أمر اللّه له صلى اللّه عليه وسلم بمباداة قومه

قال ابن إسحاق : ثم دخل الناس في الإسلام أرْسالاً من الرجال والنساء، حتى فشا ذكرُ الإسلام بمكة، وتُحدث به. ثم إن اللّه عز وجل أمر رسولَه صلى اللّه عليه وسلم أن يَصْدعَ بما جاءه منه ،وأن يباديَ الناس بأمره ، وأن يدعوَ إليه ، وكان بين ما أخفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمره واستتر به إلى أن أمره اللّه تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين - فيما بلغنى - من مبعثه ؛

ثم قال اللّه تعالى له : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:٩٤]. وقال تعالى : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ}.[الشعراء: ٢١٤،٢١٥]

معنى { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر:٩٤ ] :

قال ابن هشام : اصدع : افْرُقْ بين الحق والباطل. قال أبو ذُؤيْب الهُذَلى، واسمه خُوَيْلد بن خالد، يصف أتن وحْش وفحلَها:

وكأنهنَّ رِبابَة وكأنه يَسَر   يفيضُ على القِداحِ ويَصْدُعُ
أي يُفَرِّق على القداح ويبين أنصباءَها. وهذا البيت في قصيدة له ، وقال رُؤبَة بن العَجَّاج :

أنتَ الحليمُ والأميرُ المنتقمْ  تَصدَعُ بالحقِّ وتَنْفِي مَنْ ظَلَمْ
وهذان البيتان في أرجوزة له.

خروج الرسول صلى اللّه عليه وسلم بأصحابه للصلاة في الشِّعْب

قال ابن إسحاق : وكان أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا صلوا، ذهبوا في الشعاب ، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم ، فبيْنَا سعد بن أبى وقاص في نفر من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في شِعْب من شِعاب مكة، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون ، فناكروهم ، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم ، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين بلَحْي بعير فشجَّه ، فكان أول دم هُرِيقَ في الإِسلام.

عداوة قومه ومساندة أبي طالب له :

قال ابن إسحاق : فلما بادَى رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم قومَه بالإسلام وصدَع به كما أمره اللّه ، لم يبعد منه قومه ، ولم يردُّوا عليه - فيما بلغني - حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه ، وأجمعوا خلافَه وعداوته ، إلا من عصم اللّه تعالى منهم بالإِسلام ، وهم قليل مستَخْفُون ، وحَدِب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمُّه أبو طالب ، ومنعه وقام دونَه ، ومضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أمر اللّه ، مظهراً لأمرِه ، لا يرده عنه شيء. فلما رأت قريش ، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يُعْتِبهم من شيء أنكروه عليه ، من فراقَهم وعَيب آلهتهم ، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حَدِب عليه ، وقام دونَه ، فلم يسلمه لهم ، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبى طالب ، عُتبة وشَيْبة ابنا ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب. وأبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لُؤَي بن غالب بن فهر.

قال ابن هشام : واسم أبى سفيان صَخْر.

قال ابن إسحاق : وأبو البَخْتري ، اسمه العاص بن هشام بن الحارث ابن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.

قال ابن هشام : أبو البَخْتري : العاص بن هاشم.

قال ابن إسحاق : والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العُزي ابن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي. وأبو جهل - واسمه عَمْرو، وكان يكنى أبا الحكم - بن هشام بن المغيرة بن عبداللّه بن عمر بن مخزوم بن يَقَظة بن مُرة بن كعب بن لؤي. والوليد بن المغيرة بن عبداللّه بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مُرة ابن كعب بن لؤي. ونُبَيْه ومُنَبه ابنا الحجاج بن عامر بن حُذيفة بن سعد بن سَهْم بن عَمرو بن هُصيْص بن كعب بن لؤي. والعاص بن وائل.

قال ابن هشام : العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سَهْم ابن عمرو بن هُصَيْص بن كعب بن لؤي.

وفد قريش يعاتب أبا طالب :

قال ابن إسحاق : أو من مشى منهم.

فقالوا: يا أبا طالب ، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب دينَنا، وسفَّه أحلامَنا، وضلَّل آباءَنا؛ فإما أن تكفَّه عنا،

وإما أن تُخَلِّىَ بينَنَا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ،فنَكْفِيكه. فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا وردهم ردّاً جميلاً، فانصرفوا عنه. الرسول صلى اللّه عليه وسلم يستمر في دعوته : ومضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ما هو عليه يُظهر دينَ اللّه ، ويدعو إليه ، ثم شرى الأمرُ بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذِكرَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينَها، فتذامروا فيه ، وحضَّ بعضُهم بعضأ عليه.

رجوع الوفد إلى أبي طالب مرةً ثانيةً:

ثم إنهم مَشَوْا إلى أبي طالب مرةً أخرى، فقالوا له : يا أبا طالب ، إن لك سِنّاً وشرفاً ومنزلةً فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تَنْهه عنا، وإنا واللّه لا نصبرُ على هذا من شَتْم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك ، حتى يهَلَك أحد الفريقين - أو كما قالوا له - ثم انصرفوا عنه ، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ، ولم يطب نفساً بإسلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لهم ولا خِذلانه.

ما دار بين الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأبي طالب :

قال ابن إسحاق : وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخْنَس أنه حُدِّث : أن قريشاً حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة، بعث إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،

فقال له : يا ابن أخي ، إن قومَك قد جاءونى ، فقالوا لي كذا وكذا، الذي كانوا قالوا له ، فابق علىَّ وعلى نفسك ، ولا تُحمّلْنى من الأمر ما لا أطيق؛

قال : فظن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بَدَاءً أنه خاذله ومُسْلِمُه ، وأنه قد ضَعُف عن نصرته والقيام معه.

قال : فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يا عم ، واللّه لو وضعوا الشمسَ في يمينى، والقمرَ في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يُظهره اللّه، أو أهلك فيه ما تركته.

قال : ثم استعبر رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فبكى ثم قام؛ فلما ولى ناداه أبو طالب ،

فقال : أقبلْ يابن أخي؛

قال : فأقبل عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم،

فقال : اذهبْ يابن أخي ، فقلْ ما أحببتَ ، فواللّه لا أسْلمك لشيء أبد اً.

قريش تعرض عمارة بن الوليد على أبي طالب :

قال ابن إسحاق : ثم إن قريشاً حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلانَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإسلامه ، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم ، مَشَوْا إليه بعُمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له - فيما بلغنى - يا أبا طالب ، هذا عُمارةُ بن الوليد، أنْهدُ فتى في قريش وأجملُه ، فخذه فلك عَقْلُه ونَصْرُه. واتخذْه ولداً فهو لك وأسلمْ إلينا ابن أخيك هذا، الذي قد خالف دينَك ودينَ آبائك ، وفرق جماعة قومك وسفَّه أحلامَهم ، فنقتله ، فإنما هو رجل برجل؛

فقال : واللّه لبئس ما تسومونني ، أتعطوننى ابنكم أغذُوه لكم ، وأعطيكم ابني تقتلونه ؟! هذا واللّه ما لا يكون أبداً.

قال : فقال المُطْعِم بن عدي بن نَوْفل بن عبد مناف بن قُصي : واللّه يا أبا طالب لقد أنصفك قومُك ، وجهدوا على التخلص مما تكرهه ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً؛ فقال أبو طالب للمطعم : واللّه ما أنصفونى، ولكنك قد أجمعتَ خذلانى ومظاهرة القوم عليَّ ، فاصنع ما بدا لك ، أو كما قَال.

قال : فحقب الأمر، وحميت الحربُ ، وتنابذ القوم ، وبادَى بعضُهم بعضا.

شعر أبي طالب في المطعم ومن خذله : فقال أبو طالب عند ذلك ، يعرض بالمطْعِم بن عَدِيّ ، ويعم من خذله من بنى عبد مناف ، ومن عاداه من قبائل قريش ، ويذكر ما سألوه ، وما تباعد من أمرهم :

ألا قل لعمرو والوليدِ ومُطْعِم ألا  ليت حظِّى من حياطتِكم بكرُ
من الخُور حَبْحَاب كثيرٌ رُغاؤه يُرَشُ    على الساقَيْن من بولِه قطر
تَخلًّف خالفَ الوِرْدِ ليس بلاحـق  إذا ما علا الفَيْفاء قيل له وَبْرُ
أرى أخويْنَا من أبينا وأمِّنا   إذا سُئلا قالا إلى غيرِنا الأمرُ
بلَى لهما أمر ولكن تَجَرجَمَا كما جُرْجِمَتْ من رأسِ ذي عَلَقٍ صخرُ
أخُصُّ خصوصاً عبدَ شمس ونوْفـلاً  هما نبذانا مثلَ مايُنبَذُ الجمرُ
هما أغمزَا القومَ في أخَوَيْهما    فقد أصبحا منهم أكفُّهما صِفْرُ
هما أشركا في المجدِ من لا أبـا   له من الناسِ إلا أن يُرَسَّ له ذِكْرُ
وتَيْم ومخزوم وزُهرة منهـمُ  وكانوا لنا مَوْلًى إذا بُغِىَ النصرُ
فواللّه لا تنفكُّ منا عَداوةٌ ولا  منهمُ ما كان من نَسْلِنا شَفْر
فقد سَفُهَتْ أحلامُهم وعقولُهم  وكانوا كجَفْر بئسَ ما صنعتْ جَفْرُ
قال ابن هشام : تركنا منها بيتين أقذع فيهما.

قريش تُظهر عداوتها للمسلمين

قال ابن إسحاق : ثم إن قريشا تذامروا بينَهم على من في القبائل من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذين أسلموا معه ، فوثبت كلُّ قبيلة على مَنْ فيهم من المسلمين يعذبونهم ، ويفتنونهم عن دينهم ، ومنع اللّه رسولَه صلى اللّه عليه وسلم منهم بعمِّه أبى طالب ، وقد قام أبو طالب ، حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون في بنى هاشم وبنى المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه ، من مَنْع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، والقيام دونَه ؛ فاجتمعوا إليه ، وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه ، إلا ما كان من أبى لهب ، عدو اللّه الملعون.

شعر أبي طالب في مدح قومه لنصرته : فلما رأى أبو طالب من قومه ما سرَّه في جهدهم معه ، وحَدَبهم عليه ، جعل يمدحهم ويذكر قديمهم ، ويذكر فضلَ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيهم ، ومكانَه منهم ، ليشد لهم رأيهم ، وليَحْدَبوا معه على أمره ،

فقال :

إذا اجتمعتْ يوماً قريش لمفخر   فعبدُ منافٍ سِرُّها وصميمُها
وإن حُصِّلت أشرافُ عبد منافها  ففي هاشمٍ أشرافُها وقديمُها
وإن فخَرَتْ يوماً فإن محمداً هو  المصطَفي من سرِّها وكريمها
تداعتْ قريش غَثُّها وسمينُها   علينا فلم تَظْفَرْ وطاشتْ حلومُها
وكنا قديماً لا نُقِرُّ ظلامةً   إذا ماثَنَوْا صعْرَ الخدودِ نقيمُها
ونحمي حِماها كل يومٍ كريهـةٍ   ونضربُ عن أحجارِها من يرومُها
بنا انتعش العُود الذوَاء وإنمـا   بأكنافِنا تندَى وتَنْمى أرُومُها

الوليد بن المغيرة : كيده للرسول ، وموقفه من القرآن

ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش ، وكان ذا سِن فيهم ، وقد حضر الموسم

فقال لهم : يا معشرَ قرَيش، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدَمُ عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمرِ صاحبِكم هذْا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذِّب بعضُكم بعضاً، ويردّ قولُكم بعضَه بعضاً؛

قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس ، فقل وأقم لنا رأياً نقول به ؛

قال : بل أنتم فقولوا أسمع ؛

قالوا: نقول كاهن؛

قال : لا واللّه ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان فما هو بَزَمْزَمة الكاهن ولا سَجْعه ؛

قالوا: فنقول : مجنون ؛

قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخَنْقه ، ولا تخالجه ، ولا وسوسته ؛

قالوا: فنقول : شاعر؛

قال : ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجَزَه ، وهَزَجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعرة

قالوا: فنقول : ساحر؛

قال : ما هو بساحر، لقد رأينا السُّحَّار وسحرَهم ، فما هو بنَفْثِهم ولا عَقْدِهم قالوا؛ فما نقول يا أبا عبد شمس ؛

قال : واللّه إن لقوله لحلاوةً وإن أصلَه لعَذْقٍ ، وإن فرعه لجَناة -

قال ابن هشام :

ويقال لغَدْق - وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عُرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر، جاء بقول هو سحر يفرِّق به بين المرءِ وابنه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسُبُل الناس حين قدموا الموسم ، ولا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا لهم أمره.

فأنزل اللّه تعالى في الوليد بن المغيرة في ذلك من قوله : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (١٢) وَبَنِينَ شُهُودًا (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر:١١ـ ١٦] أي خصيما.

قال ابن هشام : عنيد: معاند مخالف. قال رؤبة بن العجاج :

ونحن ضرَّابون رأسَ العُنَّد

وهذا البيت في أرجوزة له.

{ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ}.[المدثر: ١٧ـ ٢٢]

قال ابن هشام : بسر: كرَّه وجهه. قال العَجَّاج :

مُضبَّر اللَّحْيين بَسْراً مِنْهَسا

يصف كراهية وجهه. وهذا البيت في أرجوزة له.

{ ثم أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:٢٣ـ ٢٥]

رد القرآن على صحب الوليد:

قال ابن إسحاق : وأنزل اللّه تعالى في رسوله صلى اللّه عليه وسلم وفيما جاء به من اللّه تعالى وفي النفر الذين كانوا معه يصنِّفون القول في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وفيما جاء به من اللّه تعالى : { كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.[الحجر:٩٠ـ ٩٣]

قال ابن هشام : واحدة العِضين : عِضَة، يقول : عَضَّوْه : فرقوه. قال رُزبة بن العُجاج :

وليس دينُ اللّه بالمعضَّى

وهذا البيت في أرجوزة له.

قال ابن إسحاق : فجعل أولئك النفر يقولون ذلك في رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لمن لقوا من الناس ، وصدرت العربُ من ذلك الموسم بأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؛ فانتشر ذكرُه في بلادِ العربِ كلِّها.

شعر أبي طالب في معاداة خصومه : فلما خشى أبو طالب دَهْماءَ العرب أن يركبوه مع قومه ، قال قصيدته التي تعوَّذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها، وتودد فيها أشرافَ قومه ، وهو على ذلك يُخبرهم وغيرَهم في ذلك من شعره أنه غير مُسْلِم رسولَ اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ولا تاركه لشيء أبدا حتى يهلك دونَه ،

فقال :

ولما رأيتُ القـومَ لا وُدَّ  فيهمُ وقد قطعوا كلَّ العُرَى والوسائل
وقد صارحونا بالعـداوةِ  والأذَى وقد طاوعوا أمرَ العدوِّ المزايل
وقد حالفوا قوماً علينـا  أظِنَّةً يَعَضُّونَ غَيْظاً خلفَنا بالأناملِ
صبرتُ لهم نفسي بسمراء  سَمْحة وأبيضَ عَضْب من تُراث المقاولِ
وأحصرتُ عندَ البيت رهطى  وإخوتى وأمسكتُ من أثوابِه بالوصائلِ
قياماً معاً مستقبلين رِتاجَه  لدى حيثُ يَقْضي حلفه كل نافلِ
وحيثُ يُنيبخ الأشعرون ركابَهـم  بمُفْضٍّى السيولِ من إسافَ ونائل
مُوَسَّمة الأعضادِ أو قَصَراتها    مُخَيَّسة بينَ السَّديس وبازلِ
ترى الوَدْع فيها والرخامَ  وزينةً بأعناقِها معقودةً كالعثاكلِ
أعوذ بربِّ الناسِ من كل  طاعن علينا بسوءٍ
أو مُلح بباطلِ
ومن كاشحٍ يسعَى لنا بمعيبة  ومن مُلْحِقٍ في الدين ما لم نُحاولِ
وثَوْرٍ ومن أرسَى ثَبيـراً  مكانَه وراقٍ ليرقى في حِراءَ ونازلِ
وبالبيتِ ، حقّ البيتِ ،    من فيِ مكة وباللّه إن اللّه ليس بغافِل
وبالحجرِ المسْوَدّ إذ يمسحونه  إذا اكتنفوه بالضُّحَى والأصائل
وموطئ إبراهيمَ في الصخرِ  رطبة على قدميْه حافياً غير ناعلِ
وأشْواط بينَ المروَتَيْن إلى الصَّفَا   وما فيهما من صُورةٍ وتَماثلِ
ومن حجَّ بيتَ اللّه من كلِّ راكبٍ  ومن كلِّ ذي نَذرٍ ومن كل راجل
وبالمشْعَرِ الأقْصَى إذا عَمدوا له   إلالٌ إلى مفْضَى الشِّراجِ القوابلِ
وتَوْقافِهم فوقَ الجبالِ عَشِيَّـــةً  يُقيمون بالأيدي صدورَ الرواحلِ
وليلةِ جَمْعٍ والمنازلِ من مِنــى   وهل فوقها من حُرْمة ومنازلِ
وجَمْعٍ إذا ما المُقْرَبات أجَزْنَــه  سِراعا كما يخرجنَ من وقعِ وابلِ
وبالجمرةِ الكبرى إذا صَمدوا لها   يَؤُمُّون قذفاً رأسَها بالجَنادلِ
وكِندةَ إذ هُم بالحِصاب عشيــة    تُجيز بهم حُجاجُ بكرِ بنِ وائلِ
حليفان شدَّا عَقْدَ ما احتلفا لــه    وردَّا عليه عاطفاتِ الوسائل
وحَطْمِهم سُمرَ الرماحِ وسرحـه   وشِبْرِقَه وَخْدَ النعامِ الجوافلِ
فهل بعد هذا من مَعَاذٍ لعائــذ   وهل من مُعيذٍ يتقى اللّه عاذل
يُطاع بنا أمرُ العدوِّ ودَّ أننــا  تُسدُّ بنا أبوابُ تُركٍ وكابلِ
كذبتمْ وبيتِ اللّه نترك مكــة  ونَظْعنُ إلا أمرُكمِ فى بلابلِ
كذبتم وبيتِ اللّه نُبْزي محمـدا   ولمَّا نطاعنْ دونه ونناضل
ونسلمه حتى نُصَرَّع حولــَه  ونُذْهَل عن أبنائِنا والحلائل
وينهض قوم فى الحديد إليكمُ  نهوضَ الرَّوايا تحتَ ذات الصلاصل
وحتى ترى ذا الضَّغْنِ يركب رَدْعَه   من الطَّعنِ فعلَ الأنْكَبِ المتحَامِلِ
وإما لعَمْرُ اللّه إن جَدَّ مــا أرى    لتَلْتَبِسَنْ أسيافُنا بالأماثل
بكَفَّىْ فتى مثل الشهاب سَمَيْدعٍ  أخى ثقةٍ حامى الحقيقةِ باسل
شهوراً وأياماً وحولاً مُجَرَّمــا    علينا وتأتى حِجَّةٌ بعدَ قابل
وما تركُ قومٍ ، لا أبا لك ، سيدا   يحوط الذِّمارَ غير ذَرْب مُوَاكِل
وأبيضُ يُستسقَى الغمامُ بوجهـه    ثمالُ اليتامى عِصْمةٌ للأرامل
يلوذُ به الهُلاَّف من آلِ هاشــم    فهم عندَه فى رَحْمةٍ وفواضلِ
لَعَمْري لقد أجرى أسَيد وبَكْرُه  إلى بُغضِنا وجزّآنا لآكلِ
وعثمانُ لم يَرْبع علينا وقُنفُذ  ولكن أطاعَا أمرَ تلك القبائلِ
أطاعا أبَيًّا وابنَ عبدِ يغوثِهم  ولم يَرْقُبا فينا مَقالةَ قائل
كما قد لَقِينا من سُبَيْعٍ ونوْفلٍ  وكل تولَّى مُعْرِضاً لم يجامل
فإن يُلْقيا
أو يُمكن اللّه منهما  نَكِلْ لهما صاعاً بصاعِ المُكايل
وذاك أبو عمرو أبى غيرَ بُغْضِنا   ليظْغنا فى أهلِ شاءٍ وجاملِيناجى بنا فى كلِّ مَمْسَى ومُصْبَح   فناجِ أبا عمرو بنا ثم خاتِل
ويُؤْلى لنا باللّه ما إن يَغُشنا  بَلى قد نراه جهرةً غيرَ حائلِ
أضاق عليه بغضُنا كلَّ تَلْعَةٍ  من الأرضِ بين أخْشُبٍ فمجادِلِ
وسائلْ أبا الوليدِ ماذا حَبَوْتَنا    بِسَعْيِك فينا معْرِضاً كالمخاتِل
وكنتَ امرأ ممن يُعاش برأيِه    ورحمتِه فينا ولست بجاهلِ
فعتبةُ لا تسمعْ بنا قولَ كاشحٍ  حسودٍ كذوبٍ مُبْغِضٍ ذي دَغَاوِلِ
ومَرَّ أبو سفيان عنى مُعْرِضاً  كما مَرَّ قَيْلٌ من عِظامِ المَقاوِلِ
يَفِر إلى نَجْدٍ وبَرْدِ مياهِه  ويزعُم أننى لستُ عنكم بغافلِ
ويخبرُنا فِعْلَ المُناصِح أنه  شفيق ويُخفى عارماتِ الدواخل
أمِطْعمُ لم أخْذُلْك فى يومِ نجدةٍ  ولا مُعْظِم عندَ الأمورِ الجلائل
ولا يومَ خَصْمٍ إذا أتوك ألِـدَّةً  أولِى جَدَل من الخصومِ المَساجل
أمُطْعِمُ إن القومَ ساموك خُطَّةً    وإنى متىِ أوكَلْ فلستُ بوائلِ
جزى اللّه عنا عبدَ شمسٍ ونَوْفَلاً   عقوبةَ شر عاجلاً غيرَ آجل
بميزانِ قِسْطٍ لا يُخَسُّ شعيرةً  له شاهدٌ من نفسِه غيرَ عائل
لقد سَفُهتْ أحلامُ قومٍ تبدَّلوا    بنى خلفٍ قَيْضاً بنا والغَياطل
ونحنُ الصميمُ من ذؤابةِ هاشم   وآل قُصَىٍّ فى الخُطوبِ الأوائل
وسهمٌ ومخزوم تمالوا وألَّبُوا  علينا العِدَا من كلِّ طِمْل وخاملِ
فعبدُ مناف أنتم خيرُ قومِكم    فلا تُشركوا فى أمرِكم كلَّ واغِلِ
لعَمْري لقد وهنتمُ وعَجَزْتم  وجئتم بأمر مُخْطئ للمفاصلِ
وكنتم حديثاً حَطْبَ قدرٍ وأنتم ال   آن حِطابُ أقدُرٍ ومَراجل
ليَهْنِئْ بنى عبد مناف عقوقُنا    وخذلانُنا وتركُنا في المعَاقلِ
فإن نك قوما نَثئِر ما صنعتمُ  وتَحتلبوها لِقْحَةً غيرَ باهلِ
وسائط كانت في لُؤيِّ بن غالبٍ    نفاهم إلينا كلُّ صقر حُلاحِل
ورهط نُفَيل شَرُّ مَنْ وطئَ الحصىَ   وألأم حافٍ مِنْ مَعد ونَاعل
فأبلغْ قُصيا أن سيُنشر أمرُنا    وبَشِّر قصيّاً بعدَنا بالتخاذل
ولو طرَقت ليلاً قُصيا عظيمةٌ    إذا ما لجأنا دونَهم فى المَداخلِ
ولو صَدقوا ضَرْبا خلالَ بيوتِهم    لكنَّا أسًى عندَ النساءِ المَطافِل
فكلُّ صديقٍ وابنِ أختٍ نعدُّه  لَعَمْري وَجَدْنا غِبَّه غيرَ طائل
سوى أنَّ رهطاً من كلابِ بنِ مُرة   بَراء إلينا من معقَّةِ خاذلِ
وهَنَّا لهم حتى تبددَّ جمعُهم    ويَحْسُر عنا كل باغٍ وجاهلِ
وكان لنا حوضُ السقايةِ فيهمُ  ونحنُ الكُدى من غالبٍ والكَواهلِ
شباب من المطيِّبين وهاشمٍ  كبِيضِ السيوفِ بينَ أيدِي الصَّياقِل
فما أدركوا ذَحْلاً ولا سفكوا دما   ولا حالفوا إلا شِرارَ القبائل
بضرْبٍ ترى الفِتيانَ فيه كأنهم  ضَوَارِي أسودٍ فوق لحمٍ خَرادِلِ
بنى أمَةٍ محبوبةٍ هِنْدِكيَّةٍ    بنى جُمَح عُبَيْد قيسِ بنِ عاقلِ
ولكننا نسل كرامٌ لسادة    بهم نُعِيَ الأقوامُ عندَ البَواطلِ
ونعم ابنُ أختِ القومِ غيرَ مُكَذَّبٍ   زُهَير حُساماً مُفْرَداً من حَمائل
أشَمُّ مِنَ الشُّمِّ البهاليلِ ينتَمِي  إلى حسب في حَوْمةِ المجدِ فاضل
لعَمْري لقد كُلفتُ وَجْداً بأحمد   وإخوتِه دَأبَ المحِبِّ المواصلِ
فلا زال في الدنيا جمالاً لأهلِها  وزَيْناً لمن والاه ربُّ المَشاكلِ
فمن مِثلُه فى الناس
أيُّ مُؤَمَّلٍ  إذا قاسه الحكامُ عندَ التفاضلِ
حليم رشيدٌ عادل غيرُ طائشٍ  يوالى إلاهاً ليسَ عنه بغافلِ
فواللّه لولا أن أجىءَ بسُبَّةٍ  تُجَرُّ على أشياخِنا فى المحافلِ
لكنا اتبعناه على كلِّ حالة   من الدهرِ جِدًّا غير قولِ التهازلِ
لقد علموا أن ابنَنا لا مُكذَّبٌ    لدينا ولا يُعْنَى بقوْلِ الأباطل

فأصبح فينا أحمد فى أرومةٍ    تُقَصِّر عنه سَوْرةُ المتطاولِ
حَدِبْتُ بنفسى دونَه وحَميْتُه    ودافعتُ عنه بالذُّرَا والكَلاكِلِ
فأيده ربُّ العبادِ بنصرِه  وأظهرَ ديناً حقُّه غيرُ باطلِ
رجال كرام غيرُ ميلٍ نَماهُمُ  إلى الخيرِ آباء كرامُ المحاصلِ
فإن تكُ كعب من لُؤي صُقَيْبة    فلا بُدّ يوماً مرةً من تَزايُلِ

قال ابن هشام : هذا ما صح لي من هذه القصيدة، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها.

الرسول عليه السلام يستسقي لأهل المدينة ويود لو أن أبا طالب حي يرى ذلك

قال ابن هشام : وحدثني من أثق به ،

قال : أقحط أهلُ المدينة، فأتَوْا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فشكوا ذلك إليه ، فصعد رسولُ اللّه صلى اللّه عليه وسلم المنبر فاستسقى، فما لبث أن جاء من المطر ما أتاه أهلُ الضواحي يشكون منه الغرق ؛ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " اللّهم حوالينا ولا علينا "، فانجاب السحاب عن المدينة فصار حواليها كالإكليل ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لسره "، فقال له بعض أصحابه : كأنك يا رسول اللّه أردت قوله :

وأبيضُ يُسْتَسْقَى الغمامُ بوجهِه   ثمالُ اليتامى عصمة للأراملِ

قال : " أجل ".

قال ابن هشام : وقوله " وشبرقة " عن غير ابن إسحاق.

ذكر الأسماء التي وردت في قصيدة أبي طالب

قال ابن إسحاق : والغياطل : من بنى سهم بن عمرو بنْ هَصيص ، وأبو سفيان ابن حرب بن أمية. ومُطْعِم بن عَدِيِّ بن نوفل بن عبد مناف. وزُهير ابن أبي أمية بن المغيرة بن عبداللّه بن عُمر بن مخزوم ، أمه عاتكة بنت عبد المطلب.

قال ابن إسحاق : وأسيد، وبِكْره : عَتَّاب بن أسيد بن أبي العيص ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي. وعثمان بن عُبيد اللّه ، أخو طلحة بن عُبيد اللّه التيْمي. وقنفذ بن عُمَير بن جُدْعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تَيْم بن مرة. وأبو الوليد عتبة بن ربيعة. وأبو الأخنس بن شريق الثقفى، حليف بنى زُهرة بن كلاب.

قال ابن هشام : وإنما سمي الأخنس. لأنه خنس بالقوم يوم بدر، وإنما اسمه أبىّ، وهو من بنى علاج ، وهو عِلاج بن أبى سلمة بن عَوْف بن عقبة. والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف ابن زُهرة بن كلاب. وسُبيع بن خالد، أخو بَلْحَارث بن فهر. ونَوْفل ابن خُوَيْلد بن أسد بن عبد العُزَّى بن قصي ، وهو ابن العدوية. وكان من شياطين قريش، وهو الذي قرن بين أبي بكر الصديق وطلحة بن عُبَيْد اللّه رضى اللّه عنهما فى حبل حين أسلما، فبذلك كانا يسميان القرينين ؛ قتله علي بن أبى طالب عليه السلام يوم بدر. وأبو عمرو قُرْظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف.

" وقومٌ علينا أظنَّة ": بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، فهؤلاء الذين عدَّد أبو طالب فى شعره من العرب.