دلائل الإعجاز ت الأيوبي

تحرير القول في الإعجاز والفصاحة والبلاغة
الإعجاز بنظم الكلام لا بالكلم المفردة
ثم إنَّ هذا الوصفَ ينبغي أنْ يكونَ وصْفاً قد تجدَّد بالقرآن، وأمراً لم يُوجَدْ في غيره ولم يُعْرف قبل نزولِه. وإذا كان كذلك، فقد وَجَب أنْ يُعْلَم أَنه لا يجوزُ أن يكونَ في الكَلم المفردةِ، لأَن تقديرَ كونِه فيها يؤدِّي إلى المُحال، وهو أن تكونَ الألفاظُ المفردةُ، التي هي أوضاعُ اللغة، وقد حدثَ في حذاقة حروفِها وأصدائها، أوصافٌ لم تكُنْ لتكونَ تلك الأوصافُ فيها قبلَ نزولِ القرآن، وتكونَ قد اختُصَّتْ في أَنفُسها بهيئاتٍ وصفاتٍ يَسمعُها السامعون عليها إذا كانت متلوَّة في القرآن، لا يَجدونَ لها تلكَ الهيئاتِ والصفاتِ خارِجَ القرآنِ؛ ولا يجوزُ أن تكونَ في معاني الكَلمِ المفردةِ التي هي لها بوَضْع اللغة، لأنه يؤدي إلى أن يكونَ قد تَجدَّد في معنى الحَمْدِ، والرَّبِّ، ومعنى العالَمين، والمُلْك، واليومِ، والدِّين، وهكذا؛ وصْفُ لم يكُنْ قَبْل نزولِ القرآن. وهذا ما لَوْ كان ههنا شيءٌ أَبَعدُ من المُحال وأشنَعُ، لكان إيَّاهُ.


ونعود إلى النَّسَق، فنقول: فإذا بطَلَ أن يكون الوصفُ الذي أَعجزَهُم من القرآن شيء ممَّا عددناه، لم يَبْقَ إلاَّ أن يكونَ الاستعارة. ولا يمكنُ أنْ تُجْعَلَ الاستعارةُ، الأَصْلَ في الإعجاز وأن يُقْصَدَ إليها، لأنَّ ذلك يؤدي إلى أَن يكونَ الإعجاز في آي معدودةٍ، في مواضعَ مِن السورِ الطِّوالِ مخصوصةٍ. وإذا امتنعَ ذلكَ فيها، لم يبْقَ إلاَّ أَن يكونَ في النظْمِ والتأليفِ، لأنه ليس مِنْ بَعْدِ ما أَبطَلْنا أن يكون فيه إلاَّ النظْمُ. وإذا ثبتَ أنَّه في النظَمِ والتأليفِ، وكنَّا قد عَلِمْنا أنْ ليسَ النظمُ شيئاً غير توخِّي معاني النحو وأحكامه فيمَا بين الكَلِم، وأَنَّا إنْ بَقِينا الدهرَ نَجْهدُ أفكارَنا حتى نَعْلَم للكلِمِ المفردةِ سِلْكاً يَنْظِمُها، وجامعاً يَجْمعُ شمْلَها، ويؤلِّفها ويَجْعل بعضَها بسبَبٍ مِنْ بعض، غيرَ توخِّي معاني النحو وأحكامهِ فيها - طَلَبنا ما كلُّ مُحالٍ دُونَه. فقد بان وظهَرَ أنَّ المتعاطيَ القَوْلَ في النظم، والزاعمَ أَن يحاول بيانَ المزيةِ فيه، وهو لا يَعْرِض فيما يُعيدُه ويُبديهِ للقوانين والأصول التي قدَّمْنا ذِكْرَها، ولا يَسْلك إليه المَسالِكَ التي نَهَجْناها، في عمياء من أمره، وفي غرورٍ من نفسه، وفي خِداعٍ من الأماني والأضاليلِ. ذاك لأنَّه إذا كان لا يكونُ النظمُ شيئاً غيرَ توخِّي معاني النحو وأَحكامهِ فيما بَيْن الكَلِمِ، كان مِن أَعجْب العَجَبِ أَنْ يزَعُمَ زاعمٌ أَنه يَطْلبُ المزيَّةَ في النَّظْم ثم لا يَطْلبُها في معاني النحو وأحكامه التي النظْمُ عبارةٌ عن توخِّيها فيما بَيْن الكَلِم.


فإنْ قيل: قولُكَ (إلاَّ النظم)، يقتضي إخراجَ ما في القرآن مِن الاستعارةِ وضروبِ المجازِ من جملة ما هو به مُعْجِزٌ، وذلك ما لا مَساغَ له: قيلَ: ليس الأمرُ كما ظننْتَ، بل ذلك يقتضي دُخولَ الاستعارةِ ونَظائرِها فيما هو بهِ مُعْجزٌ؛ وذلك لأنَّ هذه المعانيَ التي هي الاستعارةُ، والكنايةُ، والتمثيلُ، وسائرُ ضُروبِ المجاز مِن بَعْدِها، من مُقْتَضياتِ النظْم، وعنها يَحْدُثُ وبها يكونُ، لأنه لا يُتصوَّر أن يَدخُلَ شيء منها في الكَلِم، وهي أفرادٌ لم يُتَوخَّ فيما بينَها حكْمٌ من أحكام النحو. فلا يُتَصَّورُ أن يكونَ ههنا فعلٌ أو اسمٌ قد دَخلَتْهُ الاستعارةُ مِن دون أنْ يكونَ قد أُلِّفَ مع غيره. أفلا تَرى أَنه إن قدَّر في (اشتعلَ) من قوله تعالى: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4]، أن لا يكون (الرأسُ) فاعلاً له، ويكونَ (شيباً) منصوباً عنه عَلَى التمييز، لم يُتصوَّرْ أن يكونَ مستعاراً وهكذا السبيلُ في نظائرِ الاستعارةِ فاعرفْ ذلك!


واعلمْ أَن السببَ في أنْ لم يَقعِ النظَرُ منهم مَوْقِعَه، أَنهم حينَ قالوا (نطْلب المزية) ظَنّوا أَنَّ مواضعَها اللفظُ، بناءً على أنَّ النظْمَ نظْمُ الألفاظِ، وأنه يَلْحقُها دونَ المعاني. وحين ظَنُّوا أنَّ موضِعَها ذلك، واعتقدُوه، وقَفوا على اللفظِ وجعَلوا لا يَرْمون بأَوهامِهم إلى شيءٍ سِواهُ. إلاَّ أَنهمْ على ذاكَ. لم يَسْتطيعوا أن ينطِقوا في تصحيح هذا الذي ظَنّوه بحَرْف، بل لم يتكلَّموا بشيءٍ إلاَّ كان ذلك نَقْضاً وإبِطالاً لأنْ يكونَ اللفظُ مِنْ حيَثُ هو لفظٌ، مَوْضعاً للمزيَّةِ؛ وإلا رأيتَهم قد اعتَرفُوا من حيثُ لم يَدرُوا، بِأنْ ليس لِلْمزيةِ التي طلَبوها موضِعٌ ومكانٌ تكونُ فيه، إلاَّ معاني النحوِ وأحكامِه. وذلك أنهم قالوا: إن الفصاحةَ لا تَظْهرُ في أفرادِ الكلماتِ، وإنما تَظْهرُ بالضمِّ على طريقةٍ مخصوصةٍ. فقولُهم (بالضم) لا يَصِحُّ أن يُرادَ به النطقُ باللفظةِ بعْدَ اللفظةِ، مِنْ غيرِ اتصالٍ يكونُ بين معْنَيَيْهِما، لأنه لو جازَ أنْ يكونَ لِمجرَّدِ ضَم اللفظِ إلى اللفظِ تأثيرٌ في الفصاحة، لكان يَنبغي إذا قيل "ضَحِكَ خَرَجَ"، أنْ يَحْدُثَ مِن ضَمِّ (خرجَ) إلى (ضحكَ) فصاحةٌ؛ وإذا بطَل ذلك، لم يَبْقَ إلا أنْ يكونَ المعنى في ضمِّ الكلمةِ إلى الكلمةِ توَخِّيَ معنًى من معاني النحو فيما بينَهُما. وقولُهم: (على طريقة مخصوصة): يُوجِبُ ذلك أيضاً؛ وذلك أَنه لا يكونُ للطريقة - إذا أنتَ أردْتَ مجرَّدَ اللفظِ - معنى. وهذا سبيلُ كلِّ ما قالوه إذا أنتَ تأمَّلتَهُ، تَراهُمْ في الجميع، قد دفَعوا إلى جَعْل المزية في معاني النحو وأحكامه، مِنْ حيثُ لم يَشْعروا؛ ذلك لأنه أَمرٌ ضروريٌّ لا يُمكِنُ الخروجُ منه.


التحدي بالقرآن ليس بكلمة ولا قواطعه وفواصله
ولا يجوزُ أَن يكون هَذا الوصفُ في تركيب الحَركاتِ والسَّكَناتِ. حتى كأَنهم تُحُدُّوا إلى أن يأتوا بكلاَمٍ تَكونُ كلماتُه على توَاليها في زِنَةِ كلماتِ القرآنِ، وحتى كأنَّ الذي بانَ به القرآنُ مِن الوَصْف، في سبيلِ بَيْنُونَة بِحُور الشِّعْر بعضِها مِنْ بَعضٍ، لأنه يَخْرجُ إلى ما تعاطاهُ مُسَيْلمة من الحمامة في: (إنا أعطيناكَ الجماهر، فَصَل لِربِّك وجاهِرْ، - والطاحنات طحناً ... ).
وكذلك الحكْمُ إنْ زَعم زِاعمٌ أنَّ الوصْفَ الذي تُحُدُّوا إليه، هو أَن يَأْتوا بكلامٍ يَجعلونَ له مَقاطعَ وفواصلَ، كالذي تَراهُ في القرآن. لأنه أيضاً ليس بأكثرَ مِن التعويل على مراعاة وزْنٍ، وإنَّما الفواصلُ في الآي كالقوافي في الشِّعر. وقد عَلِمْنا اقتدارَهم على القوافي كيف هو. فلَوْ لم يكنِ التحدِّي إلا إلى فُصولٍ من الكلامِ يكونُ لها أواخرُ أشباهِ القوافي، لم يُعْوِزْهُم ذلك ولم يتعذَّرْ عليهم. وقد خُيِّل إلى بَعْضهم - إنْ كانت الحكايةُ صحيحةً - شيءٌ من هذا؛ حتى وَضعَ - على ما زَعموا - فصولَ الكلام: أواخرُها كأواخرِ الآي مثْلَ "يعلمون" و "يؤمنون" وأشباهِ ذلك. ولا يَجوزُ أَن يكونَ الإعجاز بأن لم يُلْتَقَ في حُروفه ما يَثْقُلُ على اللسانِ.


وجملةُ الأمرِ أَنه لَن يَعرِضَ هذا وشَبهُهُ من الظنونِ لِمَنْ يَعرِضُ لهُ، إلاَّ مِن سوءِ المعرفةِ بهذا الشأنِ، أوْ للخذلانِ أو لِشهوةِ الإِغرابِ في القولِ. ومَنْ هذا الذي يَرْضى مِنْ نَفْسه أنْ يَزعمَ أنَّ البرهانَ الذي بانَ لهم، والأمرَ الذي بهَرَهُم، والهيئةَ التي ملأتْ صدُورَهم، والروعةَ التي دخلتْ عليهم فأزعَجَتْهم، حتى قالوا "إنَّ له لحلاوةً، وإنَّ عليه لطلاوةً، وإنَّ أسفَلَه لَمُغْدِقٌ، وإنَّ أعلاه لَمْثْمِرٌ"، إنما كان لِشيءٍ راعَهُم من مَواقعِ حركاتِه، ومِن تَرتيبٍ بيْنَها وبَيْنَ سكَنَاتِه، أو لِفَواصلَ في أواخر آياته؟ مِنْ أَيْنَ تَليقُ هذه الصفةُ وهذا التشبيهُ بذلك؟ أم ترَى أنَّ ابنَ مَسْعود حين قال في صفة القرآن: لا يَتْفَه ولا يَتَشَانُّ: وقال: إذا وقعتُ في آل حم وقعتُ في روضاتٍ دَمِثاتٍ أتأنَّق فيهنَّ: - أي أَتتبَّع محاسنَهنَّ - قال ذلك من أجْل أوزانِ الكلماتِ، ومن أجْل الفواصِلِ في أواخر الآيات؟ أم تَرى أنَّهم لذلك قالوا لا تَفْنى عجائِبُه، ولا يَخْلُقُ على كثرة الرد؟ أم تَرى الجاحظ، حينَ قال في كتاب النبوة: ولو أَنَّ رجلاً قرأَ على رجُل مِن خطبائهم وبُلغائهم سورةً واحدةً، لتبيَّن له في نظامها ومَخْرجها من لَفْظها وطابَعها، أَنه عاجزٌ عن مثلها. ولو تُحدِّيَ بها أبلغُ العَربِ لأَظْهَر عجْزَهُ عنها لغاً ولفظاً، نظرَ إلى مثْلِ ذلك؛ فليسَ كلامُه هذا مما ذهَبوا إليه في شيء. وَينبغي أن تكونَ موازَنَتُهم بيْنَ بعضِ الآي وبيْنَ ما قاله الناسُ في معناها، كموازنَتِهِمْ بيْن {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وبَيْن: (قَتْلُ البعضِ إحياءٌ للجميع): خطأً منهم، لأنَّا لا نَعْلم لحديثِ التحريكِ والتسْكينِ، وحديث الفاصِلةِ مذهباً في هذه الموازنة، ولن نَعْلمهُم أرادوا غيرَ ما يُريده الناسُ إذا وازَنُوا بين كلامٍ وكلامٍ في الفصاحة والبلاغة، ودقة النظمِ وزيادةِ الفائدة.


ولولا أَنَّ الشيطان قد استحوذَ على كثيرٍ من الناس في هذه الشأنَ، وأنهم بِتَرْك النظرِ وإهمالِ التدبُّر وَضعفِ النيَّةِ وقِصَر الهِمَّة، قد طرَّقوا له حتى جعَل يُلْقي في نفوسهم كلَّ محالٍ وكلَّ باطلٍ، وجَعَلوا هُمْ يعطون الذي يُلْقيه حَظَّا الذي يُلْقيه حَظَّا من قَبولهم، ويُبَوئونَه مكاناً مِن قلوبهم، لمَا بلغَ من قَدْر هذه الأقوالِ الفاسدةِ أنْ تدخُلَ في تصنيفٍ، ويعادَ ويُبْدأَ في تبيينٍ لوجهِ الفسادِ فيها، وتعريف.
ثُم إنَّ هذه الشناعاتِ التي تقدَّمَ ذِكْرُها تَلزَمُ أصحابَ الصَّرْفة أيضاً. وذاكَ أَنه لو لم يكنْ عجْزُهم عن مُعَارضةِ القرآن، وعن أنْ يأتوا بمثلِه لأنه مُعْجِزٌ في نفسه، لكنْ لأن أُدخِلَ عليهمُ العَجزُ عنه، وصُرفَتْ هِمَمهُمُ وخَواطرُهم عن تأليف كلامٍ مثْلهِ، وكان حالُهم على الجملة حالَ مَن أُعْدِمَ العلمَ بشيءٍ قد كان يَعلَمُه، وحيل بينَه وبينَ أمرٍ قد كان يَتَّسِعُ له، لكانَ ينبغي أنْ لا يتعاظَمَهُمْ: ولا يكون منهم ما يَدلُّ على إكبارهم أمرَه وتعجُّبهم منه، وعلى أَنه قد بَهَرَهُم، وعظُمَ كلَّ العِظَم عندَهم؛ ولَكانَ التعجُّبُ، للذي دَخَلَ من العجزِ عليهم، ولِمَا رأَوْه مِن تَغيُّرِ حالِهم، ومِنْ أَن حِيلَ بينَهم وبينَ شيء قد كان عليهِمْ سَهْلاً، وأن سُدَّ دونَه بابٌ كان لهُم مفتوحا. أرأيتَ لو أنَّ نبياً قال لقومه: "إنَّ آيتي أنْ أَضعَ يدي على رأسي هذه الساعةَ وتُمْنَعون كلُّكُم من أَن تستطيعوا وَضْعَ أَيديكُمْ على رُؤوسِكُم"، وكان الأمرُ كما قال - مِمَّ يكونُ تعجُّبُ القومِ؟ أَمِنْ وضعِه يدَه على رأسهِ، أمْ مِنْ عَجْزِهم أن يضَعَوا أيديَهم على رؤُوسهم؟


الإعجاز بنظم الكلام لا بالكلم
ومما تَجِدُهم يَعْتمِدونَه ويرجعِونَ إليه قولُهم: إنَّ المعاني لا تتزايدُ وإنما تَتزايدُ الألفاظُ: وهذا كلامٌ إذا تأملْتَه، لم تَجِدْ له معنًى يَصِحُّ عليه غيرَ أنْ تَجْعلَ تزايُدَ الألفاظِ عبارةً عن المزايا التي تَحْدُثُ مِن توخِّي معاني النحوِ وأَحكامهِ فيما بين الكلم، لأنَّ التزايُدَ في الألفاظ من حيثُ هي ألفاظٌ ونُطْقُ لسانٍ، مُحالٌ.

ثم إنَّا نَعْلمُ أَنَّ المزيةَ المطلوبةَ في هذا البابِ، مزيةٌ فيما طريقُهُ الفكْرُ والنظَرُ مِن غَيرِ شُبْهة؛ ومحالٌ أَنْ يكونَ اللفظُ له صفةٌ تُسْتَنْبَطُ بالفِكْرِ، ويُسْتعانُ عليها بالرويَّة، أللهمَّ إلاَّ أنْ تُريد تأليفَ النغَمِ؛ وليس ذلك ممَّا نحنُ فيه بسبيلٍ. ومِنْ ههنا لم يَجُزْ إذا عُدَّ الوجوهُ التي تَظهر بها المزيةُ أنْ يُعَدَّ فيها الإعرابُ، وذلك أنَّ العِلْم بالإِعرابِ مشترَكٌ بين العَربِ كلِّهم، وليس هو مما يُسْتنبَط بالفكْرِ ويُسْتعانُ عليه بالرويَّة، فليس أحدُهم، بأنَّ إعرابَ الفاعل الرفعُ، أو المفعولِ النصبُ، والمضاف إليه الجرُّ، بأعْلَم مِن غَيره، ولا ذاك المفعولُ به مما يَحتاجون فيه إلى حِدَّةِ ذهنٍ وقوةِ خاطر. إنما الذي تقَعُ الحاجةُ فيه، إلى ذلك العلم بما يُوجِبُ الفاعليةَ للشيء إذا كان إيجابُها من طريقِ المجازِ كقوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] وكقوله الفرزْدق:
سقْتها خروقٌ في المسامِعِ


وأشباهِ ذلِكَ مما يَجعلُ الشيءَ فيه فاعلاً على تأويلٍ يَدقُّ، ومن طريقٍ تَلْطُفُ؛ وليس يكون هذا علماً بالإعراب، ولكن بالوصْفِ الموجبِ للإعراب. ومن ثَمَّ لا يجوزُ لنا أنْ نَعْتدَّ في شأنِنا هذا، بأنْ يكون المتكلِّمُ قد اسْتَعملَ من اللغتين في الشيءِ ما يقال إنه أفصَحُهما، وبأنْ يكونَ قد تَحفَّظ مما تخطئ فيه العامَّة، ولا بأن يكونَ قد استعْمَلَ الغريبَ، لأنَّ العِلْم بجميعِ ذلكَ لا يَعْدوا أن يكونَ عِلْماً باللغةِ وبأَنْفُس الكَلِمِ المفردة، وبما طريقُهُ طريقُ الحِفْظِ، دون ما يُستَعانُ عليه بالنظَرِ، ويُوصَلُ إليه بإعمالِ الفِكْر. ولئن كانتِ العامَّةُ وأشباهُ العامَّةِ لا يكادونَ يعرِفونَ الفصاحةَ غيرَ ذلك، فإنَّ مِن ضَعْف النحيزة إِخطارَ مثْلِه في الفكْرِ، وإجراءَه في الذكْرِ، وأنتَ تزعمُ أَنكَ ناظرٌ في دلائل الإعجازِ؛ أترَى أنَّ العَرب تُحُدُّوا أن يَختاروا الفَتْحَ في (الميم) من "الشمَع" و (الهاء) من "النهْر" على الإسْكان، وأنْ يتحفَّظوا مِن تخليطِ العامَّة في مثْلِ "هذا يَسْوَى أَلفا"، أو إلى أنْ يأْتوا بالغريبِ الوحشيِّ في الكلام يعارِضون به القرآنَ؟ كيفَ وأنتَ تقرَأُ السورةَ من السُّوَرِ الطِّوالِ، فلا تَجِدُ فيها مِن الغريب شَيئاً؟ وتأَمَّلْ ما جَمَعهُ العلماءُ في غَريب القرآن، فترى الغريبَ منه، إلا في القليل، إنما كان غريباً من أَجْل استعارةٍ هي فيه، كمِثْل {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل} [البقرة: 93]، ومثْل {خَلَصُوا نَجِيّاً} [يوسف: 80]، ومثْلِ {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]، دون أن تكون اللفظةُ غريبةً في نفسها؛ إنما ترى ذلك في كلماتٍ معدودةٍ كَمِثلِ {عَجِلّ لَّنَا قِطَّنَا} [ص: 16]، {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 13]، و {جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم: 24].


ثم إنَّه لو كان أَكْثَرُ ألفاظِ القرآنِ غريباً، لكانَ محالاً أن يَدْخُلَ ذلك في الإعجاز وأنْ يَصِحَّ التحدي به. ذاك لأنه لا يَخْلو إذا وقَعَ التحدي به، من أن يُتحدَّى مَنْ له علْمٌ بأمثالهِ من الغريبِ، أو مَنْ لا عِلْمَ له بذلك؛ فلو تُحدِّي بهِ من يَعْلَمُ أمثالَه، لم يتَعذَّر عليه أن يعارِضَه بمثله. ألا تَرى أنه لا يتعذَّرُ عليكَ إذا أنتَ عرفْتَ ما جاء من الغريبِ في معنى (الطويل) أن تعارِض مَنْ يقول (الشوقَبُ) بأن تقولَ (أنتَ الشوذَبُ) وإذا قال "الأمَقُّ" أن تقول "الأَشقُّ"، وعلى هذا السبيل. ولو تُحُدِّي به مَنْ لا عِلْمَ له بأمثال ما فيه من الغريب، كان ذلك بمنزلةِ أن يُتَحدَّى العربُ، إلى أن يتكلموا بلسانِ التركِ هذا - وكيف بأنْ يدْخلَ الغريبُ في باب الفضيلة، وقد ثَبتَ عنهم أَنهم كانوا يَروْنَ الفضيلةَ في تَرْك استعمالِه وتجنُّبهِ؟ أفلاَ تَرى إلى قول عُمرَ رضي اللهُ عنه في زهير: إنه كان لا يُعاظِل بين القَوْل ولا يَتَتَبَّعُ حُوشيِّ الكلام: فقرنَ تَتَبُّعَ الحُوشيِّ، وهو الغريب مِنْ غيرِ شُبْهة، إلى المُعاظلةِ التي هي التعقيد.
وقال الجاحظ في كتاب البيان والتبيين: ورأيتُ الناسَ يَتداولونَ رسالةَ يحيى بْنِ يَعْمُرَ عن لسانِ يزيدَ بنِ المهلَّب، إلى الحجَّاج: "إنَّا لَقِينا العدوَّ فقتَلْنا طائفةً بعراعر الأَودية وأهضام الغيطان، وبتْنا بعُرْعُرَةِ الجبلِ وبات العدوُّ بحضيضه". فقال الحجَّاج: ما يَزيدُ بأبي عذْرِ هذا الكلامِ: فحُمل إليه فقال: أين ولدت في كتبهم أنَّ امرأةً خاصمتْ زوجَها إلى يحيى بن يَعْمر، فانْتَهَرها مراراً، فقال له يحيى: إنْ سألتُكَ ثَمَنَ شَكْرها وشَبْرِك أنشأتَ تَطُلُّها وتَضْهَلُها: ثم قال: إن كانوا قد روَوْا هذا الكلامَ لكي يَدلَّ على فصاحةٍ وبلاغةٍ، فقد باعدَه اللهُ من صفةِ البلاغة.


فساد الذوق والكلام ممن ظنوا أنّ الفصاحة والبلاغة للألفاظ
واعلم أنك كلَّما نظرتَ وجدْتَ سببَ الفسادِ واحداً، وهو ظنُّهم الذي ظنُّوه في اللفظِ، وجعْلُهم الأوصافَ التي تجري عليه كلَّها، أوصافاً له في نفسه، ومن حيثُ هو لفظٌ، وترْكُهم أن يُميِّزوا بينَ ما كان وصْفاً لهُ في نفسِه، وبيْنَ ما كانوا قد أكْسَبوه إياه من أجْلِ أمرٍ عَرَضَ في معناه. ولمَّا كان هذا دأْبَهم، ثم رأَوْا الناسَ، وأظهرُ شيءٍ عندَهم في معنى الفصاحةِ تقويمُ الإعراب والتحفظُ من اللَّحْن، لم يَشُكُّوا أنه ينبغي أن يُعتَدَّ به في جملةِ المزايا التي يفاضَلُ بها بين كلامٍ وكلامٍ في الفصاحةِ، وذهبَ عنهم أنْ ليس هُو من الفصاحة التي يَعْنينا أمرُها في شيء، وأنَّ كلاَمنا في فصاحةٍ تجبُ للَّفظِ لا من أجْلِ شيء يدْخُلُ في النطقِ؛ ولكنْ من أجْل لطائفَ تُدْرَكُ بالفَهم؛ وإنا نعْتبرُ في شأننا هذا فضيلةً تَجبُ لأَحَدِ الكلامَيْنِ على الآخَر مِن بَعْد أن يكونا قد برِئا من اللَّحْن، وسَلِمَا في ألفاظِهما من الخَطَأ. ومن العَجَب أنَّا إذا نظَرْنا في الإعرابِ، وجَدْنَا التفاضُل فيه مُحالاً، لأنه لا يُتَصَوَّرُ أن يكونَ للرَّفْع والنصْبِ في كلامٍ مزيةٌ عليهما في كلام آخَر، وإنما الذي يُتَصَوَّرُ أنْ يكون ههنا كلامانِ قد وقع في إعرابهما خللٌ، ثم كان أحَدُهما أكْثَر صواباً من الآخر، وكلامانِ قد استمرَّ أحدُهما على الصَّوابِ ولم يَسْتمرَّ الآخَرُ؛ ولا يكون هذا تفاضُلاً في الإعراب ولكنْ ترْكاً في شيءٍ واستعمالاً له في آخَرَ، فاعرفْ ذلك!
وجملةُ الأمرِ أنك لا تَرى ظنَّاً هو أَنْأَى بصاحبِه عن أن يصِحَّ له كلامٌ، أو يستمِرَّ له نظامٌ، أو تَثْبُتَ له قدَمٌ، أو يَنْطِقَ منه إلاَّ بالمُحال فمٌ، مِنْ ظَنِّهم هذا الذي حامَ بهم حَوْلَ اللفظِ وجعلهم لا يعُدُّونَه، ولا يرَوْنَ للمزيةِ مكاناً دُونه.


واعلمْ أنه قد يجري في العبارة منَّا شيءٌ هو يُعيدُ الشبهة جَذَعة عليهم وهو أنه يقَعُ في كلامِنا أن الفصاحةَ تكونُ في المعنى دون اللفظ، فإذا سَمِعوا ذلك قالوا: كيف يكونُ هذا ونَحْنُ نَراها لا تَصْلُح صفةً إلاَّ لِلَّفظِ، ونراها لا تَدخلُ في صفة المعنى البتَّةَ؛ لأنَّا نرى الناسَ قاطبةً يقولون "هذا لفظٌ فصيحٌ وهذه ألفاظٌ فصيحةٌ: ولا نَرى عاقِلاً يقولُ: هذا معنى فصيحٌ وهذهِ معانٍ فِصاحٌ. ولو كانت الفصاحة تكونُ في المعنى، لكانَ ينبغي أن يقال ذاك. كما أنه لمَّا كان الحُسْنُ يكون فيهِ قيل "هذا معنى حَسَنٌ وهذه معانٍ حَسَنَةٌ"، وهذا شيء يَأخُذُ من الغِرِّ مأخذاً. والجوابُ عنه أنْ يُقالَ إنَّ غَرَضَنا مِن قولنا إنَّ الفصاحةَ تكونُ في المعنى، أنَّ المزيَّةَ التي مِنْ أجْلِها استَحَقَّ اللفظُ الوصفَ بأنه فصيحٌ، عائدةٌ في الحقيقةِ إلى معناه. ولو قيل إنها تكونُ فيه، دونَ معناهُ لكان ينبغي إذا قلنا في اللفظة إنها فصيحةٌ أن تكونَ تلك الفصاحةُ واجبةً لها بكلِّ حالٍ. ومعلومٌ أن الأمْرَ بخلافِ ذلك؛ فإنَّا نَرى اللفظةَ تكونُ في غاية الفصاحةِ في موضعٍ ونَراها بِعَيْنِها، فيما لا يُحْصى من المواضِع، وليس فيه مِن الفصاحةِ قليلٌ ولا كثيرٌ، وإنما كان كذلك، لأن المزيَّةَ التي مِنْ أجْلها نَصِفُ اللفظَ في شأننا هذا بأنه فصيحٌ، مزيةٌ تَحْدثُ مِن بعْدِ أنْ لا تكونَ، وتظهرُ في الكَلِم من بَعْدِ أنْ يَدخُلَها النظْمُ؛ وهذا شيءٌ إن أنتَ طلَبْتَه فيها وقد جئْتَ بها أفراداً، لم تَرُمْ فيها نَظْماً، ولم تُحْدِث لها تأليفاً، طلبْتَ مُحالاً!


وإذا كان كذلك، وَجَبَ أن تعْلَمَ قَطْعاً وضرورةً، أنَّ تلك المزيةَ، في المعنى دونَ اللفظِ. وعبارةٌ أُخرى في هذا بعينِه وهي أن يُقال: قد علِمْنا عِلْماً لا تَعْترِضُ معَه شُبْهةٌ: أنَّ الفصاحةَ فيما نحنُ فيه، عبارةٌ عن مزيَّةٍ هي بالمتكلِّم دون واضِع اللغةِ. وإذا كان كذلك، فينبغي لنا أنْ ننظُرَ إلى المتكلم: هل يستطيعُ أن يَزيد مِنْ عنْدِ نفْسِه في اللفظ شيئاً، ليس هو له في اللغة، حتى يَجعَلَ ذلك من صَنيعِه مزيةً يُعبَّر عنها بالفصاحة؟ وإذا نظَرْنا وجَدْناه لا يستطيعُ أن يصْنَعَ باللفظِ شيئاً أصْلاً، ولا أنْ يُحْدِثَ فيه وصْفاً. وكيفَ وهو إن فَعَلَ ذلك أفسَدَ على نفسِه وأبطلَ أن يكونَ متكلِّماً، لأنه لا يكون متكلِّماً حتى يَسْتَعمِل أوضاعَ لغةٍ على ما وُضِعتْ هي عليه. وإذا ثبتَ من حالِه أنه لا يستطيعُ أن يَصْنع بالألفاظِ شيئاً ليس هو لها في اللغة، وكنَّا قد اجتمعْنا على أنَّ الفصاحةَ فيما نحن فيه عبارةٌ عن مزيةٍ هي بالمتكلِّم البتَّةَ، وجَبَ أن نَعْلَم قطْعاً وضرورةً، أنهم وإن كانوا قد جَعَلوا الفصاحةَ في ظاهرِ الاستعمالِ مِنْ صفةِ اللفظِ، فإنهم لم يَجْعلوها وصْفاً له في نفسه، ومِن حيثُ هو صدى صوتٍ ونطقُ لسانٍ؛ ولكنهم جَعلُوها عبارةً عن مزيةٍ أفادَها المتكلِّمُ، ولمَّا لم تَزِدْ إفادتُه في اللفظِ شيئاً، لم يَبْقَ إلاّ أنْ تَكونَ عبارةً عن مزيةٍ في المعنى.
وجملةُ الأمر أنَّا لا نُوجِبُ الفصاحَة لِلْفَظةٍ مقطوعةٍ مرفوعةٍ من الكلام الذي هي فيه، ولكنَّا نُوجِبُها لها موصولةً بغيرها، ومعلَّقاً معناها بمعنى ما يَليها، فإذا قلنا في لفظه "اشتعل" مِنْ قولِه تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأسُ شَيَبْاً} [مريم: 4]: إنها في أعلى المرتبةِ من الفصاحة، لم نُوجِبْ تلك الفصاحةَ لها وحَدْها، ولكِنْ موصولاً بها "الرأس" معرَّفاً (بالألف واللام) ومَقْروناً إليهما (الشيبُ) منكَّراً منصوباً.


هذا وإنما يقعُ ذلك في الوهم لِمَنْ يَقَعُ له - أعني أن تُوجَبَ الفصاحةُ للَّفظةِ وحدها - فيما كان استعارةً. فأمَّا ما خَلاَ من الاستعارةِ من الكلامِ الفصيح البليغ، فلا يَعْرِض توهُّمُ ذلك فيه لعاقلٍ أصْلاً. أفلا تَرَى أنه لا يقَعُ في نفس من يَعْقِلُ أدنى شيء إذا هو نظَرَ إلى قوله عزَّ وجلَّ {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العدو فاحذرهم} [المنافقون: 4]، وإلى إكبار الناس شأنَ هذه الآيةِ في الفصاحة أن يضَعَ يدَهُ على كلمةٍ كلمةٍ منها، فيقولَ إنها فصيحة؟ كيفَ وسبَبُ الفصاحةِ فيها أمورٌ لا يَشُكُّ عاقلٌ في أنها معنويَّةٌ: (أوَّلُها) أنْ كانت "على" فيها متعلقةً بمحذوفٍ في موضِع المفعول الثاني. (والثاني) أنْ كانت الجملةُ التي هي "هُم العدوُّ" بعْدَها عاريةً من حرفِ عطفٍ. (والثالث) التعريفُ في (العدوِّ) وأنْ لم يقل: هُمْ عدوٌّ. ولو أنك علَّقْتَ "على" بظاهرٍ، وأدخلْتَ على الجملة التي هي "هم العدوُّ" حرفَ عطْفٍ، وأسقطْتَ (الألف واللام) من "العدو"، فَقُلْتَ: (يحسَبُون كلَّ صيحةٍ واقعةً عليه، وهُمْ عدوٌّ): لرأيتَ الفصاحةَ قد ذهبَتْ عنها بأسْرها. ولو أنك أخْطَرْتَ ببالِكَ أنْ يكونَ "عليهم" متعلِّقاً بنَفْس الصيحة، ويكونَ حالُه معها كحالِه إذا قلت: (صحْتُ عليه): لأخرجْتَه عن أنْ يكون كلاماً، فضْلاً عن أن يكونَ فصيحاً. وهذا هو الفَيْصَلُ لِمَنْ عَقَلَ.
ومِنَ العجيب في هذا ما رُويَ: عن أمير المؤمنين عليِّ رضوانُ اللهُ عليه أنه قال (ما سَمِعتُ كلمةً عربيةً مِن العَربِ إلاَّ وسمعْتُها من رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)، وسمِعْتُه يقول "مات حتْفَ أنفِهِ". وما سمعتها من عَربيٍّ قبله. لا شُبْهَةَ في أنَّ وصْفَ اللفظِ بالعربيّ في مثْلِ هذا، يكون في معنى الوصْف بأنه فصيحٌ. وإذا كانَ الأمرُ كذلك، فانظُرْ: هل يَقَعُ في وهْم مُتوهِّم أنْ يكونَ رضيَ اللهُ عنه قد جعَلَها عربيةً مِنْ أجْل ألفاظِها؟ وإذا نظرْتَ لم تَشُكَّ في ذلك.


واعلمْ أنكَ تَجِدُ هؤلاء الذين يَشكُّون فيما قلْناهُ، تَجْري على ألسنتِهِمْ ألفاظٌ عباراتٌ لا يَصِحُّ لها معنى سِوى توخِّي معاني النحو وأحكامه فيما بَيْن معاني الكَلِم، ثم تَراهُمْ لا يَعْلَمون ذلك. فمِن ذلك ما يقولُه الناسُ قاطبةً من أنَّ العاقلَ يُرتِّبُ في نفسِه ما يُريد أن يَتكلَّم به. وإذا رجَعْنا إلى أنفُسِنا لم نَجِدْ لذلك معنىً سوى أنه يَقْصِدُ إلى قولِكَ (ضَرَبَ) فيجعله خبراً عن "زيدٍ" ويجعلُ الضرْبَ الذي أخْبَرَ بوقوعِه منه، واقعاً على (عمروٍ) ويجعلُ (يومَ الجمعةِ) زمانَه الذي وقَعَ فيه، ويجعَلُ (التأديب) غرَضَه الذي فعَل الضَرْبَ من أجْله، فيقولُ: (ضَرَبَ زيدٌ عَمراً يومَ الجمعةِ تأديباً له). وهذا كما تَرى هُو تَوخِّي معاني النحو فيما بين معاني هذه الكَلِم. ولو أنك فرضْتَ أنْ لا تتوخَّى في (ضرَب) أن تَجْعَلَه خبراً عن (زيد)، وفي (عمرو) أن تجعله مفعولاً به لـ ـ (ضَرَبَ)، وفي (يوم الجمعة) أن تَجْعله زماناً لهذا الضرْب، وفي التأديبِ أنْ تَجعله غَرَض (زيدٍ) من فعلٍ الضرب، ما تصوِّرَ في عقلٍ ولا وَقَع في وهم أن تكونَ مرتِّباً لهذه الكَلِم. وإذْ قد عرفْتَ ذلك، فهو العِبْرةُ في الكلام كلِّه؛ فمَنْ ظَنَّ ظناً يؤدي إلى خِلافِه، ظَنَّ، ما يخرُج به عن المعقول.
ومِنْ ذلك إثباتُهم التعلُّقَ والاتِّصالَ فيما بين الكَلِم وصواحبها تارةً، ونَفْيُهم لها أُخْرى. ومعلومٌ علْمَ الضرورةِ أنْ لن يُتصوَّرَ أن يكون لِلَّفظِةِ تعلُّقٌ بلفظةٍ أُخرى، من غَيْر أنْ تُعتَبَرَ حالُ معنى هذِهِ معنى تِلكَ، ويُراعى هناك أمرٌ يصل إحداهما بالأُخرى، كمراعاةِ كون "نَبْكِ" جواباً للأمر في قوله: (قِفَا نَبْكِ). وكيفَ بالشكِّ في ذلك؟ ولو كانت الألفاظُ يتَعلَّقُ بعضُها ببعضٍ من حيثُ هي ألفاظٌ ومع اطِّراح النظرِ في معانيها، لأدَّى ذلك أنْ يكون الناسُ حينَ ضَحِكوا مَّما يصنَعُه المُجَّانُ من قُرَّاءِ أنصافِ الكتب ضحكوا عن جهالة، وأن يكون أبو تمام قد أخطأ حين قال] من الكامل]:
عذلاً شَبيهاً بالجنونِ كأنما ... قرأتْ به الوَرْهاءُ شَطْرَ كتابِ
لأنهم لم يَضْحكوا إلاَّ من عَدمِ التعلُّقِ، ولم يجعلْهُ أبو تمام جنوناً إلاَّ لذلك، فانظرْ إلى ما يلزَمُ هؤلاءِ القومَ مِن طرائفِ الأمورِ!


فصل: بيان أنّ الفصاحة تدرك بالعقل لا بالسمع
وهذا فنٌّ من الاستدْلال لطيفٌ، على بُطْلانِ أنْ تكونَ الفصاحةُ صفةً لِلَّفظِ من حيثُ هو لفظٌ: لا تخلو الفصاحةُ من أنْ تَكون صفةً في اللفظ محسوسةً تُدركُ بالسمعِ، أو تكونَ صفةً فيه معقولةً تُعرَفُ بالقلبِ، فمحالٌ أن تكون صفةً في اللَّفظِ محسوسةً، لأنها لو كانت كذلكَ، لكان يَنبغي أن يستويَ السامعونَ لِلَّفظِ الفصيحِ في العلم بِكَوْنِه فَصيحاً؛ وإذا بَطل أنْ تكونَ محسوسةً، وجَبَ الحُكْمُ ضرورةً بأنها صفةٌ معقولةٌ، وإذا وجَبَ الحكْمُ بكَوْنها صفةً معقولةً. فإنَّا لا نَعرِفُ لِلَّفْظِ صفةً يكونُ طريقُ معرفَتِها العقلَ دون الحسِّ، إلاَّ دلالَتُه على معناه؛ وإذا كان كذلك، لَزِمَ منه العِلْمُ بأنَّ وصْفَنا اللَّفظ بالفصاحةِ وَصْفٌ له مِن جهة معناه لا من جهة نفسه. وهذا ما لا يَبْقى لِعاقلٍ معه عُذْرٌ في الشَّكِّ. واللهُ الموفِّقُ لِلصَّواب!


فصل: إثبات الفصاحة للفظ باعتبار معناه
وبيانٌ آخرُ، وهو أنَّ القارئ إذا قرأ قولَه تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيَبْاً} [مريم: 4] فإنَّه لا يَجِدُ الفصاحة التي يَجِدُها إلاَّ مِنْ بَعْد أن ينتهي الكلامُ إلى آخِرِه. فلو كانت الفصاحَةُ صِفَةً لِلَفْظِ "اشْتَعَلَ" لكانَ ينبغي أنْ يُحِسَّها القارئُ فيه، حالَ نُطْقِه به؛ فمُحالٌ أن تكون للشيءِ صفةٌ ثمَّ لا يَصِحُّ العِلْمُ بتلك الصفة إلاَّ مِنْ بَعْد عَدَمِهِ. ومَنْ ذا رأى صفةً يَعْرى موصوفُها عنها في حال وجودهِ، حتى إذا عُدِمَ صارتْ موجودة فيه؟ وهل سمِعَ السامعون في قديم الدهرِ وحديثهِ، بصفةٍ شرْطُ حصولِها لمَوْصوفِها، أن يُعْدَمَ الموصوف؟ فإنْ قالوا إنَّ الفصاحةَ التي ادَّعينا لِلَفْظِ "اشتعَل" تكونُ فيه في حالِ نُطْقنا به إلاَّ أنَّا لا نَعْلم في تلك الحال أنَّها فيه، فإذا بلَغْنا آخِرَ الكلام علِمْنا حينئذٍ أنها كانت فيه حين نُطْقِنا: قيل: هذا فنٌّ آخر من العَجَب وهو أن تكون ههنا صفةٌ "موجودة" في شيءٍ ثمَّ لا يكون في الإمكانِ ولا يَسَعُ في الجوازِ أنْ نَعْلَم وجودَ تلكَ الصفةِ في ذلك الشيءِ إلاَّ بعْدَ أن يُعْدَم ويكونَ العلمُ بها وبكوْنِها فيه محجوباً عنَّا حتى يُعْدَم، فإذا عُدِم عَلِمْنا حينئذٍ أنها كانتْ فيهِ حينَ كان.


ثم إنه لا شُبْهةَ في أنَّ هذه الفصاحةَ التي يَدَّعونها لِلَّفْظِ هي مُدَّعاةٌ لمجموعِ الكلمةِ دون آحادِ حروفِها، إذْ ليس يَبْلغُ بهم تهافُتُ الرأي إلى أَن يَدَّعوا لِكلِّ واحدٍ من حروفِ (اشتعلَ) فَصَاحةً، فَيَجْعَلُوا (الشِّين) على حِدَتهِ فَصيحاً، وكذلك (التاءُ والعينُ واللام)، وإذا كانت الفصاحةُ مدَّعاةً لِمَجموعِ الكلمةِ لم يُتصوَّرْ حصولُها لها إلاَّ من بعْدِ أن تُعْدَم كلُّها ويَنْقضي أمرُ النطْق بها. ذلك لأنه لا يُتصوَّر أن تدخُلَ الحروفُ بجملتها في النطقِ دفعةً واحدةً، حتى تُجعلَ الفصاحةُ موجودةً فيها في حال وجودها. وما بعْد هذا إلاَّ أن نسألَ الله تَعالى العصمةَ والتوفيق؛ فقد بلغَ الأمرُ في الشناعةِ إلى حدٍّ إذا انتَبَه العاقلُ لَفَّ رأسَهُ حياءً من العقلِ حين يراه قد قال قولاً هذا مؤدَّاه، وسلك مسْلكاً إلى هذا مُفْضاه. وما مَثَلُ مَنْ يَزعُمُ أنَّ الفصاحة صفةٌ لِلَّفْظِ من حيثُ هو لفظٌ، ونطْقُ لسانٍ يَزْعُم أنَّه يَدِّعيها لمجموعِ حُروفِه دونَ آحادِها، إلاَّ مثَلُ مَنْ يزعُمُ أنَّ ههنا غَزْلاً إذا نُسِجَ منه ثوبٌ كان أحْمَر وإذا فُرِّقَ ونُظر إليه خَيْطاً خيطاً لم تكنْ فيه حُمْرةٌ أصْلاً.
ومن طريف أمْرهِم، أنَّك تَرى كافَّتَهم لا يُنكِرون أنَّ اللفظَ المستعارَ، إذا كان فصيحاً، كانتْ فصاحتُه تلك، من أجْل استعارتهِ ومن أجْل لطفٍ وغرابةٍ كانا فيها؛ وتَراهم مع ذلك لا يَشُكُّون في أن الاستعارةَ لا تُحْدِثُ في حروف اللفظِ صفةً ولا تُغيِّرُ أجْراسَها عمَّا تكونُ عليه، إذا لم يكن مستعاراً وكان متروكاً على حقيقته، وأنَّ التأثيرَ من الاستعارةِ إنَّما يكونُ في المعنى. كيفَ وهُمْ يعتَقِدونَ أنَّ اللفظَ إذا استُعيرَ لِشيءٍ، نُقِلَ عن معناه الذي وُضع له بالكُلِّية، وإذا كان الأمرُ كذلك، فلولا إهمالُهُمْ أنفُسَهم وتركُهُم النظَرَ، لقد كان يكون في هذا ما يُوقِظُهم من غَفْلتِهم، ويَكْشِف الغِطاء عن أعينِهم.


فصل: عدم تعلق الفكر بمعاني الكلم مجردة من معاني النحو
ومما ينبغي أنْ يَعْلَمهُ الإنسان ويجعلَه على ذكرٍ، أنه لا يُتصوَّرُ أنْ يتعلَّقَ الفكْرُ بمعاني الكَلِم أفراداً ومجرَّدةً من معاني النحو؛ فلا يقومُ في وهْمٍ ولا يصِحُّ في عقْلٍ أنْ يتَفَكَّرَ مُتفكِّرٌ في معنى فعلٍ مِنْ غيرِ أن يُريدَ إعمالَه في اسْمٍ، ولا أن يتفكَّر في معنى اسْم من غَيْرِ أنْ يُريدَ إعمال فعلٍ فيه وجَعْلَه فاعلاً له أو مفَعولاً، أو يُريد منه حكْماً سوى ذلك من الأحكام، مثْلَ أن يُريدَ جَعْلَه مبتدأً أو خبراً أو صفةً أو حالاً أو ما شَاكَلَ ذلك. وإنْ أردْتَ أن تَرى ذلك عياناً، فاعْمَدْ إلى أيِّ كلامٍ شئْتَ وأزِلْ أجزاءَهُ عن مواضِعها، وضَعْها وضْعاً يَمْتَنِعُ معه دخولُ شيءٍ من معاني النحو فيها. فقل في:
قِفَا نَبْك مِنْ ذِكرى حبيبٍ ومَنْزِلِ
(مِنْ نَبْك قِفَا حبيبٍ ذكرى منزِلِ) ثم انظر هل يتعلَّقُ منكَ فكْرٌ، بمعنى كلمةٍ منها؟
واعلمْ أني لستُ أقول إن الفكْرَ لا يتعلَّق بمعاني الكَلِمِ المفردَةِ أصْلاً، ولكني أقولُ إنه لا يتعلَّقُ بها مجرَّدَةً من معاني النحْو ومنْطوقاً بها على وجهٍ لا يتأتَّى معه تقديرُ معاني النحو وتوخِّيها فيها، كالذي أرَيْتُكَ؛ وإلاًَّ فإنَّكَ إذا فكَّرْتَ في الفعلَيْنِ أو الاسْمَيْن تُريد أنْ تُخْبِرَ بأحَدِهما عن الشيء، أيُّهما أوْلى أن تُخْبَر به عنه، وأشْبَهُ بغَرَضِك، مثلَ أن تَنْظُر أيُّهما أَمدَحُ وأذَمُّ؟ وفكَّرْتَ في الشيئينِ تُريد أن تُشَبِّه الشيءَ بأحَدِهما: أيُّهما أشْبَهُ به؟ كنتَ قد فكَّرْت في معاني أَنفُسِ الكَلِم، إلاَّ أنَّ فكْرَكَ ذلك لم يكنْ إلا مِن بَعْد أنْ توخَّيْتَ فيها معنىً من معاني النحوِ، وهو إن أردْتَ جَعْلَ الاسمِ الذي فكَّرْتَ فيه خبراً عن شيءٍ أردتَ فيه مَدْحاً أو ذمّاً أو تشبيهاً أو غيرَ ذلك منَ الأغراض، ولم تَجِئ إلى فعلٍ أو اسم ففَكَّرْتَ فيه فرْداً ومِنْ غَيْر أنْ كان لكَ قَصْدٌ أن تَجْعلَه خبراً أو غيرَ خَبَرٍ، فاعرِفِ ذلَك!
وإنْ أردْتَ مثالاً فخُذْ بيتَ بشار [من الطويل]:
كأنّ مُثارَ النَّقْع فوْقَ رُؤُوسِنا ... وأسيافَنا ليلٌ تَهاوى كَواكِبُهْ


وانظُرْ هلْ يُتصوَّرُ أنْ يكونَ بشَّار قد أخْطَرَ معاني هذهِ الكَلمِ ببالِه أفرادا عاريةً من معاني النحوِ التي تراها فيها، وأن يكونَ قد وقَع "كأنَّ" في نَفْسه مِنْ غَير أن يكونَ قصَد إيقاعَ التشبيهِ منه على شيءٍ، وأنْ يَكون فكَّرَ في "مُثار النقعِ" مِنْ غَيْر أنْ يكونَ أرادَ إضافةَ الأول إلى الثاني، وفكَّرَ في "فوق رؤوسِنا" مِن غَيْر أنْ يكونَ قد أراد أن يُضيفَ "فوقَ" إلى الرؤوس، وفي (الأسيافِ) من دونِ أنْ يكونَ أرادَ عطْفَها بـ (الواو) على "مُثار" وفي (الواو) من دون أن يكون أرادَ العطْفَ بها، وأن يكون كذلك فكَّرَ في "الليل" من دون أن يكون أرادَ أنْ يَجعلَهُ خبراً لكأن، وفي "تَهاوى كَواكِبُه" من دونِ أن يكون أرادَ أن يَجْعَلَ "تهاوى" فعلاً للكواكبِ، ثم يَجْعَلَ الجملةَ صفةً لِلَّيلِ لِيَتِمَّ الذي أراد من التشبيه؟ أمْ لمْ تَخْطُر هذه الأشياءُ ببالِه إلاَّ مُراداً فيها هذهِ الأحكامُ والمعاني التي تَراها فيها؟
وليت شِعْري، كيفَ يُتصوَّر وُقوعُ قصدٍ منكَ إلى معنى كلمةٍ مِنْ دون أن تريد تَعْليقها بمعنى كلمة أخرى. ومعْنى القَصدِ إلى معاني الكَلِم أنْ تُعْلِمَ السامِعَ بها شيئاً لا يَعْلَمُه؟ ومعلومٌ أنَّكَ أيها المتكلمُ لستَ تقصد أن تُعْلِمَ السامعَ معاني الكَلِم المفردة التي تكلُمُه بها، فلا تقولُ: (خرج زيد): لِتُعْلِمَه معنى [خرَج] في اللغةَ ومعنى [زيدٌ]، كيف ومُحالٌ أن تُكَلِّمَه بألفاظٍ لا يعرف هو معانيها كما تعرف؟ لهذا لم يكنْ الفِعْلُ وحدَهُ مِن دون الاسم ولا الاسمُ وحدَه من دون اسم آخَرَ أوفعلٍ كلاماً، وكنتَ لو قلت "خرَج" ولم تأتِ باسمٍ ولا قدَّرْتَ فيه ضميرَ الشيء، أو قلْتَ: (زيد) ولم تَأْتِ بفعلٍ ولا اسْمٍ آخَرَ، ولم تُضْمِرْهُ في نفسك - كان ذلك، وصوتاً تصُوته سواءٌ، فاعرْفه!


واعلمْ أنَّ مَثلَ واضِعِ الكلام مثَلُ مَنْ يأخذُ قِطَعا من الذهبِ أو الفضةِ، فيُذيبُ بعضَها في بعضٍ حتى تَصير قطعةً واحدةً. وذلك أنك إذا قلتَ: (ضربَ زيدٌ عمراً يومَ الجمعةِ ضَرْباً شديداً تأديباً له)، فإنكَ تَحصُل من مجموعِ هذهِ الكَلِم كلِّها على مفهوم هو معنًى واحدٌ لا عدَّةُ معانٍ كما يتوهَّمُه الناس، وذلَك لأنك لم تَأْتِ بهذه الكَلِمِ لِتُفيدَهُ أنْفُسَ معانيها وإنما جئتَ بها لتُفيدَه وجوهَ التعلُّق التي بين الفعلِ الذي هو (ضرَب) وبين ما عُمِلَ فيه والأحكام التي هي محصولُ التعلُق. وإذا كان الأمرُ كذلك فيَنبغي لنا أن ننظرَ في المفعولية من (عَمروٍ) وكونٍ (يوم الجمعة) زماناً للضرب وكونِ الضرْب (ضرْباً شديداً) وكونِ (التأديبِ) علَّة للضرْب. أيُتصوَّر فيها أن تُفرَدَ عن المعنى الأول الذي هو أصل الفائدة، وهو إسنادُ (ضرَب) إلى (زيد) وإثباتُ الضرْب به له، حتى يُعْقَل كونُ عمروٍ مفعولاً به وكونُ يومِ الجمعةِ مفعولاً فيه، وكونُ "ضرْباً شديداً" مصدراً وكونُ (التأديب) مفعولاً له، من غير أن يَخْطُرَ ببالِكَ كونُ (زيدٍ) فاعلاً للضَّرْبِ؟ وإذا نَظَرْنا وجَدْنا ذلك لا يُتصوَّر، لأنَّ عَمْراً مفعولٌ لـ (ضَرَب) وقعَ مِن (زيد) عليه و (يومَ الجمعة) زمانٌ لضرْبٍ وقَع من (زيد) و "ضرباً شديداً" بيانٌ لذلك الضرْبِ. كيف هُو وما صِفتُه والتأديبُ علّةُ وبيانُ أنه كان الغرَضُ منه. وإذا كان ذلك كذلك، بانَ منه وثَبَتَ أنَّ المفهومَ من مجموع الكَلِم معنىً واحدٌ لا عِدَّةُ معانٍ، وهو إثباتُك زيداً فاعلاً ضَرْباً لعمروٍ في وقتِ كذا، وعلَى صِفَةِ كذا، ولغرضِ كذا؛ ولهذا المعنى تَقولُ إنه كلامٌ واحدٌ.


وإذْ قد عرَفْتَ هذا فهو العِبْرَةُ أبداً؛ فبيتُ بشار إذا تأَملْتَه، وجدْتَهُ كالحلقة المفْرَغَةِ التي لا تَقْبَلُ التقسيمَ، ورأيتَه قد صنع في الكَلِم التي فيه ما يَصْنَعُه الصانعُ حين يأخُذُ كِسَراً من الذَّهب فيُذِيبُها، ثمَّ يَصبُّها في قالبٍ ويُخرِجُها لكَ سِواراً أو خلْخالاً. وإنْ أنتَ حاوَلْتَ قَطْعَ بعضِ ألفاظِ البيتِ عن بعضٍ، كنْتَ كمَنْ يَكْسِرُ الحَلْقة ويَفْصِمُ السِّوارَ؛ وذلك أنه لم يُرِدْ أن يُشَبِّهَ النقْعَ بالليلِ على حِدَة، والأسيافَ بالكَواكِب عَلى حدَة، ولكنهُ أرادَ أن يُشَبِّه النقْعَ والأسيافُ تَجُولُ فيه، بالليل في حالِ ما تَنْكَدِرُ الكواكِبُ وتتهاوى فيه. فالمفهومُ من الجميع مفهومٌ واحد. والبيتُ مِن أوله إلى آخرِه، كلامٌ واحدٌ. فانظُرِ الآنَ ما تقولُ في اتحاد هذه الكَلِم التي هي أجزاءُ البيتِ: أتقولُ إنَّ ألفاظَها اتَّحدتْ فصارت لفظةً واحدةً، أمْ تقولُ إنَّ معانيَها اتَّحَدتْ فصارتْ الألفاظُ مِن أجْل ذلك، كأنَّها لفظةٌ واحدةٌ؟ فإن كنتَ لا تَشُكُّ أنَّ الاتحادَ الذي تَراه هو في المعاني، إذْ كان مِن فسادِ العقلِ ومِن الذَّهابِ في الخَبَل أنْ يتوهَّمَ مُتَوهِّمٌ أنَّ الألفاظَ يَندمِجُ بعضُها في بعضٍ حتى تصيرَ لفظةً واحدةً، فقد أراك ذلك إن لم تُكابِرْ عقْلَكَ - أَنَّ النظْمَ يكون في معاني الكَلِم دونَ ألفاظِها، وأنَّ نظْمَها هو تَوخِّي معاني النحوِ فيها. وذلك أنه إذا ثَبَتَ الاتحادُ وثَبَت أنَّهُ في المعاني، فَيَنْبغي أن تَنْظُرَ إلى الذي به اتَّحَدَتْ المعاني في بيت بشار؛ وإذا نظَرْنا لم نجدها اتَّحَدَتْ إلاَّ بأنْ جُعِلَ (مثارُ النقعِ) اسمَ كأَنَّ، وجُعلَ الظرفُ الذي هو "فوقَ رؤوسِنا" معمولاً لـ (مثار) ومعلَّقاً به، وأشرَكَ الأسيافَ في (كأنّ) بعطفه لها على "مثارِ"، ثم بأن قال: "ليلٌ تهاوى كواكِبُهْ": فأتى بالليلِ نكرةً وجعل جملة قوله: (تَهاوَى كواكِبُه): له صفةً. ثم جعل مجموع: (ليلٌ تهاوى كواكبُه) خبراً لكان.


فانظرْ هلْ ترى شيئاً كان الاتحادُ به غيرَ ما عدَّدْناه؟ وهل تَعرِفُ له مُوجِباً سواه؟ فلولا الإخلاد إلى الهُوَيْنا وتركُ النظرِ وغطاءٌ أُلقي على عيونِ أقوامٍ، لكانَ يَنبغي أنْ يكونَ في هذا وحدَهُ الكفايةَ وما فوق الكفايةِ، ونسألُ الله تعالى التوفيق!.
واعلمْ أنَّ الذي هو آفة هؤلاءِ الذين لَهَجُوا بالأباطيل في أمرِ اللفظِ، أنهم قومٌ قد أسلموا أنفُسَهم إلى التخيُّل، وألقوا مقادَتَهم إلى الأوْهام، حتى عدلتْ بِهم عن الصوابِ كلَّ معدلٍ، ودخلَتْ بِهم مِنْ فُحْشِ الغلَطِ في كل مدْخَلٍ، وتعسَّفَتْ بهم في كل مَجْهلٍ، وجعلَتْهم يرتَكِبونَ في نُصْرةِ رأيهم الفاسد القول بكل محال، ويقتحمون في كل جهالة، حتى إنك لو قلتَ لهم: إنه لا يتأتَّى للناظم نَظْمُه إلا بالفكر والروية، فإذا جعلتم النظْمَ في الألفاظ لَزِمَكُمْ من ذلك أن تجعلوا فكْرَ الإنسان إذا هو فكر في نظم الكلام فكْرا في الألفاظ التي يُريد أنْ يَنطِقَ بها دُونَ المعاني: لم يُبالوا أن يَرتَكِبوا ذلك وأن يتعلقوا فيه بما في العادة ومجرى الجِبِلَّة، منْ أنَّ الإنسان يُخيل إليه إذا هُو فكَّر أنه يسمعُها سماعَه لها حين يُخرِجُها مِنْ فيه، وحين يَجري بها اللسانُ. وهذا تجاهلٌ لأنَّ سبيلَ ذلك سبيلُ إنسانٍ يتخيَّل دائماً في الشيء قد رآه وشاهدَهُ، أنَّه كان يرَاه وينظُرُ إليه، وأنَّ مِثالَهُ نُصْبُ عَيْنه، فكَما لا يوجِبُ هذا أنْ يكونَ رائياً له، وأنْ يكُون الشيءُ موجوداً في نفسه، كذلك لا يكونُ تخيُّلُه أنه كان يَنْطِقُ بالألفاظِ مُوجِباً أنْ يكونَ ناطقاً بها، وأنْ تكونَ موجودةً في نفسه حتى يَجْعلَ ذلك سبباً إلى جعل الفِكْرِ فيها.


ثم إنا نَعْمل على أنه يَنْطِق بالألفاظ في نفْسِه، وأنه يَجِدُها فيها على الحقيقة. فَمِنْ أين لنا أنه إذا فكَّر، كان الفكْرُ منه فيها؟ أمْ ماذا يَرومُ - ليتَ شِعْري - بذلك الفِكْرِ، ومعْلومٌ أنَّ الفِكْرَ من الإنسانِ، يكونُ في أنْ يُخْبِرَ عن شيءٍ بشيء، أو يَصِفَ شيئاً بشيءٍ، أو يُضيف شيئاً إلى شيءٍ، أو يُشْرِكَ شيئاً في حكْم شيءٍ، أو يُخْرِجَ شيئاً من حكْمٍ قد سبَق منه لشيء أو يَجْعلَ وجُودَ شيءٍ شرطاً في وجود شيء، وعَلَى هذا السبيل؟ وهذا كلُّه فِكْرٌ في أمورٍ معلومة معقولة زائدة على اللفظ.
وإذْ كان هذا كذلكَ، لم يَخْلُ هذا الذي يُحْمَلُ في الألفاظَ فكْراً مِنْ أحَدِ أمرَيْن:
إمَّا أن يُخرجَ هذهِ المعانيَ مِنْ أنْ يكونَ لواضعِ الكلامِ فيها فكْرٌ، ويجعلَ الفِكْرَ كلَّه في الألفاظِ.
وإمَّا أن يَجعلَ له فكْرا في اللفظِ مفرداً عن الفكرْة في هذه المعاني، فإنْ ذَهب إلى الأوَّل لم يَكْلم، وإنْ ذهبَ إلى الثاني لزِمَه أن يُجوِّزَ وقوعَ فكْرٍ من الأعجميِّ الذي لا يعرِفُ معانيَ ألفاظِ العربية أصْلاً في الألفاظ؛ وذلك مما لا يَخْفى مكانُ الشنعةِ والفضيحةِ فيه.
وشبيهٌ بهذا التوهُّم منهم، إنك قد تَرى أحدَهم يَعْتَبِر حالَ السامع: فإذا رأى المعانيَ لا تترتَّبُ في نفسه إلاَّ بترتُّب الألفاظِ في سمعه، ظنَّ عندَ ذلك أنَّ المعاني تِبْعٌ للألفاظ، وأنَّ الترتُّبَ فيها مكتَسبٌ مِن الألفاظِ ومن ترتُّبها في نُطْق المتكلِّم. وهذا ظنٌّ فاسدٌ ممَّنْ يظنُّه، فإنَّ الاعتبارَ يَنبغي أن يكونَ بحالِ الواضعِ للكلامِ والمؤلِّف له؛ والواجِبُ أن يُنظرَ إلى حالِ المعاني معه لا مَعَ السامِع؛ وإذا نظَرْنا، عَلمْنا ضرورةَ أنه محالٌ أنْ يكونَ الترتُّبُ فيها تِبعاً لترتُّب الألفاظِ ومكُتَسباً عنه، لأنَّ ذلك يقتضي أنْ تكونَ الألفاظُ سابقةً للمعاني، وأن تَقَع في نفْسِ الإنسان أولاً، ثمَّ تقعُ المعاني مِنْ بَعْدها، وتاليةً لها بالعكْسِ ممَّا يَعْلَمُه كلُّ عاقلٍ إذا هو لم يُؤخذ عن نَفْسه، ولم يُضْرَبْ حِجابٌ بينه وبين عَقْلِه.


وليتَ شعري، هل كانت الألفاظُ إلاَّ مِن أجْل المعاني؟ وهل هي إلاَّ خَدمٌ لها، ومُصرَّفَةٌ على حكمها؟ أوَ ليستْ هي سماتٍ لها، وأوضاعاً قد وُضِعَتْ لِتَدُلَّ عليها؟ فكيف يُتصوَّرُ أن تَسْبِقَ المعانيَ وأن تتقَدَّمَها في تَصَوُّرِ النفسِ؟ إنْ جازَ ذلك، جازَ أن تكون أسامي الأشياءِ قد وُضِعَتْ قبْل أن عُرِفَتِ الأشياءُ وقَبْل أنْ كانتْ، وما أدري ما أقولُ في شيء يجرُّ الذاهبينَ إليه إلى أشباه هذا مِن فنونِ المُحال، ورديءِ الأحوال!
شبهة على كون النظم بحسب معاني النحو


وهذا سؤالٌ لهم من جنس آخر في النظْم - قالوا: لو كان النظْمُ يكونُ في معاني النحو، لكانَ البدويُّ الذي لم يسمع بالنحو قطُّ، ولم يَعرفِ المبتدأَ والخبرَ وشيئاً مما يذكُرونه، لا يتأتَّى له نظْمُ كلامٍ. وإنَّا لَنرَاه يأتي في كلامِهِ بِنَظْمٍ لا يُحْسنه المتقدِّمُ في علْم النحو: قيلَ: هذه شبهةٌ من جنس ما عرَضَ للذين عابوا المتكلِّمين فقالوا: إِنَّا نعْلم الصحابة رضيَ الله عنهم، والعلماءَ في الصدْرِ الأول، لم يكونوا يَعرفون الجوهَر والعرَضَ وصفةَ النفْس وصفةَ المعنى، وسائرَ العباراتِ التي وضعْتُموها؛ فإنْ كان لا تَتِمُّ الدلالةُ على حدوثِ العالَم والعِلْمِ بوحدانيَّة اللهِ إلا بمعرفَةِ هذه الأشياء التي ابتدأتُموها، فينَبغي لكم أن تدَّعوا أَنكم قد علِمتُم في ذلك ما لم يعْلَموه، وأنَّ منزلَتَكم في العِلْم أعلى من منازِلِهم. وجوابُنا هو مثْلُ جوابِ المتكلِّمينَ. وهو أَنّ الاعتبارَ: بمعرفةِ مدْلولِ العباراتِ لا بمعرفة العباراتِ: فإذا عرَفَ البدويُّ الفرْقَ بين أنْ يقولَ: (جاءني زيدٌ راكباً)، وبين قوله: (جاءني زيدٌ الراكبُ)، لم يَضُرَّهُ أنْ لا يعرفَ أَنه إذا قال: "راكباً" كانتْ عبارةُ النحويينَ فيهِ أن يقولوا في "راكب" إنَّه حالٌ؛ وإذا قال "الراكبُ" إنه صفةٌ جاريةٌ على (زيد). وإذا عرَف في قوله: (زيدٌ منطلقٌ): أَنَّ "زيداً" مُخْبَرٌ عنه، و "منطلق" خَبرٌ، لم يضرَّهُ أنْ لا يعلَمَ أنَّا نُسَمِّي "زيداً" مبتدأ. وإذا عرَفَ في قولنا: (ضربْتُه تأديباً له): أنَّ المعنى في (التأديب) أَنه غرَضُه من الضرب، وأن (ضرْبَه) ليتأدَّبَ، لم يضرَّه أنْ لا يَعْلَم أنَّا نسُمِّي (التأديبَ) مفعولاً له. ولو كان عدَمُ العِلْم بهذه العباراتِ يَمِنعهُ العلمَ بما وضعْناها له وأردناه بها، لكانَ يَنبغي أن لا يكونَ له سبيلٌ إلى بيانِ أَغراضِه، وأنْ لا يَفْصِلَ فيما يَتكلَّم به بين نفي وإثباتٍ، وبين "ما" إذا كان استفهاماً، وبينَه إذا كان بمعنى الذي، وإذا كان بمعنى المجازاة، لأنه لم يسْمَع عباراتِنا في الفرق بين هذه المعاني.


أَترى الأعرابيَّ حين سمِعَ المؤذِّن يقولُ: (أَشْهدُ أنَّ محمداً رسولَ اللهِ): (بالنصْب) فأنْكَر وقال: صنَعَ ماذا؟ أَنْكَر عن غَيْر علم أَنَّ (النصْب) يُخْرجه عن أن يكون خَبَراً ويجعلُه والأوَّلَ في حكْم اسم واحد، وأنه إذا صارَ والأوَّلَ في حكْم اسمٍ واحد احتيجَ إلى اسْمٍ آخر، أو فعْلٍ حتى يكون كلاماً، وحتى يكونَ قد ذكَر ماله فائدةٌ؟ إنْ كان لم يَعلَمْ ذلك، فلماذا قال: صنَعَ ماذا؟ فطلب ما يَجْعلُه خبَراً.
ويكفيك أَنه يَلزمُ على ما قالوه أنْ يكونَ امرؤ القيس حين قال:
قِفَا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ وَمنزلٍ
قاله وهو لا يَعْلم ما نعنيه بقولنا: إنَّ "قفا" أمُرٌ و "نَبكِ" جوابُ الأمر و "ذكرى" مضافٌ إلى "حبيب" "ومنزلِ" معطوفٌ على الحبيب، وأنْ تكونَ هذه الألفاظُ قد رُتِّبتْ له من غيرِ قَصْدٍ منه إلى هذه المعاني، وذلكَ يُوجِبُ أن يكونَ قال: (نبك) بالجزم، من غيرِ أن يكونَ عرَفَ معنىً يوجِبُ الجزمَ، وأتى به مؤخراً عن (قفا) من غير أن عرَف لتأخيره موجباً سوى طلب الوزنِ.
ومَنْ أفْضَتْ به الحالُ إلى أمثالِ هذه الشناعاتِ ثم لم يَرْتدِعْ ولم يتبيَّنْ أنه على خَطأٍ، فليس إلا ترْكُهُ والإعراضُ عنه.
ولولا أنَّا نُحِبُّ أنْ لا يَنْبِسَ أَحدٌ في معنى السؤالِ والاعتراض بحَرْفٍ، إلاَّ أَريناه الذي استَهْواه، لكان تَرْكُ التشاغل بإيرادِ هذا وشبَههِ أَوْلى؛ ذاك لأنَّا قد علِمْنا علْمَ ضرورةٍ أنَّا لو بَقِينا الدهرَ الأَطْوَلَ نُصَعِّدُ ونصوِّبُ ونَبْحثُ ونُنقِّبُ، نبتغي كلمةً قد اتصلتْ بصاحبةٍ لها، ولفظةً قد انتظَمَتْ معَ أختها، من غير أَنْ نتوخَّى فيما بينهما معنىً من معاني النحو، طلَبْنَا ممتنِعاً، وثَنيْنا مَطايا الفكْرِ ظُلَّعاً. فإن كان ههنا مَنْ يَشُكُّ في ذلك ويزعُم أنه قد علِمَ لاتصال الكَلِم بعضها ببعض، وانتظامِ الألفاظِ بعضِها مع بعضٍ، معانيَ غيرَ معاني النحو، فإنَّا نقولُ: هاتِ فبَيِّنْ لنا تلكَ المعاني وأَرِنا مكانَها واهْدِنا لَها، فلعلَّكَ قد أُوتيتَ عِلْماً قد حُجِبَ عنَّا، وفُتِحَ لك بابٌ قد أُغلقَ دُوننا [من الوافر]:
وذاكَ له إذا العنقاءُ صارتْ ... مُرَبَّبَةً وَشَبَّ ابْنُ الْخِصِيِّ


فصل: كشف شبهة أخرى للقائلين بأنّ الفصاحة للألفاظ
قد أردتُ أن أُعيدَ القولَ في شيءٍ هو أصْل الفَسادِ، ومُعْظمُ الآفةِ، والذي صار حجازاً بين القوم وبَيْنَ التأمل، وأخذَ بهم عن طريق النَّظَرِ، حال بينهُم وبينَ أنْ يُصْغُوا إلى ما يقاَلُ لهم، وأنْ يفتحوا للذي تُبيَّنُ أعينُهم؛ وذلك قولهُم: إنَّ العقلاء قدِ اتَّفقوا على أنَّه يصِحُّ أنْ يُعبَّر عن المعنى الواحدِ بلفظَينْ، ثم يكونُ أحدُهما فصيحاً والآخرُ غيرَ فصيحٍ: وذلك - قالوا - يقتضي أن يكونَ لِلَّفظِ نصيبٌ في المزيَّة، لأنها لو كانت مقصورةً على المعنى لَكان مُحالاً أَنْ يُجعَلَ لأحدِ اللفظَيْنِ فضْلٌ على الآخَر، مع أَنَّ المعبَّرَ عنه واحد. وهذا شيءٌ تَراهُم يُعْجَبون به ويُكثرون تَرْدادَه، مع أَنهم يؤكَّدونه فيقولون: لولا أَنَّ الأمرَ كذلك، لكانَ يَنْبغي أنْ لا يكون للبيتِ من الشِّعْر فَضْلٌ على تفسير المفسِّر له، لأنه إن كان اللفظُ إنما يَشْرُفُ مِن أجْل معناه، فإنَّ لفظ المفسِّر يأتي على المعنى ويُؤدِّيه لا محالةَ؛ إِذْ لو كان لا يُؤدِّيه لكان لا يكونُ تفسيراً له - ثم يقولون - وإذا لزِمَ ذلكَ في تفسيرِ البيتِ من الشِّعْر، لَزمَ مثْلُه في الآيةِ مِنَ القرآنِ: وهُم إذا انتَهَوْا في الحِجَاج إلى هذا الموضِع، ظَنُّوا أنهم قد أَتَوْا بما لا يجوزُ أن يُسْمَعَ عليهم معَه لِعِلَّةِ كلامٍ، وأَنه نَقْضٌ ليس بعْدَه إبرامٌ؛ وربما أَخْرجَهُمُ الإعجابُ به إلى الضَّحكِ والتعجُّبِ ممَّنْ يَرى أَنَّ إِلى الكلام عليه سبيلاً، وأنْ يَسْتطيعَ أنْ يُقيمَ على بُطْلانِ ما قالوه دليلاً.
والجوابُ وبالله التوفيق، أنْ يُقالَ للمحتجِّ بذلك: قولُك: إنه يَصِحُّ أنْ يُعبَّر عن المعنى الواحدِ بلفظَيْن، يَحْتمِلُ أمرَيْن:
أحدهما أَن تُريدَ باللفظَيْن كَلِمتَيْنِ مَعْناهُما واحِدٌ في اللغة، مثْلُ (الليث والأَسد) ومثْلُ (شحَطَ وبَعُد) وأشباهٍ ذلك ممَّا وُضِع اللفظان فيه لِمعْنى.


والثاني أن تُريد كلامَيْن. فإنْ أردْتَ الأَوَّلَ، خرجْتَ من المسأَلة، لأنَّ كلامَنا نحْنُ في فصاحة تَحْدُثُ مِن بَعْد التأليفِ دون الفصاحة التي تُوصَفُ بها اللفظةُ مفردةً ومن غير أن يُعْتَبر حالُها مع غيرها؛ وإنْ أردْتَ الثاني، ولا بدَّ لك مِنْ أَنْ تُريده، فإنَّ ههنا أصْلاً: مَنْ عَرَفَهُ عَرَف سقوطَ هذا الاعتراض، وهو أنْ يَعْلَم أنَّ سبيلَ المعاني سَبيلُ أَشكالِ الحُليِّ: كالخاتَم والشَّنْفِ والسِّوار؛ فكما أَنَّ مِنْ شأْنِ هذه الأشكالِ أن يكون الواحدُ منها غُفْلاً ساذَجاً لم يَعْملأ صانِعُه فيه شيئاً أكثرَ من أنْ يأتيَ بما يَقْعُ عليه اسْمُ الخاتَمِ إن كان خاتماً، والشَّنْفِ إن كان شَنْفاً، وأن يكونَ مصنوعاً بديعاً قد أَغْرَب صانعُه فيه، كذلك سبيلُ المعاني أن تَرى الواحدَ منها غُفْلاً ساذجاً عامياً موجوداً في كلام الناس كُلِّهمِ ثم تَراه نفْسَه وقد عَمَد إليه البَصيرُ بشأنِ البلاغةِ وإحداث الصُّوَرِ في المعاني، فيَصْنَعُ فيه ما يَصْنَع الصَّنَعُ الحاذقُ، حتى يُغْرِبَ في الصنعةِ ويُدِقَّ في العمل ويُبْدِعَ في الصياغَة؛ وشواهدُ ذلك حاضِرةٌ لك كيفَ شئْتَ؛ وأَمْثلتُه نُصْبُ عينيك من أينَ نظَرْتَ، تنظر إلى قول الناس: الطبْعُ لا يتَغيَّرُ ولسْتَ تَسْتطيعُ أَنّ تُخْرِجَ الإنسانَ عمَّا جُبِلَ عليه؛ فترَى معنى غُفَلاً عامياً معروفاً في كل جيل وأمه، ثم تنظر إليه في قول المتنبي [من المتقارب]:
يُرادُ مِنَ القلبِ نِسْيانُكُمْ ... وتأبى الطباعُ على الناقِلِ
فتَجدُه قد خَرجَ في أحْسَنِ صورة، وترَاه قد تَحوَّلَ جوهرةً بعد أنْ كانَ خَرْزةً، وصار أعجبَ شيء بعد أنْ لم يكُنْ شيئاً.
وإذْ قد عرَفْتَ ذلك، فإن العقلاء إلى هذا قصَدُوا حين قالوا: إنه يَصِحُّ أنْ يُعبَّر عن المعنى الواحد بلفظَيْن، ثم يكونَ أحدُهُما فصيحاً والآخرُ غيرَ فَصيح: كأنهم قالوا إنه يصِحُّ أَنْ تكون هاهنا عبارتان أَصْلُ المعنى فيهما واحدٌ ثم يكونُ لإِحداهما في تحسين ذلكَ المعنى وتَزْيينهِ وإِحداثِ خصوصيةٍ فيه، تأثيرٌ لا يكونُ للأُِخْرى.


واعلمْ أَن المخالِفَ لا يَخْلو مِنْ أنْ يُنْكِر أنْ يكونَ لِلمعنى في إحدى العبارتَيْن حسْنٌ ومزيةٌ لا يكونان له في الأخرى. وأنْ تَحْدُثَ فيه على الجملةِ صورةٌ لم تكُن أو يُعْرف ذلك. فإنْ أَنكرَ، لم يُكلم، لأنه يؤديه إلى أن لا يَجْعَل لِلمعنى في قوله:
وتأبى الطباعُ على الناقل
مزيةٌ على الذي يُعقَل من قولهم: الطبعُ لا يتغيَّر ولا يَستطيعُ أنْ يُخرجَ الإنسانَ عما جُبِل عليه: وأنْ لا يُرى لِقولِ أبي نواس: [من السريع]:
ليسَ على الله بمستنكَرٍ ... أَنْ يَجْمعَ العالَم في واحدِ
مزيةٌ على أن يُقال: غيرُ بديع في قدرةِ اللهِ تَعالى أن يَجْمعَ فضائِلَ الخَلْقِ كلَّهم في رجُلٍ واحدٍ. ومَن أَدَّاهُ قولٌ يقولُه إلى مثْلِ هذا، وكان الكلامُ معه مُحالاً؛ وكنتَ إِذا كلَّفْتَه أَنْ يَعْرِفَ، كَمَنْ يُكَلَّفُ أن يُميِّز بحوَر الشعرِ بعضِها من بعضٍ، فيَعْرفَ المديدَ من الطويلِ والبسيطَ من السريع مَنْ ليس له ذوقٌ يُقيمُ به الشِّعْرَ مِن أَصْلِه؛ وإِنْ اعترفَ بأَنَّ ذلك يكون، قلنا له: أَخْبِرْنا عنكَ أَتقولُ في قوله:
وتأبى الطباعُ على الناقلِ
إنَّهُ غايةٌ في الفصاحة؟ فإذا قال: نعم! قيلَ له: أفكانَ كذلك عندكَ من أجْلِ حروفِه، أمْ من أجْلِ حُسْنٍ ومزيةٍ حَصَلا في المعنى؟ فإن قال: مِنْ أَجْل حُروفه: دخلَ في الهذيان، وإن قال: من أجل حُسْنٍ ومزيّةٍ حصَلا في المعنى: قيل له: فذاكَ ما أَردْناكَ عليه، حين قلْنا إن اللفظ يكون فَصيحاً من أجْل مزيةٍ تقع في معناه، لا مِنْ أجْل جَرْسِه وصَداه.
دلالة مراتب التشبيه على أن الفصاحة والبلاغة للمعاني


واعلمْ أنه ليس شيءٌ أبْيَن وأوْضَحَ وأَحْرى أن يَكْشِفَ الشبهةَ عن متأمِّلهِ في صحَّةِ ما قلناه مِن التشبيهِ. فإنكَ تقولُ: (زيدٌ كالأسَدِ أو مثلَ الأسدِ أَوْ شبيهٌ بالأسدِ): فتجدُ ذلكَ كلَّه تشبيهاً غُفْلاً ساذَجاً. ثم تقولُ: (كأنَّ زيداً الأَسَدُ): فيكونُ تشبيهاً أيضاً، إلاَّ أَنك تَرى بَيْنَه وبينَ الأولِ بَوْناً بعيداً، لأنك تَرى له صورةً خاصةً، وتَجِدُكَ قد فخَّمْتَ المعنى وزدْتَ فيه، بإنْ أفدْتَ أَنه مِن الشجاعةِ وشدةِ البطْشِ وأَنَّ قلْبَه قلبٌ لا يُخامِرُه الذعْرُ ولا يَدخلُه الروْعُ بحيثُ يتوهَّم أَنه الأَسَدُ بعينه. ثم تقول: لَئنْ لقِيتَهُ لَيَلْقَينَّكَ منه الأَسَدُ؛ فتَجدُه قد أفادَ هذه المبالغةَ لكنْ في صورةٍ أحْسَنَ وصِفَةٍ أخَصَّ؛ وذلك أَنك تَجْعَلهُ في "كأن" يتوهَّم أَنه الأسَدُ، وتَجعلُه هاهنا، يُرى منه الأسدُ على القطع، فيَخرُجُ الأَمرُ عن حدِّ التوهُّم إِلى حدِ اليقينِ. ثم إن نظرْتَ إلى قوله [من الطويل]:
أَإِن أُرعِشَتْ كفَّا أبيكَ وأصْبَحَتْ ... يداكَ يدَيْ لَيْثٍ فإنَّكَ غالِبُهْ
وجدَتهُ قد بَدا لكَ في صورةٍ أنقَ وأحْسَنَ. ثم إن نظرْتَ إلى قولِ أرطاة بن سُهَيَّة [من البسيط]:
إنْ تَلْقَني لا تَرى غيري بِنَاظرةٍ ... تنسَ السِّلاحَ وتعْرِفْ جبهةَ الأَسدِ
وجدْتَه قد فضَلَ الجميعَ، ورأيتَه قد أُخْرِجَ في صورةٍ غيرِ تلكَ الصورِ كلِّها.


واعلمْ أَنَّ من الباطلِ والمُحالِ، ما يَعْلمُ الإنسانُ بُطلانَه واستحالتَه بالرجوعِ إلى النفْس حتى لا يَشُكّ؛ ثم إنه إذا أرادَ بيانَ ما يجِدُ في نفْسِه والدلالةِ عليه، رأَى المَسْلكَ إليه يَغْمُضُ ويَدِقُّ. وهذه الشبهةُ - أعني قولهم: إنه لو كان يجُوزُ أنْ يكونَ الأمرُ على خلاف ما قالوه مِن أَنَّ الفصاحةَ وصْفٌ لِلَّفظِ مِنْ حيثُ هو لفظٌ، لكان يَنبغي أَنْ لا يكونَ للبيت من الشعر فضْلٌ على تَفسير المفسِّر إلى آخره - من ذاك، وقد علقتْ لذلك بالنفوس وقَويتْ فيها حتى إنَّكَ لا تلقى إلى أَحدٍ من المتعلِّقين بأمرِ اللفظ كلمةً مما نحنُ فيه إلاَّ كان هذا أوَّلَ كلامهِ، وإِلاَّ عَجِبَ وقال: إن التفسيرَ بيانٌ للمفسَّر فلا يجوز أن يبَقى مِنْ معنى المفسَّر شيءٌ لا يؤديه التفسيرُ ولا يأتي عليه، لأن في تجويز ذلك القولِ بالمُحالِ وهو أن لا يزال يَبْقى مِن معنى المفسَّرِ شيءٌ لا يَكونُ إلى العلم به سبيلٌ. وإذا كان الأمرُ كذلك، ثبَتَ أنَّ الصحيحَ ما قلْناه من أنه لا يجوزُ أن يكونَ لِلَّفظِ المفسَّر فضْلٌ من حيث المعنى على لفظِ التفسيرِ، وإذا لم يَجُزْ أنْ يكونَ الفضلُ من حيثُ المعنى، لم يَبْقَ إلاَّ أنْ يكون من حيثُ اللفَظُ نفسُه: فهذا جملةُ ما يمكِنهُم أنْ يقولوه في نُصْرة هذه الشبهةِ قد استقصيْتُه لكَ؛ وإذ قد عرفْتَه فاسمَعِ الجوابَ، وإلى اللهِ تعالى الرغبةُ في التوفيق للصواب!
رد شبهتهم لو كانت الفصاحة للمعاني لكان التفسير كالمفسَّر
إعلمْ أنَّ قولهم: إنَّ التفسيرَ يجبُ أنْ يكون كالمفسَّر: دعوى لا تَصِحُّ لَهم إلاَّ مِن بعْدِ أنْ يُنْكِروا الذي بيَّناه مِنْ أَنَّ مِن شأْن المعاني أنْ تختلفَ بها الصورُ، ويَدْفعوه أصلاً حتى يدَّعوا أنه لا فرْقَ بين الكنايةِ والتصريح، وأنَّ حالَ المعنى مع الاستعارةِ كحاله مع تَرْك الاستعارة، وحتى يُبْطلوا ما أَطْبَقَ عليه العقلاءُ مِن أنَّ المجازَ يكونُ أبداً أبلغَ من الحقيقة، فَيْزعموا أنَّ قولنا: (طويلُ النِّجادِ وطويلُ القامةِ): واحد، وأنَّ حال المعنى في بيت ابْنِ هَرْمَة [من المنسرح]:
ولا أبتاعُ إلا قريبةَ الأجَلِ


كحالهِ في قولك: (أنا مضياف). وأَنَّك إذا قلتَ: (رأيتُ أسداً): لم يكنِ الأمرُ أقوى من أَنْ تقولَ: (رأيتُ رجلاً هو من الشجاعة بحيثُ لا ينقصُ عن الأَسد). ولم تكنْ قدَّرتَ في المعنى بأنِ ادَّعيتَ له أنَّه أسَدٌ بالحقيقة ولا بالغْت فيه؛ وحتى يَزْعمُوا أنه لا فضلَ ولا مزيةَ لقولهم: (أَلقيتُ حَبْلَه على غارِبِه): على قولك في تفسيره: (خلَّيتُهُ وما يريدُ وتركْتُه يفَعلُ ما يشاءُ). وحتى لا يَجعلوا لِلمعنى في قوله تعالى: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل} [البقرة: 93] مزيةً على أن يقال: (اشتدَّتْ محبتُهم للعجْلِ وغلَبَتْ على قلوبهم)، وأن تكونَ صورةُ المعنى في قوله عزَّ وجل {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] صورتَه في قول من يقول: (وشابَ رأسي كلُّه وأبيضَّ رأْسي كلُّه)، وحتى لا يَرَوْا فرْقاً بين قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] وبين: (فما رَبِحوا في تجارَتِهم)، وحتى يَرْتكبوا جميعَ ما أرَيْناك الشَّناعةَ فيه، من أنْ لا يكونَ فرْقٌ بين قول المتنبي:
وتأبى الطباعُ على الناقلِ
وبين قولهم: (إنك لا تَقدِرُ أن تغيِّر طبَاعَ الإنسان)، ويَجْعلوا حالَ المعنى في قول أبي نواس [من السريع]:
ليسَ على اللهِ بمستنكَرٍ ... أنْ يَجْمَع العالَمَ في واحدِ


كحالهِ في قولِنا: (إنه ليس ببديع في قُدْرة اللهِ أن يَجْمع فضائلَ الخَلْقِ كلِّهم في واحد)، ويرتكبوا ذلك في الكلام كلِّه حتى يَزْعموا أنَّا إذا قلْنا، في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} [البقرة: 179]: إنَّ المعنى فيها أنه لمَّا كان الإنسانُ إذا هَمَّ بقَتْلِ آخَر لِشيءٍ غاظَهُ منه، فذَكَر أَنَّه إنْ قَتَله قُتِلَ، ارتَدَعَ، صار المهمومُ بِقَتْله، كأنه قد استفادَ حياةً فيما يَسْتَقبِلُ بالقِصاص، كنا قد أَدَّينا في تفسيرنا هذا على صورته التي هو عليها في الآية، حتى لا نَعرفَ فضْلاً، وحتى يكونَ حالُ الآية والتفسيرِ حالَ اللفظتين: إحداهما غريبةٌ والأخرى مشهورة، فتُفَسَّر الغريبةُ المشهورة، مثْلَ أن تقولَ مثَلاً في "الشوقب" إنه: الطويلُ، وفي "القطَّ" إنه: الكِتاب، وفي "الدُسُّرِ" إنه المَسامير. ومَنْ صارَ الأمرُ به إلى هذا، كان الكلامُ معه مُحالاً.
واعلمْ أَنه ليسَ عَجيبٌ أعجبَ مِن حالِ مَن يَرى كلامَيْن، أجزاءُ أحَدِهما مخالِفةٌ في معانيها لأجزاءِ الآخَر، ثم يَرى أنه يَسَعُ في العقْلِ أن يكونَ معنى أحَدِ الكلامَيْن مثْلَ معنى الآخر سواءٌ، حتى يَتصدَّى فيقولُ: إنه لو كان يكونُ الكلامُ فَصيحاً مِن أجْل مزيَّةٍ تكونُ في معناه، لكانَ يَنبغي أَن تُوجَد تلكَ المزيةُ في تفسيره. ومثْلُه في العَجَب أنه يَنظُرُ إلى قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] فيرَى إعرابَ الاسْم الذي هو "التجارة" قد تغيَّر، فصارَ مرفوعاً بعد أن كان مجروراً، ويرَى أنه قد حُذِفَ من اللفظ بعضُ ما كان فيهِ وهو "الواو" في "ربحوا" و"في" من قولنا: (في تجارتهم). ثم لا نَعلم أنَّ ذلك يَقْتضي أن يكونَ المعنى قد تَغيَّر كما تغيَّر اللفظُ.
واعلمْ أَنه ليسَ للحِجَجِ والدلائل في صحَّةِ ما نحن عليه، حَدٍّ ونهايةٌ. وكلَّما انتهى منه بابٌ انفتَحَ فيه بابٌ آخر. وقد أردتُ أن آخذ في نوعٍ آخر من الحِجَاج ومن البَسْط والشرح، فتأملْ ما أكْتبُه لك!.
بيان الفصاحة في اللفظ والفصاحة في النظم


إعلمْ أَنَّ الكلامَ الفصيحَ ينقسمُ قسمين: قسمٌ تُعزى المزيةُ والحسْنُ فيه إلى اللفظِ، وقسمٌ يُعْزَى ذلكَ فيه إلى النظْم.
فالقسم الأول: الكناية والاستعارة والتمثيل الكائن على حَدِّ الاستعارة، وكلُّ ما كان فيه على الجملةِ مَجازٌ واتساعٌ وعُدُولٌ باللفظ عن الظاهر. فما مِنْ ضَرْبٍ من هذه الضُّروب إلاَّ وهو إذا وقَعَ على الصواب وعلى ما يَنْبغي، أوْجَبَ الفضْلَ والمزيَّةَ. فإذا قلتَ: (هو كثيرُ رمادِ القدْر)، كان له موقِعٌ وحظٌّ من القَبول، لا يكون إذا قلتَ: (هو كثير القِرى والضِّيافة). وكذا إذا قلتَ: (هو طويل النِّجاد)، كان له تأثيرٌ في النفس لا يكون إذا قلتَ: (هو طويلُ القامة). وكذا إذا قلتَ: (رأيتُ أسداً)، كان له مزيةٌ لا تكونُ إذا قلتَ: (رأيتُ رجلاً يُشبهُ الأسدَ ويُساويه في الشجاعة). وكذلك إذا قلتَ: (أراك تُقَدِّمُ رِجْلاً وتؤخِّرُ أخرى). كان له موقعٌ لا يكون إذا قلتَ: أراكَ تتردَّدُ في الذي دعوتُكَ إليه، كمَنْ يقولُ: أخرُجُ ولا أخرج فيُقدِّم رجْلاً ويؤخِّر أُخرى). وكذلك إِذا قلتَ: (أَلقى حبْلَه على غاربه)، كان له مأخَذٌ من القَلْب لا يكونُ إذا قلتَ: (هو كالبعير الذي يُلْقَى حَبْلُه على غاربة، حتى يَرْعى كيْفَ يشاءُ ويذهَبَ حيثُ يُريد). لا يَجْهَلُ المزيةَ فيه إلاَّ عديمُ الحِسِّ، ميِّتُ النَّفْس، وإلاَّ مَنْ لا يكلَم، لأنه مِن مَبادىء المعرفةِ التي مَن عَدِمَها لم يَكنْ للكلام معه معنى.
فصاحة الكناية عقلية أو معنوية لا لفظية


وإذْ قد عرفْتَ هذه الجملةَ، فينبغي أنْ تَنْظرَ إلى هذه المعاني واحداً، وتعْرِفَ مَحْصولَها وحقائقَها، وأن تَنظُرَ أولاً إِلى الكناية. وإذا نظرْتَ إليها وجدْتَ حقيقتهَا ومحْصولَ أمرِها أَنها إثباتٌ لِمعنىً أنتَ تَعْرِفُ ذلك المعنى مِنْ طريق المعقولِ دون طَريق اللفظ. ألاَ ترى أَنكَ لَمَّا نظرْتَ إلى قولهم: (هو كثيرُ رَمادِ القِدْر)، وعرفْتَ منه إنهم أرادوا أَنه كثيرُ القِرى والضيافة، لم تعرِفْ ذلك مِنَ اللفظِ، ولكنَّك عرفْتَه بأن رجَعْتَ إلى نَفْسك فقلتَ: إنه كلامٌ قد جاء عنهم في المدح، ولا معنى للمدح بكَثرْة الرماد على أَنه تُنْصَبُ له القدورُ الكثيرةُ ويُطْبخ فيها للقِرى والضيافةِ، وذلك لأَنه إذا كَثُرَ الطبخُ في القدورِ كثُرَ إحراقُ الحطَبِ تحتها، وإِذا كثُرَ إحراق الحطَبِ كَثُرَ الرمادُ لا محالة. وهكذا السبيلُ في كل ما كانَ كنايةً. فليسَ مِنْ لَفْظِ الشعر. عرفْتَ أنَّ ابْنَ هَرْمة أرادَ بقوله:
ولا أبتاعُ إلا قريبةَ الأجَلِ
التمدُّحَ بأنه مضيافٌ، ولكنك عرفْتَه بالنَّظرِ اللطيفِ وبأنْ علِمْتَ أنه لا معنى للتمدُّح بِظاهرِ ما يَدُلُّ عليه اللفظُ من قُرْبِ أجَلِ ما يَشْتريهِ، فطلبْتَ له تأويلاً، فعلمْتَ أَنه أرادَ أنه يَشْتري ما يَشْتريهِ للأضياف، فإذا أشترى شاةً أو بعيراً كان قد اشترى ما قد دَنا أَجَلُه لأنه يُذْبَحُ ويُنْحَر عن قَريبٍ.
الفصاحة في الاستعارة عقلية أو معنوية لا لفظية


وإذْ قد عرفْتَ هذا في الكناية، فالاستعارةُ في هذه القضية. وذاكَ أنَّ موضوعَها، على أنك تُثْبِتُ بها معنى لا يَعْرِفُ السامعُ ذلكَ المعنى من اللفظِ، ولكنَّه يَعرفُه من معنى اللفظِ. بَيانُ هذا أَنَّا نَعْلم أَنَّك لا تقولُ: (رأيتُ أسداً)، إلا وغَرضُكَ أَن تُثْبِتَ للرجُل أَنه مساوٍ للأَسد في شجاعته، وجُرْأته، وشدَّة بطْشه، وإقدامه، وفي أنَّ الذعْرَ لا يُخامرُه، والخوفَ لا يَعرِضُ له. ثم تَعْلم أَنَّ السامعَ إذا عَقَل هذا المعنى، لم يَعقِلْه من لفظِ "أسَد" ولكنَّه يَعقِلُه من معناه، وهو أنه يَعْلم أَنه لا معنى لجعله "أسداً" مع العلم بأنه رجُل، إلاَّ أنك أردْتَ أنه بلغَ من شدة مُشابَهتِه للأَسد ومساواتِه مبْلغاً يُتَوهَّم معه أَنه أَسدٌ بالحقيقة، فاعرفْ هذه الجملةَ وأحْسِنْ تأمُّلَها!
واعلمْ أَنكَ تَرى الناسَ وكأنهم يرَوْن أَنك إذا قلتَ: (رأيت أسداً)، وأنتَ تُريد التشبيهَ كنتَ نقلْتَ لفْظَ "أسد" عما وُضع له في اللغة، واستعملْتَه في معنى غيرِ معناه، حتى كأنْ ليس الاستعارةُ إلاَّ أن تَعْمدَ إلى اسْم الشيءِ فتجعلَه اسماً لشبيهه، وحتى كأنّْ لا فصْلَ بين الاستعارةِ وبينَ تسميةِ المطرِ سماءً، والنبتِ غيثاً، والمزادةِ رواية، وأشباهِ ذلك ممَّا يوقَع فيه اسمُ الشيءِ على ما هو منه بسبَبٍ. ويَذْهبون عمَّا هو مركوزٌ في الطباع من أنَّ المعنى فيها المبالَغةُ، وأَنْ يُدَّعى في الرجُل أَنه ليسَ برجُل ولكنه أَسدٌ بالحقيقة، وأَنه إنما يُعار اللفظُ مِنْ بعد أنْ يعارَ المعنى، وأَنه لا يُشْرَكُ في اسم الأسدِ إلاَّ من بَعْد أن يُدْخَل في جنس الأَسدِ. لا تَرى أحداً يَعْقِل إِلاَّ وهُو يَعْرفِ ذَلك إذا رجَعَ إلى نفسه أدنى رُجوعٍ.
تحقيق معنى الاستعارة وكونها أبلغ من الحقيقة


ومِن أجْل أَنْ كانَ الأمرُ كذلك، رأيت العقلاء كلَّهم يُثْبِتون القولَ بأنَّ مِن شأْنِ الاستعارةِ أن تكونَ أبداً أَبلغَ من الحقيقة، وإلاَّ فإن كان ليس هاهنا إِلا نقْلُ اسْم من شيءٍ إلى شيءٍ، فمِنْ أينَ يَجبُ - ليت شعري - أَن تكونَ الاستعارةُ أبلغَ من الحقيقة؟ ويكونَ لِقَوْلنا: (رأيتُ أَسداً): مزيةٌ على قولنا: (رأيت شبيهاً بالأسد؟)، وقد علِمْنا أنه محالٌ أن يتَغيَّر الشيءُ في نفسِه بأن يُنْقَل إليه اسْمٌ قد وُضِع لِغيره من بَعْد أنْ لا يُرادَ مِن معنى ذلك الاسْم فيه شيءٌ بوجْهٍ من الوجوهِ، بل يُجعلَ كأنه لم يُوضَعْ لذلك المعنى الأصليِّ أصْلاً، وفي أي عَقْلٍ يُتَصوَّر أَنْ يتغيرَ معنى "شبيهاً بالأسد" بأن يُوضَع لفظُ "أسد" عليه ويُنْقَلَ إليه؟
واعلمْ أنَّ العقلاء بَنَوْا كلامَهم إذْ قاسُوا وشبَّهوا على أنَّ الأشياءَ تستحِقُّ الأَسامي لِخَواصِّ معانٍ هي فيها دونَ ما عَداها؛ فإذا أَثْبتوا خاصَّةَ شيءٍ لشيءٍ أَثْبتوا له اسْمَه؛ فإذا جعَلوا الرجُلَ بحيثُ لا تَنقصُ شجاعتُه عن شجاعِ الأَسد ولا يَعدمُ منها شيئاً قالوا: (هو أَسد). وإذا وصَفوه بالتناهي في الخير والخصالِ الشريفة، أو بالحُسْن الذي يَبْهَرُ قالوا: (هو مَلَكٌ). وإذا وصَفُوا الشيءَ بغاية الطِّيبِ قالوا: (هو مِسْك). وكذلك الحُكْم أبداً. ثم إنَّهم إذا استقْصَوْا في ذلك نفَوْا عن المشبَّه اسْمَ جنسِه فقالوا: ليس هو بإنسانٍ وإنما هو أَسدٌ، وليس هو آدميّاً وإنما هو مَلكٌ: كما قال اللهُ تعالى: {مَا هاذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31]. ثم إنْ لم يُريدوا أَنْ يُخرجُوه عن جنسِه جملةً، قالوا: هو أسَدٌ في صورةِ إنسانٍ، وهُو ملَكٌ في صورةِ آدميٍّ). وقد خرَجَ هذا للمتنبي في أحْسَنِ عبارةٍ، وذلك في قوله [من الخفيف]:
نحن ركبٌ مِلْجِنّ في زِيّ ناسٍ ... فَوْقَ طيرٍ لها سخوصُ الجِمالِ
غلط العلماء في تفسير الاستعارة وجعلها من المنقول


ففي هذه الجملةِ بيانٌ لِمَنْ عقَل ليستِ الاستعارةُ نْقْلَ اسْم عن شيءٍ إلى شيء، ولكنَّها ادِّعاءُ معنى الاسْمِ لشيءٍ. إذ لو كانتْ نَقْلَ اسْمٍ وكان قولُنا (رأيتُ أسداً) بمعنى: رأيتُ شبيهاً بالأسد، ولم يكن ادِّعاءَ أَنه أسدّ بالحقيقة، لكانَ مُحالاً أن يُقال: ليس هو بإنسانٍ ولكنَّه أسدٌ أو هو أسدّ في صورةِ إنسان: كما أنه محالٌ أن يقال: ليس هو بإنسانٍ ولكنَّه شبيهٌ بأَسد: أو يقال: هو شَبيهٌ بأسَدٍ في صورة إنسان.
وعلمْ أَنه قد كثُرَ في كلام الناسِ استعمالُ لفظِ النقل في الاستعارة. فمِنْ ذلك قولُهم: إنَّ الاستعارةَ تعْليقُ العبارةِ على غير ما وُضِعَت له في أصْل اللغةِ على سبيل النَّقْل: وقال القاضي أبو الحسن: الاستعارةُ ما اكتُفيَ فيه بالاسْمِ المُستعار عن الأصليِّ ونُقِلت العابرةُ فجعُلِتْ في مكانِ غيرِها، ومن شأْنِ ماَ غَمُضَ من المعاني ولَطُف، أن يصْعُبَ تصويرُه على الوجْه الذي هو عليه لعامة الناس، فيقَعَ لِذلكَ، في العبارات التي يُعبَّر بها عنه، ما يُوهمُ الخطَأ، وإطلاقُهم، في الاستعارة أنها نقلٌ للعبارَةِ عمَّا وُضِعت له، من ذلك. فلا يَصِحُّ الأَخذُ به. وذلك أَنك إذا كنتَ لا تُطْلِقُ اسْمَ الأَسد على الرجُلِ، إلاَّ مِنْ بَعْد أن تُدْخِلَه في جنس الأُسود، من الجهة التي بيَّنَّا، لم تَكنْ نقلْتَ الاسمَ عما وُضِعَ له بالحقيقةِ، لأنك إنما تكونُ ناقِلاً إذا أنْتَ أَخرجْتَ معناهُ الأَصْليَّ من أنْ يكونَ مقصودَكَ ونفَضْتَ به يدَك؛ فأَمَّا أنْ تكونَ ناقِلاً له عن معناه مع إرادةِ معناهُ فمحالٌ متناقِضٌ.
الاستعارة المكنية لا يظهر فيها النقل
واعلمْ أنَّ في الاستعارةِ ما لا يُتصوْر تقديرُ النقلِ فيه البتَّةَ. وذلك مثلُ قول لبيد [من الكامل]:
وغداةٍ ريحٍ قد كَشَفْتُ وقِرَّةٍ ... إذْ أصبَحَتْ بِيَدِ الشَّمالِ زِمامُها


لا خلافَ في أَنَّ (اليد) استعارة؛ ثم إنَّك لا تستطيعُ أن تزعُمَ أنَّ لفظَ (اليد) قد نُقِلِ عن شيء إلى شيءٍ، وذلك أَنه ليس المعنى على أَنَّه شبَّه شيئاً باليد، فيمُكِنُكَ أن تزعُمَ أنه نقَل اليدِ إليه، وإنَّما المعنى على أَنه أَراد أنْ يُثْبتَ (للشَّمال) في تصريفِها (الغداةَ) على طبيعتِها، شَبَهَ الإنسان قد أَخذَ الشيءَ بيدِهِ يُقَلِّبهُ ويُصرِّفُه كيف يُريد؛ فلما أَثبتَ لها مثْلَ فعلِ الإنسانِ باليدِ، استعارَ لها اليدَ. وكما لا يُمكِنُكَ تقديرُ النقلِ في لفظِ اليَدِ، كذلك لا يمكنْكَ أنْ تَجْعل الاستعارة فيه من صفةِ اللفظِ. ألا تَرى أَنه محالٌ أن تقول: إنه استعارَ لفظَ "اليد" للشَّمال؟ وكذلك سبيلُ نَظائرِه مما تَجدُهم قد أَثبتُوا فيه للشيءِ عُضْواً مِن أعضاءِ الإنسان من أجْل إثباتهم له المعنى الذي يكونُ في ذلك العضو من الإنسان كبيت الحماسة [من الطويل]:
إذا هزَّهُ في عَظْمِ، قِرنٍ تَهلَّلَتْ ... نواجِذُ أفواهِ المنَايا الضواحِكِ
فإنَّه لمَّا جعَل المنايا تضحَكُ، جعَل لها الأَفواهَ والنواجِذَ التي يكونُ الضّحِكُ فيها. وكبيتِ المتنبي [من الطويل]:
خَميسٌ بِشَرْقِ الأرضِ والغَرْبِ زَحْفُهُ ... وفي أُذُنِ الجَوْزاءِ منه زَمَازِمُ
لمَّا جعَل الجوزاءَ تَسْمعُ على عادتهم، في جعْل النجوم تَعْقِلُ، ووصْفِهم لها بما يُوصَف بها الأناسيُّ أثْبَتَ لها الأُذُنَ التي بها يكونُ السَّمْعُ مِن الأناسيِّ؛ فأنتَ الآن لا تسطيعُ أنْ تزعُمَ في بيتِ الحماسةِ، أنه استعارَ لفظَ "النواجذِ" ولفظَ "الأفواه" لأنَّ ذلك يُوجِب المُحالَ، وهو أنْ يكونَ في المنايا شيءٌ قد شبَّهَه بالنواجذِ وشيءٌ قد شبَّهه بالأفواه؛ فليس إلاَّ أَنْ تقول إنه لمَّا ادَّعى أنَّ المنايا تُسَرُّ وتَسْتَبْشِرُ إذا هو هَزَّ السيفَ، وجعَلَها لِسرورها بذلك، تَضْحَكُ، أراد أنْ يُبالِغَ في الأمر، فجعَلَها في صورة مَنْ يَضْحَكُ حتى تَبدوَ نواجذُهُ من شدَّة السرورِ. وكذلك لا تستيطعُ أنْ تَزعُمَ أَنَّ المتنبي قد استعار لفظَ (الأُذُن) لأنه يُوجبُ أن يكون في الجوزاء شيءٌ قد أرادَ تشبيهَهُ بالأذن، وذلك من شَنعِ المُحال.


تعريف الاستعارة مطلقاً
فقد تبيَّن مِن غيرِ وجْهٍ أنَّ الاستعارةَ إنما هي ادِّعاءُ معنى الاسَمِ للشيء، لا نَقْلُ الاسم عن الشيء؛ وإذا ثبتَ أنها ادِّعاءُ معنى الاسْمِ للشيء، علمْتَ أنَّ الذي قالوه من أنها تعليقٌ للعبارةِ على غَيْرِ ما وُضِعَتْ له في اللغة ونَقْلٌ لها عمَّا وُضِعتْ له، كلامٌ قد تَسامَحوا فيه، لأنه إذا كانت الاستعارةُ ادِّعاءَ معْنى الاسْمِ لم يكُنِ الاسْمُ مُزالاً عمَّا وُضِع له، مُقَّرًّا عليه.
الفرق بين معنيَيْ الجَعْل والتسمية
واعلمْ أنك تراهُمْ لا يمتنعونَ، إذا تكلَّموا في الاستعارةِ من أنْ يَقولوا: إنه أراد المبالغةَ فجعلَه أسداً، بل هُمْ يلجأون إلى القول به. وذلك صريحٌ في أنَّ الأصْل فيها المعنى، وأنه المستعارُ في الحقيقة، وأن قولنا: استعير له اسمُ الأسَدَ، إشارةٌ لى أنه استُعير له معْناه، وأنه جُعِل إياهُ؛ وذلك لو لم نَقْلْ ذلك لم يَكُنْ (لجُعِلَ) ههانا معنى، لأنَّ (جعل) لا يَصْلُحُ إلاَّ حيثُ يُراد إثباتُ صفةٍ للشيء، كقولنا: (جَعَلْتُه أميراً وجعلْتُه لِصّاً) تريد أنَّك أثبَتَّ له الإِمارة ونسبْتَه إلى اللصوصيَّة وادَّعَيْتَها عليه ورمَيْتَه بها، وحكْمُ "جعَل" إذا تعدَّى إلى مفعولين، حكْمُ (صيَّرَ). فكَما لا تقول: (صيَّرْتُه أميراً) إلاَّ على معنى أنَّك أثبتَّ له صِفة الإمارة، كذلك لا يصِحُّ أنْ تقول: (جعلْتُه أسداً) إلاَّ على معنى أنك أثبتَ له معانيَ الأسد. وأمَّا ما تَجدُه في بعضِ كلامِهم مِن أنَّ "جعَل" يكون بمعنى "سمَّى" فما تسامحوا فيه أيضاً، لأنَّ المعنى معلومٌ، وهو مثْلُ أن تَجِدَ الرجُلَ يقول: (أنا لا أُسمِّيه إنساناً). وعرَضُه أن يقولَ إني لا أُثْبِتُ له المعانيَ التي بها كان الإِنسانُ إنساناً. ألاَ تَرى أنك لا تَجِدُ عاقِلاً يقول: (جعلْتُه زيداً). بمعنى: سمَّيتُه زيدا، ولا يقال للرجل: (اجْعَلْ ابنَكَ زيداً) بمعنى: سمِّهِ زَيدا، و (وُلِدَ لفلانٍ ابنٌ فجعَلَه عبدَ الله) أي: سمَّاه عبدَ الله.


هذا مَا لا يَشُكُّ فيه ذو عقلٍ إذا نَظَر. وأكثَرُ ما يكون منهم هذا التسامحُ، أعني قولهم إنَّ "جعَل" يكون بمعنى "سمَّى" في قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمان إِنَاثاً} [الزخرف: 19]. فقد تَرى في التفسيرِ أنَّ (جعلَ) يكون بمعنى (سمى) وعلى ذلك فلا شبْهةَ في أن ليس المعنى على مجرَّدِ التسمية، ولكنْ على الحقيقة التي وصفْتُها لكَ؛ وذاكَ أنَّهم اثْبَتوا للملائكةِ صفةَ الإناثِ، واعتقدوا وُجودَها فيهم؛ وعن هذا الاعتقادِ صَدَرَ عنهم ما صَدَر من الاسْمِ، أعني إطلاقَ اسْمِ البَنَات، وليس المعنى أنهم وضَعوا لها لفظَ الإناثِ ولفظَ البناتِ من غير اعتقاد معنىً وإثباتِ صفةٍ. هذا محالٌ. أوَ لا تَرى إلى قوله تعالى: {أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19]؟ فلو كانوا لم يَزيدوا على إجراء الاسْمِ على الملائكة، ولم يَعتِقدوا إثباتَ صفةٍ لما قال الله تعالى: {أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ}. وهذا ولو كانوا لم يَقْصِدوا إثباتَ صفةٍ ولم يكُنْ غيرَ وَضَعوا اسْماً لا يُريدونَ به معنىً، لَمَا استحقُّوا إلاَّ اليسيرَ مِن الذَّمِّ، ولَمَا كان هذا القولُ منهم كُفْراً. والتفسيرُ الصحيحُ والعبارةُ المستقيمةُ: ما قاله أبو إسحاقٍ الزجَّاج رحمه الله فإنه قال: إن الجَعْل هاهنا في معنى القَوْلِ والحُكْمِ على الشيء. تقول: "قد جَعَلْتُ زيداً أعلم الناس" أي وصفْتَه بذلك وحكمْتَ به.
فصاحة التمثيل عقلية أو معنوية لا لفظية
ونَرجع إلى الغرَض فنقول: فإذا ثَبَتَ أنْ ليستِ الاستعارةُ نَقْلَ الاسْمِ ولكنْ ادعاءَ معنى الاسْم، وكنَّا إذا عقَلْنا من قول الرجُلِ "رأيتُ أسداً" أنه أرادَ به المبالَغَةَ في وصْفِه بالشجاعة، وأنْ يقولَ إنَّه مِنْ قُوَّةِ القلب، ومن فَرْط البَسالةِ وشدَّة البطْشِ، وفي أنَّ الخوْفَ لا يُخامِرُه، والذعْرَ لا يَعرضُ له بحيثُ لا يَنْقصُ عن الأسَد، لم نعقل ذلك من لَفْظِ (أسد) ولكنْ مِنَ ادّعائه معنَى الأسد الذي رآه - ثبت بذلك أنَّ الاستعارة كالكِنَاية في أنَّك تَعْرِفُ المعنى فيها مِن طريقِ المعقول، دونَ طريقِ اللفظِ.


وإِذْ قد عرَفْتَ أنَّ طريقَ العِلْم بالمعنى، في الاستعارة والكناية معاً: المعقولُ، فاعلمْ أنَّ حكْمَ التمثيل في ذلك حكمُها، بل الأمرُ في التمثيل أظْهَرُ. وذلك أنه ليس مِن عاقلٍ يَشُكُّ إذا نظَر في كتاب يزيدَ بنِ الوليد إلى مروان بن محمد حيث بلغه أنه يتلكَّأ في بَيْعَته: أما بَعْدُ، فإني أرادَ تقدِّم رجْلاً وتؤخر أخرى، فإذا أتاكَ كتابِي هذا فاعْتمِدْ على أَيَّتِهما شئْتَ والسلامُ، يعلم أنَّ المعنى أنه يقول له: بلَغني أنك في أمْرِ البيعة بين رأْيَيْن مختلفين: تَرى تارةً أن تُبايعَ وأخرى أنْ تَمْتنع من البيعة؛ فإذا أتاك كتابي هذا فاعْمَلْ في أيِّ الرأيين شئْتَ: وإنه لم يَعْرف ذلك من لفْظِ (التقديم والتأخير) أو من لفظ (الرِّجل)، ولكنْ بأنْ علمَ أنه لا معنى لتقديم الرِّجل وتأخيرها، في رَجُلٍ يُدْعى إلى البيعة، وإنَّ المعنى على أنه أرادَ أن يقولَ إنَّ مثَلَكَ في تردُّدكَ بين أنْ تُبَايع وبين أن تَمْتنعَ، مثَلُ رَجُلٍ قائمٍ ليذهَبَ في أمرٍ، فجَعَلَتْ نَفسُه تُريهِ تارةً أنَّ الصوابَ في أنْ يذْهَبَ وأُخرى أنه في أنْ لا يَذْهَبَ؛ فجعلَ يُقدّم رِجْلاً تارةً ويُؤخِّر أُخْرى.


وهكذا كلُّ كلامٍ كان ضرْبَ مثَلٍ، لا يَخْفى على مَنْ له أدنى تمييزٍ أنَّ الأغراضَ التي تكونُ للناس في ذلك، لا تُعْرَف من الألفاظِ ولكنْ تكونُ المعاني الحاصلةٌ من مجموع الكلام أدلَّةً على الأغراضِ والمقاصدِ؛ ولو كان الذي يكونُ غَرَضَ المتكلم يُعْلَم من اللفظِ، ما كان لِقولهم: (ضَرَبَ كذا مثلاً لكذا)، معنى، فما اللفظُ يُضْرَبُ مَثَلاً ولكنْ المعنى. فإذا قلْنا في قول النبيّ عليه السلام "إيَّاكم وخضراءَ الدِّمن" إنَّه ضَرَبَ، عليه السلامُ، (خضراء الدِّمن) مثلاً للمرأة الحَسّناء في مَنْبت السوء، لم يكن المعنى أنه صلى الله عليه وسلم، ضرَب لَفْظَ (خضراءِ الدِّمن) مثلاً لها. هذا ما لا يَظُنُّه مَنْ بهِ مَسٌّ، فضلاً عن العاقل. فقد زالَ الشكُّ وارتفعَ في أنَّ طريقَ العلْمِ بما يُراد إثباتُه والخُبر به في هذه الأجناس الثلاثةِ التي هي الكنايةُ والاستعارةُ والتمثيلُ: المعقولُ دونَ اللفظِ من حيثُ يكونُ القصْدُ بالإثباتِ فيها إلى معنىً ليس هو معنى اللفظِ، ولكنَّه معنىَ يُستَدلُّ بمعنى اللفظِ عليه، ويُسْتنبَطُ منه؛ كنحْوِ ما تَرى من أنَّ القصْد في قولهم: (هو كثيرُ رمادِ القِدْر) إلى كَثْرة القِرى، وأنتَ لا تعرف ذلكَ من هذا اللفظِ الذي تَسْمَعُهُ، ولكنَّك تعرِفُه بأنْ تَسْتَدِلَّ عليه بمعناه على ما مَضَى الشرحُ فيه.
وجه الاستدلال بالاستعارة والكناية والتمثيل في الباب


وإذْ قد عرفتَ ذلك، فنيبغي أن يقالَ لهؤلاء الذين اعترضوا علينا، في قولنا إنَّ الفصاحة وصْفٌ تَجِبُ للكلام من أجل مزيةٍ تكونُ في معناه، وأنها لا تكون وصْفاً له من حيثُ اللفظُ مجرداً عن المعنى؛ واحتجُّوا بأن قالوا: إنه لو كان الكلامُ إذا وُصِف بأنه فصيحُ كان ذلك من أجل مزيةٍ تَكونُ في معناه، لوجَب أن يكونَ تفسيرُه فصيحاً مثْلَه: - أخْبِرونا عنكم: أتَرَرَوْنَ أنَّ مِن شأنِ هذه الأجناسِ، إذا كانت في الكلام، أن تكونَ له بها مزيةُ تُوجبُ له الفصاحةَ أم لا ترون ذلك؟ فإن قالوا: لا نَرى ذلك، لم يكلموا. وإن قالوا: نَرى للكلام إذا كانتْ فيه مزيةٌ تُوجِبُ له الفصاحةَ، قيل لهم: فأخبرونا عن تلك الزمية! أتكونُ في اللفظ أم في المعنى؟ فإن قالوا: في اللفظِ، دخَلُوا في الجهالة من حيث يَلْزَمُ من ذلك أن تكونَ الكنايةُ والاستعارةُ والتمثيلُ، أوصافاً لِلَّفظ لأنه لا يُتصوَّر أن تكون مزيتُها في اللفظِ حتى تكونَ أوصافاً له، وذلك مُحالٌ من حيثُ يَعْلَمُ كلُّ عاقل أنه لا يُكَنَّى باللفظِ عن اللفظ، وأنه إنما يُكَنَّى بالمعنى عن المعنى.
وكذلَك يَعْلم أنه لا يُستعارُ اللفظُ مجرداً عن المعنى، ولكن يستعارُ المعنى ثم اللفظُ يكونُ تِبْعَ المعنى على ما قدَّمْنا الشرحَ فيه. ويَعلمُ كذلك أنه محالٌ أنْ يُضرَبَ المثَلُ باللفظ، وأنْ يكونَ قد ضُرِبَ لفظُ "أراك تُقدِّم رِجْلاً وتؤخْر أخرى" مَثَلاً لتردُّده في أمر البَيْعة. وإن قالوا: هي في المعنى، قيل لهم: فهو ما أردْناكُم عليه؛ فدَعُوا الشكَّ عنك، وانتبهوا من رقْدَتِكُمْ، فإنه علْمٌ ضروريٍّ قد أدَّى التقسيمُ إليه، وكلُّ علْم كان كذلك، فإنه يَجِبُ القَطْعُ على كل سؤالٍ يُسْألُ فيه، بأنه خطأ، وأن السائلُ ملّبوسٌ عليه.


ثم إنَّ الذي يَعرف به وجْهَ دخولِ الغلطِ عليهم في قولهم: إنه لو كان الكلامُ يكونُ فصيحاً من أجْل مزيةٍ تكونُ في معناه، لوَجَب أن يكون تفسيرُه فصيحاً مثْلَه: هو أنك إذا نظرتَ إلى كلامهم هذا، وجدْتَهم كأنهم قالوا: إنه لو كانَ الكلامُ إذا كان فيه كنايةٌ أو استعارةٌ أو تمثيلٌ، كان ذلك فصيحاً، لوَجَب أن يكون إذا لم توجَدْ فيه هذه المعاني، فصيحاً أيضاً، ذلك لأنَّ تفسيرَ الكنايةِ أن نَتْرُكَها ونصرِّحَ بالمُكنَّى عنه، فنقولَ إنَّ المعنى في قولهم: (هو كثيرُ رمادِ القِدْر)، أنه كثيرُ القِرى. وكذلك الحكْمُ في الاستعارة. فإن تفسيرها أن نَتْركَها ونصرِّحَ بالتشبيه، فنقولَ في "رأيتُ أسداً": إنَّ المعنى: رأيتُ رجلاً يُساوي الأسدَ في الشجاعة. وكذلك الأمرُ في التمثيل، لأنَّ تفسيرَه أنْ نَذْكر المتمثَّل له، فنقول في قوله: "أراكَ تقدِّم رجْلاً وتؤخِّر أُخرى" إن المعنى أنه قال: "أراكَ تتردَّد في أمر البَيْعة، فتقولُ: تارةً أفعلُ وتارةً لا أفعلُ، كمن يُريدُ الذهابَ في وجْهٍ فَتُرِيهِ نفسُه تارةً أنَّ الصوابَ في أن يَذْهَب وأُخرى أنه في أن لا يذهب، فيقدِّم رِجْلاً ويوخِّر أُخرى. وهذا خروجٌ عن المعقول، لأنه بمنزلةِ أنْ تقولَ لرجلٍ قد نصَب لوصْفِه علَّةً: إنْ كان هذا الوصفُ يَجب لهذه العلةِ، فنبغي أن يجَب مع عَدِمها.
الفرق بين معنى المفسَّر ومعنى التفسير


ثم إنَّ استهواهم هو أنهم نظَروا إلى تفسيرِ ألفاظِ اللغةِ بعضها ببعضٍ، فلمَّا رأوا اللفظَ، فُسِّرَ بلفظٍ مثْلِ أن يقال في "الشرجب" إنه الطويلُ، لم يَجُزْ أن يكون في المفسَّر من حيثُ المعنى مزيةٌ لا تكونُ في التفسير، ظَنَّوا أنَّ سبيلَ ما نحن فيه ذلكَ السبيلُ؛ وذلك غَلَطٌ منهم، لأنه إنما كان المفسَّر فيما نحن فيه الفضلُ والمزيَّةُ على التفسير من حيث كانت الدلالةُ في المفسَّر دلالةَ معنى على معنى، وفي التفسير دلالةَ لفظٍ على معنى، وكان من المركوز في الطباع والراسخ في غرائز العقول، أنه متى أُريد الدلالةُ على معنىً فتُرِكَ أن يُصَرَّحَ به ويُذْكَرَ باللفظِ الذي هو له في اللغة، وعُمِدَ إلى معنىً آخَر فأشيرَ به إليه، وجُعِل دليلاً عليه، كان لِلكلامِ بذلك حسْنٌ ومزيةٌ لا يكُونانِ إذا لم يُصْنَعْ ذلك وذُكِرَ بلفظه صريحاً، ولا يكونَ هذا الذي ذكرتُ أنه سببُ فضل المفسَّر على التفسير من كونِ الدلالةِ في المفسَّر دلالةَ معنى على معنى وفي التفسير دلالةَ لفظٍ على معنى حتى يكون لِلَّفظِ المفسَّر معنىً معلومٌ يَعرِفُه السامعُ، وهو غيرُ معنى لفظِ التفسير في نفسِه وحقيقتِه، كما تَرى من أنَّ الذي هو معنى اللفظ في قولهم (هو كثيرُ رمادِ القدر) غيرُ الذي هو معنى اللفظ في قولهم: (هو كثير القرى) ولو لم يكن كذلك، لم يُتَصوَّر أن يكون هاهنا دلالةُ معنى على معنى.


وإذ قد عرَفْتَ هذه الجملة فقد حصَل لنا منها أنَّ المفسَّر يكون له دلالتانِ دلالةُ اللفظِ على المعنى، ودلالةُ المعنى الذي دلَّ اللفظُ عليه على معنى لَفْظٍ آخَرَ، ولا يكونُ للتفسيرِ إلاَّ دلالةٌ واحدةٌ وهي دلالةُ اللفظِ؛ وهذا الفرقُ هو سببُ أنْ كان للمفسَّر الفضلُ والمزيةُ على التفسير، ومحالٌ أن يكونَ هذا قضيةَ المفسَّر والتفسير في ألفاظ اللغة. ذاك لأنَّ معنى المفسَّر يكونُ مجهولاً عند السامع، ومحالٌ أن يكونَ للمجهول دلالةٌ. ثم إن معنى المفسَّر يكون هو معنى التفسيرِ بعينه، ومحالٌ إذا كان المعنى واحداً أن يكون للمفسَّر فضلٌ على التفسيرِ لأن الفضْلَ كان في مسألتنا بأنْ دلَّ لفظُ المفسَّر على معنىً، ثم دلَّ معناهُ على معنى آخر. وذلك لا يكون مع كون المعنى واحداً ولا يُتصوَّر.
التقليد سبب غلط القائلين بأن الفصاحة للفظ
بيانُ هذا أنه محالٌ أنْ يقال إنَّ معنى "الشرجب" الذي هو المفسَّر، يكون دليلاً على معنى تفسيره الذي هو الطويل، على وِزَان قولِنا إنَّ معنى "كثيرُ رمادِ القِدْرِ" يدلُّ على معنى تفسيره الذي هو "كثيرُ القرى"، لأمرَيْن: أحدُهما أنك لا تفسِّر (الشرجَب) حتى يكونَ معناه مجهولاً عند السامع. ومجالٌ أن يكونَ للمجهول دلالةٌ. والثاني أن المعنى في تفسيرنا (الشرجب) بالطويلِ، أنْ نُعْلم السامعَ أن معناه هو معنى الطويلِ بعينه. وإذا كان كذلك، كان محالاً أن يُقال أنَّ معناه يدلُّ على معنى الطويل، والذي يُعقَل أنْ يقال إنَّ معناه هو معنى الطويلِ. فاعرفْ ذلك، وانظُرْ إلى لَعِب الغَفْلة بالقوم، وإلى ما رأوا في مَنامهم من الأحلامِ الكاذبة؛ ولو أنهم ترَكُوا الاستنامةَ إلى التقليد، والأخذ بالهوينا وترْكِ النظر، وأشعروا قلوبهم أنَّ ههنا كلاماً ينبغي أن يُصْغى إليه، لَعلِموا ولَعادَ إعجابُهم بأنفسِهم في سؤالهم هذا وفي سائر أقوالهم، عَجباً منها ومن تَطْويح الظنونِ بها.
سبب كون الكناية أبلغ من التصريح


وإذْ قد بَانَ سقوطُ ما اعتَرَضَ به القوم، وفُحْشُ غلَطِهم، فينبغي أن تَعلَم أنْ ليستِ المزايا لتي تَجدها لهذهِ الأجناسِ على الكلامِ المتروكِ على ظاهرِهِ، والمبالغةُ التي تُحِسُّها: في أنفُس المعاني التي يَقصِدُ المتكلِّم بخَبره إليها، ولكنها في طريق إثباتِه لها، وتقريرِه إياها، وأنَّك إذا سمعتَهم يقولونَ: إنَّ مِن شأنِ هذهِ الأجناسِ أن تُكْسِبَ المعانيَ مزيةً وفضلاً، وتوجِبَ لها شرفاً ونُبلاً، وأنْ تُفَخِّمها في نفوس السامعين، فإنهم لا يَعْنون أنفُسَ المعاني التي يَقصِد المتكلِّمُ بخَبره إليها، كالقِرى والشجاعةِ والتردُّدِ في الرأي، وإنما يَعْنون إثْباتَها لما تُثْبَتُ له ويُخْبَر بها عنه؛ فإذا جعلوا للكنايةِ مزيةً على التصريح، لم يَجْعلوا تلكَ المزيةَ في المعنى المكنَّى عنه، ولكن في إثباته للذي ثبَتَ له. وذلك أنَّا نَعْلَم أنَّ المعاني التي يُقْصَدُ الخَبرُ بها لا تتَغيَّر في أنفسِها بأن يُكنَّى عنها بمعانٍ سواها، ويُتْرَك أن تُذْكَرَ الألفاظُ التي هي لها في اللغة.


ومَنْ هذا الذي يَشُكُّ أنَّ معنى طولِ القامة، وكثرةِ القِرى، لا يتغيران بأن يُكنَّى عنهما (بطولِ النجاد وكثرةِ رمادِ القدْر)، وتقديرُ التغييرِ فيها يُؤدي إلى أن لا تكون الكنايةُ عنهما ولكنْ عن غيرهما. وقد ذكرتُ هذا في صدْرِ الكتاب، وذكرتُ أنَّ السببَ في أنْ كان يكونُ للإثبات، إذا كان من طريقِ الكنايةِ مزيةٌ لا تكونُ إذا كان من طريق التصريح، أنك إذا كنَّيْتَ عن كثرة القِرى بكثرة رماد القدر، كنتَ قد أثبتَّ كثرةَ القِرى بإثبات شاهدِها ودليلها، وما هو علَمٌ على وُجودِها، وذلك لا مَحالةَ يكون أبلغَ من إثباتها بنفسِها، وذلك لأن يكونُ سبيلُها حنيئذٍ سبيلَ الدعوى تكونْ مع شاهدٍ؛ وذكرتُ أنَّ السببَ في أَنْ كانت الاستعارةُ أبلغَ من الحقيقةِ، أنك إذا ادَّعيْتَ للرجُل أنه أسدٌ بالحقيقة، كان ذلك أبلغَ وأشدَّ في تسويته بالأسد في الشجاعة. ذاك لأنه مُحالٌ أن يكونَ في الأُسود، ثم لا تكون له شجاعةُ الأُسودِ. وكذلك الحكْمُ في التمثيل: فإذا قلتَ: (أراكَ تُقدَّم رجْلاً وتؤخِّر أخرى) كان أبلغَ في إثباتِ الترددِ له من أن تقول: (أنتَ كمَنْ يقدِّم رجْلاً ويؤخِّر أُخرى).
رأي في سبب بلاغة الاستعارة وردّه


واعلمْ أنه قد يَهْجُسُ في نفسِ الإنسان شيءٌ يظنُّ مِن أجْله، أنه يَنبغي أنْ يكونَ الحُكْمُ في المزية التي تحدُثُ بالاستعارةِ، أنها تَحْدُثُ في المُثْبَت دون الإثباتِ، وذلك أن تقول: "إنَّا إذا نظَرْنا إلى الاستعارةِ وجدناها إنما كانت أبلغَ مِن أجْلِ أنها تدلُّ على قوة الشَّبه وأنه قد تناهى إلى أنْ صار المشبَّه لا يتميز عن المشبَّهِ بهِ في المعنى الذي من أجله شُبِّهَ به؛ وإذا كان كذلكَ، كانت المزيةُ الحادِثةُ بها حادثةً في الشَّبه، وإذا كانت حادثةً في الشبه كانت في المُثْبَت دون الإثباتِ: والجوابُ عن ذلك أنْ يقال إن الاستعارةَ، لعَمْري، تقْتضي قوَّةَ الشَبهِ وكونَه بحيثُ لا يَتميزُ المشبَّهُ عن المشبَّه به؛ ولكن ليس ذاك سببَ المزيةِ، وذلك لأنه لو كان ذاك سببَ المزيةِ، لكان ينبغي، إذا جئتَ به صريحاً فقلتَ: رأيت رجُلاً مساوياً للأسد في الشجاعة، وبحيثُ لولا صورتُه لظنْنتَ أنكَ رأيتَ أسداً، وما شاكلَ ذلك من ضروبِ المبالغة، أنْ تَجِد لكلامِكَ المزيةَ التي تَجدُها لقولك: (رأيتُ أسداً). وليس يَخْفى على عاقلٍ أنَّ ذلكَ لا يكونُ.
فإنْ قال قائلٌ: إن المزيَّة من أجْلِ أَنَّ المساواةَ تُعْلَم في "رأيتُ أسداً" من طريق المعنى وفي "رأيت رجلاً مساوياً للأسد" من طريقِ اللفظِ: قيلَ قد قلنا فيما تَقدَّم: إنه محالٌ أن يتغيَّر حالُ المعنى في نفسه بأنْ يكَنَّى عنه بمعنىً آخر، وأنه لا يُتصوَّر أنْ يتغيَّر معنى طولِ القامةِ بأن يُكنَّى عنه بـ (طولِ النجاد)، ومعنى كثرةِ القِرى بأن يكنَّى عنه بـ (كثرة الرماد). وكما أنَّ ذلك لا يُتصوَّر، فكذلكَ لا يُتصوَّر أن يتغيَّر معنى مساواةٍ الرجلِ الأسدَ في الشجاعةِ، بأن يُكنَّى عن ذلك ويُدَلَّ عليه بأن تَجْعَله أسداً، فأنتَ الآن إذا نظرتَ إلى قوله [من البسيط]:
فأَسْبَلتْ لؤلؤاً من نرجس وسَقَتْ ... وَرْداً وعضَّتْ على العُنَّابِ بالبَرَدِ


فرأيته قد أفادَكَ أنَّ الدمعَ كان لا يُحْرَم من شَبهِ اللؤلؤ، والعينَ من شبَه النرجس شيئاً - فلا تَحْسَبنَّ أنَّ سببَ الحسْنِ الذي تَراه والأريحيةَ التي تجدُها عنده أنه أفادكَ ذلك فحسْبُ، وذاك أنك تستطيعُ أنْ تجيءَ به صريحاً فتقول: (فأسبَلَت دمعاً كأنه اللؤلُؤ بعينه من عينِ كأنها النرجسُ حقيقة) ثم لا تَرى من ذلك الحسْن شيئاً. ولكن اعلمْ أنَّ سبَب أن راقَك وأَدْخَلَ الأريحيةَ عليك، أنه أفادكَ في إثبات شدَّة الشبةِ مزيةً وأوْجَدَك فيه خاصةً قد غُرِزَ في طبْع الإنسانِ أن يَرتاحَ لها، ويَجِدَ في نفسه هِزَّةً عندها، وهكذا حكْم نظائره، كقولِ أبي نواس [من السريع]:
تَبْكي فتُذري الدرَّ عن نرجسٍ ... وتَلْطِمْ الوردَ بعُنَّابِ
وقول المتنبي [من الوافر]:
بدَتْ قمراً ومالَتْ خُوطَ بانٍ ... وفاحتْ عَنْبراً ورَنَتْ غَزالا
واعلمْ أنَّ مِن شأن الاستعارةِ، أنك كلما زدْتَ إرادتَكَ التشبيهَ إخفاءَ، ازدادتِ الاستعارةُ حُسْناً، حتى إنَّك تَراها أغْرَبَ ما تكونُ، إذا كان الكلامُ قد أُلِّف تأليفاً إن أردتَ أن تُفْصح فيه بالتشبيه خرجْتَ إلى شيءٍ تعافُهُ النفسُ، ويلفِظُهُ السمْعُ. ومثالُ ذلك قولُ ابن المعتز [من العديد]:
أثمرتْ أغصانُ راحَتِهِ ... بجِنانِ الحُسْنِ عُنَّبا
حسن الاستعارة على قدر إخفاء التشبيه
ألا تَرى أنك لو حملتَ نفسَك على أن تُظهرَ التشبيهَ وتُفصِحَ به، احتجَتْ إلى أن تقول: (أثمرتْ أصابعُ يدِه التي هي كالأغصانِ لطالبي الحُسْن شبيهَ العُنَّاب من أطرافها المخضوبة)، وهذا ما لا تَخْفى غثاثَتُه. مِنْ أجْل ذلك، كان موقِعُ (العنَّاب) في هذا البيتِ أحسَنَ منه في قوله:
وعضَّتْ على العُنابِ بالبَرَد
وذاك لأنَّ إظهارَ التشبيهِ فيه، لا يَقْبُحُ هذا القَبْحَ، المفرِطَ لأنك لو قلْتَ: (وعضَّتْ على أطرافِ أصابعَ كالعنابِ بثغرٍ كالبَرَد)، كان شيئاً يُتكلَّم بمثلِه وإنْ كانَ مَرْذولاً. وهذا موضعٌ لا يَتبيَّنُ سِرَّه إلاَّ مَن كان ملتهِبَ الطبعِ حاداَّ القريحةِ. وفي الاستعارةِ علْمٌ كثيرٌ ولطائِفُ معانٍ ودقائقُ فروقٍ، وسنقولُ فيها إن شاء الله في وضعٍ آخَر.


واعلمْ أنَّا حينَ أخذْنا في الجواب عن قولهم: نه لو كان الكلامُ يكونُ فصيحاً من أجْل مزيةِ تكون في معناهُ، لكان ينبغي أن يكونَ تفسيرُه فصيحاً مثلَه؛ قلْنا: إنَّ الكلامَ الفصيحَ ينقسم قِسْمين - قسم تُعْزى المزيةُ فيه إلى اللفظِ، وقسمٌ تُعْزى فيه إلى النظْم. قد ذكَرْنا في القسم الأول من الحِجَج ما لا يَبْقى معه لعاقلٍ إذا هو تأمَّلَها شَكٌّ في بُطْلانِ ما تعَلَّقوا به مِنْ أنه يَلْزَمُنا في قولنا "إن الكلام يكون فصيحاً من أجل مزيةٍ تكون في معناه أن يكون تفسيرُ الكلامِ الفصيحِ فصيحاً مثلَه، وأنَّه تَهُّوسٌ منهم وتَقحُّمٌ في المجالات.
وأما القسم الذي تُعزى فيه المزيةُ إلى النظْم، فإنهم إنْ ظنُّوا أنَّ سؤالَهم الذي اغترُّوا به يتجهُ لهم فيه، كان أمرُهم أعجَبَ، وكان جهلُهم في ذلك أغْرَبَ، وذلك أنَّ النظْمَ كما بيَّنا هو توخّي معاني النحو وأحكامِه وفروقِه ووُجوهه، والعملُ بقوانينه وأُصولِه، وليستْ معاني النحو معانيَ الألفاظِ فيتُصوَّر أنْ يكون لها تفسيرٌ.
مثال كون الفصاحة في النظم معنوية "بالفاتحة"


وجملة الأمر أن النظْمَ إنما هو أنَّ (الحمْدَ) مِنْ قوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ * الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 1 - 2] مبتدأٌ و (للهِ) خبرٌ و (ربِّ) صفةٌ لاسم الله تعالى، ومضافٌ إلى (العالمين) و (العالمينِ) مضافٌ إليه؛ و (الرحْمنِ الرحَيم) صفتانِ كالرَّبِ؛ و (مالكِ) من قوله {مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 4] صفةٌ أيضاً، ومضافً إلى (يوم) و (يوم) مضافٌ إلى (الدين)، و (إياك) ضميرُ اسم اللهِ تعالى مما هو ضميرٌ يقَعُ موقِعَ الاسم إذا كان الاسمُ منصوباً. معنى ذلك أنكَ لو ذكَرْت اسْمَ اللهِ مكانَه لقلتَ: (اللهَ نَعْبدُ). ثم إنَّ (نعْبدُ) هو المقتضي معنى النصْبِ فيه؛ وكذلك حكْمُ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]. ثم إنَّ جملةَ {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] معطوفٌ بـ (الواو) على جملة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] و (الصراط) مفعولٌ، و (المستقيمَ) صفةٌ (للصِراط)، و {صِرَاطَ الذين} [الفاتحة: 7] بدلٌ من (الصِّراط المستقيم)، {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] صلةٌ (الذين)، و {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} [الفاتحة: 7] صفةٌ (الذين)، و {وَلاَ الضآلين} [الفاتحة: 7] معطوف على {المغضوب عليهم} [الفاتحة: 7].
فانظر الآنَ هَلْ يتصوَّر في شيءٍ مِن هذه المعاني، أن يكونَ معنى اللفظِ؟ وهل يكونُ كونُ "الحمدُ" مبتدأ معنى لفظِ (الحمد)؟ أم يكون (ربِّ) صفة وكونُه مضافاً إلى (العالمين) معنى لفظ الرب؟


فإن قيل: إنه إنْ لم تكنْ هذه المعاني، معانيَ أنفُسِ الألفاظِ، فإنها تُعْلَمُ على كل حال، من ترتيبِ الألفاظِ ومِنَ الإعراب؛ فبالرَّفع في (الدال) من "الحمد" يُعْلَم أنه مبتدأٌ، و (بالجر) في (الباء) من "ربِ" يُعْلَم أنه صفة، و (بالياء) في "العالمين" يُعْلم أنه مضافٌ إليه. وعلى هذا قياسُ الكُلِّ؛ قيل: ترتيبُ اللفظ لا يكونُ لفظاً، والإعرابُ وإنْ كان يَكونُ لفْظاً فإنه لا يُتصوَّر أن يكونَ ههنا لفظانِ كلاهما علامةُ إعرابٍ، ثم يكون أحدُهُما تفسيراً للآخر. وزيادةُ القول في هذا، من خطَل الرأي. فإنَّه مما يَعْلَمُه العاقِلُ ببَديهةِ النظرِ، ومَنْ لم يتنبَّهْ له في أوَّل ما يَسْمَع، لم يَكُنْ أهلاً لأن يكلَّم. ونعودُ إلى رأس الحديث فنقول:
وضوح كون النظم هو توخي معاني النحو
قد بطَلَ الآنَ من كل وجهٍ وكلِّ طريقٍ، أنْ تكونَ الفصاحةُ وصْفاً لِلَّفظ من حيثُ هو لفظٌ ونطقُ لسانٍ. وإذا كان هذا صورةَ الحالِ وجملةَ الأمرِ، ثم لم تَرَ القومَ تفكَّروا في شيء ممَّا شرحْناه بحالٍ، ولا أخطَرُوه لهم ببالٍ، بانَ وظهَر أنهم لَمْ يأتوا لأمْرَ مِن بابِه، ولم يَطْلبُوه من مَعْدِنه، ولم يسلُكُوا إليه طريقَه، وأنهمْ لم يزيدوا على أنْ أوْهَموا أنفُسَهم وهماً كاذباً، أنَّهم قد أبانوا الوجْه الذي به كان القرآن معجِزاً؛ والوصفَ الذي به بانَ مِن كلام المخلوقينَ، مِنْ غير أنْ يكونوا قد قالوا فيه قولاً يَشْفي من شَاكٍّ غليلاً، ويكونُ علَى عِلْمٍ دليلاً، وإلى معرفة ما قَصدوا إليه سبيلاً.
واعلمْ أنه إذا نظرَ العاقِلُ إلى هذه الأدلَّةِ فرأَى ظهورَها، استبعدَ أنْ يكون قد ظنَّ ظانٌّ في الفصاحة أنها مِن صفة اللفظِ صريحاً. ولعمري إنَّه كذلك ينبغي؛ إلاَّ أنَّا إنَّما ننظرُ إلى جِدِّهم وتَشدُّدِهم وبتِّهمُ الحُكْمَ بأنَّ المعانيَ لا تتزايدُ وإنما تتزايدُ الألفاظُ، فلئِنْ كانوا قد قالوا: الألفاظُ، وهم لا يُريدونها أنفُسَها وإنما يريدون لطائفَ معانٍ تُفْهم منها، لقد كان ينبغي أنْ يتَّبعوا ذلك مِن قولهم ما يُنبىءُ عن غَرَضِهم، وأنْ يذْكُروا أنهم عَنَوا بالألفاظ ضرْباً من المعنى، وأن غرَضَهم مفهومٌ خاصٌّ.


هذا وأمرُ النظم في أنه ليس شيئاً غيرَ توخي معاني النحو فيما بين الكَلِم وأنَّك تُرتِّبُ المعاني أولاً في نفْسِك، ثم تَحْذُوا على ترتيبها الألفاظَ في نُطْقك، وأنَّا لو فرضْنا أنْ تَخْلوَ الألفاُظُ منَ المعاني، لم يُتصوَّر أنْ يَجبَ فيها نَظْمٌ وترتيب، في غاية القوة والظهور. وثم ترَى الذين لَهَجُوا بأمرِ اللفظِ قد أبَوْا إلاَّ أنْ يجعلوا النظْم في الألفاظ، فترى الرجُلَ منهم يَرى ويَعْلم أنَّ الإنسانَ لا يسَتطيعُ أن يجيءَ بالألفاظ مرتَّبةً إلاَّ من بعد أن يفكِّرَ في المعاني، ويرتِّبها في نفسه على ما أعلَمْناكَ، ثم تُفتِّشه فتَراهُ لا يَعرِفُ الأمرَ بحقيقتِه، وتَراه يَنظُر إلى حال السامعِ، فإذا رأى المعانيَ لا تقَعُ مرتَّبةً في نفسِه، إلاَّ من بعْدِ أن تقَعَ الألفاظُ مرتَّبة في سَمعِه، نسيَ حالَ نفسِه واعتَبَر حالَ مَنْ يَسمَعُ منه. وسبَبُ ذلك قِصَرُ الهمةِ، وضَعْفُ العنايةِ، وتَرْكُ النظر والأُنس بالتلقيد. وما يغنى وضوحُ الدلالة مَعَ مَنْ لا يَنظُر فيها، وإنَّ الصُّبْحَ ليملأُ الأُفقَ لا يَراه النائمُ ومَنْ قد أطْبَقَ جفْنَه؟
إفساد التقليل للذوق والفهم في الفصاحة
واعلمْ أنك لا تَرى في الدنيا عِلْماً قد جرى الأمرُ فيه بَديئاً وأخيراً، على ما جرى عليه في علمٍ الفصاحةِ والبيانِ.
أمَّا البديءُ فهو أنك لا تَرى نوعاً من أنواع العلوم إلاَّ وإذا تأملْتَ كلامَ الأوَّلينَ الذين عَلَّموا الناسَ وجدْتَ العبارةَ فيه أكثرَ من الإشارَة، والتصريحَ أغلبَ من التلويح؛ والأمرُ في علم الفصاحةِ بالضِّدِّ مِن هذا. فإنك إذا قرأت ما قالَه العلماءُ فيه وجدْتَ جُلَّه أو كُلَّهَ رمزاً ووَحْياً وكنايةً وتعريضاً، وإيماءً إلى الغرض من وجْهٍ لا يَفْطِنُ له إلاَّ مَنْ غلغَلَ الفكْرَ وأدَّقَ النظَرَ، ومَنْ يَرجعُ من طَبْعه إلى ألْمَعيَّةِ يَقْوى معها على الغامِض، ويصلُ بها إلى الخفيِّ حتى كان بَسْلاً حَراماً أن تتجلَّى معانيهم سافرةَ الأوجُهِ لا نِقابَ لها، وبادية الصفحةِ لا حِجابَ ذُونها، وحتى كأنَّ الإفصاحَ بها حَرامٌ، وذكرَها إلاَّ على سبيل الكناية والتعريض، غيرُ سائغٍ.


الخطأ في علم الفصاحة وكلام الأولين في اللفظ
وأمَّا الأَخيرُ فهو أَنَّا لم نَرَ العقلاء قد رضُوْا، مِن أَنفُسِهم في شيءٍ من العلوم، أنْ يحفَظوا كلاماً للأَوَّلينَ ويتدارَسُوه ويُكلِّمَ به بعضُهم بعضاً، مِنْ غَير أن يعرفوا له معنى، ويقفوا منه على غرَضٍ صحيح، ويكونَ عندهم، إن يسألون عنه، بيانٌ له وتفسيرٌ، إلاَّ علمَ الفصاحةِ. فإِنك تَرى طبقاتٍ منَ الناس يتداولونَ فيما بينهم أَلفاظاً للقدماء وعباراتِ مِنْ غَير أنْ يعرِفوا لها معنًى أَصْلا، أَوْ يستطيعوا إن يُسأَلوا عنها، أنْ يَذْكُروا لها تفسيراً يَصِحُّ.


فمِنْ أقْرَبِ ذلك أَنك تَراهم يقولون، إذا هُمْ تكلَّموا في مزيَّةِ كلامٍ على كلامٍ: إنَّ ذلك يكونُ بجزالةِ اللفظِ. وإذا تكلَّموا في زيادةِ نظمٍ على نظمٍ، إنَّ ذلك يكونُ لوقُوعِهِ على طريقةٍ مخصوصةٍ وعلى وجهٍ دون وجهٍ، ثمّ لا تَجدُهَم يُفسِّرون الجزالَةَ بشيءٍ ويقولون في المُراد بالطريقةِ والوجْهِ ما يَحْلَى منه السامِعُ بطائلٍ؛ ويقرأون في كُتب البلغاءِ ضُروبَ كلامٍ قد وَصفُوا اللفظَ فيها بأوصافٍ تَعلَمُ ضرورةً أَنها لا تَرْجعُ إليه من حيثُ هو لفظٌ ونُطْقٌ لسانٍ وصدى حرفٍ كقولهم: لفظٌ متمكِّنٌ غيرُ قَلقٍ ولا نابٍ به مَوْضِعُه، وأَنَّه جيِّدُ السبْكِ صحيحُ الطابع، وأنَّه ليس فيه فضْلٌ عن معناهُ وكقولهم: إنَّ مِنْ حقِّ اللفظِ أنْ يكونَ طِبْقاً للمعنى لا يَزيد عليه ولا يَنقُصُ عنه. وكقول بعْضِ مَنْ وصَفَ رجُلاً مِن البُلغاء: (كانت أَلفاظُه قوالبَ لِمعانيه)، هذا إذا مدَحوه - وقَولِهم إذا ذَمُّوه: (هو لفظٌ معقَّدٌ، وإنَّه بتعقيده، قد استَهْلكَ المعنى؛ وأشباهٌ لهذا). ثم لا يَخْطرُ ببالِهمْ أَنه يَجبُ أنْ يُطْلَب لِمَا قالوه معنًى وتُعْلَمَ له فائدةٌ ويَجْشَمَ فيه فكْرٌ، وأن يُعتقدَ على الجملة، أقلُّ ما في الباب أَنه كلامٌ لا يصِحُّ حَمْلُه على ظاهِره، وأن يكونَ المرادُ باللفظِ فيه نطْقَ اللسانِ. فالوصف بالتمكُّن والقَلَق من اللفظ محالٌ، فإنما يتمكَّنُ الشيءُ ويقْلَقُ إذا كان شيئاً يَثْبُتُ في مكان؛ والأَلفاظ حروفٌ لا يوجَدُ منها حرفٌ حتى يعدَمَ الذي كان قبلَه. وقولُهم (متمكِّنٌ أو قَلِقٌ) وصْفٌ للكلمةِ بأَسرها، لا حرْفٍ منها. ثم إنه لو كان يَصِحُّ في حروف الكلمةِ أن تكون باقيةً بمجموعها، لكانَ ذلك فيها مُحالاً أيضاً من حيثُ إنَّ الشيءَ إنما يتمكَّنُ وَيقْلقُ في مكانه الذي يُوجَد فيه، ومكانُ الحروفِ إنما هو الحَلْقُ والفمُ واللسانُ والشفتانِ؛ فلو كان يَصِحُّ عليها أنْ تُوصَف بأنها تتمكَّن وتقْلَقُ، لكانَ يكونُ ذلك التمكُّنُ وذلك القَلَقُ منها في أَماكنها مِنْ الحَلْق والفَم واللسانِ والشفتين.


وكذلك قولُهم: لفظٌ ليس فيه فضْلٌ عن معناه: حالٌ أنْ يكونَ المرادُ به اللفظَ، لأنه ليس هاهنا اسمٌ أو فعلٌ أو حرفٌ يَزيد على معناه أو ينقُصُ عنه. كيف وليس بالذَّرْع وُضِعَت الألفاظُ على المعاني. وإن اعتبْرنا المعانيَ المستفادةَ من الجمل، فكذلك؛ وذلك أَنه ليس هاهنا جملةً، مِنْ مبتدإ وخَبرٍ أو فِعْل وفاعلٍ يَحْصُل به الإثباتُ أو النفيُ، أَتمُّ أو أَنْقَصُ مما يحصُل بأُخْرى، وإنما فضْلُ اللفظِ عن المعنى أَن تُريدَ الدلالة بمعنى على معنى فتُدْخِلَ في أثناءِ ذلك شيئاً لا حاجةَ بالمعنى المدلولِ عليه، إِليه. وكذلك السبيلُ في السَّبْكِ والطابع وأَشباهِهما لا يحُتَملُ شيءٌ من ذلك أن يكونَ المُرادُ به اللفظَ من حيثُ هو لفظٌ.
جهل القائلين بفصاحة اللفظ وكشف شبهتهم
فإن أردتَ الصدقَ، فإنك لا تَرى في الدنيا شأناً أَعْجبَ من شأنِ الناسِ مع اللفظ، ولا فسادَ رأيٍ مازَجَ النفوسَ وخامرَها، واستحكَمَ فيها وصارَ كإحدى طبائعِها، أَغْرَبَ من فسادِ رأيهم في اللفظ؛ فقد بلَغَ من مَلَكتهِ لهم وقُوَّتهِ عليهم، أنْ تَرَكهم وكأنَّهم إذا نُوظِروا فيه أخذَوا عن أنفُسِهم، وغيَّبوا عن عقولهم، وحِيلَ بينَهم وبينَ أنْ يكونَ لهم فيما يَسْمعونَه نَظَرٌ، ويُرى لهم إيرادُ في الإصغاء وصَدَرُ، فلستَ تَرَى إلاَّ نفوساً قد جَعلَتْ تَرْكَ النظرِ دأْبَها، ووَصَلَتْ بالهوينا أَسبابَها؛ فهي تَغْتَرُّ بالأضاليلِ، وتَتباعَدُ عن التحصيلِ، وتُلْقي بأيديها إلى الشَّبَه، وتُسْرعُ إلى القولِ المُمَوَّهِ.
معنى فصاحة الكَلم في "فصيح ثعلب وأمثاله


ولقد بلغَ مِن قلة نظَرِهم أنَّ قوماً منهم لمَّا رَأَوْا الكُتُبَ المصنَّفةَ في اللغة قد شاعَ فيها أنْ تُوصفَ الألفاظُ المفردةُ بالفصاحةِ، ورأوا أبا العباس ثعلباً قد سمَّى كتابه (الفَصيح) مع أنه لم يَذكُرْ فيه إلا اللُّغةَ والألفاظَ المفردةَ، وكان مُحالاً إذا قيلَ: إنَّ "الشمَع" (بفتح الميم) أفصحُ من "الشمْع" بـ (إسكانه)، أن يكونَ ذلك من أجْل المعنى. إِذْ ليس تُفيد (الفتحةُ) في (الميم) شيئاً في الذي سُمِّي به - سبَقَ إلى قلوبهم أنَّ حُكْمَ الوصفِ بالفَصَاحة أَينما كان، وفي أي شيءٍ كان، أن لا يكونَ له مرجِعٌ إلى المعنى البتةَ، وأَن يكونَ وصْفاً لِلفَّظِ في نفسه ومِن حيثُ هو لفظٌ ونطقُ لسانٍ، ولم يعلموا أنَّ المعنى في وصْف الألفاظِ المفردةِ بالفصاحة، أنها في اللغة أثْبَتُ، وفي استعمال الفصحاء أَكْثَر، أوْ أنها أَجْرى على مقاييس اللغةِ والقوانينِ التي وَضعوها، وانَّ الذي هو معنى الفصاحةِ في أصْل اللغةِ هو الإبانةُ عن المعنى بدلالة قولهم: فصيحٌ وأَعْجَمُ، وقولِهم: أفصحَ الأعجميُّ، وفَصُحَ اللحَّانُ، وأَفْصَحَ الرجُلُ بكذا: إذا صرَّحَ به، وأَنه لو كانَ وصْفُهم الكلماتِ المفدرةَ بالفصاحةِ، من أجْل وصْفٍ هُوَ لَها من حيثُ هي ألفاظٌ ونُطْقٌ لسانٍ، لوَجبَ، إذْ وُجِدتْ كلمةٌ يقال إنها كلمةٌ فصيحةٌ على صفةٍ في اللفظِ، أن لا تُوجَد كلمةٌ على تلك الصفةِ إلا وَجَبَ لها أن تكونَ فصيحةً، وحتى يَجِبَ إذا كان (نقِهتُ الحديثَ) (بالكسر) أفصحَ منه (بالفتح)، أن يكون سبيلُ كلَّ فعلٍ مثْلِه في الزِّنَةِ أن يكون (الكَسرُ) فيه أفْصَحَ من (الفتح). ثم إنَّ فيما أودَعهُ ثعلبُ كتابَه ما هو أفصَحُ مِن أجْل أنْ لم يكُنْ فيه حرفٌ كان فيما جعلَهُ أفصَحَ منه. مثْلُ إنَّ "وقفْتُ" أفصحُ من "أَوْقَفْتُ". أفتَرى أَنه حدَث في (الواو) و (القاف) و (الفاء) بأنْ لم يكن معها الهمزةُ، فضيلةٌ وجَبَ لها أن تكون أفصَحَ؟ وكفى برأيٍ هذا مؤدَّاهُ تَهافتاً وخَطلاً.
دلالة الاستعارة ولا سيما المكنية على الفصاحة للمعاني


وجملةُ الأمر أَنه لا بدَّ لقولِنا "الفصاحةُ" مِنْ معنًى يُعْرَفُ. فإنْ كان ذلك المعنى وصْفاً في ألفاظٍِ الكلمات المفردةِ، فينبغي أنْ يُشارَ لنا إليه، وتُوضَعَ اليدُ عليه، من أَبْيَن ما يَدلُّ على قلةِ نَظَرِهم أَنه لا شبْهةَ على مَن نَظَر في كتابٍ تُذْكَر فيه الفصاحةُ، أنَّ الاستعارة عنوانُ ما يُجعلُ به اللفظُ فَصيحاً، وأنَّ المجارَ جُمْلتُه، والإِيجازُ مِن مُعْظم ما يُوجِبُ لِلََّفظِ الفصاحةَ. وأنتَ تَراهم يَذْكُرون ذلك ويَعتمِدونَه، ثم يَذْهَبُ عنهم أنَّ إيجابهم الفصاحةَ لِلَّفْظِ بهذه المعاني، اعترافٌ بصحةِ ما نحن نَدْعوهم إلى القول به، من أَنه يكونَ فصيحاً لمعناه.
أمَّا الاستعارةُ فإنهم، إن أَغْفَلوا فيها الذي قُلْناه، من أَنَّ المستعارَ بالحقيقةِ يكونُ معنى اللفظِ واللفظُ تِبْعٌ من حيثُ إنَّا لا نَقول: (رأيتُ أَسداً) ونحنُ نَعْني رَجُلاً، إلاَّ على أنَّا ندَّعي أَنَّا رأينا أَسداً بالحقيقة، من حيثُ نَجْعلُه لا يتميزُ عن الأَسد في بأسهِ وبطْشِه وجَراءةِ قلْبه، فإنهم على كل حال، لا يستطيعون أنْ يَجعلوا الاستعارةَ وصْفاً لِلَّفظِ مِن حيثُ هو لفظٌ، مع أَّنَّ اعتقادَهم أَنك إذا قلتَ: (رأيتُ أسداً): كنتَ نقلْتَ اسْمَ الأسدِ إلى الرجُلِ، أوْ جعلْتَه هكذا غُفْلاً ساذَجاً في معنى شجاعٍ؛ افتَرى أنَّ لفظَ "الأسد" لمَّا نُقِل عن السَّبُع إلى الرجُلِ المشبَّه به، أحدثَ هذا النقلُ في أجراس حروفهِ ومذاقَتِها وصْفاً صار بذلك الوصْفِ فصيحاً؟
ثم إنَّ من الاستعارَة قبيلاً لا يَصِحُّ أن يكونَ المستعارُ فيه اللفظَ البتَّةَ، ولا يصِحُّ أن تَقعَ الاستعارةُ فيه إلاَّ على المعنى، وذلك ما كان مثْلَ "اليد" في قول لبيد [من الكامل]:
وغداةِ ريحٍ قد كشفتُ وقرَّةٍ ... إذْ أصبَحَتْ بيَدِ الشَّمالِ زمامُها


ذاك أنه ليس هاهنا شيءٌ يَزْعمُ أنه شبَّهَهُ باليد، حتى يكونَ لفظُ "اليد" مستعاراً له، وكذلك ليس فيه شيءٌ يُتَوهَّمُ أن يكون قد شبَّهه بالزمام، وإنما المعنى على أنه شبَّه الشَّمالَ في تصريفها الغداة، على طبيعتها، بالإنسانِ يكون زمامُ البعيرِ في يده. فهو يُصَرِّفُه على إرادته. ولمَّا أرادَ ذلك، جَعَل للشَّمالِ يداً وعلى الغداة زماماً وقد شرحْتُ هذا قبْلُ شرْحاً شافياً.
تفضيل الاستعار بالكناية على غيرها في الفصاحة
وليس هذا الضربُ من الاستعارة بدُون الضربِ الأولِ في إيجابِ وصْفِ الفصاحةِ للكلام، لا بل هو أَقوى منه فيِ اقتضائها؛ والمَحاسِنُ التي تَظهرُ به، والصورُ التي تَحْدثُ للمعاني بسببه، آنقُ وأعجبُ. وإنْ أردتَ أن تزداد عِلماً بالذي ذكرتُ لكَ من أمرِهِ، فانظرْ إلى قوله [من الرجز]:
سقَتْه كفُّ الليل أَكْؤسَ الكَرى
وذلك أنَه ليس يَخْفى على عاقلٍ أنه لم يُرد أن يُشبِّه شيئاً بالكف، ولا أراد ذلك في الأكوس، ولكنْ لمَّا كان يقال: سُكْر الكرى وسكْرُ النومِ: استعار لِلكَرى الأَكْؤسَ، كما استعار الآخَرُ الكأْسَ في قوله:
وقد سَقَى القومَ كأسَ النعسةِ السَّهَرُ
ثم إنه لمَّا كان الكَرى يكونُ في الليل، جعلَ الليلَ ساقياً. ولمَّا جَعلَه ساقياً، جعلَ له كَفّاً، إذْ كان الساقي يُناولُ الكأسَ بالكَفِّ.
ومن اللطيفِ النادر في ذلك، ما تراه في آخر هذه الأبيات وهي للحَكَم بْنِ قَنْبر [من الطويل]:
ولَوْلا اعتصامي بالمنى كلَّما بَدا ... ليَ اليأسُ منها لم يَقُمْ بالهوى صَبْري
ولولا انتظاري كلَّ يومٍ جَدَى غدٍ ... لراحَ ينعشي الدافنونَ إلى قبري
وقد رابَني وَهْنُ المُنى وانِقباضُها ... وبَسْطُ جديدِ اليأسِ كَفَّيْهِ في صدْري


ليس المعنى على أَنه استعارَ لفظَ الكفينِ لشيءٍ، ولكنْ على أنه أرادَ أنْ يَصِفَ اليأسَ بأنه قد غلَب على نفسِه، وتمكَّن في صدْرِه؛ ولمَّا أرادَ ذلك، وصفَه بما يصفون به الرجُلَ بِفَضْل القدرةِ على الشيء وبأنه متمكِّنٌ منه، وأَنه يَفْعلُ فيه كلَّ ما يريدُ، كقولهم: قد بَسطَ يديهِ في المال يُنفِقُه ويصنَعُ فيه ما يشاء، وقد بَسطَ العامِلُ يدَه في الناحية وفي ظُلْم الناس. فليس لك إلاّ أنْ تقولَ إنَّه لمَّا أرادَ ذلك، جعلَ لليأسِ كفَّيْنِ واستعارَهما له. فأَمَّا أَنْ تُوقِعَ الاستعارةَ فيه على اللفظ، فما لا تخفى استحالتهُ على عاقلٍ.
والقولُ في المجاز هو القول في الاستعارة، لأنه ليس هو بشيءٍ غيرها، وإنما الفَرْقُ أَنَّ المجازَ أعمُّ من حيثُ إنَّ كلَّ استعارةِ مجازٌ، وليس كلُّ مجازٍ استعارةً. وإذا نظرْنا مِن المجاز فيما لا يُطْلَق عليه أنه استعارة، إزدادَ خطأُ القومِ قُبحاً وشناعةً؛ وذلك أنه يَلزَمُ على قياس قولهم، أنْ يكونَ إنما كان قولُه تعالى: و {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً} [يونس: 67] أَفصَحَ مِن أَصْله الذي هو قَوْلُنا: (والنهار لِتُبْصِروا أنتُمْ فيه أو مبصراً أنتم فيه) من أجْلِ أنه حدَثَ في حروفِ (مبصر) - بأن جعل الفِعْل للنهار على سعة الكلامِ - وصفٌ لم يكن. وكذلك يَلزمُ أن يكونَ السببُ في أنْ كان قول الشاعر [من الرجزَ]:
فنام ليلي وتجلَّى همِّي
أفصحَ من قولنا: (فنمتُ في ليلي)، أنْ كسبَ هذا المجازُ لفظَ "نام" ولفظ "الليل" مذاقةً لم تكن لهما. وهذا مما ينبغي للعاقل أنْ يستَحيَ منه، وأن يأنفَ مِن أن يُهْمِلَ النظرَ إهمالاً يؤدِّه إلى مثله، ونسأل اللهَ تعالى العِصْمةَ والتوفيق.
دلالة المجاز والإيجاز على أن الفصاحة للمعاني


وإذْ قد عرفْتَ ما لَزِمَهم في الاستعارةِ والمجازِ، فالذي يَلزَمُهم في الإيجاز أَعجبُ، وذلكَ أنه يلزَمُهم إنْ كانَ اللفظُ فصيحاً لأَمرٍ يَرْجِعُ إليه نفسه دون معناه، أنْ يكونَ كذلك موجَزاً لأمرٍ يرجِع إلى نفْسِه، وذلك من المُحَال الذي يُضْحَك منه؛ لأنه لا معنى للإيجاز إلاَّ أنْ يَدُلَّ بالقليل من اللفظِ على الكَثير من المعنى؛ وإذا لم تَجعلْهُ وصْفاً لِلَّفظِ من أجْلِ معناه، أبطَلْتَ معناهُ. أعني أبطلْتَ معنى الإيجاز.
ثم إنَّ هاهنا معنًى شريفاً قد كان يَنْبغي أن نكونَ قد ذكَرْناه في أثناء ما مَضَى من كلامِنا، وهو أَنَّ العاقلَ إذا نَظرَ على علْم ضرورةً أنه لا سبيلَ له إلى أنْ يُكثِرَ معانيَ الألفاظِ أو يُقلِّلَها، لأن المعاني المُودَعةً في الألفاظِ لا تتغيَّر على الجملة عما أرادَهُ واضعُ اللغةِ، وإذا ثبَتَ ذلك، ظَهَر منه أَنه لا معنى لقولِنا: كثرةُ المعنى مع قِلَّة اللفظِ: غيرَ أنَّ المتكلَّم يتَوصَّل بدلالةِ المعنى على المعنى، إلى فوائدَ لو أَنه أرادَ الدلالةَ عليها باللفظ، لا حتاجَ إلى لفظٍ كثيرٍ.
سبب تقليد العلماء في خطإِهم والغرور بهم


واعلمْ أَن القولَ الفاسِدَ والرأيَ المدخولَ، إذا كان صُدورُه عن قوم لهم نَباهةٌ وصيتٌ وعلوٌّ منزلةٍ في أنواع من العلوم، غيرِ العِلْم الذي قالوا ذلك القولَ فيه، ثم وقع في الأَلْسُن فتداولتْه ونَشرَتْه، وفشَا وظَهَر وكَثُرَ الناقلون له والمُشِيدُون بِذكْره، صار تَرْكُ النَّظرِ فيه سنَّةً والتقليدُ ديناً، ورأيتَ الذين همْ أهلُ ذلك العِلْم وخاصَّتُه والممارِسون له والذينَ هُمْ خُلَقاءُ أنْ يَعرِفوا وجْهَ الغلطِ والخطأ فيه - لو أنهم نظَروا فيه - كالأجانب الذين ليسوا من أهله في قبوله، والعمل بهِ والركونِ إليه، ووجدتَهم قد أعطَوه مقادَتهم، وأَلاَنوا له جانِبَهم، وأَوْهَمَهمْ النظَرُ إلى مُنْتَماه ومنْتَسَبهِ، ثم اشتهارِه وانتشارِه وإطباقِ الجمع بعد الجمع عليه، أَنَّ الضنَّ به أصوبُ، والمحاماةَ عليه أَوْلى. ولربما بل كلما طنوا أنه لم يشِعْ ولم يتَّسِغُ، ولم يرَوْه خَلَفٌ عن سلَف، وآخرُ عن أَوّلٍ، وإلاَّ لأنَّ له أصْلاً صحيحاً، وأنه أُخذَ من معْدِن صدقٍ، واشتُقَّ من نَبْعةٍ كريمةٍ، وأَنه لو كان مَدْخولاً لظَهَر الدَّخَلُ الذي فيه على تَقادُم الزمانِ وكُرورِ الأيامِ، وكم خَطإٍ ظاهرٍ ورأْيٍ فاسدٍ، حظيَ بهذا السبَبِ عند الناس، حتى بَوَّأُوه في أَخَصِّ موضعٍ في قلوبهم، ومنَحوه المحبَّةَ الصادقةَ من نفوسهم، وعطَفُوه عليه عطْفَ الأُمِّ على واحدِها. وكم من داءٍ دَويٍّ قد استحْكَم بهذه العِلَّة حتى أعْيَا علاجُه، وحتى بَعِلَ به الطبيبُ. ولَوْلاَ سلطانُ هذا الذي وصفتُ على الناس وأَنَّ له أُخْذَةً تَمنَعُ القلوبَ عن التدبُّر، وتَقطعُ عنها دواعيَ التفكُّر، لمَا كان لهذا الذي ذَهَب إليه القومُ في أمرِ اللفظ هذا التمكُّنُ وهذه القوَّةُ، ولا كان يَرْسُخُ في النفوسِ هذا الرسوخَ، وتَتَشعَّب عروقُه هذا التشعُّبَ، مع الذي بان مِن تهافُتهِ وسقُوطهِ، وفُحْشِ الغَلَطِ فيه، وأنَّكَ لا تَرى في أَديمهِ، مِنْ أَين نظَرْتَ وكيفَ صرَّفْتَ وقلَّبْتَ، مَصَحّاً، ولا تَراه باطِلاً في شَوْبٌ من الحقِّ، وزَيْفاً فيه شيءٌ من الفِضَّة، ولكنْ تَرى الغِشَّ بَحْتاً، والغلَطَ صِرْفاً، ونسألُ اللهَ التوفيق.


وكيف لا يكونُ في إسار الأُخْذَةِ ومَحُولاً بينه وبين الفِكْرة، مَنْ يُسلِّمُ أنَّ الفصاحةَ لا تَكونُ في أفراد الكلماتِ وأنها إنما تَكُونُ فيها إذا ضُمَّ بعضُها إلى بعْضٍ، ثم لا يَعْلَم أنَّ ذلك يَقْتضي أنْ تكونَ وصْفاً لها مِن أجْلِ معانيها، لا مِنْ أَجْل أَنفُسِها، ومِنْ حَيثُ هي ألفاظٌ ونُطْقُ لسانٍ؟ ذاكَ لأنه ليس من عاقلٍ يَفْتَح عينَ قلبهِ إلاَّ وهو يَعْلَمُ ضرورةً أنَّ المعنى في ضَمِّ بعضِها إلى بعْضٍ، تعليقُ بعضِها ببعضٍ، وجَعْلُ بعْضِها بسَببٍ من بعض، لا أن يَنْطِقَ ببعضها في أَثر بعضٍ مِنْ غير أنْ يكونَ فيما بينهما تَعلُّقٌ، ويعْلمُ كذلك ضرورةً - إذا فكرَّ - أن التعلُّق يكون فيما بين معانيها، لا فيما بينها أَنفُسِها. ألا تَرى أَنَّا لوْ جَهِدْنا كلَّ الجَهْدِ أَنْ نَتصَّورَ تعلُّقاً فيما بين لفظينِ لا معنى تحْتَهما، لَمْ نَتصوَّرْ؟
ائتلاف الكلم بالنظم وتنافرها
ومن أَجْلِ ذلك انقسَمتْ الكَلِمُ قسمين:
مؤتلفٌ وهو الاسْمُ مع الاسْم والفعلُ مع الاسْمِ.
وغيرُ مؤتلف وهو ما عدا ذَلك، كالفِعْل مع الفْعلِ، والحَرْفِ مع الحرفِ. ولو كان التعلُّقُ يكونُ بين الأَلفاظِ، لكانَ ينبغي أن يَختلِفَ حالُها في الائتلاف، وأنْ لا يكونَ في الدنيا كلمتان إلاَّ ويصِحُّ أنْ يأْتلِفا، لأنه لا تنافيَ بينَهما من حيثُ هي ألفاظٌ؛ وإذا كان كلُّ واحدٍ منهم قد أعطى يدَه بأنَّ الفصاحةَ لا تكون في الكَلِم أَفراداً، وأنها إنما تكونُ إذا ضُمَّ بعضُها إلى بعضٍ، وكان يكون المرادُ بضَمِّ بعضِها إلى بعض تعليقَ معانيها بعضِها ببعضٍ، لا كَوْنَ بعضِها في النطق على أثر بعضٍ، وكان واجباً إذا عُلِم ذلكَ أن يُعْلَم أنَّ الفصاحة تَجِبُ لها من أجْل معانيها لا من أجْل أنْفُسها، لأنه محالٌ أن يكونَ سبَبُ ظهورِ الفصاحةِ فيها تعلُّقُ معانيها بعضِها ببعضٍ، ثم تكون الفصاحةُ وصْفاً يَجب لها لأنْفُسها لا لِمعَانيها. وإذا كان العلمُ بهذا ضرورةً، ثم رأيتَهم لا يَعْلمونَه فليس إلاَّ أنَّ اعتزامَهم على التقيد، قد حال بينهم وبين الفكرة، وعرض لهم منه شبهُ الأخْذة.
الاحتذاء في الشعر وأخذ الشعراء بعضهم من بعض


وأعلمْ أنك إذا نظرتَ وجدْتَ مَثلَهم مثَلَ مَنْ يرَى خيَالَ الشيءِ فَيحْسبُهُ الشيءَ، وذاك أَنهم قد اعتمدُوا في كلِّ أمرهم على النسق الذي يَرونه في الألفاظِ وجعَلوا لا يحَفِلون بغيره، ولا يُعَوِّلون في الفصاحة والبلاغةِ على شيءٍ سواه، حتى انتَهَوْا إلى أنْ زَعَموا أنَّ مَن عَمَد إلى شعرٍ فصيح فقرأه ونطقَ بألفاظهِ على النسَقِ الذي وضعَها الشاعرُ عليه، كان قد أتى بمثْلِ ما أتى به الشاعرُ في فصاحَته وبلاغَته. إلاَّ أَنهم زعَموا أنه يكونُ في إتْيانه بهِ مُحْتذياً لا مُبْتدئاً. ونحن إذا تأَملْنا وجَدْنا الذي يكونُ في الألفاظِ من تقديمِ شيءٍ منها على شيءٍ، إنما يقَعُ في النفس أَنَه نَسَقٌ إذا اعتبَرْنا ما تُوخِّي من معاني النحو في معانيها، فأمَّا مَع تَرْكِ اعتبارِ ذلك، فلا يَقَعُ ولا يُتصوَّرُ بحالٍ. أفلا تَرى أَنَّكَ لو فرَضْتَ في قوله:
قِفَا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
أنْ لا يكونَ "نبْكِ" جواباً للأمر، ولا يكونَ مُعدَّى بـ (مِن) إلى"ذِكْرى"، ولا يكونَ "ذكرى" مضافةً إلى "حبيب"، ولا يكونَ "منزلِ" معطوفاً بـ "الواو" على "حبيب"، لخَرَجَ ما تَرى فيه مِنَ التقديم والتأخيرِ عن أن يكون نَسَقاً؟ ذاك لأنه إنما يكونُ تقديمُ الشيءِ على الشيءِ نَسَقاً وتَرتيباً، إذا كان ذلكَ التقديمُ قد كان لِمُوجِبٍ أوْجَبَ أنْ يقدَّم هذا ويؤخَّر ذاك. فأَمَّا أنْ يكونَ مع عدم الموجِبِ نسَقاً فمحال، لأنه لو كان يكونُ تقديمُ اللفظِ على اللفظِ، مِنْ غَيْر أنْ يكونَ له مُوْجِبٌ نَسقاً، لكان يَنبغي أن يكونَ توالي الألفاظِ في النطق على أَيِّ وجْهٍ كان، نَسَقاً، حتى إنك لو قلْتَ: (نبْك قِفا حبيب ذكرى من): لم تَكنْ قد أعدَمْتَه النسَقَ والنظْم، وإنما أعدَمْتَه الوزْنَ فقط، وقد تقدَم هذا فيما مضى. ولكنَّا أعَدْناه هاهنا لأنَّ الذي أَخَذْنا فيه من إسلام القوم أَنفُسِهم إلى القليدِ، اقْتَضى إعادَتَه.


فصل: الاحتذاء والأخذ والسرقة الشعرية عند الشعراء
واعلمْ أنَّ الاحتذاءَ عند الشعراءِ وأهلِ العلمِ بالشِّعر، وتقديرَه وتمييزَه، أَنْ يبتدِىءَ الشاعرُ في معنًى له وغرضٍ أسلوباً - والأسلوبُ الضْربُ من النْظم والطريقةُ فيه - فيعمَدَ شاعرٌ آخَر إلى ذلك الأسلوب، فجيءَ بهِ في شِعره، فيُشبَّه بمن يقْطَع من أَديمه نعْلاً على مثال نعْلٍ قد قطَعها صاحِبُها، فيقال قد احتذى علم مِثاله، وذلك مثلُ أن الفرزدقَ قال [من الطويل]:
أَتَرجُو رُبَيْعُ أنْ تَجيءَ صِغارُها ... بِخَيرٍ وقد أَعْيَا رُبَيْعاً كِبارُها؟
واحتذاه البَعِيث فقال [من الطويل]:
أَترجُو كُلَيْبٌ أنْ يَجيء حديثُها ... بَخير وقد أَعْيَا كُلَيْباً قَدِيمُها؟
وقالوا إنَّ الفرزدق لمَّا سمِعَ هذا البيت قال [من الوافر]:
إذا ما قلتُ قافيةً شَروداً ... تَنَحَّلهَا ابنُ حمراءِ العِجَانِ
ومثلُ ذلك أَنَّ البعيثَ قال في هذه القصيدة [من الطويل]:
كليبٌ لئامٌ الناسِ قد يَعْلَمُونَهُ ... وأنتَ إذا عُدَّت كُلَيبٌ لَئيِمُها
وقال البحتري [من الطويل]:
بَنُو هاشمٍ في كلِّّ شرقٍ ومَغْربٍ ... كرامُ بني الدنيا وأنتَ كَريمُها
وحكى العسكريُّ في صنعة الشَّعر أنَّ ابنَ الروميِّ قال: قال لي البحتريُ: قولُ أبي نواس [من الطويل]:
ولم أَدْرِ مَنْ هُمْ غيرَ ما شهِدَتْ لَهُمْ ... بِشَرقِيِّ ساباطَ الديارُ البَسَابِسُ
مأخوذٌ من قول أبي خراش (الهذلي) [من الطويل]:
ولم أَدْرِ مَنْ أَلْقى عليه رداءه ... سِوى أَنه قد سُلَّ من ماجدٍ مَحْضِ
قال: فقلتُ قد اختلفَ المعنى. فقال: أَمَا تَرى حَذْوَ الكلامِ حَذْواً واحداً؟. وهذا الذي كتبتُ من حَلِيٌ الأخْذِ في الحَذْو. ومما هو في حَدِّ الخفيِّ قول البحتري [من الطويل]:
ولن يَنْقُلَ الحسَّادُ مجْدَكَ بعْدَما ... تمكَّنَ رَضوى واطمأَنَّ مُتَالِعُ
وقولُ أبي تمام [من الكامل]:
ولقد جَهَدتُمْ أَنْ تُزِيلوا عِزَّهُ ... فإذا أَبانٌ قد رَسَا وَيَلْمَمُ
قد احتذى كلُّ واحدٍ منهما على قولِ الفرزدق [من الكامل]:
فادْفَعْ بِكفْكَ إنْ أردُتَ بِناءَنا ... ثهلانَ ذا الهضَباتِ هَل يتحْلَحَلُ


وجملةُ الأمر أَنهم لا يَجْعلون الشاعرَ مُحْتذِياً إلاَّ بما يَجْعلونه بهِ آخِذاً ومسْتَرِقاً، قال ذو الرُّمَّة [من الوافر]:
وشعرٍ قد أَرِقْتُ له غريبٍ ... أُجَنّبُهُ المُسانَد والمُحَالا
فبتُّ أُقِيمُهُ وأَقَدُ مِنْهُ ... قوافي لا أُريد لها مِثَالا
قال: يقول: لا أَحْذوها على شيءٍ سمِعْتُه "فأَمَّا أنْ يُجْعَل إنشادُ الشعرِ وقراءتُه احتذاءً فَما لا يعْلَمونَه؛ كيف وإذا عَمَد عامِدٌ إلى بيتِ شعرٍ فوضَعَ مكانَ كلِّ لفظةٍ لفْظاً في معناه، كمِثْلِ أنْ يقولَ في قولِه:
دَعِ المَكارِمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيتهِا ... واقْعُدْ فإِنَّك أنتَ الطاعِمُ الكاسي
ذَرِ المآثِرَ لا تَذْهَبْ لِمَطْلَبِها ... واجْلِسْ فإنكَ أنتَ الآكل الَّلابِسْ
لم يَجْعلوا ذلكَ احذاءً ولم يُؤهِّلوا صاحِبَه لأن يُسَمُّوه مُحْتذِياً، ولكنْ يُسمُّونَ هذا الصنيعَ سَلْخاً ويُرَاذِّلونَه ويسخّفونَ المتعاطيَ له. فمِنْ أينَ يجوزُ لنا أن نقولَ في صبيٍّ يقرأ قصيدة امرىءِ القيس إنه احتذاهُ في قوله [من الطويل]:
فقلت له لمَّا تمطَّى بصُلْبِه ... وأَردفَ أعجازاً وناء بكَلْكلِ
الاحتجاج بالاحتذاء والتحدي على أن الفصاحة بحسب المعنى
والعَجَبُ مِن أنهم لم يَنْظروا فيَعْلَموا أَنه لو كان مُنْشِد الشعرِ مُحْتذياً، لكانَ يكونُ قائلَ شعرٍ، كما أنَّ الذي يحَذُوا النْعلَ بالنعل يكون قاطِعَ نِعْلِ، وهذا تقريرٌ يَصْلُح لأن يُحفَظَ للمُناظَرَة - ينبغي أن يقالَ لمن يَزْعمُ أنَّ المنْشِدَ، إذا أَنشدَ شعرَ أمرىءِ القيس كان قد أتى بِمثْلهِ على سبيلِ الاحْتِذاء: أخبرنا عنكَ: لماذا زعَمْتَ أنَّ المنشِدَ قد أَتى بمثْلِ ما قالَه امرؤُ القيس؟ أَلأَنَّه نطَقَ بأَنفُسِ الألفاظ الت ينطق بها؟ أَمْ لأَنه راعى النَسَق الذي راعاه في النطقِ بها؟ فإن قلت: إنَّ ذلكَ لأَنه نطَق بأَنفُسِ الألفاظِ التي نطَقَ بها: أَحَلْتَ، لأنه إنما يَصِحُّ أن يقالَ في الثاني إنه أتى بِمثْلِ ما أتى به الأوَّلُ إذا كان الأوَّلُ قد سَبقَ إلى شيءٍ فأحْدَثهَ ابتداء، وذلك في الأَلفاظِ مُحال؛ إذْ ليس يُمكِنُ أنْ يُقال إنه لم يَنْطِقْ بهذه الألفاظِ التي هي في قوله،


قفا نبكِ من ذِكرى حبيب ومنزل
قبْل امرىءِ القيس أَحد. وإن قلتَ: إنَّ ذلك لأنه قد راعى في نُطْقه بهذه الألفاظِ النسَقَ الذي راعاه امرؤُ القيس: قيل إنْ كنتَ لهذا قضَيْتَ في المُنْشِد أنه قد أَتَى بِمْثل شِعْره، فأخْبِرْنا عنكَ إذا قلتَ إن التحدِّيَ وقع في القرآن إلى أن يؤتى بمثله على جهةِ الابتداءِ، ما تَعْني به؟ أَتَعْني أَنه يأتي في ألفاظٍ غير أَلفاظ القرآن بمثل الترتيب والنَّسَقِ الذي تَراه في ألفاظ القرآنِ؟ فإن قال: ذلك أَعْني. قيل له: أَعلِمْتَ أَنه لا يكونُ الإتيانُ بالأشياءِ بَعْضِها في أَثرِ بعضٍ على التوالي نَسَقاً وتَرتيباً، حتى تكونَ الأشياءُ مختلفةً في أَنْفُسها، ثم يكون للذي يَجيءُ بها مضموماً بعضُها إلى بعضٍ، غرضٌ فيها ومقصودٌ لا يَتمُّ ذلك الغرَضُ وذاك المقصود، إلاَّ بأَنْ يتَخيَّر لَها مواضِعَ فيَجعلَ هذا أولاً، وذاك ثانياً؟ فإن هذا ما لا يشبهة فيه على عاقل.
نفي كون إعجاز القرآن بأوزان نظمه وسلامة ألفاظه


وإذا كان الأمرُ كذلك لزِمَك أن تُبَيِّنَ الغرضَ الذي اقتضى أنْ تكونَ ألفاظُ القرآنِ منْسوقةً النَّسَقَ الذي تَراه. ولا مَخْلَصَ له من هذه المطالبة، لأنه إذا أبى أن يكونَ المُقْضى والموجِبُ للذي تَراه من النَّسق، المعانيَ، وجَعلَه قد وَجَب لأمر يَرجعُ إلى اللفظ، لم تَجد شيئاً يُحِيلُ الإعجازَ في وجوبه عليه البتةَ، اللهُمَّ إلاَّ أَنَّ يَجْعل الإعجازَ في الوزن ويَزْعُمَ أنَّ النَسقَ الذي تراه في ألفاظ القرآنِ إنما كان معْجِزاً من أجْل أنْ كان قد حَدث عنه ضرْبٌ من الوزن يَعْجَزُ الخَلْقُ ن أن يأْتوا بمثله؛ وإذا قال ذلك لم يُمْكِنْه أنْ يقولَ إن التحدِّيَ وقَع إلى أن يأْتوا بمثلِهِ، في فصاحَتِه وبلاغَتِه، لأن الوزْنَ ليس هو من الفصاحة والبلاغة في شيءٍ. إذْ لو كان له مَدْخَلٌ فيهما لكانَ يَجبُ في كل قصيدتَيْن أتَّفقَتا في الوزْن أنْ تَتَّفِقا في الفصاحة والبلاغةِ. فإن دعا بعضُ الناس طولَ الإِلْفِ لِمَا سَمعَ من أَنَّ الإعجازَ في اللفظ، إلا أَنْ يَجْعلَه في مجرَّدِ الوزْنِ، كان قد دَخَل في أمرٍ شنيعٍٍ، وهو أنَه يكونُ قد جَعلَ القرآن مُعجِزاً لا مِن حيثُ هو كلامٌ ولا بما به كان لِكَلامٍ فضْلٌ على كلامٍ؛ فليس بالوزْنِ ما كان الكَلامُ كلاماً ولا به كان كلامٌ خَيراً مِنْ كلامٍ.
وهكذا السبيلُ إنْ زعَم زاعِمٌ أنَّ الوصفَ المعجزَ هو الجَرَيانُ والسهولَةُ، ثم يعني بذلك سلامَتَهُ من أن تلتقي فيه حروفٌ تَثْقُل على اللسان لأنه ليس بذلك كان الكلامُ كلاماً ولا هو بالذي يتناهى أَمرُه إنْ عُدَّ في الفضيلة إلى أن يكونَ الأَصْلَ وإلى أن يكونَ المعَّولَ عليه في المفاضَلةِ بين كلامٍ وكلامٍ. فما به كان الشاعرُ مفْلِقاً، والخَطيبُ مِصْقَعاً والكاتبُ بليغاً ...
إعجاز القرآن وموافقة آية كلِّ نبيٍّ لحال عصره


ورأينا العقلاء حيثُ ذكَروا عجْزَ العربِ عن مُعارَضَةِ القرآن، قالوا إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم تحدَّاهم وفيهم الشعراءُ والخطباءُ والذين يُدِلُّونَ بفصاحةِ اللسان، والبراعةِ والبَيان، وقوةِ القرائحِ والأَذْهان، والذين أُوتوا الحِكْمةَ وفصْلَ الخِطابِ، ولم نَرهم قالوا إنَّ النبيَّ عليه السلام تَحدَّاهم وهم العارِفُون بما ينبغي أن يُصْنَع حتى يَسْلَم الكلامُ من أن تلتقيَ فيه حروفٌ تَثْقُل على اللسان. ولَمَّا ذكَروا معجزاتِ الأنبياءِ عليهم السلام، وقالوا: إنَّ اللهَ تعالى قد جَعَل معجزةَ كلِّ نَبيّ فيما كان أغْلَبَ على الذين بُعِثَ فيهم، وفيما كانوا يتباهَوْنَ به وكانت عوامَّهم تُعظِّمُ به خواصَّهم، قالوا: إنه لمَّا كان السِّحْرُ الغالِبَ على قوم فِرْعونَ ولم يكُنْ قد استَحكَم في زمانِ استحكامَه في زمانِه، جَعَل تعالى معجِزَةَ موسى عليه السلامُ في إبطاله وتَوْهينهِ. ولمَّا كان الغالِبُ على زمانِ عيسى عليه السلام الطِّبُ، جعلَ اللهُ تعالى معجزِتَه في إبْراءِ الأَكْمهِ والأَبْرصِ وإحياءِ الموتى. ولما انتَهَوْا إلى ذكْر نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وذكْرِ ما كان الغالِبُ على زمانهِ لم يَذْكُروا إلا البلاغَة والبيانَ والتصرُّفَ في ضروب النظْم. وقد ذكرتُ في الذي تقدَّم عينَ ما ذكرتُه هاهنا مما يَدلُّ على سقوط هذا القولِ. وما دعاني إلى إعادة ذِكْره إلاَّ أنه ليس تهالُكُ الناسِ في حديث اللفظ والمحاماةُ على الاعتقاد الذي اعتقدوه فيه وظنُّ أَنفُسِهم به إلى حدٍّ، فأحْبَبْتُ لذلك أن لا أَدعَ شيئاً مما يجوزُ أن يَتعلَّق به متعلِّقٌ ويلجأَ إليه لاجىءٌ ويقع منه في نفْس سامعٍ شَكًّ، إلا استقصيْتُ في الكشْف عن بُطْلانِه.


وهاهنا أمرٌ عجيبٌ وهو أنه معلومٌ لكلٍّ مَنْ نَظَر أنَّ الألفاظَ من حيثُ هي أَلفظاٌ وكَلِمٌ ونُطْقُ لسانِ لا تخْتصُّ بواحدٍ دون آخر، وأنها إنما تختصُّ، إذا تُوُخَّي فيها النظْمُ. وإذا كان كذلك، كان مَنْ رفَعَ النظْمَ مِن البين، وجعَلَ الإعجازَ بجملته في سهولة الحُروف وجَرَيانها جاعلاً له فيما لا يصِحُّ إضافتُه إلى الله تعالى. وكفى بهذا دليلاً على عدم التوفيق، وشدَّةِ الضلالِ عن الطريق.


فصل بليغ: يصف به عمله في كشف شبهات مسألة اللفظ
قد بَلغْنا في مداواة الناس مِنْ دائهم، وعلاج الفسادِ الذي عَرَضَ في آرائهم، كلَّ مبْلغ، وانتهَيْنا إلى كلِّ غايةٍ، وأَخذْنا بهم عن المجَاهِل التي كانوا يتعسَّفون فيها إلى السَّنَنِ اللاحِب، ونقلْنَاهُم عن الآجِنِ المطروق إلى النمير الذي يَشْفي غليلَ الشارِب، ولم ندَعْ لباطلِهِم عِرْقاً ينبُضُ إلاَّ كَوَيْناهُ، ولا للخِلاف لِساناً ينطِقُ إلاَّ أخْرَسْنَاه، ولم نَتركْ غِطاءً كان على بصَرِ ذي عَقْلٍ إلا حَسرْناهُ؛ في أيها السامعِ لِمَا قُلْناه، والناظِرُ فيما كَتبْناه، والمتصفحُ لما دوَّنَّاهُ، إنْ كنتَ سمعتَ سماعَ صادقِ الرغبةِ في أن تكونَ أمرك على بَصيرة، ونظرْتَ نَظَرَ تامِّ العنايةِ في أن يُورِدَ ويَصْدُرَ عن معرفةٍ، وتصفَّحتَ تصفُّحَ مَنْ إذ مارَسَ باباً من العِلْم لم يُقْنِعْه إلاَّ أن يكونَ على ذورةِ السَّنام، ويضْرِبَ بالمعلَّى من السِّهام؛ فقد هُديتَ لِضالَّتكَ، وفُتِح لك الطريقُ إلى بُغْيتِكَ، وهُيِّءَ لكَ الأداءةُ التي تبلُغُ بها، وأُوتيتَ الآلةَ التي معَها تَصِلُ، فَخذْ لنفسكَ بالتي هي أَمْلأُ ليديكَ، وأعْوَدُ بالحظِّ عليكَ، ووازِنْ بين حالِكَ الآنَ، وقد تنبَّهْتَ مِن رقدَتِكَ، وأَفَقْتَ من غفلتِكَ، وصِرْتَ تَعلمُ - إذا أنتَ خُضْتَ في أمرِ اللفْظ والنّظْم - معنى ما تَذْكُر، وتَعْلمُ كيفَ تُورِدُ وتَصْدُرُ، وبينها وأنتَ من أمرها في عَمياءَ، وخابِطٌ خَبْط عَشْواءَ؛ قصاراك أن تُكِّررَ أَلفاظاً لا تَعرِفُ لشيءٍ منها تَفْسيراً، وضروبَ كلام للبلغاءِ إنْ سُئِلْتَ عن أغراضِهم فيها، لم تستطعْ لها تَبْييناً؛ فإنك تراكَ تُطِيلُ التعجُّبَ مِن غَفّّلتك، وتُكْثِرُ الاعتذارَ إلى عَقْلِك، من الذي كنتَ عليه طولَ مُدَّتك؛ ونسأَلُ اللهَ تعالى أنْ يَجْعل كلَّ ما نأتيه، ونقصِدُهُ ونَنْتحيه، لوجهِهِ خالصاً، وإلى رِضاه عزَّ وجَلَّ مؤدِّياً، ولِثَوابهِ مقْتَضِياً، وللزُّلْفى عنده مُوْجِبا، بمَّنه وفضلهِ ورحمتِه.


الفصل الأخير في كشف شبهة جعل الفصاحة للألفاظ
بسم الله الرحمن الرحيم

إعلمْ أَنه لمَّا كان الغلَطُ الذي دخَل على الناس ِ في حديثِ اللفظِ، كالداءِ الذي يَسْري في العروقِ، ويُفْسِد مِزاجَ البدنِ، وجَبَ أن يُتوخَّى دائباً فيهم ما يتَواخَّاه الطبيبُ في الناقة من تعهُّدهِ بما يزَيد في مُنَّته، ويُبَقِّيه على صحَّتِه، ويؤمّنُهُ النُّكْسَ في علَّتهِ؛ وقد علِمْنا أنَّ أصْل الفسادِ وسبَبَ الآفةِ هو ذَهابهُم عن أنَّ مِن شأنِ المعاني أن تَختلِفَ عليها الصورُ، وتَحدُثَ فيها خواصُّ ومَزايا بَعْد أنْ لا تكونَ؛ فإنك ترَى الشاعرَ قد عَمدَ إلى معنىً مبتذَلٍ، فصنَعَ فيه ما يَصْنَعُ الصانِعُ الحاذِقُ إذا هو أَغْرَبَ في صَنْعة خاتمٍ وعَمَلِ شَنْفٍ وغيرهما من أصناف الحِلى. فإنَّ جهْلَهم بذلك من حالِها هو الذي أَغواهُم واسْتَهواهم، وورَّطهم فيما توَرَّطوا فيه من الجهَالات، وأَدَّاهُم إلى التعلق بالمُحالات. وذلك أَنهم لمَّا جَهِلوا شأنَ الصورةِ وضَعُوا لأَنفُسِهم أساساً وبنَوْا على قاعدة؛ فقالوا إنه ليسَ إلا المعنى واللفظُ ولا ثالثَ، وإنه إذا كان كذلكَ وجَبَ إذا كان لأحدِ الكلامَيْنِ فضيلةٌ لا تَكون للآخَر، ثم كان الغرَضُ مِنْ أحدِهما هو الغَرَضَ من صاحبهِ أنَ يكونَ مَرْجِعُ تلك - زَعموا - يُؤدِّي إلى التناقض، وأنْ يكونَ معناهُما مُتَغايِراً وغيرَ متغايرٍ معاً. ولمَّا أَقَرُّوا هذا في نُفوسِهِم، حَمَلوا كلامَ العلماءِ في كل ما نَسَبوا فيه الفضيلةَ إلى اللفظِ على ظاهرِه وأَبَوْا أن ينظُروا في الأوصاف التي أَتْبعوها نسبتَهم الفضيلةَ إلى اللفظِ مثلَ قولهم: "لفظٌ متمكِّنٌ غيرُ قَلِقٍ ولا نابٍ به موضِعُه).


إلى سائر ما ذكرْناه قبْلُ، فيَعْلمَوا أَنهم لم يُوجِبوا لِلَّفظ ما أوجَبُوه من الفضيلةِ وهُمْ يَعْنُونَ نُطْقَ اللسانِ وأجراسَ الحرُوف، ولكنْ جعَلوا كالمواضَعَة فيما بينهم، أَنْ يقولوا وهُم يُريدون الصورةَ التي تَحْدُثُ في المعنى والخاصَّة التي حَدثَتْ فيه؛ ويَعْنونَ الذي عناه الجاحظُ حيث قال: وذهبَ الشيخُ إلى استحسانِ المعاني، والمعاني مطروحةٌ وسطَ الطريقِ يَعْرِفُها العربيُّ والعجميُّ والحضريُّ والبدويُّ، وإنما الشعرُ صياغةٌ وضرْبٌ من التصوير: وما يعَنونه إذا قالوا إنه يأخُذُ الحديثَ فيُشنِّفُه ويقرِّطُه، ويأْخذُ المعنى خرْزَةً فيردُّه جوهرةً، وعباءةً فيجعلُه ديباجة، ويأخذُه عاطِلاً فيردُّهُ حالياً، وليس كونُ هذا مرادَهم بحيثُ كان ينبغي أن يَخْفى هذا الخَفاءَ ويَشْتبِهَ هذا الاشتباهَ؛ ولكنْ إذا تعاطى الشيءَ غيرُ أهله، وتولَّى الأمرَ غيرُ البصير به، أَعْضَلَ الداءُ، واشتدَّ البلاءُ. ولو لم يكن مِنَ الدليلِ على أنهم لم يَنْحَلُوا اللفظَ الفضيلةَ وهم يُريدونه نَفْسَه، وعلى الحقيقة، إلا واحدٌ وهو وصْفُهم له بأنه يُزَيِّنُ المعنى، وأنه حُلى له، لكان فيه الكفايةُ، وذاك أنَّ الألفاظَ أدلَّةٌ على المعاني، وليس للدليل إلاَّ أنْ يُعْلِمَكَ الشيءَ على ما يكونُ عليه. فأَما أن يصيرَ الشيء بالدليل على صفةٍ لم يكُنْ عليها، فما لا يقوم في عقل، ولا يُتصوَّرُ في وَهْم.
الشبهة بأخذ المعنى وسرقته على فصاحة الألفاظ


وممَّا إذا تفكَّرَ فيه العاقلُ، أطالَ التعجُّبَ من أمر الناس، ومن شدَّةِ غَفْلتهم، قولُ العلماءِ حيثُ ذكَروا الأَخذَ والسَّرِقة: إنَّ مَنْ أخذَ معنًى عارياً فكَساه لفظاً مِنْ عندِه كانَ أحقَّ به. وهو كلامٌ مشهورٌ متداولٌ يقرأُه الصبيانُ في أول كتاب عبد الرحمن ثم لا ترى أحداً من هؤلاء الذين لهَجُوا بجعل الفضيلةِ في اللفظ يفكِّرُ في ذلك فيقول: من أَين يُتصوَّر أن يكونَ هاهنا معنىً عارٍ من لفظٍ يَدلُّ عليه؟ ثم من أين يُعْقَلُ أن يجيءَ الواحدُ منا لِمعنىً من المعانيِ، بلفظٍ من عنده إنْ كان المرادُ باللفظ نُطْقَ اللسان؟ ثم هبْ أنه يصِحُّ له أن يَفْعلَ ذلك، فمن أَينَ يَجِبُ إذا وَضَع لفظاً على معنىً، أن يصيرَ أَحقَّ به من صاحبه الذي أخذه منه، إن كان هو لا يَصْنَع بالمعنى شيئاً، ولا يُحْدِثُ فيه صفةً، ولا يَكْسِبُه فضيلةً؟ وإذا كان كذلك، فهل يكونُ لكلامهِم هذا وجهٌ سِوى أنْ يكونَ اللفظُ في قولهم: (فكَساهُ لفظاً من عنده) عبارةً عن صورةٍ يُحْدِثها الشاعرُ أو غيرُ الشاعر للمعنى؟ فإن قالوا: (بلى يكونُ! وهو أن يستعيرَ لِلمعنى لفظاً)، قيل: الشأنُ في أنهم قالوا "إذا أَخذ معنىً عارياً فكَساه لفظاً من عِنده كان أحقَّ به" والاستعارةُ عندكم مقصورةٌ على مجرَّد اللفظِ ولا ترَوْنَ المستعيرَ يَصْنَع بالمعنى شيئاً، وتَرونَ أنه لا يحدثُ فيه مزيَّةٌ على وجهٍ من الوجوه؛ وإذا كان كذلك فمِنْ أَين - ليت شعري - يكون أحقَّ به؟ فاعرفه!
ثُمَّ إنْ أردْتَ مثالاً في ذلك، فإنَّ مِن أَحسنِ شيءٍ فيه، ما صنَع أبو تمام في بيت أَبي نُخَيْلة، وذلك أن أَبا نخيلة قال في مسلمَةَ بنِ عبد الملك [من الطويل]:
أَمَسْلَمَ إني يابْنَ كلِّ خَليفةٍ ... ويا جَبَل الدنيا ويا واحِدَ الأرضِ
شكرتُكَ إنَّ الشكْرَ حبْلٌ من التُّقى ... وما كلُّ مَنْ أولَيْتَهُ صالحاً يَقْضي
وأَنْبَهْتَ لي ذِكرى وما كان خاملاً ... ولكنَّ بعضَ الذكْرِ أَنبهُ من بَعْضِ
فعمد أبو تمام إلى هذا البيت الأخير فقال [من الطويل]:
لقد زِدْتَ أوْضاحي امتداداً ولم أَكُنْ ... بهيماً ولا أَرْضي مِنَ الأرض مَجهلا


ولكنْ أيادٍ صادفَتْني جِسَامُها ... أغرَّ فأَوفَتْ بي أغرَّ مُحجَّلا
وفي كتاب "الشعر والشعراء" للمرزُباني فصلٌ في هذا المعنى حسَنٌ قال: "ومن الأَمثال القديمة قولهم "حَرًّا أخافُ على جاني كَمأَةٍ لا قُرّاً" يُضرَب مثلاً للذي يَخافُ مِن شيءٍ فيَسْلمُ منه، ويُصِيبهُ غيرهُ مما لم يَخَفْهُ، فأخذَ هذا المعنى بعضُ الشعراء فقال [من الكامل]:
وحَذِرْتُ مِنْ أَمْرٍ فمرَّ بِجانبي ... لم يُنْكِني ولَقِيتُ ما لَمْ أَحْذَرِ
وقال لبيد [من المنسرح]:
أَخْشى على أَرْبَدَ الحتُوفَ ولا ... أرْهَبُ نَوْءَ السّماكِ والأَسدِ
قال: وأخذَه البحتريُّ فأحسن، وطغى اقتداراً على العبارة واتِّساعاً في المعنى فقال [من الكامل]:
لو أنني أُوفي التجاربَ حَقَّها ... فيما أرَتْ لَرجَوْتُ ما أَخْشاهُ
وشبيهُ بهذا الفصْلِ فصلٌ آخر من هذا الكتاب أيضاً. أنشد لإبراهيم ابن المهدي [من السريع]:
يا مَنْ لِقَلْبِ صِيغَ من صَخْرةٍ ... في جَسَدٍ من لؤلؤٍ رطْبِ
جرحتُ خدَّيْه بلحْظي فَمَا ... بَرِحْتُ حتى اقتصَّ مِنْ قلبي
ثم قال: قال علي بن هارون أخذه أحمد بن أبي فَنَن معنىً ولفظاً فقال [من الكامل]:
أَدْمَيْتُ باللحظاتِ وجْنَتَهُ ... فاقتصَّ ناظرُهُ من القَلْبِ
قال: ولكنه بنقاء عبارته وحُسْنِ مأخذه قد صار أَوْلى به: ففي هذا دليل لِمن عقَلَ أَنهم لا يَعْنونَ بحُسْنِ العبارة مجَّردَ اللفظِ ولكنْ صورةً وصِفةً وخصوصيةً في المعنى، وشيئاً طريقُ معرفتِه على الجملة، العقلُ دون السمْع؛ فإنه على كلِّ حالٍ لم يَقُلْ في البحتري إنه أحْسَن فطغى اقتداراً على العبارةِ من أَجْلِ حروف:
لو أنني أوفي التجاربَ حقها
وكذلك لم يصِفْ ابنَ أبي فَنن بنقاء العبارة من أجْل حروف:
أَدْمَيْتُ باللحظاتِ وجْنَتَهُ
غلط قياس الكلام على الكلم في الفصاحة


واعلمْ أَنَّكَ إذا سبرْتَ أَحوالَ هولاءِ الذين زَعَموا أنه إذا كان المعبَّرُ عَنهُ واحداً والعبارةُ اثنتَيْن، ثم كانت إحدى العبارتَيْن أَفْصَحَ من الأخرى وأحْسَنَ، فإنه يَنبغي أن يكونَ السببُ في كونها أَفْصَحَ وأحسَنَ، اللفظَ نفسَه، وجدتَهم قد قالوا ذلك من حيثُ قاسوا الكلامَيْن على الكلمتَيْن، فلما رأَوْا أَنه إذا قيل في الكلمتين إن معناهما واحدٌ، لم يكنْ بينهما تفاوتٌ ولم يكنْ للمعنى في أحدِهما حالٌ لا يكون له في الأخرى، ظَنُّوا أنَّ سبيلَ الكلامين في هذا السبيلُ. ولقد غَلِطوا فأَفْحَشوا، لأنه لا يُتصوَّرُ أنْ تكونَ صورةُ المعنى في أحد الكلامين أو البيتين، مثْلَ صورتِه في الآخَر البتَّةَ، اللَّهُمَّ إلاَّ أنْ يَعْمدَ عامِدٌ إلى بيتٍ فيضَعَ مكانَ كلِّ لفظةٍ من لفظةً في معناها، ولا يَعْرِضُ لنظْمهِ وتأليفه، كمِثلِ أن يقول في بيت الحُطَيْئَة [من البسيط]:
دَعِ المكارِمَ لا تَرْحَلْ لبُغْيتها ... واقعُدْ فإنك أنتَ الطاعِمُ الكاسي
ذَرِ المفَاخِرَ لاتذْهَبْ لِمَطْلبها ... واجلسْ فإنك أنتَ الآكِل اللابسُ
وما كان هذا سبيلَه، كان بمعزلٍ من أنْ يكونَ به اعتدادٌ، وأنْ يَدخُلَ في قبيلِ ما يفاضَلُ فيه بين عبارتين؛ بل لا يصِحُّ أنْ يُجعلَ ذلك عبارةً ثانيةً، ولا أنْ يُجعلَ الذي يتعاطاه بِمَحَلِّ مَنْ يوصَف بأنه أخذَ معنىً. ذلك لأنه لا يكونُ بذلك صانعاً شيئاً يَستحقُّ أنْ يُدْعى من أجْلهِ واضعَ كلامٍ ومستأنِفَ عبارةٍ وقائلَ شعرٍ. ذاك لأنَّ بيتَ الحطيئةِ لم يكُن كلاماً وشعراً مِن أجْل معاني الألفاظ المفردة التي تراها فيه مجرَّدةً معرَّاةً من معاني النظْمِ والتأليفِ، بل منها مُتَوخىًّ فيها ما ترَى من كَوْن (المكارِم) مفعولاً لـ (دعْ) وكونِ قوله: (لا ترحل لبغيتها)؛ جملةً أكَّدتْ الجملةَ قبلَها، وكون "اقْعد" معطوفاً بـ (الواو) على مجموع ما مضى، وكون جملة: أنتَ الطاعمُ الكاسى: معطوفةً بـ (الفاء) على "اقعد"، فالذي يجيء، فلا يُغيِّر شيئاً من هذا الذي به كان كلاماً وشعراً، لا يكونُ قد أتى بكلامٍ ثانٍ وعبارةٍ ثانية، بل لا يكون قد قال من عندِ نفْسِه شيئاً البتةَ.


وجملة الأمر أَنه، كما لا تكونُ الفِضَّةُ خاتَما أو الذهَبُ خاتماً أو سواراً أوغيرهما، من أصناف الحِلَى بأنفُسِهما، ولكنْ بما يحدُثُ فيهما من الصورة، كذلك لا تكونُ الكَلِمُ المفردةُ التي هي أسماءٌ وأفعالٌ وحروفٌ، كلاماً وشعراً، من غير أن يحدُثَ فيها النظْمُ الذي حقيقَتُه توَخِّي معاني النحو وأَحكامِه. فإذنْ ليس لمن يتصدَّى لمَا ذكَرْنا مِن أَنْ يَعْمَد إلى بيتٍ فيضَعُ مكانَ كلِّ لفظةٍ منها لفظةً في معناها، إِلاَّ أن يُسْتَرَكَّ عقلُه ويُسْتَخفَّ، ويُعدَّ معدَّ الذي حُكي أنه قال: إني قلتُ بيتاً هو أَشعَرُ من بيتِ حسَّان، قال حسان [من الكامل]:
يُغْشَوْن حتى ما تَهِرُّ كلابُهُمْ ... لا يَسْأَلون عَنِ السوادِ المُقْبِلِ
وقلتُ:
يُغْشَون حتى ما تَهِرُّ كلابهُم ... أبداً ولا يَسْألون من ذا المُقبِلُ
فقيلَ هو بيتُ حسان، ولكنَّك قد أفسَدْتَه.
واعلمْ أنه إنما أُتِيَ القومُ مِنْ قلة نظَرِهم في الكُتُبِ التي وضعَها العلماءُ في اختلاف العبارتَين على المعنى الواحد، وفي كلامهم في أَخْذ الشاعر من الشاعرِ، وفي أنْ يقول الشاعرانِ على الجملة في معنى واحدٍ وفي الأشعار التي دونوها في هذا المعنى، ولو أنهم كانوا أخَذُوا أنفُسَهم بالنظرِ في تلك الكتبِ وتدبَّروا ما فيها حقَّ التدَبُّر، لكان يكونُ ذلك قد أيقظَهم مِن غفْلَتهم، وكشفَ الغِطاء عَنْ أعينهم.


فصل: الموازنة بين المعنى المتحد واللفظ المتعدد
وقد أردتُ أن أكتبَ جملةً من الشعر الذي أنتَ ترى الشاعرَيْن فيه قد قالا في معنىً واحدٍ، وهو ينقسم قسمين:
قَسمٌ أنت ترَى أحدَ الشاعرَين فيه قد أتى بالمعنى غُفْلاً ساذَجاً، وترى الآخَرَ قد أخرجَه في صورةٍ تَروقُ وتُعْجِبُ.
وقسمٌ أنتَ ترى كلَّ واحدٍ من الشاعرَين قد صَنعَ في المعنى وَصَوَّرَ.
القسم الأول
وأبدأُ بالقسم الأول الذي يكون المعنى في أحدِ البَيْتين غُفلاً وفي الآخَرِ مصوَّراً مَصْنوعاً، ويكونُ ذلك إمَّا لأنَّ متأَخِّراً قصَّر عن مُتقدِّم، وإمَّا لأن هُدى متأخرٍ لشيءٍ لم يَهْتدِ إليه المتقدِّمُ، ومثال ذلك قولُ المتنبي [من المنسرح]:

بِئْسَ اللَّيالي سَهِرْتُ مِنْ طَرَبي ... شَوْقاً إِلى مَنْ يَبيتُ يَرْقُدُها
مع قولِ البحتري [من الكامل]:
لَيلٌ يُصَادِفُنِي ومَرْهَفَةَ الحَشَا ... ضِدَّيْنِ أَسْهَرُهُ لَهَا وَتَنامُه
وقولُ البحتري [من البسيط]:
وَلو ملَكتُ زَماعاً ظَلَّ يَجْذِبُني ... قَوْداً لَكَانَ نَدى كَفيَّكَ منْ عُقُلي
مع قولِ المتنبي [من الطويل]:
وَقَيَّدْتُ نفْسِي في ذُرَاكَ مَحَبَّةً ... وَمَنْ وَجَدَ الإِحْسانَ قَيْداً تَقَيَّدَا
وقولُ المتنبي [من الطويل]:
إذَا اعْتَلَّ سَيْفُ الدَّوْلَةِ اعْتَلَّتِ الأَرضُ ... وَمَنْ فَوْقَهَا وَالْبَأسُ وَالْكَرَمُ الْمَحْضُ
مع قول البحتري [من الطويل]:
ظَلِلْنَا نَعُودُ الْجُودَ منْ وَعْكِكَ الّذِي ... وَجَدْتَ وَقلْنَا اعْتَلَّ عُضْوٌ منَ الْمَجْدِ
وقولُ المتنبي [من الكامل]:
يُعْطِيكَ مُبْتَدِئاً فَإِنْ أَعْجَلْتَهُ ... أَعْطَاكَ مُعْتَذِراً كَمَنْ قَدْ أَجْرَما
مع قول أبي تمام [من الطويل]:
أخو عَزماتٍ فِعْلُهُ فِعلُ مُحْسِنٍ ... إلَيْنَا وَلكنْ عُذْرُهُ عُذْرُ مُذْنبِ
وقولُ المتنبي [من الطويل]:
كَرِيمٌ مَتَى اسْتُوهِبْتَ ما أَنتَ رَاكِبٌ ... وَقَدْ لقِحَتْ حَرْبٌ فإِنَّكَ نَازِلُ
مع قول البحتري [من البسيط]:
مَاضٍ عَلَى عَزْمِهِ في الْجُودِ لَوْ وَهَبَ الشـ ... ـبَابَ يَوْمَ لِقَاءِ الْبِيضِ مَا نَدِمَا
وقولُ المتنبي [من الخفيف]:
وَالَّذِي يَشْهَدُ الوَغَى سَاكِنُ الْقَلْـ ... ـبِ كَأَنَّ القِتَالَ فيها ذِمامُ
مع قولِ البحتريِّ [من الطويل]:
لَقَدْ كَانَ ذَاكَ الجَأْشُ جَأْشَ مُسَالمٍ ... عَلَى أَنَّ ذَاكَ الزّيَّ زِيُّ مُحَارِبِ
وقولُ أبي تمام [من الكامل]:
الصُّبْحُ مَشْهُورٌ بِغَيْرِ دَلاَئِلِ ... مِنْ غَيْرِهِ ابتْغِيَتْ وَلا أَعْلاَمِ
مع قول المتنبي [من الوافر]:
وَلَيْسَ يَصحُّ في الأَذْهَانِ شَيْءٌ ... إذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ
وقولُ أبي تمام [من الوافر]:
وَفِي شَرَفِ الْحَدِيثِ دَلِيلُ صِدْق ... لِمُخْتَبِرٍ عَلَى شَرَفِ الْقَدِيمِ
مع قول المتنبي [من البسيط]:


أَفْعَالُه نَسَبٌ لوْ لمْ يقُلْ مَعَهَا ... جَدِّي الْخصِيبُ عَرَفْنَا الْعِرْقَ بالْغُصُنِ
وقولُ البحتري [من الكامل]:
وَأَحَبُّ آفاقِ البِلاَدِ إِلى فتًى ... أَرْضٌ يَنَالُ بِهَا كَرِيمَ المطْلَبِ
مع قول المتنبي [من الطويل]:
وَكلُّ امْرِىءٍ يُولِي الْجَمِيلَ مُحَبَّبٌ ... وَكلُّ مكَانٍ يُنْبِتُ العِزَّ طَيِّبُ
وقولُ المتنبي [من الطويل]:
يُقِرُّ لَهُ بالْفَضْلِ مَنْ لاَ يَوَدُّهُ ... وَيقْضِي لَهُ بِالسَّعْدِ مَنْ لاَ يُنَجِّمُ
مع قولِ البحتريِّ [من الكامل]:
لاَ أَدَّعِي لأَبِي العَلاَءِ فَضِيلَةً ... حَتَّى يُسَلِّمَهَا إِلْيهِ عِدَاهُ
وقولُ خالدٍ الكاتبِ [من المتقارب]:
رَقَدْتَ وَلَمْ تَرْثِ للِسَّاهِرِ ... وَلَيلُ الْمُحِبِّ بِلاَ آخِرِ
مع قولِ بشار [من الطويل]:
لِخديكَ مِنْ كَفَّيكَ فِي كُلِّ لَيلةٍ ... إلى أنْ تَرَى ضَوْءَ الصبَّاحِ وِسادُ
تبِيتُ تُرَاعي اللَّيلَ تَرْجُو نفَادَهُ ... وَليْسَ لِلَيلِ العَاشِقينَ نفَادُ
وقولُ أبي تمام [من الوافر]:
ثَوَى بالمشرقَيْنِ لهُمْ ضَجَاجٌ ... أطارَ قُلوبَ أَهْلِ المَغْرِبَيْنِ
وقولُ البحتري [من الطويل]:
تَناذَرَ أهلُ الشرقِ منه وقائعاً ... أطاعاَ لها العاصُونَ في بلدِ الغَرْبِ
مع قولِ مسلم [من البسيط]:
لمَّا نزلتُ على أَدْنى ديارِهم ... أَلْقَى إليكَ الأَقاصي بالمقَاليدِ
وقولُ محمد بن بشير [من البسيط]:
أُفْرُغْ لحاجتنا ما دمتَ مشغولاً ... فلو فَرَغْتَ لكنت الدهرَ مبذولا
مع قول أبي علي البصير [من الطويل]:
فقل لسعيد أسعدَ الله جَدَّه ... لقد رَثَّ حتى كاد ينصرمُ الحبْلُ
فلا تعتذر بالشغل عنا فإنما ... تُناطُ بك الآمالُ ما اتَّصل الشغْلُ
وقولُ البحتري [من الكامل]:
مِنْ غادةٍ مُنِعَتْ وتَمْنَعُ وَصْلَها ... فَلَوَ أنْها بُذِلَتْ لنا لم تَبْذُلِ
مع قولِ ابنِ الرومي [من مجزوء الكامل]:
ومن البلية أنني ... عُلّقتُ ممنوعاً منوعا
وقولُ أبي تمام [من الطويل]:
لئنْ كان ذنبي أنَّ أحْسَنَ مَطْلبي ... أساءَ ففي سُوءِ القضاءِ ليَ العُذْرُ
مع قولِ البحتري [من البسيط]:


إذا محاسنيَ اللاتي أُدِلُّ بها ... كانت ذنوبي فقل لي: كيف أَعتذرُ؟
وقولُ أبي تمام [من البسيط]:
قد يُقدِمُ الْعَيْرُ من ذُعر على الأسدِ
مع قولِ البحتري [من الطويل]:
فجاءَ مجيءَ العَيْرِ قادتْه حَيْرةٌ ... إلى أهْرَتِ الشِّدْقَينِ تَدْمَى أظافِرُهُ
وقول معن بن أوس [من الطويل]:
إذا انصرَفَتْ نفسي عن الشيءِ لم تَكَدْ ... إليه بوجهِ، آخِرَ الدهرِ، تُقْبِلُ
مع قولِ العباسِ بْنِ الأَحنف [من البسيط]:
نَقْلُ الجبالِ الرواسيِ مِنْ أَماكِنها ... أَخَفُّ من ردِّ قلبٍ حينَ يَنْصرِفُ
وقولُ أمية بن أبي الصلت [من الطويل]:
عطاؤُك زيْنٌ لامرىءٍ إنّ أصبتَهُ ... بخيرٍ وما كلُّ العطاءِ يزينُ
مع قولِ أبي تمّام [من البسيط]:
تُدْعى عطاياه وَفراً وهي إنْ شُهرتْ ... كانت فخاراً لمن يَعْفوه مؤْتَنِفا
ما زلتُ منتظراً أعجوبة عَنَناً ... حتى رأيت سؤالاً يجتنى شرفا
وقولُ جرير [من الطويل]:
بعَثْنَ الهوى ثم ارتَمَيْنَ قلوبنَا ... بأَسْهُمِ أعداءِ وهنَّ صديقُ
مع قولِ أبي نواس [من الطويل]:
إذا امتَحَنَ الدنيا لبيبٌ تكَشَّفَتْ ... لهُ عنْ عَدُوٍّ في ثيابِ صَديقِ
وقولُ كثيرٌ [من الطويل]:
إذا ما أرَادتْ خُلَّةٌ أنْ تُزيلَنا ... أَبَيْنا وقُلْنا الحاجِبيَّةُ أَوَّلُ
مع قولِ أبي تمام [من الكامل]:
نَقّلْ فؤادَك حيثُ شِئْتَ مِنَ الهوى ... ما الحبُّ إلاَّ لِلْحَبيبِ الأَوّلِ
وقولُ المتنبي [من الطويل]:
وعندَ مَنِ اليومَ الوفاءُ لصاحبٍ ... شَبيبٌ وأَوْفى مَنْ تَرى أخَوانِ
مع قولِ أبي تمام [من الطويل]:
فلا تَحْسبَا هِنداً لها الغَدْرُ وحدَها ... سَجيَّةُ نفسٍ: كلُّ غانيةٍ هِندُ
وقولُ البحتري [من الطويل]:
ولم أَرَ في رَنْقِ الصَّرى ليَ مَوْرِداً ... فحاولتُ وِرْدَ النيلِ عندَ احتفالِهِ
مع قولِ المتنبي [من الطويل]:
قَواصِدُ كافورٍ تَوارِكُ غَيْرِهِ ... ومَنْ قَصَدَ البحرَ استقلَّ السَّواقيا
وقولُ المتنبي [من المنسرح]:
كأنمَّا يُولَدُ النَّدى مَعَهُمْ ... لا صِغَرٌ عاذِرٌ ولا هَرَمُ
مع قولِ البحتري [من الطويل]:


عَرِيقونَ في الإفضالِ يؤْتَنَفُ النَّدى ... لِناشِئهِمْ مِنْ حيثُ يُؤْتنَفُ العُمْرُ
وقولُ البحتري [من الطويل]:
فلا تُغْلِيَنْ بالسيفِ كلَّ غَلائِهِ ... لِيمضي فإنَّ الكَفَّ لا السيفَ تقَطْعُ
مع قولِ المتنبي [من الطويل]:
إذا الهِندُ سَوَّتْ بينَ سَيْفيْ كَريهةٍ ... فسَيفُكَ في كَفِّ تُزيلُ التساوِيا
وقولُ البحتري [من الطويل]:
سامَوْكَ من حَسَدٍ فأفضلَ منهمُ ... غيرُ الجَوادِ وجادَ غيرُ المُفْضِلِ
فبَذلتَ فينا ما بذَلْتَ سَماحةً ... وتَكَرُّماً وبذَلْتَ ما لم تَبْدُلِ
مع قولِ أبي تمام [من الطويل]:
أَرى الناسَ مِنهاجَ الندى بعدَ ما عَفَتْ ... مَهايِعُهُ المُثْلى ومحَّتْ لوَاحِبُهْ
ففي كلِّ نَجَدِ في البلاد وغائرٍ ... مواهبُ ليسَتْ منهُ وهْيَ مَوَاهِبُهْ
وقولُ المتنبي [من البسيط]:
بيضاءُ تُطمِعُ فيما تَحْتَ حُلَّتِها ... وعزَّ ذلكَ مَطْلوباً إذا طُلِبا
مع قولِ البحتري [من الكامل]:
تبدو بعَطْفةِ مُطْمِعٍ حتى ... إذا شُغِلَ الخَلِيُّ ثنَتْ بصَدْفَةِ مُؤْيِسِ
وقولُ المتنبي [من الكامل]:
إذْكارُ مِثْلِكَ تَرْكُ إذكاري لهُ ... إذْ لا تُريدُ لِمَا أُريدُ مُتَرجِما
مع قولِ أبي تمام [من الخفيف]:
وإذا المَجْدُ كان عَوْني على المَرْ ... ءِ تَقَاضَيْتهُ بِتَرْكِ التقاضي
وقولُ أبي تمام [من الكامل]:
فنَعِمْتِ من شمسِ إذا حُجبت بَدتْ ... مِنْ خِدرِها فكأَنها لم تُحْجَبِ
مع قولِ قيس بن الخطيم [من المنسرح]:
قضى لها اللهُ حينَ صَوَّرها ... (م) الخَالِقُ ألاَّ تُكِنَّها سُدُفُ
وقولُ المتنبي [من الخفيف]:
رامياتٍ بأسْهُمِ ريشُها الهُدْ ... بُ تشُقُّ القُلوبَ قبلَ الجُلودِ
مع قولِ كُثيرِّ [من الطويل]:
رمتني بسهمٍ ريشُهُ الكُحْلُ لم يجُزْ ... ظواهرَ جلدي وهْوُ في القلبِ جارحُ
وقولُ بعضِ شعراء الجاهلية ويعْزى إلى لبيد [من الكامل]:
ودَعوتُ رَبي بالسلامةِ جاهِداً ... ليُصِحَّني فإذا السَّلامةُ داءُ
مع قولِ أبي العتاهية [من الرجز]:
أسرَع في نقصِ أمرىءٍ تمامُهُ ... تُدْبرُ في إقبالها أيامهُ
وقولُه [من مجزوء الكامل]:
أقلِلْ زيارتَك الجبيـ ... ـبَ تكونُ كالثوبِ استجدَّهْ


إنَّ الصديقَ يُمِلُّهُ ... أنْ لا يزالَ يَراكَ عندَهْ
مع قولِ أبي تمام [من الطويل]:
وطولُ مُقامِ المرءِ في الحيِّ مُخْلقٌ ... لديباجَتيْهِ فاغتربْ تَتَجدَّدِ
وقولُ الخريمي [من الطويل]:
زادَ مَعْروفَك عندي عِظَما ... أَنَّه عندَك محقورُ صَغيرُ
تَتناساهُ كأَنْ لم تَأتِهِ ... وهُوَ عند الناسِ مشهورٌ كَبيرُ
مع قولِ المتنبي [من المنسرح]:
تَظْنُّ مِن فقْدِكَ اعتدادَهَمُ ... أَنَّهُم أَنْعَموا وما عَلِموا
وقولُ البحتري [من الوافر]:
ألم تَرَ للنوائبِ كيفَ تَسْمُو ... إلى أهْلِ النوافلِ والفُضولِ
مع قولِ المتنبي [من البسيط]:
أَفاضلُ الناسِ أَغراضٌ لِذا الزَّمنِ ... يخْلُو مِن الهَمِّ أَخْلاهُمْ من الفِطَنِ
وقولُ المتنبي [من الطويل]:
تَذَلَّلْ لها واخضَعْ على القربِ والنوى ... فما عاشِقٌ مَنْ لا يَذِلُّ ويَخْضَعُ
مع قولِِ بعض المحدثين [من مجزوء الرمل]:
كُنْ إذا أَخببتَ عَبْداً ... للذي تَهوى مُطِيعا
لن تَنالَ الوصْلَ حتى ... تُلْزِمَ النفسَ الخُضوعا
وقولُ مضرِّس بن رِبْعِيّ [من الطويل]:
لَعمرُكَ إني بالخليلِ الذي لَهُ ... عليَّ دلالٌ واجبٌ لمُفَجَّعُ
وإنيَ بالمولى الذي ليسَ نافعي ... ولا ضائري فُقدانُهُ لمُمَتَّعُ
مع قول المتنبي [من الطويل]:
أَمَا تَغْلَطُ الأَيامُ فيَّ بأَنْ أَرى ... بَغيضاً تُنائي أوْ حَبيباً تُقرِّبُ؟
وقولُ المتنبي [من البسيط]:
مظلومةُ القَدّ في تشبيهِهِ غُصُناً ... مظلومةُ الريقِ في تشبيهِهِ ضَرَبا
مع قولهِ [من الطويل]:
إذ نحنُ شبَّهنْاكَ بالبدْرِ طالعاً ... بَخَسْناك حَظّاً أنتَ أَبْهى وأَجمَلُ
ونَظْلِمُ إنْ قِسْناك بالليثِ في الوغى ... لأَِنكَ أحْمى للحريمِ وأَبسَلُ
...
القسم الثاني
ذكر ما أنتَ ترى فيه في كل واحدٍ من البيتين صنعةً وتصويراً واستاذيةً على الجملة. فمن ذلك وهو من النادر قول لبيد [من الرمل]:
واكذِبِ النفسَ إذا حدَّثْتَها ... إنَّ صدْقَ النفسِ يُزري بالأَمَلْ
مع قولِ نافع بنِ لَقيط [من الكامل]:
وإذا صدقتَ النفسَ لم تَتركْ لها ... أَملاَ ويأمُلُ ما اشتهى المكذوبُ


وقولُ رجلٍ من الخوارج أُوتِيَ الحجاجَ في جماعة من أصحاب قَطَرِيٍّ فقلتهم، ومنَّ عليه لِيَدٍ كانت عنده؛ وعاد إلى قَطَرِيٍّ فقال له قطريٌ: عاودْ قتال عدوِّ الله الحجاج: فأبى وقال [من الكامل]:
أَأُقاتِل الحجَّاجَ عَنْ سُلْطانه ... بِيدٍ تُقِرُّ بأَنها مَولاتُهُ
ماذا أقولُ إذا وقفتُ إزاءَهُ ... في الصفِّ واحتجَّتْ له فَعَلاتُهُ
وتحدَّثَ الأَقوامُ أنَّ صَنائعاً ... غُرِسَتْ لديّ فَحَنْظَلَتْ نَخلاتُهُ
مع قول أبي تمام [من الطويل]:
أُسَرْبِل هُجْرَ القولِ مَنْ لو هَجَوْتُهُ ... إذَنْ لَهجَاني عنه معروفُهُ عندي
وقولُ النابغة [من الطويل]:
إذا ما غَدَا بالجيشِ حلَّقَ فَوْقَهُ ... عَصائِبُ طيرٍ تَهْتَدي بعَصَائبِ
جَوانحُ قد أَيْقَنَّ قَبِيلَهُ ... إذا ما التقى الصفَّانِ أولُ غالِبِ
مع قولِ أبي نواس [من المديد]:
وإذامجَّ القَنا عَلَقَا ... وتراءَى الموتُ في صُوَرِهُ
راحَ في ثِنْيَيْ مُفاضَتِهِ ... أَسَدٌ يَدمى شَبا ظفُرهْ
يتأبْى الطيرُ غُدْوَته ... ثِقةً بالشِبْع من جَزَرِهُ
المقصود البيتُ الأخير. وحكى المرزباني، قال حدثني عمرو الورَّاقُ: رأيتُ أبا نواس يُنْشد قصيدتَه التي أولها:
أيها المنتابُ من عُفُرِهُ
فحسدْتُه. فلما بلغ إلى قوله:
يتأَبى الطيرُ غدوتَهُ ... ثقةً بالشِّبْع من جَزَرِهُ


قلتُ له: ما تركتَ للنابغة شيئاً حيث يقولُ: "إذا ما غدَا بالجيش: البيتين - فقال: اسكُتْ! فلئن كان سَبَقَ فما أسأْتُ الاتِّباعَ". وهذا الكلامُ من أبي نواس دليلٌ بيِّنٌ في أنَّ المعنى يُنْقَل من صورة إلى صورة؛ ذاك لأنه لو كان لا يكونُ قد صنَعَ بالمعنى شيئاً، لكان قوله: "فما أسأتُ الاتِّباع": مُحالاً، لأنه على كل حالٍ لم يَتْبَعْه في اللفظ. ثم إنَّ الأَمر ظاهرٌ لِمَن نظَر في أنه قد نَقَل المعنى عن صورته التي هو عليها، في شعر النابغة، إلى صورة أُخرى، وذلك أنَّ هاهنا معنيَيْنِ أحدُهما أصْلٌ، وهو عِلْمُ الطير بأنَّ الممدوحَ إذا غزا عَدُوّاً كان الظفَرُ له وكان هو الغالبَ، والآخرُ فرْعٌ، وهو طمَعُ الطيرِ في أن تتَّسع عليها المطاعِمُ من لْحومِ القتلى. وقد عَمَد النابغةُ إلى الأَصْل الذي هو علْمُ الطير بِأنَّ الممدوحَ يكونُ الغالبَ، فذَكَره صريحاً وكشَفَ عنه وجهه، واعتمَدَ في الفرع الذي هو طمَعُها في لحوم القتلى، وأَنها لذلك تُحَلِّقُ فوقه، على دلالةِ الفَحْوى. وعكَسَ أبو نواس القصَّة، فذكَر الفرْعَ الذي هو طمَعُها في لحوم القتلى صريحاً، فقال كما ترى:
ثقة بالشِّبْعِ من جزرهُ
وعوَّلَ في الأَصْل الذي هو علْمُها بأن الظَّفرَ يكون للممدوح، على الفحوى؛ ودلالةُ الفحوى على عِلْمِها أن الظفر يكون للممدوح، هي في أَنْ قال "من جزره". وهي لا تثق بأنَّ شِبَعَها يكون من جَزَر الممدوح، حتى تعلم أَنَّ الظَّفر يكونُ له، أفيكونُ شيءٌ أظهرَ من هذا في النقل عن صورة إلى صورة؟
الموازنة بين الشعرين، الإجادة فيهما من الجانبين
أرجِعُ إلى النَّسق. ومن ذلك قول أبي العتاهية [من الخفيف]:
شِيمٌ فَتَّحَتْ من المدْحِ ما قَدْ ... كانَ مُسْتَغلَقاً على المُدَّاحِ
مع قولِ أبي تمام [من الكامل]:
نظمتْ له خرَز المديحِ مَواهِبٌ ... يَنْفُثْنَ في عُقد اللسانِ المفْحَمِ
وقولُ أبي وجزة [من الوافر]:
أتاكَ المَجْدُ منْ هَنَّا وهَنَّا ... وكنتَ له كمجتَمَعِ السُّيولِ
مع قولِ منصور النمري [من البسيط]:
إنَّ المكارِمَ والمعروفَ أَوديةٌ ... أَحلَّكَ اللهُ منها حيثُ تَجْتمِعُ
وقولُ بشار [من البسيط]:


الشيب كُرْهٌ وكُرْهٌ أن يُفارِقَني ... أَعْجِبْ بشيءٍ على البغضاءِ مَوْدودِ
مع قولِ البحتري [من الوافر]:
تَعيبُ الغانياتُ عليَّ شَيْبي ... ومَنْ لي أَنْ أُمَتَّعَ المعِيبِ؟
وقولُ أبي تمام [من المنسرح]:
يشتاقُهُ مِنْ كمَالِهِ غدُهُ ... ويُكْثِرُ الوَجْدَ نحوهُ الأمسُ
مع قولِ ابن الرومي [من الطويل]:
إمامٌ يَظَلُّ الأمسُ يُعمِلُ نَحْوهُ ... تَلَفُّتَ ملْهوفٍ ويَشْتاقُهُ الغَدُ
لا تنظرْ إلى أنه قال: "يشتاقُه الغَدُ". فأعادَ لفظ أبي تمام، ولكن انْظُرْ إلى قوله: "يعمل نحوه تلفتَ ملهوفٍ".
وقولُ أبي تمام [من الطويل]:
لئنْ ذَمَّتِ الأعداءُ سوءَ صَباحِها ... فليس يؤدِّي شُكْرَها الذئبُ والنَّسرُ
مع قول المتنبي [من المتقارب]:
وأثْبَتَّ مِنْهُمْ ربيعَ السِّباعِ ... فأَثْنَتْ بإحسانِكَ الشاملِ
وقولُ أبي تمام [من البسيط]:
ورب نائي المغاني رُوحُهُ أبداً ... لَصِيقُ رُوحي وَدانٍ ليس بالداني
مع قولِ المتنبي [من الوافر]:
لنا ولأَهْلِهِ أبداً قُلوبٌ ... تلاَقى في جسومٍ ما تَلاقى
وقولُ أبي هِفَّان [من الرمل]:
أصبحَ الدهرُ مُسيئاً كلُّهُ ... مالَهُ إلاَّ ابنَ يَحْيى حَسنَهْ
مع قولِ المتنبي [من الطويل]:
أزالتْ بِكَ الأيامُ عَتْبي كأنما ... بَنُوها لَها ذَنْبٌ وأنتَ لها عذْرُ
وقولُ علي بن جبلة [من الكامل]:
وأَرى الليالي ما طوَتْ مِنْ قُوَّتي ... رَدَّته في عِظتي وفي أفهامي
مع قولِ ابن المعتز [من المتقارب]:
وما يُنتقَصْ من شَبابِ الرِّجال ... يَزِدْ في نُهاها وألبَابِها
وقولُ بكر بن النطاح [من الطويل]:
ولوْ لم يكنْ في كفّه غيرُ روحِهِ ... لجَاد بِها فلْيتَّقِ اللهَ سائِلُهْ
مع قول المتنبي [من المنسرح]:
إِنكَ مِنْ مَعْشَرٍ إذا وَهَبوا ... ما دُونَ أَعمارِهِمْ فَقد بَخِلُوا
وقولُ البحتري [من الطويل]:
وَمَنْ ذَا يَلُومُ البْحرَ إنْ باتَ زاخِراً ... بفيضِ وصوبَ المزْنِ إن راحَ يَهْطِلُ
مع قولِ المتنبي [من البسيط]:
وما ثَناكَ كلامُ الناسِ عَنْ كَرَمٍ ... ومَنْ يَسدُّ طريقَ العارضِ الهَطِلِ
وقولُ الكندي [من الكامل]:


عَزُّوا وعَزَّ بِعزِّهمْ مَنْ جَاوَرُوا ... فهُمُ الذُّرى وجَماجِمُ الهاماتِ
إنْ يَطلبُوا بِتِراتِهِمْ يُعطَوا بها ... أو يُطلَبوا لا يُدْرَكوا بتِراتِ
مع قول المتنبي [من الطويل]:
تُفيتُ الليالي كلَّ شيءٍ أخذْتَه ... وهنَّ لِمَا يأْخُذْنَ منِكَ غَوارِمُ
وقولُ أبي تمام [من الطويل]:
إذا سَيْفُه أضْحَى على الهامِ حاكِماً ... غدا العَفْوُ منهُ وهْوَ في السيفِ حاكِمُ
مع قولِ المتنبي [من الطويل]:
لهُ مِنْ كريم الطَّبْع في الحرْبِ مُنْتَضٍ ... ومِن عادةِ الإحسانِ والصَّفْحِ غامِدُ
فانظرْ الآنَ مَنْ نَفَى الغفْلةَ عن نفسِه، فإنكَ ترَى عِياناً أنَّ لِلْمعنى في كلِّ واحدٍ من البيتين، من جميع ذلكَ، صورةً وصفةً غيرَ صورتِه وصِفَتِه في البيتِ الآخَر، وأنَّ العلماءَ لم يُريدوا حيثُ قالوا: إنَّ المعنى في هذا هو المعنى في ذاك: أنَّ الذي تَعقَّل مِنْ هذا، لا يُخالِف الذي تعقَّل مِن ذاك؛ وأنَّ المعنى عائدٌ عليكَ في البيت الثاني على هيئَتهِ وصِفَتهِ التي كان عليها في البيت الأول: وأنْ لا فرْقَ ولا فصْلَ ولا تبايُنَ بوجهٍ من الوجوه؛ وإنَّ حكْم البيتينِ مثَلاً حكْمُ الاسمينِ قد وُضِعا في اللغة لشيءٍ واحد، كالليثِ والأَسد. ولكنْ قالوا ذلك على حَسَبِ ما يقوله العُقَلاء في الشيئينِ يَجْمَعهما جنسٌ واحدٌ ثم يفترقانِ بخواصَّ ومَزايا وصفاتٍ كالخاتمَم والخاتَم، والشَّنْف والشَّنْف، والسِّوارِ والسوار، وسائرِ أصنافِ الحِلَى التي يَجْمعها جنسٌ واحدٌ، ثم يكونُ بينها الاختلافُ الشديدُ في الصَّنْعة والعَمَل. ومَنْ هذا الذي يَنظُر إلى بيتِ الخارجِي، وبيتِ أبي تمام، فلا يَعْلَمُ أنَّ صورةَ المعنى في ذلك، غيرُ صورتِه في هذا، كيفَ والخارجيُّ يقول: (واحتجَّتْ له فَعْلاتُه). ويقولُ أبو تمام:
إذن لهجاني عنه معروفه عندي
ومتى كان "احتج" و "هجا" واحداً في المعنى؟ وكذلك الحكْمُ في جميع ما ذكرْناه: فليس يُتَصوَّرُ في نفس عاقلِ أن يكونَ قولُ البحتري [من الكامل]:
وأَحَبُّ آفاقِ البلادِ إلى الفتى ... أرضٌ يَنالُ بها كريمَ المطلبِ
وقولُ المتنبي [من الطويل]
وكلُّ مكانٍ يُنبِتُ العزَّ طيِّبُ
سواءً.


واعلمْ أنَّ قولَنا (الصورةُ) إنما هو تمثيلٌ وقياسٌ لِمَا نَعْلمه بعقلونا على الذي نرَاه بأبصارنا؛ فلما رأَينْا البَيْنونة بين آحاد الأجناسِ تكونُ مِنْ جِهةَ الصورةِ، فكان بين إنسانٍ من أنسانٍ وفرَسٍ من فرسٍ بخصوصيةٍ تكونُ في صورةِ هذا لا تكون في صورة ذلك. وكذلك كانَ الأمرُ في المصنوعات: فكان بين خاتَمٍ من خاتمٍ، وسِوَارٍ من سِوَارٍ بذلك. ثم وجَدْنا بين المعنى في أحد البيتين وبينه في الآخر بينونةً في عقولِنا وفَرْقاً عَبَّرْنا عن ذلك الفرقِ وتلكَ البينونةِ بأَنْ قلْنا: لِلمعنى فيِ هذا صورةٌ غيرُ صورتهِ في ذلك: وليس العبارةُ عن ذلك بالصورةِ شيئاً نحن ابتدأناه، فيُنْكِرَهُ مُنْكِرٌ، بل هو مُستعمَلُ مشهورٌ في كلام العلماءِ، ويكفيك قولُ الجاحظ: وإنما الشعر صناعة وضرب من التصوير!
واعلمْ أنه لو كان المعنى في أَحدِ البيتين يكونُ على هيئتِه وصِفَته في البيت الآخَر، وكان التالي من الشاعرين يَجيئُك به مُعَاداً على وجهه، لم يُحدِثْ فيه شيئاً ولم يُغيِّر له صِفةً، لكان قولُ العلماء في شاعر: إنه أَخَذَ المعنى من صاحبه فأحْسَنَ وأجاد: وفي آخَرَ: إنه أسَاءَ وقصَّر: لغوْاً من القولِ من حيثُ كان مُحالاً أن يُحْسِنَ أو يسيءَ في شيءٍ لا يَصْنع به شيئاً. وكذلك كان يكونُ جَعْلُهم البيتَ نظيراً للبيتِ ومناسِباً له، خطأً منهم، لأنه مُحال أن يُناسِبَ الشيءُ نفسَه وأن يكون نَظيراً لنفسه. وأمرٌ ثالث وهو أنهم يقولون في واحد: إنه أخَذ المعْنى فظَهَرَ أَخْذُه: وفي آخر: إنه أَخذَه فأخفى أخْذَه. ولو كان المعنى يكونُ مُعاداً على صورته وهيئته وكان الأَخْذ له من صاحِبه لا يَصْنع شيئاً غيرَ أن يُبدِّل لفظاً مكانِ لفظٍ، لكان الإخفاءُ فيه مُحالاً لأن اللفظ لا يُخْفى المعنى وإنما يُخْفيه إخراجُه في صورةٍ غيرِ التي كان عليها. مثالُ ذلك: إن القاضي أبا الحسن ذكَر فيما ذكرَ فيه تناسُبَ المعاني، بيتَ أب نواس [من المديد]،
خُلِّيَتْ والحُسْنَ تَأخذُهُ ... تَنْتقي منهُ وتَنْتخِبُ
وبيتَ عبدالله بنِ مُصعب [من الوافر]:
كأنك جئت محتكماً عليهم ... تَخيَّرُ في الأبوَّةِ ما تشاءُ


وذكَر أنهما معاً مِن بيت بشار [من الطويل]:
خُلِقتُ على ما فيَّ غيرَ مُخَيَّرٍ ... هوايَ ولو خُيِّرْتُ كنتُ المهذَّبا
والأمرُ في تناسب هذه الثلاثةِ ظاهرٌ. ثم إنه ذكَرَ أنَّ أبا تمام قد تناولَه فأخفاه وقال [من الوافر]:
فلو صوَّرْتَ نفسَك لم تَزِدْها ... على ما فيكَ من كَرمِ الطِّباعِ
ومن العجَب في ذلك ما تراه إذا أنتَ تأملْتَ قولَ أبي العتاهية [من الكامل]:
جُزِيَ البخيلُ عليَّ صالِحةً ... عنِّي لِخفَّتهِ على ظَهْري
أعلى وأَكْرمَ عن يديه يدي ... فَعلَتْ ونزَّه قدْرُه قدْري
وُرزِقتُ مِن جَدْواهُ عافيةً ... أنْ لا يَضيقَ بشكْرهِ صَدْري
وغَنِيتُ خِلْواً من تَفضُّلِهِ ... أحْنُو عليه بأحْسَنِ العُذْرِ
ما فاتَني خيرُ امرىءٍ وَضَعتْ ... عني يَداهُ مؤونةَ الشكْرِ
ثم نظرتَ إلى قولِ الذي يقولُ [من المنسرح]:
أعتقَني سوءُ ما صنعْتَ من الرِّ ... (م) قِّ فيابَرْدَها على كَبدي
فصِرتُ عبْداً للسوء فيكِ وما ... أَحْسَنَ سُوءٌ قَبْلي إلى أَحَدِ
ومما هو في غاية النُّدرة من هذا الباب، ما صنَعه الجاحظُ بقول نصَيبٍ [من الطويل]:
ولو سكتوا أثنتْ عليكَ الحقائبُ
حين نثرَه فقال وكتبَ به إلى ابن الزيات: نحنُ، أَعزك اللهُ، نَسْحَرُ بالبيان، ونُموِّه بالقول، والناسُ ينظرون إلى الحال، ويقْضُونَ بالعِيان، فأَثِّرْ في أَمرنا أَثراً ينطِقُ إذا سكَتْنا، فإنَّ المدَّعي بغير بيِّنةٍ متعرِّض للتكذيب.
وصف الشعر والإدلال به
وهذه جملة منْ وَصْفهم الشعرَ وعملِه وإدلالهِمْ بهِ.
أبو حيَّة النّمَيْري [من الكامل]:
إنَّ القصائدَ قد عَلِمْنَ بأنني ... صنَعُ اللسانِ بهن لا أَتَنحَّلُ
وإذا ابتدأتُ عروضَ نسج ريِّضٍ ... جعلَتْ تَذِلُّ لِمَا أُريد وتَسْهُلُ
حتى تُطاوِعَني ولو يَرْتاضُها ... غَيْري لحاوَلَ صَعْبةً لا تُقْبَلُ
تميم بن مقبل [من الطويل]:
إذا مُتُّ عن ذكْر القوافي فلن ترى ... لها قائلاً بَعْدي أَطبَّ وأشْعَرا
وأكثرَ بيتاً سائراً ضُرِبَتْ له ... حُزونُ جبالِ الشعرِ حتى تَيَسَّرا
أغرَّ غريباً يَمْسَحُ الناسُ وجْهَهُ ... كما تَمْسَحُ الأيدي الأَغَرَّ المُشَهَّرا
عدي بن الرِّقاع [من الكامل]:


وقصيدةِ قد بِتُّ أجْمَعُ بَينها ... حتى أُقوِّمَ ميلَها وسِنادَها
نظرَ المُثَقِّفُ في كعوبِ قنَاتِهِ ... حتى يُقيمَ ثِقَافهُ مُنْآدَها
كعب بن زهير [من لطويل]:
فَمَنْ للقوافي شَانَها مَن يَحُوكُها ... إذا ما تَوى كَعْبٌ وفوَّزَ جَرْوَلُ
يُقَوِّمُها حتى تَلِينَ مُتُونُها ... فَيقْصُرُ عنها كلُّ ما يُتَمثَّلُ
بشار [من الطويل]:
عَمِيتُ جَنِيناً والذكاءُ مِنَ العَمَى ... فجئتُ عجيبَ الظَّنِّ لِلْعِلْم مَوئِلا
وغاضَ ضياءُ العين لِِلْعِلْم رافداً ... لِقَلْبٍ إذا ما ضَيِّع الناسُ حَصِّلا
وشعر كنَورِ الروْضِ لاءمْتُ بَيْنَهُ ... بقولٍ إذا ما أحزنَ الشعرُ أَسْهَلا
وله [من المنسرح]:
زَوْرُ ملوكٍ عليه أُبَّهةٌ ... يُغرَفُ مِن شِعْره ومن خُطَبِهُ
للهِ ما راحَ في جوانحِهِ ... مِن لؤلؤٍ لا يُنَامُ عن طَلَبهْ
يَخرجُ مِن فيهِ للنديِّ كما ... يَخْرجُ ضوءُ النهارِ من لَهَبِهْ
أبو شريح العمير [من الوافر]:
فإنْ أَهلِكْ فقد أَبقَيْتُ بَعْدي ... قوافيَ تُعْجِبُ المتمثِّلينا
لَذِيذاتِ المَقَاطعِ محْكَماتٍ ... لوَ أنَّ الشِّعْرَ يُلبَسُ لارتُدِينا
الفرزدق [من الوافر]:
بَلغْنَ الشمسَ حين تكون شَرْقا ... ومسقَطَ قَرنِها من حيثُ غابا
بِكلِّ ثنِيَّةٍ وبكلِّ ثَغرٍ ... غرائبهُنَّ تَنتَسِبُ انْتِسابا
ابن ميادة [من الطويل]:
فَجَرْنا ينابيعَ الكَلامِ وبَحْرَهُ ... فأصْبَحَ فيه ذو الروايةِ يَسْبَحُ
وما الشعرُ إلا شعرُ قيسٍ وخِنْدِفٍ ... وشِعْرُ سواهُمْ كُلْفَةٌ وتَملُّحُ
وقال عقالُ بن هشام القَيْنيّ يرَدُّ عليه [من الطويل]:
ألاَ بلّغِ الرَّمَّاحَ نقضَ مقالةٍ ... بها خَطِل الرَّمَّاحُ أوكان يَمْزَحُ
لقد خَرَّقَ الحيُّ اليمانون قَبْلَهم ... بُحورَ الكلام تُسْتقَى وهي طفَّحُ
وهم عَلَّموا مَنْ بَعْدَهُمْ فتعلَّموا ... وهم أَعْرَبوا هذا الكَلامَ وأَوْضَحوا
فلِلسَّابقينَ الفضْلُ لا تَجْحدونه ... وليس لِمَسْبوقٍ عليهمْ تَبَجُّحُ
أبو تمام [من الطويل]:
كَشَفْتُ قِناعَ الشّعرِ عن حُرِّ وجْهِهِ ... وطيَّرتُه عن وَكْرهِ وهو واقِعُ


بِغُرِّ يَراها مَن يَراها بَسمْعِه ... ويدنو إليها ذو الحِجى وهو شاسِعُ
يَودُّ وداداً أنَّ أَعضاءَ جِسْمِهِ ... إذا أُنشِدَتْ شوقاً إليها مَسامِعُ
وله [من الكامل]:
حذّاءَ تَملأُ كلَّ أُذْنٍ حكْمةً ... وبَلاغةً وتُدِرُّ كلُّ وريدِ
كالدرِّ والمرجانِ أُلّف نَظْمُهُ ... بالشَّذْر في عُنُقِ الفتاةِ الرُّود
كَشقَيقةِ الُبْردِ الْمُنَمنمِ وَشْبُهُ ... في أرضِ مَهرةَ أو بلادِ تَزِيد
يُعطَى بها البُشرى الكريمُ ويَرْتدي ... بردِائها في المحفِلِ المَشْهودِ
بُشْرَى الغَنيِّ أَبي البَنَاتِ تتعابَعتْ ... بُشَرَاؤهُ بالفارسِ المولودِ
وله [من الطويل]:
جاءتْكَ من نَظْمِ اللسانِ قِلاَدَةٌ ... سِمْطانِ فيها اللؤلؤُ والمكنونُ
أَخْذاكها صَنَعُ الضميرِ يَمُدُّهُ ... جَفْرٌ إذاك نَضَبَ الكلامُ مَعِين
أخذ لفْظَ "الصَّنَع" من قولِ أَبي حية [من الكامل]:
بأنني صنَعُ اللسانِ بهنَّ لا أتنحل
ونقله إلى الضمير وقد جعل حسَّانُ أيضاً اللسانَ صنَعاً، وذلك في قوله [من البسيط]:
أَهْدَى لهم مِدَحاً قَلبٌ مُؤازِرُهُ ... فيما أحبَّ لسَانٌ حائكٌ صنَعُ
ولأبي تمام [من الطويل]:
إليكَ أرَحْنا عازِبَ الشِّعرِ بَعْدَما ... تمهَّل في روضِ المعاني العجَائِبِ
غرائبُ لاقتْ في فنائكَ أُنسَها ... مِن المَجْدِ فَهْيَ الآنَ غيرُ غَرائبِ
ولو كان يفنَى الشعرُ أفناهُ ما قَرَتْ ... حياضُكَ منه في السنين الذواهب
ولكنه صَوْبُ العقولِ إذا انْجَلَتْ ... سحائبُ منه أُعْقِبَتْ بِسَحَائِبِ
البحتري [من الطويل]:
ألستُ المُوالِي فيكَ نَظْمَ قصائدٍ ... هي الأنجُم اقْتَادَتْ مع الليلِ أَنْجُمَا
ثناءٌ كأَنَّ الروضَ منهُ مُنوِّرا ... ضُحَى وكأَنَّ الوشْيَ منهُ منَمْنما
وله [من البسيط]:
أحْسِنْ "أَبا حَسَنٍ" بالشعرِ إذْ جَعلَتْ ... عليكَ أنجمُهُ بالمدحِ تنتشرُ
فقد أتتكَ القوافي غِبَّ فائدةِ ... كما تَفَتَّحَ غِبَّ الوابلِ الزَّهرُ
وله [من الطويل]:
إليك القوافي نازعاتٌ قواصِدُ ... يُسَيَّرُ ضاحي وَشْيها ويُنَمْنَمُ
ومُشْرِقَةٌ في النظْمِ غُرٍّ يَزِينُها ... بهاءً وحُسْنَا أنها لكَ تُنَظَمُ
وله [من الطويل]:


بمنقوشةٍ نقْشَ الدنانيرِ يُنْتقى ... لها اللفظُ مختاراً كما يُنْتقى التِّبْرُ
وله [من الطويل]:
أيذهَبُ هذا الدهرُ لم يُرَ مَوْضِعي ... ولم يُدْرَ ما مِقدارُ حَلّي ولا عَقْدِي
ويَكْسِدُ مثلي وهْوَ تاجرُ سؤددٍ ... يَبيعُ ثميناتِ المكارِمِ والمَجْدِ
سوائرُ شِعرٍ جامعٍ بِدَدَ العُلى ... تعلَّقنَ من قَبلي وأتعبْنَ مَن بَعْدي
يقدِّرُ فيها صانعٌ مُتعمِّلٌ ... لأحكامِها تقديرَ "داودَ" في السَّرْدِ
وله [من الكامل]:
للهِ يَسهرُ في مديحِكَ ليلَهُ ... مُتَمَلْمِلاً، وتَنامُ دونَ ثَوابِهِ
يَقْظانَ يَنْتحِلُ الكلامَ كأنهُ ... جيشٌ لديهِ يُريدُ أَنْ يَلْقَى بِهِ
فأتى بهِ كالسيفِ رَقَرَقَ صَيْقَلٌ ... ما بَيْنَ قائمٍ سِنْخِهِ وذُبابِهِ
ومن نادر وصفه للبلاغة قوله [من الخفيف]:
في نظامٍ من البلاغةِ ما شَكَّ ... (م) أمْرُؤٌ أنه نظامُ فَريدِ
وبَديعٍ كأنه الزَّهَرُ الضاحكُ ... (م) في رَوْنَقِ الربيعِ الجَديدِ
مُشْرِقٌ في جوانب السمع ما يُخْـ ... ـلِقُهُ عَوْدُهُ على المُسْتَعيدِ
حُجَجٌ تُخْرِسُ الألدَّ بألفا ... ظِ فُرادى كالجوهرِ المعْدودِ
ومَعانٍ لو فصَّلَتْها القوافي ... هجَّنَتْ شعر "جَروَلٍ" و"لَبيدِ"
حُزْنَ مستعمَلَ الكلام اختياراً ... وتجَنَّيْنَ ظلمةَ التعقيدِ
وركبن اللفظ القريبَ فأَدْرَكْـ ... ـنَ بهِ غايةَ المرادِ البَعيدِ
كالعَذارَى غَدَوْنَ في الحُلَلِ الصُّفْـ ... ـرِ إِذا رُحْنَ في الخطوط السودِ


الغرضُ من كَتْبِ هذه الأبياتِ، الاستظهارُ حتى إنْ حَمَل حاملٌ نَفْسَه على الغَرَرِ والتقحُّم على غيرِ بصيرةٍ، فَزَعَمَ أنَّ الإعجازَ في مذاقةِ الحروف، وفي سلامَتِها مما يَثقُل على اللسان، علِمَ بالنظر فيها، فَسادَ ظنِّه وقبْحَ غَلَطِه، من حيثُ يَرى عياناً أنْ ليس كلامُهم كلامَ مَن خَطَرَ ذلك منهُ بِبالٍ، ولا صفاتُهم صفاتٍ تَصْلُحُ له على حالٍ، إذْ لا يَخْفَى على عاقلٍ أنْ لم يكُنْ ضربُ تميمٍ لحُزونِ جبالِ الشعر لأن تسْلَم ألفاظُه من حروفٍ تثقُل على اللسان، ولا كان تقويمُ عَدِيِّ لِشعرِه، ولا تشبيهُهُ نظرَه فيه بنَظَر المثقِّفِ في كُعوبِ قناتِهِ لذلك، وأنه مُحالٌ أنْ يكون له جعلَ بشار نورَ العينِ قد غاضَ فصار إلى قلبه، وأنْ يكون اللؤلؤُ الذي كان لا ينامُ عن طلبهِ، وأنْ ليس هو صَوْبَ العقولِ الذي إذا انجلَتْ سحائبُ منه أعقبتْ بسحائب، وأن ليس هو الدرَّ والمرجانَ مؤلَّفاً بالشذْرِ في العَقْد، ولا الذي له كان البحتريُّ مقدِّراً تقديرَ داودَ في السرد. كيف وهذه كلُّها عباراتٌ عما يدرَكُ بالعقل ويستنبطُ بالفكر، وليس الفكرُ الطريقَ إلى تمييزِ ما يَثْقُلُ على اللسان مما لا يَثْقُل، إنما الطريقُ إلى ذلك الحسُّ.
ولولا أنَّ البلوى قد عظُمَتْ بهذا الرأي الفاسدِ وأنَّ الذين استهلكوا فيه قد صاروا من فرْطِ شغَفهم به يُصْغون إلى كلّ شيء يَسْمعونه، حتى لو أن إنساناً قال: (باقِلَّى حار): يُريهم أنه يُريد نُصرة مذهبهم، لأقْبلوا بأوجُههِم عليه، فأَلْقوا أسماعَهم إليه، لكان اطَّراحُه وترْكُ الاشتغالِ به أصْوبَ، لأنه قولٌ لا يتصلُ منه جانبٌ بالصواب البتة.


ذلك لأنه أولُ شيء يؤدِّي إلى أن يكون القرآنُ مُعْجِزاً، لا بما به كان قرآناً وكلامَ اللهِ عزَّ وجَلَّ، لأنه على كل حال إنما كان قرآناً وكلامَ اللهِ عزَّ وجلَّ: بالنظْمِ الذي هو عليه. ومعلومٌ أن ليس النظْمُ مِن مذاقة الحروفِ وسلامَتِها مما يَثْقلُ على اللسان في شيء. ثم إنه اتفاقٌ من العقلاء أنَّ الوصْفَ الذي به تناهى القرآن إلى حدٍّ عجزَ عنه المَخلُوقونَ هو الفصاحةُ والبلاغةُ. وما رأيْنا عاقلاً جعلَ القرآن فصيحاً أو بليغاً بأنْ لا يكونَ في حروفِه ما يَثْقُل على اللسان، لأنه لو كان يَصِحُّ ذلك، لكان يَجبُ أن يكونَ السوقيُّ الساقِطُ من الكلامِ والسَّفسَافُ الرديء من الشعر، فصيحاً إذا خفَّت حروفُه، وأعْجَبُ من هذا أَنه يَلْزمُ منه أنه لو عَمَد عامِدٌ إلى حرَكاتِ الإعراب فجعَل مكانَ كلِّ ضَمَّةٍ وكَسْرةٍ فتحةً فقال: الحمدَ للهَ (بفتح الدالِ واللام والهاءِ) وجرَى على هذا في القرآن كلِّه أنْ لا يَسْلُبَه ذلك الوصفَ الذي هو معْجِزٌ به بل كان يَنْبغي أن يزيد فيه لأنَّ الفتحة - كما لا يَخْفَى - أخفُّ من كل واحدةٍ من الضَّمةِ والكَسْرة، فإن قال إنَّ ذلك يُحيل المعنى، قيلَ له: إذا كان المعنى والعلةُ في كونهِ معجزاً، خفةَ اللفظِ وسهولَتَه، فينبغي أنْ يكونَ مع إحالةِ المعنى مُعْجِزاً، لأنه إذا كان معجزَ الوصف يخصُّ لفظَه دون معناهُ، كان مُحالاً أن يَخْرجَ عن كونه معجِزاً مع قيام ذلك الوصفِ فيه.


ودعْ هذا وهَبْ أنه لا يَلزَمُ شيءٌ منه؛ فإنه يكْفي في الدلالةِ على سقوطهِ وقلَّةِ تمييز القائل به، أنه يَقْتضي إسقاطُ الكنايةِ والاستعارةِ والتمثيلِ والمجازِ والإيجازِ جملةٌ، واطِّراحُ جميعها رأساً، مع أنها الأقطابُ التي تَدورُ البلاغةُ عليها، والأعضادُ التي تَسْتَنِدُ الفصاحةُ إليها، والطَّلِبةُ التي يتنازَعُها المُحْسِنونَ، والرِّهانُ الذي تُجرَّبُ فيه الجيادُ، والنضالُ الذي تُعْرَفُ به الأيدي الشِّدَادُ، وهي التي نَوَّهَ بذكْرِها البلغاءُ، ورفَعَ من أقدارِها العلماءُ وصنَّفوا فيها الكُتُبَ، ووكَّلوا بها الهِمَمَ، وصرَفوا إليها الخواطِرَ، حتى صارَ الكلامُ فيها نوعاً من العِلْم مفْرَداً، وصناعةً على حدة، ولم يَتَعاطَ أحَدٌ من الناس القولَ في الإعجازِ إلاَّ ذكَرَها وجعَلَها العُمُدَ والأركانَ فيما يُوجِبُ الفضْلَ والمزيَّةَ، وخصوصاً الاستعارةَ والإيجاز، فإنك تَراهُمْ يجعلونَهُما عنوانَ ما يَذكُرونَ وأولَ ما يُورِدون. وتَراهُم يَذْكرون من الاستعارةِ قولَه عز وجل: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] وقولَه: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل} [البقرة: 93] وقوله عزَّ وجَلَّ {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] وقوله عزَّ وجلَّ {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] وقولَه {فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً} [يوسف: 80] وقولَه تعالى: {حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] وقولَه {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16]، ومن الإيجازِ قولَه تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ} [الأنفال: 58]، وقولَه تعالى: {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14] وقوله: {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] تراهم على لسان واحدٍ في أنَّ المجازَ والإيجاز، من الأركان في أمْر الإعجاز.


وإذا كان الأمرُ كذلك عند كافَّةِ العلماءِ الذينَ تكلَّموا في المزايا التي للقرآن، فينبغي أن يُنْظَر في أمْر الذي يُسَلَّمُ نفسَه إلى الغرور فَيزعُم أنَّ الوصفَ الذي كان له القرآنُ معجزاً، وهو سلامةُ حروفِه مما يَثْقُلُ على اللسان. أيصِحُّ له القولُ بذلك إلاَّ من بَعْد أنْ يدَّعي الغَلطَ على العقلاء قاطبةً فيما قالوه، والخطأ فيما أجْمعوا عليه؟ وإذا نظَرْنا وجْدَناه لا يَصِحُّ له ذلك إلاَّ بأن يَقْتَحِمَ هذه الجهالةَ، اللهُمَّ إلاَّ أنْ يَخْرُجَ إلى الضُّكْحةِ فيَزعُمَ مَثلاً أنَّ من شأن الاستعارةِ والإيجازِ، إذا دَخلا الكَلامَ، أنْ يَحْدُثَ بهما في حروفه خِفَّةٌ، ويتجَّدَ فيها سهولةٌ، ونسألُ الله تعالى العِصْمَةَ والتوفيق!.
واعلمْ أنَّا لا نأبى أن تكونَ مذاقةُ الحروفِ وسلامتُها مما يَثْقُل على اللسان، داخِلاً فيما يُوجِبُ الفضيلةَ، وأنْ تكونَ مما يُؤكِّدُ أمرَ الإعجاز، وإنما الذي تُنكِرُه ونُفَيِّلُ رأي مَنْ يَذْهَبُ إليه، أن يَجْعَلَه معجِزاً به وَحْدَه ويَجعلَه الأصْلَ والعُمْدةَ فيَخرجَ إلى ما ذكَرْنا من الشَّناعات.


ثم إنَّ العجَبَ كلَّ العجَبِ، ممَّنْ يَجعَلُ كلَّ الفضيلةِ في شيءٍ هو إذا انْفَرَد لم يَجِبْ به فضْلٌ البتَّةَ، ولم يَدْخُل في اعتدادٍ بحالٍ، وذلك أنه لا يَخْفى على عاقلٍ أنه لا يكونُ بسهولةِ الألفاظِ وسلامَتِها مما يثْقُل على اللسانِ، اعتدادٌ، حتى يكونَ قد أُلِّفَ منها كلامٌ، ثم كان ذلك الكلامُ صحيحاً في نَظْمه والغرضِ الذي أُريدَ به، وأنه لو عَمد عامدٌ إلى ألفاظٍ فجَمعها مِن غير أن يُراعيَ فيها معنىً ويُؤلِّف منها كلاماً، لم ترَ عاقلاً يعتدُّ السهولةَ فيما فضيلةً، لأنَّ الألفاظَ لا تُرادُ لأنفسها وإنما تُرادُ لتُجعَلَ أدلَّةَ على المعاني؛ فإذا عَدِمَتِ الذي لهُ تُرادُ أو اختَلَّ أمرُها فيه، لم يُعْتَدَّ بالأوصافِ التي تكون في أنفُسها عليها، وكانت السهولةُ وغيرُ السهولةِ فيها واحداً، ومن هاهنا رأيتَ العلماء يَذمُّون مضنْ يَحْمِلُه تَطَلُّبُ السجعِ والتجنيسِ على أن يَضُمَّ لهما المعنى ويُدخِلَ الخلَلَ عليه مِن أجْلِهما، وعلى أَنْ يتعسَّف في الاستعارة بسَبَبهما، ويَرْكَبَ الوعورةَ، ويسلُكُ المسالِكَ المجهولةَ، كالذي صنَع أبو تمام في قوله [من البسيط]:
سيفُ الإمام الذي سمَّتْهُ هَيْبَتُهُ ... لمَّا تَخَرَّم أهلَ الأرضِ مخْترِما
قَرَّت بِقُرَّانَ عينُ الدينِ وانشترَتْ ... بالأشْتَرَيْنِ عيونُ الشِّرْكِ فاصطُلما
وقوله [من الكامل]:
ذهبَتْ بمَذْهَبهِ السماحةُ والْتَوَتْ ... فيه الظنونُ أمَذهَبُ أم مُذْهَبُ
ويَصْنعه المتكلفونَ في الأسجاعِ، وذلك أنه لا يُتصوَّر أن يَجِبَ بهما ومن حيثُ هما فضلٌ، ويقعَ بهما، مع الخُلوِّ من المعنى، اعتدادٌ. وإذا نظرتَ إلى تجنيس أبي تمام: (أمَذْهب أم مُذْهبَ) فاستضعتَه، وإلى تجنيس القائل [من الرجز]:
حتى نجا من خوفه وما نجا
وقول المحدث [من الخفيف]:
ناظِراهُ فيما جَنى ناظِراهُ ... أَوْدَعاني أمُتْ بما أودعاني


فاستحسنْتَه، لم تَشُكَّ بحالِ أنَّ ذلك لم يَكُنْ لأمرٍ يرجعُ إلى اللفظِ، ولكنْ لأنَّكَ رأيتَ الفائدة ضعفَتْ في الأول وقويَتْ في الثاني، وذلك أنك رأيتَ أبا تمام ليم يَزِدْكَ (بمذهب ومذهب) على أنْ أسْمَعَكَ حُروفاً مكررةً لا تجد لها فائدةً - إن وُجدتْ - إلا متكلَّفة ممتحَّلة، ورأيتَ الآخَر قد أعادَ عليك اللفظةَ كأنه يَخدَعُكَ عن الفائدة وقد أعطاها، ويُوهِمُكَ أنه لم يَزِدْك وقد أحْسَن الزيادةَ ووفَّاها. ولهذه النكتة كان التجنيسُ، وخصوصاً المستوفى منه مثلَ "نَجا ونَجا" من حِلى الشعر. والقولُ فيما يَحْسنُ وفيما لا يَحْسُن من التجنس والسجع يَطولُ، ولم يكنْ غَرضُنا من ذكْرِهما شَرْحَ أمرهما، ولكن توكيدَ ما انتهى بنا القولُ إليه من استحالةِ أن يكونَ الإعجازُ في مجرَّد السهولةِ وسلامةِ الألفاظِ مما يَثقُلُ على اللسان.
وجملةُ الأمرِ أنَّا ما رأينا في الدنيا عاقلاً اطَّرَحَ النظْمَ والمحاسِنَ التي هو السببُ فيها من الاستعارة والكنايةِ والتمثيلِ وضروبِ المَجاز والإيجازِ، وصدَّ بوجهه عنْ جَميعِها وجعلَ الفَضْلَ كلَّه والمزيةَ أجمَعها في سلامة الحروفِ مما يَثْقُلُ. كيف وهو يؤدي إلى السُّخْفِ والخُروجِ من العقْلِ كما بيَّنَّا؟
واعلمْ أنه قد آنَ لنا أن نعودَ إلى ما هو الأمْرُ الأعظَمُ والغَرضُ الأهَمُ والذي كأنه هو الطَّلِبة، وكلُّ ما عَداهُ ذرائعُ إليه، وهو المَرامُ وما سواهُ أسبابٌ للتسلُّق عليه، وهو بيانُ العِلل التي لها وَجَبَ أن يكونَ لِنظْمٍ مزيةٌ على نَظْم، وأنْ يعمَّ أمرُ التفاضُلِ فيه، وتناهى إلى الغايات البعيدة، ونحنُ نسألُ الله تعالى العونَ على ذلك والتوفيقَ له والهداية إليه.