قال ابن
هشام : وكان من حديث جُرْهُم ، ودفنها زمزم ، وخروجها
من مكة، ومن ولي أمر مكة بعدها إلى أن حفر عبدُ
المطلب زمزم ، ما حدثنا به زيادُ بن عبد اللّه
البَكَّائى عن محمد بن إسحاق المطلبي ،
قال : لما توفي إسماعيل بن إبراهيم وَلِىَ البيتَ بعده ابنُه
نابت بن إسماعيل - ما شاء اللّه أن يليَه - ثم ولي البيت بعده : مُضاض بن عَمرو الجَرْهمى.
قال ابن
هشام :
ويقال : مِضاض بن عمرو الجرْهمي.
قال ابن
إسحاق : وبنو إسماعيل وبنو نابت مع جدِّهم : مُضَاض بن عمرو
وأخوالهم من جُرْهم، وجرهم وقَطُوراء يومئذ أهل مكة، وهما ابنا عَم ، وكانا ظَعنا
من اليمن ، فأقبلا سيَّارةً، وعلى جُرْهم : مُضَاض بن عمرو، وعلى قطوراء :
السَّمَيْدع رجل منهم. وكانوا إذا خرجوا من اليمن لم يخرجوا إلا ولهم مَلك يقيم
أمرهم. فلما نزلا مكة رأيا بلداً ذا ماء وشجر، فأعجبهما فنزلا به. فنزل مُضاض بن
عمرو بمن معه من جرهم بأعلى مكة بقُعَيْقعَان ، فما حاز. ونزل السَّمَيْدع
بقطوراء، أسفل مكة بأجياد، فما حاز : فكان مُضاض يعشِّر من دخل مكة من أعلاها،
وكان السَّمَيدع يعشِّر من دخل مكة من أسفلها، وكل في قومه لا يدخل واحد منهما على
صاحبه. ثم إن جُرهم وقطوراء بغى بعضُهم على بعض ،
وتنافسوا الملك بها، ومع مُضاض يومئذ : بنو إسماعيل وبنو نابت ، وإليه ولاية البيت
دون السَّمَيدع فصار بعضهم إلى بعض ، فخرج مُضاض بن عمرو بن قُعَيْقعان في كتيبته
سائرا إلى السَّمَيدع ، ومع كتيبته عدتها من الرماح والدَّرَق والسيوف والجعاب ،
ويُقَعقع بذلك معه ، فيقال : ما سمي قُعَيقعان : بقعيقعان إلا لذلك. وخرج السَّميدع من أجياد، ومعه
الخيل والرجال ، فيقال : ما
سمي أجْياد : إلا لخروج الجياد من الخيل مع السَّمَيدع منه فالتقوْا بفاضح ،
واقتتلوا قتالا شديداً، فقُتل السَّمَيْدع ، وفضحت قطوراء : فيقال ما سمي فاضح :
فاضحا إلا لذاك. ثم إن
القوم تداعَوا إلى الصلح ، فساروا حتى نزلوا المطابخ : شِعْبا بأعلى مكة، واصطلحوا
به ، وأسلموا الأمر إلى مُضَاض. فلما جُمع إليه أمر مكة، فصار ملكهَا نحر للناس
فأطعمهم ، فاطَّبخ الناس وأكلوا، فيقال : ما سُميت المطابخ إلا لذلك. وبعض أهل العلم يزعم أنها إنما
سميت المطابخ ، لما كان تُبع نحر بها، وأطعم ، وكانت منزله. فكان الذي كان بين
مُضاض والسَّميدع أول بَغْي كان بمكة فيما يزعمون.
انتشار ولد
إسماعيل : ثم نشر اللّه ولدَ إسماعيل بمكة، وأخوالهم من جرهم ولاة البيت والحكام بمكة،
لا ينازعهم ولدُ إسماعيل في ذلك لخئولتهم وقرابتهم ، وإعظاما للحرمة أن يكون بها
بغي أو قتال. فلما ضاقت مكة على ولد إسماعيل انتشروا
في البلاد، فلا يناوئون قوما إلا أظهرهم اللّه عليهم - بدينهم - فوطِئوهم.
بغي جرهم
ونفيهم عن مكة
بنو بكر وغبشان يطردون جرهما
ثم إن جُرْهما بغوا بمكة، واستحلوا خلالاً من الحرمة، فظلموا
من دخلها من غير أهلها، وأكلوا مال الكعبة الذي يُهدَى لها، فرقَّ أمرهم. فلما رأت
بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة وغُبشان من خُزاعة ذلك ، أجمعوا لحربهم وإخراجهم من
مكة ؛ فآذنوهم بالحرب فاقتتلوا، فغلبتهم بنو بكر وغُبْشان ، فنفَوْهم من مكة.
وكانت مكة في الجاهلية لا تُقر فيها ظلماً ولا بغياً، ولا يبغى فيها أحدٌ إلا
أخرجته ، فكانت تسمى : الناسَّة، ولا يريدها ملك يستحل حرمتَها إلا هلك مكانَه ،
فقال : إنها ما سميت ببكة إلا أنها كانت تبك أعناق الجبابرة إذا
أحدثوا فيها شيئاً.
معنى بكة
قال ابن
هشام : أخبرني أبو عبيدة : أن بكَّة اسم لبطن مكة ؛
لأنهم يتباكون فيها، أي :
يزدحمون ، وأنشدنى :
إذا
الشَّريبُ أخذتُه أكَّه فَخَلِّه حتى
يبكَّ بكَّه
أي : فدعه حتى يبك إبلَه ، أي يخليها إلى الماء، فتزدحم عليه ، وهو موضع البيت والمسجد، وهذان البيتان
لعامان بن كعب بن عمرو بن سعد بن زَيد مَناة بن تميم.
قال ابن
إسحاق : فخرج عَمرو بن الحارث بن مُضاض الجرهمي بغزالي الكعبة
وبحجر الركن ، فدفنهما في زمزم وانطلق هو ومن معه من جُرهم إلى اليمن ، فحزنوا على
ما فارقوا من أمر مكة وملكها حزنا شديداً فقال عَمرو بن الحارث بن مُضاض في ذلك،
وليس بمُضاض الأكبر :
وقائلةٍ
والدمعُ سكْت مُبـــادرُ وقد شَرِقَتْ
بالدمعِ منها المحاجرُ
كأن لم يكن بين الحَجُون إلى الصَّفا أنيس
ولم يَسْمُر بمكةَ سامرُ
فقلتُ لها والقلبُ منى كأنمــــا يُلَجْلجه
بين الجناحين طائرُ
بلى نحن كنا أهلَها، فأزالَنــــا صروفُ
الليالى، والجدودُ العواثرُ
وكنا ولاةَ البيت من بعدِ نابــتٍ نطوفُ
بذاك البيتِ،والخيرُ ظاهرُ
ونحن ولينا البيتَ من بعد نابـتٍ بعز،
فما يحْظَى لدينا المكاثِرُ
مَلَكْنا فعزَّزْنا فأعْظمْ بمُلكنـــا فليس
لحي غيرنا ثَمَّ فاخِرُ
ألم تُنكحوا من خيرِ شخصٍ علمتُه فأبناؤه
منا، ونحنُ الأصاهرُ
فإن تَنْثنِ الدنيا علينا بحالِهـــا فإن
لها حالاً، وفيها التشَاجُرُ
فأخرجنا منها المليكُ بقُـــدرةٍ كذلك -
يا لَلناس- تجري المقادِرُ
أقول إذا نام الخليُّ - ولم أنَــمْ : إذا
العرش لا يبعد سُهيل وعامرُ
وبُدِّلت منها أوْجُهاً لا أحبُّهـــا قبائلُ
منها حِمْيَر ويُحابرُ
وصِرنا أحاديثاً وكنا بغبْطـــةٍ بذلك
عضتنا السُّنون الغوابرُ
فسَحَّت دموعُ العينِ تبكي لبلـدةٍ بها
حَرم أمْنٌ ، وفيها المشاعرُ
وتبكى لبيت ليس يُؤذَى حَمامُـه يظلُّ به
أمْنا، وفيه العصافرُ
وفي وُحوش -لا تُرامُ-أنيســةٌ إذا
خرجَتْ منه ، فليستْ تُغادرُ
قال ابن هشام : " فأبناؤه منا " عن غير ابن إسحاق.
قال ابن
إسحاق : وقال عَمرو بن الحارث أيضاً يذكر بكرا وغُبْشان وساكني مكة
الذين خَلَفوا فيها بعدهم :
يا أيها الناس سيروا إن قصْرَكــم
أن تُصْبحوا ذاتَ يوم لا تَسيرونا
حُثوا المطى، وأرخوا من أزمَّتِها قبلَ
المماتِ ، وقَضُّوا ما تقضُّونا
كنا أناساً كما كنتم ، فغيرنـــا دهر،
فأنتم كما كنا تكونونا
قال
ابن هشام : هذا ما يصح له منها، وحدثني بعض أهل العلم بالشعر
: أن هذه الأبيات أول شعر قيل في العرب ، وأنها وُجدت مكتوبة في حَجَر باليمن، ولم
يُسم لي قائلها.
قال ابن إسحاق : ثم إن غُبْشان من خُزاعة وَلِيَتْ البيتَ دون بني بكر ابن عبد مناة، وكان الذي يليه منهم : عمرو بن الحارث الغُبْشانى ، وقريش إذ ذاك حُلول وصِرَم ، وبيوتات ، متفرقون في قومهم من بنى كنانة، فوليت خُزاعة البيت يتوارثون ذلك كابراً عن كابر، حتى كان آخرهُم حُلَيْل بن حَبَشية بن سَلول بن كعب بن عَمرو الخُزاعى.
قال ابن هشام : يقال حُبْشية بن سلول.
أولاد قُصىّ وحُبَّى :
قال ابن
إسحاق : ثم إن قُصّي بن كلاب خَطب إلى حُليل بن حُبْشية بنته حُبَّى، فرغب فيه حُليل
فزوجه ، فولدت له عبدَ الدار، وعبدَ مناف ، وعبد العُزَّى، وعبداً. فلما انتشر ولد
قُصّي ، وكثر مالُه ، وعظم شرفه هلك حُلَيل.
مساعدة رزاح لقصي في تولي أمر البيت : فرأى قصي أنه أوْلَى بالكعبة وبأمر مكة من خُزاعة وبني بكر، وأن قُريشا
قُرْعةُ إسماعيل بن إبراهيم وصريحُ ولده. فكلم رجالا من قريش، وبنى كنانة، ودعاهم
إلى إخراج خُزاعة وبني بكر من مكة، فأجابوه. وكان ربيعة بن حرام من عُذْرة بن سعد
بن زيد قد قدم مكة بعدما هلك كلاب ، فتزوج فاطمة بنت سعد بن سَيَل ، وزُهْرة يومئذ
رجل ، وقُصي فطيم ، فاحتملها إلى بلاده ، فحملت قُصيا معها، وأقام زُهرة، فولدت
لربيعة رِزاحاً. فلما بلغ قُصي وصار رجلا أتى مكة، فأقام بها، فلما أجابه قومه إلى ما دعاهم إليه ،
كتب إلى أخيه من أمه ، رِزاح بن ربيعة، يدعوه إلى نصرته ، والقيام معه ، فخرج
رِزاح بن ربيعة، ومعه : إخوته حُنُّ بن ربيعة، ومحمود بن ربيعة، وجُلْهُمة بن
ربيعة، وهم لغير أمه فاطمة، فيمن تبعهم من قضاعة في حاجِّ العرب ، وهم مجمعون
لنصرة قُصّي. وخزاعة تزعم أن حُلَيل بن حُبْشية أوصى بذلك قُصيا وأمره به حين
انتشر له من ابنته من الولد ما انتشر.
وقال : أنت أولى بالكعبة، وبالقيام عليها، وبأمر مكة من خزاعة،
فعند ذلك طلب قُصّ ما طلب ، ولم نسمع ذلك من غيرهم ، فاللّه أعلم أي ذلك كان.
ما كان يليه
الغوث بن مر من الِإجازة للناس بالحج
وكان الغوث بن مر بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر يلي الإجازة للناس بالحج
من عرفة، وولده من بعده ، وكان يقال له ولولده : صُوفة.
وإنما وَلىَ ذلك الغوثُ بن مُر، لأن أمه كانت امرأة من جُرهم ، وكانت لا
تلد، فنذرت للّه إن هي ولدت رجلا : أن تَصَّدَّق به على الكعبة عبداً لها يخدمها،
ويقوم عليها، فولدت ، فكان يقوم على الكعبة الدهر الأول مع أخواله من جُرهم ،
فوَلىَ الإجازة بالناس من عرفة؛ لمكانه الذي كان به من الكعبة، وولدُه من بعده حتى
انقرضوا. فقال مُرُّ ابن أدّ لوفاء نذر أمه :
إني
جعلتُ ربِّ من بَنيَّهْ ربيطةً بمكةَ
العليَّهْ
فبارِكنَّ لي بها أليــــــــَّه واجعلْه
لي من صالح البريَّهْ
وكان الغوْثُ بن مُرّ - فيما زعموا - إذا دفع بالناس
قال :
لَاهُمَّ إني تابع تَبَاعـــــــهْ إن كان إثم فعلى قُضَاعَهْ
صوفة
ورمي بالجمار :
قال ابن إسحاق : حدثني يحيى بن عبَّاد ابن عبد اللّه بن الزبير عن أبيه
قال :
كانت صوفة تدفع بالناس من عرفة، وتجيز بهم إذا نَفَروا من منى فإذا كان يوم
النفر أتوا لرمي الجمار، ورجل من صُوفة يرمى للناس ، لا يرمون حتى يرمي. فكان ذوو
الحاجات المتعجِّلون يأتونه ، فيقولون له : قم فارم حتى نرمي معك ، فيقول لا واللّه
، حتى تميل الشمس ، فيظل ذوُو الحاجات الذين يحبون التعجلَ يرمونه بالحجارة،
ويستعجلونه بذلك ، ويقولون له : ويلك ! قمْ فارمِ ، فيأبَى عليهم ، حتى إذا مالت
الشمس ، قام فرمى ورمى الناس معه.
قال ابن
إسحاق : فإذا فرغوا من رمْي الجمار، وأرادوا
النَّفْر من مِنًى، أخذت صوفة بجانبي العقبة، فحبسوا الناسَ وقالوا : أجيزي صوفة،
فلم يجز أحد من الناس حتى يمروا، فإذا نفرت صوفة ومضت ، على سبيل الناس ، فانطلقوا
بعدَهم ، فكانوا كذلك ، حتى انقرضوا، فورثهم ذلك من بعدهم بالقُعْدد بنو سعد بن
زيد مناة بن تميم ، وكانت من بني سعد في آل صفوان بن الحارث بن شجْنَة.
قال ابن
هشام : صفوان بن جُناب بن شِجْنَة بن عُطارد بن عَوْف
بن كعب بن سعد بن زيد مُناة بن تميم.
صفوان وبنوه وإجازتهم للناس بالحج :
قال ابن
إسحاق : وكان صفوان هو الذي يجيز للناس بالحج من
عرفة ثم بنوه من بعدِه ، حتى كان آخرهم الذي قام عليه
الإسلام : كَرِب بن صفوان. وقال أوْس ابن تميم بن مِغراء السعديُّ :
لا يبرح
الناسُ ما حجوا مُعَرَّفَهم حتى يقال
: أجيزوا آل صفوانا
قال ابن
هشام : هذا البيت في قصيدة لأوس بن مِغْراء.
ما كانت عليه عَدْوان من إفاضة المزدلفة ذو الِإصبع يذكر هذه الإفاضة :
وأما قول ذي الإصْبع العَدْوانى، واسمه حُرْثان بن عَمرو، وإنما
سُمى ذا الإصبع؛ لأنه كان له إصبع فقطعها :
عذيرَ
الحي من عـــــــــَدْوا نَ كانوا
حَيَّةَ الأرض
بغَى بعضُهم ظلمـــــــــــاً فلم يُرْعِ
على بعضِ
ومنهم كانت الســـــــــــادا تُ
والموفون بالقَرْضِ
ومنهم من يجيزُ النـــــــــاسَ بالسُّنةِ
والفَرضِ
ومنهم حَكْمٌ يقـــــــــ ـضي فلا
يُنقَضُ ما يَقْضِى
أبو سيارة يفيض بالناس :
وهذه الأبيات في قصيدة له - فلأن الِإفاضة من المُزدلفَة كانت في عَدوانس - فيما
حدثنى زياد بن عبد اللّه البكَّائي عن محمد بن إسحاق - يتوارثون ذلك كابراً عن
كابر، حتى كان آخرهم الذي قام عليه الإسلام أبو سيَّارة، عُمَيْلة بن الأعزَل ، ففيه
يقول شاعر من العرب :
نحن دفعنا عن أبى سياره وعن مواليه بني فزارهْ
حتى إجاز سالما حِمـــارهْ مستقبِل القبلة
يدعو جارَهْ
قال : وكان أبو سيارة يدفع بالناس على أتان له ، فلذلك يقول :
" سالما حماره ".
أمر عامر بن
ظَرِب بن عمرو بن عياذ بن يشكر ابن عدوان
ابن الظرب حاكم العرب :
قال ابن
إسحاق : وقوله : " حكم يقضى " يعني عامر بن ظَرِب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان العدواني.
وكانت العرب لا يكون بينها نائرة، ولا عُضْلَة في قضاء إلا أسندوا ذلك إليه
، ثم رَضُوا بما قضى فيه ، فاختصم إليه في بعض ما
كانوا يختلفون فيه ، في رجل خُنْثى، له ما للرجل ، وله ما للمرأة،
فقالوا : أتجعله رجلاً أو امرأة ؟ ولم يأتوه بأمر كان أعضل منه.
فقال : حتى أنظر في أمركم ، فواللّه ما نزل بي مثل هذه منكم يا
معشر العرب ! فاستأخروا عنه؛ فبات ليلته ساهراً يقلِّب أمره ، وينظر في شأنه ، لا
يتوجه له منه وجه وكانت له جارية يقال لها : سُخَيْلة ترعى عليه غنمه ، وكان
يعاتبها إذا سرحت فيقول : صبَّحت واللّه يا سُخَيل ! وإذا أراحت عليه ،
قال :مسيت واللّه يا سُخَيل ! وذلك أنها كانت تؤخر السرح حتى
يسبقها بعض الناس ، وتؤخر الإراحة حتى يسبقها بعض الناس. فلما رأت سهره وقلقه ،
وقلة قراره على فراشه
قالت : ما لك ، لا أبا لك ! ما عراك في ليلتك هذه !
قال : ويلك ! دعيني ، أمر ليس من شأنك ، ثم عادت له بمثل قولها، فقال في نفسه : عسى أن تأتىَ مما أنا
فيه بفرج ،
فقال : ويحَكِ ! اختُصم إليَّ في ميراث خنثى، أأجعله رجلا أو امرأة ؟ فواللّه ما أدري ما أصنع ، وما يتوجَّه لي فيه وجه
؟
قال : فقالت : سبحان اللّه ! لا أبا لك ! أتبع القضاءَ المَبالَ ، أقعدْه ، فإن بال من
حيث يبول الرجل فهو رجل ، وإن بال من حيث تبول المرأة؛ فهي امرأة.
قال : مسِّي سخيل بعدها أو صَبِّحي ، فرّجْتِها واللّه ! ثم خرج على الناس حين أصبح ، فقضى بالذي أشارت عليه به.
غلب قصي بن كلاب على أمر مكة وجمعه أمر قريش ومعونة قضاعة له قصي يتغلب على
صوفة :
قال ابن
إسحاق : فلما كان ذلك العام ، فعلت صوفة كما كانت
تفعل ، وقد عرفت ذلك لها العرب وهو دِين في أنفسهم في عهد جرهم وخزاعة وولايتهم.
فأتاهم قصي بن كلاب بمن معه من قومه من قريش وكنانة وقضاعة عند العقبة،
فقال : لنحن أولى بهذا منكم ، فقاتلوه ، فاقتتل الناس قتالا شديداً،
ثم انهزمت صوفة، وغلبهم قُصى على ما كان بأيديهم
من ذلك.
قصي يقاتل خزاعة وبني بكر : وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصى، وعرفوا
أنه سيمنعهم كما منع صوفة، وأنه سيحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة. فلما انحازوا
عنه باداهم ، وأجمع لحربهم ، وخرجت له خُزاعة وبنو بكر فالتَقَوْا، فاقتتلوا قتالا
شديداً، حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعاً، ثم إنهم تداعَوْا إلى الصلح ، وإلى أن يحكِّموا بينهم رجلا من
العرب؛ فحكَّموا يَعْمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن
كنانة، فقضى بينهم بأن قُصيا أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة، وأن كل دم أصابه قصي
من خزاعة وبني بكر : موضوع يَشْدخه تحت قدميه ، وأن ما أصابت خزاعة وبنو بكر من
قريش وكنانة وقضاعة، ففيه الدية مؤدَّاة، وأن يُخلَّى بين قصي وبين الكعبة ومكة.
فسُمى يعمر بن عوف يومئذ : الشدَّاخ لِمَا شَدَخ من الدماء ووضع منها.
قال ابن إسحاق : فولى قصى البيت وأمر مكة وجمع قومه في منازلهم إلى مكة وتملك على قومه وأهل مكة فملَّكوه ، إلا أنه قد أقر للعرب ما كانوا عليه وذلك أنه كان يراه دِيناً في نفسه لا ينبغي تغييره ، فاقر آل صفوان وعدوان والنسأة ومُرة بن عوف على ما كانوا عليه ، حتى جاء الإسلام؛ فهدم اللّه به ذلك كله. فكان قُصي أول بني كعب بن لؤىّ أصاب مُلكا أطاع له به قومه ، فكانت إليه الحجابة، والسقاية، والرِّفادة، والندْوَة، واللواء، فحاز شرف مكة كلَّه ، وقطع مكة رباعا بين قومه ، فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة التي أصبحوا عليها ويزعم الناس أن قريشا هابوا قطع شجر الحرم في منازلهم ، فقطعها قصى بيده وأعوانه فسمته قريش : مُجَمِّعاً لما جمع من أمرها، وتيمنت بأمره ، فما تُنكح امرأة، ولا يتزوج رجل من قريش ، وما يتشاورون في أمر نزل بهم ، ولا يعقدون لواءً لحرب قوم من غيرهم إلا في داره ، يعقده لهم بعض ولده ، وما تدَّرِع جارية إذا بلغت أن تَدَّرِع من قريش إلا في داره ، يشق عليها فيها درعها ثم تَدَّرِعُه ، ثم يُنطَلق بها إلى أهلها. فكان أمره في قومه من قريش في حياته ، ومن بعد موته ، كالدِّين المتبع لا يُعمل بغيره. واتخذ لنفسه دار الندوة، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة، ففيها كانت قريش تقضى أمورَها.
قال ابن هشام : وقال الشاعر :
قُصَي لعمري كان يُدعَى مُجمعاً به جمع اللّه القبائلَ من فِهْر
قال ابن إسحاق : حدثنى عبد الملك بن راشد عن أبيه ،
قال : سمعت السائب بن حَبَّاب صاحب المقصورة يُحدِّث ، أنه سمع رجلا يُحدِّث عمرَ بن الخطاب - وهو خليفة - حديث قصي بن كلاب ، وما جَمَع من أمر قومه وإخراجه خزاعة وبنى بكر من مكة، وولايته البيت وأمر مكة، فلم يرد ذلك عليه ولم يُنكره.
شعر رزاح بن ربيعة في هذه القصة
قال ابن إسحاق : فلما فرغ قُصيّ من حربه ، انصرف أخوه رِزَاح بن ربيعة إلى بلاده بمن معه من قومه ، وقال رِزاح في إجابته قُصيا :
لمَّا أتى من قصي رســــــول فقال الرسولُ : أجيبوا
الخليلَا
نهضنا إليه نقودُ الجيــادَ ونطرح عنَّا المَلولَ الثقيلاَ
نسير بها الليلَ حتى الصباح ونكمي النهارَ؛ لئلا تزولا
فهن سراعٌ كَورْد القَطـا يُجِبْن بنا من قُصّي رسولَا
جمعنا من السرِّ من أشمذَيْن ومن كلِّ حي جمعنا قبيلَا
فيا لكِ حُلْبة ما ليلــــة تزيد على الألف سَيْباً رَسيلَا
فلما مررنَ على عَسْجَــر وأسْهلن من مُستناخ سبيلَا
وجاوزْنَ بالركن من وَرِقان وجاوزن بالعَرْج حَيّاً حُلولَا
مررْن على الحَيْل ما ذقنه وعالجنَ من مَرِّ ليلاً طويلَا
تَدنى من العُوذ أفلاءَهـا إرادةَ أن يسترقْن
الصهيلَا
فلما انتهينا إلى مكــــةَ أبحنا الرجالَ قبيلًا قبيلَا
نعاورُهم ثَمَّ حدِّ السيـــوفِ وفي كلِّ اًوْبٍ خَلسْنا العقولَا
نُخَبِّزهم بصلابِ النســـو رِ خَبْزَ القويِّ العزيزِ الذليلا
قتلنا خزاعةَ في دارِهـــا وبكراً قتلنا وجيلاً فجيلَا
نفيناهمُ من بلادِ المليــــــك كما لا يَحِلُّون أرضاً سُهولا
فأصبح سبيُهم في الحديـــدِ ومن كلِّ حي شَفَيْنا الغليلا
شعر ثعلبة القضاعي في هذه القصة :
وقال ثعلبة بن عبد اللّه بن ذُبيان بن الحارث بن سعد بن هُذَيْم القُضاعي في ذلك من
أمر قُصي حين دعاهم فأجابوه :
جلبنا الخيلَ مُضْمرةً تَغالـــَى من الأعرافِ أعراف الجِنابِ
إلى غَوْرَىْ تِهامةَ، فالتقينـــا من الفَيْفاءِ في قاعٍ يبابِ
فأما صوفةُ الخنثَى، فخَلَّـــوْا منازلَهم محاذرَة الضِّرابِ
وقام بنو علي إذ رأونــــا إلى الأسياف كالإبل الطرابِ
شعر قصي : وقال قصى:
أنا ابن العاصمين بني لؤيّ بمكةَ منزلي ، وبها رَبيتُ
إلى البَطحاءِ قد علت معــد ومَرْوتُها رضيتُ بها رضيتُ
فلستُ لغالبٍ إن لم تأثَّــــل بها أولادُ قَيْذر، والنبيتُ
رِزاحٌ ناصري ، وبه أسامى فلستُ..أخافُ ضيْماً ما حَييتُ
فلما استقر رِزاح بن ربيعة في بلاده ، نشره اللّه ونشر حُنّاً، فهما قبيلا عُذْرَة اليوم. ومد كان بين رزاح بن ربيعة، حين قدم بلاده ، وبين نَهْد ابن زيد وحَوْتَكة بن أسْلُم، وهما بطنان من قُضاعة شىء، فأخافهم حتى لحقوا باليمن ، وأجْلَوْا من بلاد قُضاعة، فهم اليوم باليمن ، فقال قُصي بن كلاب ، وكان يحب قُضاعة ونماءها واجتماعها ببلادها، لما بينه وبين رزاح : من الرحم ، ولبلائهم عنده إذا أجابوه إذ دعاهم إلى نصرته ، وكره ما صنع بهم رِزاح :
ألا من مُبْلغ عنى رِزاحـــاً فإني قد لَحَيتك في اثنتين
لحيتُك في بنى نَهْد بن زيد كما فرقْتَ بينهُمُ وبيْني
وحَوْتكة بنُ أسلمَ إن قومــا عَنَوْهم بالمَساءة قد عَنَوْني
قال ابن هشام :
وتروى هذه الأبيات لزُهير بن جَناب الكلبى.
قصي يفضل عبد الدار على سائر ولده :
قال ابن إسحاق :
فلما كبر قصي ورق عظمه ، وكان عبد الدار بِكْرَه ، وكان عبد مناف قد شَرُف في زمان أبيه ، وذهب كل مذهَب ، وعبد العزى. وعبد - قال قصى لعبد الدار : أما واللّه يا بُنَيَّ لألحقنَّك بالقوم ، وإن كانوا قد شرفوا عليك : لا يدخل رجل منهم الكعبة، حتى تكون أنت تفتحها له ، ولا يُعقد لقريش لواء لحربها إلا أنت بيدك ، ولا يشرب أحد بمكة إلا من سقايتك ، ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعاما إلا من طعامك ، ولا تقطع قريشٌ أمراً من أمورها إلا في دارك ، فأعطاه دارَه دارَ الندوة، التى لا تُقضي قريش أمراً من أمورها إلا فيها، وأعطاه الحجابة واللواء والسقاية والرفادة.
الرِّفادة : وكانت الرِّفادة خَرْجا تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قُصي بن كلاب ، فيصنع به طعاما للحاج ، فيأكله من لم يكن له سعةٌ ولا زاد، وذلك أن قُصيا فرضه على قريش، فقال لهم حين أمرهم به : يا معشر قريش ، إنكم جيرانُ اللّه ، وأهل بيته ، وأهل الحرم ، وإن الحاج ضَيْفُ اللّه وزوَّار بيته ، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاما وشرابا أيام الحج ، حتى يَصْدُروا عنكم ، فكانوا يخرجون لذلك كل عام من أموالهم خَرْجاً، فيدفعونه إليه ، فيصنعه طعاماً للناس أيام مِنًى، فجرى ذلك من أمره في الجاهلية على قومه حتى قام الإسلام ، ثم جرى في الإسلام إلى يومك هذا، فهو الطعام الذي يصنعه السلطان كل عام بمنى للناس حتى ينقضي الحج.
قال ابن إسحاق : حدثني بهذا من أمر قُصَي بن كلاب ، وما قال لعبد الدار فيما دفع إليه مما كان بيده : أبو إسحاق بن يسار، عن الحسن ابن محمد بن على بن أبى طالب رضى اللّه عنهم ،
قال : سمعته يقول ذلك لرجل من بني عبد الدار يقال له : نُبَيْه بن وهب بن عامر بن عِكرمة ابن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصى.
قال الحسن : فجعل إليه قُصي كل ما كان بيده من أمر قومه ، وكان قُصي لا يُخَالفَ ، ولا يُردّ عليه شيء صنعه.
ذكر ما جرى من اختلاف قريش بعد قُصى وحلف المطيبين النزاع بين بني عبد الدار وبني أعمامهم :
قال ابن إسحاق :
ثم إن قصي بن كلاب هلك ، فأقام أمره في قومه وفي غيرهم بنوه من بعده. فاختطوا مكة رباعاً - بعد الذي كان قطع لقومه بها فكانوا يقطعونها في قومهم ، وفي غيرهم : من حلفائهم ويبيعونها. فأقامت على ذلك قريش معهم ليس بينهم اختلاف ولا تنازع ، ثم إن بني عبد مناف ابن قصى: عبد شمس وهاشما والمطلب ونوفلا، أجمعوا على أن يأخذوا ما بأيدي بني عبد الدار بن قُصى مما كان قصي جعل إلى عبد الدار، من الحجابة واللواء والسقاية والرِّفادة، ورأوا أنهم أولى بذلك منهم لشرفهم عليهم وفضلهم في قومهم ، فتفرقت عند ذلك قريش ، فكانت طائفة مع بني عبد مناف على رأيهم يَرَوْن أنهم أحق به من بني عبد الدار لمكانهم في قومهم ، وكانت طائفة مع بني عبد الدار، يَرَوْن أن لا يُنزع منهم ما كان قصي جعل إليهم.
فكان صاحب أمر بنى عبد مناف : عبد شمس بن عبد مناف ، وذلك أنه كان أسن بنى عبد مناف.
وكان صاحب أمر بني عبد الدار : عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.
حلفاء بني عبد الدار وحلفاء بني أعمامهم : فكان بنو أسد بن عبد العُزَّى بن قصى وبنو زُهرة بن كلاب ، وبنو تَيْم بن مُرة بن كعب ، وبنو الحارث بن فِهر بن مالك بن النضر، مع بني عبد مناف.
وكان بنو مخزوم بن يَقَظَة بن مرة، وبنو سَهْم بن عمرو بن هُصَيْص ابن كعب ، وبنو جمَح بن عمرو بن هُصَيْص بن كعب ، وبنو عدي بن كعب ، مع بني عبد الدار، وخرجت عامر بن لؤي ومحارب بن فِهر، فلم يكونوا مع واحد من الفريقين.
فعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا، ولا يسْلم بعضهم بعضاً ما بلَّ بحر صوفةً.
فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا، فيزعمون أن بعض نساء بني عبد مناف، أخرجتها لهم ، فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القومُ أيديَهم فيها، فتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم ، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم فسُمُّوا المطيَّبين.
وتعاقد بنو عبد الدار، وتعاهدوا هم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفاً مؤكدا، على أن لا يتخاذلوا، ولا يُسلم بعضُهم بعضاً، فسُموا الأحلاف.
تقسيم القبائل في هذه الحرب : ثم سُوند بين القبائل ، ولُزَّ بعضُها ببعض فعُبيّتَ بنو عبد مناف لبني سَهْم ، وعُبيّتَ بنو أسد لبني عبد الدار، وعُبيت زُهرة لبنى جُمَح ، وعُبيت بنو تَيْم لبني مخزوم ، وعُبيت بنو الحارث بن فِهر لبني عدي بن كعب.
ثم قالوا : لِتُفْن كل قبيلة من أسند إليها.
تصالح القبائل : فبينا الناس على ذلك قد أجمعوا للحرب إذ تداعوْا إلى الصلح ، على أن يُعطوا بني عبد مناف السقاية والرِّفادة، وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبنى عبد الدار كما كانت ، ففعلوا ورضى كل واحد من الفريقين بذلك ، وتحاجز الناسُ عن الحرب ، وثبت كل قوم مع من حالفوا، فلم يزالوا على ذلك حتى جاء اللّه تعالى بالإسلام ، فقال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم : " ما كان من حِلفٍ في الجاهلية، فإن الإسلامَ لم يزدْه إلا شدةً ".
قال ابن إسحاق :
وأما حلف
الفُضول فحدثني زياد بن عبد اللّه البكَّائى عن محمد بن إسحاق
قال : تداعت
قبائل من قريش إلى حلف ، فاجتمعوا له في دار عبد اللّه بن جُدْعَان بن عمرو بن كعب
بن سعد بن تَيْم بن مرة بن كعب بن لؤي ، لشرفه وسنه ، فكان حلفُهم عنده : بنو هاشم
، وبنو المطلب ، وأسد بن عبد العزى، وزُهرة بن كلاب ، وتَيْم بن مرة، فتعاقدوا
وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس
إلا قاموا معه وكانوا على مَن ظَلَمَهُ حتى تُردَّ عليه مظلمته ، فسمت قريش ذلك
الحلف : حلف الفُضول.
قال ابن
إسحاق : فحدثني محمد ابن زيد بن المهاجر بن قُنْفُذ
التيمي أنه سمع طلحة بن عبد اللّه بن عَوْف الزُّهرى يقول : قال رسول اللّه -صلى
اللّه عليه وسلم : " لقد شهدتُ في
دار عبدِ اللّه ابنِ جُدْعان حلفاً ؟ ما أحِب أن لي به حُمْر النَّعَم ، ولو أدعَى
به في الإسلام لأجبتُ ".
الحسين يهدد الوليد بالدعوة إلى إحياء الحلف :
قال ابن
إسحاق : وحدثني يزيدُ بن عبد اللّه بن أسامة بن
الهادي الليْثي أن محمد بن إبراهيم بن الحارث التَّيمي حدثه : أنه كان بين الحسين
بن على بن أبي طالب رضي اللّه
عنهما، وبين الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان - والوليد يومئذ أمير على المدينة،
أمَّره عليها عمه معاوية بن أبي سفيان - منازعة في مال كان بينهما بذي المرْوَة،
فكان الوليدُ تحامل على الحسين في حقّه - لسلطانه - فقال له الحسين : أحلف باللّه لتنصفنى من حقي ، أو لآخذن سيفي ، ثم لأقومن في مسجد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - ثم لأدعونَّ بحلف الفُضول
قال : فقال عبد اللّه بن الزبير، وهو عند الوليد حين قال الحسين
- رضى اللّه عنه - ما
قال : وأنا أحلف باللّه لئن دعا به لآخذنَّ سيفي، ثم لأقومن معه ، حتى يُنصَف من حقه أو نموت جميعاً
قال : فبلغت المسْوَر بن مخرمة بن نوفل الزهري ، فقال مثلَ ذلك ، وبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عُبَيد اللّه
التيمي ، فقال مثل ذلك ، فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى
رَضِىَ.
قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن عبد اللّه بن أسامة بن الهادي الليثي عن محمد ابن إبراهيم بن الحارث التَّيمي
قال : قدم محمد بن جُبَيْر بن مُطْعِم بن عَدي بن نَوْفل بن عبد مناف - وكان محمد بن جُبَيْر أعلم قريش - فدخل على عبد الملك بن مروان بن الحكم حين قُتل ابن الزبير واجتمع الناس على عبد الملك فلما دخل عليه قال له : يا أبا سعيد، ألم نكن نحن وأنتم ، يعني بنى عبد شمس بن عبد مناف وبني نوفل بن عبد مناف في حلف الفُضول ؟
قال : أنت أعلم ، قال عبد الملك : لتخبرنى يا أبا سعيد بالحقِّ من ذلك ،
فقال : لا واللّه لقد خرجنا نحن وأنتم منه ،
قال : صدقْتَ.
هاشم يتولى الرفادة والسقاية :
قال ابن إسحاق : فوليَ الرفادة والسقاية : هاشم بن عبد مناف ، وذلك أن عبد شمس كان رجلا سفَّارا قَلَّما يقيم بمكة، وكان مُقِلا ذا ولد، وكان هاشم مُوسراً فكان - فيما يزعمون - إذا حضر الحج ، قام في قريش
فقال : " يا معشر قريش ، إنكم جيرانُ اللّه ، وأهل بيته ، وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوارُ اللّه وحُجاج بيته ، وهم ضَيْف اللّه ، وأحق الضيف بالكرامة : ضيفُه ، فاجمعوا لهم ما تصنعون لهم به طعاما أيامَهم هذه التي لا بد لهم من الإقامة بها ؛
فإنه – واللّه – لو كان مالي يسع لذلك ما كلفتكموه " فيخرجون لذلك خَرْجاً من أموالهم ، كل امرئ بقدر ما عنده ، فيُصنع به للحجاج طعامٌ ، حتى يَصْدُروا منها.
أفضال هاشم على قومه : وكان هاشم - فيما يزعمون - أولَ من سَنَّ الرحلتين لقريش : رحلتى الشتاء والصيف ، وأول من أطعم الثريد للحجاج بمكة، وإنما كان اسمه : عَمراً، فما سُمي هاشماً إلا بهشمه الخبز بمكة لقومه ، فقال شاعر من قريش أو من العرب :
عَمْرو الذي هشم الثريدَ لقومِه قوم بمكة مُسنتين عجاف
سُنَّت إليه الرحلتان كلاهمـــــا سفرُ الشتاء، ورحلةُ الإيلاف
قال ابن هشام :
أنشدني بعض أهل العلم بالشعر من أهل الحجاز :
قوم بمكة مسنتين عجاف
المطلب يلي الرفادة والسقاية
قال ابن إسحاق : ثم هلك هاشم بن عبد مناف بغزة من أرض الشام تاجراً، فولىَ السقاية والرِّفادة من بعده المطلبُ بن عبد مناف ، وكان أصغر من عبد شمس وهاشم ، وكان ذا شرف في قومه وفضل ، وكانت قريش إنما تسميه : الفَيْضَ ؛ لسماحته وفضله.
وكان هاشم بن عبد مناف قَدِم المدينة، فتزوج سَلْمى بنت عمرو أحد بني عدي
بن النجار، وكانت قبله عند أحَيْحة بن الجُلاح بن الحَرِيش.
قال ابن
هشام :
ويقال : الحريس بن جَحْجبيّ بن كُلْفة بن عَوْف بن عمرو بن عَوْف
بن مالك بن الأوْس ، فولدت له عمرو بن أحَيْحة، وكانت لا تنكح الرجال لشرفها في
قومها، حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها، إذا كرهت رجلا فارقته.
سبب تسمية عبد
المطلب باسمه : فولدت لهاشم : عبد المطلب ، فسمته شَيْبة، فتركه هاشم عندها حتى كان وَصيفاً أو فَوْق ذلك ، ثم خرج إليه عمه المطلب ؛ ليقبضه ، فيُلحقه ببلده وقومه فقالت له سَلْمى :
لستُ بمرسلته معك ، فقال لها المطلب : إنى غير مُنصرف حتى أخرج به معي إن ابن أخي قد بلغٍ ، وهو غريب
في غير قومه ، ونحن أهل بيت شرف في قومنا ؛ نلى كثيرا من أمرهم ؛ وقومه وبلده
وعشيرته خير له من الإقامة في غيرهم ، أو كما قال. وقال شَيْبة لعمه المطلب - فيما يزعمون - لست بمفارقها إلا أن
تأذنَ لي ، فأذنت له ، ودفعته إليه ، فاحتمله ، فدخل به مكة مُرْدِفه معه على
بعيره ، فقالت قريش : عبد المطلب ابتاعه ، فبها سُمى شَيْبة: عبد
المطلب. فقال المطلب : ويحكم ! إنما هو ابن أخي هاشم
، قَدِمْتُ به من المدينة.
ثم هلك المطلب برَدْمان من أرض اليمن ، فقال رجل من العرب
يبكيه :
قد ظمى
الحجيجُ بعدَ المطلب بعدَ الجفانِ
والشراب المُنْثَغِبْ
ليت
قريشا بعده على نَصَبْ
مطرود يبكي المطلب وبني عبد مناف : وقال مطرود بن كعب الخزاعى، يبكي المطلب وبني عبد مناف جميعاً حين أتاه
نعى نَوْفل بن عبد مناف ، وكان نوفل آخرهم هُلكا :
يا ليلة هَيَّجْتِ ليلاتـــــى إحدى لياليَّ القَسِيَّاتِ
وما أقاسى من هموم ، وما عالجتُ من
رُزْءِ المنيَّاتِ
إنما تذكرتُ أخي نوفــــــلاً ذكَّرني
بالأوَّليَّاتِ
ذكرني بالأزْرِ الحمر والـــ ـأردية
الصُّفر القشيباتِ
أربعةٌ كلهمُ سيــــــــــد أبناءُ ساداتٍ
لساداتِ
مَيْت برَدْمان ومَيْت بسلْـــــ
ـمانَ ومَيْت بين غَزَّاتِ
ومَيْتٌ أسكن لحداً لدى الـــ ـمَحْجوب
شَرْقيّ البنياتِ
أخلصهُمُ عبدُ منافِ فهم من لومِ من لامَ
بمَنْجاة
إن المُغيراتِ وأبناءَهــــــــــا من
خيرِ أحياءٍ وأمواتِ
وكان اسم عبد مناف : المغيرة، وكان أول بني عبد مناف هُلْكا : هاشم ، بغزة من أرض الشام ، ثم عبد شمس بمكة، ثم المطلب برَدْمان من أرض اليمن ، ثم نوفلا بسَلمان من ناحية العراق.
شعر آخر لمطرود : فقيل لمطرود - فيما يزعمون - لقد قلت فأحسنت ، ولو كان أفحل مما قلتَ كان أحسن ،
فقال : أنظروني لياليَ ، فمكث أياماً،
ثم قال :
يا عين جُودي ، وأذرِي الدمعَ وانهمري
وابكي على السر من كعبِ المُغيراتِ
يا عين ، واسْحَنْفري بالدمعِ واحتفلى
وابكي خبيئةَ نفسى في الملماتِ
وابكي على كلِّ فيَّاضٍ أخِي ثقة
ضَخْمِ الدَّسيعة وهَّاب الجَزيلاتِ
محضُ الضَّريبةِ، عالي الهمِّ ، مختلق
جَلْدُ النَّجيزةِ، ناءٍ بالعظيماتِ
صعبُ البديهةِ لا نِكْس ولا وَكِلٍ
ماض العزيمة، متلاف الكريماتِ
صقر توسط من كعب إذا نُسبوا
بُحبوحة المجدِ والشُّم الرفيعاتِ
ثم اندبي الفيضَ والفياضَ مُطَّلبا
واستخرطي بعدَ فيْضاتٍ بجماتِ
أمسى برَدْمان عنا اليومَ مغترباً
يا لهفَ نفسى عليه بينَ أموات
وابكي - لك الويلُ - إمَّا كنتِ باقيً
لعبدِ شمسٍ بشرْقىِّ الثنيَّاتِ
وهاشم في ضريحٍ وَسْط بَلْقَعَةٍ
تَسْفي الرياح عليه بين غَزَّاتِ
ونَوْفل كان دونَ القومِ خالصتى
أمسى بسَلمَان في رَمس بمَوْماةِ
لم ألقَ مثلَهمُ عُجماً ولا عرباً
إذا استقلَّت بهم أدمُ المطيات
أمستْ ديارُهُم منهم معطَّلةً
وقد يكونون زَيْنا في السَّريات
أفناهمُ الدهرُ، أم كلَّتْ سيوفُهمُ
أم كلَّ من عاش أزوادُ المنيَّات
أصبحتُ أرْضَى من الأقوام بعدَهمُ
بَسْطَ الوجوهِ وإلقاءَ التحياتِ
يا عين فابكي أبا الشُّعْثِ الشَّجيَّاتِ
يَبْكينَه حُسَّراً مثلَ البليَّاتِ
يبكين أكرمَ من يمشى على قدمٍ
يُعْوِلْنَه بدموعٍ بعد عَبْرات
يبكين شخصاً طويلَ الباع ذا فَجَر
آبى الهضيمة، فَرَّاج الجليلاتِ
يبكين عَمْرَو العُلا إذ حان مصرعُه
سَمح السَّجيةِ، بسَّام العشياتِ
يبكينه مُستكيناتٍ على حَزنٍ
يا طولَ ذلك من حزنٍ وعَوْلاتِ
يبكين لما جلاهنَّ الزمانُ له
خُضْر الخدودِ كأمثالِ الحَمياتِ
مُحتزمات على أوساطهن لما
جرَّ الزمانُ مِنَ احداث المصيبات
أبيت ليلى أراعي النجمَ من اًلمٍ
أبكى، وتبكى معي شَجْوى بُنَياتي
ما في القُروم لهم عِدْل ولا خَطَرٌ
ولا لمن تركوا شَرْوَى بقياتِ
أبناؤهم خيرُ أبناءٍ ، وأنفُسهم
خيرُ النفوسِ لدى جَهْد الألِيَّاتِ
كم وهبوا من طِمِر سابح أرِنٍ
ومن طِمِرَّةِ نَهْبٍ في طِمَرَّاتِ
ومن سيوفٍ من الهِنديِّ مُخْلَصَة
ومن رماح كأشْطانِ الركياتِ
ومن توابع مما يُفْضِلون بها
عند المسائِل من بذْل العطيّاتِ
فلو حَسنتُ وأحصى الحاسبون معي
لم أقضِ أفعالَهم تلك الهنيَّاتِ
هم المدِلون إمَّا معشر فخروا
عندَ الفخارِ بأنسابٍ نَقِيَّاتِ
زَيْنُ البيوتِ التي حَلُّوا مساكنها
فأصبحت منهمُ وَحْشاً خَليَّاتِ
أقول والعينُ لا ترقا مدامعُها
لا يُبْعد اللّه أصحابَ الرزيَّاتِ
قال ابن هشام : الفَجَر : العطاء. قال أبو خِرَاش الهُذَلي :
عَجَّف أضيافي جميلُ بنُ معمر بذي فَجَر تأوى إليه الأراملُ
قال ابن إسحاق : أبو الشُّعث الشجيات : هاشم بن عبد مناف.
عبد المطلب يلي السقاية والرفادة :
قال : ثم وَلِيَ عبدُ المطلب ابن هاشم السقاية والرِّفادة بعد عمه المطلب ، فأقامها للناس ، وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم ، وشَرُف في قومه شرفاً لم يبلغْه أحدٌ من آبائه ، وأحبه قومُه وعَظُم خطره فيهم.
سبب حفر زمزم : ثم إن عبد المطلب بينما هو نائم في الحجر إذ أتي ، فأمر بحفر زمزم.
قال ابن
إسحاق : وكان أول ما ابتُدئ به عبد
المطلب من سفرها، كما حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري
عن مرثد بن عبد اللّه اليزني عن عبد اللّه بن زُرَيْر الغَافِقِي : أنه سمع علي
بن أبى طالب رضي اللّه تعالى عنه يحدِّث حديثَ زمزم حين
أمر عبد المطلب بحفرها،
قال :
قال عبد المطلب : إني لنائم
في الحِجْر إذا أتانى آتٍ
فقال : احفر طيبة.
قال : قلت : وما طيبة؟
قال : ثم ذهب عني. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعى فنمت فيه ، فجاءنى
فقال : احفر بَرَّة.
قال :
فقلت : وما بَرَّة ؟
قال : ثم ذهب عنى، فلما كان. الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه ، فجاءنى
فقال : احفر المضنونة.
فقال :
فقلت : وما المضنونة ؟
قال : ثم ذهب عني ، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي ، فنمت فيه ، فجاءنيِ
فقال : احفر زَمْزَمَ.
قال : قلت : وما زمزم ؟ قال لا تَنْزِفُ أبداً ولا تُذمُّ ، تسقى الحجيج الأعظم ، وهى
بين الفَرْث والدم ، عند نُقْرة الغراب الأعْصم ، عند قرية النمل.
قال ابن
إسحاق : فلما بين له شأنها، ودل على موضعها، وعرف أنه قد صُدِّقَ ،
غدا بمعْوَله ومعه ابنه الحارث بن عبد المطلب ، ليس له يومئذ ولد غيره فحفر فيها فلما بدا لعبد المطلب الطى
، كَبَّر.
التحاكم في بئر زمزم : فعرفت
قريش أنه قد أدرك حاجته ، فقاموا إليه ،
فقالوا : يا عبد المطلب ، إنها بئر أبينا إسماعيل ، وإن لنا فيها حقّاً فأشركنا
معك فيها.
قال : ما أنا بفاعل إن هذا الأمر قد خُصصتُ به دونَكم ، وأعطيته
من بينكم ، فقالوا له : فأنصفنا، فإنا غيرُ تاركيك حتى نخاصمك فيها،
قال : فاجملوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمْكم إليه ،
قالوا: كاهنة بني سعد بن هُذَيْم ، قال. نعم
قال : وكانت بأشراف الشام ، فركب عبد
المطلب ومعه نفر من بنى أبيه من بني عبد مناف ، وركب
من كل قبيلة من قريش نفر.
قال : والأرض إذ ذاك مفاوز.
قال : فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام
، فَنِيَ ماء عبد المطلب وأصحابه ،
فظمِئُوا حتى أيقنوا بالهلكة، فاستسقَوْا من معهم من قبائل قريش، فأبَوْا عليهم ،
وقالوا : إنَّا بمفازة، ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم ، فلما رأى عبد
المطلب ما صنع القوم ، وما يتخوَّف على نفسه وأصحابه
،
قال : ما تَرَوْن ؟ قالوا ما رأينا إلا تبع لرأيك فمرنا بما شئت
،
قال : فإنىّ أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن
من القوة – فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه – حتى يكون آخركم رجلا واحدا، فضَيْعَةُ رجل واحد
أيسر من ضَيْعة رَكْب جميعا قالوا : نِعْم ما أمرت به فقام كل واحد منهم فحفر
حفرته ، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشاً، ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه : واللّه إن إلقاءَنا بأيدينا هكذا للموت ، لا
نضرب في الأرض ، ولا نبتغى لأنفسنا، لعجز فعسى اللّه أن يرزقنا ماءً ببعض البلاد،
ارتحِلوا، فارتحَلوا حتى إذا فرغوا، ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم
فاعلون ، تقدم عبد المطلب إلى راحلته
فركبها فلما انبعثت به انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب ، فكبَّر عبد
المطلب وكبَّر أصحابه ، ثم نزل فشرِب ، وشرب أصحابه ، واستَقَوْا حتى ملئوا أسقيَتهم
، ثم دعا القبائل من قريش،
فقال : هلُمّ إلى الماء، فقد سقانا اللّه ، فاشربوا واستقوا.
ثم قالوا : قد – واللّه – قضى لك علينا يا عبد
المطلب واللّه لا نخاصمك في زمزم أبداً، إن الذي سقاك
هذا الماء بهذه الفَلاة لهو الذي سقاك زمزم ، فارجع إلى سقايتك راشداً. فرجع
ورجعوا معه ، ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلَّوْا بينه وبينها.
قال ابن إسحاق : فهذا الذي بلغني من حديث على بن
أبي طالب رضى اللّه عنه في زمزم ، وقد سمعت من يحدث عن عبد
المطلب أنه قيل له حين أمر بحفر زمزم :
ثم ادعُ بالماء الرَّوِيِّ غيرِ
الكَدِرْ يسقى حجيجَ اللّه في كل مَبَرْ
ليس يُخافُ منه شىء ما عَمَر
فخرج عبد المطلب حين قيل له
ذلك إلى قريش
فقال : تعلَّموا أني قد أمرت أن أحفر لكم زمزم ،
فقالوا : فهل بُيِّن لك أين هى ؟
قال : لا.
قالوا: فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت ؟ فإن يك حقا من اللّه
يُبيَّن لك ، وإن يكن من الشيطان فلن يعودَ إليك. فرجع عبد
المطلب إلى مضجعه ، فنام فيه ، فأتي فقيل له : احفر
زمزم ، إنك إن حفرتها لم تندمْ ، وهى تراث من أبيك الأعظم ، لا تنزِف أبداً ولا
تُذَم ، تسقي الحجيجَ الأعظم ، مثل نعام جافل لم يُقْسَم ، ينذر فيها ناذر لمنعم ،
تكون ميراثا وعَقْداً مُحْكَم ؟ ليست كبعضِ ما قد تعلم ، وهي بين الفَرْثِ والدم.
قال ابن
هشام : هذا الكلام ، والكلام الذي قبله ، من حديث عَلي في حفر زمزم
من قوله : " لا تنزف أبدا ولا
تُذَم " إلى قوله :
" عند قرية النمل " عندنا سجع وليس شعراً.
قال ابن
إسحاق : فزعموا أنه حين قيل له ذلك ،
قال : وأين هي ؟ قيل له عند قرية النمل ، حيث ينقر الغرابُ غداً.
واللّه أعلم أي ذلك كان.
عبد المطلب
يحفر زمزم : فغدا عبد
المطلب ومعه ابنهُ الحارث ، وليس له يومئذ ولد غيره ،
فوجد قريةَ النمل ووجد الغرابَ ينقر عندها بين الوثنين :إساف ونائلة، اللذيْن كانت
قريش تنحر عندهما ذبائحها فجاء بالمِعْوَل وقام ليحفر حيث أمر، فقامت إليه قريش
حين رأوا جِدَّه ،
فقالوا : واللّه لا نتركك تحفر بين وثَنَيْنا هذين اللَّذيْن ننحر
عندهما، فقال عبد المطلب لابنه الحارث
: ذُدْ عني حتى أحفر، فواللّه لأمضينَّ لما أمرت به ، فلما عرفوا أنه غيرُ نازع
خَلَّوا بينه وبين الحفر، وكفوا عنه ، فلم يحفر إلا يسيرا. حتى بدا له الطي ، فكبر
وعَرِف أنه قد صُدق فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزاليْن من ذهب ، وهما الغزالان
اللَّذان دَفنت جُرْهم فيها حين خرجت من مكة، ووجد فيها أسيافا قَلْعية وأدراعا
فقالت له قريش : يا عبد المطلب ، لنا معك في هذا شِرْك وحقّ ،
قال : لا، ولكن هَلُمّ إلى أمر نَصَفٍ بينى وبينكم ، نضرب عليها
بالقِداح ، قالوا : وكيف تصنع ؟
قال : أجعل للكعبة قِدْحَيْن ، ولى قِدْحَيْن ولكم قِدْحَيْن فمن
خرج له قِدْحاه على شئ كان له ، ومن تخلَّف قدحاه فلا شىء له قالوا : أنصَفْت ،
فجعل قِدْحين أصفرين للكَعبة، وقِدْحَيْن أسودين لعبد المطلب ، وقِدْحَيْن أبيضين
لقريش ، ثم أعطوا القداحَ صاحبَ القداحِ الذي يُضرب بها
عند هُبل – وهُبل : صنم في جوف الكعبة، وهو أعظم أصنامهم ، وهو الذي يعنى أبو سفيان بن حرب يوم أحد حين
قال : أعْلِ هُبَل أي أظهرْ دينك - وقام عبد المطلب يدعو اللّه عز وجل ، فضرب صاحب القداحِ القداحَ ، فخرج
الأصْفران على الغزالين للكعبة، وخرج الأسودان في الأسياف ، والأدراع لعبد المطلب
، وتخلف قدحا قريش. فضرب عبد المطلب الأسياف باباً للكعبة، وضرب في الباب الغزالين من ذهب ،
فكان أول ذهب حُلِّيته الكعبة - فيما يزعمون - ثم إن عبد المطلب أقام سقاية زمزم للحجاج.
قال ابن هشام : وكانت قريش قبل حفر زمزم قد احتفرت بئارا بمكة، فيما حدثنا زياد بن عبد اللّه البكائى عن محمد بن إسحاق ،
قال :
عبد شمس يحفر الطَّوِي : حفر عبد شمس بن عبد مناف الطَّوِيَّ ، وهى البئر التي بأعلى مكة عند البيضاء، دار محمد بن يوسف.
هاشم يحفر بذَّر : وحفر هاشم بن عبد مناف بَذَّر، وهى البئر التي عند المسْتَنْذَر، خَطْم الخَنْدمة على فم شِعْب أبي طالب ، وزعموا أنه قال حين حفرها:لأجعلنَّها بلاغا للناس.
قال ابن هشام : وقال الشاعر :
سقى اللّه أمواهاً عرفتُ مكانَها جُرَاباً ومَلْكوما وبَذَّرَ والغَمْرا
سَجْلَة والاختلاف فيمن حفرها :
قال ابن إسحاق : وحفر سَجْلَة، وهي بئر المُطْعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف التي يَسْقون عليها اليوم. ويزعم بنو نوفل أن المُطْعِم ابتاعها من أسد بن هاشم ، ويزعم بنو هاشم أنه وهبها له حين ظهرت زمزم ، فاستغنوا بها عن تلك الآبار.
أمية بن عبد شمس يحفر الحفر: وحفر أمية بن عبد شمس الحَفْر لنفسه.
بنو أسد تحفر سقية : وحفرت بنو أسد بن عبد العزى : سُقَيَّة، وهي بئر بني أسد.
بنو عبد الدار تحفر أم أحْرَاد : وحفرت بنو عبد الدار : أمَّ أحْرَاد.
بنو جمح تحفر السُنبُلة : وحفرت بنو جُمَح : السُّنْبُلة، وهي بئر خَلَف بن وَهْب.
بنو سهم تحفر الغمْر : وحفرت بنو سهم : الغَمْر، وهي بئر بني سَهْم.
أصحاب رُم وخم والحفْر : وكانت آبار حفائر خارجا من مكة قديمة من عهد مرة بن كعب ، وكلاب بن مُرة، وكبراء قريش الأوائل منها يشربون ، وهى رُمّ، ورُمّ : بئر مرة بن كعب بن لؤيّ. وخُمّ وخُمّ : بئر بني كلاب بن مرة، والحَفْر. قال حذيفة بن غانم أخو بني عدي بن كعب بن لؤيّ :
قال ابن هشام : وهو أبو أبى جَهْم بن حُذَيفة :
وقِدْماً غَنَينا قبل ذلك حِقْبة ولا نستقى إلا بخَم أو الحَفْرِ
قال ابن هشام : وهذا البيت في قصيدة له ، وسأذكرها إن شاء اللّه في موضعها.
فضل زمزم على سائر المياه :
قال ابن إسحاق : فعفَّت زمزم على المياه التي كانت قبلها يَسْقي عليها الحاجُّ وانصرف الناس إليها لمكانها من المسجد الحرام؛ ولفضلها على ما سواها من المياه؛ ولأنها بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
بنو عبد مناف يفتخرون بزمزم : وافتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلِّها، وعلى سائر العرب ، فقال مسافر بن أبى عمرو بن أمية ابن عبد مناف ، وهو يفخر على قريش بما ولوا عليهم من السِّقاية والرفادة، وما أقاموا للناس من ذلك ، وبزمزم حين ظهرت لهم ، وإنما كان بنو عبد مناف أهل بيت واحد، شَرَفُ بعضهم لبعض شَرَف وفضْلُ بعضهم لبعضٍ فضل :
ورثنا المجدَ من آبــــا ئنا فَنَمَى بنا صعُدَا
ألم نَسْق الحجيجَ وننــــــــ ـحر الدلافة
الرُّفدَا
ونلقى عندَ تصريف الـــــــ ـمنايا شُدَّدا رُفُدَا
فإن نَهْلِكْ ، فلـــــــــــم نُمْلَك ومن ذا خالد أبدا
وزمزم في أرومتِنـــــــــا ونفقأ عينَ من حَسَدَا
قال ابن هشام : وهذه
الأبيات في قصيدة له.
قال ابن إسحاق : وقال حذيفة بن غانم أخو بني عَدي بن كعب بن لؤي :
وساقي الحجيج ، ثم للخبْز هاشـــمٌ وعبد مناف ذلك السيد الفِهْري
طوى زمزماً عندَ المقام فأصبحتْ سقايتُه فخراً على كلِّ ذي فَخْرِ
قال ابن هشام :
يعنى
عبدَ المطلب
بن هاشم. وهذان البيتان في قصيدة لحذيفة بن غانم سأذكرها في موضعها - إن شاء اللّه
تعالى.