دلائل الإعجاز ت الأيوبي باب اللفظ والنظم
فصل
وغلَطُ الناسِ في هذا الباب كثيرٌ، فمِنْ ذلك أَنك تَجدُ
كثيراً ممَّن يتكلَّمُ في شأن البلاغة، إذا ذكَر أنَّ للعربِ
الفضلَ والمزيةَ في حسْنِ النظم والتأليف، وأنَّ لها في ذلك
شأْواً لا يبلُغُه الدخلاءُ في كلامهم والمولَّدونَ، جعَلَ
يُعلِّل ذلك بأن يقول: لا غرْوَ، فإنَّ اللغة لها بالطبع، ولنا
بالتكلف؛ ولن يبلُغَ الدخيلُ في اللغاتِ والألسنةِ مبْلَغَ
مَنْ نشأَ عليها، وبُدئ مِن أول خَلْقهِ بها، وأشباهِ هذا مما
يُوهِمُ أنَّ المزية أَتتْها من جانب العِلْم باللغة؛ وهو
خَطأٌ عظيمٌ وغلَطٌ منْكَرٌ يُفْضِي بقائله إلى رفْع الإعجازِ
مِنْ حيثُ لا يَعْلَم. وذلك أنه لا يَثْبتُ إعجازٌ حتى
تَثْبُتَ مزايا تَفُوقُ علومَ البشرِ وتَقْصُرُ قِوى نَظَرِهم
عنها، ومعلوماتٌ ليس في مُنَنِ أفكارهم وخَواطرهم أَنْ تُفضَي
بهم إليها، وأنْ تُطْلِعهَم عليها؛ وذلك محالٌ فيما كان علْماً
باللغة؛ لأنه يؤدي إلى أن يحدُثَ في دلائل اللغة ما لم
يتواضَعْ عليه أهلُ اللغةِ، وذلك ما لا يَخْفى امتناعُه على
عاقلٍ.
واعلمْ أَنَّا لم نُوجِبْ المزيَّةَ من
أجلِ العِلْم بأَنفُس الفُروق والوجوهِ فنَسْتنِدَ إلى اللغة،
ولكنَّا أوجبْناها للعلم بمواضعها وما يَنْبغي أن يُصْنَع
فيها؛ فليس الفضْلُ للعلم بأنَّ (الواو) للجمع و (الفاء)
للتعقيب بغير تَراخٍ و "ثم" له بشرط التراخي و "إنْ" لكذا و
"إذا" لكذا؛ ولكنْ لأَنْ يتأتَّى لكَ، إذاً نظَمْتَ وألَّفْتَ
رسالةً، أنْ تُحْسِنَ التخيُّرَ وأن تَعْرِفَ لكلٍّ مِنْ ذلك
مَوضِعَه، وأمرٌ آخرُ إذا تأمَّلهُ إنسانٌ أَنِفَ من حِكايةِ
هذا القولِ، فضْلاً عن اعتقاده، وهو أنَّ المزية لو كانت تَجبُ
من أجْلِ اللغة والعِلْم بأوضاعها وما أرادَهُ الواضعُ فيها،
لكان يَنَبْغي أنْ لا تَجِبَ إلا بِمْثل الفرْقِ بين (الفاء) و
(ثم) و (إنْ) و (إذا) وما أشبَهَ ذلك، مما يعبِّرُ عنه وضعٌ
لغوي؛ فكانت لا تَجِبُ بالفصْل، وتَرْك العْطفِ، وبالحذْفِ
والتكرارِ والتقديمِ والتأخيرِ وسائر ما هو هيئةٌ يُحْدِثُها
لك التأليفُ، ويَقْتضيها الغَرضُ الذي تَؤُم والمعنى الذي
تَقْصِد، وكان ينبغي أن لا تَجب المزيةُ بما يَبْتدِئه الشاعرُ
والخطيبُ في كلامه من استعارة اللفظ للشيء لم يُسْتَعَر له،
وأنْ لا تكون الفضيلةُ إلاَّ في استعارةٍ قد تُعورِفَتْ في
كلام العربِ وكفى بذلك جَهْلاً. ولم يكنْ هذا الاشتباهُ وهذا
الغَلطُ، إلاّ لأنَّه ليس في جملة الخفايا والمُشْكِلات أغربُ
مَذْهباً في الغموض، ولا أَعْجَبُ شأناً من هذه التي نحنُ
بصَدَدِها، ولا أَكثرُ تفلُّتاًَ من الفَهْم، وانسلالاً منها؛
وإنَّ الذي قاله العلماءُ والبلغاءُ في صفتها والإخبار عنها،
رموزٌ لا يَفْهمُها إلاَّ مَنْ هو في مثْلِ حالِهمْ مِنْ
لُطْفِ الطَّبْع، ومَنْ هو مُهَيَّأٌ لِفَهْم تلكَ الإشاراتِ،
حتى كأنَّ تلك الطباعَ اللطيفةَ وتلكَ القرائحَ والأذهانَ، قد
تواضعَتْ فيما بينها على ما سَبيلُه سبيلُ الترجمةِ يِتَواطأُ
عليها قومٌ، فلا تَعْدوهُمْ ولا يعَرفُها مَنْ ليس منهم.
وليت شعري مِنْ أينَ، لِمَنْ لم يتْعَبْ في
هذا الشأن، ولم يمارسْه ولم يوفرْ عنايَتَه عليه، أنْ يَنْظُرَ
إلى قولِ الجاحظ وهو يَذْكُر إعجازَ القرآن: "وَلو أَنَّ رجلاً
قرأَ على رَجُلٍ من خُطبائهم وبُلَغائهم، سورةً قصيرةً أو
طويلةً، لَتبيَّنَ له في نظامها ومَخْرجها من لفظها وطابَعها،
أنه عاجزٌ عن مِثْلها ولو تَحدَّى بها أبلَغَ العربِ، لأَظْهَر
عجْزَه عنها"؛ وقولِه وهو يَذكُر رواةَ الأَخبار "ورأيتَ
عامتَهم؛ فقد طالَتْ مشاهدتي لهم وهُم لا يقفون إلاَّ على
الألفاظ المتخيَّرةِ، والمعاني المنتخَبة، والمخَارِج السهلةِ،
والديباجة الكريمةِ، وعلى الطبع المتمكِّن، وعلى السَّبْك
الجيِّد وعلى كل كلامٍ له ماءٌ ورَونَقٌ" وقولهِ في بَيْت
الحُطَيئة [من الطويل]:
متَى تَأَتِهِ تَعْشُو إِلى ضَوْءِ نارِهِ ... تَجدْ خيرَ نارٍ
عندَها خيرُ مَوْقِدِ
"وما كان ينبغي أن يُمدَح بهذا البيتِ إلاَّ مَنْ هو خيرُ أهل
الأرضِ. على أَني لم أُعْجَب بمعناه أكثرَ من عَجَبي بلفظهِ
وطَبْعه ونَحْته وسَبْكه" فيَفْهَمُ منه شيئاً أو يقفُ للطابَع
والنظامِ والنحْتِ والسَّبْكِ والمَخَارجِ السَّهْلةِ على
معنى، أو يَحْلى منه بشيءٍ، وكيف بأنْ يَعْرفه، ولربما خفيَ
على كثيرٍ من أَهْله.
واعلمْ أنَّ الداءَ الدَّويَّ والذي أعيى
أمرُهُ في هذا الباب، غَلطُ منْ قدَّمَ الشعرَ بمعناه، وأقلَّ
الاحتفالَ باللفظ، وجعَلَ لا يُعطيهِ مِنَ المزيَّةِ - إنْ هو
أَعطى - إلاَّ ما فَضَل عن المعنى، يقول: (ما في اللفظ لولا
المعنى، وهل الكلامُ إلا بمعناه)؟ فأنتَ تراه لا يُقدِّم شعراً
حتى يكونَ قد أَوْدَعَ حكمةً وأَدباً، واشتمل على تشبيهٍ غريبٍ
ومعنى نادر؛ فإنْ مالَ إلى اللفظ شيئاً ورأى أن ينحلَه بعضَ
الفضيلةِ لم يَعِرفْ غيرَ الاستعارةِ، ثم لا يَنْظُر في حال
تلك الاستعارةِ: أَحَسُنَتْ بمجرَّدِ كونِها استعارةً، أَمْ
مِن أجْل فَرْقٍ ووَجْهٍ، أم للأمرَيْن؟ لا يحفلُ بهذا وشبهه.
قد قَنَعَ بظواهر الأمورِ وبالجُمَل، وبأن يكون كَمَنْ
يَجْلُبُ المتاعَ للبيع؛ إِنما همُّه أن يروج عنه. يرى أنه إذا
تكلم في الأخذ والسرقة وأحْسَنَ أن يقول: أخذَهُ من فلان،
وألمَّ فيه بقولِ كذا، قد استكمل الفضْلَ وبلغَ أقصى ما يرادُ.
واعلمْ أنَّا وإنْ كنَّا إذا اتَّبَعْنا
العُرفَ والعادةَ، وما يَهْجسُ في الضمير، وما عليه العامَّةُ،
أرانا ذلكَ أنَّ الصوابَ معهم، وأنَّ التعويلَ ينبغي أن يكون
على المعنى، وأنَّه الذي لا يَسوغُ القولَ بخلافه، فإنَّ
الأمرَ بالضدِّ إذا جئْنا إلى الحقائقِ وإلى ما عليه
المحصِّلون، لأنَّا لا نَرى متقدِّماً في علم البلاغة،
مبرِّزاً في شأوها، إلاَّ وهو يُنْكِرُ هذا الرأي وَيعيبُه
ويُزْري على القائل به، وَيَغْضُّ منه. ومن ذلك ما رُويَ عن
البحتري. رُويَ أن عُبَيْدَ الله بنَ عبدِ الله بن طاهرٍ سألَه
عن مُسْلم وأبي نُوَاس، أيُّهما أشعر؟ فقال: أبو نُوَاس! فقال
إنَّ أبا العباس ثعلباً لا يوافقك على هذا، فقال: ليس هذا من
شأنَ ثَعْلَب وذويه مِن المتعاطين لعلم الشعر دُون عَمله، إنما
يَعْلَمُ ذلك مَنْ دُفِع في سَلْكِ طريقِ الشعر إلى مُضَايِقه
وانتهى إلى ضَروراته. وعن بعضِهم أنه قال: رآني البحتري ومعي
دفتر شعر، فقال ما هذا؟ فقلتُ شعرَ الشنفرى، فقال: وإلى أينَ
تَمْضي؟ فقلتُ: إلى أبي العباس أقرأه عليه، فقال: قد رأيتُ
أَبا عبَّاسِكم هذا منذ أيامٍ، عند ابن ثَوَابة فما رأيتُه
ناقداً للشعر، ولا مميزاً للألفاظ، ورأيتُه يَستجيد شيئاً
ويُنشِدُه، وما هو بأَفضَلِ الشعر، فقلت له: أمَّا نَقْدُه
وتَمييزُه فهذه صناعة أخرى، ولكنَّه أعرفُ الناس بإعرابه
وغَريبهِ فما كان يُنشد؟ قال: قولَ الحارثِ بن وَعْلَة [من
الكامل]:
قَومي هُمُ قَتلُوا، أُمَيمَ، أَخي ... فإذا رَمَيْتُ يُصِيبني
سَهْمي
فلِئنْ عفَوْتُ لأَعْفُوَنْ جَلَلاً ... ولئنْ سَطَوْتُ
لأُوهِيَنْ عَظْمي
فقلتُ: واللهِ ما أَنْشَد إلاَّ أحْسَن شَعرٍ في أحسنِ معنًى
ولفظٍ: فقال: أَين الشعرُ الذي فيهِ عُروقُ الذهب؟ فقلتُ:
مثْلُ ماذا؟ فقال: مثلُ قولِ أبي ذؤَاب [من الكامل]:
إنْ يَقْتلوكَ فقد ثَلَلْثَ عُروشَهُمْ ... بِعُتَيْبَةَ بنِ
الحارثِ بِنِ شِهاب
بأَشَدِّهم كَلَباً على أَعدائهم ... وأعَزِّهِمْ فَقْداً على
الأَصْحابِ
وفي مثل هذا قال الشاعر [من الطويل]:
زوامل للأشعار لا عِلْمَ عندهُمْ ... بجيِّدها إلاَّ كَعِلْم
الأَباعِرِ
لعمرُكَ ما يدري البعَيرُ إذا غَدَا ...
بأَوْسَاقِه أَوْ راحَ ما في الغرائرِ
وقال الآخر [من الخفيف]:
يا أبا جعفر تَحَكَّمُ في الشعْـ ... ـرِ وما فيكَ ألةُ
الحُكَّامِ
إنَّ نَقْدَ الدينارِ إلاَّ على الصَّيْـ ... ـرَف صَعْبٌ
فكَيْفَ نَقْدُ الكلام
قد رأيناكَ لسْتَ تَفْرُق في الأشْـ ... ـعارِ بَيْنَ
الأَرْواحِ والأَجْسَامِ
واعلْمْ أَنَّهم لم يَعيبوا تقديمَ الكلام بمعناه، من حيثُ
جَهِلوا أنَّ المعنى إذا كان أدباً وحكْمةً وكان غَريباً
نادراً، فهو أَشَرَفُ مما ليس كذلك، بل عابوه مِن حيثُ كان
مِنْ حُكْمِ مَنْ قَضى في جنسٍ من الأجناس بفَضْلٍ أو نقصٍ أنْ
لا يَعْتبرَ في قَضِيَّتِهِ تلك، إلاَّ الأوصافَ التي تَخصُّ
ذلك الجنسَ، وتَرْجعُ إلى حقيقته، وأن لا يَنْظَرَ فيها إلى
جنسٍ آخر، وإنْ كان من الأوَّل بسبيلٍ أو متصلاً به اتصالَ ما
لا ينفك منه. ومعلومٌ أنَّ سبيلَ الكلام سبيلُ التصوير
والصياغةِ، وأنَّ سبيلَ المعنى الذي يُعَبَّرُ عنه، سبيلُ
الشيء الذي يقعُ التصويرُ والصَّوْغُ فيه، كالفضة والذهب يُصاغ
منهما خاتَمٌ أو سوارٌ. فكما أنَّ مُحالاً إِذا أنتَ أردْتَ
النظرَ في صَوْغَ الخاتَم وفي جودةِ العملُ ورداءتهِ، أن
تَنْظُرَ إلى الفضة الحاملةِ لتلكَ الصورة، أو الذهبِ الَذي
وقعَ فيه العملُ وتلكَ الصنعةُ - كذلك مُحالٌ إذا أردتَ أن
تَعرف مكانَ الفضلِ والمزيةِ في الكلام، أن تَنظُرَ في مجرَّد
معناه. وكما أنَّا لو فضَّلْنا خاتَماً على خاتمٍ بأن تكونَ
فضةُ هذا أجودَ، أو فَصُّه أنفسَ، لم يكن ذلك تفضيلاً له من
حيثُ هو خاتمَ، كذلك ينبغي إذا فضَّلنا بيتاً على بيتٍ من أجل
معناه أن لا يكون تفضيلاً له من حيث هو شِعرٌ وكلامِ، وهذا
قاطعٌ فاعرفْه!.
واعلمْ أَنك لستَ تنظرُ في كتابٍ صُنِّفَ
في شأنِ البلاغةِ، وكلام جاء عن القدماء، إلاَّ وجدْتَه يَدلُّ
على فساد هذا المذهب، ورأيتَهُمْ يَتشدَّدُون في إنكاره
وَعْيبه والعَيْبِ به. وإذا نظرتَ في كتب الجاحظَ وجدتَه يبلغ
في ذلك كلَّ مبلغ ويتشدَّد غايةَ التشدُّد، وقد انتهى في ذلك
إلى أن جعل العِلْم بالمعاني مشتركاً وسوَّى فيه بين الخاصَّة
والعامَّة فقال: "ورأيتُ ناساً يُبَهرِجونَ أشعارَ المولَّدينَ
ويَستَسْقطون مَنْ رَواها، ولم أرَ ذلكَ قطُّ إلاَّ في روايةِ
غير بَصيرٍ بجوهَر ما يُرْوَى، ولو كان له بَصرٌ لَعَرف موضِعَ
الجيِّد ممَّن كان وفي أيِّ زمان كان. وأنا سمعتُ أبا عمرو
الشيباني، وقد بلغَ من استجادته لهذين البيتينِ، ونحنُ في
المسجد الجامع يومَ الجمعة، أن كلَّفَ رجلاً حتى أَحضرَهُ
قرطاساً ودواةً حتى كتَبَهما. قال الجاحظ: وأنا أَزعمُ أن
صاحبَ هذين البيتين لا يقول شعراً أبداً، ولولا أنْ أَدخَلَ في
الحكومةِ بعضَ الغَيْبِ، لزعمتُ أنَّ ابنَه لا يقول الشعر
أيضاً، وهما قوله [من السريع]:
لا تحسبنَّ الموتَ موْتَ البلى ... وإنَّما الموتُ سؤالُ
الرجالْ
كلاهما موتٌ ولكنَّ ذا ... أَشَدُّ من ذاكَ على كُلِّ حالْ"
ثم قال: "وذهبَ الشيخُ إلى استحسانِ المعاني والمعاني مطروحةٌ
في الطريق، يَعْرفُها العجميُّ والعربيُّ، والقرويُّ
والبدويُّ، وإنما الشأنُ في إقامة الوزنِ، وتَخيّر اللفظِ،
وسهولَة المَخْرج، وصحَّةِ الطَّبْعِ، وكَثْرةِ الماءِ، وجودةِ
السَّبْك، وإنما الشِّعرُ صياغةٌ وضربٌ من التصوير". فقد
تَراهُ كيفَ أَسْقَطَ أمرَ المعاني وأبَى أن يَجِبَ لها فضْلٌ
فقال: (وهي مطروحة في الطريق) ثم قال: (وأنا أزعمُ أنَّ صاحبَ
هذين البيتين لا يقول شعراً أبداً)، فأعْلَمَكَ أنَّ فَضْلَ
الشعر بلفظِه، لا بمعناهُ، وأنه إذا عَدِمَ الحُسْنَ في لفظه
ونَظْمه، لم يستحقَّ هذا الاسمَ بالحقيقة. وأعاد طَرَفاً من
هذا الحديث في (البيان) فقال:
"ولقد رأيتُ أبا عمر والشيبانيَّ يكتبُ
أشعاراً من أفواه جلسائه، ليُدخِلَها في باب التحفُّظ
والتذكُّر، وربما خيِّل إليَّ أنَّ أبناء أولئك الشعراءِ لا
يستطيعون أبداً أن يقولوا شعراً جيداً لمكان أعراقهم من أولئك
الآباء: (ثم قال) ولولا أنْ أكونَ عيَّاباً ثُمَّ للعلماء
خاصة، لصورتُ لك بعضَ ما سمعتُ من أبي عبيدة. ومَن هو أبعدُ في
وهْمك من أبي عبيدة؟ "
واعلمْ أَنهم لم يَبْلغوا في إنكار هذا المذهبِ ما بلَغوه
إلاَّ لأنَّ الخطأَ فيه عظيمٌ وأنه يُفْضي بصاحبه إلى أن
يُنْكِر الإعجازَ ويُبْطِلَ التحدِّي من حيثُ لا يَشعر، وذلك
أنه إنْ كان العملُ على ما يَذهبون إليه من أنْ لا يَجِبَ فضلٌ
ومزيةٌ إلاَّ من جانب المعنى، وحتى يكونَ قد قال حكمةً أو
أدباً، واستخرجَ معنًى غريباً أو شبيهاً نادراً، فقد وَجَب
اطِّراحُ جميعِ ما قالَه الناسُ في الفصاحة والبلاغة، وفي شأنِ
النظم والتأليف، وبَطَلَ أنْ يجِبَ بالنظم فضْلٌ وأن تَدْخُلَه
المزيةُ وأن تتفاوتَ فيه المنازلُ. وإذا بطَلَ ذلك، فقد بطَل
أن يكَون في الكلام مُعْجِزٌ وصار الأمرُ إلى ما يقولُه
اليهودُ، ومَنْ قال بمثْلِ مقَالِهم في هذا الباب ودخلَ في مثل
تلك الجَهالات، ونَعُوذ بالله من العَمَى بعْدَ الإبصار!
فصل منه
لا يكونُ لإحدى العبارتين مزيةٌ عَلَى الأخرى، حتى يكون لها في
المعنى تأثيرٌ لا يكونُ لصاحبتها، فإن قلتَ: فإذا أفادتْ هذه
ما لا تُفيدُ تلكَ، فليسَتا عبارتَيْنِ عن معنى واحدٍ، بل هما
عبارتان عن معنَيَيْن اثنينِ، قيل لكَ: إنَّ قولَنا "المعنى"
في مثل هذا، يُرادُ به الغرضُ. والذي أرادَ المتكلمُ أن
يُثْبته أو يَنْفِيَه نَحْو أن تَقْصد تشبيه الرجل بالأسد،
فتقولَ: (زيدٌ كالأسد). ثم تريدُ هذا المعنى بعينهِ فتقولُ:
(كأن زيداً الأسدُ). فتُفيدُ تشبيهَهُ أيضاً بالأَسد، إلاَّ
أنك تَزيدُ في معنى تشبيهِهِ به، زيادةً لم تَكُنْ في الأول،
وهي أنْ تَجعله من فَرْط شَجاعته وقوةِ قَلْبه، وأنه لا
يَرُوعُه شيءٌ بحيث لا يتَميَّزُ عن الأسد، ولا يُقَصِّر عنه،
حتى يتوَّهم أنه أسدٌ في صورة آدميٍّ. وإذا كان هذا كذلك،
فانظرْ هل كانت هذه الزيادةُ وهذا الفرقُ إلاَّ بما تُوَخِّيَ
في نظم اللفظِ وترتيبهِ حيثَ قُدِّم (الكافُ) إلى صدرِ الكلام
ورُكِّبتْ مع "أنَّ". وإذا لم يكنْ إلى الشكِّ سبيلٌ أنَّ ذلكَ
كان بالنظم، فاجعلْه العِبْرَة في الكلام كلِّه وَرُضْ نَفْسَك
على تفهُّم ذلك وتَتبُّعه، واجعلْ فيها أنك تُزالُ منه أمْراً
عظيماً لاَ يُقادَرُ قَدْرُه، وتَدخُلُ في بحرٍ عميق لا
يُدْرَك قعرُه!
فصل: هو فن آخر يرجع
إلى هذا الكلام
قد عُلِمَ أنَّ المُعارِضَ للكلام، معارِضٌ له مِنَ الجهة التي
منها يوصفُ بأنه فَصيحٌ وبَليغٌ، ومتخيَّر اللفظُ، جيدُ
السبْكِ ونحوُ ذلك من الأوصافِ التي نَسَبُوها إلى اللفظ. وإذا
كان هذا هكذا، فبِنا أنْ نَنْظرَ، فيما إذا أُتيَ به كان
معارضاً، ما هو؟ أهو أنْ يجيءَ بلفظٍ فيضعَه مكانَ لفظٍ آخرَ،
نحو أنْ يقولَ: بدلَ "أسد" "ليث" وبدل "بَعُدَ" "نأى" ومكان
"قرُبَ" "دنا"، أمْ ذلك ما لا يذهبُ إليه عاقلٌ ولا يقولُه
مَنْ به طَرْقٌ؟ كيفَ، ولَوْ كان ذلك معارَضةً لكان الناسُ لا
يَفصلِون بين الترجمةِ والمعارَضَة، ولكان كلُّ مَنْ فَسَّرَ
كلاماً، معارِضاً له؟ وإذا بطَل أن يكون جهةً للمعارَضَة وأن
يكون الواضِعُ نفسُه في هذه المنزلة معارضاً على وجهٍ من
الوجوهِ، علمتَ أنَّ الفصاحةَ والبلاغةَ وسائرَ ما يجري في
طريقهما، أوصافٌ راجعةٌ إلى المعاني وإلى ما يُدَلُّ عليه
بالألفاظ دون الألفاظ أنفُسِها، لأنه إذا لم يكن في القسمة إلا
المعاني والألفاظُ، وكان لا يُعْقَل تعارضٌ في الألفاظ
المجرَّدة إلا ما ذكرتُ، لم يَبْقَ إلا أنْ تكونَ المعارضةُ
معارضةً من جهةٍ تَرجعُ إلى معاني الكلام المعقولة دون ألفاظه
المسموعة. وإذا عادت المعارضةُ إلى جهة المعنى وكان الكلامُ
يعارَض من حيث هو فَصيحٌ وبليغٌ ومُتخيَّرُ اللفظِ، حصَلَ من
ذلك أنَّ الفصاحةَ والبلاغةَ وتخيرَ اللفظ، عبارةٌ عن خصائصَ
ووجوهٍ تكون معاني الكلام عليها، وعن زياداتٍ تَحْدثُ في أصول
المعاني كالذي أريتُكَ فيما بين "زيدً كالأسد" و "كأنَّ زيداً
الأسدُ" وأنْ لا نَصيبَ للألفاظِ من حيث هي ألفاظٌ فيها بوجهٍ
من الوُجوه.
واعلمْ أنك لا تَشْفي العلَّةَ ولا تنْتهي
إلى ثلجِ اليقين، حتى تتجاوزَ حدَّ العلم بالشيء مجْملاً إلى
العِلْم به مفصَّلاً، وحتى لا يُقْنِعَك إلا النظرُ في زواياه
والتغلغل في مكامنه، وحتى تكون كمَنْ تتَبَّع الماءَ حتى عرَفَ
منْبَعهَ وانتهى في البحث عن جوهرِ العُود الذي يُصْنَع فيه،
إلى أنْ يعْرِفَ منْبِتَه ومجرى عُروقِ الشجر الذي هو منه.
وإنَّا لنراهم يقيسونَ الكلام في معنى المعارَضة، على الأعمالِ
الصناعيةِ كنَسْج الديباجِ وصَوْغِ الشَّنْفِ والسِّوَار
وأنواعِ ما يُصاغُ، وكلِّ ما هو صَنْعةٌ وعملُ يَدٍِ بعد أن
يَبلُغَ مبلغاًً يقعُ التفاضُلُ فيه، ثم يَعظُم حتى يَزيدَ فيه
الصانعُ على الصانِع زيادةً يكون له بها صيتٌ ويدخُلُ في حدِّ
ما يَعْجَزُ عنه الأكثرونَ.
وهذا القياسُ وإن كان قياساً ظاهراً
معلوماً، وكالشيءِ المركوز في الطباع، حتى ترَى العامَّةَ فيه
كالخاصَّة، فإنَّ فيه أمراً يجبُ العلمُ به، وهو أنه يُتصوَّر
أن يَبْدأ هذا فيَعْمل ديباجاً، ويُبْدِعَ في نقشِه وتصويره،
فيجيءُ آخرُ ويَعْمل ديباجاً آخر مثْلَه في نقْشهِ وهيئتِه
وجملةِ صفته، حتى لا يَفْصِلَ الرائي بينهما، ولا يقَعَ لمن لم
يَعْرِفْ القصةَ ولم يَخْبُر الحالَ، إلا أنهما صنعةُ رجلٍ
واحد وخارجان من تحت يدٍ واحدة؛ وهكذا الحكْم في سائر
المصنوعاتِ كالسِّوار يَصوغُه هذا، ويجيءُ ذاكَ فيَعْملُ
سواراً مثله ويؤدِّي صنْعَتَه كما هي، حتى لا يُغادِرَ منها
شيئاً البتَّةَ؛ وليس يُتَصوَّر مثلُ ذلك في الكلام، لأنه لا
سبيلَ إلى أن تجيء إلى معنى بيتٍ من الشعرٍ أو فْصِلٍ من
النثرِ فتؤدِّيَهُ بعينهِ وعلى خاصِّيَّتهِ وصَنْعَتهِ، بعبارة
أخرى، حتى يكونَ المفهومُ مِن هذه هو المفهومُ مِن تلك، لا
يُخالِفُه في صِفَةٍ ولا وَجْهٍ ولا أمرٍ من الأُمور، ولا
يَغُرَّنَّكَ قولُ الناس: (قد أتى بالمعنى بعينِه وأخَذَ معنى
كلامِهِ فأَدَّاهُ على وجههِ)؛ فإنه تَسَامحٌ منهم؛ والمرادُ
أنه أدَّى الغرَضَ فأمَّا أن يؤدِّيَ المعنى بعينهِ على الوجْه
الذي يكونُ عليه في كلام الأول، حتى لا تَعْقِلَ ههنا إلا ما
عقَلْتَه هناك، وحتى يكونَ حالُهما في نفْسِك حال الصورَتَيْنِ
المشتبهتَيْنِ في عينك، كالسوارَيْن والشَّنْفَيْن، ففي غاية
الإحالة، وظنٌّ يُفضي بصاحبه إلى جهالةٍ عظيمةٍ وهي أن تكون
الألفاظُ مختلفةَ المعاني إذا فُرِّقتْ، ومتَّفِقَتهَا إذا
جُمِعَتْ وأُلِّفَ منها كلامٌ؛ وذلك أنْ ليسَ كلامُنا فيما
يُفْهَمُ من لفظتينِ مفردَتْين نحو "قعدَ وجلَسَ" ولكن فيما
فُهم من مجموع كلامٍ، ومجموعِ كلامٍ آخرَ. نحو أن تنظر في قوله
تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وقولِ
الناس: (قتلُ البعضِ إحياءٌ للجميع): فإنه وإنْ كان قد جرَتْ
عادةُ الناسِ بأن يقولوا في مثل هذا إنهما عبارتان معبَّرُهما
واحدٌ، فليس هذا القولُ قولاً يمكنُ الأخذُ بظاهرِهِ أوْ
يَقَعُ لعاقلٍ شكٌّ أنْ ليس المفهومُ مِن أحدِ الكلامين
المفهوم من الآخر.
فصل
الكلامُ على ضَرْبين: ضربٌ أنتَ تَصِلُ منه إلى الغَرضِ
بدلالةِ اللفظِ وحدَه، وذلك إذا قصَدْتَ أن تُخْبِر عن زيد
مثلاً "بالخروج" على الحقيقة، فقلتَ: (خرج زيدٌ): و
"بالانطلاقِ" عن عمرو، فقلتَ: (عمروٌ منطلِقٌ)؛ وعلى هذا
القياسِ. وضربٌ آخر أنتَ لا تصِلُ منه إلى الغرضِ بدلالة
اللفظِ وحدَه، ولكنْ يدلُّكَ اللفظُ على معناه الذي يَقْتضيه
موضوعُهُ في اللغة، ثم تَجدُ لذلك المعنى دلالةً ثانيةً تَصِلُ
بها إلى الغَرَض، ومَدارُ هذا الأمر على الكناية والاستعارة
والتمثيل. وقد مضتِ الأمثلةُ فيها مشروحة مستقصاة؛ أوَ لا تَرى
أنكَ إذا قلْتَ: (هو كثيرُ رمادِ القِدْر)، أو قلتَ: (طويلُ
النجاد)، أو قلتَ في المرأةِ: (نَؤُومُ الضحى) فإنَّكَ في جميع
ذلك لا تُفيدُ غرضَك الذي تعني مِنْ مجردِ اللفظ، ولكنْ يَدلُّ
اللفظُ على معناه الذي يُوجِبُهُ ظاهرهُ، ثم يَعْقِلُ السامعُ
من ذلك المعنى، على سبيلِ الاستدلالِ، معنًى ثانياً هو
غَرَضُك، كمعرفتِكَ مِنْ (كثير رماد القدر) أنه مضيافٌ، ومن
(طويل النِّجاد) أنه طويلُ القامة، ومن (نؤوم الضحى) في
المرأة، أنها مُتْرفَةٌ مخدومةٌ لها - مَنْ يكفيها أَمْرَها.
وكذا إذا قال: (رأيتُ أسداً) - ودلَّكَ الحالُ على أنه لم
يُرِدِ السبعَ - علمتَ أنه أرادَ التشبيهَ، إِلا أنَّه بالغَ
فجعل الذي رآه بحيث لا يتميِّزُ عن الأسَد في شجاعته. وكذلك
تعلم من قوله: (بَلَغَني أنك تُقَدِّمُ رِجْلاً وترخِّر
أَخرى)، أنَّه أراد التردُّدَ في أمر البَيْعة واختلاف العَزْم
في الفعل وتَرْكِه، على ما مضى الشرحُ فيه.
وإذْ قد عرفْتَ هذه الجملة، فهاهنا عبارةٌ مختصرةٌ وهي: أن
تَقولَ المعنى ومعنى المعنى. تَعنى بـ "المعنى" المفهومَ من
ظاهر اللفظ، والذي تَصِلُ إليه بغير واسطةٍ. وبـ "معنى المعنى"
أن تَعْقِل من اللفظ معنًى ثم يُفضي بكَ ذلك المعنى إلى معنى
آخر كالذي فسَّرْتُ لك.
وإذْ قد عرفتَ ذلك، فإذا رأيتَهم يجعلونَ
الألفاظَ زينةً للمعاني وحِلْيةً عليها، ويجعلون المعاني
كالجواري، والألفاظَ كالمعارض لها وكالوشي المحبَّر واللباس
الفاخرِ، والكُسْوة الرائقة، إلى أشباه ذلك مما يُفخِّمون به
أمرَ اللفظِ ويجعلون المعنى ينْبُلُ ويِشْرُفُ، فاعلمْ أنهم
يَضَعونَ كلاماً قد يُفخِّمون به أمرَ اللفظِ ويجعلون المعنى،
أعطاكَ المتكلمُ أغراضَه فيهِ مِنْ طريقِ "معنى المعنى"،
فكنَّى، وعرَّضَ، ومثَّل، واستعار، ثم أحْسَنَ، في ذلك كلِّه،
وأصابَ ووضعَ كلَّ شيءٍ منه في موضعِهِ، وأصابَ به شاكلته؛
وعمَد فيما كنَّى به، وشبَّهَ ومثَّلَ لما حسُنَ مأخذُه ودَقَّ
مسلَكُه ولطُفَتْ إشارتُه، وأن المِعْرَضَ وما في معناه، ليس
هو اللَفْظَ المنطوقَ به، ولكنْ معنى اللفظِ الذي دَلَلْتَ به
على المعنى الثاني كمعنى قوله [من الوافر]:
... ... ... ... ... ... ... فإني ... جبانُ الكَلْبِ مهزولُ
الفصيلِ
الذي هو دليلٌ على أنه مِضْيافٌ؛ فالمعاني الأُوَلُ المفهومه
من أنْفُس الألفاظ، هي المَعارِضُ والوشْيُ والحَلْيُ وأشباهُ
ذلك. والمعاني الثواني التي يُومَأُ إليها بتلك المعاني، هي
التي تُكْسَى تلك المعارضَ وتزيَّن بذلك الوشي والحلي. وكذلك
إذا جُعِلَ المعنى يُتَصَوَّرُ من أجلِ اللفظِ بصورةٍ، ويبدو
في هيئةٍ ويتشكَّل بشكلٍ يُرجِع المعنى في ذلك كلِّه إلى
الدلالاتِ المعنوية، ولا يصلُح شيء منه حيثُ الكلامُ على
ظاهرهِ، وحيثُ لا يكونُ كنايةٌ وتمثيلٌ به، ولا استعارةٌ ولا
استعانةٌ في الجملة بمعنىً على معنًى، وتكونُ الدلالةُ على
الغَرض مِنْ مجرَّد اللفظِ. فلو أَنَّ قائلاً قال: (رأيتُ
الأسَدَ). وقال آخرُ: (لَقِيتُ الليثَ)، لم يَجُزْ أن يقالَ في
الثاني إنه صوَّرَ المعنى في غير صورتِهِ الأُولى، ولا أنْ
يُقال أبرزَهُ في معرضٍ سوى معرضِه، ولا شيئاً من هذا الجنس.
وجملةُ الأمر أنَّ صُوَرَ المعاني، لا تتغير بِنَقْلها من لفظٍ
إلى لفظٍ حتى يكون هناك اتساعٌ ومجازٌ، وحتى لا يُرادَ من
الألفاظ ظواهرُ ما وُضِعَتْ له في اللغة، ولكنْ يُشارُ
بمعانيها إلى معانٍ أُخَرَ.
واعلمْ أن هذا كذلك ما دام النظْمُ واحداً،
فأمَّا إذا تغيَّر النظْمُ فلا بدَّ حينئذٍ من أن يتغيَّر
المعنى على ما مضى من البيان في مسائل التقديم والتأخير، وعلى
ما رأيتَ في المسألة التي مضَت الآنَ، أعني قولَك: (إنَّ زيداً
كالأسدِ، وكأنَّ زيداً الأسدُ)، ذاك لأنه لم يتغيَّر من اللفظ
شيءٌ وإنما تغيَّر النظْمُ فقط، أما فتْحُكَ "أَنْ" عند تقديم
(الكاف) وكانت مكسورةً، فلا اعتدادَ بها، لأن معنى الكَسْرِ
باقٍ بحاله.
واعلمْ أنَّ السببَ في أَنْ أَحالوا في أشباهِ هذه المحاسنِ
التي ذكرْتُها لكَ على اللفظ، أنها ليستْ بأنفُس المعاني، بل
هي زياداتٌ فيها وخصائصُ، ألا ترى أنْ ليست المزيةُ التي
تجدُهَا لِقولك: (كأنَّ زيداً الأسدُ)، على قولك: (زيدٌ
كالأسد)، شيئاً خارجاً عن التشبيه الذي هو أصْل المعنى، وإنما
هو زيادةٌ فيه وفي حُكْم الخصوصية في الشكل، نحْو أن يُصاغَ
خاتمٌ على وجهٍ وآخرُ على وجهٍ آخر، تَجمعُهما صورةُ الخاتم،
ويفترقان بخاصة، وشيءٌ يُعْلَم إلاَّ أنه لا يُعْلَم منفرداً.
ولمَّا كان الأمرُ كذلك، لم يُمكِنْهم أنْ يُطلِقوا اسمَ
المعاني على هذه الخصائص، إذْ كان لا يَفترِقُ الحالُ حينئذٍ
بين أصْلِ المعنى، وبين ما هو زيادةٌ في المعنى وكيفيةٌ له،
وخصوصيةٌ فيه. فلمَّا امتنعَ ذلكَ، تَوصَّلوا إلى الدلالة
عليها بأنْ وَصفوا اللفْظَ في ذلك بأوصافٍ يُعْلمُ أنها لا
تكونُ أوصافاً له من حيثُ هو لفظٌ كنحْوِ وصْفِهم له بأنه لفظٌ
شريفٌ، وأنه قد زانَ المعنى، وأنَّ له ديباجةً، وأنَّ عليه
طلاوةً، وأنَّ المعنى منه في مثل الوشْي، وأنه عليه كالحَلْي،
إلى أشباه ذلك مما يُعْلَم ضرورةً أنه لا يُعنَى بمثلِه الصوتُ
والحرف. ثمَّ إنه لمَّا جرَت به العادة واستمرَّ عليه العُرفُ
وصار الناسُ يقولون اللفظَ، واللفظُ لزَّ ذلك بأنفُسِ أقوامٍ
باباً من الفساد وخامرهم منهُ شيءٌ لستُ أُحْسِنُ وصْفَهُ.
فصل
ومن الصفاتِ التي تجدهُم يُجْرُونها على اللفظ، ثمَّ لا
تَعترضِكُ شُبهةٌ ولا يكونُ منكَ توقُّفٌ في أنها ليستْ له
ولكنْ لمعناه، قولُهم: لا يكونُ الكلام يستحقُّ اسمَ البلاغةِ
حتى يُسابِقَ معناهُ لفظَهُ ولفظه معناه، ولا يكون لفظُه
أسْبَقَ إلى سمعك مِنْ معناهُ إلى قلبك. وقولُهم: يدخلُ في
الأُذن بلا إذْن، فهذا مما لا يَشُكُّ العاقلُ في أنه يَرجِعُ
إلى دلالة المعنى على المعنى، وأنه لا يُتصوَّر أنْ يُرادَ به
دلالةُ اللفظِ على معناه الذي وُضِع له في اللغة؛ ذاك لأنه لا
يَخلو السامِعُ من أن يكونَ عالِماً باللغة وبمعاني الألفاظِ
التي يَسمعُها، أو يكونَ جاهلاً بذلك؛ فإن كان عالِماً لم
يُتَصوَّرْ أنْ يَتفاوتَ حالُ الألفاظِ معه فيكونَ معنى لفظٍ
أسرعَ إلى قلبه من معنى لفظٍ آخرَ؛ وإنْ كان جاهلاً كان ذلك في
وصفهِ أبْعدَ.
وجملةُ الأمرِ أنَّه إنما يُتصوَّر أن يكون لمعنى أسرعَ فهماً
منه لِمعنىً آخر، إذا كان ذلك مما يدرَكُ بالفكْر، وإذا كان
مما يتجدَّد له العلمُ به عند سمعه للكلام، وذلك مُحالٌ في
دلالاتِ الألفاظ اللغوية، لأن طريقَ معرفتها التوقيفُ،
والتقدُّمُ بالتعريف.
وإذا كان ذلك كذلك، عُلِمَ عِلْمَ الضرورة أنَّ مصْرِفَ ذلك
إلى دلالات المعاني على المعاني، وأنهم أرادوا أنَّ مِن شَرْط
البلاغةِ أن يكونَ المعنى الأولُ الذي تجعلُه دليلاً على
المعنى الثاني ووَسيطاً بينَكَ وبينَه، متمكِّناً في دلالته،
مستقلاً بوسّاطَتهِ، يَسْفُرُ بينك وبينه أحْسَنَ سفارة،
ويُشيرُ لك إليهِ أبْيَنَ إشارة، حتى يخيَّلَ إليك أنَّك
فهِمْتَه من حاقِّ اللفظ، وذلك لقِلَّة الكلفة فيه عليكَ،
وسرعةِ وصولهِ إليك، فكان من الكناية، مثلَ قوله [من المنسرح]:
لا أُمتِعُ العُوذَ بالفِصَالِ ولا ... أبتاعُ إلا قريبةَ
الأجَلِ
ومن الاستعارة مثلَ قوله [من الطويل]:
وصدر أراحَ الليلُ عازِبَ هَمِّهِ ... تضاعَفَ فيه الحُزْنُ
مِنْ كُلِّ جانِبِ
ومن التمثيل، مثلَ قوله [من المديد]:
لا أَذُودُ الطيرَ عَنْ شَجَرٍ ... قد بلَوْتُ المُرَّ مِنْ
ثَمَرِهْ
وإن أردتَ أنْ تعرِفَ مالَه بالضِّدِّ من
هذا فكان منقوصَ القوَّة في تأدية ما أُريد منه، لأنه يتعرِضُه
ما يَمنعه، أن يَقْضيَ حقَّ السِّفارةِ فيما بينكَ وبين
معناكَ، ويُوضحَ تمامَ الإيضاحِ عن مَغْزاك، فانظرْ إلى قول
العباس بن الأحنف [من الطويل]:
سأطلُبُ بُعْدَ الدارِ عنْكُمْ لِتَقْرَبوا ... وتَسْكُبُ
عينايَ الدموعَ لِتَجْمُدا
بدأَ فدلَّ بسَكْبِ الدموعِ على ما يُوجِبه الفِرَاقُ من
الحُزْن والكَمَد، فأحْسَنَ وأصابَ، لأنَّ مِن شأنِ البكاءِ
أبداً أن يكون أمارةً للحُزنِ، وأنْ يُجْعَلَ دلالةً عليه
وكنايةً عنه، كقولهم: أبكاني وأضْحكَني، على معنى: "ساءني
وسرَّني".
وكما قال [من السريع]:
أبكانيَ الدهرُ ويا رُبّما ... أضْحَكني الدهْرُ بما يُرْضي
ثم ساقَ هذا القياسَ إلى نقيضِه، فالتمس أن يَدُلَّ على ما
يُوجبهُ دوامُ التلاقي من السرور، بقوله "لتجمدا" وظنَّ أنَّ
الجمودَ يَبْلغُ له في إفادةِ المسرَّة والسلامةِ من الحُزْن،
ما بَلَغَ سكْبُ الدمع في الدلالةِ على الكآبةِ والوقوعِ في
الحزن. ونظرَ إلى أن الجمودَ خُلُوُّ العينِ من البَكاء،
وانتفاءُ الدموعِ عنها، وأنه إذا قالَ "لتجمدا" فكأنَّه قال:
أحْزنُ اليومَ لئلا أحزنَ غداً، وتبكي عينايَ جُهْدَهما لئلا
تبكِيا أبدا؛ وغَلِطَ فيما ظنَّ وذاك، أنَّ الجمودَ هو أنْ لا
تبكي العينُ، مع أنَّ الحالَ حالُ بكاء، ومع أن العينَ يرادُ
منها أن تبكي ويُشْتكى مِنْ أنْ لا تَبْكي، ولذلك لا ترَى
أحداً يذكُرُ عينَه بالجمودِ، إلا وهو يَشْكُوها ويذُمُّها
وينسبها إلى البُخْل، ويَعُدُّ امتناعَها من البكاءِ تَرْكاً
لمعونةِ صاحبِها على ما بهِ من الهَمِّ، ألا ترى إلى قولهِ [من
الطويل]:
ألاَ إنّ عَيناً لم تَجُدْ يومَ واسِطٍ ... عليكَ بِجارِي
دَمْعِها لَجَمُودُ
فأتَى بالجمودِ تأكيداً لنفي الجُودِ؛
ومُحالٌ أن يَجْعَلها لا تَجودُ بالبكاءِ وليس هناك التماسُ
بكاءٍ، لأنَّ الجودَ والبُخْل يَقْتضيانِ مطلوباً يُبْذَلُ أو
يُمْنَعُ. ولو كان الجمودُ يَصْلُح لأن يُرادَ به السلامةُ من
البكاء، ويصِحَّ أن يُدَلَّ به على أنَّ الحال حالُ مَسَّرةٍ
وحُبورٍ، لجازَ أن يُدْعى به للرجلِ فيقال: (لا زالتْ عينُك
جامدةً) كما يقال: (لا أبكى الله عينَكَ)، وذاك مما لا يُشَكُّ
في بُطْلانه. وعلى ذلك قولُ أهل اللغة: عينٌ جَمُودٌ - لا ماءَ
فيها، وسنةٌ جمادٌ، لا مطرَ فيها، وناقةٌ جمادٌ - لا لَبَن
فيها. وكما لا تُجْعَلُ السنةُ والناقةُ جماداً إلاَّ على
مَعْنى أنَّ السنةَ بخيلةٌ بالقَطْر، والناقةُ لا تَسْخُو
بالدُّرِّ، كذلك حُكْمُ العينِ لا تُجْعَل جَمُوداً إلا وهناك
ما يَقْتضي إرادةَ البكاء منها، وما يَجْعَلُها إذا بكَتْ،
مُحْسِنةً موصوفةً بأنْ قد جادَتْ وسخَتْ، وإذا لم تَبْكِ،
مسِيئةً موصوفةً بأنْ قد ضنَّتْ وبَخِلَتْ.
فإنْ قيلَ إنه أراد أن يقول: (إني اليوم أَتجرَّعُ غُصَصَ
الفِراقِ، وأحْمِلُ نَفْسي على مُرِّهِ، واحْتمِلُ ما
يُؤدِّيني إليه من حُزْنٍ يُفيضُ الدموعَ مِنْ عَيني
ويَسْكُبُها لكي أتسبَّب بذلك إلى وصْلٍ يدومُ ومسَرَّةٍ
تتَّصِلُ حتى لا أعرِفَ بعد ذلك الحزنَ أصْلاً ولا تعرِفَ عيني
البكاءَ، وتصيرَ في أنْ لا تُرى باكيةُ أبداً كالجَمودِ التي
لا يَكُونُ لها دَمْعٌ)؛ فإنَّ ذلك لا يَستقيمُ ويستتِبُّ،
لأنه يُوقِعُه في التناقضِ ويَجْعَلُه كأنه قال: (احْتَمِل
البكاءَ لهذا الفراقِ عاجلاً لأصيرَ في الآجِل بدَوَام الوصْلِ
واتِّصالِ السُّرورِ في صُورةِ مَنْ يُريد مِنْ عَينِه أنْ
تَبكي ثم لا تَبْكي، لأنها خُلِقَتْ جامدةٌ لا ماء فيها). وذلك
مِن التهافُتِ والاضطرابِ، بحيثُ لا تَنْجعُ الحيلةُ فيه.
وجملةُ الأمر أنَّا لا نعلم أحَداً جعَلَ
جُمودَ العينِ دليلَ سرورٍ وأمارةِ غِبْطةٍ، وكنايةً عن أنَّ
الحالَ حالُ فرِح. فهذا مثالٌ فيما هو بالضدِّ ممَّا شرَطوا
مِنْ أنْ لا يكونَ لفظُهُ اسْبَقَ إلى سمعِكَ، من معناه إلى
قلْبِك، لأنكَ تَرى اللفظَ يصِلُ إلى سمعِكَ وتحتاجُ إلى أن
تُخُبَّ وتُوضِعَ في طلب المعنى. ويَجْري لكَ هذا الشرحُ
والتفسيرُ في النظْمِ كما جرى في اللفظ، لأنه إذا كان النظْمُ
سَويّاً والتأليفُ مستقيماً، كان وُصولَ المعنى إلى قلبك،
تِلوَ وصولِ اللفظِ إلى سَمْعك؛ وإذا كان على خلافِ ما ينبغي،
وصَلَ اللفظُ إلى السمع وبَقيتَ في المعنى تَطلُبُه وتَتْعَبُ
فيه؛ وإذا أفرطَ الأمرُ في ذلك صار إلى التعقيد الذي قالوا إنه
يسْتَهِلكُ المعنى.
واعلمْ أنْ لمْ تَضِقِ العبارةُ، ولم يُقَصِّرِ اللفظُ، ولم
يَنْغَلقِ الكلامُ في هذا الباب، إلاَّ لأنَّه قد تناهى في
الغُموض والخَفَاء إلى أقصى الغايات؛ إنك لا ترى أغْربَ
مَذْهباً، وأعجَبَ طريقاً، وأحْرى بأن تَضْطرِبَ فيه الأراءُ،
منه. وما قولُك في شيءٍ قد بلَغ مِنْ أمرِه أن يُدَّعَى على
كبار العلماءِ بأنهم لم يَعْلَموه ولم يَفْطِنوا له؟ فقد ترى
أن البحتريَّ قال حين سُئِلَ عن مسلم وأبي نواس، أيُّهما
أشعرُ؟ فقال: أبو نواس. فقيل: فإنَّ أبا العباس ثعلباً لا
يوافقك على هذا، فقال: ليس هذا مِنْ شأنِ ثَعْلَب وذويهِ من
المتعاطين لِعلْم الشّعْر دون عَمَلِه، إنما يعلم ذلك من دُفع
في مَسْلك طريقِ الشعر إلى مضايقِه وانتهى إلى ضروراته.
ثم لم ينفَكَّ العالِمونَ به والذين هُمْ
مِنْ أهله، من دُخولِ الشُّبهة فيه عليهم، ومن اعتراض السَّهْو
والغلط لهم؛ رُويَ عن الأصمعي أنه قال: كنتُ أسيرُ مع أبي عمرو
بن العلاء وخلفٍ الأحمر وكانا يأتيان بشاراً فيُسلِّمانِ عليه
بغاية الإعظامِ ثم يقولون؛ (يا أبا مُعاذٍ ما أحدثْتَ؟)
فيُخْبِرُهما ويُنْشِدُهما، ويَسْألانِه ويكتبان عنه
متواضِعَيْن له حتى يأتيَ وقتُ الزوالِ ثم ينصرفان. وأتيَاه
يوماً فقالا: ما هذه القصيدةُ التي أحدثْتَها في سَلمِ بن
قُتَيْبَةَ؟ قالَ هي التي بلَغَتْكُم. قالوا: بلَغَنا أنك
أكْثَرتَ فيها من الغَريب. قال: نعم، بلغني أن سَلْم بْنَ
قتيبة، يَتباصَرُ بالغريب، فأحببْتُ أن أوردَ عليه ما لا
يَعْرَفُ. قالوا: فانْشِدْناها يا أبا مُعاذ! فأنشدهما [من
الخفيف]:
بكِّرا صاحبيَّ قَبْلَ الهجيرِ ... إنَّ ذاكَ النجاحَ في
التَّبْكيرِ
حتى فرَغ منها، فقال له خلف: لو قلت يا أبا معاذ مكانَ: " إن
ذاك النجاحَ في التبكيرِ" بكِّرا فالنجاح في التبكير كان
أحسَنَ. فقال بشار: إنما بنَيْتُها أعرابية وَحْشيَّة، فقلتُ:
إنَّ ذاكَ النجاحَ في التبكير، كما تقولُ الأعرابُ البدويون.
ولو قلتُ: "بكِّرا فالنجاحُ" كان هذا من كلام المولَّدينَ ولا
يُشْبِهُ ذاكَ الكلامَ ولا يَدْخُل في معنَى القصيدة. قال:
فقام خلَفُ فقبَّلَ بين عينيه. فهل كان هذا القولُ من خَلَف،
والنقدُ عَلَى بشار، إلاَّ لِلُطْفِ المعنى في ذلك وخَفَائِه؟
واعلمْ أنَّ مِنْ شأن "إنَّ" إذا جاءت على هذا الوجه، أن
تُغْني غَناء (الفاءِ) العاطِفةِ مثلاً، وأنْ تُفيدَ من رَبْط
الجملةِ بما قبلها، أمراً عجيباً، فأنتَ تَرى الكلامَ بها
مستأْنَفاً، غيرَ مستأنفٍ، مقطوعٍ موصولاً معاً. أفلا تَرى أنك
لو أَسْقَطْتَ "إنَّ" من قوله: "إنَّ ذاك النجاح في التكير" لم
تَر الكلامَ يَلتئمُ، ولو رأيتَ الجملةَ الثانيةَ لا تتَّصل
بالأولى ولا تكونُ منها بسبيلٍ حتى تجيء (بالفاء) فتقولُ:
بكِّرا صاحبيَّ قبلَ الهجيرِ ... فذاكَ النجاحُ في التكبيرِ
ومثلُه قولُ بعضِ العرب [من الرجز]:
فغنِّها وهيَ لكَ الفداءُ ... إنَّ غناء الإِبلِ الحُداءُ
فانظرْ إلى قوله: (إنَّ غِناءَ الإبلِ
الحداءُ). وإلى ملاءمته الكلامَ قبلَه، وحسْنِ تشبثِه به، وإلى
حُسْن تعطُّفِ الكلامِ الأول عليه! ثم انظرْ إذا تركتَ "إنَّ"
فقلتَ: (فغنِّها وهي لك الفداءُ، غناء الإبل الحداءُ) كيف
تكونُ الصورةُ وكيفَ يَنْبو أحَدُ الكلامَيْن عن الآخر، وكيف
يُشئِم هذا ويُعْرِق ذاك، حتى لا تَجدَ حيلةً في ائتلافهما.
حتى تَجْتَلِبَ لهما (الفاءَ) فتقول: (فغنِّها وهي لكَ الفداءُ
فغناءُ الإبلِ الحُداء)؛ ثم تعلَّمْ أنْ ليستِ الأُلفةُ بينهما
مِنْ جنسِ ما كان، وأنْ قد ذَهبتِ الأنَسَة التي كنتَ تَجِدُ،
والحُسْنُ الذي كنتَ ترى.
ورويَ عن عنبسة أنه قال: قدِمَ ذو الرمة الكوفةَ، فوقفَ
يُنشِدُ الناسَ بالكناسة قصيدته الحائية التي منها [من
الطويل]:
هِيَ البُزءُ والأسقامُ والهمُّ والمُنى ... وموتُ الهوى في
القلب مني المبرِّحُ
وكان الهوى بالنأْي يُمْحَى فيمَّحي ... وحُبُّكِ عندي
يَستجِدُّ ويَرْبَحُ
إذا غيَّرَ النّّأيُ المحبِّينَ لم يَكَدْ ... رسَيسُ الهوى
مِنْ حُبِّ ميَّةَ يَبْرَحُ
قال: فلما انتهى إلى هذا البيت، ناداه ابنُ شُبْرُمَة: يا
غيلانُ! أراه قد بَرِحَ قال: فشنَق ناقته وجعَل يتأَخَّر بها
ويتفكَّرُ، ثم قال:
إذا غيَّر النأيُ المحبينَ لم أَجِدْ ... رسَيسَ الهوى مِن
حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
قال: فلما انصرفتُ، حدثتُ أبي. قال: أخطأَ ابنُ شُبْرُمة حين
أنكَرَ على ذي الرمة، وأخطأ ذو الرمة حين غيَّر شِعْرَه لقول
ابن شبرمة، إنما هذا كقولِ اللهِ تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا
فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}
[النور: 40]. وإنما ولم يَرَها ولم يكد.
واعلمْ أنَّ سبَبَ الشُّبهةِ في ذلك، أنه
قد جرى في العُرفِ أن يقال: (ما كادَ يَفعلُ ولم يكد يفعل)، في
فعل قد فُعِلَ، على معنى: أنه لم يَفْعل إلاَّ بعْدَ الجهدِ
وبعْدَ أن كان بَعيداً في الظنِّ أن يَفْعَله. كقوله تعالى:
{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71].
فلمَّا كان مجيءُ النفي في (كاد) على هذا السبيل، توهَّم ابنُ
شُبْرُمةَ أنه إذا قال: (لم يكَدْ رسيسُ الهوى مِن حبِّ مية
يبرحُ) فقد زَعم أنَّ الهَوى قد بَرِح؛ ووقعَ لذي الرُّمة مثلُ
هذا الظنِّ. وليس الأمرُ كالذي ظنَّاهُ. فإنَّ الذي يقتضيهِ
اللفظُ إذا قيل: (لم يكَدْ يَفعل وما كاد يَفعل) أن يكونَ
المرادُ أنَّ الفعلَ لم يكنْ من أصْله، ولا قارَبَ أن يكونَ،
ولا ظُنَّ أنه يكونُ وكيفَ بالشكِّ في ذلك، وقد عَلِمْنا أنَّ
"كادَ" موضوعٌ لأنْ يَدُلَّ على شدة قُرْب الفِعلِ من الوقوع،
وعلى أنه قد شارَفَ الوجودَ؟ وإذا كان كذلك، كان مُحالا أن
يوجِبَ نَفْيُه وجودَ الفعل، لأنه يؤدِّي إلى أن يوجِبَ نفيُ
مقاربةِ الفعلِ الوجودَ وجودَه، وأن يكون قولُك: (ما قاربَ أنْ
يَفْعل)، مقْتضِياً على البتَّ أنَّه قد فَعَل. وإذْ قد ثبتَ
ذلك، فمن سبيلكَ أن تَنْظُر. فمتى لم يكنِ المعنى على أنه قد
كان هناك صورةٌ تقتضي أن لا يكون الفعلُ، وحالٌ يَبعُدُ معها
أن يكونَ، ثُمَّ تغيَّرَ الأمرُ كالذي تراه في قوله تعالى:
{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] فليس
إلاَّ أن تُلزِمَ الظاهرَ وتجعلَ المعنى على أنك تَزْعمُ أنَّ
الفعلَ لم يقارِبْ أن يكونَ، فضلاً عن أن يكون؛ فالمعنى إذن في
بيتِ ذي الرّمة، على أنَّ الهوى مِنْ رسوخه في القلب وثُبوته
فيه وغلَبَته على طِباعِه، بحيثُ لا يُتوَهَّم عليه البِراحُ،
وأنَّ ذلك لا يقارِبُ أن يكون فضلاً عن أن يكونَ؛ كما تقول:
إذا سَلاَ المُحِبُّونَ وفَتَروا في محبتهم، لم يقَعْ لي وَهمٌ
ولم يَجْرِ مني على بالٍ أنه يجوز عَلَيَّ ما يُشْبِه
السَّلوةَ وما يعدُّ فترةً، فضلاً عن أن يُوجَدَ ذلك مني
وأصيرَ إليه. وينبغي أن تعلم أنهم إنما قالوا في التفسير: (لم
يَرها ولم يكد).
فبدأُوا فنَفَوْا الرؤيةَ، ثم عطَفُوا "لم
يكد" عليه، ليُعْلموك أنْ ليس سبيلُ "لم يكد" ههنا سبيلَ "ما
كادوا" في قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ
يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] في أنه نَفْيٌ معقِّبٌ على إثباتٍ،
وأنْ ليس المعنى على أنَّ رؤيةً كانت مِنْ بعْدِ أن كادت لا
تكون، ولكن المعنى أن رؤيتَها لا تُقارِب أن تكونَ، فضلاً عن
انْ تكونَ. ولو كان "لَم يكَدْ" يُوجِب وجودَ الفعل، لكان هذا
الكلامُ منهم مُحالاً جارياً مَجْرى أن تقول: "لم يَرَها،
ورآها؛ فاعرفْه!
وههنا نكتةٌ وهي أنَّ "لم يكد" في الآية والبيت، واقعٌ في
جوابِ (إذا). والماضي إذا وقَعَ في جواب الشرط، على هذا
السبيل، كان مستقبَلاً في المعنى؛ فإذا قلتَ: (إذا خرجْتَ لمْ
أخرُجْ) كنتَ قد نفَيْتَ خُروجاً فيما يُسْتَقْبَل. وإذا كان
الأمر كذلك، استحالَ أن يكون المعنى في البيتِ أو الآيةِ على
أنَّ الفعلَ قد كان، لأنه يُؤدِّي إلى نْ يجيءَ (لمْ أفعلْ)
ماضياً صريحاً في جواب الشرط، فتقول: (إذا خرجتَ لم أخرجْ
أمسِ)، وذلك محالٌ.
ومما يتَّضِحُ فيه هذا المعنى، قولُ الشاعر [من المتقارب]:
ديارٌ لجهمَةَ بالمُنْحَنى ... سَقاهُنَّ مرتجزٌ باكرُ
وراحَ عليهنَّ ذو هَيْدَبِ ... ضعيفُ القُوى ماؤهُ زاخِرُ
إذا رامَ نَهْضاً بها لم يَكَدْ ... كذِي الساقِ أَخْطأَها
الجابِرُ
- وأعود إلى الغرض - فإذا بلغَ من دقة هذه المعاني أنْ
يَشْتَبهِ الأمرُ فيها على مثْل خلف الأحمر وابن شبرمة، وحتى
يشْتبهِ على ذي الرّمة في صوابٍ قالَه فيَرَى أنه غيرُ صوابِ،
فما ظَنُّكَ بغيرهم، وما تَعجُّبُك مِن أنْ يَكْثُر التخليط
فيه؟ ومن العَجَب في هذا المعنى قولُ أبي النجم [من الرجز]:
قدْ أصبَحَتْ أُمُّ الخيارِ تدَّعي ... عليَّ ذَنْباً كُلُّه
لم أصْنَعِ
قد حمَلَهُ الجميعُ على أنه أَدْخَلَ
نَفْسَه من رفع "كلُّ" في شيء إنما يجوزُ عند الضرورة مِنْ غير
أنْ كانت به ضرورةٌ. قالوا لأنه ليس في نصب "كلّ" ما يَكْسِرُ
له وَزْناً أو يمنعه من معنى أراده. وإذا تأمَّلتَ وجدْتَه لم
يَرتكِبْه ولم يَحْمِل نفسَه عليه إلاَّ لحاجةٍ له إلى ذلك،
وإلاَّ لأنه رأى النَّصْبَ يَمنعُه ما يريد، وذاك أنه أراد
أنها تدَّعي عليه ذَنباً لم يَصْنع منه شيئاً البتَّةَ لا
قليلاً ولا كثيراً، ولا بَعضاً ولا كُلاًّ.
والنصْب يَمنعُ من هذا المعنى، ويَقْتضي أن يكون قد أتى من
الذنبِ الذي ادَّعته، بعْضَه، وذلك أنَّا إذا تأملْنا وجَدْنا
إعمال الفِعلِ في "كل"، والفعلُ منفيٌّ لا يَصْلُحُ أن يكونَ
إلاَّ حيثُ يُراد أنَّ "بَعْضاً" كان و "بعضاً" لم يكن. نقولُ:
(لم ألْقَ كلَّ القومِ ولم آخذْ كلَّ الدراهم)، فيكونُ المعنى
أنك لقِيتَ بعضاً من القوم. ولم تَلْقَ الجميعَ، وأخذْتَ
بعضَاً من الدراهم وتركْتَ الباقي، ولا يكون أَنْ تريد أنك لم
تَلْقَ واحداً من القوم ولم تأخذْ شيئاً من الدراهم. وتعرف ذلك
بأن تَنْظرَ إلى "كل" في الإثبات وتتعرفَ فائدتَه فيه.
وإذا نظرتَ وجدتَهُ قد اجْتُلِبَ لأنْ
يُفيدَ الشُّمولَ في الفعل الذي تُسْنِدُه إلى الجملة أو
تُوقِعُه بها. تفسيرُ أنكَ إنما قلْتَ: (جاءني القومُ كلُّهم)،
لأنكَ لو قُلْتَ: (جاءَني القومُ) وسكَتَّ، لكانَ يَجوزُ أن
يَتوهَّم السامعُ أنه قد تخلَّفَ عنكَ بَعضُهم، إلاَّ أنكَ لم
تعتدَّ بهم، أو أنَّكَ جَعَلْتَ الفعلَ إذا وقَعَ مِن بَعْضِ
القوم، فكأنما وَقَعَ من الجميع لِكَوْنهم في حُكْمِ الشخصِ
الواحد كما يقال للقبيلة: (فعلْتُم وصنعْتُم)، يُرادُ فِعْل قد
كان مِنْ بَعْضِهم أوْ واحدٍ منهم؛ وهكذا الحُكْم أبداً. فإذا
قلتَ: (رأيتُ القومَ كلَّهم، ومررتُ بالقومِ كلِّهم) كُنْتَ قد
جئت (بكلّ) لئلاَّ يُتَوهَّمَ أنه قد بَقِيَ عليك مَنْ لم
تَرَهُ ولم تَمُرَّ به. وينبغي أن يُعْلَم أنَّا لا نَعْني
بقولنا "يفيدُ الشمول" أنَّ سبيلَه في ذلك سبيلُ الشيء يُوجِبُ
المعنى من أصْله وأنه لولا مكانُ "كلّ" لَمَا عُقِلَ
"الشُّمولُ"، ولم يكنْ فيما سَبَق مِن اللفظ دليلٌ عليه. كيف،
ولو كان كذلك، لم يكنْ يُسمَّى تأكيداً؛ فالمعنى أنه يمنع أن
يكون اللفظُ المقتضِي الشُّمولَ مستعمَلاً على خَلافٍ ظاهر،
ومتجوَّزاً فيه.
وإذْ قد عرفتَ ذلك، فهاهنا أصْلٌ وهو أنه
مِن حُكْم النفي، إذا دَخل على كلام ثُمَّ كان في ذلك الكلام
تقييدٌ على وجهٍ من الوجوه، أن يتوجَّه إلى ذلك، التقييدُ وأن
يقعَ له خصوصاً. تفسيرُ ذلك أنك إذا قلتَ: (أتاني القومُ
مجتمِعينَ)، فقال قائل: لم يأْتكِ القومُ مجتمعين، كان نَفْيُه
ذلك متوجهاً إلى الاجتماع الذي هو تقييدٌ في الإتيان دون
الإتيان نفْسِه، حتى إنَّه إنْ أرادَ ينفي الإتيان مِنْ أصله،
كان مِنْ سَبيله أن يقولَ: إنَّهم لم يأْتوكَ أصْلاً، فما
مَعْنى قولِكَ "مجتمعين"؟. هذا مما لا يَشُكُّ فيه عاقلٌ. وإذا
كان هذا حكْمُ النفي إذا دَخَلَ على كلام فيه تقييدٌ، فإنَّ
التأكيدَ ضربٌ من التقييدِ. فمتى نَفَيْتَ كلاماً فيهِ تأكيدٌ،
فإنَّ نَفْيكَ ذلكَ يتوجَّه إلى التأكيد خصوصاً ويَقَعُ له.
فإذا قلت: (لم أرَ القومَ كلَّهم، أوْ لَمْ يأتني القومُ
كلُّهم، أوْ لم يأتني كلُّ القوم، أو لَمْ أَرَ كلَّ القوم):
كنتَ عمدْتَ بنَفْيِكَ إلى معنى "كل" خاصة، وكان حكْمُه حُكْمَ
"مجتمعين" في قولك: (لم يأتني القومُ مجتمعين). وإذا كان
النفيُ يَقَعُ (لكلِّ) خصوصاً، فواجبٌ إذا قلتَ: (لم يأتني
القومُ كلُّهم، أو لم يأتني كلُّ القوم) أن يكونَ قد أتاكَ
بعضُهم؛ كما يجبُ إذا قلتَ: (لم يأتني القومُ مجتمعين): أنْ
يكونوا قد أَتَوْك أَشْتاتاً. وكما يَستحيلُ أن يقولَ: (لم
يأتني القومُ مجتمعينَ): وأنتَ تُريد أنهم لم يأتوك أصْلاً لا
مجتمعين ولا منفردين؛ كذلك مُحالٌ أنْ تقول: (لم يأتني القومُ
كلُّهُمْ): وأنت تريد أنهم لم يأتوك أصْلاً. فاعرفْه!
واعلمْ أنك إذا نظرْتَ، وجَدْتَ الإثباتَ كالنفي فيما ذكرتُ
لكَ، ووجدتَ النفي قد احتذاهُ فيه وتَبِعَه، وذلك أنك إذا قلت:
(جاءني القومُ كلُّهم)، كان "كل" فائدةَ خبرِكَ هذا والذي
يتوجَّه إليك إثباتُك، بدلالةِ أنَّ المعنى على أنَّ الشكَّ لم
يقَعْ في نفس المجيء أنه كان من القوم على الجملةِ وإنما وَقعَ
في شُموله "الكل" وذلك الذي عناكَ أمرُه مِن كلامِكَ.
وجملةُ الأمر أنه ما مِنْ كلام كان فيه
أمرٌ زائد على مجرَّدِ إثباتِ المعنى للشيء، إلاَّ كان الغرضَ
الخاصَّ من الكلام، والذي يُقْصَد إليه ويزْجى القول فيه فإذا
قلتَ: (جاءني زيدٌ راكباً وما جاءني زيدٌ راكباً)، كنتَ قد
وضعْتَ كلامَكَ لأن تُثبتَ مجيئَه راكباً أو تنفي ذلك، لا لأن
تُثْبِتَ المجيءَ وتنْفِيَه مطلقاً. هذا ما لا سبيلَ إلى
الشَّكَّ فيه.
واعلمْ أنَّه يَلزَمُ من شكَّ في هذا، فتوهَّمَ أنَّه يجوزُ أن
تقولَ: (لم أر القومَ كلَّهم)، على معنى أنك لم تَرَ واحداً
منهم، أن يُجْريَ النهيَ هذا المجرى فتقولَ: (لا تَضْرب القومَ
كلَّهم): على معنى: لا تضْربَ واحداً منهم، وأن تقولَ: (لا
تَضْربِ الرجلَيْن كليهما). على معنى: لا تَضْرِبْ واحداً
منهما. فإذا قال ذلك، لَزِمَه أن يختل قولَ الناس: لا
تَضْرِبْهما معاً ولكنِ اضْرِبْ أحدَهما، ولا تأخُذْهما جميعاً
ولكنْ واحداً منهما. وكفى بذلك فساداً.
وإذْ قد بانَ لك من حالِ النَّصْب أنه يقتضي أن يكونَ المعنى،
على أنه قد صنَعَ من الذنب بعْضاً، وترك بعضاً؛ فاعلمْ أنَّ
الرفعَ على خلاف ذلك، وأنه يقتضي نفْيَ أن يكونَ قد صَنَع منه
شيئاً وأتى منه قليلاً أو كثيراً، وأنك إذا قلت: (كلُهم لا
يأتيك)، و (كلُّ ذلك لا يكونُ) و (كلُّ هذا لا يَحْسُن)، كنتَ
نَفَيْتَ أن يأتِيَه واحدٌ منهم، وأبيْتَ أن يكون، أو يَحْسُنَ
شيءٌ مما أشرتَ إليه.
ومما يشهدُ لك بذلك من الشّعرِ، قولُه [من الطويل]:
فكيفَ وكلٌّ ليسَ يَعْدُو حِمَامَه ... ولا لامرئٍ عمَّا قَضى
اللهُ مَزْحَلُ
المعنى عَلَى نفْي أن يَعْدُوَ أحدٌ من الناس حِمَامَه بلا
شُبْهة. ولو قلتَ: (فكيفَ وليس يعدو كلُّ حِمامَه). فأَخَّرْتَ
(كلاّ) لأفسدتَ المعنى وصرْتَ كأنكَ تقولُ: (إنَّ من الناس من
يَسْلَمُ من الحِمام ويبقى خالداً لا يموت).
ومثله قول دِعبل [من الطويل]:
فواللهِ ما أَدري بأيّ سِهامِهَا ... رَمَتني، وكلٌّ عندَنا
ليسَ بالمُكْدِي
أَبِالجِيدِ أمْ مَجْرى الوِشاحِ وإنني ... لأُنْهِمُ عَينَيها
مع الفاحِِمِ الجَعْدِ
المَعْنى على نَفْي أن يكونَ في سِهامها
مُكْدٍ على وجهٍ من الوجوه. ومن البَيِّنِ في ذلك ما جاء في
حديث ذي اليدين قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "أقَصُرَتِ
الصلاةُ أم نَسِيْتَ يا رسولَ الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم:
"كلُّ ذلك لم يَكُنْ" فقال ذو اليدين: "بَعْضُ ذلك قد كان".
المعنى لا محالةَ على نَفْي الأمرين جميعاً، وعلى أنه عليه
السلامُ أرادَ أنه لم يكنْ واحدٌ منهما: لا القِصَرُ ولا
النِّسْيانُ. ولو قيل: (لم يكنْ كلُّ ذلك) لكان المعنى أنه قد
كان بعضُه.
واعلمْ أنه، لمَّا كان المعنى مع إعمال الفعلِ المِنفيِّ في
"كل" نحو: (لمْ يأتني القومُ كلُّهم، ولم أرَ القومَ كلَّهم)،
على أنَّ الفعلَ قد كان مِن البعض ووَقَع على البعض، قلتَ: (لم
يأتني القوم كلُّهم ولكنْ أتاني بعضُهم، ولم أرَ القومَ كلَّهم
ولكنْ رأيتُ بعضَهم)، فأثبتَّ بعد ما نَفَيْتَ، ولا يكونُ ذلك
مع رَفْع "كلّ" بالابتداء. فلو قلتَ: (كلُّهم لم يأتني ولكنْ
أتاني بعضهم، وكلُّ ذلك لم يكُنْ ولكنْ كان بعضُ ذلك)، لم
يَجُزْ لأنه يؤدِّي إلى التناقض، وهو أن تقول: (لم يأتني واحدٌ
منهم ولكنْ أتاني بعضُهم).
واعْلمْ أنَّه ليس التأثيرُ لما ذكَرْنا من إعمال الفعل،
وتَرْك إعماله على الحقيقة، وإنما التأثيرُ لأمر آخَر وهو دخول
"كل" في حيِّز النفي وأن لا يَدْخُل فيه، وإنما علَّقْنا
الحكْم في البيت وسائر ما مَضى، بإعمال الفعل وترك إعماله من
حيثُ كان إعمالُه فيه يقتضي دخولَه في حيِّز النفي، وتَرْكُ
إعمالهِ يُوجبُ خروجَه منه من حيث كان الحرفُ النافي في البيت
حرْفاً لا ينفصل على الفعل وهو "لم"، لا أنَّ كَوْنَهُ
مَعْمولاً للفعل وغيرَ معمول يقتضي ما رأيتَ من الفَرْق.
أفَلاَ تَرى أنك لو جئتَ بحرْفِ نَفي يُتَصوَّر انفصالُه عن
الفعل، لرأيتَ المعنى في "كل" مع تَرْكِ إعمال الفعل مِثْلَه
مع إعمالِه؟ ومثال ذلك قولُه [من البسيط]:
ما كلُّ ما يتمنَّى المرءُ يُدرِكُه
وقولُ الآخر [من البسيط]:
ما كلُّ رَأْي الفتى يَدْعو إلى رَشَد
"كلّ" كما ترى، غيرُ مُعْمَلٍ فيه الفعلُ
ومرفوعٌ إمّا بالابتداء وإما بأنه اسم "ما". ثم إن المعنى ذلك
على ما يكون عليه، إذا أعملْتَ فيه الفعلَ فقلتَ: (ما يُدرِكُ
المرءُ كلَّ ما يتمنَّاه، وما يدعو كلُّ رأي الفتى إلى رَشَد)،
وذلك أن التأثير، لوقوعه في حيِّز النفي؛ وذلك حاصلٌ في
الحالين. ولو قدَّمْتَ "كلاّ" في هذا فقلت: (كلُّ ما يتمنى
المرءُ لا يُدركُه، وكلُّ رأي الفتى لا يدعو إلى رَشَد)،
لتغيَّرَ المعنى، ولصارَ بمنزلةِ أنْ يقال: إنَّ المرءَ لا
يدرِكُ شيئاً مما يتمناه، ولا يكون في رأي الفتى ما يدعو إلى
رَشَدٍ بوجْهٍ من الوجوه.
واعلمْ أنك إذا أدخلْتَ "كلاّ" في حيِّز النفي، وذلك بأن
تُقدِّم النفيَ عليه لفظاً أو تقديراً، فالمعنى على نفي
الشُّمول دون نفي الفِعْل والوصفِ نَفْسِه. وإذا أخرجتَ "كلاّ"
من حيِّز النفي ولمْ تُدْخِلْه فيه، لا لفظاً ولا تقديراً، كان
المعنى على أنك تتبَّعْتَ الجملة فنَفَيْتَ الفعلَ والوصفَ
عنها واحداً واحداً. والعلة في أنْ كان ذلك كذلك، أنكَ إذا
بدأتَ "بكلّ" كنتَ قد بنَيْتَ النفيَ عليه، وسلَّطْتَ
(الكلِّية) على النفْي وأعملْتَها فيه؛ وإعمالُ معنى
الكُلِّيةِ في النفي، يَقْتضي أن لا يَشُذَّ شيءٌ عن النفي،
فاعرفْه!
واعلمْ أنَّ مِن شأن الوجوهِ والفُروقِ، أن لا يزال يَحْدثُ
بسببها وعلى حَسبِ الأغراض والمعاني التي تقع فيها، دقائقُ
وخفايا إلى حدٍّ ونهايةٍ، وأنها خفايا تكْتُم أنفُسَها جَهدَها
حتى لا يُنْتَبَه لأكثرها، ولا يُعلَمُ أنها هي، وحتى لا
تَزالُ تَرى العالِمَ يَعرِضُ له السهوُ فيه، وحتى إنه ليقصِدُ
إلى الصواب فيقعُ في أثناء كلامه ما يُوهِم الخطأ؛ وكلًّ ذلك
لِشدَّة الخفاءِ وفَرْض الغُموضِ.
فصل
واعلمْ أنه إذا كان بيِّناً في الشيء، أنه لا يَحتمِلُ إلا
الوجْهَ الذي هو عليه، حتى لا يُشْكِلَ وحتى لا يُحْتاج في
العلم بأن ذلك حقُّه، وأنه الصوابُ إلى فكْرِ ورويةٍ، فلا
مَزِيَّةَ؛ وإنما تكون المزيةُ ويجِبُ الفضلُ إذا احتمَلَ في
ظاهر الحال غيرَ الوجه الذي جاء عليه وجهاً آخر، ثم رأيتَ
النفسَ تَنْبو عن ذلك الوجهِ الآخر، ورأيتَ للذي جاء عليه،
حُسْناً وقبولاً يعدَمُهما إذا أنتَ تركْتَه إلى الثاني.
ومثالُ ذلك قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن}
[الأَنعام: 100]، ليس بخاف أن لتقديم "الشركاء" حُسْناً وروعةً
ومأخذاً من القلوب، أنتَ لا تجد شيئاً منه إن أنتَ أخَّرْتَ،
فقلتَ: (وجعَلوا الجنَّ شركاءَ لله). وأنك ترى حالَك حالَ مَنْ
نُقِلَ عن الصورة المُبْهجة، والمَنْظر الرائقِ، والحُسْنِ
الباهر، إلى الشيء الغُفْل الذي لا تحلى منهُ بكثيرِ طائلٍ،
ولا تصيرُ النفسُ به إلى حاصلٍ، والسببُ في أن كان ذلك كذلك هو
أن للتقديم فائدة شريفة ومعنى جليلاً لا سبيلَ إليه مع
التأخير. بيانه أنَّا، وإنْ كنَّا نرى جملةَ المعنى ومحصوله،
أنهم جعلوا الجنَّ شركاءَ وعبدوهُمْ مع الله تعالى، وكان هذا
المعنى يَحصُلَ مع التأخيرِ، حصولَه مع التقديمِ، فإن تقديم
"الشركاء" يفيد هذا المعنى ويفيد معه معنى آخر، وهو أنه ما كان
يَنبغي أن يكون لله شريكٌ لا مِن الجنِّ ولا غيرِ الجِنِّ.
وإذا أخَّر فقيل: (جَعلوا الجنَّ شركاء لله). لم يُفِدْ ذلك،
ولم يكن فيه شيءٌ أكثرُ من الإخبار عنهم، بأنهم عبَدوا الجنَّ
مع اللهِ تعالى؛ فأما إنكارُ أنْ يُعْبَد مع الله غيرُه، وأنْ
يكونَ له شريكٌ من الجنِّ وغير الجن، فلا يكونُ في اللفظ، مع
تأخير "الشركاء"، دليلٌ عليه. وذلك أنَّ التقدير يكونُ مع
التقديم أن "شركاء" مفعولٌ أول لَجَعل، و "لِلَّهِ" في موضعِ
المفعول الثاني، ويكونُ "الجنّ" على كلام ثانٍ وعلى تقديرِ أنه
كأنه قيل: (فمن جَعلوا شركاءَ لله تعالى؟) فقيل: الجنَّ.
وإذن كان التقدير في "شركَاء" أنه مفعول
أول، و"الله" في موضع المفعول الثاني، وقع الإنكار على كون
شركاء الله تعالى على الإطلاق من غير اختصاص شيءٍ دون شيءٍ،
وحصَلَ مِن ذلك أنَّ اتخاذَ الشريكِ من غير الجنِّ، قد دخَلَ
في الإنكار دخولَ اتخاذه من الجنِّ، لأن الصفةَ إذا ذُكرت
مُجَرَّدة غيرَ مُجْراة على شيء، كان الذي يَعْلَق بها من
النفي عامَّا في كل ما يجوز أن تكون له الصفةُ. فإذا قلتَ: (ما
في الدار كريمٌ)، كنتَ نفَيْتَ الكينونة في الدار عن كلِّ مَنْ
يكون الكرَمُ صفةً له. وحكْمُ الإنكار أبداً حكْمُ النفي. وإذا
أُخِّر فقيل: (وجعَلوا الجنَّ شركاءَ لله)، كان "الجنَّ"
مفعولاً أول والشركاء مفعولاً ثانياً. وإذا كان كذلك كان
الشركَاء مخصوصاً غير مُطْلَق من حيثُ كان مُحالاً أن يَجْريَ
خبراً على الجنِّ، ثم يكون عامّاً فيهم وفي غيرهم. وإذا كان
كذلك، احْتَمَلَ أن يكون القصدُ بالإنكار إلى الجنِّ خصوصاً،
أن يكونوا شركاء دون غيرهم، جل اللهُ وتعالى عن أن يكون له
شريك وشبيهٌ، بحال.
فانظرْ الآن إلى شرَفِ ما حصَل من المعنى بأن قُدِّم
"الشركاء"، واعتبرْهُ؛ فإنهُ يَنبِّهك لكثيرٍ من الأمور
ويدُلُّك على عِظَمِ شأن النظم، وتعلمُ به كيف يكونُ الإيجازُ
به، وما صُورَتُه، وكيفَ يزاد في المعنى من غير أن يُزاد في
اللفظ، إذ قد ترَى أنْ ليس إلا تقديمٌ وتأخيرٌ وأنه قد حصَل لك
بذلك من زيادة المعنى، ما إن حاولْتَه مع تَرْكِهِ لم يحصل لك،
واحتجْت إلى أن تَسْتَأْنِفَ له كلاماً نحو أن تقول: (وجعلوا
الجِنَّ شُركَاء للهِ وما يَنْبغي أن يكون للهِ شريكٌ لا مِنَ
الجن ولا مِنْ غَيْرهم): ثم لا يكونُ له إذا عَقَلَ من
كلامَيْن من الشَّرَف والفخامةِ ومِن كَرَمِ الموقعِ في النفس،
ما تَجِدُه له الآن وقد عَقلَ من هذا الكلام الواحدِ.
ومما يُنظرُ إلى مثل ذلك قولُه تعالى:
{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ} [البقرة: 96].
وإذا أنتَ راجعتَ نفسَك وأذكيتَ حسَّك، وجدتَ لهذا التنكير،
وأنْ قيل "على حياةٍ" ولم يُقَلْ: (على الحياة)، حُسْناً
وروعةً ولطفَ موقعٍ لا يُقَادَرُ قدرُه. وتَجِدُكَ تَعْدَمُ
ذلكَ مع التعريف، وتخرجُ عن الأريحيةِ والأُنْس إلى خلافِهما.
والسببُ في ذلك أنَّ المعنى على الازدِياد من الحياة، لا
الحياةِ مِنْ أصْلها، وذلك لا يَحْرِصُ عليه إلا الحيُّ،
فأمَّا العادِمُ للحياة، فلا يصحُّ منه الحرْصُ على الحياة ولا
غيرها. وإذا كان كذلك، صار كأنه قيل: (ولتجدنَّهُمْ أحْرَصَ
الناس ولو عاشوا ما عاشوا على أن يزدادوا إلى حياتهم في ماضي
الوقت وراهِنِه، حياةً في الذي يَستقْبِل). فكما أنك لا تقول
ههنا أن يزدادا إلى حياتهم الحياة (بالتعريف)، وإنما تقولُ
حياةً، إذ كان التعريفُ يَصْلحُ حيثُ تُراد الحياةُ على
الإطلاق كقولنا: (كلُّ أحد يُحب الحياة ويَكرهُ الموتَ)، كذلك
الحكْمُ في الآية.
والذي ينبغي أن يراعى، أن المعنى الذي يُوصفُ الإنسانُ بالحرصِ
عليه، إذا كان موجوداً حالَ وصفِك له بالحرص عليه، لم يُتصوَّر
أن تجعله حريصاً عليه من أصله. كيف ولا يُحْرَصُ على الراهن
ولا الماضي. وإنما يكون الحرصُ على ما لم يُوجَد بعدُ.
وشبيهٌ بتنكير (الحياة) في هذه الآية،
تنكيرها في قوله عزَّ وجلَّ: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ}
[البقرة: 179]. وذلك أنَّ السببَ في حُسْن التنكيرِ وأنْ لم
يَحْسُنِ التعريفُ، أنْ ليس المعنى على الحياةِ نفسِها، ولكنْ
على أنَّه لمَّا كان الإنسانُ إذا عَلِمَ أنه إذا قَتَلَ
قُتِلَ، ارتدَعَ بذلك عن القتل، فسلِمَ صاحبُه، صارتِ حياةُ
هذا المهموم بِقَتْلِه في مستأَنْفِ الوقتِ، مستفادَةً
بالقِصَاص، وصار كأنه قد حَييَ في باقي عُمره به، أي بالقِصاص.
وإذا كان المعنى على حياةٍ في بعض أوقاتِه وجَبَ التنكيرُ،
وامتنع التعريفُ من حيث كان التعريف يَقْتضي أن تكون الحياةُ
قد كانت بالقِصاص من أصْلها، وأن يكون القِصاص قد كان سبباً في
كونها في كافة الأوقات، وذلك خلافُ المعنى وغيرُ ما هو
المقصودُ. ويُبَيِّنُ ذلك أنك تقول: (لكَ في هذا غِنًى)،
فتنكِّرُ إذا أردتَ أن تَجْعل ذلك من بعضِ ما يُسْتَغْنى به.
فإن قلت: (لكَ فيه الغِنى) كان الظاهرُ أنك جعلتَ كلَّ غِناه
به.
وأمرٌ آخرُ، وهو أنه لا يكون ارتداعٌ حتى يكونَ هَمٌّ وإرادةٌ.
وليس بواجبٍ أن لا يكونَ إنسانٌ في الدنيا إلاَّ وله عدوٌّ
يَهُمَّ بقتلِه، ثم يرْدَعُه خوفُ القِصاص؛ وإذا لم يَجِبْ ذلك
فمَنْ لم يهُمَّ بقتْلِهِ فكُفِيَ ذلك الهمَّ لخوفِ القِصاص،
فليس هو ممَّن حَيَّ بالقصاص. وإذا دخَلَ الخصوصُ فقد وَجَبَ
أن يقال (حياةٌ) ولا يقال (الحياة)، كما وَجَبَ أن يقال
(شفاءٌ) ولا يقالُ (الشفاءُ) في قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِن
بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ
لِلنَّاسِ} [النحل: 69]، حيث لم يكن شفاءٌ للجميع.
واعلمْ أنه لا يُتصوَّر أنْ يكون الذي هَمَّ بالقتلِ، فلم
يقْتُلْ خوفَ القِصاص داخلاً في الجملة، وأن يكون القِصاصُ
أفادَهُ حياةً كما أفادَ المقصودَ قتلُه. وذلك أنَّ هذه
الحياةَ إنما هي لمن كان يَقْتُل لولا القِصاصُ، وذلك محالٌ في
صفة القاصد للقتل، فإنما يَصِحُّ في وصفه ما هو كالضدِّ لهذا،
وهو أن يقال: (إنه كان لا يُخافُ عليه القَتلُ لولا القصاصُ،
وإذا كان هذا كذلك، كان وجهاً ثالثاً في وُجوبِ التنكير).
فصل: اشتراط الذوق
فيه
واعلمْ أنه لا يصادِفُ القولَ في هذا الباب موقعاً من السامع،
ولا يَجدُ لديه قَبولاً، حتى يكونَ من أهلِ الذوقِ والمعرفة،
وحتى يكونَ ممن تُحدِّثهُ نفسُه بأنَّ لِمَا يُومئُ إليه من
الحُسْن واللطْف أصْلاً، وحتى يختلف الحالُ عليه عند تأمُّلِ
الكلامِ، فيجَدَ الأريحيَّة تارةً ويعْرى منها أخرى، وحتى إذا
عجَّبْتَه عَجِبَ، وإذا نَبَّهْتَه لَموضع المزيةِ انْتَبَه،
فأمَّا من كانت الحالانِ والوجهانِ عنده أبداً على سَواء، وكان
لا يَتَفَقَّدُ من أمر النظم إلا الصحَّةَ المطلقة، وإلاَّ
إعراباً ظاهراً، فما أقَلَّ ما يُجدي الكلامُ معه! فَلْيَكُنْ
مَنْ هذه صِفتُهُ عندكَ، بمنزلةِ مَنْ عَدِمَ الإحساسَ بوزِن
الشِّعر والذوقِ الذي يُقيمه به، والطبع الذي يُميٍّزُ صحيحَه
من مكسوره، ومَزاحِفه من سالِمِه، وما خرجَ مِن البحر ممَا لم
يَخْرُجُ منه، في أنك لا تتصدَّى له، ولا تتكلَّفُ تعريفَه
لِعلْمِكَ أنه قد عَدِمَ الأداةَ التي معها تَعرفُ، والحاسَّةَ
التي بِها تَجِدُ، فليكُنْ قَدْحُكَ في زنَدٍ وارٍ، والحكُّ في
عُودٍ أنت تطمعُ منه في نار.
واعلمْ أنّ هؤلاء، وإنْ كانوا همُ الآفةَ العظمى في هذا الباب،
فإنَّ مِن الآفة أيضاً مَنْ زَعم أنه لا سبيلَ إلى معرفة
العلَّةِ في قليلِ ما تُعْرَفُ المزيةُ فيه وكثيرِه؛ وأنْ ليس
إلاَّ أنْ تَعلمَ أنَّ هذا التقديمَ وهذا التنكيرَ، أو هذا
العطْفَ أو هذا الفصْلَ حسَنٌ، وأنَّ له موقعاً من النفس
وحظَّا من القَبول. فأمَّا أنْ تَعلم: لمَ كان كذلك وما
السَّبَبُ؟ فَمِمَّا لا سبيلَ إليه، ولا مطمعَ في الاطلاع
عليه؛ فهو بتوانِيهِ والكَسل فيه في حُكْم مَنْ قال ذلك.
واعلمْ أنه ليس إذا لَمْ يُمكنْ معرفةُ
الكلِّ وجَبَ تركُ النظر في الكلِّ؛ وأنْ تعرفَ العلَّةَ
والسببَ فيما يُمْكِنك معرفةُ ذلك فيه، وإن قلَّ فتجعلَه
شاهداً فيما لم تَعْرِفْ، أحْرَى مِن أنْ تَسُدَّ بابَ
المعرفة، على نفسك، وتأْخذَها عن الفهم والتفهم، وتعوِّدَها
الكسَل والْهُوَيْنا. قال الجاحظ: وكلامٌ كثير قد جَرى على
ألسنة الناس وله مضرة شديدة وثمرةٌ مُرَّةٌ. فمِنْ أَضَرَّ ذلك
قولُهم: لم يَدَع الأولُ للآخِرِ شَيئاً. (قال): فلو أنَّ
علماءَ كلِّ عصرٍ مذ جرَتْ هذه الكلمةُ في أسمْاعهم، ترَكُوا
الاستنباط لِمَا لَمْ يَنتهِ إليهم عَمَّن قَبْلَهم، لرأيتَ
العِلم مختلاًّ. واعلمْ أنَّ العلمَ إنما هو معدِنٌ، فكما أنه
لا يَمنعُكَ أن ترى ألفَ وِقْرِ قد أُخرجَتْ من معدن تبْرٍ أنْ
تطلُبَ فيه وأن تأخُذَ ما تَجد، ولو كَقَدْرِ تُومةٍ، كذلك
ينبغي أن يكون رأيْكَ في طلب العلم، ومن الله تعالى نَسألُ
التوفيق!
فصل: في المجاز
الحكمي
في المجاز الحُكْمي هذا فن من المجاز لم نذكره فيما تقدم
إِعلم أنَّ طريقَ المجازِ والاتساع في الذي ذكَرْناه قبلُ،
أنَّكَ ذكرتَ الكلمةَ وأنتَ لا تُريد معناها، ولكنْ تُريد
معنىً ما هو رِدْفٌ له أو شبيهٌ، فتجوَّزْتَ بذلك في ذاتِ
الكلمةِ وفي اللفظ نفسِه. وإذْ عرفْتَ ذلكَ، فاعلمْ أنَّ في
الكلام مجازاً على غير هذا السبيلِ، وهو أن يكونَ التجوُّزُ في
حُكْم يَجْري على الكلمة فقط، وتكون الكلمةُ متروكةً على
ظاهرِها، ويكونُ معناها مقصوداً في نفسه ومراداً، مِنْ غَير
توريةٍ ولا تَعْريض. والمثالُ في قولهم: (نهارُك صائمٌ وليلُك
قائم، ونام ليلي وتجلّى همي). وقولُه تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ
تِّجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] وقولُ الفرزدق [من الطويل]:
سقاها خُروقٌ في المَسامِع لم تَكُنْ ... عِلاطاً ولا مخبوطةَ
في المَلاغِمِ
أنتَ ترمي مجازاً في هذا كلِّه، ولكنْ لا في ذوات الكَلِم
وأنْفُس الألفاظِ ولكنْ في أحكامٍ أُجْرِيَتْ عليها. أفلاَ
تَرى أنك لم تتجوَّز في قولك: (نهارُكَ صائم وليلُك قائم)، في
نفس (صائم وقائم) لكنْ في أنْ أجْرَيْتَهما خَبَرَيْنِ على
النهار والليل. وكذلك ليس المجازُ في الآية في لفظة "ربحت"
نفسِها، ولكن في إسنادها إلى التجارة. وهكذا الحكْم في قوله:
(سقاها خُروق): ليس التجوُّزُ في نَفْس "سقاها" ولكنْ في أن
أسْنَدَها إلى (الخُروق). أفلا ترى أنك لا تَرى شيئاً منها
إلاَّ وقد أريدَ به معناه الذي وُضِع له على وجهِه وحقيقتِه؟
فلم يُرِدْ (بصائم) غيرَ الصَّوْمِ، ولا (بقائم) غيرَ القيام،
ولا بـ (ـربحتْ) غيرَ الربح ولا بـ (ـسَقَتْ) غيرَ السقي، كما
أُريدَ بِ (سالَتْ) في قوله [من الطويل]:
وسالت بأعناق المطيِّ الأباطِحُ
غيرَ السَّيْلِ.
واعلمْ أنَّ الذي ذكرتُ لك في المجاز هناك، من أنَّ مِنْ شأنِه
أنْ يفْخُمَ عليه المعنى، وتحدُثَ فيه النباهةُ، قائمٌ لك
مثلُه ههنا. فليس يَشْتَبِه عَلى عاقلٍ أنْ ليس حالُ المعنى
وموقعُه في قوله [من الرجز]:
فنامَ ليلي وتجلَّى همِّي
كحالِه وموقِعِه، إذا أنتَ تركْتَ المجاز وقلتَ: (فنمتُ في ليل
وتجلَّى همِّي) كما لم يكنِ الحالُ في قولكُ: (رأيتُ أسداً):
كالحالِ في "رأيتُ رجلاً كالأسدِ". ومَنْ الذي يَخْفى عليه
مكانُ العُلُوِّ وموضِعُ المزية وصورةُ الفرقان بين قولِه
تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] وبين أنْ
يُقال: (فما رَبحوا في تجارتهم)؟ وإنْ أردْتَ أن تزْدادَ للأمر
تبييناً، فانظرْ إلى بيت الفرزْدق [من الكامل]:
يَحْمي، إذا اختُرِطَ السيوفُ نِساءَنا ... ضَرْبٌ تطيرُ له
السواعدُ أرعَلُ
وإلى رونقه ومائِه وإلى ما عليه من
الطَّلاوة، ثم ارْجِع إلى الذي هو الحقيقةُ وقل: (نحمي، إذا
اخْتُرِطَ السيوفُ، نساءنا، بضرب تطيرُ له السواعدُ أرعلِ)؛ ثم
اسْبرْ حالَكَ، هل ترَى مما كنتَ تراه شيئاً؟ وهذا الضربُ من
المجاز على حدَّته كنزٌ من كنوز البلاغةِ، ومادَّةُ الشاعرِ
المُفْلِق والكاتب البليغِ في الإبداع والإحسانِ، والاتِّساع
في طرقِ البيان؛ وأنْ يجيءَ بالكلام مطبوعاً مصنوعاً، وأن
يضَعه بَعيدَ المرامِ، قريباً من الأفهامِ؛ ولا يَغُرَّنَّكَ
مِنْ أمره أنَّك تَرى الرجُلَ يقول: (أتى بي الشوقُ إلى
لقائكَ، وسار بي الحنينُ إلى رؤيتك، وأقدَمني بلدَك حقٌّ لي
على إنسان)، وأشباهُ ذلك مما تَجدُه لِسَعَته وشُهْرته، يَجْري
مَجْرى الحقيقةِ التي لا يُشْكِلُ أمرُها؛ فليس هو كذلك أبداً؛
بل يَدِقُّ ويَلْطُفُ حتى يَمْتِنعَ مثْلُه إلاَّ على الشاعرِ
المُفْلِقِ، والكاتبِ البليغِ، وحتى يأتيَك بالبِدْعة لم
تَعْرفها، والنادرةِ تأنَقُ لَها.
وجملةُ الأمرِ أنَّ سبيلَه سبيلُ الضرْبِ الأولِ الذي هو مجازٌ
في نفسِ اللفظِ ذاتِ الكلمة؛ فكما أنَّ من الاستعارة والتمثيل،
عاميَّا مثلَ: (رأيتُ أسداً، وَوَرَدْتُ بحراً، وشاهدْتُ
بَدْراً، وسَلَّ مِن رأْيه سيفاً) وخاصّياً لا يَكْملُ له كلُّ
أحدٍ، مثلَ قوله:
وسالتْ بأعناق المطيِّ الأباطحُ
كذلك الأمرُ في هذا المجاز الحُكْميِّ.
واعلمْ أنه ليس بواجبٍ في هذا أن يكونَ للفعل فاعلٌ في
التقدير، إذا أنتَ نَقَلْتَ الفعلَ إليه عدْتَ به إلى الحقيقة،
مثلَ أنَّكَ تقول في "ربحتْ تجارتُهم": رَبحوا في تجارتهم،
وفي: "يحمي نساءَنا ضَرْبٌ" نحمي نساءنا بضرب، فإن ذلك لا
يتأتَّى في كل شيء. ألا تَرَى أنه لا يُمكِنُكَ أن تُثْبِتَ
للفعل في قولك: (أقدَمني بلدَك حقٌّ لي على إنسان)، فاعلاً سوى
"الحقّ"؛ وكذلك لا تستطيع في قوله [من مجزوء الوافر]:
وصيَّرني هواك وبي ... لِحَيني يُضْرَبُ المَثَلُ
وقوله [من مجزوء الوافر]:
يزيدُكَ وجْهُهُ حُسْناً ... إذا ما زِدْتَه نَظَرا
أنْ تَزعُم أنَّ لـ (صيَّرَني) فاعلاً قد
نُقِلَ عنه الفعلُ فجُعِلَ للهوى، كما فُعِلَ ذلك في "ربحتْ
تجارتُهم، ويحمي نساءنا ضرْبُ". ولا تستطيعُ كذلك أن تُقدِّر
لـ (يزيدُ) في قوله: (يزيدُك وجهه): فاعلاً غيرَ الوجهِ.
فالاعتبار إذنْ، بأنْ يكون المعنى الذي يرجِعُ إليه الفعلُ،
موجوداً في الكلام على حقيقته. معنى ذلك أن القُدوم في قولك:
(أقدَمني بلدَك حقٌّ لي على إنسان)، موجودٌ على الحقيقة، وكذلك
الصيرورةُ في قوله: (وصيَّرني هواك). والزيادة في قوله:
(يزيدُك وجهه): موجودتان على الحقيقة. وإذا كان معنى اللفظِ
موجوداً على الحقيقة، لم يكُنِ المجازُ فيه نَفْسَه؛ وإذا لم
يكن المجازُ في نفسِ اللفظِ، كان لا مَحالة في الحُكْم؛ فاعرفْ
هذه الجملة وأَحْسِنْ ضبْطَها حتى تكونَ على بصيرةٍ من الأمر!
ومن اللطيف في ذلك قول حاجز بن عوف [من الوافر]:
أبي عَبَرَ الفوارسَ يومَ دَاجٍ ... وعمِّي مالكٌ وضَعَ
السِّهاما
فلو صاحَبْتِنا لرَضيتِ عَنَّا ... إذا لم تَغْبُقِ المائةُ
الغلاما
يُريد إذا كان العامُ عامَ جَدْب، وجفَّت ضروعُ الإبل، وانقطع
الدَّرُّ، حتى إن حلَبَ منها مائةً، لم يَحْصل من لبنها ما
يكون غَبُوقَ غلامٍ واحدٍ. فالفعل الذي هو [غبَق] مستعملٌ في
نفسه على حقيقته، غيرُ مُخْرَجٍ عن معناهُ وأصْلِه إلى معنى
شيءٍ آخر، فيكون قد دخلَه مجازٌ في نفسه، وإنما المجازُ في أن
أُسنِد إلى الإبل وجُعِل فِعْلاً لها. وإسنادُ الفعلِ إلى
الشيء حُكْم في الفعل، وليس هو نفسَ معنى الفعلِ، فاعرفه!
واعلمْ أنَّ مِن سبَب اللطفِ في ذلك أنه ليس كلُّ شيء يَصْلُح
لأن يُتعاطى فيه هذا المجازُ الحُكْمي بسهولة، بل تَجدُك في
كثيرٍ من الأمر وأنتَ تحتاجُ إلى أن تُهيِّئَ الشيءَ وتصلِحَه
لذلك بشيءٍ تتوخاه في النظْم. وإنْ أرَدْت مثالاً في ذلك
فانظرْ إلى قوله [من الطويل]:
تناسَ طِلابَ العامريةِ إذْ نأتْ ... بأسجَحَ مِرْ قال الضحى
قَلقِ الضَّفْرِ
إذا ما أحسَّتْهُ الأفاعي تحيَّزتْ ... شواةُ الأفاعي مِنْ
مُثَلَّمةٍ سُمْرِ
تجوبُ له الظَّلْماءَ عينٌ كأنَّها ... زجاجةُ شَرْبٍ غيرُ
ملأى ولا صِفْرِ
يَصفُ جملاً ويُريد أن يهتديَ بنورِ عينِه
في الظلْماءِ، ويُمكنه بها أن يَخْرُقَها ويمضيَ فيها. ولولاها
لكانتِ الظلماءُ كالسَّدِّ والحاجزِ الذي لا يجد شيئاً
يُفرِّجُه به ويَجْعلُ لنفسِه فيه سَبيلا. فأنتَ الآن تعلَمُ
أنه لولا أنه قال: (تجوبُ له). فعلَّق "له" (بتَجُوب) لَمَا
صلحَتْ العَينُ لأن يُسْنَد "تجوب" إليها، ولكان لا
تَتَبَيَّنُ جهةَ التجوُّز في جعْل "تجوب" فعلاً للعين كما
ينبغي. وكذلك تَعْلم أنه لو قال مثلاً: (تجوبُ له الظلماءَ
عينُه): لم يكنْ له هذا الموقعُ، ولاضطْرَبَ عليه معناهُ
وانقَطَع السِّلْكُ من حيثُ كان يَعيبه حينئذٍ أن يَصِفَ
العينَ بما وصفَها به الآنَ. فتأملْ هذا واعتَبِرْهُ! فهذه
التهيئةُ وهذا الاستعدادُ في هذا المجاز الحُكْمي، نظيرُ أنك
تَراك في الاستعارة التي هي مجازٌ في نفس الكلمةِ وأنتَ تحتاج
في الأمر الأكثرِ إلى أنْ تُمهِّد لها وتُقدِّم أو تؤخِّر ما
يُعْلَمُ به أَنكَ مستعيرٌ ومُشبِّهٌ؛ ويُفتَحُ طريقُ المجاز
إلى الكلمة. ألا ترى إلى قوله [من الطويل]:
وصاعقةٍ من نَصْلِه يَنْكفي بها ... على أَرْؤُسِ الأقرانِ
خمسُ سحائبِ
عنَى (بخمس السحائب) أنامله؛ ولكنه لم يأت بهذه الاستعارة
دفعةَ، ولم يَرْمها إليك بغْتةً، بل ذكر ما يُنْبئ عنها،
ويُسْتَدلُّ به عليها، فذكَر أن هناكَ صاعقةً وقال: (مِنْ
نصلِه)، فبيَّن أنَّ تلك الصاعقةَ مِنْ نَصْلِ سيفِه، ثم قال:
(أرؤس الأقران)، ثم قال: (خمس) فذكر الخمس التي هي عدَدُ
أناملِ اليد، فبانَ مِن مجموعِ هذه الأمور غرَضُهُ. وأنشدوا
لبعض العرب [من الرجز]:
فإنْ تعافُوا العدلَ والإيْمانا ... فإنَّ في أيْمَاننا
نِيرانا
يُريد: (في أيماننا سيوفاً نَضْربكُم بها)، ولولا قولُه
أوَّلاً: (فإن تعافوا العدلَ والإيمانَ): وأنَّ في ذلك دلالةً
على أنَّ جوابَه أنَّهم يُحَارَبُون ويُقْسَرُون على الطاعة
بالسيف، ثم قولُه: (فإنَّ في أيماننا): لما عُقِلَ مرادُه،
ولما جازَ له أن يَستعيرَ النيرانَ للسيوفِ، لأنه كان لا
يَعْقِل الذي يُريد، لأنَّا وإنْ كنَّا نقول: (في أيديهم سيوفٌ
تَلمعُ كأنها شُعَل النَّيران)، كما قال [من الكامل]:
ناهضتَهُمْ والبارقاتُ كأنَّها ... شُعَلٌ
على أيديهِمُ تَتَلهَّبُ
فإنَّ هذا التشبيه لا يبلُغُ مَبْلَغَ ما يُعْرَفُ مَعَ
الإطلاق كمعرفتنا إذا قال: (رأيتُ أسداً): أنهُ يُريد الشجاعة.
وإذا قال: (لقيتُ شسماً وبدراً): أنه يُريدُ الحُسْنَ، ولا
يقوى تلك القوَّة، فاعرفْه! "
وممَّا طريقُ المَجاز فيه الحكْمُ قولُ الخنساء [من البسيط]:
تَرْتَعُ ما رتعَتْ حتى إذا ادَّكَرَتْ ... فإنَّما هي إقْبالٌ
وإِدبارُ
وذاك أنها لم تُرِدْ بـ (الإقبال والإدبار) غيرَ معناهما،
فتكونَ قد تجوَّزت في نفسِ الكلمةِ، وإنما تجوَّزَتْ في أَنْ
جعلَتْها لكثرة ما تُقبِلُ وتُدْبِرُ ولِغَلَبة ذاكَ عليها
واتصالِه بها، وأنه لم يَكْن لها حالٌ غيرَهما، أنها قد
تجسَّمتْ من الإقبال والإدبار. وإِنما كان يكون المجازُ في
نفْس الكلمةِ لو أنها كانت قد استعارت الإقبالَ والإدبارَ
لمعنىً غير معناهما الذي وُضعا له في اللغة، ومعلوم أن ليس
الاستعارة مما أرادته في شيء.
واعلمْ أنْ ليس بالوجه، أنْ يُعَدَّ هذا على الإطلاق، مَعدَّ
ما حُذِفَ منه المضاف، وقيم المضاف إليه مُقامه، مثلَ قولِه
عزَّ وجل: {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82].
ومثلَ قولِ النابغة الجعديّ [من المتقارب]:
وكيفَ تُواصِلُ مَنْ أصْبَحَتْ ... خُلاَلَتُهُ كأبي مَرْحَبِ
وقولِ الأعرابي [من الوافر]:
حَسِبْتَ بُغَام راحلتي عنَاقا ... وما هي وَيْبَ غَيْرِك
بالعَنَاقِ
وإنْ كنَّا نراهم يذكرونَه حيثُ يذكرونَ حذْفَ المضافِ ويقولون
إنه في تقدير "فإنما هي ذات إقبال وإدبار" ذاك لأنَّ المضافَ
المحذوفَ مِن نحو الآية والبيتينِ، في سبيل ما يُحْذفُ من
اللفظ ويراد في المعنى، كمثل أن يُحْذَفَ خبرُ المبتدأ أَو
المبتدأُ، إذا دَلَّ الدليلُ عليه، إلى سائر ما إذا حُذِفَ كان
في حكْم المنطوق به؛ وليس الأمرُ كذلك في بيت الخنساء، لأنَّا
إذا جعلْنا المعنى فيه الآن، كالمعنى إذا نحنُ قلنا: (فإنما هي
ذاتُ إقبال وإدبار)، أفسَدْنا الشِّعرَ على أنفسِنا وخرَجْنا
إلى شيء مغسول، وإلى كلامٍ عامِّيٍّ مرذولٍ، وكان سبيلنا سبيلَ
مَنْ يَزْعُم مثلاً في بيتِ المتنبي [من الوافر]:
بدَتْ قَمراً ومالتْ خُوطَ بانٍ ...
وفاحَتْ عنبراً ورنَتْ غَزالا
أَنه في تقدير محذوفٍ وأنَّ معناه الآن كالمعنى إذا قلت: (بدتْ
مثلَ قمر ومالتْ مثلَ خوطِ بانٍ وفاحَتْ مثلَ عنبرٍ ورَنَتْ
مثلَ غَزالٍ)، في أنَّا نَخْرجُ إلى الغثاثة وإلى شيء يَعْزِلُ
البلاغةَ عن سلطانها، ويخْفِضُ من شأنها، ويَصُدُّ أوجُهَنا عن
مَحاسِنها، ويَسُدُّ باب المعرفة بها وبلطائفها علينا.
فالوجْهُ أن يكون تقديرُ المضافِ في هذا، على معنى أنه، لو كان
الكلامُ قد جيءَ بهِ على ظاهره، ولم يُقْصَد إلى الذي ذكَرْناه
من المبالغة والاتِّساع، وأنْ تُجْعَلَ الناقةُ كأَنها قد
صارتْ بجملتها إقبالاً وإدباراً، حتى كأنها قد تجسَّمَتْ
منهما، لَكانَ حقُّه حينئذٍ أن يُجاء فيه بلفظِ الذاتِ فيُقال:
(إنما هي ذاتُ إقبالٍ وإدبار). فأَمَّا أن يكون الشعرُ الآن
موضوعاً على إرادة ذلك، وعلى تنزيله منزلةَ المنطوقِ به حتى
يكونَ الحالُ فيه كالحال في:
حسبتَ بُغَامَ راحِلتي عناقا
حينَ كان المعنى والقصْدُ أن يقول: (حسبتَ بغامَ راحلتي بغامَ
عناق)، فما لا مساغَ له عندَ مَنْ كان صحيحَ الذوقِ، صحيحَ
المعرفةِ، نسَّابة للمعاني.
فصل
هذه مسألةٌ قد كنتُ عمِلْتُها قديماً، وقد كتبتُها ههنا لأنَّ
لها اتصالاً بهذا الذي صارَ بنا القولُ إليه، قولُه تعالى:
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37]، أي
لِمَنْ كان أعْمَلَ قلْبَه فيما خُلِق القلبُ لهُ مِنَ
التدبُّر والتفكُّر والنظرِ فيما ينبغي أن يُنْظَرَ فيه. فهذا
على أن يُجْعلَ الذي لا يعي ولا يسَمعُ ولا يَنْظرُ ولا
يتفكَّرُ، كأنه قد عَدِمَ القلبَ من حيثُ عَدِمَ الانتفاع به،
وفاتَه الذي هو فائدةُ القلبِ والمطلوبُ منه، كما جُعِلَ الذي
لا يَنْتفِعُ بِبصرِهِ وسَمْعه، ولا يُفكِّر فيما يؤديان إليه،
ولا يَحْصُل من رؤية ما يُرَى وسَماعِ ما يُسْمَعُ على فائدة
بمنزلةِ مَنْ لا سَمْعَ له ولا بَصَرَ. فأمَّا تفسيرُ مَنْ
يُفَسِّرهُ على أنه بمعنى "من كان له عقل" فإنه إنما يَصحُّ
على أن يكون قد أرادَ الدلالةَ على الغرضِ على الجملة. فأمَّا
أن يؤخذَ به على هذا الظاهر حتى كأنَّ القلبَ اسمٌ للعقل كما
يَتوهَّمُه أهلُ الحَشْوِ ومَنْ لا يَعرِفُ مخارِجَ الكلامِ،
فمحالٌ باطلٌ لأنه يؤدي إلى إبطال الغرَضِ من الآيةِ وإلى
تَحْريفِ الكلامِ عن صورتِه، وإزالةِ المعنى عن جهته. وذاك أن
المرادَ به الحثُّ على النظرِ، والتقريعُ على تَرْكه وذمُّ
مَنْ يُخِلُّ به وَيغْفِل عنه. ولا يَحْصُل ذلك إلا بالطريقِ
الذي قدَّمْتُه، وإلاَّ بأنْ يكونَ قد جُعِل من لا يَفْقَه
بقلبهِ ولا يَنْظُر ولا يَتفكَّر، كأنه ليس بذي قلب، كما
يُجْعَل كأنه جمادٌ وكأنه ميْتٌ لا يَشْعر ولا يُحِسّ. وليس
سبيلُ مَنْ فسَّر القلبَ ههنا على العقل، إلا سبيلَ من فَسَّر
عليه العينَ والسَّمعَ في قول الناس: (هذا بَيِّنٌ لمن كانت له
عَينٌ ولِمَنْ كان له سَمْع)، وفسَّرَ العمى والصمَم والموتَ
في صفة من يُوصَفُ بالجهالة، على مُجرَّد الجهل، وأجْرى جميعَ
ذلك على الظاهر، فاعرفْه! ومِنْ عادةِ قومٍ ممَّن يَتعاطى
التفسيرَ بغَيْرِ علم أن تَوهَّمُوا أبداً في الألفاظ
الموضوعةِ على المجاز والتمثيل، أنها على ظواهرها؛ فيُفْسِدوا
المعنى بذلك، ويُبْطِلوا الغرضَ ويَمْنَعوا أنفسَهم والسامعَ
منهم، العِلْمَ بموضعِ البلاغةِ وبمكانِ الشرفِ.
وناهيك بهم إذا هُم أخذوا في ذكْر الوجوه وجَعَلوا يُكْثِرون
في غير طائل! هناك ترى ما شئتَ من بابِ جَهْلٍ قد فتَحُوه،
وزَنْدِ ضَلالةٍ قد قَدَحُوا به، ونسألُ اللهَ تعالى العصمةَ
والتوفيقَ.
فصل: في الكناية
والتعريض
هذا فنٌّ مِن القول دقيقُ المسلكِ، لطيفُ المأخذِ، وهو أَنَّا
نَراهُمْ كما يَصنعون في نفس الصفة بأن يَذْهَبوا بها مذْهَبَ
الكناية والتعريض، كذلك يَذْهبون في إثباتِ الصفة هذا
المذْهَبَ. وإذا فعلوا ذلك بدَتْ هناك محاسِنُ تَملأُ الطرْفَ،
ودقائقُ تُعْجِزُ الوصفَ، ورأيتَ هناك شِعْراً شاعراً،
وسِحْراً ساحراً، وبلاغةً لا يَكْملُ لها إلا الشاعرُ
المُفْلِقُ، والخَطيبُ المِصْقَعُ. وكما أنَّ الصفةَ، إذا لم
تأتِكَ مُصَرَّحاً بذِكْرِها، مكْشوفاً عن وجهها، ولكنْ
مدلولاً عليها بغيرها، كان ذلك أفخم لشأنها، وألْطَفَ لمكانها؛
كذلك إثباتُك الصفةَ للشيء تُثْبِتُها له إِذا لم تُلْقِهِ إلى
السامع صَريحاً، وجئتَ إليه مِنْ جانبِ التعريضِ والكناية،
والرمز والإشارة، كان له مِن الفَضْل والمزيةِ، ومن الحُسْنِ
والرونقِ، ما لا يَقلُّ قليلُه، ولا يُجْهَلُ موضِعُ الفضيلةِ
فيه.
وتفسيرُ هذه الجملة وشرْحُها، أنَّهم يَرمون وصْفَ الرجل
ومدْحَه، وإثباتَ معنًى من المعاني الشريفةِ له، فيَدَعونَ
التصْريحَ بذلك، ويُكَنُّونَ عن جَعْلها فيه بِجَعْلها في شيء
يَشْتمِلُ عليه وَيتَلبَّس به، ويتوصلون في الجملة إلى ما
أَرادوا من الإِثباتِ، لا من الجهة الظاهرةِ المعروفةِ، بل من
طريقٍ يَخْفى، ومَسْلكٍ يَدِقُّ. ومثاله قول زياد الأعجم [من
الكامل]:
إنَّ السَّماحةَ والمروءَ والندى ... في قُبَّةِ ضُرِبَتْ على
ابْنِ الحَشْرجِ
أراد كما لا يخفى، أنْ يُثْبِتَ هذه
المعانيَ والأوصافَ خلالاً للممدوحِ وضرائبَ فيه، فتركَ أن
يُصرَّحَ فيقولَ: إنَّ السماحةَ والمروءةَ والندى لمجموعةٌ في
ابن الحَشْرج، أو مقصورةٌ عليه، أو مختصَّة به، وما شاكَلَ ذلك
مما هو صريحٌ في إثباتِ الأوصافِ للمذكورين بها، وعدَلَ إلى ما
ترى من الكناية والتلويح، فجعل كونَها في القُبَّة المضروبةِ
عليه، عبارةً عن كونها فيه، وإشارةً إليه؛ فخرَجَ كلامُه بذلك
إلى ما خَرَجَ إليه من الجَزالةِ، وظهرَ فيه ما أنت تَرى من
الفخَامة. ولو أنه أَسْقَط هذه الواسِطَة من البَيْن لما كان
إلا كلاماً غُفْلاً، وحديثاً ساذجاً. فهذه الصنعةُ في طريقِ
الإثباتِ هي نظيرُ الصنعةِ في المعاني، إذا جاءتْ كناياتٍ عن
معانٍ آخَر نحو قوله [من الوافر]:
وما يَكُ فيِّ مِنْ عَيبٍ فإنِّي ... جبانُ الكلبِ مهزولُ
الفَصيل
فكما أَنَّه إنما كان مِنْ فاخرِ الشِّعر وممَّا يقَعُ في
الاختيار لأجْل أَنْ أَرادَ أنْ يذْكُرَ نفسَه بالقرى
والضيافةِ، فكنَّى عن ذلك بجُبْنِ الكَلْب وهُزالِ الفصيل
وتَرَكَ أن يُصرِّحَ فيقولَ: (قد عُرِفَ أنَّ جَنابِي مألوفٌ
وكلبي مؤدَّبٌ لا يَهِرُّ في وجوهِ مَنْ يَغْشاني من الأضيافِ؛
وإني أَنْحَرُ المَتَالِى من إبلي وأَدَعُ فِصالَها هَزْلى).
كذلك إنما راقَكَ بيتُ زياد لأنه كنَّى عن إثباتِه السماحة
والمروءةَ والندى، كائنةً في الممدوح، بجعلها كائنةً في القبةِ
المضروبةِ عليه.
هذا - وكما أنَّ مِنْ شأنِ الكنايةِ الواقعةِ في نفسِ الصفةِ
أن تجيءَ على صورٍ مختلفةٍ، كذلك مِنْ شأنها إذا وقعَتْ في
طريقِ إثباتِ الصفةِ أنْ تجيءَ على هذا الحدِّ، ثم يكونُ في
ذلك ما يتناسَبُ كما كان ذلك في الكناية عن الصفةِ نفسِها.
تفسيرُ هذا أنك تَنظُرُ إلى قولِ يزيد بن الحَكَم يمدح به
يزيدَ بن الُهَلَّبِ وهو في حبْس الحجَّاج [من المنسرح]:
أصْبَحَ في قَيْدِكَ السَّماحة والمَجْـ ... ـدُ وفضلُ
والصلاحِ والحسَبُ
فتراه نظيراً لبيتِ زياد، وتَعْلم أنَّ مكان "القيد" ههنا هو
مكانُ "القبة" هناك، كما أنَّك تَنْظُر إلى قوله: (جبانُ
الكلب)، فتعْلَم أنَّه نَظيرٌ لقوله [من الطويل]:
زجرتُ كلابي أن يهِرَّ عَقُورها
مِنْ حَيثُ لم يكُنْ ذلك الجبنُ إلاَّ لأَنْ دامَ منهُ الزجْرُ
واستمرَّ حتى أخرجَ الكَلْبَ بذلك عمَّا هو عادتُه، من
الهَريرِ والنَّبْح في وجْه مَنْ يَدْنو مِنْ دارٍ هو مُرْصَدٌ
لأن يَعُسَّ دونها. وتنظر إلى قوله: (مهزول الفصيل)، فتعلم أنه
نظير قول ابن هَرْمَةَ.
لا أُمْتِع العُوذَ بالفصال
وتنظر إلى قول نُصَيْبٍ [من المتقارب]:
لِعَبْدِ العَزيزِ على قَوْمِهِ ... وغيرهمُ منَنٌ ظاهِرَهْ
فبابُك أسْهَلُ أبوابِهِمْ ... ودارُكَ مأَهُولَةٌ عَامِرَهْ
وكلْبُكَ آنسُ بالزائرينَ ... مِنَ الأُمّ بالإبْنَةِ
الزائرَهْ
فَتَعلمُ أنه من قول الآخر [من الطويل]:
يكادُ إذا ما أبصرَ الضيفَ مَقْبلاً ... يَكلّمه من حُبِّهِ
وهْوَ أَعْجَمُ
وأنَّ بينهما قرابةً شديدةً ونسباً لاصقاً، وأنَّ صورتَهما في
فَرْط التناسبِ، صورةُ بيتَيْ زياد ويزيد.
ومما هو إثباتٌ للصفة على طريقِ الكنايةِ والتعريضِ قولُهم:
(المجْدُ بين ثَوْبَيْه، والكَرَمُ في بُرْدَيْه): وذلك أن
قائل هذا يتَوصَّلُ إلى إثباتِ المجدِ والكَرَم للممدوح، بأن
يَجعلَهما في ثوبه الذي يلْبَسُه، كما توصل زياد إلى إثباتِ
السماحةِ والمروءة والندى لابن الحَشْرج، بأنْ جَعَلَها في
القُبَّة التي هو جالسٌ فيها. ومن ذلك قوله [من البسيط]:
وحيثما بكَ أَمرٌ صالحٌ تكُنِ
وما جاء في معناه من قوله [من المتقارب]:
يَصيرُ أَبانٌ قرينَ السَّما ... حِ والمَكْرُماتِ معاً حيثُ
صارا
وقولُ أبي نُواسَ [من الطويل]:
فما جازَهُ جُوْدٌ ولا حلَّ دُونَه ... ولكنْ يَصيرُ الجُودُ
حَيْثُ يَصيرُ
كلُّ ذلك تَوصُّلٌ لإثباتِ الصفة في الممدوح، بإثباتها في
المكان الذي يكونُ فيه، وإلى لُزومها له، بلُزومها الموضِعَ
الذي يَحُلُّه. وهكذا إن اعتبرْتَ قولَ الشَّنفَرى، يصفُ امرأة
بالعفة [من الطويل]:
يبيتُ بمنجاةٍ مِنَ اللَّوْم بيْتُها ... إِذا ما بُيوتٌ
بالملامَةِ حُلَّتِ
وجدْتَهُ يَدْخُل في معنى بيتِ زياد، وذلك
أنه توصَّلَ إلى نفي اللَّوْم عنها، وإبعادها عنه، بأن نَفَاه
عن بيتها وباعَدَ بينَهُ وبَيْنَهُ، وكان مَذْهبُه في ذلك
مذْهَبَ زياد في التوصل إلى جَعْلِ السماحةِ والمروءةِ والندى
في ابنِ الحَشْرَجِ بأن جعَلَها في القبة المضروبةِ عليه.
وإنما الفرقُ أنَ هذا يَنْفي وذاك يُثْبِتُ؛ وذلك فَرْقٌ لا في
موضِعِ الجمعِ، فهو لا يَمْنَعُ أن يكونا مِنْ نِصَابٍ واحدٍ.
ومما هو في حُكْم المناسِب لبيتِ زياد وأمثالهِ التي ذكَرْتُ
وإنْ كان قد أُخْرِجَ في صورةٍ أغربَ وأَبدَعَ، قولُ حسَّان
رضي الله عنه [من الطويل]:
بَنَى الْمَجْدَ بَيْتاً فَاسْتَقَرَّتْ عِمَادُه ... عَليْنا
فأعْيى الناسَ أنْ يَتَحوَّلا
وقولُ البحتري [من الكامل]:
أَوَ ما رأيتَ المجدَ ألقى رحْلَه ... في آلِ طلحةَ ثم لم
يَتحوَّلِ
ذاكَ لأنَّ مدَارَ الأمرِ على أنَّه جَعَلَ المجْدَ والممدوحَ
في مكانٍ، وجعَلَه يكونُ حيثُ يكونُ.
واعلمْ أنه ليس كلُّ ما جاء كنايةً في إثباتِ الصفةِ، يَصْلحُ
أَنْ يُحْكَمَ عليه بالتناسُبِ. معنى هذا أنَّ جعْلَهمُ
الجُودَ والكَرَمَ والمجْدَ، يَمْرضُ بِمَرضِ الممدوحِ، كما
قال البحتري [من الطويل]:
ظَلِلْنا نَعودُ الجودَ من وَعْكِكَ الذي ... وجَدْتَ وقلْنا
اعتَلَّ عضوٌ من المَجْدِ
وإنْ كان يَكونُ القصْدُ منه إثباتَ الجودِ والمجدِ للممدوح،
فإنه لا يَصِحُّ أنْ يقال إِنه نظيرٌ لبيتَ زياد، كما قلنا ذاك
في بيت أبي نواس [من الطويل]:
ولكنْ يصَيرُ الجودُ حيثُ يصَيرُ
وغيرِه مما ذكَرْنا أنه نظيرٌ له؛ كما أنه لا يجوز أن يُجْعَل
قَولُه:
وكلبُكَ أرافُ بالزائرينَ
مثلاً، نظيراً لقوله: (مهزول الفصيل): وإنْ
كان الغَرضُ منهما جميعاً الوصفَ بالقِرى والضيافةِ، وكانا
جميعاً كنايتين عن معنى واحد، لأنَّ تعاقُبَ الكناياتِ على
المعنى الواحدِ، لا يُوجِبُ تَناسُبَها، لأنه في عَرُوض أنْ
تَتَّفِقَ الأشعارُ الكثيرة في كونها مَدْحاً، بالشجاعة
مَثَلاً، أو بالجودِ أو ما أشْبَه ذلك. وقد يَجْتمِعُ في البيت
الواحدِ كنَايتانِ، المغْزى منهما شيءٌ واحدٌ؛ ثم لا تكونُ
إِحداهما في حكْم النظيرِ للأخرى. مثالُ ذلك أنه لا يكونُ
قوله: (جبان الكلب): نظيراً لقوله: (مهزول الفصيل). بل كلُّ
واحدةٍ من هاتينِ الكنايَتْينِ أَصْلٌ بنفسِه وجنسٌ على حدة.
وكذلك قولُ ابن هَرْمَة [من المنسرح]:
لا أُمْتِعُ العُوذَ بالفصالِ ولا ... أَبْتاعُ إلا قريبةَ
الأَجَلِ
ليس إحدى كنايتَيْه في حُكْمِ النظيرِ للأخرى، وإن كان
المُكنَّى بهما عنه واحداً، فاعرفْه!
وليس لِشُعَبِ هذا الأصْلِ وفروعه، وأمثلتِه، وصُورهِ
وطُرُقِهِ ومسالِكِه، حدٌّ ونهاية.
ومن لطيفِ ذلك ونادرِه قولُ أبي تمام [من الوافر]:
أَبَيْنَ فما يَزُرْنَ سِوى كَريم ... وحسْبُكَ أَن يَزُرْنَ
أبا سَعيدِ
ومثلُه وإنْ لم يَبلُغْ مبلَغَه، قولُ الآخرِ [من الوافر]:
متى تَخْلُو تَميمٌ مِنْ كَريمٍ ... ومَسْلمَةُ بْنُ عَمْروٍ
مِنْ تميمِ
وكذلك قولُ بعضِ العربِ [من المتقارب]:
إذا اللهُ لم يَسْقِ إلاَّ الكِرامَ ... فسقَى وجوهَ بني حنْبل
وسَقَّى ديارَهُمْ باكِرٌ ... من الغيثِ في الزمنِ المُمْحِلِ
وفنٌّ منه غريبٌ قَولُ بعضِهم في البرامكة [من الطويل]:
سألتُ النَّدَى والجَودَ ما لي أَراكُما ... تَبَدَّلْتُما
ذُلاً بعزِّ مُؤبَّدِ
وما بالُ ركْنِ المجْدِ أمسى مُهَدَّما ... فقالا أُصِبْنا
بابنِ يَحيى مُحمَّدِ
فقلتُ فهلاَّ مُتَّمَا عند موتهِ ... فقد كُنْتُما عبْدَيْه في
كل مشْهِدِ
فقالا أَقَمنا كيْ نُعزَّى بفَقْدِه ... مسافةَ يومٍ ثم
نَتْلُوه في غَدِ
فصل: في إنّ ومواقعها
واعلمْ أَنّ مما أَغمضَ الطريقَ إلى معرفة ما نحنُ بصدده،
أَنَّ ههنا فروقاً خفيَّةً تَجهلُها العامَّةُ وكثيرٌ من
الخاصة، ليس أَنَّهم يَجْهلونَها في موضعٍ ويَعْرفونها في
آخرَ، بل لا يَدْرون أَنها هي، ولا يَعْلمونها في جملةٍ ولا
تفْصيل. رُويَ عن ابن الأنباريِّ أَنه قال: ركبَ الكنْديُّ
المتفلسِف إلى أبي العبّاس وقال له: إني لأَجِدُ في كلام
العَرب حَشْواً، فقال له أبو العباس: في أيِّ موضع وجَدْتَ
ذلك؟ فقال: أَجدُ العربَ يقولون: (عبدُ الله قائم)، ثم يقولون:
(إنَّ عبدَ الله قائم)، ثم يقولون: (إنَّ عبدَ الله لقائمٌ):
فالألفاظُ متكررةٌ والمعنى واحد، فقال أبو العباس: بل المعاني
مختلفةٌ لاختلافِ الألفاظِ؛ فقولُهم: (عبدُ الله قائمٌ):
إخبارٌ عن قيامه؛ وقولُهم: (إنَّ عبدَ الله قائمٌ): جوابٌ عن
سؤالِ سائلٍ؛ وقولُهم: (إنَّ عبدَ اللهِ لقائمٌ): جوابٌ عن
إنكار مُنْكِرٍ قيامَهُ. فقد تَكرَرَّت الألفاظُ لتكرُّرِ
المعاني. قال فما حارَ المتفلسِفُ جواباً. وإِذا كان الكنديُّ
يذَهْبُ هذا عليهِ حتى يَرْكَبَ فيه ركُوبَ مستفهِمٍ أو
معْترِضٍ، فما ظنُّكَ بالعامَّة ومَنْ هو في عداد العامَّة
ممَّنْ لا يَخْطُرُ شبْهُ هذا بِبالِهِ.
واعلمْ أنَّ ههنا دقائقَ لو أنَّ الكنديَّ استقرى وتصفَّحَ
وتَتَبَّع مواقِعَ "إنَّ"، ثم ألْطَفَ النظرَ وأكثرَ
التدبُّرَ، لعَلِمَ عِلْمَ ضرورةٍ أنْ ليس سواءً دخولُها وأن
لا تَدْخُلَ. فأوَّلُ ذلك وأعْجَبُه ما قدَّمتُ لك ذكْرَه في
بيت بشار:
بكِّرا صاحبيَّ قبلَ الهَجيرِ ... إنَّ ذاكَ النَّجاحَ في
التبكيرِ
وما أنشدتُه معه من قول بعضِ العرب:
فغَنِّهَا وهْي لكَ الفِداءُ ... إنَّ غناءَ الإِبِلِ الحُداءُ
وذلك أنه هل شيءٌ أَبْينُ في الفائدةِ
وأَدلّ على أنْ ليس سواءً دخولُها وأنْ لا تَدْخُلَ، مِنْ أنكَ
ترى الجملةَ إذا هي دخلَتْ تَرتبِطُ بما قبْلَها وتأتلف معه،
وتَتَّحدُ به، حتى كأنَّ الكلامَيْنِ قد أُفرِغا إفراغاً
واحداً، وكأَن أحدَهُما قد سُبِكَ في الآخر؟ هذه هي الصورةُ،
حتى إذا جئتَ إلى "إنَّ" فأسقطتَها، رأيتَ الثاني منهما قد
نَبَا عن الأولِ وتجافى معناه عن معناه، ورأيْتَه لا يتَّصلُ
به؛ ولا يكونُ منه بسبيلٍ حتى تجيءَ بـ (الفاء) فتقولَ:
(بكِّرا صاحبيَّ قبل الهجيرِ فذاكَ النجاحُ في التبكير). و:
(غنِّها وهي لك الفداءُ فغناء الإبل الحُداءُ). ثم لا ترَى
(الفاء) تُعيد الجملتين إلى ما كانتا عليه من الألْفة وتَردُّ
عليك الذي كنتَ تجِدُ بـ (إنَّ) من المعنى.
وهذا الضربُ كثيرٌ في التنزيل جداً. من ذلك قوله تعالى:
{ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ
عَظِيمٌ} [الحج: 1]. وقولُه عزَّ اسْمُه: {يابني أَقِمِ الصلاة
وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر واصبر على مَآ أَصَابَكَ
إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور} [لقمان: 17]. وقوله سبحانه:
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ
وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ
لَّهُمْ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103] ومن أبْيَن ذلك
قولُه تعالى: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ
مُّغْرَقُونَ} [هود: 37] وقد يتكرَّرَ في الآية الواحدة، كقوله
عزَّ اسمُه: {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ
بالسواء إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
[يوسف: 53]. وهي عَلَى الجملة من الكَثْرة بحيثُ لا يُدركها
الإحصاءُ.
ومِنْ خصائصها أَنك تَرى لِضميرِ الأمرِ
والشأنِ معها، من الحُسْنِ واللطفِ، ما لا تَراه إذا هي لم
تَدْخُل عليه، بل تراه لا يَصْلُحُ حيثُ يصْلُح إلاَّ بها،
وذلك في مثل قوله تعالى: {أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله
وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 63]،
وقول: {أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سواءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ
تَابَ} [الأَنعام: 54]، وقوله: {لاَ يُفْلِحُ الكافرون}
[المؤمنون: 117] ومن ذلك قوله: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى
الأبصار} [الحج: 46].
وأجاز أبو الحسن فيها وجْهاً آخرَ، وهو أنْ يكون الضميرُ في
"إنها" (للأَبصار) أُضْمِرَتْ قبْلَ الذكْرِ على شَريطة
التفسير. والحاجةُ في هذا الوجْه أيضاً إلى "أنَّ" قائمةٌ كما
كانت في الوجه الأولِ. فإنه لا يُقال: (هي لا تَعْمى
الأَبصار)، كما لا يقال: (هو مَنْ يَتَّقِ ويَصْبِرُ فإنَّ
الله لا يُضيع). فإن قلتَ: أوَ ليسَ قد جاء ضميرُ الأمرِ
مبتدأً به مُعرًّى مِن العوامل في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الله
أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]؟ قيل: "هو" وإنْ جاء ههنا، فإنه لا يكاد
يُوجَدُ مع الجملة من الشَّرْط والجزاء، بل تَراه لا يجيءُ
إلاَّ بـ (إنَّ). على أنهم قد أَجازوا في {قُلْ هُوَ الله
أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] أنْ لا يكونَ الضميرُ للأَمر.
ومن لطيفِ ما جاء في هذا الباب ونادرِهِ، ما تَجدهُ في آخر هذه
الأبياتِ التي أنْشدَها الجاحظُ لبعض الحجازيين [من الطويل]:
إذا طَمَعْ يوماً عرَاني قَرَيْتُهُ ... كتائبَ يأسٍ كرَّها
وطِرادَها
أَكُدُّ ثِمَادي والمياهُ كثيرةٌ ... أُعالِجُ منها حفْرَها
واكْتِدادَها
وأَرْضى بها من بحرِ آخرَ إنَّه ... هو الرّيُّ أن تَرْضَى
النفوسُ ثِمادَها
المقصودُ قوله: إنه هو الرّيُّ؛ وذلك أن (الهاء) في (إنه)
تحتمل أمرَيْن:
أحدُهما أن تكونَ ضميرَ الأَمْرِ ويكونَ
قولُه "هو" ضميرُ "أن ترضى" وقد أُضمِر قبل الذكْر على شريطة
التفسير. الأصل: إنَّ الأمرَ أن ترضى النفوسُ ثِمادَها،
الرِّيُّ. ثم أُضمِر قبل الذكْرِ كما أُضمرِت "الأبصارُ" في
"فإنها لا تَعْمَى الأبصار" على مذهب أبي الحسن، ثم أُتيَ
بالمُفْسَّر مصرَّحاً به في آخر الكلام فعُلِمَ بذلك أن
الضميرَ السابق له وأنَّه المراد به.
والثاني أن تكون (الهاء) في "إنه" ضميرَ "أن تَرْضى" قبل
الذكْرِ، ويكون "هو" فَصْلاً ويكونُ أصْلُ الكلام: (إنَّ أنْ
تَرضى النفوسُ ثِمادها هو الرِّيُّ)، ثُم أُضمِر على شريطةِ
التفسير. وأَيَّ الأمَرْينِ كان، فإنه لا بدَّ فيه من "إِنَّ"
ولا سبيل إلى إِسقاطها لأنَّكَ إنْ أسقطْتَها، أَفْضَى ذلكَ
بكَ إلى شيءٍ شنيعٍ وهو أن تقولَ: (وأَرْضى بها من بحرِ آخرَ
هو هو الريُّ أن تَرْضى النفوسُ ثِمَادَها).
هذا وفي "إنَّ" هذه شيءٌ آخرُ يُوجِبُ الحاجةَ إليها، وهو
أَنها تَتولَّى من ربط الجملةِ بما قبْلَها نحواً مما ذكرتُ لك
في بيت بشار. ألا ترى أَنك لو أَسقطْتَ "إنَّ" والضميرَيْنِ
معاً، واقتصَرْتَ على ذكر ما يَبْقى من الكلام لم تَقلْهُ إلا
(بالفاء) كقولك: (وأرضى بها من بحرِ آخرَ فالريُّ أن ترضَى
النفوس ثِمادها)، فلو أنَّ الفيلسوفَ قد كان تَتَبَّع هذه
المواضعَ لما ظن الذي ظنَّ.
هذا، وإذا كان خلَفُ الأحمرُ، وهو القدوةُ ومَنْ يُؤخذُ عنه،
ومَن هُو بحيثُ يَقول الشعرَ فيَنْحَلُه الفحولَ الجاهليينَ،
فيخَفْى ذلك له، يجوزُ أَنْ يَشْتبه ما نحن فيه عليه، حتى
يقَعَ له أن يَنْتَقِد على بشَّار، فلا غرو أن تَدْخُلَ
الشُّبهةُ في ذلك على الكندي.
ومما تَصنعُه "إنَّ" في الكلام، أنَّك تَراها تُهيِّيء
النكِرةَ وتُصْلِحُها لأن يكونَ لها حكْمُ المبتدأ، أعنى أن
تكونَ محدَّثاً عنها بحديثٍ من بعدها. ومثال ذلك قوله [من
مخلَّع البسيط]:
إنَّ شِواءَ ونَشْوَةً ... وخَبَب البازلِ الأمُونِ
قد ترى حُسْنَا وصحَّةَ المعنى معها، ثم
إنَّك إنْ جئتَ بها من غير "إنَّ" فقلت: (شواءٌ ونشوةٌ وخبَبُ
البازلِ الأمونِ)، لم يكنْ كلاماً. فإنْ كانت النكرةُ موصوفةً
وكانت لذلك تَصْلحُ أن يُبْتَدأ بها، فإِنك تراها مع "إِنَّ"
أحْسَنَ، وترى المعنى حينئذٍ أَوْلى بالصحة وأمْكَنَ؛ أفلاَ
تَرى إلى قوله [من الخفيف]:
إنًَّ دهْر يلفُّ شَملي بسُعدى ... لَزَمانٌ يَهُمُّ بالإحسانِ
ليس بخفيٍّ - وإنْ كان يستقيم أنْ تقول: (دهرٌ يلف شملي بسُعدى
دهرٌ صالح) - أنْ ليسَ الحالانِ على سواء. وكذلك ليس بِخَفيِّ
أَنَّك لو عمدت إِلى قولِه [من مجزوء الرمل]:
إِنَّ أمراً فادِحاً ... عن جَوابي شَغَلَكْ
فأسقطتَ منه "إِن"، لَعدِمْتَ منه الحسْنَ والطلاوةَ
والتمكُّنَ الذي أنتَ واجِدُهُ الآنَ، ووجَدْتَ ضعفاً وفتوراً.
ومن تأثير "إنَّ" في الجملة، أنها تُغْني إذا كانت فيها، عن
الخَبر في بعض الكلامِ؛ ووَضَعَ صاحبُ "الكتاب" في ذلك باباً
فقال: هذا بابُ ما يَحْسُنُ عليه السكوتُ في الأحرُفِ الخمسة
لإضمارِكَ ما يكونُ مستقرًّا لها وموضعاً لو أَظهرتَه. وليس
هذا المُضْمَرُ بنفسِ المُظْهَر، وذلك "إنَّ مالاً وإنَّ ولداً
وإنَّ عدداً" أي: إنَّ لَهُمْ مالاً؛ فالذي أضمرتَ هو: "لهم"
ويقولُ الرجلُ للرَّجل: هلْ لكُم أَحدٌ، إنَّ الناسَ ألْبٌ
عليكم؟ فتقول: إنَّ زيداً وإِنَّ عَمراً: أَي لنا. وقال [من
المنسرح]:
إنَّ مَحَلاًّ وإنَّ مُرْتَحلاً ... وإنَّ في النفس إِنْ
مَضَوْا مَهَلا
ويقول: (إنَّ غيرَها إبلاً وشاءً)، كأنه قال: (إنَّ لنا أو
عندَنا غيرَها).
(قال) وانتصبَ (الإبلُ والشاءُ) كانتصاب الفارسِ إذا قلتَ: ما
في الناس مثلَه فارساً. و (قال) ومثلُ ذلك قوله [من الرجز]:
يا ليت أيَّام الصِّبَا رواجعا
(قال) فهذا كقولهم: أَلاَ ماءً بارداً: كأنه قال: ألا ماءً لنا
بارداً! وكأنه قال: "يا ليتَ أيام الصِّبا أقبلَتْ رَواجعا".
فقد أراك في هذا كلِّه أنَّ الخبرَ محذوف؛
وقد تَرى حُسْنَ الكلامِ وصحَّتَه مع حذفِه وترْكِ النطقِ به؛
ثم إنَّك إِنْ عمَدْتَ إلى "إِنَّ" فأسقطتَها وجدْتَ الذي كان
حسُنَ من حذف الخبرِ، لا يَحْسُنُ أو لا يَسوغُ. فلو قلتَ:
(مالٌ وعددٌ ومحلٌّ ومرتحلٌ وغيرُها إبلاً وشاءً): لم يكنْ
شيئاً. وذلك أنَّ "إِنَّ" كانت السَّببَ في أنْ حَسُنَ حذفُ
الذي حُذِفَ من الخَبر، وأنها حاضِنتُهُ والمترجِمُ عنه
والمتكفِّلُ بشأنه.
واعلمْ أنَّ الذي قلنا في "إنَّ" من أنها تدخلُ على الجملة، من
شأنها إذا هي أُسقطتْ منها أن يُحتاجَ فيها إلى (الفاء)، لا
يَطِّردُ في كلِّ شيءٍ وكلِّ موضعٍ، بل يكونُ في موضعٍ دونَ
موضعٍ، وفي حالٍ دون حالٍ، فإنك قد تَراها قد دَخَلتْ على
الجملة ليستْ هي مما يقتضي (الفاء)، وذلك فيما لا يُحصى، كقوله
تعالى: {إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ} [الدخان: 51ـ52] وذاك أنَّ قبلَه: {إِنَّ هاذا مَا
كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان: 50] ومعلومٌ أنَّك لو
قلتَ: (إنَّ هذا ما كنتُم به تمترون، فالمتَّقون في جناتٍ
وعيون) لم يكنْ كلاماً. وكذلك قوله: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ
لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولائك عَنْهَا مُبْعَدُونَ}
[الأَنبياء: 101] لأنَّك لو قلتَ: (لهمْ فيها زَفِيرٌ وهم فيها
لا يسمعون، فالذين سبقت لهم من الحسنى): لم تَجِدْ لإدخالك
(الفاء) فيه وجهاً. وكذا قولُه: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين
هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إِنَّ الله
يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} [الحج: 17] جملة في موضع
الخبر، ودخولُ (الفاء) فيها محالٌ، لأنَّ الخبر لا يُعطَف على
المبتدأ. ومثلُه سواءٌ {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ
الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً}
[الكهف: 30].
فإذنْ إنما يكونُ الذي ذكَرْنا في الجملة،
من حديث اقتضاءِ (الفاء) إذا كان مصدرُها مصدرَ الكلام
يُصحَّحُ به ما قبلَه ويُحْتَجُ له ويُبَيَّنُ وجهُ الفائدة
فيه. ألاَ ترى أنَّ الغرضَ من قوله: (إنَّ ذاك النجاح في
التبكير): جُلُّه أن يُبيِّن المعنى في قوله لصاحبيه "بَكِّرا"
وأن يحْتجَّ لنفسه الأمر بالتكبير ويُبيَّنَ وَجْهَ الفائدة
فيه. وكذلك الحكْم في الآي التي تَلَوْناها. فقولُه: {إِنَّ
زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] بيانٌ للمعنى
في قوله تعالى: {يا أيُّها النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ}
[الحج: 1] ولِمَ أُمروا بأن يتقوا؛ وكذلك قولُه: {إِنَّ
صَلَواتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 103] بيانٌ للمعنى في أمر
النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة، أي بالدعاء لهم. وهذا سبيلُ
كلِّ ما أنتَ تَرى فيه الجملةَ يُحتاجُ فيها إلى (الفاء).
فاعرفْ ذلك!
فأمَّا الذي ذُكر عن أبي العباس مِنْ
جَعْله لها جوابَ سائلٍ، إذا كانتْ وحدَها، وجوابَ مُنْكِر إذا
كان معها (اللام)، فالذي يدلُّ على أنَّ لها أصْلاً في الجواب،
أنَّا رأيناهُمْ قد ألزمُوها الجملةَ من المبتدأ والخبر، إذا
كانت جواباً للقَسَم نحو (والله إِنَّ زيداً مُنْطلِقٌ)
وامتنعوا مِنْ أن يقولوا: (والله زيدٌ منطلق) ثم إنَّا إذا
استقرَيْنا الكلامَ وجَدْنا الأمرَ بيِّناً في الكثير من
مواقِعها أنه يُقصَدُ بها إلى الجواب، كقوله تعالى:
{وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم
مِّنْهُ ذِكْراً * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض} [الكهف:
83ـ84] وكقوله عزَّ وجَلَّ في أول السورة {نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ
بِرَبِّهِمْ} [الكهف: 13] وكقوله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ
فَقُلْ إِنِّي برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 216]
وقولِه تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين
تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} [الأَنعام: 56] وقوله: {وَقُلْ إني
أَنَا النذير المبين} [الحجر: 89] وأشباهِ ذلك مما يُعْلَم به
أنَّه كلامٌ أُمِرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بأن يُجيبَ
به الكفارَ في بعض ما جادَلوا وناظَروا فيه، وعلى ذلك قولُه
تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ
العالمين} [الشعراء: 16] وذاك أنه يَعْلم أنَّ المعنى:
فأتياهُ، فإذا قال لكما: ما شأْنُكُما وما جاءَ بكُما وما
تقولانِ؟ فقُولا: إنَّا رسولُ رَبِّ العالمين. وكذا قولُه:
{وَقَالَ موسى يافرعون إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين}
[الأعراف: 104]، هذا سبيلُهُ.
ومن البيِّن في ذلك قولُه تعالى في قصة السَّحَرة {قالوا
إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} [الأعراف: 125]. وذلك لأنه
عِيَانٌ أنه جوابُ فرعونَ عن قولِه {آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن
آذَنَ لَكُمْ} [الأعراف: 123]. فهذا هو وجْهُ القول في نُصْرة
هذه الحكايةِ.
ثم إنَّ الأصْلَ الذي ينبغي أنْ يكونَ عليه
البناءُ، هو الذي دُوِّن في الكتبِ من أنها للتأكيد، وإذا كان
قد ثَبَت ذلكَ، فإذا كان الخبرُ بأمْرٍ ليس للمخاطَبِ ظنٌّ في
خلافه البتَّةَ، ولا يكونُ قد عقَدَ في نفسه أنَّ الذي تزعُم
أَنه كائن، غيرُ كائنٍ، وأنَّ الذي تزعُم أنه لم يكن، كائنٌ،
فأنتَ لا تحتاج هناك إلى "إنَّ" وإنما تحتاج إليها إذا كان له
ظَنُّ في الخلاف، وعقْدُ قلبٍ على نَفْى ما تُثْبِتُ أو إثباتِ
ما تَنْفي. ولذلك تَراها تزدادُ حُسْناً إذا كان الخبرُ بأمر
يَبْعُدُ مثْلُه في الظنِّ وبشيءٍ قد جرتْ عادةُ الناسِ
بخلافِهِ، كقول أبي نُوَاس [من الرجز]: ... عليكَ باليأسِ منَ
الناسِ ... إنَّ غِنى نَفْسِك في الياسِ
فقد تَرى حُسْنَ موقعِها، وكيف قبولُ النفس لها؛ وليس ذلك
إلاَّ لأنَّ الغالِبَ على الناس أنهم لا يَحمِلون أنفسَهم على
اليأس، ولا يدَعُونَ الرجاءَ والطمَعَ، ولا يعترفُ كلُّ أحدٍ
ولا يُسلِّمُ أنَّ الغِنى في اليأس. فلمَّا كان كذلك، كان
الموضعُ مَوْضعَ فقرٍ إلى التأكيدِ، فلذلك كان من حُسْنها ما
تَرى. ومثلُه سواءٌ قولُ محمد بن وهيب [من الطويل]:
أجارَتَنا إنَّ التعفُّفَ بالياسِ ... وصَبْرٌ على استذرارِ
دُنْيا بإبْساسِ
حَرِيَّانِ أنْ لا يَقْذِفا بمذلَّةٍ ... كريماً وأن لا
يُخوجاه إلى الناسِ
أجارَتنا إنَّ القِداحَ كواذبٌ ... وأكْثرُ أسبابِ النجاحِ مع
الياسِ
هو كما لا يخفى كلامٌ معَ مَنْ لا يَرى أنَ الأمْرَ كما قال،
بل يُنْكِرهُ ويَعْتقد خلافَه. ومعلومٌ أنه لم يقلْه إلا
والمرأةُ تَحْدوهُ وتبعثُه على التعرُّضِ للناس وعلى الطَّلبِ.
ومن لطيفِ مواقعِها، أنْ يُدَّعى على المخاطَب ظَنَّ لم
يظنَّه، ولكنْ يُرادُ التهكُّم به وأنْ يقال: إنَ حالَكَ والذي
صنَعْتَ، يَقْتضي أن تكون قد ظننْتَ ذلك ومثالُ ذلك قولُ الأول
[من السريع]:
جاءَ شقيقٌ عارضاً رُمْحَه ... إنَّ بَني عَمِّكَ فيهمْ رِماحْ
يقول: إنَّ مجيئَه هكذا مُدِلاً بنَفْسِه
وبشجاعَتِهِ، قد وضعَ رمْحَه عرضاً، دليلٌ على إعجابٍ شديدٍ،
وعلى اعتقاد منه أنَّه لا يقومُ له أحدٌ، حتى كأنْ ليس مع أحدٍ
منَّا رمحٌ يدفَعَهُ به، وكأنَّا كلَّنا عُزْلٌ. وإذا كان كذلك
وَجَبَ إذا قيل إنها جوابُ سائلٍ، أنْ يُشْتَرَطَ فيه أنْ
يكونَ للسائل ظنٌّ في المسؤولِ عنه، على خلاف ما أنتَ تُجيبُهُ
به. فأمَّا أَنْ يُجْعل مجرَّدُ الجوابِ أصْلاً فيه فلا، لأنه
يؤدي أن لا يَسْتقيم لنا إذا قال الرجل: (كيف زيد؟) أنْ تقولَ:
(صالح). وإذا قال: (أين هو؟ أن تقول: في الدار). وأنْ لا يصحَّ
حتى تقولَ: إنه صالحٌ وإنه في الدار. وذلك ما لا يقولُه أحَد.
وأمَّا جعْلُها إذا جُمِعَ بينها وبين (اللام) نحو: (إنَّ عبدَ
الله لقائم): الكلام مع المنكَّر، فجيِّدٌ، لأنه إذا كان
الكلام مع المُنَكَّر، كانت الحاجةُ إلى التأكيد أشدَّ. وذلك
أنَّك أحوجُ ما تكون إلى الزيادة في تثبيت خَبَرِك إذا كان
هناك مَنْ يَدْفعُه ويُنْكِر صحَّتَه. إلاَّ أنه يَنبغي أن
يُعْلَم أنه، كما يكونُ للإنكارِ قد كان مِن السامعِ، فإنه
يكونُ للإنكارِ يُعلمُ أو يُرَى أنه يَكونُ مِن السامعين.
وجملةُ الأمر أنك لا تقول: (إنه لكذلك)، حتى تُريدَ أن تَضَعَ
كلامَكَ وضْعَ مَنْ يزَعُ فيه عن الإنكار.
واعْلَمْ أنها قد تَدْخلُ للدلالة على أنَّ
الظنَّ قد كان منكَ أيها المتكلِّمُ في الذي كان، أنَّه لا
يكون. وذلك قولُكَ لِلشيءِ، هو بمرأى من المُخاطَبِ ومَسْمع:
(إنه كان من الأمْر ما تَرى وكان منِّي إلى فلانٍ إحسانٌ
ومعروفٌ، ثم إنه جَعلً جَزائي ما رأيْت)، فتجعلُكَ كأنك تَردُّ
على نفْسِك ظَنَّكَ الذي ظنَنْتَ، وتُبيِّنُ الخطأ الذي
توهَّمْتَ؛ وعلى ذلك، واللهُ أعلمُ، قولُه تعالى حكايةً عن
أُمِّ مريمَ رضيَ الله عنها {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ
أنثى والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران: 36]. وكذلك
قولُه عزَّ وجَلَّ، حكايةً عن نوحٍ عليه السلام {قَالَ رَبِّ
إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} [الشعراء: 117]. وليس الذي يَعْرِضُ
بسببِ هذا الحرفِ من الدقائق والأُمور الخفيَّةِ بالشيء
يُدْرَك بالهوينا. ونحن نَقْتصِر الآن على ما ذكَرْنا، ونأخذُ
في القول عليها إذا اتصلت بها (ما).
|