دلائل الإعجاز ت الأيوبي باب على التفاضل بين
النظم
فصل: معنى الخبر غير معنى جزئيّة المخبر به والمخبَر عنه
وإذا ثبَتَ أنَّ الجملةَ إذا بُنيَ عليها، حصَلَ منها ومِن
الذي بُنِيَ عليها في الكثير، معنىً يَجب فيه أن يُنْسَب إلى
واحدٍ مخصوصٍ، فإنَّ ذلك يقتضي لا محالَة، أن يكونَ الخبرُ في
نفسه معنىً هو غيرُ المخبَر به والمخبَر عنه. ذاك لِعِلْمنا
وباستحالة أنْ يكونَ لِلمعنى المخبَر به نسبةٌ إلى المخبِر،
وأن يكون المستنبَط والمستخرَجَ والمستعانَ على تصويره
بالفِكْر. فليس يَشُكُّ عاقلٌ أنه مُحالٌ أن يكونُ لِلْحَمْل
في قوله.
وما حمَلتْ أمُّ امرىءٍ في ضلوعها
نسبةٌ إلى الفرزدق، وأن يكونَ الفكْرُ منه كان فيه نفْسَه، وأن
يكونَ معناهُ الذي قيل إنَّه استَنْبَطه واستخْرَجه وغاصَ
عليه. وهكذا السبيلُ أبداً، لا يُتصوَّر أن يكونَ للمعنى
المخبَر بهِ نسبةٌ إلى الشاعر، أن يَبلُغَ من أمره أن يَصير
خاصاً به، فاعرفْه!
ومن الدليل القاطع فيه ما بيَّنَّاهُ في الكناية والاستعارة
والتمثيل، وشرحناه من أَنْ من شأن هذه الأجناسِ أنْ تُجِب
الحسْنَ والمزيَّةَ، وأنَّ المعاني تُتصوَّرُ مِنْ أجْلها
بالصوَرِ المختلفة، وأن العلم بإيجابها ذلك، ثابتٌ في العقولِ،
ومركوزٌ في غَرائز النفوس؛ وبيَّنَّا كذلك أنه محالٌ أن تكونَ
المزايا التي تَحدُثُ بها حادثة، في المعنى المْخبَرِ به
المثْبَت أو المَنْفيِّ، لِعلْمنا باستحالة أَنْ تكونَ المزيةُ
التي تَجدُها لقولنا: (هو طيل النجاد)، على قولنا: (طويل
القامة): في الطول، والتي تَجدها لقولنا: (هو كثيرُ رماد
القدر) على قولنا: (هو كثير القِرى والضيافة): في كَثْرةِ
القِرى. وإذا كان ذلك مُحالاً، ثبَتَ أنَّ المزيةَ والحسْنَ
يكونان في إثبات ما يُراد أن يُوصفَ به المذكورُ، والإخبارِ به
عنه. وإذا ثبَت ذلك، ثبَتَ أنَّ الإثبات معنىً لأنَّ حصولَ
المزيةِ والحُسْن فيما ليس بمعنى، محالٌ.
فصل: أهمية الكلام وعلّة وجوده بنظمه لا
بألفاظه المفردة
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه ثقتي وعليه اعتمادي
إعلمْ أنَّ هاهنا أصْلاً أنتَ ترى الناسَ فيه صورةِ مَنْ
يَعرِفُ مِن جانبٍ ويُنْكِر مِن آخَر؛ وهو أَنَّ الألفاظَ
المفردةَ التي هي أوضاعُ اللغةِ، لم تُوضَعْ لِتُعْرفَ معانيها
في أنفسها، ولكن لأن يُضَمَّ بعضُها إلى بعض، فيُعرفَ فيما
بينها فوائدُ. وهذا علِمٌ شريفٌ، وأَصْلٌ عظيم. والدليلُ على
ذلك أنَّا إنْ زعمنا أنَّ الألفاظَ التي هي أوضاعُ اللغةِ إنما
وُضِعتْ ليُعرَفَ بها معانيها في أَنفُسها، لأَدَّى ذلك إلى ما
لا يَشُكَّ عاقِلٌ في استحالته، وهو أن يكونوا قد وضَعُوا
لِلأجناسِ الأسماءَ التي وضَعُوها لها لتَعرِفَها بها، حتى
كأنهم لو لم يكونوا قالوا: (رجلٌ وفرسٌ ودارٌ): لمَا كان يكونُ
لنا عِلمٌ بمعانيها، وحتى لو لم يكونوا قالوا: فعَل ويَفْعل:
لمَا كنَّا نَعْرِفُ الخبرَ في نفسه ومن أصلِه، ولو لم يكونوا
قد قالوا: (إفْعَل): لمَا كنَّا نَعرِفُ الأمرَ مِنْ أَصْله
ولا نَجده في نفوسِنا، وحتى لو لم يكونوا قد وَضَعوا الحروفَ
لكنَّا نَجْهلُ معانيهَا فلا نعقلُ نَفْياً ولا نَهْياً ولا
استفهاماً ولا استثناءً. وكيف والمواضَعةُ لا تكونُ ولا
تُتصوَّرُ إلاَّ على مَعْلوم؟ فمحالٌ أن يُوضَع اسْمٌ أو غيرُ
اسم لغيرِ مَعْلومٍ، ولأنَّ المواضَعةَ كالإِشارة. فكما أنكَ
إذا قلتَ: (خذْ ذاك)، لم تكُنْ هذه الإشارةُ لتَعرِّفِ السامعَ
المشارَ إليه في نفسه، ولكن ليعلمَ أنه المقصودُ من بين سائرِ
الأشياء التي تراها وتُبْصرها؛ كذلك حكْمُ اللفظِ مع ما وُضِعَ
له. ومَن هذا الذي يَشُكُّ أَنَّا لم نَعْرِف الرجلَ والفرسَ
والضرْبَ والقتْلَ إلاَّ مِن أَساميها؟ لو كان لذلكَ مَساغٌ في
العقل لكان ينبغي إذا قيل: (زيد): أن تَعْرِفَ المسمَّى بهذا
الاسمِ من غَير أن تكونَ قد شاهدْتَه أو ذُكِرَ لك بصفةٍ.
وإذا قلْنا في العلمِ واللغات مِنْ مبتدأ
الأَمرِ، إِنه كان إلهاماً، فإن الإِلهامَ في ذلك، إنما يكونُ
بين شيئين يكونُ أَحدُهما مثْبَتاً والآخَرُ مثبَتاً له، أو
يكونُ أحدُهما منْفِيّاً والآخَرُ منفيّاً عنه، وأنه لا
يُتصوَّر مثُبَتٌ من غَيْر مُثبَتٍ له ومنفيٍّ من غير مَنْفيٍّ
عنه. فلما كان الأمرُ كذلك أَوجَبَ ذلك أنْ لا يُعْقَلَ إلاَّ
من مجموع جملةِ فعْلٍ واسم، كقولنا: (خرج زيد)، أو اسمٍ
واسْمٍ، كقولنا: (زيد خارج). فما عقلْنا منه، وهو نسبةٌ
الخُروج إلى زيد، لا يَرجِعُ إلى معاني اللغات، ولكنْ إلى كونِ
ألفاظِ اللغات سماتٍ لذلكَ المعنى، وكونِها مُرادةً بها. أفلاَ
ترى إلى قوله تعالى: {وَعَلَّمَءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا ثُمَّ
عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ
هاؤلاء إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 31]. أَفتَرى أَنَّه
قيلَ لهم: (أنبئوني بأسماء هؤلاءِ) [البقرة: 31] وهم لا
يَعْرِفونَ المشارَ إليهم بهؤلاء؟
ثم إِنَّا إذا نظَرْنا في المعاني التي يَصفُها العقلاءُ بأنها
معانٍ مستنْبَطة، ولطائفْ مستخْرَجةٌ، ويجعلون لها اخْتِصاصاً
بقائلٍ دون قائلٍ. كمِثْلِ قولهم في معانٍ من الشعر: إنه معنىً
لم يُسْبَق إليه فلانٌ، وإنه الذي فطِنَ له واستخْرَجَه، وإنه
الذي غاصَ عليه بفِكْرِهِ، وإنه أبو عُذْرِه: لم تَجدْ تلك
المعانيَ في الأمر الأَعمِّ شيئاً غيرَ الخَبر الذي هو إثْباتُ
المعنى للشيءِ ونفْيُه عنه. يَدلُّك على ذلك أَنَّا لا نَنْظر
إلى شيءٍ من المعاني الغريبةِ التي تخْتَصُّ بقائلٍ دون قائل
إلاَّ وجدت الأَصْل فيه والأَساسَ: الإثباتَ والنَّفْيَ، وإن
أردْتَ في ذلك مثالاً فانظرْ إلى بيتِ الفرزدق:
وما حملَتْ أُمُّ امرىءٍ في ضُلوعها ... أعقَّ من الجاني عليها
هِجائيا
فإنَّك إذا نظَرْتَ، لم تَشُكَّ في أنَّ
الأصْل والأساسَ هو قولُه: (وما حملتْ أُمُّ امرىءٍ): وأنَّ ما
جاوزَ ذلك من الكلمات إلى آخِر البيت، مستَندٌ ومبنيٍّ عليه،
وأنك إنْ رفعتَهُ لم تجِدْ لشيءٍ منها بياناً، ولا رأيتَ
لذِكْرها مَعنى، بل تَرى ذِكْرك لها إن ذكَرْتَها هذياناً؛
والسبَبُ الذي مِنْ أجْله كان كذلك، أنَّ مِنْ حُكْم كل ما عدا
جزْءَي الجملة - الفعلُ والفاعلُ والمبتدأُ والخَبر - أن يكونَ
تحقيقاً للمعنى المثبَتِ والمَنْفيِّ. فقوله: "في ضلوعها"،
يُفيدُ أولاً أنه لم يُرِدْ نفْيَ الحَمْلَ على الإطلاق، ولكنِ
الحَمْلَ في الضلوع. وقوله: "أعقَّ"، يُفيد أنه لم يُرِد هذا
الحَمْلَ الذي هو حَملٌ في الضلوع أيضاً على الإطلاق، ولكنْ
"حمْلاً في الضلوع" محمولُه أَعَقُّ من الجاني عليها هجاؤهُ.
وإذا كان ذلك كلُّه تخصيصاً للحَمْل، لم يُتصوَّر أن يُعْقَل
من دون أن يُعْقَلَ نفْيُ الحَمْل، لأنه لا يُتصوَّرُ تخصيصُ
شيءٍ لم يدخل في نفيٍ ولا إثبات، ولا ما كان في سبيلهما من
الأمر به والنهي عنه والاستخبار عنه.
وإذْ قد ثبَتَ أَن الخَبر وسائرَ معاني الكلام معانٍ يُنْشئُها
الإنسانُ في نفسه، ويُصرِّفُها في فِكْره، ويُناجي بها
قَلْبَه، وَيرْجعُ فيها إليه، فاعلمْ أَنَّ الفائدةَ في العلم
بها واقعةٌ من المُنْشِىءِ لها، صادرةٌ عن القاصِدِ إليها.
وإذا قلتَ في الفعل إنه موضوعٌ للخَبَرِ، لم يكن المعنى فيه
أنه موضوعٌ لأنَّ يُعْلَم به الخبَرُ في نفسه وجنسِه، ومن
أَصْلهِ، وما هو. ولكنَّ المعنى أنه موضوعٌ، حتى إذا ضَممتَه
إلى اسمٍ عُقِلَ منه، ومن الاسم، أنَّ الحكْمَ بالمعنى الذي
اشْتُقَّ ذلك الفِعلُ منه على مسمّى ذلك الاسم، واقعٌ منكَ
أيها المتكلم.
فصل: الذوق بيان أنّ العمدة في إدراك
البلاغة الذوق والإحساس الروحاني
بسم الله الرحمن الرحيم
إعلمْ أَنكَ تَرى عجَباً أعْجبَ من الذي عليه الناسُ في أمر
النَّظْم، وذلك أنه ما مِن أَحدٍ لهُ أدنى معرفةٍ إِلاَّ وهو
يَعلمُ أن هاهنا نظْماً أحْسَنَ من نظْمٍ، ثم تراهُمْ إذا أنتَ
أردْتَ أن تُبَصْرَهم ذلك تَسْدَرُ أعينُهُم، وتضلُّ عنهم
أفهامُهم؛ وسببُ ذلك أنهم أولُ شيء عَدِموا العِلْمَ به نفسَه
من حيث حَسِبوه شيئاً غيرَ تَوخِّي معاني النحو، وجلعوه يَكونُ
في الألفاظ دون المعاني. فأنتَ تَلْقى الجَهْد حتى تُمِيلَهم
عن رأيهم، لأنكَ تُعالِجُ مرَضاً مُزْمناً، وداءً متمكناً. ثم
إذا أنتَ قُدْتَهم بالخزائم إلى الاعترافِ بأنْ لا معنى له
غيرُ توخِّي معاني النحو، عَرَض لهم من بَعْد خاطِرَ
يَدهَشُهُمْ، حتى يكادوا يعودون إلى رأسِ أمرهم، وذلك أنهم
يَرَوْنَنا ندَّعي المزيةَ والحُسْن لِنَظْم كلامٍ، من غير أن
يكون فيه من معاني النحو شيءٌ يُتَصوَّرُ أن يتفاضَلَ الناسُ
في العلم به، ويرونَنا لا نَستطيعُ أن نضَع اليَدَ من معاني
النحو ووُجوهِه على شيءٍ نَزْعُم أنَّ مِنْ شأنِ هذا أنْ
يُوجِبَ المزيَّةَ لكل كلامٍ يكونُ فيه، بل يَرَوْننا ندَّعي
المزيةَ لكل ما ندَّعيها له مِن معاني النحو ووُجوههِ وفُروقهِ
في موضعٍ دون موضع، وفي كلام دون كلامٍ، وفي الأقلِّ دونَ
الأَكثرِ، وفي الواحد من الأَلْف؛ فإذا رأَوْا الأمرَ كذلكَ
دخلَتْهم الشُّبْهَةُ، وقالوا: كيف يصَيرُ المعروفُ مَجهولاً،
ومِنْ أَين يُتصوَّر أن يكونَ للشيءِ في كلام مزيةٌ عليه في
كلامٍ آخَر بعْدَ أن تكونَ حقيقتُه فيهما حقيقةً واحدة؟ فإذا
رأَوا التنكيرَ، يكّونُ فيما لا يُحصى من المواضع ثم لا
يَقْتضي فَضْلاً، ولا يُوجِبُ مزيةً، اتَّهمونا في دَعْوانا ما
ادَّعيناه لتنكير الحياة في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص
حَيَاةٌ} [البقرة: 179] من أنَّ له حُسْناً ومزيةً، وأنَّ فيه
بلاغةً عجيبةً، ظنُّوه وهْماً منَّا وتخيُّلاً، ولسنا نَستطيعُ
في كشْفِ الشُبهة في هذا عنهم، وتصوير الذي هو الحقُّ عندهم،
ما استطعناه في نَفْس النظْم، لأنَّا ملَكْنا في ذلك أن
نَضْطرَّهم إلى أن يَعْلموا صحَّةَ ما نقول.
وليس الأمرُ في هذا كذلك، فليس الداءُ فيه
بالهيِّن، ولا هو بحيثُ إذا رُمْتَ العلاجَ منه وجدتَ الإمكانَ
فيه مع كل أحدٍ مُسْعِفاً، والسعيَ مُنْجِحاً، لأنَّ المزايا
التي تحتاجُ أن تُعْلمهم مكانَها، وتصوِّر لهم شأنَها، أمورٌ
خفية، ومعانٍ روحانيةً، أنتَ لا تستطيعُ أن تُنَبِّه السامِعَ
لها، وتحْدِثَ له عِلْماً بها، حتى يكون مُهيَّأً لإدراكها،
وتكونَ فيه طبيعةٌ قابلةٌ لها، ويكونَ له ذوقٌ وقريحةٌ يَجِدُ
لهما في نفسه إحساساً بأنَّ مِن شأنِ هذه الوجوهِ والفُروق أن
تَعرِضَ فيها المزيةُ على الجملة، وممن إذا تصفَّح الكلامَ
وتدبَّر الشعرَ فرَّقَ بين موقع شيءٍ منها وشيءٍ، وممَّن إذا
أنشدْتَه قولَه [من الكامل]:
لي منْكَ ما للناس كلِّهِمُ ... نَظَرٌ وتَسليمٌ على الطُّرُقِ
وقولَ البحتري [من الكامل]:
وسَأَسْتَقِلُّ لك الدموعَ صبابَةً ... وَلَو أنَّ "دِجْلةَ"
لي عليكَ دُموعُ
وقولَه [من الطويل]:
رأتْ مَكِنَاتِ الشَّيبِ فابتسمتْ لها ... وقالتْ نجومٌ لو
طَلَعْنَ بأسْعُدِ
وقولَ أبي نواس [من البسيط]:
ركبٌ تَساقَوا على الأكْوارِ بَينَهُمُ ... كأسَ الكرَى فانتشى
المَسْقيُّ والساقي
كأنَّ أعناقَهُمْ والنومُ واضِعُها ... على المناكِبِ لم
تُعْمَدْ بأعناقِ
وقولَه [من الكامل]:
يا صاحِبيَّ عَصَيْتُ مُصْطَبَحَا ... وغَدَوْتُ لِلَّذَّاتِ
مُطَّرِحا
فتزُّودوا منّي محادثةً ... حَذرُ العَصَا لم يُبقِ لي مَرَحا
وقول إسماعيل بْنِ يَسار [من السريع]:
حتى إذا الصبحُ بدا ضوؤُهُ ... وغابتِ الجوزاءُ والمِرْزمُ
خرجتُ والوطءُ خفيٌّ كما ... يَنْسابُ مِنْ مكمَنِهِ الأرْقَمُ
أنِقَ لها، وأخذَتْه الأرْيحيةُ عندها، وعرَفَ لطْفَ مَوقِعِ
الحذْفِ والتنْكير في قوله:
نظر وتسليم على الطرق
وما في قول البحتري: "لي عليكَ دموعُ"، مِنْ شبْه السِّحر
وأنَّ ذلك من أجْل تقديم "لي" على "عليك" ثم تنكيرِ (الدموع)،
وعرَفَ كذلك شرَفَ قوله:
وقالتْ نجومٌ لو طلعْن بأسعد
وعلُوَّ طبقتِه، ودقةَ صنعتِه، والبلاءَ
والداءَ العياء. إنَّ هذا الإحساس، قليلٌ في الناس، حتى إنه
ليكونُ أن يقَع للرجُل الشيءُ من هذهِ الفروقِ والوجوهِ في
شعرٍ يقولهُ أو رسالةٍ يكْتُبها الموقعَ الحَسَن، ثم لا
يَعْلَم أنه قد أحْسَنَ، فأمَّا الجهلُ بمكانِ الإساءة فلا
تعَدمُهُ. فلسْتَ تملك إذاً من أمرِكَ شيئاً حتى تظْفَر بمَنْ
له طبْعٌ إذا قدَحْتَه وَرَى، وقلبٌ إذا أرَيْتَهُ رأَى،
فأمَّا وصاحِبُك مَنْ لا يَرى ما تُريه، ولا يَهتدي للذي
تَهْديه، فأنتَ رام معه في غير مَرْمى، مُعنٍّ نفسَك في غير
جدْوى. وكما لا تُقِيمُ الشعرَ في نفس من لا ذَوْقَ له، كذلك
لا تُفْهمُ هذا الشأنَ مَن لم يُؤْتَ الآلةَ التي بها يَفْهم؛
إلاَّ أنه إنما يكونُ البلاءُ إذا ظنَّ العادِمُ لها أنه
أُوتِيَها، وأنه ممَّنْ يكْمُلُ للحُكْم، ويَصِحُّ منه
القضاءُ، فجعلَ يقولُ القولَ لوْ عَلِمَ غَيَّه لا ستحْيى منه.
فأمَّا الذي يُحِسُّ بالنقص مِن نفْسِه، ويَعلَم أنه قد عَلِم
علْماً قد أُوتيه مِن سواه، فأنتَ منه في راحةٍ، وهو رجلٌ
عاقِلٌ قد حماهُ عقلُه أنْ يعدُوَ طورَهُ، وأن يتكلَّف ما ليس
بأهلٍ لَهُ.
وإذا كانت العلومُ التي لها أصولُ معروفةٌ،
وقوانينُ مضبوطةٌ، قد اشتركَ الناسُ في العلم بها، واتَّفقوا
على أنَّ البناءَ عليها، إذا أخطأ فيه المخطىء، ثم أعجب برأيه
لم يُسْتطَعْ رَدُّه عن هواه، وصَرْفُه عن الرأي الذي رآه،
إلاَّ بعد الجهْدِ، وإلاَّ بعد أن يكونَ حصيفاً عاقِلاً
ثَبْتاً إذا نُبِّهَ انْتَبَهَ، وإذا قيل إنَّ عليكَ بقيةً من
النظر وقفَ وأصْغى، وخَشِيَ أن يكون قد غُرَّ فاحتاطَ باستماع
ما يُقال له، وأنِفَ من أن يلجَّ من غير بيِّنة، ويستطيلَ بغير
حُجَّة، وكان مَنْ هذا وصْفُه يَعزُّ ويقِلُّ، فكيف بأنْ
تَرُدَّ الناسَ عن رأيهم في هذا الشأنِ، وأصْلُك الذي تردُّهم
إليه، وتُعوِّل في محاجَّتهم عليه، استشهادُ القرائحِ وسَبْرُ
النفوس وفلْيُها، ما يَعْرِض فيها من الأرْيحية عند ما تسمع.
وكان ذلك الذي يَفتحُ لك سمعَهم، ويكشِفُ الغِطاءَ عن
أعيُنهمْ، ويَصْرِفُ إليكَ أوجُهَهُم، وهم لا يَضعُون أنفُسَهم
موضِعَ منَ يرى الرأيَ ويُفتي ويقضي إلاَّ وعندَهم أنهم ممَّن
صفتْ قريحَتُه، وصحَّ ذوقُه وتمَّتْ أداتُه. فإذا قلتَ لهم:
إنكم قد أُتيتُمْ مِن أنفْسِكم: رَدُّوا عليكَ مثلَه، وقالوا:
"لا بل قرائِحُنا أصحُّ، ونظرُنا أصْدَقُ، وحِسُّنا أَذْكى،
وإنما الآفةُ فيكُم لأنكم خيَّلْتُم إلى نَفْسِكم أُموراً لا
حاصِل لها.
وأوهَمَكُم الهوى والميلُ أنْ تُوجِبوا
لأحدِ النظْمَيْنِ المتساويَيْن فضْلاً على الآخَرِ مِن غير أن
يكونَ ذلك الفضْلُ معقولاً، فتبقى في أيديهم حَسِيراً لا
تَملكُ غيرَ التعجُّب، فليس الكلامُ إذن بمُغْنٍ عنك، ولا
القولُ بنافعٍ، ولا الحُجَّةُ مسموعةً، حتى تجدَ مَنْ فيه عونٌ
لكَ على نَفْسِه، ومن إذا أتى عليكَ، أبى ذَاك طبعُه فردَّه
إليكَ، وفتَحَ سمعه لكَ، ورفَعَ الحِجابَ بينك وبينه، وأخذَ به
إلى حيثُ أنتَ، وصرَفَ ناظِرَه إلى الجهة التي إليها أوْمأتَ،
فاستبدَلَ بالنِّفار أُنْساً، وأراكَ من بَعْد الإباء
قَبُولاً، ولم يكن الأمرُ على هذه الجملةِ إلاَّ لأنه ليس في
أصنافِ العلوم الخفيَّةِ، والأُمور الغامضةِ الدقيقةِ، أعجبُ
طريقاً في الخفاء من هذا، وإنَّكَ لَتُتْعِبُ في الشيء نفْسَك
وتُكِدُّ فيه فكْرَك، وتَجْهَدُ فيه كلَّ جَهْدِك، حتى إذا
قلتَ: قد قتَلْتُه عِلْماً، وأحكَمْتُه فَهْماً، كنتَ الذي لا
يزالُ يتراءى لك فيه شُبْهةٌ، ويَعرِضُ فيه شكٌّ، كما قال أبو
نواس [من الطويل]:
أَلاَ لا أَرى مثْلَ امترائيَ في رسم ... تَغَصُّ به عَيْني
ويلفِظُهُ وَهْمي
أتَتْ صُوَرُ الأشياءِ بيني وبينَهُ ... فظَنِّي كَلاَ ظَنِّ
وعلمي كَلاَ عِلْمِ
وإنكَ لتنظرُ في البيت دهْراً طويلاً وتُفسِّره ولا ترى أنَّ
فيه شيئاً لم تَعلَمْه، ثم يبدو لكَ فيه أمرٌ خفيٌّ لم تكنْ قد
علِمْتَه، مثالُ ذلك بيتُ المتنبي [من الكامل]:
عجباً له حِفْظُ العِنَانِ بأنْمُلٍ ... ما حِفْظُها الأشياءَ
مِنْ عاداتِها
مضى الدهرُ الطويلُ ونحن نقرأه فلا
نُنْكِرُ منه شيئاً ولا يَقَعُ لنا أنَّ فيه خطأَ، ثم بان
بأَخِرةٍ أنه قد أخطأ، وذلك أنه كان ينبغي أن يقول: (ماحِفْظُ
الأشياءِ من عاداتها)؛ فيضيفُ المصدرَ إلى المفعولِ فلا يَذكُر
الفاعل، ذاك لأنَّ المعنى على أنه ينفي الحفْظَ عن أنامله
جملةً، وأنه يزْعُم أنه لا يكون منها أصْلاً. وإضافَتُه
(الحفظ) إلى ضميرِها في قوله: (ما حفظُها الأشياءَ) يقتضي أن
يكون قد أثبْتَ لها حِفْظاً. ونظيرُ هذا أنك تقول: (ليس
الخروجُ في مثلِ هذا الوقتِ من عادتي) ولا تقولُ: ليس خُروجي
في مثلِ هذا الوقت من عادتي. وكذلك تقول: (ليس ذمُّ الناس مِنْ
شأني) ولا تقول ليس ذمي الناسَ مِنْ شأني. لأن ذلك يُوجِبُ
إثباتَ الذمِّ ووجودَه منك. ولا يصِحُّ قياسُ المصْدَرِ في هذا
على الفعل، أعني: أنه لا ينبغي أن يُظَنَّ أنه كما يجوز أن
يُقال: (ما مِن عادتها أن تَحْفظَ الأشياءَ) كذلك ينبغي أن
يجوزَ "ما من عادتها حفظُها الأشياء" ذاكَ أنَّ إضافة المصدرِ
إلى الفاعل يقتضي وجودَه وأنه قد كان منه. يُبيِّنُ ذلك أنك
تقول: (أمرْتُ زيداً بأن يَخْرج غداً) ولا تقول: (أمرته بخروجه
غداً).
ومما فيه خطأ هو في غاية الخفاء قوله [من البسيط]:
ولا تَشَكَّ إلى خَلْقٍ فتُشْمِتَهُ ... شكْوى الجريحِ إلى
الغِربانٍ والرَّخَمِ
وذلك أنك إذا قلت: (لا تضْجَرُ ضجَرَ زيدٍ) كنتَ قد جعلْتَ
(زيداً) يضجرُ ضَرْباً من الضجر مثْلَ أن تجعله يُفرِّطُ فيه
أو يُسْرعُ إليه. هذا هو مُوجِبُ العُرْفِ. ثم إنْ لم تعتبِرْ
خصوصَ وصْفٍ، فلا أقلَّ من أن تَجعلَ الضجَرَ على الجملةِ من
عادتِهِ، وأنْ تَجعلَه قد كان منه. وإذا كان كذلك اقتضى قولُه:
شكوى الجريحِ إلى الغربانِ والرخَمِ
أن يكونَ هاهنا جريحٌ قد عُرِف من حالِه أن يكونَ له شكوى إلى
الغِربان والرخَم، وذلك مُحال. وإنما العبارةُ الصحيحةُ في هذا
أن يقال: لا تَشَكَّ إلى خَلْقٍ فإنَّكَ إنْ فعلتَ، كان مثَلُ
ذلك مثَلَ أنْ تُصوِّرَ في وهْمِك أنَّ بَعيراً دَبِراً كشَفَ
عن جُرْحه ثم شَكَاهُ إلى الغربان والرخَم.
ومن ذلك أنك تَرى من العلماء مَن قد
تأوَّلَ في الشيء تأويلاً، وقَضى فيه بأمرٍ، فتَعْتَقِدُه
اتِّباعاً له ولا تَرتابُ أنه على ما قَضى وتأوَّلَ. وتَبْقى
على ذلك الاعتقادِ الزمانَ الطويلَ. ثم يلوحُ لك ما تعلَم به
أنَّ الأمر على خِلاف ما قَدَّرَ. ومثالُ ذلك أنَّ أبا القاسم
الآمديَّ ذكَر بيتَ البحتريِّ [من البسيط]:
فصاغَ ما صاغَ مِنْ تِبْرٍ ومِنْ وَرِقٍ ... وحاكَ ما حاكَ من
وَشْي وديباجِ
ثم قال "صَوْغُ الغيث وحَوكُه للنبات ليس باستعارةِ بل هو
حقيقةٌ. وذلك لا يقال: هو صائغٌ ولا كأنه صائغ". وكذلك لا
يقال: هو حائك وكأنه حائك. (قال) على أنَّ لفظ (حائك) في غاية
الركاكة، إذا أُخرج على ما أخرجَهُ أبو تمام في قوله [من
الطويل]:
إذا الغيثُ غادى نَسْجَهُ خِلْتَ أنه ... خَلَتْ حُقُبٌ حَرْسٌ
له وهو حائك
قال وهذا قبيحٌ جداً. والذي قاله البحتري: (فحاك ما حاك)
حَسَنٌ مُستعملٌ. والسببُ في هذا الذي قاله، أنه ذهَبَ إلى
أنَّ غرضَ أبي تمام أن يَقْصِدَ (بخلت) إلى الحوك، وأنه أراد
أن يقول: (خلتَ الغيثَ حائكا) وذلك سهوٌ منه لأنه لم يقصِد بـ
(خلت) إلى ذلك. وإنما قصَد أنْ يقول: إنه يظهر في غداةِ يومٍ
من حوْكِ الغيث ونَسْجِه بالذي تَرى العيونُ من بدائع الأنوار،
وغرائبِ الأزهار، ما يُتوهَّم منه إنَّ الغيثَ كان في فِعْل
ذلك وفي نَسجه وحَوْكهِ حِقَباً من الدهر. فالحيلولَةُ واقعةٌ
على كون زمانِ الحَوْكِ حِقبا لا على كونِ ما فعله الغيثُ
حَوْكاً، فاعرفْه!
وممَّا يَدْخُل في ذلك ما حُكي عن الصاحب من أنه قال: كان
الأستاذُ أبو الفَضْل يختار من شِعر ابن الرومي، ويُنَقِّط
عليه. قال: فدفع إليَّ القصيدةَ التي أولها [من الطويل]:
أتحْتَ ضلوعي جمرةٌ تتَوقدُ
وقال: تأملْها! فتأمَّلْتُها، فكان قد ترَك خيرَ بيتٍ فيها
وهُو [من الطويل]:
بجَهْلٍ كَجَهْلِ السَّيْفِ والسيفُ مُنْتَضى ... وحِلْمٍ
كَحِلْمِ السيفِ والسيفُ مُغْمَدُ
فقلتُ: لمَ ترَكَ الأستاذُ هذا البيتَ؟
فقال: لعلَّ القلمَ تجاوَزَهُ! (قال) ثم رآني من بَعْدُ،
فاعتذر بعُذرٍ كان شَرّاً مِنْ تَرْكه. قال: (إنما تركْتُه
لأنه أعادَ "السيفَ" أربعَ مرّاتٍ). قال الصاحِبُ "لَوْ لم
يُعِدْه أربعَ مرات، فقال:
بجهلٍ كجهل السيف وهو مُنْتَضى وحِلْمِ كحِلم السيفِ وهو
مغمدُ.
لفسَدَ البيْتُ".
والأمرُ - كما قال الصاحبُ والسببُ في ذلك - أنك إذا حدَّثْتَ
عن اسم مُضافٍ ثم أردْتَ أن تَذْكُر المضافَ إليهِ، فإن
البلاغَة تقتضي أن تذكُرَه باسمِه الظاهرِ وَلا تُضْمِرَهُ.
وتفسيرُ هذا أنَّ الذي هوَ الحسَنُ الجميل أن تقول: (جاءني
غلامُ زيدٍ وزيدٌ) ويقبُحُ أن تقول: (جاءني غلامُ زيدٍ وهُو)
ومن الشاهِد في ذلك، قولُ دِعْبِل [من البسيط]:
أضيافُ عِمران في خِصْبٍ وفي سَعةٍ ... وفي حِبَاءِ وخَيرٍ
غيرِ ممنوعِ
وضيفُ عمرٍو وعمرٌو يَسْهرانِ معاً ... عمرو لبِطْنَتِه
والضيفُ للجُوعِ
وقولُ الآخر [من الطويل]:
وإنْ طُرَّةٌ راقَتْكَ فانْظُرْ فرُبَّما ... أَمَرَّ مذاقُ
العُودِ والعُودُ أَخْضَرُ
وقولُ المتنبي [من الطويل]:
بِمَنْ نَضْرِبُ الأمثالَ أم مَنْ نَقِيسُهُ ... إليكَ وأهْلُ
الدهرِ دونكَ والدهرُ؟
ليس بخفيٍّ على مَنْ له ذوقٌ، أنه لو أتى
موضعُ الظاهرِ في ذلك كله بالضمير فقيل: (وضيفُ عمروِ وهو
يسهران معاً)، و (ربما أمرَّ مذاقُ العودِ وهو أخضر)، و (أهلُ
الدهر دونك وهو) لعُدِمَ حُسْنٌ ومزيةٌ لا خفاءَ بأمرهما، ليس
لأنَّ الشعرَ يَنكَسِرُ، ولكنْ تُنْكِره النفسُ. وقد يُرى في
بادىء الرأي أنَّ ذلك من أجْل اللَّبْسِ، وأنكَ إذا قلتَ:
(جاءني غلامُ زيدٍ وهو) كان الذي يقَعُ في نفس السامع أنَّ
الضميرَ للغلام، وأنكَ على أن تجيء له بخَبر؛ إلا أنَّه لا
يستمرُّ من حيثُ إنا نقول: (جاءني غلمانُ زيدٍ وهو)، فتَجِدُ
الاستنكارَ ونبُوَّ النفسِ، مع أنْ لا لَبْسَ مثْلَ الذي
وجدْناه. وإذا كان كذلك وجَب أن يكون السببُ غيرَ ذلك. والذي
يوجُبِه التأمل أن يُردَّ إلى الأصْل الذي ذكره الجاحظ من أنَّ
سائلاً سأل عن قولِ قيس بن خارجة "عندي قِرى كلِّ نازلٍ، ورضى
كلِّ ساخطٍ، وخُطبةٌ مِنْ لدنْ تَطلعُ الشمسُ إلى أنْ تغرُبَ،
آمرُ فيها بالتواصُل، وأنهى فيها عن التقاطع" فقال: أليس
الأمرُ بالصِّلة هو النهيُ عن التقاطع؟ قال: فقال أبو يعقوب:
أما علمتَ أنَّ الكنايةَ والتعريضَ، لا يَعملان في العقولِ
عملَ الإفصاح والتكشيف؟ وذكرتُ هناك أنَّ لهذا الذي ذُكِر من
أنَّ للتصريح عملاً لا يكون مثلَ ذلك العملِ للكناية كان
لإعادة اللفظ في قوله: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ}
[الإسراء: 105]، وقوله: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصمد}
[الإخلاص: 1 - 2] عملٌ لولاها لم يَكنْ. وإذا كان هذا ثابتاً
معلوماً فهو حكْم مسألتنا. ومن البيِّنِ الجليِّ في هذا المعنى
- وهو كبيت ابن الرومي سواءٌ لأنه تشبيهٌ مثْلُه - بيتُ
الحماسة [من الهزج]:
شَدَدْنا شَدَّةَ الليثِ ... غدا والليثُ غضبانُ
ومن الباب قولُ النابغة [من الرجز]:
نفْسُ عصامٍ سوَّدتْ عِصاما ... وعلَّمَتْهُ الكرَّ والإقداما
لا يخفى على مَنْ له ذوقٌ حسَنٌ هذا الإظهارَ، وأنَّ له موقعاً
في النفس وباعثاً للأرْيحية، لا يكون إذا قيل: (نفسُ عصامٍ
سودته) شيء منه البتة.
|