّونا ولَوْ أن أُمَّنا ... تُلاقي الذي لاَقوْهُ منَّا لَمَلَّتِ
همُ خَلَطونا بالنفوسِ وألْجَأُوا ... إلى حُجُراتِ أدْفأَتْ وأَظَلَّتِ
فيها حَذْفُ مفعولٍ مقصودٍ قصْدُه في أربعة مواضع قولُه [لملَّتِ وألجأُوا وأدفأَتْ وأظلَّتْ)، لأن الأصل "لَملَّتْنا وألْجأُونا إلى حجرات أدفأَتْنا وأظلَّتْنا" إلاَّ أنَّ الحالَ على ما ذكرتُ لكَ من أَنه في حَدِّ المتناهي، حتى كأَنْ لا قَصْدَ إلى مفعولٍ، وكأَنَّ الفعل قد أُبهِمَ أَمرُه، فلم يُقْصَدْ به قصْدُ شيءٍ يقع عليه، كما يكونُ إذا قلت: (قد ملَّ فلانٌ)، تريد أن تقول: قد دَخَلَهُ المَلالُ: من غير أن تَخُصَّ شيئاً، بل لا تَزيد على أن تَجْعلَ المَلالَ مِنْ صفتهِ. وكما تقول: (هذا بيتٌ يُدفئ ويظلُّ). تُريد أنه بهذه الصفة.


واعلمْ أنَّ لكَ في قوله: (أَجرَّت وَلَمَلَّتْ): فائدةً أُخرى زائدةً على ما ذكْرتُ، من توفير العناية على إثبات الفعل، وهي أن تقول: كان مِن سُوءِ بَلاءِ القوم ومِنْ تَكْذيبهم عن القتالِ، ما يُجِرُّ مثْلَه، وما القضيةُ فيه أنه لا يُتَّفَق على قوم إلا خَرَس شاعرُهم فلم يستطع نطْقاً: وتَعْديتُك الفعلَ تَمنُع مِن هذا المعنى، لأنكَ إذا قلتَ: (ولكنَّ الرماحَ أَجرَّتْني): لم يُمكن أن يتأَوَّل، على معنى أَنه كان منها ما شأنُ مِثْلِه أن يُجِرَّ قضيةً مستمرةً في كل شاعرِ قومٍ؛ بل قد يجوزُ أن يُوجَدَ مثلُه في قومٍ آخرين فلا يُجَرُّ شاعرُهم. ونظيرُهُ أنك تقولُ: (قد كان منكَ ما يُؤلم): تُريد ما الشرْطُ في مثله أن يُؤلم كلَّ أحدٍ وكلَّ إنسانٍ. ولو قلت: (ما يؤلمني):، لم يُفد ذلك، لأنه قد يجوز أن يؤلمكَ الشيءُ لا يؤلِمُ غيرَكَ وهكذا قوله: (ولو أن أُمَّنا تُلاقي الذي لاقَوْهُ منَّا لَمَلَّتِ: يتضمن أَنَّ مَنْ حُكمَ مثلُه في كل أُمِّ أنْ تملَّ وتسْأَمَ، وأنَّ المشقةَ في ذلك إلى حدٍ يُعلم أنَّ الأُمَّ تملُّ له الابْنَ، وتتَبرَّمُ به، مع ما في طباع الأمهاتِ من الصبرِ على المكارهٍِ في مَصالح الأولادِ؛ وذلك أنه وإن قال (أمُّنا) فإن المعنى على أنَّ ذلك حُكْمُ كلِّ أمّ مع أولادها. ولو قلتَ (لَمَلَّتْنا) لم يحتملْ ذلك، لأنه يجري مجْرى أن تقولُ: (لو لَقيتْ أُمُّنا ذلك، لَدَخلَها ما يُملُّها منَّا). وإذا قلتَ: (ما يُمِلُّها منَّا؟) فقيَّدْتَ، لم يَصْلح لأَن يُرادَ به معنى العموم، وأنه بحيثُ يَمَلُّ كلَّ أم من كل ابن. وكذلك قوله: (إلى حُجُراتٍ أدفأتْ وأظلتِ): لأنَّ فيه معنى قولِك "حُجُراتٍ" من شأنِ مثْلها أن تُدَفئَ وتُظِلَّ؛ أي هي بالصفة التي إذا كان البيتُ عليها أَدْفأَ وأَظَلَّ؛ ولا يجَيءُ هذا المعنى مع إظهار المفعول.


إذْ لا تقول: (حجراتٍ من شَأْنِ مِثْلِها أن تُدفئنا وتُظلَّنا): هذا لَغُوٌ من الكلام، وفاعْرِفْ هذه النكْتَةَ، فإنك تَجدُها في كثير من هذا الفن، مضمومةً إلى المعنى الآخر الذي هو توفيرُ العناية على إثباتِ الفعلِ والدلالةِ على أنَّ القصْدَ من ذكْر الفعلِ، أن تُثْبتَه لفاعلهِ، لا أن تُعلِمَ التباسَهُ بمفعوله.
وإن أردتَ أنْ تزدادَ تَبييناً لهذا الأصل، أعني وُجوبَ أنْ تُسْقِط المفعولَ لتتوفَّر العنايةُ على إثبات الفعل لفاعله، ولا يَدخلَها شَوْبٌ، فانظرْ إلى قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فسقى لَهُمَا ثُمَّ تولى إِلَى الظل} [القصص: 23 - 24] ففيها حَذْفُ مفعولٍ في أربعةِ مواضعَ: إذ المعنى: وجدَ عليه أمةً من الناس يَسْقون أغنامَهم، أو مواشيَهم، وامرأتينِ تَذُودان غَنَمهما، وقالتا لا نَسْقِي غنمَنَا، فسقى لهما غنمَهَما. ثم إنَّه لا يَخْفى على ذي بَصَرٍ، أنه ليس في ذلك كلِّه إلاَّ أن يُتْرَكَ ذِكْرُه ويُؤْتى بالفعل مطْلقاً، وما ذاك إلاَّ أنَّ الغرضَ في أن يُعلَم أنه كان من الناس في تلك الحال سَقْيٌ ومن المرأتينِ ذَوْدٌ وأنهما قالتا: لا يكونُ منَّا سقْيٌ حتى يُصْدِرَ الرعاءُ؛ وأنه كان مِنْ موسى عليه السلام، مِنْ بَعْدِ ذلك سَقْي. فأمَّا ما كان المَسْقيُّ أغَنماً أم إبلاً أم غيرَ ذلك، فخارجٌ عن الغرَض ومُوْهِمٌ خِلافَه؛ وذاكَ أنه لو قيل: وجَد مِنْ دونِهمْ امرأتينِ تَذُودانِ غنَمَهما: جاز أن يكونَ لم يُنْكر الذودَ من حيث هو ذَوْدٌ بل مِنْ حيثُ هو ذَوْدُ غَنم، حتى لو كان مكانَ الغنمِ إبلٌ لم يُنكر الذودَ؛ كما أنك إذا قلتَ: مالكَ تمنعُ أخاك؟ كُنْتَ مُنْكِراً المنعَ لا من حيثُ هو مَنعٌ بل مِنْ حيثُ هو منعُ أخٍ، فاعرْفه تَعْلمْ أَنكَ لم تَجِدْ لِحَذْف المفعولِ في هذا النحو مِن الرَّوعة والحُسْن ما وجَدْتَ، إلاَّ لأنَّ في حَذْفه وتَرْكِ ذِكْرِه فائدةً جليلةً، وأن الغرَضَ لا يصِحُّ إلا على تَرْكهِ.


ومما هو كأنه نَوعٌ آخرُ غيرُ ما مضى، قول البحتري [من الطويل]:
إذا بَعُدَتْ أَبلَتْ وإن قَرُبَتْ شَفَتْ ... فهِجْرانُها يُبْلي ولُقيانُها يَشْفي
قد عُلِمَ أنَّ المعنى "إذا بَعُدَتْ عني أَبْلَتني وإن قَرُبَتْ مني شفَتْني" إلاَّ أَنك تَجِدُ الشعرَ يأبى ذِكْرَ ذلك ويُوجِبُ أطِّراحَه، وذاك لأَنَّه أرادَ أن يَجْعلَ البِلى كأنه واجِبٌ في بِعادها أن يُوجِبَه ويَجْلبه وكأنه كالطبيعة فِيه، وكذلك حالُ الشفاءِ مع القُرب حتى كأنه قال: أتدري ما بِعادُها؟ هو الداءُ المُضْني. وما قُرْبُها؟ هو الشفاءُ والبُرْءُ مِنْ كل داءٍ. ولا سبيلَ لك إلى هذه اللطيفةِ وهذه النكْتة إلا بحذْف المفعول البتةَ، فاعْرِفْهُ! وليس لِنَتائجِ هذا الحذفِ، أعني حَذْفَ المفعولِ، نهايةٌ. فإنه طريقٌ إلى ضروبٍ من الصَّنْعة وإلى لطائفَ لا تُحْصى.
(وهذا نوع منه آخر). إعْلمْ أنَّ هاهنا باباً من الإضمار والحذف، يُسمَّى:
الإضمار على شريطة التفسير
وذلك مثْلُ قولهم: (أكْرَمني وأَكْرَمْتُ عبدَ اللهِ)، أردتُ "أكرمني عبدُ الله وأكرمتُ عبدَ الله" ثم تركتُ ذِكْرَه في الأولِ استغناءً بذِكْرهِ في الثاني. فهذا طريقٌ معروفٌ ومذْهَبٌ ظاهر وشيءٌ لا يُعْبَأُ به ويُظَنُّ أنه ليس فيه أَكثرُ مما تُريكَ الأمثلةُ المذكورةُ منه. وفيه إذا أنتَ طلبتَ الشيءَ من مَعْدِنِه، منْ دقَيقِ الصنعةِ ومن جَليلِ الفائدةِ، ما لا تَجدُه إلاَّ في كلام الفحول.
فمن لطيف ذلك ونادرِهِ، قول البحتري [من الكامل]:
لوْ شِئْتَ لم تُفْسِدْ سَماحَة "حاتِمٍ" ... كَرَماً، ولم تَهْدِمْ مآثِرَ "خالدِ"


الأصلُ، لا محالة، لو شئْتَ أن لا تُفْسِدَ سماحةَ حاتم لم تُفْسِدْها، ثم حُذِفَ ذلك من الأول استغناءً بدلالته في الثاني عليه؛ ثم هو على ما تراهُ وتَعلَمُه من الحُسْن والغَرابة. وهو على ما ذكرتُ لك من أنَّ الواجبَ في حُكْم البلاغة، أن لا يُنْطَقَ بالمحذوف ولا يَظَهَرَ إلى اللفظ؛ فليس يَخفى أنك لو رَجَعْتَ فيه إلى ما هو أصْلُه فقلت: (لو شئتَ أن لا تُفسِدَ سماحةَ حاتم لم تُفْسِدْها)، صِرْتَ إلى كلامٍ غَثٍّ وإلى شيء يَمجُّهُ السمْعُ وتَعافُهُ النفْسُ، وذلك أنَّ في البيانِ إذا ورَدَ بعد الإبهام وبعد التحريك له أبداً، لطفاً ونبلاً لا يكونُ إذا لم يتقدَّمْ ما يُحرِّكُ، وأنتَ إذا قلت: "لو شئتَ": علمَ السامعُ أنكَ قد علَّقْتَ هذه المشيئةَ في المعنى بشيء. فهو يَضَعُ في نفسه أنَّ هاهنا شيئاً تَقْتضي مَشيئتُه له أن يكونَ أو أن لا يكونَ؛ فإذا قلتَ: "لم تُفسِد سماحةَ حاتم"، عرَفَ ذلك الشيءَ. ومَجيءُ المشيئةِ بعد "لو" وبعْدَ حروفِ الجزاءِ هكذا، موقوفةٌ غيرُ مُعدَّاةٍ إلى شيءٍ كثير شائع، كقوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى} [الأنعام: 35] {وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: 9] والتقديرُ في ذلك كلِّه على ما ذكرتُ. فالأَصْلُ: "لو شاء اللهُ أنْ يَجمعهم على الهدى لجمَعَهم" "ولو شاء أنْ يَهدِيَكم أجمعينَ لهَداكم". إلا أَنَّ البلاغةَ في أن يُجاءَ به كذلك محذوفاً. وقد يتَّفقُ في بعضه، أن يكون إظهارُ المفعولِ هو الأَحْسَنَ، وذلك نَحْو قولِ الشاعر [من الطويل]:
ولو شِئتُ أَنْ أبكي دماً لبَكَيْتُهُ ... عليهِ ولكنْ ساحةُ الصبرِ أوْسَعُ
فقياس هذا، لو كان على حدِّ "ولو شاءَ اللهُ لَجمعهم على الهُدى"، أن يقول: (لو شئتُ بكيتُ دماً)، ولكنه كأنه تركَ تلك الطريقةَ، وعدَلَ إلى هذه لأنها أحْسَنُ في هذا الكلام خصوصاً. وسببُ حسْنِه أنه كأنهُ بِدْعٌ عجيبٌ أنْ يشاءَ الإِنسانُ أن يَبْكي دماً؛ فلما كان كذلك، كان الأَوْلى أن يُصرِّحَ بذِكْره ليقرِّرَهُ في نفسِ السامع ويُؤنِسَه به.


وإذا استقرَيْتَ وجدْتَ الأمرَ كذلك أبدا؛ متى كان مفعولُ المشيئةِ أمراً عظيماً أو بديعاً غريباً، كان الأَحْسَنَ أنْ يُذكَرَ ولا يُضْمَر. يقول الرجلُ يُخْبِرُ عن عِزَّة نفسِه: (لو شئتُ أن أَردَّ على الأمير ردَدْتُ، ولو شئتُ أن أَلْقى الخليفَةَ كلَّ يومٍ لَقِيتُ). فإذا لم يكن مما يُكْبِرُهُ السامعُ، فالحذفُ. كقولك: لو شئتُ خرجتُ، ولو شئتُ قمتُ، ولو شئتُ أنصفتُ، ولو شئتُ لقلت. وفي التنزيل {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هاذا} [الأنفال: 31]. وكذا تقول: لو شئتُ كنتُ كزيد، قال [من البسيط]:
لو شئتُ كنتُ كَكُرْزٍ في عبادتِه ... أو كَابْنِ طارِفَ حولَ البيتِ والحَرَمِ
وكذا الحكُمُ في غيره من حروف المُجَازاة أن تقول: إن شئتُ قلتُ، وإن أَردتُ دفعتُ. قال الله تعالى: {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ} [الشورى: 24] وقال عزَّ اسْمُه {مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]. ونظائر ذلك من الآي ترَى الحذْفَ فيها المستمرَّ.
وممَّا يُعْلَمُ أَنْ ليس فيه لغيرِ الحذْفِ وجهٌ، قولُ طرفة [من الطويل]:
وإنْ شئتُ لم تُرْقِلْ وإنْ شئتُ أرْقَلَتْ ... مخافَةَ مَلْوِيٍّ مِنْ القِدِّ مُحْصَدِ
وقولُ حميد [من الطويل]:
إذا شئتُ غنَتْني بأجزاعِ بِيشَةٍ ... أو الزُّرْقِ من تَثليثَ أَوْ بيَلَمْلما
مُطَوَّقةٌ ورقاءُ تَسْجَعُ كَلَّما ... دَنا الصيفُ وانجابَ الربيعُ فأَنجَما
وقولُ البحتري [من الطويل]:
إذا شاءَ غادى صِرمةً أو غدا على ... عقائلِ سِرْبٍ أو تَقَنَّصَ رَبْرَبا
وقولُه [من الكامل]:
لو شئتَ عُدْتَ بلادَ نَجْدٍ عَوْدةً ... فحَللْتَ بين عقيقهِ وزَرْودِهِ
معلوم أنكَ لو قلْتَ: (وإن شئتَ أن لا تُرْقِلَ لم تُرْقل. أو قلتَ: إذا شئتُ أن تُغنِّيني بأجزاع بيشة غنَّتْني، وإذا شاء أن يُغادي صرمةً غادى، ولو شئتَ أن تَعودَ بلادَ نجدٍ عودةً عُدْتَها): أذْهَبْتَ الماءَ والرونقَ، وخرجْتَ إلى كلامٍ غَثٍّ، ولفظٍ رَثٍّ، وأما قولُ الجوهري [من الطويل]:
فلم يُبْقِ منِّي الشوقُ غيرَ تَفكُّري ... فلو شئتُ أن أبكي بكَيْتُ تَفَكُّرا


فقد نَحَا به نَحْو قولهِ: ولو شئتُ أن أبكي دماً لبكيتُه، فأظْهَر مفعولَ "شئتُ" ولم يَقُلْ: (فلو شئتُ بكيتُ تفكراً) لأجل أَنَّ له غرَضاً لا يَتمُّ إلاَّ بذكر المفعول؛ وذلك أنه لم يُردِ أَن يقول: (ولو شئتُ أن أبكي تفكُّراً، بكيتُ كذلك)، ولكنه أراد أن يقول: قد أفناني النحولُ، فلم يَبْقَ مني وفيَّ غيرُ خواطرَ تَجول، وعصَرْت عيني، ليسيلَ منها دمعٌ لم أَجدْه، ويَخرُجَ بدلَ الدمع التفكُّرُ. فالبكاءُ الذي أراد إيقاعَ المشيئة عليه، مُطْلَقٌ مُبْهم غيرُ مُعَدَّى إلى التفكر البتةَ، والبكاءُ الثاني مقيَّد معدَّى إلى التفكر. وإذا كان الأمر كذلك، صار الثاني كأنه شيء غيرُ الأول، وجرَى مجرى أن تقول: لوشئتَ أن تُعطي درهماً أعطيتَ درهَمين، في أنَّ الثاني لا يَصْلح أن يكون تفسيراً للأول.
واعلمْ أنَّ هذا الذي ذكَرْنا ليس بصريح "أكرمتُ وأكرمني عبدُ الله" ولكنه شبيه به في أنه إنما حُذِفَ الذي حُذِفَ من مفعول المشيئة والإرادة، لأنَّ الذي يأتي في جوابِ (لو) وأخَواتها، يدلُّ عليه.
وإذا أردتَ ما هو صريحٌ في ذلك، ثم هو نادرٌ لطيف، يَنْطوي على معنى دقيقٍ وفائدةٍ جليلة، فانظر إلى بيت البحتري [من الخفيف]:
قد طَلَبْنا فلم نَجدْ لكَ في السُّؤْ ... دُدِ والمَجْد والمَكَارِم مِثْلا
المعنى قد طَلَبْنا لك (مِثْلاً) ثم حذَفَ، لأنَّ ذكْرَه في الثاني يدلُّ عليه. ثم إنَّ في المجيء به كذلك، مِن الحُسْن والمَزيَّة والروعة ما لا يَخْفى، ولو أنه قال: (طلَبْنا لك في السؤدد والمجد والمكارم مَثَلاً فلم نَجِدْه، لم تَرَ من هذا الحُسْن الذي تَراه شيئاً. وسببُ ذلك أَنَّ الذي هو الأصْلُ في المدح والغرض بالحقيقة، هو نَفْي الوجودِ عن المثل، فأَمَّا الطلبُ فكالشيء يُذكر ليُبنى عليه الغَرَضُ ويُؤَكَّد به أَمْرُه. وإذا كان هذا كذلك، فلو أنه قال: قد طلبَنْا لك في السؤدد والمجد والمكارم مِثْلاً، فلم نَجدْه، لكان يكونُ قد تركَ أن يُوقِعَ نفْيَ الوجود على صريح لفظ "المثل"، وأوْقَعَه على ضميره. ولن تَبلُغَ الكنايةُ مبْلَغَ الصريح أَبداً.


ويُبيِّن هذا كلامٌ ذكَرَه أبو عثمانَ الجاحظُ في كتاب البيان والتبيين وأنا أكتبُ لك الفصلَ حتى يستبينَ الذي هو المُرادُ. قال:
"والسنَّةُ في خطبة النِّكاحِ أنْ يُطيلَ الخاطِبُ ويُقصِّرَ المجِيبُ، ألا تَرى أنَّ قيْسَ بْنَ خارجةَ لمَّا ضرَبَ بسيفه مُؤخَّرةَ راحلةِ الحاملَين في شأن حَمالةِ داحس، وقال: ما لي فيها أيها العَشَمتَانِ، قالا: بل ما عندَك؟ قال: عندي قِرى كلِّ نازلٍ، ورضِى كلِّ ساخِطٍ، وخُطبةٌ مِنْ لَدُنْ تطْلُعُ الشمسُ إلى أن تَغْرُبَ، آمرُ فيها بالتواصل، وأَنْهى فيها عن التقاطع. قالوا: فخطَبَ يوماً إلى الليل، فما أعاد كلمةً ولا معْنى. فقيل لأبي يعقوب: هلاَّ اكْتَفى بالأمر بالتواصلِ، عن النَّهْي عن التقاطع؟ أو ليس الأمرُ بالصلةِ هو النهْيُ عن القطيعة؟ قال: أو ما علمْتَ أنَّ الكنايةَ والتعريضَ، لا يَعْملان في العقولِ عَمَلَ الإِيضاح والتكشيف"؟
انتهى الفصْلُ الذي أَردتُ أن أَكْتبَه؛ فقد بصَّرك هذا أنْ لن يكونَ إيقاعُ نَفْي الوجودِ على صَريحِ لفظِ "المثل" كإيقاعه على ضميره.
وإذْ قد عرَفْتَ هذا، فإنَّ هذا المعنى بعينه، قد أَوْجَبَ في بيتِ ذي الرمة، أنْ يَضعَ اللفظَ على عكس، ما وضَعه البحتريُّ، فيُعملَ الأوَّلَ من الفعلين، وذلك قوله [من الوافر]:
ولم أَمدَحْ لأرضيهِ بشعري ... لئيماً أَنْ يكونَ أصابَ مالا


أعْمَلَ "لم أمدح" الذي هو الأول في صريح لفظ اللئيم، و "أرْضى" الذي هو الثاني في ضميره، وذلك لأنَّ إيقاعَ نَفْي المدحِ على اللئيم صريحاً، والمجيءَ به مكشوفاً ظاهراً، هو الواجب من حيثُ كان أصْلُ الغرضِ، وكان الإرضاءُ تعليلاً له. ولو أنه قال: ولم أمدح لأُرْضِيَ بشعري لئيماً، لكان يكونُ قد أَبْهمَ الأمرَ فيما هو الأصْلُ وأبانَهُ فيما ليس بالأَصْل، فاعرفْه ولهذا الذي ذكَرْنا من أنَّ للتصريح عَمَلاً لا يكون مثلُ ذلك العملِ للكناية، كان لإعادة اللفظ في مِثْلِ قولهِ تعالى: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} [الإسراء: 105] وقولهِ تعالى: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصمد} [الإخلاص: 1 - 2] من الحُسْنِ والبَهْجة، ومن الفَخَامة والنُّبل، ما لا يَخْفى موضِعُه على بصيرٍ، وكان لو تُرِكَ فيه الإظهارُ إلى الإضمار، فقيل: (وبالحقِّ أنزلناه وبه نزل). و (قلْ هُوَ الله أَحدٌ هو الصَّمَدُ) لعدمتَ الذي أنتَ واجِدُه الآن.


فصل: القول في الحذف - نتيجة
قد بانَ الآنَ واتَّضحَ لِمَنْ نَظَر نظَرَ المتثبِّتِ الحصيفِ الراغبِ في اقتداحِ زِنادِ العَقْل، والازْديادِ من الفضْلِ، وَمْن شأْنُه التوقُ إلى أن يَعْرفَ الأشياءَ على حقائقها، ويَتغلغَلَ إلى دقائقها، ويرْبأَ بِنفْسِهِ عن مرْتَبةِ المُقَلِّد الذي يَجْري مع الظاهر، ولا يَعْدُوا الذي يَقَعُ في أول الخاطرِ، أَنَّ الذي قلتُ في شأن الحَذْف، وفي تفخيم أمره، والتنويه بذِكْره، وأنَّ مأْخَذَه مَأْخذٌ يُشْبِهُ السِّحْر، ويَبْهَرُ الفِكْر، كالذي قلتُ: وهذا فَنٌّ آخرُ من معانيه عجيب وأنا ذاكرٌ لك:
أعَنْ سَفَهٍ يومَ الأُبَيْرَقِ أم حِلْمِ
وهو يذكر مُحاماةَ الممدوحِ عليه وصيانَتَه له ودفْعهَ نوائبَ الزمانِ عنه [من الطويل]:
وكَمْ ذُدْتَ عني مِنْ تَحامُل حادِثٍ ... وسَوْرةِ أَيام حَزَزْنَ إلى العَظْم

الأَصْلُ، لا محالةَ، (حززْنَ اللَّحْمَ إلى العظم)، إلاَّ أن في مجيئه به محذوفاً، وإسقاطِه له من النُّطْق، وتَرْكهِ في الضميرِ، مزَّيةً عجيبةً وفائدةً جليلةً، وذاك أنَّ مِنْ حِذْق الشاعرِ أَنْ يُوقِعَ المعنى في نَفْس السامعِ إيقاعاً يَمنعُه به مِنْ أنْ يتوَهَّم في بدءِ الأمر شيئاً غيرَ المرادِ، ثم ينصرفُ إلى المرادِ؛ ومعلومٌ أنه لو أظْهَر المفعول فقال: وسَوْرة أيامٍ حززن اللَّحَم إلى العظم)، لجاز أن يقعَ في وَهْم السامع، إلى أن يجيء إلى قوله: "إلى العظم"، أنَّ هذا الحزَّ كان في بعض اللحم دُونَ كلِّه، وأنه قطَعَ ما يلي الجِلْدَ ولم يَنْتَهِ إلى ما يلي العظم،؛ فلمَّا كان كذلك، ترَكَ ذِكْر اللحم وأَسْقَطَه من اللفظ ليُبْرِئَ السامعَ مِنْ هذا، ويَجعلَهُ بحيث يَقعُ المعنى منه في أَنْفِ الفَهْمِ، ويَتصوَّرُ في نفسه من أول الأمْر، أنَّ الحزَّ مضى في اللحم حتى لم يَردَّه إلاَّ العْظمُ. أفيكونُ دليلٌ أوضحَ من هذا، وأَبْيَنَ وأجْلى في صحة ما ذكرتُ لك، مِنْ أنك قد تَرى تَرْكَ الذكْرِ أفْصَحَ من الذكْرِ، والامتناعَ من أن يَبْرزَ اللفظُ من الضمير، أحْسَنَ للتصوير؟