قال ابن
إسحاق : وكان عبد المطلب بن هاشم - فيما يزعُمون واللّه أعلم - قد نذر حين لقىَ من
قريش ما لقي عند حفر زمزم : لئن وُلد له عَشرةُ نَفَر ثم بلغوا معه حتى يمنعوه ؛ لينحرنَّ أحدَهم للّه عند الكعبة.
فلما توافي بنوه عشرةً، وعرف أنهم سيمنعونه ، جَمَعهم. ثم أخبرهم بنذره ، ودعاهم إلى الوفاء للّه بذلك ، فأطاعوه
وقالوا : كيف نصنع ؟
قال : ليأخذ كل رجل منكم قِدْحا ثم يكتب فيه اسمه ثم ائتوني ، ففعلوا، ثم أتَوْه ، فدخل بهم على هُبل في جوف الكعبة، وكان هبل على بئر في جَوْف
الكعبة، وكانت تلك البئر هي التي يُجمع فيها ما يُهْدَى للكعبة.
قداح هبلُ السبعة : وكان عند هبل قِداح سبعة، كل قِدْح منها فيه كتاب.
قِدْح فيه " العَقْل "، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ، ضربوا
بالقداح السبعة، فإن خرج العقل فعلى من خرج حمله. وقدح فيه (
نَعَم ) للأمر إذ أرادوه يُضرب به القداح ، فإن خرج
قدح نعم ، عملوا به. وقدح فيه ( لا ) إذا أرادوا أمراً ضربوا به القِداح ، فإن خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك
الأمر، وقِدْح فيه ( منكم ) وقدح فيه ( مُلصَق ) ، وقدح فيه ( من غيركم ) ، وقدح فيه ( المياه ) ، إذا أرادوا أن يحفروا الماء ضربوا بالقداح ، وفيها ذلك القِدْح ، فحيثما
خرج عملوا به.
وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاما، أو يُنكحوا مَنْكحا، أو يدفنوا مَيْتاً،أو شَكوا في نسب أحدهم ، ذهبوا به إلى هُبَل وبمائة درهم وجزور، فأعطوها صاحب
القداح الذي يَضْرب بها، ثم قرَّبوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ،
ثم قالوا : يا إلهنا هذا فلان ابن فلان قد أردنا به كذا، فأخرج
الحقَّ فيه. ثم يقولون لصاحب القِداح : اضرب : فإن خرج عليه :
( منكم ) كان منهم وسيطاً، وإن خرج
عليه : ( من غيركم ) كان حليفا،
وإن خرج عليه : ( مُلْصَق ) كان على منزلته فيهم ، لا نسب له ، ولا حِلف ، وإن خرج فيه شيء مما سوى
هذا مما يعملون به ( نعم ) عملوا به ، وإن خرج : ( لا ) أخروه عامه ، وذلك حتى يأتوه به مرة أخرى، ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما
خرجت به القِداح.
فقال عبدُ المطلب لصاحب
القِداح : اضرب على بَنيَّ هؤلاء بقداحهم هذه ، وأخبره بنذره الذي نذر، فأعطاه كل
رجل منهم قِدْحه الذي فيه اسمه ، وكان عبد اللّه بن عبد
المطلب أصغر بني أبيه، كان هو والزبير وأبو
طالب لفاطمة بنت عمرو ابن عائذ بن عمران بن مخزوم
بن يَقَظَة بن مُرة بن كعب بن لُؤَيّ بن غالب بن فِهْر.
قال ابن
هشام : عائذ بن عمران بن مخزوم.
قال ابن إسحاق : وكان عبد اللّه فيما يزعمون : أحب ولد عبد المطلب إليه ، فكان عبد المطلب يرى أن السهم إذا أخطأه فقد أشْوَى. وهو أبو رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - فلما أخذ صاحب القِداح - القداح - ليضرب بها، قام عبد المطلب عند هُبل يدعو اللّه ، ثم ضرب صاحب القداح ، فخرج القِدْح على عبد اللّه.
فأخذه عبد المطلب بيده وأخذ
الشَّفْرة ثم أقبل به إلى إِسَاف ونائلة ليذبحه ، فقامت إليه
قريش من أنديتها،
فقالوا : ماذا تريد يا عبد المطلب ؟
قال : أذبحه ، فقالت له قريش وبنوه : واللّه لا تذبحه أبداً، حتى
تُعْذر فيه. لئن فعلت هذا لا يزال الرجلُ يأتي بابنه حتى يذبحه ، فما بقاءُ الناس
على هذا ؟! وقال له المغيرة بن عبد اللّه بن عَمرو بن مخزوم بن يَقَظة - وكان عبد
اللّه ابن أخت القوم : واللّه لا تذبحه أبداً، حتى تُعْذر فيه ، فإن كان فداؤه
بأموالنا فديناه. وقالت له قريش وبنوه : لا تفعل ، وانطلقْ به إلى الحجاز فإن به
عَرَّافة لها تابع ، فسلْها، ثم أنت على رأس أمرك ، إن أمرتك بذبحه ذبحته ، وإن أمرتك بأمر لك وله في فرج
قبلته.
فانطلقوا حتى قدموا المدينة، فوجدوها - فيما يزعمون - بخيبر. فركبوا حتى
جاءوها، فسألوها، وقص عليها عبد المطلب خبره وخبر ابنه ، وما أراد به ونذرَه فيه ، فقالت لهم :
ارجعوا عنى اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله. فرجعوا من عندها، فلما خرجوا عنها قام عبد
المطلب يدعو اللّه ، ثم غدوا عليها فقالت لهم : قد جاءني الخبر، كم الدية فيكم ؟
قالوا : عشرٌ من الإبل ، وكانت كذلك.
قالت : فارجعوا إلى بلادكم ، ثم قربوا صاحبكم ، وقربوا عشراً من الإبل ، ثم اضربوا عليها وعليه بالقِدَاح ، فإن خرجت على صاحبكم ،
فزيدوا من الإبل حتى يرضي ربكم ، وإن خرجتْ على الإبل فانحروها عنه ، فقد رضيَ
ربُّكم ، ونجا صاحبُكم.
فخرجوا حتى قدموا مكة، فلما أجمعوا على ذلك من الأمر، قام عبد المطلب يدعو اللّه ، ثم قربوا عبد اللّه وعشراً من الإبل ، وعبد المطلب قائم عند هبل يدعو اللّه عز وجل !! ثم ضربوا فخرج القِدْح على عبد اللّه ، فزادوا عشراً من الإبل ، فبلغت الإبل عشرين ، وقام عبد المطلب يدعو اللّه عز وجل ، ثم ضربوا فخرج القِدْح على عبد اللّه ، فزادوا عشراً من الإبل ، فبلغت الإبل ثلاثين ، وقام عبد المطلب يدعو اللّه ثم ضربوا، فخرج القِدْح على عبد اللّه، فزادوا عشراً من الِإبل ، فبلغت الإبل أربعين ، وقام عبد المطلب يدعو اللّه، ثم ضربوا، فخرج القِدْح على عبد اللّه ، فزادوا عشراً من الإبل ، فبلغت الإبل خمسين ، وقام عبد المطلب يدعو اللّه عز وجل ، ثم ضربوا فخرج القِدْح على عبد اللّه ، فزادوا عشراً من الإبل ، فبلغت الإبل ستين ، وقام عبد المطلب يدعو اللّه ثم ضربوا، فخرج القِدْح على عبد اللّه ، فزادوا عشراً من الإبل ،.فبلغت الإبل سبعين ، وقام عبد المطلب يدعو اللّه ، ثم ضربوا، فخرج القِدْح على عبد اللّه ، فزادوا عشراً من الإبل ، فبلغت الإبل ثمانين ، وقام عبد المطلب يدعو اللّه عز وجل ، ثم ضربوا فخرج القِدْح على عبد اللّه ، فزادوا عشراً من الإبل ، فبلغت الإبل تسعين ، وقام عبد المطلب يدعو اللّه ثم ضربوا، فخرج القِدْح على عبد اللّه ، فزادوا عشراً من الإبل ، فبلغت الإبل مائة، وقام عبد المطلب يدعو اللّه ، ثم ضربوا، فخرج القِدْح على الإبل ، فقالت قريش ومن حضر : قد انتهى رضا ربِّك يا عبد المطلب ، فزعموا أن عبد المطلب
قال : لا واللّه حتى أضربَ عليها ثلاثَ مرات ، فضربوا على عبد اللّه ، وعلى الإبل ، وقام عبد المطلب يدعو اللّه ، فخرج القدح على الإبل ، ثم عادوا الثانية، وعبد المطلب قائم يدعو اللّه ، فضربوا، فخرج القِدْح على الإبل ، ثم عادوا الثالثة، وعبد المطلب قائم يدعو اللّه ، فضربوا، فخرج القِدْح على الإبل ، فنُحرت ، ثم تُركت لا يُصَدُّ عنها إنسان ولا يُمْنَع.
قال ابن هشام :
ويقال : إنسان ولا سَبُعٌ.
قال ابن هشام : وبين أضعاف هذا الحديث رجز لم يصح عندنا عن أحد من أهل العلم بالشعر.
ذكر المرأة المتعرضة لنكاح عبد اللّه بن عبد المطلب
قال ابن
إسحاق : ثم انصرف عبد المطلب آخذاً بيد
عبد اللّه ، فمر به - فيما يزعمون - على امرأة من بني أسَد ابن عبد العزى بن قصي
بن كلاب بن مرة بن كعب بن لُؤَيّ بن غالب ابن فِهر : وهي أخت ورقة بن نَوْفل بن
أسد بن عبد العُزَّى، وهى عند الكعبة. فقالت له حين نظرت إلى وجهه : أين تذهب يا
عبد اللّه ؟
قال :
مع أبي.
قالت : لك مثلُ الإبل التى نُحرت عنك ، وقعْ عَليَّ الآن.
قال :أنا مع أبي ، ولا أستطيع خلافه ، ولا فراقه.
عبد اللّه يتزوج آمنة بنت وهب : فخرج به عبدُ المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مَناف بن زُهْرة بن.كلاب بن مُرة بن كعب بن لُؤيّ
ابن غالب بن فِهْر - وهو يومئذ سيد بنى زُهرة نسباً وشرفاً –فزوجه ابنته آمنة بنت
وهب وهى يومئذ- أفضلُ امرأة في قريش نَسباً وموضعاً.
وهى لبرَّة بنت عبد العُزَّى بن عثمان بن عبد الدار بن قُصيّ بن كلاب بن
مُرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر. وبَرَّة لأم حبيب بنت أسَد بن عبد العُزّى بن
قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر. وأم حبيب : لبرة بنت عَوْف بن
عُبيد بن عُوَيْج بن عدي بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فِهر.
سبب زهد المرأة المعترضة لعبد اللّه فيه : فزعموا أنه دخل عليها حين أمْلِكها مكانه ، فوقع عليها،
فحملت برسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - ثم خرج من عندها، فأتى المرأة التي عرضت عليه ما
عرضت ، فقال لها : ما لك لا تعرضين علي
اليوم ما كنت عرضت علىَّ بالأمس ؟ قالت له : فارقك النورُ الذي كان معك بالأمس ،
فليس لي بك اليوم حاجة. وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل - وكان قد تنصَّر واتبع
الكتب : أنه كائن في هذه الأمة نبي.