دلائل الإعجاز ت الأيوبي باب القصر والاختصاص
فصل: في مسائل إنما
قال الشيخ أبو علي في الشيرازيَّات: يقولُ ناسٌ من النحويين في
نحْو قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33]، إنَّ المعنى: ما
حَرَّمَ ربِّي إلاَّ الفواحش. (قال): وأصبتُ ما يدلُّ على صحة
قولهم في هذا وهو قولُ الفرزدق [من الطويل]:
أنا الذائدُ الحامي الذِّمارَ وإنَّما ... يُدافِعُ عن
أحسابِهِم أنا أوْ مِثْلِي
فليس يَخْلو هذا الكلامُ مِنْ أن يكونَ موجِباً أو مَنْفيّاً.
فلو كان المرادُ به الإيجاب لم يَسْتقمْ. ألاَ ترى أنَّك لا
تقول: (يُدافعُ أنا ولا يُقاتلُ أنا)، وإنما تقول: (أدافعُ
وأُقاتل) إلاَّ أنَّ المعنى لمَّا كان: ما يُدافِعُ إلا أنا،
فصَلْتَ الضميرَ كما تفصله مع النَّفي إذا ألحقتَ معه "إلاَّ"
حَمْلاً على المعنى. وقال أبو إسحاق الزجاج في قوله تعالى:
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم} [البقرة: 173]:
النصْبُ في "الميتة" هو القراءةُ. ويجوزُ: (إنما حُرِّمَ
عليكم). قال أبو إسحاق: والذي اختارُه أن تكونَ (ما) هي التي
تمنعُ "إنَّ" مِنَ العمل، ويكونُ المعنى: "ما حُرِّمَ عليكُم
إلاَّ الميتةُ" لأنَّ (إنما) تأتي إثباتاً لما يُذْكَرُ بعدها
ونَفْياً لِمَا سواه، وقول الشاعر:
وإنما يُدافع عن أحسابهم أنا أوْ مِثلي
المعنى: ما يُدافِع عن أحسابهم، إلا أنا أو مثلي. انتهى كلام
أبي عليّ.
إعلمْ أنهم، وإنْ كان قد قالوا هذا الذي
كتبتُه لك، فإنهم لم يَعْنُوا بذلك أنَّ المعنى في هذا هو
المعنى في ذلك بعينه، وأنَّ سبيلَهما سبيلُ اللفظَيْن يُوضَعان
لمعنى واحد. وفرقٌ بينَ أنْ يكونَ في الشيء معنى الشيء، وبين
أنْ يكونَ الشيءُ الشيءَ عَلَى الإطلاق. يُبيِّنُ لكَ أنهما لا
يكونان سواءً أنه ليس كلُّ كلام يصلُحُ فيه (ما) و (إلاَّ)
يصلح فيه (إنما). ألاَ تَرى أنها لا تَصْلُح في مثل قوله
تعالى: {وَمَا مِنْ إلاه إِلاَّ الله} [آل عمران: 62]. ولا في
نحو قولنا: (ما أحدٌ إلاَّ وهُو يقول ذاك). إذْ لوْ قلتَ:
(إنما مِنْ إلهٍ الله، وإنما أحد وهو يقول ذاك): قلتَ ما لا
يكون له معنى. فإن قلتَ: إن سبَب ذلك أنَّ (أحداً) لا يقع
إلاَّ في النفي، وما يجري مجرى النفي من النهي والاستفهام،
وأنَّ (مِنْ) المزيدة في (ما مِنْ إلهٍ إلا الله)، كذلك لا
تكونُ إلاَّ في النفي، قيل: ففي هذا كفايةٌ؛ فإنه اعتراف بأنْ
ليسا سواءً لأنهما لو كانا سواءً لكان ينبغي أن يكونَ في
(إنما) مِنَ النفي مثلُ ما يكون في (ما) و (إلاَّ). وكما وجدتَ
(إنما) لا تصلح فيما ذكرْنا تجدُ (ما وإلاَّ) لا تصْلُح في
ضَرْبٍ من الكلام قد صلحتْ فيه (إنما)؛ وذلك في مثل قولك:
(إنما هو دِرهمٌ لا دينارٌ). لو قلتَ: (ما هو إلاَّ درهمٌ لا
دينارٌ): لم يكنْ شيئاً. وإذْ قد بانَ بهذه الجملة أنهم حينَ
جعلوا (إنما) في معنى (ما وإلاَّ) لم يَعْنوا أنَّ المعنى
فيهما واحدٌ على الإطلاق، وأن يُسْقطوا الفرْقَ، فإني أُبَيِّن
لكَ أمرَهُما وما هو أصْلٌ في كل واحد منهما، بعَوْنِ اللهِ
وتوفيقهِ!
إِعْلم أنَّ موضوعَ (إنما) على أن تجيءَ لخَبرٍ لا يَجهلُهُ
المخاطَبُ، ولا يَدفعُ صِحَّتَه أو لِمَا يُنزَّلُ هذه
المنزلةَ. تفسير ذلك أَنكَ تقولُ للرجل: (إنما هو هو أخوك
وإنما هو صاحبك القديم)، لا تقولُه لِمَنْ يَجْهلُ ذلك ويدفَعُ
صحَّتَه، ولكنْ لِمَن يَعْلَمُه ويُقِرُّ به. إلاَّ أنك تُريد
أن تُنَبِّهَهُ للذي يجب عليه من حقِّ الأخ وحُرْمةِ الصاحبِ.
ومثلُه قول الآخر [من الخفيف]:
إنما أنتَ والدٌ والأبُ القا ... طِعُ أحْنى مِنْ واصلِ
الأولادِ
لم يُرد أن يُعْلِمَ كافوراً أنَّ والدٌ،
ولا ذاكَ مما يحتاجُ كافورٌ فيه إلى الإعلام، ولكنه أراد أنْ
يُذكِّرَهُ منه بالأمر المعلوم لينْبَني عليه استدعاءُ ما
يُوجِبهُ، كونُهُ بمنزلةِ الوالدِ.
ومثلُ ذلك قولُهم: (إنَّما يَعْجَلُ مَنْ يَخْشَى الفَوْتَ)
وذلكَ أنَّ مِن المعلوم الثابتِ في النفوس أنَّ مَنْ لم يَخْشَ
الفوتَ، لَمْ يَعْجَل. ومِثالُه مِنَ التنزيلِ قولُه تعالى:
{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ} [الأَنعام: 36].
وقولُه تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِيَ
الرحمان بالغيب} [يس: 11] وقولُه تعالى: {إِنَّمَآ أَنتَ
مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 3] كلُّ ذلك تذكيرٌ بأمرٍ
ثابتٍ معلومٍ. وذلك أنَّ كلَّ عاقلٍ يَعْلَم أنَّه لا تكونُ
استجابةٌ إلاَّ ممَّنْ يَسْمَعُ ويَعقلُ ما يقال له ويُدْعى
إليه؛ وأن مَنْ لم يَسْمعْ ولم يعقِلْ، لم يَسْتجبْ؛ وكذلك
معلومٌ أنَّ الإنذارَ إنما يكون إنذاراً، ويكون له تأثيرٌ إذا
كان مع مَنْ يؤمِنُ بالله ويَخْشاهُ ويُصدِّقُ بالبعثِ
والساعةِ. فأمَّا الكافرُ الجاهلُ فالإنذارُ وتَرْكُ الإنذار
معه، واحدٌ. فهذا مثالُ ما الخبرُ فيهِ خبرٌ بأمر يعلمُه
المخاطَبُ ولا يُنْكِرُه بحالٍ، وأمَّا مثالٌ ما يُنَزَّل هذه
المنزلةَ، فكقوله [من الخفيف]:
إنَّما مُصْعَبٌ شِهابٌ مِنَ اللَّـ ... ـهِ تجلَّتْ عن
وجْهِهِ الظلْماءُ
ادَّعى في كونِ الممدوح بهذه الصفة أنَّه أمرٌ ظاهرٌ معلومٌ
للجميع، على عادة الشعراء، إذا مدحوا أنْ يدَّعوا في الأوصاف
التي يَذْكُرون بها الممدوحينَ أنها ثابتةٌ لهم، وأنهم قد
شُهروا بها، وأنهم لم يَصِفوا إلاَّ بالمعلوم الظاهرِ الذي لا
يَدْفعُه أحدٌ، كما قال [من الطويل]:
وتَعْذُلني أفناءُ سَعْدٍ عليهمُ ... وما قلْتُ إلاَّ بالذي
علِمَتْ سَعْدُ
وكما قال البحتريُّ [من الكامل]:
لا أدَّعي لأبي العلاءِ فضيلةً ... حتَّى يُسَلِّمَها إليه
عِدَاه
ومثلُه قولُهم: (إنما هو أسَدٌ وإنما هو نارٌ وإنما هو سيفٌ
صارمٌ)، إذا أدخلوا (إنما) جعلوا ذلك في حُكْم الظاهر المعلومِ
الذي لا يُنْكَر ولا يُدْفَع ولا يَخْفى.
فصل في النفي
والإثبات
وأما الخبرُ بالنّفْي والإثباتِ نحو "ما هذا إلاَّ كذا وإنْ هو
إلاَّ كذا"، فيكونُ للأمرِ يُنْكِرهُ المخاطَبُ ويَشُكُّ فيه.
فإذا قلتَ: (ما هو إلاَّ مُصيبٌ، أو: ما هو إلا مُخْطَئ):
قُلْتَه لِمَنْ يَدْفَع أنْ يكنَ الأمرُ على ما قلتَه. وإذا
رأيتَ شخصاً مِنْ بعيدٍ فقلتَ: (ما هو إلا زيدٌ): لم تَقُلْه
إلاَّ وصاحِبُك يَتوهَّم أنه ليس زيداً وأنه إنسانٌ آخر،
ويجدُّ في الإنكارِ أن يكونَ زيداً. وإذا كان الأمرُ ظاهراً
كالذي مضَى، لم تَقُلْه كذلك. فلا تقولُ للرجل تُرقِّقُه على
أخيهِ وتُنَبِّهُهُ للذي يَجب عليه من صِلة الرَّحِم ومن حُسْن
التحابِّ: (ما هو إلاَّ أخوك). وكذلك لا يَصْلُح في "إنما أنتَ
والد": ما أنتَ إلاَّ والد. فأما نحو: "إنما مصعبٌ شهابٌ"
فيَصلُحُ فيه أن تقول: (ما مصعبٌ إلاَّ شهابٌ)؛ لأنه ليس من
المعلومِ على الصحَّة، وإنما ادَّعى الشاعرُ فيه أنَّه كذلك.
وإذا كان هذا هكذا، جاز أنْ تقولَه بالني والإثبات. إلاَّ أنك
تُخْرِجُ المدحَ حينئذٍ عن أن يكونَ على حَدِّ المبالغة، من
حيث لا يكونُ قد ادَّعَيْتَ فيه أنه معلومٌ وأنه، بحيثُ لا
يُنْكِره مُنْكِرٌ ولا يُخَالِفُ فيه مُخالِفٌ.
قوله تعالى: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا
تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا}
[إبراهيم: 10] إنما جاء - واللهُ أعلمُ - بـ (إنْ) و (إلاَّ)
دون (إنما). فلم يَقُلْ: (إنما أنتُم بشرٌ مثلُنا)، لأنهم
جعلوا الرسلَ كأنهم بادِّعائهم النبوَّة، قد أخرجوا أنفُسَهم
عن أن يكونوا بَشَراً مثلَهم، وادَّعوا أمْراً لا يجوز أن
يكَون لِمَنْ هو بشر.
ولمَّا كان الأمرُ كذلك، أُخرجَ اللفظُ
مُخرَجَهُ حيثُ يراد إثباتُ أمرٍ يدفَعُه المخاطَبُ ويدَّعي
خلافَه، ثم جاء الجوابُ من "الرسُل" الذي هو قولُه تعالى:
{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ
مِّثْلُكُمْ} [إبراهيم: 11]. كذلك بـ (إنْ وإلاَّ) دون (إنما)،
لأنَّ مِنْ حُكْمِ مَنْ ادَّعى عليه خصْمُه الخلافَ في أمرٍ هو
لا يُخالِفُ فيه، أن يُعيد، كلامَ الخصْمِ على وجهه، ويجيءَ به
على هيئته ويَحْكيه كما هو.
فإذا قلت للرجل: (أنتَ مِنْ شأنِكَ كيتَ وكيتَ)، قال نعم: (أنا
مَنْ شأني كيتَ وكيتَ ولكنْ لا ضَيْرَ عَلَيَّ ولا يلزَمُني
مِنْ أجْلِ ذلك ما ظنَنْتُ أنه يلزَمُ)؛ فالرُّسُلُ صلوات
اللهُ عليهم كأنهم قالوا، إنَّ ما قُلْتُم مِنْ أَنَّا بشرٌ
مثلُكم كما قلتم، لَسْنا نُنْكِر ذلك، ولا نَجْهَلُه ولكنَّ
ذلك لا يَمْنعُنا مِنْ أن يكون الله تعالى قد منَّ علينا
وأكْرَمنا بالرسالة. وأمَّا قولُه تعالى: {قُلّ إِنَّمَا أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] فجاءنا بـ (إنما) لأنه
ابتداءُ كلام قد أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأن يُبلِّغه
إيَّاهُم، ويقولَه معَهم، وليس هو جواباً لكلام سابقٍ قد قيل
فيه: إنْ أنْتَ إلاَّ بشرٌ مثلُنا: فيجبُ أنْ يُؤْتى به على
وفْقِ ذلك الكلامِ، ويراعى فيه حَذْوُه كما كان ذلك في الآية
الأولى.
وجملةُ الأمرِ أنك متى رأيتَ شيئاً هو مِن
المَعْلوم الذي لا يُشَكُّ فيه قد جاء بالنفي، فذلك لتقديرِ
معنًى صارَ به في حُكْم المشكوكِ فيه. فمِنْ ذلك قولُه تعالى:
{وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور * إِنْ أَنتَ إِلاَّ
نَذِيرٌ} [فاطر: 22ـ23]. إنما جاء - واللهُ أعلم - بالنفي
والإثبات لأنه لمَّا قال تعالى: {وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن
فِي القبور} [فاطر: 22] وكان المعنى في ذلك أن يقال للنبي صلى
الله عليه وسلم: إنك لن تستطيعَ أن تُحوِّل قلوبهم عما هي عليه
من الإباء، لا تملك أن تُوقِعَ الإيمانَ في نفوسهم، مع إصرارهم
على كُفرهم، واستمرارِهم على جَهْلِهم، وصدِّهم بأسماعهم عما
تقولُه لهم وتَتْلُوه عليهم، كان اللائقُ بهذا أن يُجعَل حالُ
النبيِّ صلى الله عليه وسلم، حالَ مَنْ قد ظَنَّ أنه يملكُ ذلك
ومَنْ لا يَعْلَمُ يقيناً أنه ليس في وُسْعه شيءٌ أكثرُ من أن
يُنْذِر ويُحَذِّر؛ فأخْرَجَ اللفظَ مُخْرَجَه إذا كان الخطابُ
مع مَنْ يَشُكُّ فقيل: {إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ} [فاطر: 3].
ويُبيِّنُ ذلك أنَّك تقولُ للرجل، يُطِيلُ مُناظَرةَ الجاهلِ
ومقاولَتَهُ: (إنَّك لا تَستطيعُ أنْ تُسْمِعَ الميِّتَ وأنْ
تُفْهِمَ الجمادَ وأن تحوِّلَ الأعمى بصيراً؛ وليس بيدِكَ
إلاَّ أن تُبَيِّنَ وتحتجَّ، ولستَ تملكُ أكثرَ من ذلك). لا
تقول ههنا: فإنما الذي بيدِك أنْ تُبَيِّنَ وتحتجَّ، ذلك لأنك
لم تَقُلْ له: إنك لا تستطيع أنْ تُسْمِعَ الميتَ حتى جعلْتَه
بمثابة مَنْ يَظُنُّ أنه يملك وراءَ الاحتجاجِ والبيانِ،
شيئاً؛ وهذا واضحٌ فاعرفْه!
ومثلُ هذا، في أنَّ الذي تقدَّم من الكلام، اقتضى أن يكونَ
اللفظُ كالذي تَراه من كَوْنه (بإنْ وإلاَّ)، قولُه تعالى:
{قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا
شَآءَ الله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ
الخير وَمَا مَسَّنِيَ السواء إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ
وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188].
فصل: هذا بيان آخر
في إنما
اعْلَمْ أنها تفيد في الكلام بَعْدَها، إيجابَ الفعلِ لشيءٍ
ونَفْيَه عن غيرِه. فإذا قلْتَ: (إنما جاءني زيدٌ)، عُقِلَ منه
أنكَ أرَدْتَ أن تنفيَ أن يكونَ الجائي غيرَه. فمعنى الكلام
معَها شبيهٌ بالمعنى في قولك: (جاءني زيدٌ لا عمرو)؛ إلا أنَّ
لها مزيَّةً وهي أنَّك تَعْقِلُ معها إيجابَ الفعلِ لشيء
ونفْيَه عن غيره دفعةً واحدةً وفي حالٍ واحدةٍ، وليس كذلك
الأمرُ في: (جاءني زيد لا عمرو)؛ فإنك تَعْقلُهما في حالين.
ومزيةً ثانية وهي أنها تَجْعلُ الأمرَ ظاهراً في أنَّ الجائي
زيدٌ، ولا يكونُ هذا الظهورُ إذا جعلتَ الكلامَ بـ (لا)
فقلْتَ: (جاءني زيدٌ لا عمرو).
"لا" العاطفة و "إنما"
ثم اعلمْ أنَّ قولَنا في (لا) العاطفةِ: إنها تنفي عن الثاني
ما وَجَب للأولِ، ليس المرادُ به أنها تنفي عن الثاني أن يكون
قد شاركَ الأوَّلَ في الفعل، بل أنها تنفي أن يكونَ الفعلُ
الذي قلتَ إنه كان من الأول، قد كان مِن الثاني دون الأولِ،
ألا تَرى أنْ ليس المعنى في قولك: (جاءني زيدٌ ولا عمرو)، أنه
لم يكُنْ مِن عمرو مجيءٌ إليك مثلُ ما كان من زيدٍ، حتى كأنه
عكسُ قولك: (جاءني زيدٌ وعمرو)؛ بل المعنى أنَّ الجائي هو زيدٌ
لا عمرو. فهو كلامٌ تقولُه مع مَن يَغْلط في الفعل، قد كان من
هذا، فيتوَهَّم أنه كان من ذلك. والنكتةُ أنه لا شُبْهةَ في
أنْ ليس ههنا جائيان، وأنه ليس إلا جاءٍ واحدٌ. وإنما الشبهةُ
في أنَّ ذلك الجائي زيدٌ أم عمرو، فأنتَ تُحقِّقُ على المخاطب
بقولك: (جاءني زيد لا عمرو)، أنه زيدٌ وليس بعمروٍ. ونكتةٌ
أخرى وهي أنك لا تقول: (جاءني زيدٌ لا عمرو)، حتى يكونَ قد
بلغَ المخاطَبَ أنه كان مجيءٌ إليك من جاءٍ، إلاَّ أنه ظنَّ
أنه كان مِنْ عمروٍ فأعلَمْتَه أنه لم يكْن مِنْ عمروٍ ولكنْ
مِن زيدٍ.
وإذْ قد عرفْتَ هذه المعاني في الكلام بـ
(لا) العاطفةِ، فاعلمْ أنها بجُملتها، قائمةٌ لك في الكلام بـ
(إنما). فإذا قلتَ: (إنما جاءني زيدٌ)، لم يكن غرَضُك أنْ
تنفيَ أن يكون قد جاءَ مع زيد غيرُه، ولكنْ أن تنفيَ أن يكونَ
المجيءُ الذي قلتَ إنه كان منه، كان من عمرو، وكذلك تكون
الشبهةُ مرتفعةً في أنْ ليس ههنا جائيان، وأنْ ليس إلا جاءٍ
واحد، وإنما تكون الشبهةُ في أنَّ ذلك الجائي زيدٌ أم عمرو.
فإذا قلتَ: (إنما جاءني زيدٌ) حقَّقْتَ الأمرَ في أنه زيد.
وكذلك لا تقول: (إنما جاءني زيد)، حتى يكونَ قد بلَغَ المخاطَب
أنْ قد جاءك جاءٍ، ولكنَّه ظنَّ أنه عمرو مثلاً، فأعلَمْتَه
أنه زيدٌ. فإن قلتَ: فإنه قد يصحُّ أنْ تقول: (إنما جاءني مِنْ
بين القوم زيدٌ وحدَه وإنما أتاني مِنْ جملتهم عمروٌ فقط:
فإنَّ ذلك شيءٌ كالتكلف، والكلامُ هو الأولُ. ثم الاعتبارُ به
إذا أُطْلِقَ فَلَمْ يقيَّد بـ (وحده) وما في معناه. ومعلومٌ
أنكَ إذا قلتَ: (إنما جاءني زيدٌ)، ولم تَزدِ عَلَى ذلك، أنَّه
لا يَسبقُ إلى القلب مِن المعنى إلاَّ ما قدَّمْنا شرْحَه مِنْ
أنك أردْتَ النصَّ على زيد أنه الجائي وأن تُبْطِلَ ظنَّ
المخاطَبِ أنَّ المجيء لم يكن منه، ولكنْ كان مِن عمرو، حَسَبَ
ما يكونُ إذا قلت: جاءني زيدٌ لا عمرو: فاعرفْه.
النفي والإثبات بما وإلا
وإذْ قد عرفْتَ هذه الجملة، فإنَّا نَذْكُر جملةً من القولِ في
(ما) و (إلاَّ) وما يكونُ مِنْ حُكْمهما.
إِعلمْ أنك إذا قلتَ: (ما جاءني إلاَّ زيد). احتمل أمرين:
أحدُهما أنْ تُريدَ اختصاصَ زيدٍ بالمجيء وأن تَنْفِيَه عمَّنْ
عداه. وأنْ يكونَ كلاماً تقوله لا لأنَّ بالمخاطَب حاجةً إلى
أن يعْلمَ أنَّ زيداً قد جاءك ولكنْ، لأنَّ به حاجةً إلى أن
يَعْلم أنه لم يَجِئْ إليكَ غيرُه.
والثاني أن تُريد الذي ذكَرْناه في (إنما)
ويكون كلاماً تقولُه ليُعْلَم أنَّ الجائي زيدٌ لا غيره. فمن
ذلك قولُكَ للرجل يَدَّعي أنك قلت قولاً ثم قلتَ خلافَهُ: (ما
قلتُ اليوم إلاَّ ما قلتُه أمسِ بعينه). ويقولُ: لم تَر زيداً
وإنما رأيتَ فلاناً: فتقول: (بلْ لم أرَ إلا زيداً). وعلى ذلك
قولُه تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ
أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117]؛ لأنه
ليس المعنى أني لم أزد على ما أمَرْتني به، شيئاً، ولكنَّ
المعنى أني لم أدَّع ما أمَرْتَني به أن أقولَه لهم، وقلتُ
خِلافَه، ومثالُ ما جاءَ في الشعر، مِنْ ذلك قوله [من السريع]:
قد عَلِمَتْ سَلْمى وجاراتُها ... ما قطَّر الفارسَ إلاَّ أنا
المعنى: أنا الذي قَطَّر الفارسَ، وليس المعنى على أنه يُريد
أن يَزْعُم أنه انفردَ بأن قطَّره، وأنَّهُ لم يُشْركْهُ فيه
غيرُه.
وههنا كلامٌ ينبغي أنْ تعلَمه، إلاَّ أنِّي أكتُبُ لكَ من
قبلِه مسألةً لأنّ فيها عوناً عليه. قولُه تعالى: {إِنَّمَا
يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28]. في تقديم
اسم الله عزَّ وجلَّ معنى، خلافُ ما يكونُ لو أُخِّرَ؛ وإنما
يَبِينُ لك ذلك إذا اعتبرتَ الحُكْم في (ما وإلاَّ) وحصلْتَ
الفرْقَ بين أن تقول: (ما ضَرَبَ زيداً إلاَّ عمرو)، وبينَ
قولِك: (ما ضرَبَ عمروٌ إلا زيداً). والفرقُ بينهما أنك إذا
قلتَ: (ما ضرَبَ زيداً إلا عمرو) فقدَّمْتَ المنصوبَ، كان
الغرَضُ بيانَ الضاربِ: مَنْ هُو، والإخبارُ بأنه عمرو خاصةً
دون غيره. وإذا قلتَ: (ما ضرَب عمرو إلاَّ زيداً)، فقدَّمتَ
المرفوعَ، كان الغرضُ بيانَ المضروبِ: مَنْ هو والإخبار بأنه
زيدٌ خاصَّةً دونَ غيرِه.
وإذْ قد عرفْتَ ذلك فاعتبرْ به الآية؛ وإذا
اعتبرْتَها بهِ، علمتَ أنَّ تقديمَ اسم الله تعالى إنما كان
لأجْلِ أنَّ الغرضَ أن يبيَّن الخاشونَ مَنْ هُمْ، ويُخْبَر
بأنهم العلماءُ خاصةً دون غيرهم؛ ولو أُخِّر ذكْرُ اسم الله،
وقُدِّم العلماءُ فقيل: (إنما يخشَى العلماءُ الله)، لصارَ
المعنى على ضدِّ ما هو عليه الآن، ولصار الغرَضُ بيانَ
المَخْشيِّ مَنْ هو والإخبارُ بأنه الله تعالى دون غيرِه، ولم
يَجِبْ حينئذٍ أن تكونَ الخَشْيَةُ مِنَ الله تعالى مقصورةً
على العلماء، وأن يكونوا مَخْصوصين بها، كما هو الغرضُ في
الآية، بل كان يكونُ المعنى أنَّ غيرَ العلماء يَخشَوْن الله
تعالى أيضاً، إلاَّ أَنَّهم مع خَشْيتهم الله تعالى، يخشَوْنَ
معه غيرَه. والعلماءُ لا يَخْشَونَ غيرَ الله تعالى. وهذا
المعنى وإنْ كان قد جاءَ في التنزيل في غيرِ هذه الآية، كقوله
تعالى: {وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله}
[الأحزاب: 39]، فليس هو الغرضَ في الآية، ولا اللفظُ بمُحْتملِ
له البتَّة. ومن أجازَ حَمْلَها عليه كان قد أبطَلَ فائدةَ
التقديمِ، وسوَّى بين قولِه تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله
مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28] وبينَ أنْ يُقالَ: (إنما
يخشَى العلماءُ الله). وإذا سوَّى بينهما لَزمَه أن يسوِّيَ
بين قولِنا: (ما ضَرَبَ زيداً إلا عمرو). وبينَ: (ما ضرَب عمرو
إلاَّ زيداً). وذلك ما لا شُبْهةَ في امتناعه.
فهذه هي المسألةُ. وإذْ قد عرفْتَها فالأمر فيها بيِّنٌ أَنَّ
الكلامَ بـ (ـما وإلاَّ) قد يكونُ في معنى الكلام بـ (إنما)؛
ألا تَرى إلى وضوح الصورة في قولك: (ما ضربَ زيداً إلا عمرو،
وما ضرب عمرو إلا زيداً)، أنه في الأول: لِبَيانِ مَن الضاربُ،
وفي الثاني: لَبيانَ منْ المضروبُ، وأنْ كان تكلُّفاً أن
تَحْمِله على نفْي الشركةِ فتريدُ: بـ (ما ضرَب زيداً إلاَّ
عمرو) أَنه لم يضرِبْهُ اثنانِ وبـ (ـما ضرَب عمرو إلاَّ
زيداً) أنه لم يَضْرِب اثنين؟
ثم اعلمْ أنَّ السببَ في أنْ لم يكنْ
تقديمُ المفعولِ في هذا كتأخيرِه، ولم يكنْ (ما ضَربَ زيداً
إلاَّ عمروٌ وما ضرَبَ عمرو إلا زيداً) سواءً في المعنى، أنَّ
الاختصاصَ يَقعُ في واحدٍ من الفاعلِ والمفعولِ، ولا يقعُ
فيهما جميعاً؛ ثم أنه يقعُ في الذي يكون بعد "إلاَّ" منهما،
دون الذي قبلَها، لاستحالةِ أن يحدُثَ معنى الحرفِ في الكلمة
قبْلَ أن يَجيء الحرفُ. وإذا كان الأمر كذلك، وجَبَ أن
يَفْترقَ الحالُ بين أَن تُقدِّم المفعولَ على (إلاَّ) فتقولَ:
(ما ضرَب زيداً إلاَّ عمرو) وبين أن تقدِّم الفاعلَ فتقولَ:
(ما ضربَ عمرو إلاَّ زيداً)؛ لأنَّا إنْ زعَمْنا أنَّ الحالَ
لا يَفترِقُ، جعَلْنا المتقدِّمَ كالمتأخِّرِ في جواز حدوثه
فيه، وذلك يقتضي المحالَ الذي هو أن يَحْدُثَ معنى (إلاَّ) في
الاسم مِنْ قَبْل أن تجيءَ بها، فاعرفْه!
وإذْ قد عَرفْتَ أنَّ الاختصاص مع (إلاَّ) يقعُ في الذي
تؤخِّرُهُ من الفاعل والمفعولِ، فكذلك يَقعُ مع (إنما) في
المؤخَّر منهما دون المقدَّمِ. فإذا قلت: (إنما ضرَب زيداً
عمرو)، كان الاختصاص في الضاربِ. وإذا قلتَ: (إنما ضربَ عمرو
زيداً)، كان الاختصاصُ في المضروب. وكما لا يَجوزُ أنْ يستويَ
الحالُ بين التقديم والتأخيرِ مع (إلاَّ) كذلك لا يجوزُ مع
(إنما). وإذا استبَنْتَ هذهِ الجملةَ عرفْتَ منها أنَّ الذي
صنعهُ الفرزدقُ في قوله:
وإنما يُدافعُ عن أَحسابهم أنا أو مِثْلي
شيءٌ لو لم يصنَعْه لم يصِحَّ له المعنى. ذاك لأنَّ غرضَه أن
يَخُصَّ المُدافِعَ، لا المدافَعَ عنه؛ وأنَّه لا يَزعمُ أنَّ
المدافعةَ منه تكونُ عن أحسابهم لا عَن أحسابِ غيرِهم، كما
يكون إذا قال: (وما أُدافِعُ إلاَّ عن أحسابهم). وليس ذلك
معناه. إنما معناه أنْ يَزعُمَ أنَّ المُدافِعَ هُوَ، لا
غيرُه، فاعرِفْ ذلك! فإنَّ الغلَطَ - كما أظَنُّ - يدْخُلُ على
كثيرٍ ممَّن تَسمعُهم يقولون: إنه فَصلَ الضميرَ للحَمْل على
المعنى فيَرى أنه لو لم يَفْصِلْه لكان يكونُ معناه مثْلَه
الآن. هذا، ولا يجوز أن يُنْسَب فيه إلى الضرورةِ فيُجْعَلَ
مثَلاً نظيرَ قول الآخر [من الهزج]:
كَأنَّا يومَ قُرَّى إنَّـ ... ـما نَقْتُل
إيَّانا
لأنه ليس به ضرورةٌ إلى ذلك، من حيث إنَّ (أدافِعُ ويُدافِعُ)
واحد في الوزن، فاعرفْ هذا أيضاً!
وجملةُ الأمر أنَّ الواجبَ، أنْ يكونَ اللفظُ على وجهٍ يَجعلُ
الاختصاصَ فيه للفرزدق، وذلك لا يكونُ إلاَّ بأنْ يُقدِّم
(الأحسابَ) على ضميرِه. وهو لو قال: وإنما أُدافِع عن
أَحسابهم)، استكنَّ ضميرُه في الفعل. فلم يتصوَّر تقديم
(الأحسابِ) عليه ولم يقع (الأحساب) إلاَّ مؤخَّراً عن ضَمير
الفرزدق. وإذا تأخرتْ انصرفَ الاختصاصُ إليها لا مَحالة.
فإنْ قلتَ: إنه كان عليه أنْ يقول "وإنما أُدافِعُ عن أحسابهم
أَنا" فيُقدِّم (الأحسابَ) على (أنا)، قيل: إنه إذا قال:
"أُدافِع": كان الفاعلُ الضميرَ المستكنَّ في الفعل، وكان
(أنا) الظاهرُ تأكيداً له، أعني لِلمستكنِّ، والحكْمُ يتعلق
بالمؤكَّد دون التأكيد، لأنَّ التأكيدَ كالتكرير، فهو يجيءُ من
بَعْد نفوذِ الحكْم ولا يكون تقديمُ الجارِّ مع المَجْرور،
الذي هو قولُه (عن أحسابهم) على الضمير الذي هو تأكيدٌ،
تقديماً له على الفاعل، لأنَّ تقديمَ المفعول على الفاعلِ إنما
يَكونُ إذا ذكرتَ المفعولَ قبل أن تذْكُر الفاعلَ؛ ولا يكونُ
لك إذا قلتَ: (وإنما أُدافعُ عن أحسابهم): سبيلٌ إلى أن
تَذْكُر المفعولَ قبل أن تذكُرَ الفاعل، لأنَّ ذكْرَ الفاعلِ
ههنا هو ذكْرُ الفعل من حيثُ إنَّ الفاعلَ مستكِنَّ في الفعل،
فكيف يُتَصوَّرُ تقديمُ شيءٍ عليه؟ فاعرفْه!
واعلمْ أَنك إنْ عمَدْت إلى الفاعل
والمفعول، فأخَّرْتَهما جميعاً إلى ما بَعْد (إلاَّ) فإنَّ
الاختصاصَ يقَعُ حينئذٍ في الذي يلي "إلا" منهما. فإذا قلتَ:
(ما ضرَبَ إلاَّ عمرو زيداً): كان الاختصاصُ في الفاعل، وكان
المعنى أنك قلت: إنَّ الضاربَ عمرو لا غيرُه؛ وإن قلْتَ: (ما
ضرب إلا زيداً عمرو)، كان الاختصاصُ في المفعول، وكان المعنى
أنك قلتَ: إن المضروبَ زيدٌ لا مَنْ سواه. وحُكْم المفعولين
حكْمُ الفاعلِ والمفعولِ فيما ذكرتُ لك. تقول: (لم يكْسُ إلاَّ
زيداً جُبَّةً). فيكونُ المعنى أنه خَصَّ زِيداً من بين الناس
بكُسوةِ الجُبَّة. فإن قلْتَ: (لم يَكْسُ إلا جبَّةً زيداً):
كان المعنى أنه خَصَّ الجبَّةَ من أصناف الكُسْوة. وكذلك
الحكُم حيثُ يكونُ بدلَ أحدِ المفعولين جارٌّ ومجرور، كقول
السيد الحميري [من السريع]:
لو خُيِّر المِنْبرُ فرْسانَه ... ما اختار إلاَّ منكُمُ
فارساً
الاختصاص في "منكم" دون "فارساً"، ولو قلتَ: (ما اختارَ إلاَّ
فارساً منكم": صار الاختصاصُ في "فارسا".
واعلم أَنَّ الأمرَ في المبتدأ والخَبر إنْ
كانا بعد "إنما" عَلَى العبرةِ التي ذكرتُ لكَ في الفاعل
والمفعول إِذا أنتَ قدَّمْتَ أَحدَهما على الآخر، معنى ذلك أنك
إنْ تركتَ الخبرَ في موضِعهِ فلَمْ تُقدِّمه على المبتدأ، كان
الاختصاصُ فيه، وإن قدَّمْتَه على المبتدأ صار الاختصاصُ الذي
كان فيه، في المبتدأ تفسيرُ هذا أَنك تقولُ: (إنما هذا لك):
فيكون الاختصاصُ في "لك" بدلالةِ أَنك تقولُ: (إنما هذا لك لا
لِغيرك): وتقول: (إنما لكَ هذا)، فيكونُ الاختصاصُ في "هذا"
بدلالةِ أنك تقول: (إنما لكَ هذا لا ذاك)، والاختصاصُ يكون
أبداً في الذي إذا جئتَ بـ (ـلا) العاطفة كان العطفُ عليه.
وإنْ أردْتَ أن يزدادَ ذلك عندَكَ وضوحاً، فانظرْ إلى قوله
تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب}
[الرعد: 40] وقوله عزَّ وعَلاَ: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين
يَسْتَأْذِنُونَكَ} [التوبة: 93] فإنَّك تَرَى الأمرَ ظاهراً
أنَّ الاختصاصَ في الآية الأولى، في المبتدأ الذي هو البلاغُ
والحسابُ دون الخبرِ الذي هو عليك وعلينا، وأنَّه في الآية
الثانيةِ في الخَبر الذي هو "عَلَى الذين" دون المبتدأ الذي هو
"السبيلُ".
واعلمْ أَنه إذا كان الكلامُ بـ (ما وإلاَّ) كان الذي ذكرتُه
مِنْ أنَّ الاختصاصَ يكونُ في الخبر إنْ لم تقدِّمْه وفي
المبتدأ إن قدَّمْتَ الخبرَ، أوضحَ وأَبْيَنَ: تقول: (ما زيدٌ
إلاَّ قائم)، فيكون المعنى أنَّكَ اختَصَصْتَ القيامَ من بينِ
الأوصافِ التي يُتوهَّم كونُ زيدٍ عليها بجَعْله صفةً له.
وتقول: (ما قائم إلا زيد)، فيكون المعنى أَنك اختصصْتَ زيداً
بكونه موصوفاً بالقايم، فقد قصَرْتَ في الأول الموصوفَ على
الصفةِ، وفي الثاني الصفةَ على الموصوفِ.
واعلمْ أَنَّ قولَنا في الخبر إذا أُخِّر
نحو "ما زيدٌ إلاَّ قائم": أَنك اختصصْتَ القيامَ من بين
الأوصاف التي يُتوهَّمُ كونُ زيدٍ عليها، ونفَيْتَ ما عدا
القيام عنه، فإنما نعني أنك نفَيْتَ عنه الأوصافَ التي تُنَافي
القيامَ نحو أنْ يكونَ جالساً أو مضطجعاً أو متكئاً أو ما
شاكَلَ ذلك، ولم نُردْ أنك نفَيْتَ ما ليس مِنَ القيامِ
بسبيلٍ؛ إذْ لسنا نَنْفي عنه بقَوْلِنا: (ما هو إلاّ قائم): أن
يكونَ أسودَ أو أبيضَ أو طويلاً أو قصيراً أو عالِماً أو
جاهِلاً. كما أنَّا إذا قلْنا: (ما قائمٌ إلاّ زيد): لم نُرِد
أنه ليس في الدنيا قائمٌ سواه، وإنما نَعْني: ما قائمٌ حيثُ
نحن وَبِحَضْرَتِنا، وما أشبَهَ ذلك.
واعلمْ أنَّ الأمرَ بيِّنٌ في قولنا: (ما
زيدٌ إلاَّ قائم)، أنْ ليس المعنى على نفْي الشركةِ، ولكنْ على
نفْي أنْ لا يكونَ المذكورُ، ويكونَ بدَلَهُ شيءٌ آخر. أَلا
ترى أنْ ليس المعنى أنه ليس له مع القيام صفةٌ أخرى، بل المعنى
أَنْ ليس له بدَلَ القيام صفةٌ ليستْ بالقيام، وأن ليس القيامُ
منفياً عنه وكائناً مكانه فيه القعودُ أو الاضطجاعُ أو
نحوُهما. فإن قلت: فَصُورَةُ المعنى إذن صُورَتُه، إذا وضعتَ
الكلامَ بـ (إنما) فقلت: (إنما هو قائم)، ونحنُ نَرى أنه يجوز
في هذا أن تَعْطِفَ بـ (لا) فتقول: (إنما هو قائم لا قاعدٌ)،
ولا نرى ذلك جائزاً مع (ما وإلاَّ) إذْ ليس من كلام الناس أَن
يقولوا: (ما زيدٌ إلاّ قائم لا قاعد)؛ فإنَّ ذلك إنما لم
يَجُزْ مِن حيثُ إنَّكَ إذا قلتَ: (ما زيدٌ إلا قائم)، فقد
نفيتَ عنه كلَّ صفةٍ تُنَافي القيامَ، وصرتَ كأنك قلتَ: "ليس
هو بقاعدٍ ولا مضطجِعٍ ولا متكئٍ". وهكذا حتى لا تدَعَ صفةً
يخرجُ بها من القيام. فإذا قلتَ مِن بَعْد ذلك "لا قاعد" كنتَ
قد نفيْت بـ (لا) العاطفةِ شيئاً قد بدأْتَ فنفَيْتَه، وهي
موضوعة لأن تنفيَ بها ما بدأْتَ فأَوجبْتَه، لا لأَن تُفيدَ
بها النفيَ في شيءٍ قد نَفيتَه. ومن ثَمَّ لم يَجُزْ أنْ تقول:
(ما جاءني أحدٌ لا زيد) على أن تعْمَد إلى بعض ما دَخل في
النفي بعموم (أحد) فتنفيَه على الخُصوص، بل كان الواجِبُ إذا
أردتَ ذلك، أنْ تقول: (ما جاءني أحد ولا زيدٌ)، فتجيء بـ
(الواو) مِن قَبْل (لا) حتى تَخْرجَ بذلك عن أن تكونَ عاطفةً،
فاعرفْ ذلك!
وإذْ قد عرفْتَ فسادَ أن تقول: (ما زيدٌ
إلاَّ قائمٌ لا قاعد): فإنك تَعْرِفُ بذلك امتناعَ أن تقول: ما
جاءني إلا زيدٌ لا عمرو)، و (ما ضربتُ إلا زيداً لا عمراً) وما
شاكَلَ ذلك. وذلك أَنك إذا قلْتَ: (ما جاءني إلاَّ زيدٌ): فقد
نفَيْتَ أن يكون قد جاءك أَحدٌ غيرُه. فإذا قلت: لا عمرو: كنتَ
قد طلبتَ أن تنفي بـ (لا) العاطفةِ شيئاً قد تقدَّمْتَ
فنفيتَه؛ وذلك - كما عرَّفْتُكَ - خروجٌ بها عن المعنى الذي
وُضِعَتْ له، إلى خلافه. فإن قيل: فإنك إذا قلتَ (إنما جاءني
زيد): فقد نفَيْتَ فيه أيضاً أن يكون المجيءُ قد كان من غيره.
فكان ينبغي أن لا يجوز فيه أيضاً أن تعطف بـ (لا) فتقول: (إنما
جاءني زيد لا عمرو). قيل: إنَّ الذي قلْتَه من أنك إذا قلتَ
"إنما جاءني زيد" فقد نَفيْتَ فيه أيضاً المجيءَ عن غيره، غيرُ
مُسلَّمٍ لك على حقيقته؛ وذلك أنه ليس معكَ إلاَّ قولُكَ:
(جاءني زيد). وهو كلام كما تَراه مُثْبَتٌ ليس فيه نَفْيٌ
البتةَ، كما كان في قولك: (ما جاءني إلاَّ زيد) وإنما فيه أنك
وضعْتَ يدَك عَلَى (زيد) فجعلته الجائي، وذلك وإن أوجبَ
انتفاءَ المجيء عن غيرِه، فليس يُوجِبُه مِن أجْل أن كان ذلك
إعمالَ نفْي في شيءٍ، وإنما أوجبَه من حيثُ كان المجيءُ الذي
أخبرْتَ بهِ مجيئاً مخصوصاً، إذا كان لزيد لم يكن لغيره، والذي
أَبَيْناهُ أن تنفيَ بـ (لا) العاطفةِ الفعلَ عن شيءٍ وقد
نفَيْتَه عنه لفظاً.
النفي والإثبات بـ "ما" و "غير"
ونظيرُ هذا أنَّا نعْقِل من قولنا: (زيدٌ هو الجائي)، أنَّ هذا
المجيءَ لم يَكنْ مِن غيرهِ، ثم لا يمنع ذلك مِن أن تجيءَ فيه
بـ (لا) العاطفة فتقولَ: (زيدٌ هو الجائي لا عمرو). لأنَّا لم
نَعْقِل ما عقَلْنا من انتفاءِ المجيء عن غيرِه بنَفْي
أوقعناهُ على شيءٍ، ولكنْ بأنه لما كان المجيءُ المقصودُ
مجيئاً واحداً، كان النصُّ على زيدٍ بأَنه فاعلُه وإثباتُه له،
نَفْياً له عن غيره، ولكنْ مِن طريقِ المعقولِ لا من طريقِ
أَنْ كان في الكلام نَفيٌ كما كان ثَمَّ، فاعرفْه!
فإن قيل: فإنك إذا قلتَ: (ما جاءني إلا
زيدٌ)، ولم يكن غرَضُك أن تنفيَ أَنْ يكونَ قد جاء معهُ واحدٌ
آخرُ، كان المجيءُ أيضاً مجيئاً واحداً، قيل إنه وإنْ كان
واحداً فإنَّك إنما بَيَّنْتَ أنَّ زيداً الفاعلُ له بأنْ
نَفَيْتَ المجيءَ عن كلِّ مَنْ سِوى زيدٍ، كما تصنعُ إذا أردتَ
أن تنفيَ أن يكون قد جاء معه جاءٍ آخرُ. وإذا كان كذلك، كان ما
قلناه مِن أَنك إنْ جئتَ بـ (لا) العاطفة فقلتَ: (ما جاءني
إلاَّ زيدٌ لا عمرو)، كنتَ قد نفَيْتَ الفعلَ عن شيء قد
نَفيتَه عنه مرةً، صحيحاً ثابتاً كما قلْنا فاعرفْه!
واعلمْ أنَّ حكْم (غير) في جميع ما ذكرْنا حُكْمُ (إلاَّ).
فإذا قلتَ: (ما جاءني غيرُ زيد)، احتملَ أنْ تريدَ نفيَ أنْ
يكونَ قد جاء معه إنسانٌ آخرُ، وأنْ تُريدَ نفيَ أنْ لا يكونَ
قد جاء، وجاءَ مكانَه واحدٌ آخر ولا يصحُّ أن تقول: ما جاءني
غيرُ زيدٍ لا عمروٌ. كما لم يَجُزْ: ما جاءني إلا زيدٌ لا
عمرو.
فصل: في نكة تتصل
بالكلام الذي تضعه "ما" و "إلا"
إعلمْ أنَّ الذي ذكَرْناه من أنَّك تقولُ: (ما ضرَبَ إلا عمروٌ
زيداً)، فتُوقِعُ الفاعلَ والمفعولَ جميعاً بعْد (إلا) ليس
بأكثر الكلام، وإنما الأكثرُ أنْ تُقدِّم المفعولَ على (إلا)
نحو: (ما ضرَبَ زيداً إلاَّ عمرو). حتى إنَّهم ذهَبوا فيه،
أعني في قولك: (ما ضرَبَ إلاّ عمرو زيداً)، إلى أنه على
كلامَيْن، وأنَّ زيداً منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ، حتى كأن المتكلِّم
بذلكَ أَبْهَمَ في أول أمرِهِ فقال: (ما ضرَبَ إلاَّ عمروٌ) ثم
قيل له: (مَنْ ضَرَبَ؟) فقال: (ضرَبَ زيداً).
وههنا - إذا تأملْتَ - معنىً لطيفٌ يُوجِبُ ذلك؛ وهو أَنَّك
إذا قلتَ: (ما ضَرَبَ زيداً إلا عمرو)، كان غرضُك أن تَخْتصَّ
عَمْراً بـ (ـضَرَبَ زيدٌ) لا بالضَّربِ على الإطلاق. وإذا كان
كذلك وجَبَ أَن تُعَدِّيَ الفعلَ إلى المفعولِ مِن قَبْل أنْ
تذكُر عَمراً الذي هو الفاعلُ، لأن السامعَ لا يَعْقِلُ عنك
أَنَّكَ اختصصْتَه بالفعل معدًّى حتى تكون قد بدأت فعدَّيْتَه؛
أعني لا يَفهم عنكَ أنك أردتَ أَنْ تختصَّ عَمراً بِضربِ زيدٍ
حتى تذْكُرَ له معدًّى إلى زيد. فأمَّا إذا ذكَرْتَه غيرَ
معدًّى فقلتَ: (ما ضَرَبَ إلا عمروٌ)، فإنَّ الذي يَقعُ في
نفسِه أنَّك أردتَ أنْ تزعُمَ أنه لم يكن مِن أحدٍ غيرِ عمروٍ
وضَرْبٌ، وأنه ليس ههنا مضْروبٌ إلاَّ وضارِبُه عمرو. فاعرفْه
أصْلاً في شأنَ التقديمِ والتأخيرِ.
فصل: عودٌ على مباحث "إنما"
إنْ قيل: مَضيْتَ في كلامك كلِّه على أنَّ "إنما" للخبر لا
يجهلُه المخاطَبُ، ولا يكونُ ذكْرُك له لأن تُفيدَه إياهُ،
وإنَّا لنراها في كثيرٍ من الكلام والقصد بالخبر بعْدَها أن
تُعْلم السامعَ أمراً قد غلِطَ فيه بالحقيقة، واحتاج إلى
معرفته، كمِثْلِ ما ذكرتَ في أول الفصل الثاني من قولك: (إنما
جاءني زيدٌ لا عمروٌ). وتراها كذلك تَدورُ في الكتب للكَشْف عن
معانٍ غيرِ معلومةٍ ودلالةِ المتعلِّمِ منها عَلَى ما لا
يَعْلم. قيل: أمَّا ما يجيءُ من الكلام مِنْ نحْوِ: (إنما جاء
زيدٌ لا عمرو)، فإنه وإنْ كان يكونُ إعلاماً لأمرٍ لا يَعْلمهُ
السامعُ، فإنه لا بدَّ معَ ذلك، مِنْ أنْ يُدَّعى هناك فضْلُ
انكشافٍ وظهورٍ في أنَّ الأمَر كالذي ذكَرَ. وقد قسمتُ في أولِ
ما افتتحتُ القولَ فيها، فقلتُ إِنها تجيءُ للخبر لا يَجهلُه
السامعُ ولا يُنْكِر صحَّتَه، أوْ لما تَنَزَّلَ هذه المنزلةَ.
وأمَّا ما ذكرتُ مِنْ أَنَّها تَجيء في الكتبِ لدلالةِ
المتعلِّم على ما لم يَعلمْه، فإنَّك إذا تأملْتَ مواقعَها
وجدْتَها في الأمر الأَكْثرِ، قد جاءتْ لأمرٍ قد وقَعَ العلمُ
بموجبِه وشيءٍ يَدلُّ عليه. مثالُ ذلك أنَّ صاحب "الكتاب" قال،
في باب كان: "إذا قلتَ: كان زيدٌ، فقد ابتدأَتَ بما هو معروفٌ
عندَه مِثْلَه عندَكَ، وإنما يَنتظرُ الخَبَر. فإذا قلتَ:
(حليماً)، فقد أَعْلمتَه ما علِمْتَ. وإذا قلتَ: (كان حليماً)،
فإنما يَنتظِرُ أنْ تعرِّفَه صاحِبَ الصفة". وذاكَ أنه إِذا
كان معْلوماً أنه لا يكونُ مبتدأٌ من غير خبرٍ، ولا خَبرٌ مِن
غيرِ مبتدإٍ، كان معلوماً أنك إذا قلتَ: (كان زيدٌ):
فالمخاطَبُ يَنتظِرُ الخبرَ؛ وإذا قلتَ: (كان حليماً) أنه
يَنتظِرُ الاسْمَ، فلم يقع إذن بعْد "إنما" إلاَّ شيءٌ كان
معلوماً للسامع مِن قَبْل أنْ ينتهيَ إليه.
وممَّا الأمرُ فيه بيِّنٌ، قولُه في باب
"ظننْتُ": وإنما تَحْكي بعْد "قلتُ" ما كان كلاماً، لا قولا.
وذلك أنَّه معلومٌ أنكَ لا تحكي بعد "قلتُ" إذا كنتَ تَنْحوِ
نحْوَ المعنى، إلاَّ ما كان جملةً مفيدةً. فلا تقولُ: قال
فلان: "زيدٌ"، وتَسْكتُ. أَللهمَّ إلاَّ أنْ تُريدَ أَنَّه
نطَقَ بالاسمِ على هذه الهيئةِ، كأنَّكَ تُريد أَنه ذكَرَهُ
مرفوعاً. ومثلُ ذلك قولُهم: إنما يحذف الشيءُ إذا كان في
الكلام دليلٌ عليه. إلى أشباه ذلك مما لا يُحصى. فإن رأيتَها
قد دخلتْ على كلامٍ هو ابتداءُ إعلامٍ بشيءٍ لم يَعلَمْهُ
السامعُ، فلأَن الدليلَ عليه حاضِرٌ معه والشيءَ بحيثُ يَقعُ
العِلمُ به عن كَثَبٍ. واعلمْ أنه ليس يكادُ يَنتهي ما يُعَرض
بسبب هذا الحرفِ من الدقائِق.
ومما يَجبُ أن يُعْلَم أنه، إذا كان الفعلُ بَعْدها فعلاً لا
يصِحُّ إلاَّ مِن المذكورِ ولا يكونُ مِنْ غيره كالتذكُّر الذي
يُعْلَم أنه لا يكونُ إلا مِن أُولي الألبابِ، لم يَحْسن
العطفُ بـ (لا) فيه، كما يَحْسنُ فيما لا يُختصُّ بالمذكور،
ويَصحُّ مِن غَيره. تفسيرُ هذا أنه لا يَحْسنُ أن تقولَ: (إنما
يتذكَّرُ أُولو الألبابِ لا الجهالُ). كما يَحْسن أن تقول:
(إنما يجيء زيدٌ لا عمروٌ). ثُمَّ إنَّ النفيَ فيما يجيء فيه
النفيُ، يتقدَّم تارةً وَيتأخَّرُ أخرى. فمثالُ التأخير ما
تَراه في قولك: (إنما يجيءُ زيدٌ لا عمرو). وكقَولِهِ تعالى:
{إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}
[الغاشية: 21ـ22] وكقول لبيد [من الرمل]:
إنما يَجْزي الفتى ليس الجَمَلْ
ومثالُ التقديم قولُك: (ما جاءني زيد وإنما جاءني عمرو). وهذا
مما أنتَ تعلم به مكانَ الفائدة فيها، وذلكَ أنك تَعَلمُ
ضرورةَ أَنَّك لو لم تُدْخِلْها وقلتَ: (ما جاءني زيدٌ وجاءني
عمرو)، لكان الكلامُ مع مَنْ ظنَّ أنهما جاآك جميعاً، وأنَّ
المعنى الآن مع دخولها، أَنَّ الكلامَ مع مَن غَلِطَ في عين
الجائي فظنَّ أنه كان زيداً لا عَمراً.
وأمرٌ آخرُ وهو ليس ببعيد، أنْ يَظُنَّ
الظَّانُّ أنه ليس في انضمام "ما" إلى "إنَّ" فائدةٌ أكثرُ
مِنْ تُبْطِل عملَها حتى تَرى النحويِّينَ لا يَزيدون في أكثر
كلامهم على أنها كافَّة. ومكانُها ههنا يُزيل هذا الظنَّ
ويُبْطِلُه، وذلك أنك تَرى أنك لو قلتَ: (ما جاءني زيدٌ وإنَّ
عَمْراً جاءني)، لم يُعْقَل منه أنك أردتَ أنَّ الجائي عمروٌ
لا زيدٌ، بل يكونُ دخول (إنَّ) كالشيء الذي لا يُحتاجُ إليه
ووجدتَ المعنى يَنْبو عنه.
ثم اعلمْ أَنك إذا استقريْتَ، وجدْتَها أقوى ما تكونُ وأعْلَقَ
ما ترى بالقلب، إذا كان لا يُراد بالكلام بعدَها نفْسُ معناه،
ولكنَّ التعريضَ بأمرٍ هو مُقْتضاه، نحو أنَّا نعلم أَنْ ليس
الغَرضُ مِن قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ
الألباب} [الرعد: 19] أنْ يَعلَم السامعون ظاهرَ معناه، ولكنْ
أن يُذَمَّ الكفَّارُ وأن يُقالَ إنهم مِنْ فرط العِنادِ ومِنْ
غلبةِ الهوى عليهم، في حُكْم مَنْ ليس بذي عقْلٍ، وإنكم إنْ
طمِعْتُم منهم في أنْ يَنْظروا ويَتذكَّروا، كنتُم كمَنْ طمِعَ
في ذلك مِنْ غير (أُولي الألباب). وكذلك قولُه: {إِنَّمَآ
أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45]. وقولُه عَزَّ
اسْمُه: {إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب}
[فاطر: 18]. المعنى على أنَّ مَن لم تكن له هذه الخَشْيةُ، فهو
كأنهُ ليس له أُذُنٌ تَسمَعُ وقلْبٌ يَعْقِلُ. فالإنذارُ معه
كَلاَ إنذارٍ. ومثال ذلك من الشعر قوله [من المديد]:
أَنا لم أُرْزَقْ محبَّتَها ... إنما لِلْعبدِ ما رُزقا
الغرضُ أن يُفْهِمَك مِن طريقِ التعريضِ، أنه قد صار يَنْصَحُ
نفسَه ويَعلَمُ أنه يَنْبغي له أن يقْطَع الطمَعَ من وصلها،
ويَيْأَسَ من أن يكونَ منها إسعافٌ. ومن ذلك قوله [من البسيط]:
وإنما يَعْذِرُ العشَّاقَ مَنْ عَشِقا
يقولُ إنه ليس ينبغي للعاشقِ أن يلومَ من يَلُومُهُ في عِشْقه،
وأنه ينبغي أنْ لا يُنْكَر ذلك منه، فإنه لا يعلم كنْهَ
البلوَى في العشق. ولو كان ابْتُليَ به لعرَفَ ما هو فيه،
فَعَذَرَه. وقوله [من الكامل]:
ما أنتَ بالسَّبَبِ الضعيفِ وإنَّما ... نُجْحُ الأُمورِ
بقوَّةِ الأَسْبابِ
فاليوم حاجتُنا إليكَ وإِنما ... يُدْعى
الطبيبُ لساعةِ الأوَصابِ
يقول في البيت الأول: إنه ينبغي أن أَنجحَ في أمري حين
جعلْتُكَ السببَ إِليه. ويقولُ في الثاني: إنَّا قد وضَعْنا
الشيءَ في موضعه، وطلَبْنا الأمرَ من جهته حين استعنَّا بك
فيما عَرضَ من الحاجةِ وعوَّلْنا على فضْلِكَ. كما أَنَّ من
عوَّل عَلَى الطبيبِ فيما يَعْرِضُ له من السُّقْم، كان قد
أصابَ بالتعويلِ مَوْضِعَه وطلَبَ الشيءَ مِنْ معدنِه.
ثم إنَّ العجَبَ في أنَّ التعريضَ الذي ذكرتُ لكَ، لا يَحصُلُ
من دون "إنما" فلو قلتَ: (يتذكَّرُ أُولو الألباب) لم يَدُلَّ
على ما دَلَّ عليه في الآية، وإنْ كان الكلامُ لم يتغيرْ في
نفسه، وليس إلاَّ أنه ليس فيه "إنما". والسببُ في ذلك، أنَّ
هذا التعريضَ إنما وقعَ بأنْ كان مِنْ شأنِ (إنما) أنْ
تُضَمِّنَ الكلامَ معنى النفْي مِنْ بَعْد الإثباتِ والتصريح،
بامتناع التذكُّر ممَّن لا يَعْقِل. وإذا أُسِقطتْ من الكلام
فقيلَ: (يتذكَّرُ أولو الألباب)، كان مجرَّدَ وصفٍ لأُولي
الألبابِ بأنهم يتذكَّرونَ، ولم يكن فيه معنى نفْي للتذكُّر
عمَّنْ ليس منهم. ومُحالٌ أن يقَعَ تعريضٌ لشيءٍ ليس له في
الكلام ذِكْرٌ ولا فيه دليلٌ عليه. فالتعريضُ بمثل هذا، أعني
بأن يقولَ: (يتذكَّر أولو الألباب) بإسقاط "إنما"، يقع إذنْ،
إنْ وَقَعَ، بمَدْح إنسانٍ بالتيقظ، وبأنه فعلَ ما فعلَ
وتنبَّه لِمَا تنبَّه له، لعَقْله ولِحُسْن تمييزه، كما يقال:
كذلكَ يَفعلُ العاقلُ وهكذا يَفعلُ الكريمُ. وهذا موضعٌ فيه
دقةً وغموضٌ، وهو ممَّا لا يكاد يقَعُ في نفسِ أحدٍ أنه ينبغي
أنْ يَتعرَّفَ سبَبَه ويَبْحثَ عن حقيقة الأمرِ فيه.
وممَّا يجبُ لك أن تَجعلَه على ذكْرٍ منكَ مِنْ معاني "إنما"
ما عرَّفْتُكَ أولاً مِنْ أنها قد تَدْخُلُ في الشيء على أنْ
يُخَيِّلَ فيه المتكلمُ أَنه معلومٌ ويدَّعي أَنَّه مِن
الصحَّة بحيثُ لا يَدْفَعُهُ دافعٌ، كقوله:
إنما مُصْعَبٌ شِهابٌ مِن الله
ومن اللطيف في ذلك قول قس بن حِصْن [من الطويل]:
ألاَ أيُّها الناهي فَزارَةَ بعْدَما ... أَجَدَّتْ لغزوٍ،
إنما أنتَ حالِمُ
ومن ذلك قولُه (تعالى) حكايةً عن اليهود {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ
لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}
[البقرة: 11]، دخلتْ (إنما) لِتَدُلَّ على أَنهم حين ادَّعَوْا
لأنفسهم أنَّهمْ مُصْلِحون، أظهروا أنهم يدَّعون مِن ذلك أمراً
ظاهراً معلوماً. ولذلك أكَّد الأمرَ في تكذيبهم والردِّ عليهم،
فجمع بين "أَلاَ" الذي هو للتنبيه وبين "إنَّ" الذي هو
للتأكيد، فقيل: {ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولاكن لاَّ
يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12].
فصل: فصل من باب
اللفظ والنظم في الحكاية
إعْلم أَنه لا يصْلُح تقديرُ الحكايةِ في النظم والترتيب. بل
لن تعدُوَ الحكايةُ الألفاظَ وأجراس الحروفِ. وذلك أنَّ الحاكي
هو مَنْ يأتي بمثْلِ ما أتى به المْحكيُّ عنهُ؛ ولا بد من أن
تكون حكايتُه فعلاً له، وأَنْ يكون بها عاملاً عمَلاً مثل عملِ
المحكيِّ عنهُ، نحو أَن يصوغَ إنسانٌ خاتماً، فيُبْدعَ فيه
صنْعةً ويأتيَ في صناعته بخاصَّة تُسْتَغْربُ، فيعمدَ واحدٌ
آخرُ فيَعْمَلَ خاتماً على تلك الصورة والهيئة، ويجيءَ بمِثْلِ
صنْعَتهِ فيه ويؤديها كما هي، فيقال عند ذلك: إنه قد حكى عملَ
فلانٍ وصنعةَ فلانٍ. والنظْمُ والترتيبُ في الكلامِ، كما
بيَّنَّا، عَملٌ يَعْمَلُه مؤلفُ الكلامِ في معاني الكَلِم لا
في ألفاظها، وهو بما يَصْنعُ، في سبيل مَنْ يأخذُ الأصباغَ
المختلفةَ فيتوخَّى فيها ترتيباً يَحْدثُ عنه ضروبٌ من النفشِ
والوَشْي. وإذا كان الأمرُ كذلك فإنَّا، إنْ تعدَّينا
بالحكايةِ الألفاظَ إلى النظمْ والترتيبِ، أدَّى ذلك إلى
المُحال، وهو أنْ يكونَ المُنْشِدُ شعرَ أمرئ القيس قد عَمِلَ
في المعاني وترتيبها واستخراج النتائجِ والفوائدِ، مثْلَ عملِ
امرئ القيس، وأنْ يكونَ حالُه، إذا أَنشدَ قولَه [من الطويل]:
فقلتُ لهُ لمَّا تَمطَّى بِصُلْبِهِ ... وأَرْدَفَ أعجازاً
وناءَ بِكَلْكَلِ
حالَ الصائغِ يَنْظُر إلى صورةٍ قد عَمِلها
صائغٌ مِنْ ذهبٍ لهُ أو فضةٍ، فيجيء بمثْلِها من ذهبهِ
وفضَّتهِ، وذلك يخْرجُ بمُرتكِبٍ إنْ ارْتَكَبَه، إلى أنْ يكون
الراوي مستحقاً لأنْ يُوصَفَ بأنه استعار وشبَّهَ وأن يُجْعَل
كالشاعر في كل ما يكون به ناظماً، فيُقال: إنه جعَلَ هذا
فاعلاً وذاك مفعولاً، وهذا مبتدأ وذاك خبراً، وجعل هذا حالاً
وذاك صفةً؛ وأنْ يُقالَ نَفَى كذا وأثْبَتَ كذا، وأَبْدَلَ
كَذا مِنْ كذا، وأضافَ كذا إلى كذا - وعلى هذا السبيلِ، كما
يقال ذاك في الشاعر. وإذا قيل ذاكَ، لَزِمَ منه أنْ يُقال فيه:
صدَقَ وكَذَبَ كما يقال في المحْكيِّ عنه وكفى بهذا بُعْداً
وإحالةً. ويجمعُ هذا كلُّه أنه يَلزَمُ منه أن يقال إنه قال
شعراً، كما يقال فيمَنْ حكَى صنعةَ الصانعِ مِن خاتَمٍ قد
عَمِلَه. إنه قد صاغ خاتماً.
وجملةُ الحديثِ، أنَّا نَعْلَمُ ضرورةً أنه لا يتأتَّى لنا أن
ننْظِمَ كلاماً من غير رَويَّةٍ وفكْرٍ، فإن كان راوي الشعرِ
ومُنْشِدُه يَحْكي نَظْم الشاعرِ على حقيقته، فَيْنبغي أنْ لا
يتأتَّى له روايةُ شعرِهِ إلا برويَّةٍ وإلاَّ بأنْ يَنْظُرَ
في جميع ما نَظَرَ فيه الشاعرُ مِنْ أمر النظْم، وهذا ما لا
يَبقى معه موضعُ عذرٍ للشَّاكِّ.
هذا، وسبَبُ دخولِ الشُّبهةِ على ما
دَخَلَتْ عليه أنه، لمَّا رأى المعانيَ لا تَتَجلَّى للسامع
إلاَّ من الألفاظِ، وكان لا يوقَفُ على الأمور التي،
بِتَوخِّيها، يكونُ النظْمُ، إلاَّ بأنْ يَنْظُر إلى الألفاظ
مرتَّبةً على الأنحاء التي يُوجبُها ترتيبُ المعاني في النفس؛
وجرتِ العادةُ بأن تكون المعاملةُ مع الألفاظِ فيقالُ: قد
نَظَم ألفاظاً فأحْسَنَ نظْمَها، وألَّفَ كَلِماً، فأجادَ
تأليفَها - جعل الألفاظ الأصل في النظم، وجعله يُتوخَّى فيها
أنفُسُها، وتَركَ أنْ يُفكَّر في الذي بيَّنَّاهُ، من أنَّ
النظْمَ هو توخي معاني النحوِ في معاني الكلم وأنَّ توخِّيها
في متون الألفاظ مُحال. فلما جعلَ هذا في نفسه ونشِبَ هذا
الاعتقادُ به، خَرَجَ له من ذلك، أنَّ الحاكي إذا أدَّى ألفاظَ
الشعرِ على النسق الذي سَمِعَها عليه، كان قد حكَى نظْمَ
الشاعرِ كما حكَى لفظَه؛ وهذه شُبْهةٌ قد مَلَكَتْ قلوبَ
الناس، وعشَّشَتْ في صدورهم، وتَشَرَّبَتْها نفوسُهم، حتى إنك
لَتَرى كثيراً منهم، وهي مِنْ حُلُولها عندَهم محلَّ العلمِ
الضروري، بحيث إنْ أو مأْتَ له إلى شيء مما ذَكَرْناه أشمازَّ
لك، وسَكَّ سَمْعَهُ دَونك، وأظهرَ التعجُّبَ منك، وتلك جريرة
تَرْكِ النظرِ، وأخْذِ الشيءِ من غير مَعْدِنه، ومِنَ الله
التوفيقُ.
فصل: فصل من باب
اللفظ والنظم في إضافة القول إلى قائله
إعْلَمْ أنَّا إذا أضفْنَا الشعرَ أو غيرَ الشعرِ، من ضروب
الكلام، إلى قائلِهِ لم تكنْ إضافتُنا له من حيثُ هو كَلِمٌ
وأوضاعُ لغةٍ، ولكنْ من حيثُ تُوُخِّيَ فيها النظمُ الذي
بيَّنا أنه عبارةٌ عن تَوخِّي معاني النحوِ في معاني الكلِم؛
وذاك أنَّ مِنْ شأنِ الإضافةِ الاختصاصَ. فهي تتناول الشيءَ من
الجهةِ التي تُختصُّ منها بالمضافِ إليه. فإذا قلتَ: (غلامُ
زيدٍ). تناولتِ الإضافةُ الغلامَ من الجهة التي يُختصُّ منها
بزيدٍ، وهو كونُه مملوكاً. وإذا كان الأمرُ كذلك، فينبغي لنا
أن نَنْظرَ في الجهة التي يختصُّ منها الشعرُ بقائلهِ، وإذا
نَظَرْنا، وجَدْناه يختصُّ به من جهة تَوخِّيه في معاني
الكَلمِ التي ألَّفه منها ما توخَّاه من معاني النحو، ورأيْنا
أنفُسَ الكلمِ بمعزَلٍ عن الاختصاص، ورأيْنا حالَها معه حالَ
الإبريسَم مع الذي يَنسِجُ منه الديَباجَ، وحال الفضةِ والذهب
معَ مَنْ يصوغُ منهما الحُليَّ. فكما لا يشْتبِهُ الأمرُ في
أنَّ الديباجَ لا يُخْتَصُّ بناسجهِ من حيثُ الإبريسم،
والحليَّ بصائِغها من حيثُ الفضةُ والذهبُ، ولكنْ من جهة
العمَل والصَّنْعة، كذلك يَنْبغي أنْ لا يَشْتَبِهَ أنَّ
الشعرَ لا يُختصُّ بقائله من جهةِ أنْفسِ الكَلِم وأوضاع
اللغة. ويزدادُ تبيُّناً لذلك بأن يُنظر في القائل إذا أضفْتَه
إلى الشعر فقلت: امرؤُ القيس قائلُ هذا الشعر. مِنْ أينَ
جعلْتَه قائلاً له؟ أمِنْ حيثُ نَطَق بالكَلِم، وسمعْتَ
ألفاظَها مِن فيهِ، أمْ من حيثُ صنَعَ في معانيها ما صنَعَ،
وتوخَّى فيها ما توخَّى؟ فإنْ زعمتَ أنكَ جعلْتَه قائلاً له من
حيثُ إنه نَطَقَ بالكَلِم وسمعْتَ ألفاظَها مِنْ فيهِ على
النسق المخصوص، فاجعلْ راويَ الشعرِ قائلاً له فإنه يَنطِقُ
بها ويُخْرِجُها مِنْ فيه على الهيئة والصورة التي نطقَ بها
الشاعرُ؛ وذلك ما لا سبيلَ لك إليه. فإن قلتَ: إنَّ الراويَ
وإنْ كان قد نطقَ بألفاظِ الشعرِ، على الهيئةِ والصورةِ التي
نطق بها الشاعرُ فإنَّه هو لم يبتدئْ فيها النَّسَقَ
والترتيبَ، وإنما ذلك شيءٌ ابتدأَهُ الشاعرُ.
فلذلك جعلْتَه القائلَ له دون الراوي: قيل
لكَ: خَبِّرْنا عنك، أترى أنه يُتصوَّرُ أن يجبَ في ألفاظ
الكَلمِ التي تَراها في قوله [من الطويل]:
قِفا نَبْك مِنْ ذكرى حَبيبٍ ومَنْزِل
هذا الترتيبُ من غيرِ أنْ يتوخَّى في معانيها ما تَعْلم أنَّ
امرأ القيس توخَّاه مِنْ كون "نَبْكِ" جواباً للأمرِ وكونِ
"مِنْ" مُعدِّيةً له إلى "ذكرى" وكونِ "ذكرى" مضافةً إلى
"حبيبٍ" وكونِ "منزلِ" معطوفاً على "حبيبٍ"، أم ذلك محالٌ؟ فإن
شكَكْتَ في استحالتِه لم تُكلَّم. وإن قلتَ: نعَمْ هو محالٌ،
قيل لك: فإذا كان مُحالاً أن يَجِبَ في الألفاظ ترتِيبٌ مِنْ
غيرِ أنْ يتوخَّى في معانيها معانيَ النحو، كان قولُكَ "إنْ
الشاعرَ ابتدأ فيها ترتيباً" قولاً بما لا يتَحَصَّلُ.
وجملةُ الأمرِ أنَّه لا يكونُ ترتيبٌ في شيء حتى يكونَ هناكَ
قصْدٌ إلى صورةٍ وصنْعةٍ إنْ لم يُقدَّم فيه ما قُدِّم ولم
يُؤخَّر ما أُخِّر، وبُدئَ بالذي ثُنيَ به أو ثني بالذي ثُلِّث
به، لم تَحْصُل لك تلك الصورةُ وتلك الصنعةُ. وإذا كان كذلك،
فينبغي أن يُنْظَر إلى الذي يَقْصِدُ واضعُ الكلامِ أنْ يحصُلَ
له من الصورةِ والصَّنعةِ: أفي الألفاظِ يَحصُلُ له ذلكَ أَم
من معاني الألفاظِ؟ وليس في الإمكان أنْ يَشُكَّ عاقلٌ إذا نظر
أنْ ليس ذلك في الألفاظ، وإنما الذي يُتصوَّرُ أنْ يكونَ
مقصوداً في الألفاظ، هو الوزنُ وليس هو مِنْ كلامِنا في شيءٍ،
لأنَّا نحنُ فيما لا يكونُ الكلامُ كلاماً إلاَّ به، وليس
لِلْوزنِ مدْخَلٌ في ذلك.
فصل: فصل من باب
اللفظ والنظم في فساد ملكة الفهم بالتقليد
واعلمْ أني على طُولِ ما أعَدْتُ وأَبْدَأْتُ، وقلتُ وشرحتُ في
هذا الذي قام في أوهام الناس مِنْ حديث اللفظِ، لربما ظننْتَ
أني لم أصْنَع شيئاً. وذاك أنكَ ترى الناسَ كأنه قد قُضِيَ
عليهم أنْ يكونوا في هذا الذي نحنُ بصَدَدِه على التقليدِ
البحْت وعلى التوهُّم والتخيُّلِ. وإطلاقُ اللفظِ منْ غير
معرفةٍ بالمعنى، قد صار ذاكَ الدأبَ، والدَّيْدَنَ، واستحْكَمَ
الداءُ منهُ الاستحكامَ الشديدَ. وهذا الذي بيِّناه وأوْضحْناه
كأنك ترى أبداً حِجاباً بَيْنَهم وبينَ أنْ يَعرفوه، وكأنكَ
تُسْمِعُهم منه شيئاً تَلْفِظُه أسماعُهُمْ، وتُنْكِرُه
نُفُوسُهم؛ وحتى كأنه كلَّما كان الأمرُ أَبْيَنَ كانوا عن
العلم به أبْعَدَ، وفي توَهُّمِ خلافِهِ أقْعَدَ؛ وذاكَ لأنَّ
الاعتقادُ الأوَّل قد نَشِبَ في قلوبهم وتأشَّب فيها، ودخل
بعُروقِهِ في نواحيها، وصار كالنباتِ السُّوءِ الذي كلَّما
قلعْتَه عاد فنبَتَ.
والذي له صاروا كذلك، أنهم حين رأوْهُمُ
يُفْرِدون اللفظَ عن المعنى، ويَجْعلون له حُسْناً على حدة،
ورأوْهم قد قَسَموا الشِّعرَ فقالوا إنَّ منه ما حَسُنَ لفظُه
ومعناه، ومنه ما حَسُن لفظُه دونَ معناهُ، ومنه ما حَسُن
معناهُ دونَ لفظِه؛ ورأوهم يَصِفون اللفظَ بأوصافٍ لا يَصِفونَ
بها المعنى، ظَنُّوا أنَّ اللَّفظ مِنْ حيثُ هو لفظٌ، حُسْناً
ومزيَّةً ونُبْلاً وشَرَفاً، وأنَّ الأوصاف التي نَحلُوه إياها
هي أوصافهُ على الصحَّة، وذهَبوا عمَّا قدَّمْنا شرْحَه مِنْ
أنَّ لهم في ذلك رأياً وتدبيراً، وهو أنْ يَفْصِلوا بينَ
المعنى الذي هو الغرضُ، وبين الصورةِ التي يَخْرجُ فيها،
فنَسَبوا ما كان من الحُسْن والمزيَّةِ في صورة المعنى إلى
اللفظ، ووصفوه في ذلك بأوصافٍ هي تُخْبِرُ عن أنفُسها أنَّها
ليستْ له، كقولهم إنه حَلْيُ المعنى، وإنه كالوشيْ عليه، وإنه
قد كَسَب المعنى دلاً وشَكْلاً، وإنه رشيقٌ أنيقٌ، وإنه
متمكِّنٌ، وإنَّه على قَدْرِ المعنى لا فاضلٌ ولا مقصِّرٌ -
إلى أشباهِ ذلك ممَّا لا يُشَكُّ أنه لا يَكونُ وصْفاً له من
حيثُ هو لفظٌ وصَدَى صوتٍ، إلاَّ أنهم كأنَّهم رأوْا بَسْلا
حراماً أنْ يكونَ لهم في ذلك فِكْرٌ ورويةٌ وأن يميزوا فيه
قَبيلاً من دَبيرٍ.
غلطهم في معنى الحقيقة والمجاز
وممَّا الصفةُ فيه للمعنى، وإنْ جرى في
ظاهر المعاملة على اللفظِ، إلاَّ أنه يَبْعُد عند الناس كلَّ
البعدِ أن يكون الأمرُ فيه كذلك، وأنْ لا يكونَ من صفةِ اللفظِ
بالصحةِ والحقيقةِ وصْفُنا اللفظَ بأنه مجاز. وذاك أنَّ العادة
قد جرتْ بأنْ يُقال في الفَرْق بين الحقيقة والمجاز: إنَّ
الحقيقةَ أَنْ يُقَرَّ اللفظُ على أصله في اللغة، والمجازَ أنْ
يُزالَ عن موضعِه، ويُسْتعملَ في غير ما وُضِع له، فيقالُ
(أسدٌ) ويراد (شُجاع) و (بحرٌ) ويرادُ (جوادٌ). وهو وإن كان
شيئاً قد استَحْكمَ في النفوس حتى إنك تَرى الخاصَّةَ فيه
كالعامَّة، فإنَّ الأمرَ بعد فيه على خلافه. وذاك أنَّا إذا
حقَّقْنا لم نجد لفظَ (أسد) قد استُعمِل على القطْع والبتِّ في
غير ما وُضِع له. ذاك لأنه لم يُجْعَل في معنى (شجاعٍ) على
الإطلاق، ولكنْ جُعِل الرجلُ بشجاعته: أسداً. فالتجوُّزُ: في
أنِ ادَّعَيْتَ للرجل أنه في معنى الأسدِ وأنه كأنَّه هو في
قوة قَلْبه وشدَّةِ بطْشِه وفي أنَّ الخوفَ لا يخامِرُهُ
والذُّعْرَ لا يَعْرِضُ له، وهذا - إن أنتَ حصَّلْتَ - تجوُّزٌ
منك في معنى اللفظِ لا اللفظِ، وإنما يكون اللفظُ مُزالاً
بالحقيقةِ عن موضِعِهِ ومنقولاً عما وُضِعَ له، أنْ لو كنتَ
تَجد عاقلاً يقول (هو أسَد): وهو لا يُضمِر في نفسِه تشبيهاً
له بالأسد، ولا يُريد إلاَّ ما يريدُه إذا قال: هو شجاعٌ. وذلك
ما لا يُشَكُّ في بطْلانِه.
كون المجاز أبلغ من الحقيقة
وليس العجبُ إلاَّ أنهم لا يَذْكُرون شيئاً
من المجاز إلاَّ قالوا: إنه أبلغُ من الحقيقة. فليتَ شعري إن
كان لفظُ "أسد" قد نُقِل عما وُضِعَ له في اللغة وأزيلَ عنه،
وجُعِل يرادُ به (الشجاعُ) هكذا غُفْلاً ساذجاً، فمن أين يجب
أن يكونَ قولُنا "أسد" أبلغ من قولنا "شجاع"؟ وهكذا الحُكْم في
الاستعارة. هي وإنْ كانت في ظاهر المعاملة من صفةِ اللفظِ
وكنَّا نقول: هذه لفظةٌ مستعارةٌ، وقد استُعِيرَ له اسمُ
الأسد: فإنَّ مآلَ الأمرِ إلى أنَّ القصْدَ بها إلى المعنى.
يدلُّكَ على ذلك أنَّا نقول: (جعَله أسداً وجعَله بدْرا وجعله
بحْرا). فلو لم يكنِ القصْد بها إلى المعنى، لم يكنْ لهذا
الكلام وَجْهٌ لأنَّ "جعَل" لا تصْلح إلاَّ حيثُ يُراد إثباتُ
صفةٍ للشيء كقولِنا: (جعلْتُه أميراً وجعلتُه واحدَ دهره):
تُريد: أثْبَتُّ لك ذلك! وحكْمُ "جعَل" إذا تعدَّى إلى مفعولين
حكْمُ "صَيَّر". فكما لا تقول: (صيَّرْته أميراً)، إلا على
معنى أنك أثبَتَّ له صفة الإمارة، كذلك لا يَصِحُّ أن تقول:
(جعلته أسداً) إلا على معنى أنك جعلتَه في معنى الأسد. ولا
يقال: (جعلتُه زيداً) بمعنى: سمَّيْتُه زيداً، ولا يقال للرجل:
(إجْعَل ابنَك زيداً)، بمعنى: سمِّه زَيْدا، و (وُلِدَ لفلانٍ
ابنٌ فَجَعله زيداً). وإنما يَدخُل الغَلطُ في ذلك على من لا
يُحصِّل.
فأما قولُه تعالى: {وَجَعَلُواْ الملائكة
الذين هُمْ عِبَادُ الرحمان إِنَاثاً} [الزخرف: 19]، فإنما جاء
على الحقيقة التي وصفْتُها، وذاك أنَّ المعنى على أنهم
أثْبَتوا للملائكة صفةَ الإناث، واعتقدوا وُجودَها فيهم، وعن
هذا الاعتقادِ صدر عنهم ما صدَر من الاسْم، أعني إطلاق اسْمِ
البنات؛ وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظَ الإناثِ أو لفظَ
البناتِ اسْماً من غير اعتقادِ معنًى وإثباتِ صفةٍ. هذا مُحال
لا يقُوله عاقلٌ. أما تَسْمَعُ قولَ الله تعالى: {أَشَهِدُواْ
خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:
19]. فإنْ كانوا لم يزيدوا على أنْ أجرَوْا الاسْم على
الملائكةِ، ولم يَعْتقدوا إثباتَ صفةٍ ومعنىً بإجرائه عليهم،
فأيُّ معنىً لأنْ يقال: (أشْهدوا خَلْقَهم)؟ هذا ولو كان لم
يَقْصِدوا إثباتَ صفةٍ، ولمْ يزيدوا على أنْ وضَعوا اسْماً،
لما استحقُّوا إلاَّ اليسيرَ من الذَّم، ولما كان هذا القولُ
منهم كفْراً، والأمرُ في ذلك أظْهَرُ مِنْ أن يَخْفى.
وجملةُ الأمر أنه إن قيل: إنَّه ليس في الدنيا عِلْمٌ قد عرَضَ
للناس فيه مِن فُحْشٍ الغَلطِ، ومن قَبيل التورُّطِ، ومِنَ
الذهاب مع الظنونِ الفاسدةِ، ما عرَضَ لهم في هذا الشأن،
ظننْتَ أنْ لا يُخْشَى على من يقوله الكَذِبُ. وهل عجَبٌ
أعْجَبُ من قوم عُقَلاء يتْلون قولَ الله تعالى: {قُل لَّئِنِ
اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هاذا القرآن
لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ
ظَهِيراً} [الإِسراء: 88]؟ ويؤمنون به ويدينون بأن القرآن
معجزٌ، ثُمَّ يَصدُّون بأوجُهِهم عن برهانِ الإعجاز ودليله،
وَيَسْلكونَ غيرَ سبيلِه، ولقَدْ جَنوْا لو دَرَوْا ذاك
عظيماً.
فصل: كون النظم يتوخَى معاني النحو
واعلمْ أنه، وإنْ كانت الصورةُ في الذي أعَدْنا وأبْدأْنا فيه،
من أنَّه لا معنى للنظم غيرُ توخِّي معاني النحوِ فيما بين
الكَلم، قد بلغَتْ في الوضوح والظهورِ والانكشافِ إلى أقصى
الغايةِ، وإلى أنْ تكونَ الزيادَةُ عليه كالتكلُّف لِمَا لا
يُحْتاجُ إليه، فإن النفْسَ تنازعُ إلى تتبُّعِ كلِّ ضربٍ من
الشبْهَةِ يُرَى أنه يعرضُ للمُسلمِ نفسِه عند اعتراض الشكِّ؛
وإنَّا لنرَى أنَّ في الناس مَنْ إذا رأى أنَّه يجري في القياس
وضرب المثل أن تشبّه الكلم في ضمِّ بعضِها إلى بعض بضَمِّ
غَزَل الإبْرَيْسم بعضِه إلى بعضٍ، ورأى أنَّ الذي يَنْسِجُ
الديباجَ ويَعمَلُ النقْشَ والوشْيَ لا يَصْنَعُ بالإبريسم
الذي يَنْسِجُ منه شيئاً غيرَ أنْ يَضُمَّ بعضَه إلى بعضٍ
ويتخيَّر للأصباغ المختلفةِ، المواقعَ التي يعلمُ أنه إذا
أوْقَعَها فيها، حدثَ له في نَسْجه ما يُريد من النَقْش
والصورةِ - جرى في ظنَّه أنَّ حالَ الكلمِ في ضَمِّ بعضِها إلى
بعضٍ وفي تخيُّر المواقع لها، حالُ خيوطِ الإبريسم سواءٌ،
ورأيَتَ كلامَه كلامَ مَنْ لا يعَلم أنه لا يَكونُ الضمُّ فيها
ضمّاً، ولا المَوْقِعُ مَوْقعاً حتى يكونَ قد توخَّى فيها
معانيَ النحوِ، وأنك إنْ عمَدْتَ إلى ألفاظ فجعلتَ تُتْبعُ
بعضَها بعضاً من غيرْ أنْ تتوخَّى فيها معانيَ النحوِ، لم تكن
صنَعْتَ شيئاً تُدْعى به مؤلِّفاً، وتُشَبَّهُ معه بِمَنْ
عَمِلَ نَسْجاً أو صنَعَ على الجملةِ صَنيعاً، ولم يُتصوَّر
أنْ تكون قد تخيَّرتَ لها المواقعَ.
وفسادُ هذا وشَبيهُه من الظنِّ، وإنْ كان معلوماً ظاهراً،
فإنَّ ههنا استدلالاً لطيفاً تكثُر بسببه الفائدةُ، أنه
يُتصَوَّر أنْ يعمَدَ عامِدٌ إلى نظْم كلامٍ بعينه، فيُزيلَه
عن الصورةِ التي أرادَها الناظمُ له، ويُفْسِدَها عليه، من غير
أن يُحَوِّلَ منه لفظاً عن موضِعه أو يُبَدِّلَه بغيره، أو
يُغيِّر شيئاً من ظاهر أمره على حالٍ، مثالُ ذلك أنَّكَ إنْ
قدَّرْتَ في بيت أبي تمام [من الطويل]:
لُعَابُ الأفاعي القاتلاتِ، لُعَابُه ... وأَرْيُ الجَنى
اشتارَتْه أيْدٍ عواسِلُ
أن "لعابَ الأفاعي" مبتدأٌ و "لعابُه" خبر،
كما يُوهِمُه الظاهر، أفسدْتَ عليه كلامَه وأبطلْتَ الصورةَ
التي أرادها فيه؛ وذلك أنَّ الغرضَ أنْ يُشَبِّه مِدادَهُ
بأرْي الجنى على معنى أنه إذا كتَبَ في العطايا والصِلاتِ،
أوصَلَ به إلى النفوس ما تَحْلو مذاقَتُه عندها، وأدْخَل
السرور واللذة عليها؛ وهذا المعنى إنما يكونُ إذا كان (لعابُه)
مبتدأ و (لعابُ الأفاعي) خبراً. فأمَّا تقديرُك أن يكون "لعابُ
الأفاعي" مبتدأ و "لعابُه" خبراً، فيُبْطِل ذلك ويَمْنَع منه
البتة، ويَخْرجُ بالكلام إلى ما لا يجوز أن يكونَ مُراداً في
مثل غَرَض أبي تمام، وهو أنْ يكون أرادَ أن يُشَبِّه لعابَ
الأفاعي بالمِداد، ويشبِّه كذلك الأرْيَ به. فلو كان حالُ
الكلم في ضمِّ بعضها إلى بعضٍ، كحالِ غَزْل الإبرَيْسَم، لكانَ
ينْبغي أن لا تتغيَّر الصورةُ الحاصلةُ من نَظْمِ كلمٍ حتى
تُزالَ عن مواقِعها؛ كما لا تتغير الصورةُ الحادِثةُ عن ضَمِّ
غزْلِ الإبريسم بعضِه إلى بعضٍ حتى تُزال الخيوطُ عن مواضِعها.
واعلمْ أنَّه لا يَجوزُ أن يكونَ سبيلُ قوله: (لعابُ الأفاعي
القاتلاتِ لعابُه). سبيلَ قولِهم: (عتابك السيفُ)؛ وذلك أن
المعنى في بيت أبي تمام على أنك تُشَبِّهُ شيئاً بشيء، لِجامعٍ
بينهما في وصفٍ وليس المعنى في: (عتابُكَ السيفُ): على أنك
تُشَبِّه عتابَه بالسيف، ولكنْ على أنْ تَزْعُم أنه يَجْعَلُ
السيفَ بدلاً من العتاب. أفلا تَرَى أنه يصحُّ أنْ تقولَ:
(مدادُ قلمِه قاتلٌ كسمِّ الأفاعي)، ولا يَصِحُّ أن تقولَ:
(عتابك كالسيف)، اللَّهمَّ إلاَّ أنْ تَخْرجَ إلى بابٍ آخرَ،
وشيءٍ ليس هو غرضَهم بهذا الكلام، فتُريد أنه قد عاتَب عتاباً
خَشِناً مؤلماً. ثم إنك إنْ قلتَ: (السيفُ عتابُك): خرجْتَ به
إلى معنى ثالثٍ وهو أن تزْعُم أنَّ عتابَه قد بلغَ في إيلامه
وشدةِ تأثيرهِ مبلغاً صارَ له السيفُ كأنه ليس بسيفٍ.
واعلمْ أنه إنْ نظَر ناظرٌ في شأن المعاني
والألفاظ إلى حالِ السامع، فإذا رأي المعانيَ تقع في نفْسِه من
بَعْد وقوعِ الألفاظِ في سَمْعِه، ظنَّ لذلك أنَّ المعانيَ
تِبْعٌ للألفاظِ في ترتيبها. فإنَّ هذا الذي بيَّنَّاهُ يُريه
فسادَ هذا الظنِّ. وذلك أنه لو كانتْ المعاني تكونُ تِبْعاً
للألفاظ في ترتيبها، لكان مُحالاً أن تتغيَّر المعاني
والألفاظُ بحالها لم تَزُلْ عن تَرْتيبها. فلمَّا رأينا
المعانيَ قد جازَ فيها التغيُّر مِن غَيْر أنْ تتغيَّرَ
الألفاظُ وتزولَ عن أماكِنِها، عَلِمْنا أنَّ الألفاظَ هي
التابعةُ والمعاني هي المتبوعةُ.
واعلمْ أنه ليس مِن كلام يعمد واضِعُه فيه إلى معرِفَتَيْنِ
فيجعلُهما مبتدأً وخبراً، ثم يقدِّمُ الذي هو الخبرُ، إلاَّ
أشكلَ الأمرُ عليكَ فيه، فلَمْ تَعْلَمْ أنَّ المقدَّمَ خبرٌ،
حتى ترجِعَ إلى المعنى وتُحْسِن التدبُّرَ. أنشد الشيخ أبو علي
في التذكرة [من الخفيف]:
نَمْ وإن لم أنَمْ كرايَ كَراكا
ثم قال: ينبغي أن يكون "كرايَ" خبراً مقدَّماً، ويكون الأصْلُ
"كراكَ كرايَ" أي: نَمْ لم أَنَمْ فنومُكَ نومي، كما تقول:
(قُمْ، وإنْ جلسَتَ فقيامُكَ قيامي). هذا هو عُرْفُ الاستعمال
في نحوه. (ثم قال) وإذا كان كذلك فقد قُدِّم الخبرُ وهو معرفةٌ
وهو يُنْوى به التأخيرُ من حيث كان خَبَراً، (قال) فهو كبيتِ
الحماسة [من الطويل]:
بَنُونا بَنُو أبنائِنا وبَنَاتُنا ... بَنوهُنَّ أبناءُ
الرجالِ الأَباعدِ
فقدَّمَ خبرَ المبتدأ وهو معرفةٌ. وإنما دلَّ على أنه ينوي
التأخير، المعنى. ولولا ذلك لكانتِ المعرفةُ إذا قُدّمتْ، هي
المبتدأ - لتقدُّمها، فافهم ذلك: - هذا كلُّه لفظُه.
واعلمْ أنَّ الفائدةَ تَعْظُم في هذا
الضربِ من الكلامِ، إذا أنتَ أحسنْتَ النظَرَ فيما ذكرتُ لك من
أنكَ تستَطيعُ أنْ تَنقُلَ الكلامَ في معناه عن صورةٍ إلى
صورةٍ، مِنْ غيْر أنْ تُغيِّر من لفظِه شيئاً، وتُحوِّل كلمةً
عن مكانها إلى مكانٍ آخر وهو الذي وَسَّعَ مجالَ التأويلِ
والتفسيرِ، حتى صاروا يتأوَّلونَ في الكلام الواحدِ تأويلَيْنِ
أوْ أكثر، ويُفَسِّرون البيتَ الواحدَ عدَّةَ تفاسيرَ. وهو على
ذاك الطريقُ المزلَّةُ الذي ورَّط كثيراً من الناس في
الهَلَكة؛ وهو مما يَعْلم به العاقلُ شدَّةَ الحاجةِ إلى هذا
العِلْم وينْكشِفُ معه عُوَارُ الجاهل به، ويُفتضَحُ عنده
المُظْهِرُ الغِنى عنه. ذاك لأنه قد يَدْفع إلى الشيء لا
يَصحُّ إلاَّ بتقدير غَير ما يُريه الظاهرُ، ثم لا يكونُ له
سبيلٌ إلى معرفةِ ذلك التقديرِ إذا كان جاهلاً بهذا العلم،
فيتسكَّع عند ذلك في العمى، ويقع في الضلال. مثالُ ذلك أنَّ
مَنْ نظَر إلى قوله تعالى: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا
الرحمان أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى}
[الإِسراء: 110]؛ ثم لم يَعْلمْ أنْ ليسَ المعنى في (ادعوا)
الدعاءَ، ولكن الذكْرَ بالاسمِ، كقولك: (هو يُدْعَى زيداً
ويدعى الأمير): وأنَّ في الكلام محذوفاً، وأنَّ التقدير: (قل
ادعوهُ الله أو ادعوهُ الرحمن أيَّاً ما تدْعوا فلهُ الأسماءُ
الحسنى)، كان بعُرْضِ أنْ يقعَ في الشركِ من حيثُ إنه إنْ جرى
في خاطره أنَّ الكلامَ على ظاهره، خرجَ ذلك به، والعياذُ
باللهِ تعالى، إلى إثبات مَدْعُوَّيْنَ، تعالى اللهُ عن أنْ
يكونَ له شريكٌ. وذلك مِن حيثُ كان مُحالاً أن تَعْمِدَ إلى
اسمَيْن كلاهما اسمُ شيءٍ واحدٍ فتعطِفَ أحدَهما على الآخَر
فتقولَ مثلاً: (اُدْعُ لي زيداً أو الأمير) - والأميرُ هو زيدٌ
- وكذلك محالٌ أنْ تقول: "أيّاً ما تَدْعو"، وليس هناك إلاَّ
مَدْعوٌّ واحدٌ لأن مِنْ شأن (أي) أنْ تكونَ أبداً واحداً من
اثنين أو جماعةٍ ومِن ثَمَّ لم يكن له بدٌّ من الإضافةِ إما
لفظاً وإما تقديراً.
وهناك بابٌ واسعٌ ومِن المُشْكِلِ فيه
قراءةُ مَن قرأ {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة:
30] (بغير تنوينٍ) وذلك أنهم قد حملوها على وجْهَين:
أحدُهما أنْ يكون القارئ له أرادَ التنوينَ ثم حذفَه لالْتقاءِ
الساكنَيْن ولم يحرِّكْهُ كقراءةِ مَنْ قرأ {قُلْ هُوَ الله
أَحَدٌ * الله الصمد} [الإخلاص: 1ـ2] (بترك التنوين) مِنْ
(أحَد). وكما حُكيَ عن عمارةَ بن عَقيل أنه قرأ {وَلاَ الليل
سَابِقُ النهار} [يس: 40] (بالنْصب) فقيل له: ما تُريد؟ فقال:
أريد: سابقٌ النهارَ: قيل: فهلاَّ قلْتَه؟ فقال: فلو قلْتُه
لكان أوزن. وكما جاء في الشعر من قوله [من المتقارب]:
فأَلْفَيْتُهُ غيرَ مستعتِبٍ ... ولاَ ذاكِرَ اللهَ إلاَّ
قليلا
إلى نظائرِ ذلك. فيكونُ المعنى في هذه القراءةِ مثْلَه في
القراءة الأُخرى سواء. والوجهُ الثاني أنْ يكونَ الابنُ صفةً،
ويكونَ التنوينُ قد سقَط على حدِّ سقوطِهِ في قولنا: (جاءَني
زيدُ بنُ عمروٍ)، ويكون في الكلام محذوفٌ ثم اختَلَفوا في
المحذوف. فمنهم من جعله مبتدأً فقدَّرَ "وقالتِ اليهودُ هو
عُزَيرُ ابنُ الله" ومنهم من جَعَلَه خبراً فقدَّر "وقالتِ
اليهودُ عزيرُ ابنُ اللهِ معبودُنا". وفي هذا أمرٌ عظيم، وذلك
أنك إذا حكَيْتَ عن قائلٍ كلاماً أنتَ تُريد أن تُكَذِّبه فيه،
فإنَّ التكذيبَ ينصرفُ إلى ما كان فيه خبراً دون ما كان صفةً.
تفسيرُ هذا أَنَّك إذا حكيتَ عن إنسانٍ أنه قال: (زيدُ بنُ
عمروٍ سيِّدٌ)، ثم كذَّبْتَه فيه، لم تكُنْ قد أنكرْتَ بذلك أن
يكون زيدَ بْنَ عمروٍ، ولكنْ أنْ يكون سيِّداً. وكذلك إذا قال:
(زيد الفقيهُ قد قَدِم) فقلتَ له: كَذَبْتَ أو غَلِطْتَ، لم
تَكُن قد أنكرْتَ أن يكونَ زيدٌ فقيهاً، ولكنْ أن يكون قد
قَدِم، هذا ما لا شُبهةَ فيه. وذلك أنك إذا كذَّبْتَ قائلاًَ
في كلامٍ أو صدَّقْته، فإنما يَنْصرِف التكذيبُ منك والتصديق،
إلى إثباته ونَفْيه.
والإثباتُ والنفيُ يتناولان الخبرَ دون
الصفةِ. يدلُّكَ على ذلك أنَّكَ تَجِدُ الصفة ثابتةً في حالِ
النفي كثُبوتها في حالِ الإثبات. فإذا قلتَ: (ما جاءني زيدٌ
الظريفُ): كانَ الظَّرْفُ ثابتاً لزيدٍ كثبوته إذا قلتَ:
(جاءني زيدٌ الظريفُ): وذلك أنْ ليس ثُبوتُ الصفةِ لِلذي هي
صفةٌ له بالمتكلِّم وبإثباته لها فتنتفي بنَفْيه، وإنما
ثُبوتُها بنفسها. ويتقرَّرُ الوجودُ فيها عند المخاطَب مثلَه
عند المتكلِّم، لأنه إذا وقعتِ الحاجةُ في العلم إلى الصفةِ،
كان الاحتياجُ إليها من أجْل خِيفةِ اللَّبْس على المخاطَبِ.
تفسير ذلك أنكَ إذا قلتَ (جاءني زيدٌ الظريفُ) فإنك إنما تحتاج
إلى أنْ تصِفَه بالظريف، إذا كان فيمن يجيء إليكَ واحدٌ آخرُ
يُسمَّى زيداً. فأنتَ تخشى إن قلْتَ: (جاءني زيدٌ) ولم تَقُل
(الظريفُ) أن يَلْتَبِس على المخاطَبِ فلا يَدْرِي: أهذا عنيتَ
أم ذاك؟ وإذا كان الغرضُ من ذكْرِ الصفة إزالةَ اللَّبس
والتبيين، كان مُحالاً أن تكونَ غيرَ معلومةٍ عند المخاطَب،
وغيرَ ثابتةٍ، لأنه يؤدي إلى أن تَرُومَ تبيينَاً لشيء
للمخاطَب، بوصفٍ هو لا يَعلَمُه في ذلك الشيء. وذلكَ ما لا
غايةَ وراءه في الفساد.
وإذا كان الأمرُ كذلك، كان جعْلُ الابنِ صفةً في الآية مؤدياً
إلى الأمْرِ العظيم، وهو إخراجه عن موضعِ النفي والإنكارِ، إلى
موضع الثبوت والاستقرار، جلَّ الله وتعالى عن شَبَهِ
المخلوقين، وعن جَميع ما يقولُ الظالمونَ، علوّاً كبيراً.
فإن قيل: إنَّ هذه قراءةٌ معروفةٌ، والقولُ
بجواز الوصفيَّةِ في (الابن) كذلك معروفٌ ومدوَّنٌ في الكتب؛
وذلك يَقْتضي أن يكونوا قد عرَفوا في الآية تأويلاً يَدخُل به
(الابْن) في الإنكار مع تقدير الوصفيَّة فيه، قيل: إنَّ
القراءةَ كما ذكرتُ، معروفةٌ، والقولُ بجَواز أن يكون
(الابْنُ) صفةً، مثْبَتٌ مسطورٌ في الكتب كما قلتُ: ولكنَّ
الأصلَ الذي قدَّمناه منْ أنَّ الإنكار إذا لَحِقَ، لَحِقَ
الخبرَ دون الصفة، ليس بالشيءِ الذي يَعْترضُ فيه شكٌّ أو
تتسلَّطُ فيه شبْهَةٌ. فليس يَتَّجه أن يكون (الابنُ) صفةً، ثم
يَلْحقُهُ الإنكارُ مع ذلك، إلاَّ على تأويلٍ غامضٍ، وهو أن
يقال: إن الغرضَ: الدلالةُ على أنَّ اليهودَ قد كان بلغَ من
جَهْلهم ورُسوخِهم في هذا الشِّرْكِ، أنهم كانوا يَذْكُرون
عُزيراً هذا الذكْرَ، كما تقول في قوم، تريد أن تصفَهم بأنهم
قد استُهلِكوا في أمرِ صاحبِهم، وغَلَوْا في تعظيمه: (إني
أراهُمْ قد اعتقَدوا أمْراً عظيماً). فهم يقولون أبداً، زيدٌ
الأميرُ. تريد أنه كذلك يكون ذكْرُهُم إذا ذكَروهُ، إلاَّ
أنَّه إنما يستقيمُ هذا التأويلُ فيه إذ أنتَ لم تقدِّر له
خبَراً معيناً ولكنْ تريدُ أنهم كانوا لا يُخْبرون عنه بِخبرٍ
إلاَّ كانَ ذكْرُهُمْ له هكذا.
ومما هو من هذا الذي نحنُ فيه، قولُه
تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتهوا خَيْراً لَّكُمْ}
[النساء: 171]. وذلك أنهم قد ذَهبوا في رفْع "ثلاثة" إلى أنها
خبرُ مبتدأ محذوفٍ. وقالوا: إنَّ التقديرَ "ولا تقولوا آلهتُنا
ثلاثةٌ". وليس ذلك بمستقيمٍ، وذلك أنَّا إذا قلْنا: (ولا
تقولوا آلهتُنا ثلاثة): كان ذلك، والعياذُ بالله شبْهَ
الإثباتِ أنَّ ههنا آلهةً من حيثُ إنَّكَ إذا نفيْتَ، فإنما
تَنفي المعنى المستفادَ من الخَبر عن المبتدأ، ولا تنفي معنى
المبتدأ. فإذا قلتَ: (ما زيدٌ منطلقاً)، كنتَ نفيْتَ الانطلاقَ
الذي هو معنى الخبرِ عن زيد، ولم تَنْفِ معنى (زيد) ولم
تُوجِبْ عدَمَه. وإذا كان ذلك، فإذا قُلْنَا (ولا تقولوا
آلهتُنا ثلاثةٌ) كنَّا قد نفَيْنا أن تكونَ عِدَّةُ الآلهة
ثلاثةً ولم نَنْفِ أن تكونَ آلهةً - جلَّ الله تعالى عن
الشريكِ والنظيرِ - كما أنك إذا قلتَ: (ليس أُمراؤنا ثلاثةً):
كنتَ قد نفَيْتَ أن تكون عِدَّةُ الأمراءِ ثلاثةً، ولم تَنْفِ
أن يكون لكُمْ أمراءُ؛ هذا ما لا شبْهةَ فيه. وإذا أدَّى هذا
التقديرُ إلى هذا الفسادِ، وَجَبَ أنْ يَعْدِل عنه إلى غيره.
والوجهُ - واللهُ أعلمُ - أن تكون (ثلاثة) صفةَ مبتدإٍ ويكونَ
التقديرُ: (ولا تقولوا لنا آلهة ثلاثة أو في الوجود آلهة
ثلاثة) ثم حُذِفَ الخبرُ الذي هو لنا أو في الوجود، كما حُذِفَ
من (لا إله إلاَّ الله) و (ما مِنْ إله إلاَّ اللهُ) فبقي:
(ولا تقولوا: آلهةٌ ثلاثةٌ) ثم حُذِف الموصوفُ الذي هو "آلهة"
فبقي (ولا تقولوا ثلاثةٌ). وليس في حذْف ما قدَّرْنا حذْفَه ما
يتوقّفُ في صحَّته. أما حذفُ الخبر الذي قلْنا إنه (لنا) أو
(في الوجود) فمطَّردٌ في كل ما معناه التوحيدُ، ونفيّ أن يكون
معَ الله - تعالى عن ذلك - إلهٌ.
وأما حذْفُ الموصوفِ بالعدد، فكذلك شائعٌ،
وذلك أَنه كما يَسوغُ أن تقول: (عندي ثلاثة)، وأنتَ تريد:
ثلاثةَ أثوابٍ، ثم تَحذفُ لعِلْمكَ أنَّ السامعَ يَعْلمُ ما
تُريد، كذلك يسَوغُ أنْ تَقولَ: (عندي ثلاثةٌ)؛ وأنت تُريد
(أثوابٌ ثلاثة) لأنه لا فَصْلَ بين أن تَجْعَل المقصودَ
بالعددِ مميَّزاً، وبين أنْ تَجعلَهُ موصوفاً بالعدد، في أَنه
يَحْسُنُ حذْفُه إِذا عُلِمَ المرادُ. ويُبيِّنُ ذلك أنكَ تَرى
المقصودَ بالعددِ قد تُرِكَ ذكرُهُ، ثم لا تستطيعُ أن
تُقدِّرَه إِلا موصوفاً، وذلك في قولك: (عندي اثنان وعندي
واحد). يكونُ المحذوفُ ههنا موصوفاً لا محالةَ، نحو: (عندي
رجلانِ اثنانِ وعندي درهمٌ واحد). ولا يكونُ مميَّزاً البتةَ
من حيث كانوا قدْ رَفضوا إضافةَ الواحدِ والاثنينِ إلى
الجِنْس، فتركوا أن يقولوا: (واحدُ رجالٍ واثنانِ رجال) على
حدِّ "ثلاثةُ رجالٍ" ولذلك كان قولُ الشاعر:
ظَرْفُ عجوزٍ فيه ثِنْتَا حَنْظَلِ
شاذّاً.
هذا ولا يَمتنِعُ أنْ تَجْعلَ المحذوفَ من الآية في موضع
التمييز، دون موضعِ الموصوفِ، فتجعلَ التقديرَ "ولا تقولوا
ثلاثة آلهة"، ثم يكونُ الحكْمُ في الخبر على ما مضى، ويكون
المعنى، واللهُ أَعلمُ "ولا تقولوا لنا أو في الوجود ثلاثةُ
آلهة".
فإنْ قلتَ: فلِمَ صار لا يَلْزمُ على هذا
التقديرِ ما لَزِمَ عَلَى قولِ مَنْ قدَّر "ولا تَقولوا آلهتنا
ثلاثةٌ"؟ فذاكَ لأنَّا إذا جعَلْنا التقديرَ: ولا تقولوا لنا
أو في الوجود آلهةٌ ثلاثةٌ أو ثلاثةُ آلهةٍ، كنَّا قد نَفَيْنا
الوجودَ عن الآلهةِ كما نفَيْناه في "لا إله إلا الله، وما
مِنْ اله إلاَّ الله". وإذا زعَموا أنَّ التقديرَ "ولا تقولوا
آلهتُنا ثلاثةٌ" كانوا قد نَفَوْا أَنْ تكونَ عِدَّةُ الآلهةِ
ثلاثةً، ولم يَنْفُوا وُجودَ الآلهة. فإنْ قيل: فإنَّه يَلزَمُ
على تقديركَ الفسادُ من وجْهٍ آخرَ، وذاكَ أنه يَجوزُ إذا قلتَ
"ليس لنا أمراءُ ثلاثةٌ" أنْ يكونَ المعنى: (ليس لنا أمراءُ
ثلاثةٌ ولكنْ لنا أميرانِ اثنانِ) وإذا كان كذلكَ، كان
تقديرُكَ وتقديرُهُمْ جميعاً، خطأً. قيل إنَّ ههنا أمراً قد
أغْفَلْتَه، وهو أنَّ قولَهم: آلهتُنا: يُوجِبُ ثُبوتَ آلهةٍ،
جلَّ اللهُ وتعالى عَمَّا يقولُ الظالمونَ عُلوًّا كبيراً.
وقولُنا: (ليس لنا آلهةٌ ثلاثةٌ)، لا يُوجبُ ثبوتَ اثنينِ
البتةَ. فإنْ قلتَ: إن كان لا يُوجبُه، فإنَّه لا يَنْفِيه،
قيل: يَنْفيهِ ما بَعْدَهُ مِنْ قولِه تعالى: {إِنَّمَا الله
إلاه وَاحِدٌ} [النساء: 171].
فإنْ قيلَ: فإنَّه كما يَنْفي الإلهَيْن،
كذلك ينفي الآلهةَ؛ وإذا كان كذلك وجَبَ أنْ يكونَ تقديرُهم
صحيحاً، كتقديركَ: قيل هو كما قلتَ: ينفي الآلهةَ. ولكنَّهم
إذا زَعموا أنَّ التقديرَ "ولا تقولوا آلهتُنا ثلاثةٌ" وكان
ذلك، والعياذُ باللهِ من الشِّرْك، يَقْتضي إثباتَ آلهةٍ كانوا
قد دفَعوا هذا النفيَ وخالفُوه وأَخْرجُوه إلى المناقَضَة.
فإذا كان كذلك، كان مُحالاً أن يكونَ للصحة سبيلٌ إلى ما
قالوه، وليس كذلك الحالُ فيما قدَّرْناه، لأنَّا لم نُقَدِّرْ
شيئاً يقتضي إثباتَ إلهيَنْ - تعالَى اللهُ - حتى يكونَ حالُنا
حالَ مَنْ يَدفَعُ ما يُوجِبُه هذا الكلامُ من نَفْيهِما.
يُبيِّنُ لك ذلِكَ أَنه يَصِحُّ لنا أَنْ نَتَّبعَ ما قدَّرناه
نفْي الاثنينِ ولا يَصِحُّ لهم. تفسيرُ ذلك أنَّه يصِحُّ أن
تقولَ: (ولا تَقولوا لنا آلهةٌ ثلاثةٌ ولا إلهان)؛ لأنَّ ذلك
يَجْري مَجرْى أَنْ تقولَ: (ليس لنا آلهةٌ ثلاثةٌ ولا إلهان).
هذا صحيح. ولا يصِحُّ لهم أَنْ يقولوا: (ولا تقولوا آلهتُنا
ثلاثةٌ ولا إلهانِ)، لأنَّ ذلك يجري مجرى أنّ يقولوا: (ولا
تقولوا آلهتُنا إلهَانِ): وذلك فاسدٌ فاعرفْه وأَحْسِنْ
تأمُّلَهُ!
ثم إنَّ ههنا طريقاً آخَرَ وهو أَنْ تُقَدِّر: (ولا تقولوا
اللهُ والمسيحُ وأُمُّه ثلاثةٌ) أي نَعْبدُهما كما نَعبدُ
اللهَ. يُبيِّنُ ذلك قولُه تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا
إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 74]. وقد استقرَّ في
العُرْفِ أنَّهم إذا أرادوا إلحاقَ اثنينِ بواحدٍ في وصفٍ منَ
الأوصافِ، وأنْ يَجْعلوهُما شَبيهَيْن له، قالوا: هُمْ ثلاثةٌ:
كما يقولونَ، إذا أرادوا إلحاقَ واحدٍ بآخرَ وجَعْلَه في
معناه: هما اثنانِ. وعلى هذا السبيل كأنَّهم يقولون: هُم
يُعَدُّونَ معَداً واحداً ويُوجِبُ لهم التساويَ والتشارُكَ في
الصفةِ والرتبةِ وما شاكَل ذلكَ.
واعلمْ أنه لا معنى لأن يقالَ: إنَّ القولَ
حكايةٌ وإنَّه إذا كان حكايةً، لم يلزَمْ منه إثبات الآلهةِ،
لأنه يَجْري مَجْرى أنْ تقولَ: (إنَّ مِنْ دين الكفَّارِ أنْ
يقولوا: الآلهةُ ثلاثةٌ): وذلك لأنَّ الخطابَ في الآية للنصارى
أَنفسِهم. أَلا تَرى إلى قوله تعالى {ياأهل الكتاب لاَ
تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ
الحق إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله
وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ
فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ
انتهوا خَيْراً لَّكُمْ} [النساء: 171]. وإذا كان الخطابُ
للنصارى، كان تقديرُ الحكايةِ مُحالاً. فـ (لا تَقولوا) إذنْ،
في معنى: (لا تعْتَقِدوا). وإذا كان في معنى الاعتقادِ، لَزِمَ
إذا قدَّرَ (ولا تقولوا آلهتُنا ثلاثةٌ) ما قُلْنا إنَّه
يَلْزمُ مِن إثباتِ الآلهةِ، وذلك لأن الاعتقادَ يَتعلَّق
بالخبر لا بالمُخْبَرِ عَنْه. فإذا قلتَ: لا تعتقدْ أنَّ
الأمراءَ ثلاثةٌ: كنتَ نهَيْتَه عن أنْ يعتقدَ كونَ الأُمراءِ
على هذه العِدَّة، لا عنْ أَنْ يَعْتَقِدَ أنَّ ههنا أُمراءَ،
هذا ما لا يَشُكُّ فيه عاقلٌ؛ وإنما يكونُ النهْيُ عن ذلك إذا
قلتَ: لا تَعْتقِدْ أَنَّ ههنا أُمراءَ. لأنَّك حينئذٍ تَصيرُ
كأنَّك قلَْتَ: لا تعتقِدْ وجودَ أمراءَ. هذا ولو كان الخطابُ
مع المؤمنينَ، لكانَ تَقديرُ الحكايةِ لا يَصِحُّ أيضاً. ذاكَ
لأنه لا يجوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ المؤمنينَ نُهُوا عن أنْ
يَحْكُوا عن النصارى مقالَتَهم ويُخْبروا عنْهم بأنهم يقولون:
كَيْتَ وكيْتَ: كيفَ وقد قال اللهُ تعالى: {وَقَالَتِ اليهود
عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله}
[التوبة: 30]. ومِنْ أين يَصِحُّ النهْيُ عن حكايةِ قولِ
المُبْطِل، وفي تَرْك حكايتهِ تركٌ له وكفره وامتناعٌ من
النعْي عليه والإنكارِ لِقَوْلِه والاحتجاج عليه، وإقامةِ
الدليل على بُطْلانه، لأنه لا سبيلَ إلى شيءٍ من ذلك إلاَّ
مِنْ بَعْدِ حكايةِ القولِ والإفصاح به، فاعرفْهُ!
|